فصل في الجناس و أنواعهو اعلم أن الجناس على سبعة أضرب أولها الجناس التام كهذا اللفظ و حده أن تتساوى حروف ألفاظ الكلمتين في تركيبها و في وزنها قالوا و لم يرد في القرآن العزيز منه إلا موضع واحد و هو قوله وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ . و عندي أن هذا ليس بتجنيس أصلا و قد ذكرته في كتابي المسمى بالفلك الدائر على المثل السائر و قلت إن الساعة في الموضعين بمعنى واحد و التجنيس أن يتفق اللفظ و يختلف المعنى و لا يكون أحدهما حقيقة و الآخر مجازا بل يكونان حقيقتين و إن [ 277 ] زمان القيامة و إن طال لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة لأن قدرته لا يعجزها أمر و لا يطول عندها زمان فيكون إطلاق لفظ الساعة على أحد الموضعين حقيقة و على الآخر مجازا و ذلك يخرج الكلام عن حد التجنيس كما لو قلت ركبت حمارا و لقيت حمارا و أردت بالثاني البليد . و أيضا فلم لا يجوز أن يكون أراد بقوله وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ الأولى خاصة من زمان البعث فيكون لفظ الساعة مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد فيخرج عن التجنيس و عن مشابهة التجنيس بالكلية . قالوا و ورد في السنة من التجنيس التام خبر واحد و هو قوله ص لقوم من الصحابة كانوا يتنازعون جرير بن عبد الله البجلي في زمام ناقته خلوا بين جرير و الجرير فالجرير الثاني الحبل . و جاء من ذلك في الشعر لأبي تمام قوله
فأصبحت غرر الإسلام مشرقة فالغرر الأولى مستعارة من غرة الوجه و الغرر الثانية من غرة الشيء و هي أكرمه و كذلك قوله
من القوم جعد أبيض الوجه و الندى فالجعد الأول السيد و الثاني ضد السبط و هو من صفات البخيل . و كذلك قوله
بكل فتى ضرب يعرض للقنا
[ 278 ] فالضرب الأول الرجل الخفيف و الثاني مصدر ضرب . و كذلك قوله
عداك حر الثغور المستضامة عن فأحدهما جمع ثغر و هو ما يتاخم العدو من بلاد الحرب و الثاني للأسنان . و من هذه القصيدة
كم أحرزت قضب الهندي مصلته و قد أكثر الناس في استحسان هذا التجنيس و أطنبوا و عندي أنه ليس بتجنيس أصلا لأن تسمية السيوف قضبا و تسمية الأغصان قضبا كله بمعنى واحد و هو القطع فلا تجنيس إذا و كذلك البيض للسيوف و البيض للنساء كله بمعنى البياض فبطل معنى التجنيس و أظنني ذكرت هذا أيضا في كتاب الفلك الدائر . قالوا و من هذا القسم قوله أيضا
إذا الخيل جابت قسطل الخيل صدعوا و هذا عندي أيضا ليس بتجنيس لأن الصدور في الموضعين بمعنى واحد و هو جزء الشيء المتقدم البارز عن سائره فأما قوله أيضا
عامي و عام العيس بين وديقة [ 279 ]
حتى أغادر كل يوم بالفلا فإنه من التجنيس التام لا شبهة في ذلك لاختلاف المعنى فالعيد الأول هو اليوم المعروف من الأعياد و العيد الثاني فحل من فحول الإبل . و نحو هذا قول أبي نواس
عباس عباس إذا احتدم الوغى و قول البحتري
إذا العين راحت و هي عين على الهوى فالعين الثانية الجاسوس و الأولى العين المبصرة و للغزى المتأخر قصيدة أكثر من التجنيس التام فيها أولها
لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا و قال في أثنائها
تقول أنت امرؤ جاف مغالطة و قال في مديحها
لم يبق غيرك إنسان يلاذ به و قد ذكر الغانمي في كتابه من صناعة الشعر بابا سماه رد الأعجاز على الصدور ذكر أنه خارج عن باب التجنيس قال مثل قول الشاعر
و نشري بجميل الصنع [ 280 ]
و بحري في شرى الحمد و هذا من التجنيس و ليس بخارج عنه و لكنه تجنيس مخصوص و هو الإتيان به في طرفي البيت . و عد ابن الأثير الموصلي في كتابه من التجنيس قول الشاعر في الشيب
يا بياضا أذرى دموعي حتى و كذلك قول البحتري
و أغر في الزمن البهيم محجل و هذا عندي ليس بتجنيس لاتفاق المعنى و العجب منه أنه بعد إيراده هذا أنكر على من قال إن قول أبي تمام
