210

فَأَجَابَهُ ع رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِكَلاَمٍ طَوِيلٍ يَكْثُرُ فِيهِ اَلثَّنَاءُ عَلَيْهِ وَ يَذْكُرُ سَمْعَهُ وَ طَاعَتَهُ لَهُ فَقَالَ ع إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلاَلُ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ وَ جَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اَللَّهِ عَلَيْهِ وَ لَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اَللَّهِ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ اِزْدَادَ حَقُّ اَللَّهِ عَلَيْهِ عِظَماً وَ إِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالاَتِ اَلْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ اَلنَّاسِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ اَلْفَخْرِ وَ يُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى اَلْكِبْرِ وَ قَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ اَلْإِطْرَاءَ وَ اِسْتِمَاعَ اَلثَّنَاءِ وَ لَسْتُ بِحَمْدِ اَللَّهِ كَذَلِكَ وَ لَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَتَرَكْتُهُ اِنْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ اَلْعَظَمَةِ وَ اَلْكِبْرِيَاءِ وَ رُبَّمَا اِسْتَحْلَى اَلنَّاسُ اَلثَّنَاءَ بَعْدَ اَلْبَلاَءِ فَلاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ اَلتَّقِيَّةِ اَلْبَقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلاَ تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ اَلْجَبَابِرَةُ وَ لاَ تَتَحَفَّظُوا بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ اَلْبَادِرَةِ وَ لاَ تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَ لاَ تَظُنُّوا بِي اِسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي وَ لاَ اِلْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اِسْتَثْقَلَ اَلْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ اَلْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ اَلْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ

[ 102 ]

فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَ لاَ آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلاَّ أَنْ يَكْفِيَ اَللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ اَلضَّلاَلَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا اَلْبَصِيرَةَ بَعْدَ اَلْعَمَى هذا الفصل و إن لم يكن فيه ألفاظ غريبة سبيلها أن تشرح ففيه معان مختلفة سبيلها أن تذكر و توضح و تذكر نظائرها و ما يناسبها . فمنها قوله ع إن من حق من عظمت نعمة الله عليه أن تعظم عليه حقوق الله تعالى و أن يعظم جلال الله تعالى في نفسه و من حق من كان كذلك أن يصغر عنده كل ما سوى الله . و هذا مقام جليل من مقامات العارفين و هو استحقار كل ما سوى الله تعالى و ذلك أن من عرف الله تعالى فقد عرف ما هو أعظم من كل عظيم بل لا نسبة لشي‏ء من الأشياء أصلا إليه سبحانه فلا يظهر عند العارف عظمة غيره البتة كما أن من شاهد الشمس المنيرة يستحقر ضوء القمر و السراج الموضوع في ضوء الشمس حال مشاهدته جرم الشمس بل لا تظهر له في تلك الحال صنوبرة السراج و لا تنطبع صورتها في بصره . و منها قوله ع من أسخف حالات الولاة أن يظن بهم حب الفخر و يوضع

[ 103 ]

أمرهم على الكبر

قال النبي ص لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر و

قال ص لو لا ثلاث مهلكات لصلح الناس شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه . و كان يقال ليس لمعجب رأي و لا لمتكبر صديق . و كان أبو مسلم صاحب الدولة يقول ما تاه إلا وضيع و لا فاخر إلا لقيط و لا تعصب إلا دخيل . و قال عمر لبعض ولده التمس الرفعة بالتواضع و الشرف بالدين و العفو من الله بالعفو عن الناس و إياك و الخيلاء فتضع من نفسك و لا تحقرن أحدا لأنك لا تدري لعل من تزدريه عيناك أقرب إلى الله وسيلة منك . و منها قوله ع قد كرهت أن تظنوا بي حب الإطراء و استماع الثناء قد

روي عن النبي ص أنه قال احثوا في وجوه المداحين التراب و قال عمر المدح هو الذبح . و كان يقال إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك . و يقال إن في بعض الكتب المنزلة القديمة عجبا لمن قيل فيه الخير و ليس فيه كيف يفرح و لمن قيل فيه الشر و ليس فيه كيف يغضب و أعجب من ذلك من أحب نفسه على اليقين و أبغض الناس على الظن . و كان يقال لا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك . و قال رجل لعبد الملك إني أريد أن أسر إليك يا أمير المؤمنين شيئا فقال لمن حوله

[ 104 ]

إذا شئتم فانهضوا فتقدم الرجل يريد الكلام فقال له عبد الملك قف لا تمدحني فإني أعلم بنفسي منك و لا تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب و لا تغتب عندي أحدا فإني أكره الغيبة قال أ فيأذن أمير المؤمنين في الانصراف قال إذا شئت . و ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني في مسألة كلامية فجعل النوشجاني يخضع في الكلام و يستخذي له فقال يا محمد أراك تنقاد إلى ما أقوله قبل وجوب الحجة لي عليك و قد ساءني منك ذلك و لو شئت أن أفسر الأمور بعزة الخلافة و هيبة الرئاسة لصدقت و إن كنت كاذبا و عدلت و إن كنت جائرا و صوبت و إن كنت مخطئا و لكني لا أقنع إلا بإقامة الحجة و إزالة الشبهة و إن أنقص الملوك عقلا و أسخفهم رأيا من رضي بقولهم صدق الأمير . و قال عبد الله بن المقفع في اليتيمة إياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح و التزكية و أن يعرف الناس ذلك منك فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عليك منها و بابا يفتتحونك منه و غيبة يغتابونك بها و يسخرون منك لها و اعلم أن قابل المدح كمادح نفسه و أن المرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده فإن الراد له ممدوح و القابل له معيب . و قال معاوية لرجل من سيد قومك قال أنا قال لو كنت كذلك لم تقله . و قال الحسن ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر . كان يقال من أظهر عيب نفسه فقد زكاها . و منها قوله ع لو كنت كذلك لتركته انحطاطا لله تعالى عن تناول ما هو أحق به من الكبرياء

في الحديث المرفوع من تواضع لله رفعه الله و من تكبر خفضه الله .

