استدلال قاضي القضاة على إمامة أبي بكر و رد المرتضى عليه

و اعلم أن أصحابنا قد استدلوا على صحة إمامة أبي بكر بقوله تعالى يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ

[ 185 ]

عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ثم قال قاضي القضاة في المعنى و هذا خبر من الله تعالى و لا بد أن يكون كائنا على ما أخبر به و الذين قاتلوا المرتدين هم أبو بكر و أصحابه فوجب أن يكونوا هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ و ذلك يوجب أن يكونوا على صواب . و اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الاحتجاج في الشافي فقال من أين قلت إن الآية نزلت في أبي بكر و أصحابه فإن قال لأنهم الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله ص و لا أحد قاتلهم سواهم قيل له و من الذي سلم لك ذلك أ و ليس أمير المؤمنين ع قد قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين بعد الرسول ص و هؤلاء عندنا مرتدون عن الدين و يشهد بصحة التأويل زائدا على احتمال القول له ما روي عن أمير المؤمنين ع من قوله يوم البصرة و الله ما قوتل أهل الآية حتى اليوم و تلاها و قد روي عن عمار و حذيفة و غيرهما مثل ذلك . فإن قال دليلي على أنها في أبي بكر و أصحابه قول أهل التفسير قيل له أ و كل أهل التفسير قال ذلك فإن قال نعم كابر لأنه قد روي عن جماعة التأويل الذي ذكرناه و لو لم يكن إلا ما روي عن أمير المؤمنين ع و وجوه أصحابه الذين ذكرناهم لكفى و إن قال حجتي قول بعض المفسرين قلنا و أي حجة في قول البعض و لم صار البعض الذي قال ما ذكرت أولى بالحق من البعض الذي قال ما ذكرنا . ثم يقال له قد وجدنا الله تعالى قد نعت المذكورين في الآية بنعوت يجب أن

[ 186 ]

تراعيها لنعلم أ في صاحبنا هي أم في صاحبك و قد جعله الرسول ص في خيبر حين فر من فر من القوم عن العدو صاحب هذه الأوصاف

فقال لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرارا غير فرار فدفعها إلى أمير المؤمنين ع . ثم قوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ يقتضي ما ذكرنا لأنه من المعلوم بلا خلاف حال أمير المؤمنين ع في التخاشع و التواضع و ذم نفسه و قمع غضبه و أنه ما رئي قط طائشا و لا متطيرا في حال من الأحوال و معلوم حال صاحبيكم في هذا الباب أما أحدهما فإنه اعترف طوعا بأن له شيطانا يعتريه عند غضبه و أما الآخر فكان معروفا بالجد و العجلة مشهورا بالفظاظة و الغلظة و أما العزة على الكافرين فإنما تكون بقتالهم و جهادهم و الانتقام منهم و هذه حال لم يسبق أمير المؤمنين ع إليها سابق و لا لحقه فيها لاحق . ثم قال تعالى يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ و هذا وصف أمير المؤمنين المستحق له بالإجماع و هو منتف عن أبي بكر و صاحبه إجماعا لأنه لا قتيل لهما في الإسلام و لا جهاد بين يدي الرسول ص و إذا كانت الأوصاف المراعاة في الآية حاصلة لأمير المؤمنين ع و غير حاصلة لمن ادعيتم لأنها فيهم على ضربين ضرب معلوم انتفاؤه كالجهاد و ضرب مختلف فيه كالأوصاف التي هي غير الجهاد و على من أثبتها لهم الدلالة على حصولها و لا بد أن يرجع في ذلك إلى غير ظاهر الآية لم يبق في يده من الآية دليل . هذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله و لقد كان يمكنه التخلص من الاحتجاج بالآية

[ 187 ]

على وجه ألطف و أحسن و أصح مما ذكره فيقول المراد بها من ارتد على عهد رسول الله ص في واقعة الأسود العنسي باليمن فإن كثيرا من المسلمين ضلوا به و ارتدوا عن الإسلام و ادعوا له النبوة و اعتقدوا صدقه و القوم الذين يحبهم الله و يحبونه القوم الذين كاتبهم رسول الله ص و أغراهم بقتله و الفتك به و هم فيروز الديلمي و أصحابه و القصة مشهورة و قد كان له أيضا أن يقول لم قلت إن الذين قاتلهم أبو بكر و أصحابه كانوا مرتدين فإن المرتد من ينكر دين الإسلام بعد أن كان قد تدين به و الذين منعوا الزكاة لم ينكروا أصل دين الإسلام و إنما تأولوا فأخطئوا لأنهم تأولوا قول الله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ فقالوا إنما ندفع زكاة أموالنا إلى من صلاته سكن لنا و لم يبق بعد وفاة النبي ص من هو بهذه الصفة فسقط عنا وجوب الزكاة ليس هذا من الردة في شي‏ء و إنما سماهم الصحابة أهل الردة على سبيل المجاز إعظاما لما قالوه و تأولوه . فإن قيل إنما الاعتماد على قتال أبي بكر و أصحابه لمسيلمة و طليحة اللذين ادعيا النبوة و ارتد بطريقهما كثير من العرب لا على قتال مانعي الزكاة قيل إن مسيلمة و طليحة جاهدهما رسول الله ص قبل موته بالكتب و الرسل و أنفذ لقتلهما جماعة من المسلمين و أمرهم أن يفتكوا بهما غيلة إن أمكنهم ذلك و استنفر عليهما قبائل من العرب و كل ذلك مفصل مذكور في كتب السيرة و التواريخ فلم لا يجوز أن يكون أولئك النفر الذين بعثهم رسول الله ص للفتك بهما هم المعنيون بقوله يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ إلى آخر الآية و لم يقل في الآية يجاهدون