أظن الدمع في خدي سيبقى من التجنيس و قال أي تجنيس هاهنا و المعنى متفق و لو أمعن النظر لرأى هذا مثل البيتين السابقين . قالوا فأما الأجناس الستة الباقية فإنها خارجة عن التجنيس التام و مشبهة به . فمنها أن تكون الحروف متساوية في تركيبها مختلفة في وزنها فمن ذلك قول النبي ص اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي و قول بعضهم لن تنالوا غرر المعالي إلا بركوب الغرر و اهتبال الغرر و قول البحتري
و فر الحائن المغرور يرجو [ 281 ]
يهاب الالتفات و قد تصدى و قال آخر
قد ذبت بين حشاشة و ذماء و منها أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير فإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس و ذلك نحو قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و كذلك قوله سبحانه وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ و قوله تعالى ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ و نحو هذا ما ورد عن النبي ص من قوله الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة و قال بعضهم لا تنال المكارم إلا بالمكاره . و قال أبو تمام
يمدون من أيد عواص عواصم و قال البحتري
من كل ساجي الطرف أغيد أجيد و قال أيضا
شواجر أرماح تقطع بينهم
[ 282 ] و هذا البيت حسن الصنعة لأنه قد جمع بين التجنيس الناقص و بين المقلوب و هو أرماح و أرحام . و منها أن تكون الألفاظ مختلفة في الوزن و التركيب بحرف واحد كقوله تعالى وَ اِلْتَفَّتِ اَلسَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَساقُ و كقوله تعالى وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً و كقول النبي ص المسلم من سلم الناس من لسانه و يده و قول بعضهم الصديق لا يحاسب و العدو لا يحتسب له هكذا ذكر ابن الأثير هذه الأمثلة . قال و من هذا القسم قول أبي تمام
أيام تدمى عينه تلك الدمى و كذلك قوله أيضا
بدر أطاعت فيك بادرة النوى و قوله أيضا
جهلوا فلم يستكثروا من طاعة و قوله أيضا
إن الرماح إذا غرسن بمشهد
[ 283 ] و قوله أيضا
إذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا و قوله أيضا
شد ما استنزلتك عن دمعك الأظعان فالبيت الثالث و الخامس هما المقصودان بالتمثيل . و من ذلك قول علي بن جبلة
و كم لك من يوم رفعت عماده و كقول البحتري
نسيم الروض في ريح شمال و كقوله أيضا
جدير بأن تنشق عن ضوء وجهه
[ 284 ] و اعلم أن هذه الأمثلة لهذا القسم ذكرها ابن الأثير في كتابه و هو عندي مستدرك لأنه حد هذا القسم بما يختلف تركيبه يعني حروفه الأصلية و يختلف أيضا وزنه و يكون اختلاف تركيبه بحرف واحد هكذا قال في تحديده لهذا القسم و ليس بقمر و الأقمار تختلف بحرف واحد و كذلك عمارة و الأعمار و كذلك العوالي و المعالي و أما قوله تعالى وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فخارج عن هذا بالكلية لأن جميع أمثلة هذا القسم يختلف فيه الكلمات بالحروف الزائدة و هذه الآية اختلاف كلمتيها بحروف أصلية فليست من التجنيس الذي نحن بصدده بل هي من باب تجنيس التصحيف كقول البحتري
و لم يكن المعتز بالله إذ سرى ثم قال ابن الأثير في هذا القسم أيضا و من ذلك قول محمد بن وهيب الحميري
قسمت صروف الدهر بأسا و نائلا و هذا أيضا عندي مستدرك لأن اللفظتين كلاهما من الوتر و يرجعان إلى أصل واحد إلا أن أحد اللفظين مفعول و الآخر فاعل و ليس أحد يقول إن شاعرا لو قال في شعره ضارب و مضروب لكان قد جانس . و منها القسم المكنى بالمعكوس و هو على ضربين عكس لفظ و عكس حرف فالأول كقولهم عادات السادات سادات العادات و كقولهم شيم الأحرار أحرار الشيم . و من ذلك قول الأضبط بن قريع
قد يجمع المال غير آكله [ 285 ]
و يقطع الثوب غير لابسه و مثله قول المتنبي
