ولاية قيس بن سعد على مصر ثم عزلهقال إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الله بن عثمان الثقفي قال حدثني علي بن محمد بن أبي سيف عن الكلبي أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس هو الذي حرض المصريين على قتل عثمان و ندبهم إليه و كان حينئذ بمصر فلما ساروا إلى عثمان و حصروه وثب هو بمصر على عامل عثمان عليها و هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح أحد بني عامر بن لؤي فطرده عنها و صلى بالناس فخرج ابن أبي سرح من مصر و نزل على تخوم أرضها مما يلي فلسطين و انتظر ما يكون من أمر عثمان فطلع عليه راكب فقال له يا عبد الله ما وراءك ما خبر الناس بالمدينة قال قتل المسلمون عثمان فقال ابن أبي سرح إنا لله و إنا إليه راجعون ثم صنعوا ما ذا يا عبد الله قال بايعوا ابن عم رسول الله علي بن أبي طالب فقال ثانية إنا لله و إنا إليه راجعون فقال الرجل أرى أن ولاية علي عدلت عندك قتل عثمان قال أجل فنظر إليه متأملا له فعرفه فقال أظنك عبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير مصر قال أجل قال إن كانت لك في الحياة حاجة فالنجاء النجاء فإن رأي علي فيك و في أصحابك إن ظفر بكم قتلكم أو نفاكم عن بلاد المسلمين و هذا أمير تقدم بعدي عليكم قال و من الأمير قال قيس بن سعد بن عبادة فقال ابن أبي سرح أبعد الله ابن أبي حذيفة فإنه بغى على ابن عمه و سعى عليه و قد كان كفله و رباه و أحسن إليه و أمن جواره فجهز الرجال إليه حتى قتل و وثب على عامله . و خرج ابن أبي سرح حتى قدم على معاوية بدمشق . قال إبراهيم و كان قيس بن سعد بن عبادة من شيعة علي و مناصحيه فلما ولى الخلافة قال له سر إلى مصر فقد وليتكها و اخرج إلى ظاهر المدينة و اجمع ثقاتك و من [ 58 ] أحببت أن يصحبك حتى تأتي مصر و معك جند فإن ذلك أرعب لعدوك و أعز لوليك فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن و اشتد على المريب و ارفق بالعامة و الخاصة فالرفق يمن . فقال قيس رحمك الله يا أمير المؤمنين قد فهمت ما ذكرت فأما الجند فإني أدعه لك فإذا احتجت إليهم كانوا قريبا منك و إن أردت بعثهم إلى وجه من وجوهك كان لك عدة و لكني أسير إلى مصر بنفسي و أهل بيتي و أما ما أوصيتني به من الرفق و الإحسان فالله تعالى هو المستعان على ذلك قال فخرج قيس في سبعة نفر من أهله حتى دخل مصر فصعد المنبر و أمر بكتاب معه يقرأ على الناس فيه من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الله بحسن صنعه و قدره و تدبيره اختار الإسلام دينا لنفسه و ملائكته و رسله و بعث به أنبياءه إلى عباده فكان مما أكرم الله عز و جل به هذه الأمة و خصهم به من الفضل أن بعث محمدا ص إليهم فعلمهم الكتاب و الحكمة و السنة و الفرائض و أدبهم لكيما يهتدوا و جمعهم لكيلا يتفرقوا و زكاهم لكيما يتطهروا فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه فعليه صلوات الله و سلامه و رحمته و رضوانه ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا أميرين منهم صالحين فعملا بالكتاب و السنة و أحييا السيرة و لم يعدوا السنة ثم توفيا رحمهما الله فولي بعدهما وال أحدث أحداثا فوجدت الأمة عليه مقالا فقالوا ثم نقموا فغيروا ثم جاءوني فبايعوني و أنا أستهدي الله الهدى و أستعينه على التقوى ألا و إن لكم علينا العمل بكتاب الله و سنة رسوله و القيام بحقه و النصح لكم بالغيب و الله المستعان على ما تصفون و حسبنا الله و نعم الوكيل [ 59 ] و قد بعثت لكم قيس بن سعد الأنصاري أميرا فوازروه و أعينوه على