[ 105 ]

و فيه أيضا العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته . و منها قوله ع فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة و لا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة . أحسن ما سمعته في سلطان لا تخاف الرعية بادرته و لا يتلجلج المتحاكمون عنده مع سطوته و قوته لإيثاره العدل قول أبي تمام في محمد بن عبد الملك

وزير حق و والي شرطة و رحى
ديوان ملك و شيعي و محتسب
كالأرحبي المذكي سيره المرطى
و الوخد و الملع و التقريب و الخبب
عود تساجله أيامه فبها
من مسه و به من مسها جلب
ثبت الخطاب إذا اصطكت بمظلمة
في رحله ألسن الأقوام و الركب

[ 106 ]

لا المنطق اللغو يزكو في مقاومه
يوما و لا حجة الملهوف تستلب
كأنما هو في نادي قبيلته
لا القلب يهفو و لا الأحشاء تضطرب

و من هذا المعنى قول أبي الجهم العدوي في معاوية

نقلبه لنخبر حالتيه
فنخبر منهما كرما و لينا
نميل على جوانبه كأنا
إذا ملنا نميل على أبينا

و منها قوله ع لا تظنوا بي استثقال رفع الحق إلي فإنه من استثقل الحق أن يقال له كان العمل به عليه أثقل . هذا معنى لطيف و لم أسمع منه شيئا منثورا و لا منظوما . و منها قوله ع و لا تكفوا عن قول بحق أو مشورة بعدل . قد ورد في المشورة شي‏ء كثير قال الله تعالى وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ . و كان يقال إذا استشرت إنسانا صار عقله لك . و قال أعرابي ما غبنت قط حتى يغبن قومي قيل و كيف ذاك قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم . و كان يقال من أعطي الاستشارة لم يمنع الصواب و من أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة و من أعطي التوبة لم يمنع القبول و من أعطي الشكر لم يمنع المزيد . و في آداب ابن المقفع لا يقذفن في روعك أنك إذا استشرت الرجال ظهر منك للناس حاجتك إلى رأي غيرك فيقطعك ذلك عن المشاورة فإنك لا تريد الرأي للفخر

[ 107 ]

و لكن للانتفاع به و لو أنك أردته للذكر لكان أحسن الذكر عند العقلاء أن يقال إنه لا ينفرد برأيه دون ذوي الرأي من إخوانه . و منها أن يقال ما معنى قوله ع و ربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء إلى قوله لا بد من إمضائها فنقول إن معناه أن بعض من يكره الإطراء و الثناء قد يحب ذلك بعد البلاء و الاختبار كما قال مرداس بن أدية لزياد إنما الثناء بعد البلاء و إنما نثني بعد أن نبتلي فقال لو فرضنا أن ذلك سائغ و جائز و غير قبيح لم يجز لكم أن تثنوا علي في وجهي و لا جاز لي أن أسمعه منكم لأنه قد بقيت علي بقية لم أفرغ من أدائها و فرائض لم أمضها بعد و لا بد لي من إمضائها و إذا لم يتم البلاء الذي قد فرضنا أن الثناء يحسن بعده لم يحسن الثناء . و معنى قوله لإخراجي نفسي إلى الله و إليكم أي لاعترافي بين يدي الله و بمحضر منكم أن علي حقوقا في إيالتكم و رئاستي عليكم لم أقم بها بعد و أرجو من الله القيام بها . و منها أن يقال ما معنى قوله فلا تخالطوني بالمصانعة فنقول إن معناه لا تصانعوني بالمدح و الإطراء عن عمل الحق كما يصانع به كثير من الولاة الذين يستفزهم المدح و يستخفهم الإطراء و الثناء فيغمضون عن اعتماد كثير من الحق مكافأة لما صونعوا به من التقريظ و التزكية و النفاق . و منها قوله ع فإني لست بفوق أن أخطئ هذا اعتراف منه ع بعدم العصمة فإما أن يكون الكلام على ظاهره أو يكون قاله على سبيل هضم

[ 108 ]

النفس

كما قال رسول الله ص و لا أنا إلا أن يتداركني الله برحمته . و منها قوله ع أخرجنا مما كنا فيه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى و أعطانا البصيرة بعد العمى ليس هذا إشارة إلى خاص نفسه ع لأنه لم يكن كافرا فأسلم و لكنه كلام يقوله و يشير به إلى القوم الذين يخاطبهم من أفناء الناس فيأتي بصيغة الجمع الداخلة فيها نفسه توسعا و يجوز أن يكون معناه لو لا ألطاف الله تعالى ببعثة محمد ص لكنت أنا و غيري على أصل مذهب الأسلاف من عبادة الأصنام كما قال تعالى لنبيه وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى‏ ليس معناه أنه كان كافرا بل معناه لو لا اصطفاه الله تعالى لك لكنت كواحد من قومك و معنى وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ أي و وجدك بعرضة للضلال فكأنه ضال بالقوة لا بالفعل

[ 109 ]