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله و مثله قول الرضي رحمه الله من أبيات يذم فيها الزمان
أسف بمن يطير إلى المعالي و مثله قول آخر
إن الليالي للأنام مناهل و لبعض شعراء الأندلس يذكر غلامه
غيرتنا يد الزمان و يسمى هذا الضرب التبديل و قد مثله قدامة بن جعفر الكاتب بقولهم اشكر لمن أنعم عليك و أنعم على من شكرك . و مثله قول النبي ص جار الدار أحق بدار الجار قالوا و منه قوله تعالى يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ و لا أراه منه بل هو من باب الموازنة و مثلوه أيضا بقول أمير المؤمنين ع أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته و يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه و بقول أبي تمام لأبي العميثل [ 286 ] و أبي سعيد الضرير فإنهما قالا لما امتدح عبد الله بن طاهر بقصيدة و في افتتاحها تكلف و تعجرف لم لا تقول ما يفهم فقال لهما لم لا تفهمان ما يقال . و الضرب الثاني من هذا القسم عكس الحروف و هو كقول بعضهم و قد أهدى لصديق له كرسيا
أهديت شيئا يقل لو لا و كقول الآخر
كيف السرور بإقبال و آخره أي لا بقاء و كقول الآخر
جاذبتها و الريح تجذب عقربا يريد برقعا و منها النوع المسمى المجنب و هو أن يجمع بين كلمتين إحداهما كالجنيبة التابعة للأخرى مثل قول بعضهم
أبا الفياض لا تحسب بأني و هذا في التحقيق هو الباب المسمى لزوم ما لا يلزم و ليس من باب التجنيس و منها المقلوب و هو ما يتساوى وزنه و تركيبه إلا أن حروفه تتقدم و تتأخر مثل قول أبي تمام [ 287 ]
بيض الصفائح لا سود الصحائف في و قد ورد مثل ذلك في المنثور نحو ما روي عن النبي ص أنه يقال يوم القيامة لصاحب القرآن اقرأ و ارق . و قد تكلمت في كتابي المسمى بالعبقري الحسان على أقسام الصناعة البديعة نثرا و نظما و بينت أن كثيرا منها يتداخل و يقوم البعض من ذلك مقام بعض فليلمح من هناك : مِنْهَا وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ وَ يَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَ يَمَلُّهُ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لاَ يَجِدُ فِي اَلْمَوْتِ رَاحَةً وَ إِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اَلْحِكْمَةِ اَلَّتِي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ اَلْمَيِّتِ وَ بَصَرٌ لِلْعَيْنِ اَلْعَمْيَاءِ وَ سَمْعٌ لِلْأُذُنِ اَلصَّمَّاءِ وَ رِيٌّ لِلظَّمْآنِ وَ فِيهَا اَلْغِنَى كُلُّهُ وَ اَلسَّلاَمَةُ كِتَابُ اَللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ وَ تَنْطِقُونَ بِهِ وَ تَسْمَعُونَ بِهِ وَ يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَ يَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَ لاَ يَخْتَلِفُ فِي اَللَّهِ وَ لاَ يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اَللَّهِ قَدِ اِصْطَلَحْتُمْ عَلَى اَلْغِلِّ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ نَبَتَ اَلْمَرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ وَ تَصَافَيْتُمْ عَلَى حُبِّ اَلآْمَالِ وَ تَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ اَلْأَمْوَالِ لَقَدِ اِسْتَهَامَ بِكُمُ اَلْخَبِيثُ وَ تَاهَ بِكُمُ اَلْغُرُورُ وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ [ 288 ] هذا الفصل ليس بمنتظم من أوله إلى آخره بل هو فصول متفرقة التقطها الرضي من خطبة طويلة على عادته في التقاط ما يستفصحه من كلامه ع و إن كان كل كلامه فصيحا و لكن كل واحد له هوى و محبة لشيء مخصوص و ضروب الناس عشاق ضروبا . أما قوله كل شيء مملول إلا الحياة فهو معنى قد طرقه الناس قديما و حديثا قال أبو الطيب
