عبد ربه الصغير

و منهم عبد ربه الصغير أحد موالي قيس بن ثعلبة . لما اختلفت الخوارج على قطري بايعه منهم جمع كثير و كان قطري قد عزم على أن يبايع للمقعطر العبدي و يخلع نفسه فجعله أمير الجيش في الحرب قبل أن يعهد إليه بالخلافة فكرهه القوم و أبوه و قال صالح بن مخراق عنهم و عن نفسه ابغ لنا غير المقعطر فقال لهم قطري إني أرى طول العهد قد غيركم و أنتم بصدد عدو فاتقوا الله و أقبلوا على شأنكم و استعدوا للقاء القوم فقال صالح إن الناس قبلنا قد سألوا عثمان بن عفان أن يعزل سعيد بن العاصي عنهم ففعل و يجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت فأبى قطري أن يعزل المقعطر فقال له القوم فإنا قد خلعناك و بايعنا عبد ربه الصغير و كان عبد ربه هذا معلم كتاب و كان عبد ربه الكبير بائع رمان و كلاهما من موالي قيس بن ثعلبة فانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم و جلهم الموالي و العجم و كان منهم هناك ثمانية آلاف و هم القراء ثم ندم صالح بن مخراق و قال لقطري هذه نفخة من نفخات الشيطان فأعفنا من المقعطر و سر بنا إلى عدونا و عدوك فأبى قطري إلا للمقعطر و حمل فتى من الشراة على صالح بن مخراق فطعنه فأنفذه و أوجره الرمح . فنشبت الحرب بينهم فتهايجوا ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا فأجلت الحرب عن ألفي قتيل فلما كان الغد عاودوا الحرب فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب عن المدينة فأقام عبد ربه بها و صار قطري خارجا من

[ 205 ]

مدينة جيرفت بإزائهم فقال له عبيدة بن هلال يا أمير المؤمنين إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك إلا أن تخندق على نفسك فخندق على باب المدينة و جعل يناوشهم و ارتحل المهلب و كان منهم على ليلة و رسول الحجاج معه يستحثه فقال له أصلح الله الأمير عاجلهم قبل أن يصطلحوا فقال المهلب إنهم لن يصطلحوا و لكن دعهم فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها ثم دس رجلا من أصحابه فقال ائت عسكر قطري فقل إني لم أزل أرى قطريا يصيب الرأي حتى نزل منزله هذا فظهر خطؤه أ يقيم بين المهلب و عبد ربه يغاديه القتال هذا و يراوحه هذا فنمي الكلام إلى قطري فقال صدق تنحوا بنا عن هذا الموضع فإن اتبعنا المهلب قاتلناه و إن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون . فقال له الصلت بن مرة يا أمير المؤمنين إن كنت إنما تريد الله فأقدم على القوم و إن كنت إنما تريد الدنيا فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا ثم قال

قل للمحلين قد قرت عيونكم
بفرقة القوم و البغضاء و الهرب
كنا أناسا على دين فغيرنا
طول الجدال و خلط الجد باللعب
ما كان أغنى رجالا قل جيشهم
عن الجدال و أغناهم عن الخطب
إني لأهونكم في الأرض مضطربا
ما لي سوى فرسي و الرمح من نشب

ثم قال أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع منه فيه . و ارتحل قطري و بلغ ذلك المهلب فقال لهزيم بن أبي طحمة المجاشعي إني لا آمن أن يكون كاذبا بترك موضعه اذهب فتعرف الخبر فمضى الهزيم في اثني عشر فارسا فلم ير في المعسكر إلا عبدا و علجا مريضين فسألهما عن قطري و أصحابه فقالا

[ 206 ]

مضوا يرتادون غير هذا المنزل فرجع هزيم إلى المهلب فأخبره فارتحل حتى نزل خندق قطري فجعل يقاتل عبد ربه أحيانا بالغداة و أحيانا بالعشي فقال رجل من سدوس يقال له المعتق و كان فارسا

ليت الحرائر بالعراق شهدننا
و رأيننا بالسفح ذي الأجبال
فنكحن أهل الجد من فرساننا
و الضاربين جماجم الأبطال

و وجه المهلب يزيد ابنه إلى الحجاج يخبره بأنه قد نزل منزل قطري و أنه مقيم على عبد ربه و يسأله أن يوجه في أثر قطري رجلا جلدا فسر بذلك الحجاج سرورا أظهره ثم كتب إلى المهلب يستحثه لمناجزة القوم مع عبيد بن موهب . أما بعد فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي فيرجعون بعذرك و ذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح و تنسى القتلى و تحمل الكال ثم تلقاهم فتحمل منهم ثقل ما يحتملون منك من وحشة القتل و ألم الجراح و لو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم و القرن قد قصم و لعمري ما أنت و القوم سواء لأن من ورائك رجالا و أمامك أموالا و ليس للقوم إلا ما نعهد و لا يدرك الوجيف بالدبيب و لا الظفر بالتعذير . فلما ورد عليه الكتاب قال لأصحابه يا قوم إن الله قد أراحكم من أمور أربعة قطري بن الفجاءة و صالح بن مخراق و عبيدة بن هلال و سعد بن الطلائع و إنما بين أيديكم عبد ربه الصغير في خشار من خشار الشيطان تقتلونهم إن شاء الله تعالى .