الحق و قد أمرته بالإحسان إلى محسنكم و الشدة على مريبكم و الرفق بعوامكم و خواصكم و هو ممن أرضى هديه و أرجو صلاحه و نصحه نسأل الله لنا و لكم عملا زاكيا و ثوابا جزيلا و رحمة واسعة و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته . و كتبه عبد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست و ثلاثين . قال إبراهيم فلما فرغ من قراءة الكتاب قام قيس خطيبا فحمد الله و أثنى عليه و قال الحمد لله الذي جاء بالحق و أمات الباطل و كبت الظالمين أيها الناس إنا بايعنا خير من نعلم من بعد نبينا محمد ص فقوموا فبايعوا على كتاب الله و سنة رسوله فإن نحن لم نعمل بكتاب الله و سنة رسوله فلا بيعة لنا عليكم . فقام الناس فبايعوا و استقامت مصر و أعمالها لقيس و بعث عليها عماله إلا أن قرية منها قد أعظم أهلها قتل عثمان و بها رجل من بني كنانة يقال له يزيد بن الحارث فبعث إلى قيس إنا لا نأتيك فابعث عمالك فالأرض أرضك و لكن أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس . و وثب محمد بن مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري فنعى عثمان و دعا إلى الطلب بدمه فأرسل إليه قيس ويحك أ علي تثب و الله ما أحب أن لي ملك الشام و مصر و أني قتلتك فاحقن دمك فأرسل إليه مسلمة إني كاف عنك ما دمت أنت والي مصر . و كان قيس بن سعد ذا رأي و حزم فبعث إلى الذين اعتزلوا أني لا أكرهكم على البيعة و لكني أدعكم و أكف عنكم فهادنهم و هادن مسلمة بن مخلد و جبى الخراج و ليس أحد ينازعه . [ 60 ] قال إبراهيم و خرج علي ع إلى الجمل و قيس على مصر و رجع من البصرة إلى الكوفة و هو بمكانه فكان أثقل خلق الله على معاوية لقرب مصر و أعمالها من الشام و مخافة أن يقبل علي بأهل العراق و يقبل إليه قيس بأهل مصر فيقع بينهما . فكتب معاوية إلى قيس و علي يومئذ بالكوفة قبل أن يسير إلى صفين من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو . أما بعد فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان في أثرة رأيتموها أو ضربة سوط ضربها أو في شتمه رجلا أو تعييره واحدا أو في استعماله الفتيان من أهله فإنكم قد علمتم إن كنتم تعلمون أن دمه لم يحل لكم بذلك فقد ركبتم عظيما من الأمر و جئتم شيئا إدا فتب يا قيس إلى ربك إن كنت من المجلبين على عثمان إن كانت التوبة قبل الموت تغني شيئا و أما صاحبك فقد استيقنا أنه أغرى الناس بقتله و حملهم على قتله حتى قتلوه و أنه لم يسلم من دمه عظم قومك فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل و تابعنا على علي في أمرنا هذا و لك سلطان العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت و لمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان و سلني عن غير هذا مما تحب فإنك لا تسألني شيئا إلا أتيته و اكتب إلى رأيك فيما كتبت إليك . فلما جاء إليه كتاب معاوية أحب أن يدافعه و لا يبدي له أمره و لا يعجل له حربه فكتب إليه أما بعد فقد وصل إلي كتابك و فهمت الذي ذكرت من أمر عثمان و ذلك أمر لم أقاربه و ذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى الناس بعثمان و دسهم إليه حتى قتلوه و هذا أمر لم أطلع عليه و ذكرت لي أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان فلعمري إن أولى [ 61 ] الناس كان في أمره عشيرتي و أما ما سألتني من مبايعتك على الطلب بدمه و ما عرضته علي فقد فهمته و هذا أمر لي نظر فيه و فكر و ليس هذا مما يعجل إلى مثله و أنا كاف عنك و ليس يأتيك من قبلي شيء تكرهه حتى ترى و نرى إن شاء