و لذيذ الحياة أنفس في النفس و قال أيضا
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه و قال أبو العلاء
فما رغبت في الموت كدر مسيرها [ 289 ]
ضربن مليعا بالسنابك أربعا و لي من قصيدة أخاطب رجلين فرا في حرب
عذرتكما إن الحمام لمبغض و قال أبو الطيب أيضا
طيب هذا النسيم أوقر في الأنفس البحتري
ما أطيب الأيام إلا أنها و قال آخر
أوفى يصفق بالجناح مغلسا و قال آخر
أرى الناس يهوون البقاء سفاهة
[ 290 ] و قال محمد بن وهيب الحميري
و نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها و هذا مأخوذ من قول أمير المؤمنين ع و قد قيل له ما أكثر حب الناس للدنيا فقال هم أبناؤها أ يلام الإنسان على حب أمه . و قال آخر
يا موت ما أفجاك من نازل أبو الطيب
و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ فإن قلت كيف يقول إنه لا يجد في الموت راحة و أين هذا من قول رسول الله ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر و من قوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت و ما ذا يعمل بالصالحين الذين آثروا فراق هذه العاجلة و اختاروا الآخرة و هو ع سيدهم و أميرهم قلت لا منافاة فإن الصالحين إنما طلبوا أيضا الحياة المستمرة بعد الموت و رسول الله ص إنما قال إن الدنيا سجن المؤمن لأن الموت غير مطلوب للمؤمن لذاته إنما يطلبه للحياة المتعقبة له و كذلك قوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت تصريح بأن الراحة في الحياة التي تتعقب الموت و هي حياة الأبد فلا منافاة إذا بين هذه الوجوه و بين ما قاله ع لأنه ما نفى إلا الراحة في الموت نفسه لا في الحياة الحاصلة بعده . [ 291 ] فإن قلت فقد تطرأ على الإنسان حالة يستصعبها قيود الموت لنفسه و لا يفكر فيما يتعقبه من الحياة التي تشير إليها و لا يخطر بباله قلت ذاك شاذ نادر فلا يلتفت إليه و إنما الحكم للأعم الأغلب و أيضا فإن ذاك لا يلتذ بالموت و إنما يتخلص به من الألم و أمير المؤمنين قال ما من شيء من الملذات إلا و هو مملول إلا الحياة و بين الملذ و المخلص من الألم فرق واضح فلا يكون نقضا على كلامه . فإن قلت قد ذكرت ما قيل في حب الحياة و كراهية الموت فهل قيل في عكس ذلك و نقيضه شيء قلت نعم فمن ذلك قول أبي الطيب
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و قال آخر
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا و قيل لأعرابي و قد احتضر إنك ميت قال إلى أين يذهب بي قيل إلى الله قال ما أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير إلا منه . إبراهيم بن مهدي
و إني و إن قدمت قبلي لعالم و قال بعض السلف ما من مؤمن إلا و الموت خير له من الحياة لأنه إن كان محسنا [ 292 ] فالله تعالى يقول وَ ما عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا و إن كان مسيئا فالله تعالى يقول وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً . و قال ميمون بن مهران بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز فرأيته يبكي و يكثر من تمني الموت فقلت له إنك أحييت سننا و أمت بدعا و في بقائك خير للمسلمين فما بالك تتمني الموت فقال أ لا أكون كالعبد الصالح حين أقر الله له عينه و جمع له أمره قال رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ فاطِرَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ و قالت الفلاسفة لا يستكمل الإنسان حد الإنسانية إلا بالموت لأن الإنسان هو الحي الناطق الميت . و قال بعضهم الصالح إذا مات استراح و الطالح إذا مات استريح منه . و قال الشاعر
جزى الله عنا الموت خيرا فإنه و قال آخر
من كان يرجو أن يعيش فإنني و قال أبو العلاء
جسمي و نفسي لما استجمعا صنعا [ 293 ]
فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا و قال أبو العتاهية
المرء يأمل أن يعيش و قال ابن المعتز
أ لست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا فأما قوله ع و إنما ذلك بمنزلة الحكمة إلى قوله و فيها الغنى كله و السلامة ففصل آخر غير ملتئم بما قبله و هو إشارة إلى كلام من كلام رسول الله ص رواه لهم ثم حضهم على التمسك به و الانتفاع بمواعظه و قال إنه بمنزلة الحكمة التي هي حياة القلوب و نور الأبصار و سمع الآذان الصم و ري الأكباد الحري و فيها الغنى كله و السلامة و الحكمة المشبه كلام الرسول ص بها هي المذكورة في قوله تعالى وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً و في قوله وَ لَقَدْ آتَيْنا [ 294 ] لُقْمانَ اَلْحِكْمَةَ و في قوله وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا و هي عبارة عن المعرفة بالله تعالى و بما في مبدعاته من الأحكام الدالة على علمه كتركيب الأفلاك و وضع العناصر مواضعها و لطائف صنعة الإنسان و غيره من الحيوان و كيفية إنشاء النبات و المعادن و ما في العالم من القوى المختلفة و التأثيرات المتنوعة الراجع ذلك كله إلى حكمة الصانع و قدرته و علمه تبارك اسمه . فأما قوله و كتاب الله إلى قوله و لا يخالف بصاحبه عن الله ففصل آخر مقطوع عما قبله و متصل بما لم يذكره جامع نهج البلاغة فإن قلت ما معنى قوله و لا يختلف في الله و لا يخالف بصاحبه عن الله و هل بين هاتين الجملتين فرق قلت نعم أما قوله و لا يختلف في الله فهو أنه لا يختلف في الدلالة على الله و صفاته أي لا يتناقض أي ليس في القرآن آيات مختلفة يدل بعضها على أنه يعلم كل المعلومات مثلا و تدل الأخرى على أنه لا يعلم كل المعلومات أو يدل بعضها على أنه لا يرى و بعضها على أنه يرى و ليس وجودنا للآيات المشتبهة بقادح في هذا القول لأن آيات الجبر و التشبيه لا تدل و إنما توهم و نحن إنما نفينا أن يكون فيه ما يدل على الشيء و نقيضه . و أما قوله و لا يخالف بصاحبه عن الله فهو أنه لا يأخذ بالإنسان المعتمد عليه إلى غير الله أي لا يهديه إلا إلى جناب الحق سبحانه و لا يعرج به إلى جناب الشيطان يقال خالفت بفلان عن فلان إذا أخذت به غير نحوه و سلكت به غير جهته . [ 295 ] فأما قوله قد اصطلحتم على الغل إلى آخر الفصل فكلام مقطوع أيضا عما قبله و الغل الحقد . و الدمن جمع دمنة و هي الحقد أيضا و قد دمنت قلوبهم بالكسر أي ضغنت و نبت المرعى عليها أي دامت و طال الزمان عليها حتى صارت بمنزلة الأرض الجامدة الثابتة التي تنبت النبات و يجوز أن يريد بالدمن هاهنا جمع دمن و هو البعر المجتمع كالمزبلة أو جمع دمنة و هي آثار الناس و ما سودوا من الأرض يقال قد دمن الشاء الماء و قد دمن القوم الأرض فشبه ما في قلوبهم من الغل و الحقد و الضغائن بالمزبلة المجتمعة من البعر و غيره من سقاطة الديار التي قد طال مكثها حتى نبت عليها المرعى قال الشاعر
و قد ينبت المرعى على دمن الثرى قوله ع لقد استهام بكم الخبيث يعني الشيطان و استهام بكم جعلكم هائمين أي استهامكم فعداه بحرف الجر كما تقول في استنفرت القوم إلى الحرب استنفرت بهم أي جعلتهم نافرين و يمكن أن يكون بمعنى الطلب و الاستدعاء كقولك استعلمت منه حال كذا أي استدعيت أن يعلمني و استمنحت فلانا أي طلبت و استدعيت أن يعطيني فيكون قوله و استهام بكم الخبيث أي استدعى منكم أن تهيموا و تقعوا في التيه و الضلال و الحيرة . قوله و تاه بكم الغرور هو الشيطان أيضا قال سبحانه وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ و تاه بكم جعلكم تائهين حائرين ثم سأل الله أن يعينه على نفسه و عليهم و من كلام بعض الصالحين اللهم انصرني على أقرب الأعداء إلي دارا و أدناهم مني جوارا و هي نفسي [ 296 ] |