[ 188 ]

فيقتلون و إنما ذكر الجهاد فقط و قد كان الجهاد من أولئك النفر حاصلا و إن لم يبلغوا الغرض كما كان الجهاد حاصلا عند حصار الطائف و إن لم يبلغ فيه الغرض . و قد كان له أيضا أن يقول سياق الآية لا يدل على ما ظنه المستدل بها من أنه من يرتدد عن الدين فإن الله يأتي بقوم يحبهم و يحبونه يحاربونه لأجل ردته و إنما الذي يدل عليه سياق الآية أنه من يرتد منكم عن دينه بترك الجهاد مع رسول الله ص و سماه ارتدادا على سبيل المجاز فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه يجاهدون في سبيل الله معه عوضا عنكم و كذلك كان كل من خذل النبي ص و قعد عن النهوض معه في حروبه أغناه الله تعالى عنه بطائفة أخرى من المسلمين جاهدوا بين يديه . و أما قول المرتضى رحمه الله إنها أنزلت في الناكثين و القاسطين و المارقين الذين حاربهم أمير المؤمنين ع فبعيد لأنهم لا يطلق عليهم لفظ الردة عندنا و لا عند المرتضى و أصحابه أما اللفظ فبالاتفاق و إن سموهم كفارا و أما المعنى فلأن في مذهبهم أن من ارتد و كان قد ولد على فطرة الإسلام بانت امرأته منه و قسم ماله بين ورثته و كان على زوجته عدة المتوفى عنها زوجها و معلوم أن أكثر محاربي أمير المؤمنين ع كانوا قد ولدوا في الإسلام و لم يحكم فيهم بهذه الأحكام . و قوله إن الصفات غير متحققة في صاحبكم فلعمري إن حظ أمير المؤمنين ع منها هو الحظ الأوفى و لكن الآية ما خصت الرئيس بالصفات المذكورة و إنما أطلقها على المجاهدين و هم الذين يباشرون الحرب فهب أن أبا بكر و عمر ما كانا بهذه الصفات لم لا يجوز أن يكون مدحا لمن جاهد بين أيديهما من المسلمين و باشر الحرب و هم شجعان المهاجرين و الأنصار الذين فتحوا الفتوح و نشروا الدعوة و ملكوا الأقاليم .

[ 189 ]

و قد استدل قاضي القضاة أيضا عن صحة إمامة أبي بكر و أسند هذا الاستدلال إلى شيخنا أبي علي بقوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ و قال تعالى فَإِنْ رَجَعَكَ اَللَّهُ إِلى‏ طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخالِفِينَ و قال تعالى سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ يعني قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ثم قال سبحانه قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اَلْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اَللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فبين أن الذي يدعو هؤلاء المخلفين من الأعراب إلى قتال قوم أولي بأس شديد غير النبي ص لأنه تعالى قد بين أنهم لا يخرجون معه و لا يقاتلون معه عدوا بآية متقدمة و لم يدعهم بعد النبي ص إلى قتال الكفار إلا أبو بكر و عمر و عثمان لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل فقال بعضهم عنى بقوله سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بني حنيفة و قال بعضهم عنى فارس و الروم و أبو بكر هو الذي دعا إلى قتال بني حنيفة و قتال آل فارس و الروم و دعاهم بعده إلى قتال فارس و الروم عمر فإذا كان الله تعالى قد بين أنهم بطاعتهم لهما يؤتهم أجرا حسنا و إن تولوا عن طاعتهما يعذبهم عذابا أليما صح أنهما على حق و أن طاعتهما طاعة لله تعالى و هذا يوجب صحة إمامتهما .

