كلام أبي جعفر الحسني في الأسباب التي أوجبت محبة الناس لعليو كان أبو جعفر رحمه الله لا يجحد الفاضل فضله و الحديث شجون . قلت له مرة ما سبب حب الناس لعلي بن أبي طالب ع و عشقهم له و تهالكهم في هواه و دعني في الجواب من حديث الشجاعة و العلم و الفصاحة و غير ذلك من الخصائص التي رزقه الله سبحانه الكثير الطيب منها . فضحك و قال لي كم تجمع جراميزك علي . ثم قال هاهنا مقدمة ينبغي أن تعلم و هي أن أكثر الناس موتورون من الدنيا أما المستحقون فلا ريب في أن أكثرهم محرومون نحو عالم يرى أنه لا حظ له في الدنيا و يرى جاهلا غيره مرزوقا و موسعا عليه و شجاع قد أبلى في الحرب و انتفع بموضعه ليس له عطاء يكفيه و يقوم بضروراته و يرى غيره و هو جبان فشل يفرق من ظله مالكا لقطر عظيم من الدنيا و قطعة وافرة من المال و الرزق و عاقل سديد التدبير صحيح العقل قد قدر عليه رزقه و هو يرى غيره أحمق مائقا تدر عليه الخيرات و تتحلب عليه أخلاف الرزق و ذي دين قويم و عبادة حسنة و إخلاص و توحيد و هو محروم ضيق الرزق و يرى غيره يهوديا أو نصرانيا أو زنديقا كثير المال حسن الحال حتى إن هذه الطبقات المستحقة يحتاجون في أكثر الوقت إلى الطبقات التي لا استحقاق [ 224 ] لها و تدعوهم الضرورة إلى الذل لهم و الخضوع بين أيديهم إما لدفع ضرر أو لاستجلاب نفع و دون هذه الطبقات من ذوي الاستحقاق أيضا ما نشاهده عيانا من نجار حاذق أو بناء عالم أو نقاش بارع أو مصور لطيف على غاية ما يكون من ضيق رزقهم و قعود الوقت بهم و قلة الحيلة لهم و يرى غيرهم ممن ليس يجري مجراهم و لا يلحق طبقتهم مرزوقا مرغوبا فيه كثير المكسب طيب العيش واسع الرزق فهذا حال ذوي الاستحقاق و الاستعداد و أما الذين ليسوا من أهل الفضائل كحشو العامة فإنهم أيضا لا يخلون من الحقد على الدنيا و الذم لها و الحنق و الغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم و جيرانهم و لا يرى أحد منهم قانعا بعيشه و لا راضيا بحاله بل يستزيد و يطلب حالا فوق حاله . قال فإذا عرفت هذه المقدمة فمعلوم أن عليا ع كان مستحقا محروما بل هو أمير المستحقين المحرومين و سيدهم و كبيرهم و معلوم أن الذين ينالهم الضيم و تلحقهم المذلة و الهضيمة يتعصب بعضهم لبعض و يكونون إلبا و يدا واحدة على المرزوقين الذين ظفروا بالدنيا و نالوا مآربهم منها لاشتراكهم في الأمر الذي آلمهم و ساءهم و عضهم و مضهم و اشتراكهم في الأنفة و الحمية و الغضب و المنافسة لمن علا عليهم و قهرهم و بلغ من الدنيا ما لم يبلغوه فإذا كان هؤلاء أعني المحرومين متساوين في المنزلة و المرتبة و تعصب بعضهم لبعض فما ظنك بما إذا كان منهم رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف جامع للفضائل محتو على الخصائص و المناقب و هو مع ذلك محروم محدود و قد جرعته الدنيا علاقمها و علته عللا بعد نهل من صابها و صبرها و لقي منها برحا بارحا و جهدا جهيدا و علا عليه من هو دونه و حكم فيه و في بنيه و أهله و رهطه من لم يكن ما ناله من الإمرة و السلطان في حسابه و لا دائرا في خلده و لا خاطرا بباله و لا كان أحد من الناس يرتقب ذلك له و لا يراه له ثم كان في آخر الأمر أن قتل هذا الرجل الجليل في [ 225 ] محرابه و قتل بنوه بعده و سبي حريمه و نساؤه و تتبع أهله و بنو عمه بالقتل و الطرد و التشريد و السجون مع فضلهم و زهدهم و عبادتهم و سخائهم و انتفاع الخلق بهم فهل يمكن ألا يتعصب البشر كلهم مع هذا الشخص و هل تستطيع القلوب ألا تحبه و تهواه و تذوب فيه و تفنى في عشقه انتصارا له و حمية من أجله و أنفة مما ناله و امتعاضا مما جرى عليه و هذا أمر مركوز في الطبائع و مخلوق في الغرائز كما يشاهد الناس على الجرف إنسانا قد وقع في الماء العميق و هو لا يحسن السباحة فإنهم بالطبع البشري يرقون عليه رقة شديدة و قد يلقي قوم منهم أنفسهم في الماء نحوه يطلبون تخليصه لا يتوقعون على ذلك مجازاة منه بمال أو شكر و لا ثوابا في الآخرة فقد يكون منهم من لا يعتقد أمر الآخرة