[ 207 ]

فكانوا يتغادون القتال و يتراوحون فتصيبهم الجراح ثم يتحاجزون فكأنما انصرفوا عن مجلس كانوا يتحدثون فيه يضحك بعضهم إلى بعض فقال عبيد بن موهب للمهلب قد بان عذرك فاكتب فإني مخبر الأمير . فكتب إلى الحجاج أما بعد فإني لم أعط رسلك على قول الحق أجرا و لم أحتج منهم عن المشاهدة إلى تلقين ذكرت إني أجم القوم و لا بد من وقت راحة يستريح فيه الغالب و يحتال فيه المغلوب و ذكرت أن في الجمام ما ينسي القتلى و تبرأ منه الجراح هيهات أن ينسى ما بيننا و بينهم تأبى ذلك قتلى لم تجن و قروح لم تتقرب و نحن و القوم على حالة و هم يرقبون منا حالات إن طمعوا حاربوا و إن ملوا وقفوا و إن يئسوا انصرفوا و علينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا و نتحرز إذا وقفوا و نطلب إذا هربوا فإن تركتني و الرأي كان القرن مقصوما و الداء بإذن الله محسوما و إن أعجلتني لم أطعك و لم أعصك و جعلت وجهي إلى بابك و أعوذ بالله من سخط الله و مقت الناس . قال و لما اشتد الحصار على عبد ربه قال لأصحابه لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال فإن المسلم لا يفتقر مع الإسلام إلى غيره و المسلم إذا صح توحيده عز بربه و قد أراحكم الله من غلظة قطري و عجلة صالح بن مخراق و نخوته و اختلاط عبيدة بن هلال و وكلكم إلى بصائركم فالقوا عدوكم بصبر و نية و انتقلوا عن منزلكم هذا فمن قتل منكم قتل شهيدا و من سلم من القتل فهو المحروم .

[ 208 ]

قال و ورد في ذلك الوقت على المهلب عبيد بن أبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفي من عند الحجاج يستحثه بالقتال و معه أمينان فقال للمهلب خالفت وصية الأمير و آثرت المدافعة و المطاولة فقال له المهلب و الله ما تركت جهدا . فلما كان العشي خرجت الأزارقة و قد حملوا حريمهم و أموالهم و خف متاعهم لينتقلوا فقال المهلب لأصحابه الزموا مصافكم و أشرعوا رماحكم و دعوهم و الذهاب فقال له عبيدة بن أبي ربيعة هذا لعمري أيسر عليك فغضب و قال للناس ردوهم عن وجههم و قال لبنيه تفرقوا في الناس و قال لعبيدة بن أبي ربيعة كن مع يزيد فخذه بالمحاربة أشد الأخذ و قال لأحد الأمينين كن مع المغيرة و لا ترخص له في الفتور . فاقتتلوا قتالا شديدا حتى عقرت الخيل و صرع الفرسان و قتلت الرجالة و جعلت الخوارج تقاتل عن القدح يؤخذ منها و السوط و العلف و الحشيش أشد قتال . و سقط رمح لرجل من مراد من الخوارج فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح و القتل و ذلك مع المغرب و المرادي يرتجز و يقول

الليل ليل فيه ويل ويل
قد سال بالقوم الشراة السيل
إن جاز للأعداء فينا قول

[ 209 ]

فلما عظم الخطب في ذلك الرمح بعث المهلب إلى المغيرة خل لهم عن الرمح عليهم لعنة الله فخلوا لهم عنه و مضت الخوارج فنزلت على أربعة فراسخ من جيرفت فدخلها المهلب و أمر بجمع ما كان لهم من متاع و ما خلفوه من دقيق و جثم عليه و هو و الثقفي و الأمينان ثم اتبعهم فوجدهم قد نزلوا على ماء و عين لا يشرب منها أحد إلا قوي يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها و هناك قرية فيها أهلها فغاداهم القتال و ضم الثقفي إلى ابنه يزيد و أحد الأمينين إلى المغيرة فاقتتل القوم إلى نصف النهار . و قال المهلب لأبي علقمة العبدي و كان شجاعا و كان عاتيا هازلا أمددنا يا أبا علقمة بخيل اليحمد و قل لهم فليعيرونا جماجمهم ساعة فقال أيها الأمير إن جماجمهم ليست بفخار فتعار و لا أعناقهم كرادي فتنبت . و قال لحبيب بن أوس كر على القوم فلم يفعل و قال