الله تعالى و السلام عليك و رحمة الله و بركاته . قال إبراهيم فلما قرأ معاوية كتابه لم يره إلا مقاربا مباعدا و لم يأمن أن يكون له في ذلك مخادعا مكايدا فكتب إليه أما بعد فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلما و لم أرك تتباعد فأعدك حربا أراك كحبل الجرور و ليس مثلي يصانع بالخداع و لا يخدع بالمكايد و معه عدد الرجال و أعنة الخيل فإن قبلت الذي عرضت عليك فلك ما أعطيتك و إن أنت لم تفعل ملأت مصر عليك خيلا و رجلا و السلام . فلما قرأ قيس كتابه و علم أنه لا يقبل منه المدافعة و المطاولة أظهر له ما في نفسه فكتب إليه من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فالعجب من استسقاطك رأيي و الطمع في أن تسومني لا أبا لغيرك الخروج من طاعة أولى الناس بالأمر و أقولهم بالحق و أهداهم سبيلا و أقربهم من رسول الله وسيلة و تأمرني بالدخول في طاعتك و طاعة أبعد الناس من هذا الأمر و أقولهم بالزور و أضلهم سبيلا و أدناهم من رسول الله وسيلة و لديك قوم ضالون مضلون طواغيت من طواغيت إبليس و أما قولك إنك تملأ علي مصر خيلا و رجلا فلئن لم أشغلك عن ذلك حتى يكون منك إنك لذو جد و السلام . فلما أتى معاوية كتاب قيس أيس و ثقل مكانه عليه و كان أن يكون مكانه غيره أحب إليه لما يعلم من قوته و تأبيه و نجدته و اشتداد أمره على معاوية فأظهر للناس أن [ 62 ] قيسا قد بايعكم فادعوا الله له و قرأ عليهم كتابه الذي لان فيه و قاربه و اختلق كتابا نسبه إلى قيس فقرأه على أهل الشام . للأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد . أما بعد إن قتل عثمان كان حدثا في الإسلام عظيما و قد نظرت لنفسي و ديني فلم أر يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلما محرما برا تقيا فنستغفر الله سبحانه لذنوبنا و نسأله العصمة لديننا ألا و إني قد ألقيت إليكم بالسلام و أجبتك إلى قتال قتلة إمام الهدى المظلوم فاطلب مني ما أحببت من الأموال و الرجال أعجله إليك إن شاء الله و السلام على الأمير و رحمة الله و بركاته . قال فشاع في الشام كلها أن قيسا صالح معاوية و أتت عيون علي بن أبي طالب إليه بذلك فأعظمه و أكبره و تعجب له و دعا ابنيه حسنا و حسينا و ابنه محمدا و عبد الله بن جعفر فأعلمهم بذلك و قال ما رأيكم فقال عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يريبك اعزل قيسا عن مصر قال علي و الله إني غير مصدق بهذا على قيس فقال عبد الله اعزله يا أمير المؤمنين فإن كان ما قد قيل حقا فلا يعتزل لك أن عزلته قال و إنهم لكذلك إذ جاءهم كتاب من قيس بن سعد فيه أما بعد فإني أخبر يا أمير المؤمنين أكرمك الله و أعزك إن قبلي رجالا معتزلين سألوني أن أكف عنهم و أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى و يرون و قد رأيت أن أكف عنهم و لا أعجل بحربهم و أن أتألفهم فيما بين ذلك لعل الله أن يقبل بقلوبهم و يفرقهم عن ضلالتهم إن شاء الله و السلام . فقال عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين إنك إن أطعته في تركهم و اعتزالهم استشرى الأمر و تفاقمت الفتنة و قعد عن بيعتك كثير ممن تريده على الدخول فيها و لكن مره بقتالهم فكتب إليه [ 63 ] أما بعد فسر إلى القوم الذين ذكرت فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون و إلا فناجزهم و السلام قال فلما أتى هذا الكتاب قيسا فقرأه لم يتمالك أن كتب إلى علي أما بعد يا أمير المؤمنين تأمرني بقتال قوم كافين عنك و لم يمدوا يدا للفتنة و لا أرصدوا لها فأطعني يا أمير المؤمنين و كف