مذهب الخوارج في تكفير أهل الكبائر

و اعلم أن الخوارج كلها تذهب إلى تكفير أهل الكبائر و لذلك كفروا عليا ع و من اتبعه على تصويب التحكيم و هذا الاحتجاج الذي احتج به عليهم

[ 114 ]

لازم و صحيح لأنه لو كان صاحب الكبيرة كافرا لما صلى عليه رسول الله ص و لا ورثه من المسلم و لا مكنه من نكاح المسلمات و لا قسم عليه من الفي‏ء و لأخرجه عن لفظ الإسلام . و قد احتجت الخوارج لمذهبها بوجوه منها قوله تعالى وَ لِلَّهِ عَلَى اَلنَّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ قالوا فجعل تارك الحج كافرا . و الجواب أن هذه الآية مجملة لأنه تعالى لم يبين وَ مَنْ كَفَرَ بما ذا فيحتمل أن يريد تارك الحج و يحتمل أن يريد تارك اعتقاد وجوبه على من استطاع إليه سبيلا فلا بد من الرجوع إلى دلالة و الظاهر أنه أراد لزوم الكفر لمن كفر باعتقاد كون الحج غير واجب أ لا تراه في أول الآية قال وَ لِلَّهِ عَلَى اَلنَّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ فأنبأ عن اللزوم ثم قال وَ مَنْ كَفَرَ بلزوم ذلك و نحن نقول إن من لم يقل لله على الناس حج البيت فهو كافر . و منها قوله تعالى إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكافِرُونَ قالوا و الفاسق لفسقه و إصراره عليه آيس من روح الله فكان كافرا . و الجواب أنا لا نسلم أن الفاسق آيس من روح الله مع تجويزه تلافي أمره بالتوبة و الإقلاع و إنما يكون اليأس مع القطع و ليس هذه صفة الفاسق فأما الكافر الذي يجحد الثواب و العقاب فإنه آيس من روح الله لأنه لا تخطر له التوبة و الإقلاع و يقطع على حسن معتقده . و منها قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ و كل مرتكب للذنوب فقد حكم بغير ما أنزل الله و لم يحكم بما أنزل الله .

[ 115 ]

و الجواب أن هذا مقصور على اليهود لأن ذكرهم هو المقدم في الآية قال سبحانه و تعالى سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ثم قال عقيب قوله هُمُ اَلْكافِرُونَ وَ قَفَّيْنا عَلى‏ آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ فدل على أنها مقصورة على اليهود . و منها قوله تعالى فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلاَّ اَلْأَشْقَى اَلَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى قالوا و قد اتفقنا مع المعتزلة على أن الفاسق يصلى النار فوجب أن يسمى كافرا . و الجواب أن قوله تعالى ناراً نكرة في سياق الإثبات فلا تعم و إنما تعم النكرة في سياق النفي نحو قولك ما في الدار من رجل و غير ممتنع أن يكون في الآخرة نار مخصوصة لا يصلاها إلا الذين كذبوا و تولوا و يكون للفساق نار أخرى غيرها . و منها قوله تعالى وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ قالوا و الفاسق تحيط به جهنم فوجب أن يكون كافرا . و الجواب أنه لم يقل سبحانه و إن جهنم لا تحيط إلا بالكافرين و ليس يلزم من كونها محيطة بقوم ألا تحيط بقوم سواهم . و منها قوله سبحانه يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قالوا

[ 116 ]

و الفاسق لا يجوز أن يكون ممن ابيضت وجوههم فوجب أن يكون ممن اسودت و وجب أن يسمى كافرا لقوله بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ . و الجواب أن هذه القسمة ليست متقابلة فيجوز أن يكون المكلفون ثلاثة أقسام بيض الوجوه و سود الوجوه و صنف آخر ثالث بين اللونين و هم الفساق . و منها قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ اَلْكَفَرَةُ اَلْفَجَرَةُ قالوا و الفاسق على وجهه غبرة فوجب أن يكون من الكفرة و الفجرة . و الجواب أنه يجوز أن يكون الفساق قسما ثالثا لا غبرة على وجوههم و لا هي مسفرة ضاحكة بل على ما كانت عليه في دار الدنيا . و منها قوله تعالى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ قالوا و الفاسق لا بد أن يجازى فوجب أن يكون كفورا . و الجواب أن المراد بذلك و هل نجازي بعقاب الاستئصال إلا الكفور لأن الآية وردت في قصة أهل سبإ لكونهم استؤصلوا بالعقوبة . و منها أنه تعالى قال إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغاوِينَ و قال في آية أخرى إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فجعل الغاوي الذي يتبعه مشركا . و الجواب أنا لا نسلم أن لفظة إنما تفيد الحصر و أيضا فإنه عطف قوله

[ 117 ]

وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ على قوله اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ فوجب أن يثبت التغاير بين الفريقين و هذا مذهبنا لأن الذين يتولونه هم الفساق و الذين هم به مشركون هم الكفار . و منها قوله تعالى وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ اَلنَّارُ إلى قوله تعالى وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ اَلنَّارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فجعل الفاسق مكذبا . و الجواب أن المراد به الذين فسقوا عن الدين أي خرجوا عنه بكفرهم و لا شبهة أن من كان فسقه من هذا الوجه فهو كافر مكذب و لا يلزم منه أن كل فاسق على الإطلاق فهو مكذب و كافر . و منها قوله تعالى وَ لكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآياتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ قالوا فأثبت الظالم جاحدا و هذه صفة الكفار . و الجواب أن المكلف قد يكون ظالما بالسرقة و الزنا و إن كان عارفا بالله تعالى و إذا جاز إثبات ظالم ليس بكافر و لا جاحد بآيات الله تعالى جاز إثبات فاسق ليس بكافر . و منها قوله تعالى وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ . و الجواب أن هذه الآية تدل على أن الكافر فاسق و لا تدل على أن الفاسق كافر . و منها قوله تعالى فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ .

[ 118 ]

فنص سبحانه على أن من تخف موازينه يكون مكذبا و الفاسق تخف موازينه فكان مكذبا و كل مكذب كافر . الجواب أن ذلك لا يمنع من قسم ثالث و هم الذين لا تخف موازينهم و لا تثقل و هم الفساق و لا يلزم من كون كل من خفت موازينه يدخل النار ألا يدخل النار إلا من خفت موازينه . و منها قوله تعالى هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ و هذا يقتضي أن من لا يكون مؤمنا فهو كافر و الفاسق ليس بمؤمن فوجب أن يكون كافرا . و الجواب أن من هاهنا للتبعيض و ليس في ذكر التبعيض نفي الثالث كما أن قوله وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ لا ينفي وجود دابة تمشي على أكثر من أربع كبعض الحشرات . ثم نعود إلى الشرح قوله ع و من رمى به الشيطان مراميه أي أضله كأنه رمى به مرمى بعيدا فضل عن الطريق و لم يهتد إليها . قوله و ضرب به تيهه أي حيره و جعله تائها . ثم قال ع يهلك في رجلان فأحدهما من أفرط حبه له و اعتقاده فيه حتى ادعى له الحلول كما ادعت النصارى ذلك في المسيح ع و الثاني من أفرط بغضه له حتى حاربه أو لعنه أو برئ منه أو أبغضه هذه المراتب الأربع و البغض أدناها و هو

[ 119 ]

موبق مهلك و في الخبر الصحيح المتفق عليه أنه لا يحبه إلا مؤمن و لا يبغضه إلا منافق و حسبك بهذا الخبر ففيه وحده كفاية