يقول لي الأمير بغير علم
تقدم حين جد به المراس
فما لي إن أطعتك من حياة
و ما لي غير هذا الرأس رأس

و قال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة احمل فقال لا إلا أن تزوجني ابنتك أم مالك فقال قد زوجتك فحمل على الخوارج فكشفهم و طعن فيهم و قال

ليت من يشتري الحياة بمال
ملكة كان عندنا فيرانا

[ 210 ]

نصل الكر عند ذاك بطعن
إن للموت عندنا ألوانا

قوله ملكة أي تزويجا و نكاحا . قال ثم جال الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج فالتفت المهلب فقال للمغيرة ابنه ما فعل الأمين الذي كان معك قال قتل و هرب الثقفي فقال ليزيد ما فعل عبيد بن أبي ربيعة قال لم أره منذ كانت الجولة فقال الأمين الآخر للمغيرة أنت قتلت صاحبي فلما كان العشي رجع الثقفي فقال رجل من بني عامر بن صعصعة

ما زلت يا ثقفي تخطب بيننا
و تغمنا بوصية الحجاج
حتى إذا ما الموت أقبل زاخرا
و سقى لنا صرفا بغير مزاج
وليت يا ثقفي غير مناظر
تنساب بين أحزة و فجاج
ليست مقارعة الكماة لدى الوغى
شرب المدامة في إناء زجاج

فقال المهلب للأمين الآخر ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل حتى تبيتوا عسكرهم فقال ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما فعلت بصاحبي فضحك المهلب و قال ذاك إليك و لم يكن للقوم خنادق فكان كل حذرا من صاحبه غير أن الطعام و العدة مع المهلب و هو في زهاء ثلاثين ألفا فلما أصبح أشرف على واد فإذا هو برجل معه رمح مكسور مخضوب بالدم و هو ينشد

و إني لأعفي ذا الخمار و صنعتي
إذا راح أطواء بني الأصاغر

[ 211 ]

أخادعهم عنه ليغبق دونهم
و أعلم غير الظن أني مغاور
كأني و أبدان السلاح عشية
يمر بنا في بطن فيحان طائر

فقال له أ تميمي أنت قال نعم قال أ حنظلي قال نعم قال أ يربوعي قال نعم قال أ من آل نويرة قال نعم أنا ولد مالك بن نويرة قال قد عرفتك بالشعر . قال أبو العباس و ذو الخمار فرس مالك بن نويرة . قال فمكثوا أياما يتحاربون و دوابهم مسرجة و لا خنادق لهم حتى ضعف الفريقان فلما كان الليلة التي قتل في صبيحتها عبد ربه جمع أصحابه فقال يا معشر المهاجرين إن قطريا و عبيدة هربا طلبا للبقاء و لا سبيل إلى البقاء فالقوا عدوكم غدا فإن غلبوكم على الحياة فلا يغلبنكم على الموت فتلقوا الرماح بنحوركم و السيوف بوجوهكم و هبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة . فلما أصبحوا غادوا المهلب فاقتتلوا قتالا شديدا أنسى ما كان قبله و قال رجل من الأزد من أصحاب المهلب من يبايعني على الموت فبايعه أربعون رجلا من الأزد فصرع بعضهم و قتل بعضهم و جرح بعضهم .

[ 212 ]

و قال عبد الله بن رزام الحارثي للمهلب احملوا فقال المهلب أعرابي مجنون و كان من أهل نجران فحمل وحده فاخترق القوم حتى خرج من ناحية أخرى ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى و تهايج الناس فترجلت الخوارج و عقروا دوابهم فناداهم عمرو القنا و لم يترجل هو و لا أصحابه و هم زهاء أربعمائة فقال موتوا على ظهور دوابكم كراما و لا تعقروها فقالوا إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار فاقتتلوا و نادى المهلب بأصحابه الأرض الأرض و قال لبنيه تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم و نادت الخوارج ألا إن العيال لمن غلب فصبر بنو المهلب و قاتل يزيد بين يدي أبيه قتالا شديدا أبلى فيه فقال له أبوه يا بني إني أرى موطنا لا ينجو فيه إلا من صبر و ما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب . و كسرت الخوارج أجفان سيوفها و تجاولوا فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقتولا . فهرب عمرو القنا و أصحابه و استأمن قوم و أجلت الحرب عن أربعة آلاف قتيل و جريح من الخوارج و مأسور و أمر المهلب أن يدفع كل جريح إلى عشيرته و ظفر بعسكرهم فحوى ما فيه ثم انصرف إلى جيرفت فقال الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض و الدعة فما كان عيشنا ذلك العيش . ثم نظر المهلب إلى قوم في عسكره و لم يعرفهم فقال ما أشد عادة السلاح ناولني درعي فلبسها ثم قال خذوا هؤلاء فلما صيرهم إليه قال ما أنتم قالوا جئنا لنطلب غرتك للفتك بك فأمر بهم فقتلوا

[ 213 ]