عنهم فإن الرأي تركهم و السلام . فلما أتاه هذا الكتاب قال عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر إلى مصر يكفك أمرها و اعزل قيسا فو الله لبلغني أن قيسا يقول إن سلطانا لا يتم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء و الله ما أحب أن لي سلطان الشام مع سلطان مصر و أنني قتلت ابن مخلد و كان عبد الله بن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمه و كان يحب أن يكون له إمرة و سلطان فاستعمل علي ع محمد بن أبي بكر على مصر لمحبة له و لهوى عبد الله بن جعفر أخيه فيه و كتب معه كتابا إلى أهل مصر فسار حتى قدمها فقال له قيس ما بال أمير المؤمنين ما غيره أ دخل أحد بيني و بينه قال لا و هذا السلطان سلطانك و كان بينهما نسب كان تحت قيس قريبة بنت أبي قحافة أخت أبي بكر الصديق فكان قيس زوج عمته فقال قيس لا و الله لا أقيم معك ساعة واحدة و غضب حين عزله علي عنها و خرج منها مقبلا إلى المدينة و لم يمض إلى علي بالكوفة . قال إبراهيم و كان قيس مع شجاعته و نجدته جوادا مفضالا فحدثني علي بن محمد بن أبي سيف عن هاشم عن عروة عن أبيه قال لما خرج قيس بن سعد من مصر فمر بأهل بيت من بلقين فنزل بمائهم فنحر له صاحب المنزل جزورا و أتاه بها فلما كان الغد نحر له أخرى ثم حبستهم السماء اليوم الثالث فنحر لهم ثالثة ثم إن السماء أقلعت [ 64 ] فلما أراد قيس أن يرتحل وضع عشرين ثوبا من ثياب مصر و أربعة آلاف درهم عند امرأة الرجل و قال لها إذا جاء صاحبك فادفعي هذه إليه ثم رحل فما أتت عليه إلا ساعة حتى لحقه الرجل صاحب المنزل على فرس و معه رمح و الثياب و الدراهم بين يديه فقال يا هؤلاء خذوا ثيابكم و دراهمكم فقال قيس انصرف أيها الرجل فإنا لم نكن لنأخذها قال و الله لتأخذنها فقال قيس لله أبوك أ لم تكرمنا و تحسن ضيافتنا فكافأناك فليس بهذا بأس فقال الرجل إنا لا نأخذ لقرى الأضياف ثمنا و الله لا آخذها أبدا فقال قيس أما إذ أبى ألا يأخذها فخذوها فو الله ما فضلني رجل من العرب غيره . قال إبراهيم و قال أبو المنذر مر قيس في طريقه برجل من بلي يقال له الأسود بن فلان فأكرمه فلما أراد قيس أن يرتحل وضع عند امرأته ثيابا و دراهم فلما جاء الرجل دفعته إليه فلحقه فقال ما أنا بائع ضيافتي و الله لتأخذن هذا أو لأنفذن الرمح بين جنبيك فقال قيس ويحكم خذوه . قال إبراهيم ثم أقبل قيس حتى قدم المدينة فجاءه حسان بن ثابت شامتا به و كان عثمانيا فقال له نزعك علي بن أبي طالب و قد قتلت عثمان فبقي عليك الإثم و لم يحسن لك الشكر فزجره قيس و قال يا أعمى القلب يا أعمى البصر و الله لو لا ألقي بين رهطي و رهطك حربا لضربت عنقك ثم أخرجه من عنده . قال إبراهيم ثم إن قيسا و سهل بن حنيف خرجا حتى قدما على علي الكوفة فخبره قيس الخبر و ما كان بمصر فصدقه و شهد مع علي صفين هو و سهل بن حنيف قال إبراهيم و كان قيس طوالا أطول الناس و أمدهم قامة و كان سناطا أصلع شيخا شجاعا مجربا مناصحا لعلي و لولده و لم يزل على ذلك إلى أن مات . [ 65 ] قال إبراهيم حدثني أبو غسان قال أخبرني علي بن أبي سيف قال كان قيس بن سعد مع أبي بكر و عمر في سفر في حياة رسول الله ص فكان ينفق عليهما و على غيرهما و يفضل فقال له أبو بكر إن هذا لا يقوم به مال أبيك فأمسك يدك فلما قدموا من سفرهم قال سعد بن عبادة لأبي بكر أردت أن تبخل ابني إنا لقوم لا نستطيع البخل . قال و كان قيس بن سعد يقول في دعائه اللهم ارزقني حمدا و مجدا و شكرا فإنه لا حمد إلا بفعال و لا مجد إلا بمال اللهم وسع علي فإن القليل لا يسعني و لا أسعه |