و لكنها رقة بشرية و كان الواحد منهم يتخيل في نفسه أنه ذلك الغريق فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق كذلك يطلب تخليص من هو في تلك الحال الصعبة للمشاركة الجنسية و كذلك لو أن ملكا ظلم أهل بلد من بلاده ظلما عنيفا لكان أهل ذلك البلد يتعصب بعضهم لبعض في الانتصار من ذلك الملك و الاستعداء عليه فلو كان من جملتهم رجل عظيم القدر جليل الشأن قد ظلمه الملك أكثر من ظلمه إياهم و أخذ أمواله و ضياعه و قتل أولاده و أهله كان لياذهم به و انضواؤهم إليه و اجتماعهم و التفافهم به أعظم و أعظم لأن الطبيعة البشرية تدعو إلى ذلك على سبيل الإيجاب الاضطراري و لا يستطيع الإنسان منه امتناعا . و هذا محصول قول النقيب أبي جعفر رحمه الله قد حكيته و الألفاظ لي و المعنى له لأني لا أحفظ الآن ألفاظه بعينها إلا أن هذا هو كان معنى قوله و فحواه رحمه الله و كان لا يعتقد في الصحابة ما يعتقده أكثر الإمامية فيهم و يسفه رأي من يذهب فيهم إلى النفاق و التكفير و كان يقول حكمهم حكم مسلم مؤمن عصى في بعض الأفعال و خالف الأمر فحكمه إلى الله إن شاء آخذه و إن شاء غفر له . [ 226 ] قلت له مرة أ فتقول أنهما من أهل الجنة فقال إي و الله أعتقد ذلك لأنهما إما أن يعفو الله تعالى عنهما ابتداء أو بشفاعة الرسول ص أو بشفاعة علي ع أو يؤاخذهما بعقاب أو عتاب ثم ينقلهما إلى الجنة لا أستريب في ذلك أصلا و لا أشك في إيمانهما برسول الله ص و صحة عقيدتهما . فقلت له فعثمان قال و كذلك عثمان ثم قال رحم الله عثمان و هل كان إلا واحدا منا و غصنا من شجرة عبد مناف و لكن أهله كدروه علينا و أوقعوا العداوة و البغضاء بينه و بيننا . قلت له فيلزمك على ما تراه في أمر هؤلاء أن تجوز دخول معاوية الجنة لأنه لم تكن منه إلا المخالفة و ترك امتثال أمر النبوي . فقال كلا إن معاوية من أهل النار لا لمخالفته عليا و لا بمحاربته إياه و لكن عقيدته لم تكن صحيحة و لا إيمانه حقا و كان من رءوس المنافقين هو و أبوه و لم يسلم قلبه قط و إنما أسلم لسانه و كان يذكر من حديث معاوية و من فلتات قوله و ما حفظ عنه من كلام يقتضي فساد العقيدة شيئا كثيرا ليس هذا موضعه فأذكره . و قال لي مرة حاش لله أن يثبت معاوية في جريدة الشيخين الفاضلين أبي بكر و عمر و الله ما هما إلا كالذهب الإبريز و لا معاوية إلا كالدرهم الزائف أو قال كالدرهم القسي ثم قال لي فما يقول أصحابكم فيهما قلت أما الذي استقر عليه رأي المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم في التفضيل و غيره أن عليا ع أفضل الجماعة و أنهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها و أنه لم يكن هناك نص يقطع العذر و إنما كانت إشارة و إيماء لا يتضمن شيء منها صريح النص و إن عليا ع نازع ثم بايع [ 227 ] و جمح ثم استجاب و لو أقام على الامتناع لم نقل بصحة البيعة و لا بلزومها و لو جرد السيف كما جرده في آخر الأمر لقلنا بفسق كل من خالفه على الإطلاق كائنا من كان و لكنه رضي بالبيعة أخيرا و دخل في الطاعة . و بالجملة أصحابنا يقولون إن الأمر كان له و كان هو المستحق و المتعين فإن شاء أخذه لنفسه و إن شاء ولاه غيره فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره اتبعناه و رضينا بما رضي فقال قد بقي بيني و بينكم قليل أنا أذهب إلى النص و أنتم لا تذهبون إليه . فقلت له إنه لم يثبت النص عندنا بطريق يوجب العلم و ما تذكرونه أنتم صريحا فأنتم تنفردون بنقله و ما عدا ذلك من الأخبار التي نشارككم فيها فلها تأويلات معلومة . فقال لي و هو ضجر يا فلان لو فتحنا باب التأويلات لجاز أن يتناول قولنا لا إله إلا الله محمد رسول الله دعني من التأويلات الباردة التي تعلم القلوب و النفوس أنها غير مرادة و أن المتكلمين تكلفوها و تعسفوها فإنما أنا و أنت في الدار و لا ثالث لنا فيستحيي أحدنا من صاحبه أو يخافه . فلما بلغنا إلى هذا الموضع دخل قوم ممن كان يخشاه فتركنا ذلك الأسلوب من الحديث و خضنا في غيره |