[ 190 ]

فإن قيل إنما أراد الله بذلك أهل الجمل و صفين قيل هذا فاسد من وجهين أحدهما قوله تعالى تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ و الذين حاربوا أمير المؤمنين كانوا على الإسلام و لم يقاتلوا على الكفر و الوجه الثاني أنا لا نعرف من الذين عناهم الله تعالى بهذا من بقي إلى أيام أمير المؤمنين ع كما علمنا أنهم كانوا باقين في أيام أبي بكر . اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الكلام من وجهين أحدهما أنه نازع في اقتضاء الآية داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي ص و ذلك لأن قوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اَللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ اَلرَّسُولُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ إِلى‏ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ اَلسَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً . إنما أراد به سبحانه الذين تخلفوا عن الحديبية بشهادة جميع أهل النقل و إطباق المفسرين . ثم قال تعالى سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً و إنما التمس هؤلاء المخلفون أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى من ذلك و أمر نبيه أن يقول لهم لن تتبعونا إلى هذه الغزاة لأن الله تعالى كان حكم من قبل بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية و أنه لا حظ لمن لم يشهدها و هذا هو معنى قوله تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللَّهِ و قوله كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ ثم قال تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ

[ 191 ]

مِنَ اَلْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ و إنما أراد أن الرسول سيدعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأس شديد و قد دعاهم النبي ص بعد ذلك إلى غزوات كثيرة إلى قوم أولي بأس شديد كمؤتة و حنين و تبوك و غيرهما فمن أين يجب أن يكون الداعي لهؤلاء غير النبي ص مع ما ذكرناه من الحروب التي كانت بعد خيبر . و قوله إن معنى قوله تعالى كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ إنما أراد به ما بينه في قوله فَإِنْ رَجَعَكَ اَللَّهُ إِلى‏ طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا بتبوك سنة تسع و آية الفتح نزلت في سنة ست فكيف يكون قبلها . و ليس يجب أن يقال في القرآن بالإرادة و بما يحتمل من الوجوه في كل موضع دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآي و الأسباب التي وردت عليها و تعلقت بها . و مما يبين لك أن هؤلاء المخلفين غير أولئك لو لم نرجع في ذلك إلى نقل و تاريخ قوله تعالى في هؤلاء فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اَللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فلم يقطع منهم على طاعة و لا معصية بل ذكر الوعد و الوعيد على ما يفعلونه من طاعة أو معصية و حكم المذكورين في آية سورة التوبة بخلاف هذه لأنه تعالى بعد قوله إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخالِفِينَ وَ لا تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى‏ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي اَلدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ و اختلاف أحكامهم و صفاتهم يدل

[ 192 ]

على اختلافهم و أن المذكورين في آية سورة الفتح غير المذكورين في آية سورة التوبة . و أما قوله لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل فذكرهما باطل لأن أهل التأويل قد ذكروا شيئا آخر لم يذكره لأن المسيب روى عن أبي روق عن الضحاك في قوله تعالى سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ الآية قال هم ثقيف و روى هشيم عن أبي يسر سعيد بن جبير قال هم هوازن يوم حنين . و روى الواقدي عن معمر عن قتادة قال هم هوازن و ثقيف فكيف ذكر من أقوال المفسرين ما يوافقه مع اختلاف الرواية عنهم على أنا لا نرجع في كل ما يحتمله تأويل القرآن إلى أقوال المفسرين فإنهم ربما تركوا مما يحتمله القول وجها صحيحا و كم استخرج جماعة من أهل العدل في متشابه القرآن من الوجوه الصحيحة التي ظاهر التنزيل بها أشبه و لها أشد احتمالا مما لم يسبق إليه المفسرون و لا دخل في جملة تفسيرهم و تأويلهم . و الوجه الثاني سلم فيه أن الداعي هؤلاء المخلفين غير النبي ص و قال لا يمتنع أن يعنى بهذا الداعي أمير المؤمنين ع لأنه قاتل بعده الناكثين و القاسطين و المارقين و بشره النبي ص بأنه يقاتلهم و قد كانوا أولي بأس شديد بلا شبهة . قال فأما تعلق صاحب الكتاب بقوله أَوْ يُسْلِمُونَ و أن الذين حاربهم أمير المؤمنين ع كانوا مسلمين فأول ما فيه أنهم غير مسلمين عنده و عند أصحابه لأن الكبائر تخرج من الإسلام عندهم كما تخرج عن الإيمان إذ كان الإيمان هو الإسلام

[ 193 ]

على مذهبهم ثم إن مذهبنا في محاربي أمير المؤمنين ع معروف لأنهم عندنا كانوا كفارا بمحاربته لوجوه الأول منها أن من حاربه كان مستحلا لقتاله مظهرا أنه في ارتكابه على حق و نحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر هو كافر بالإجماع و استحلال دماء المؤمنين فضلا عن أفاضلهم و أكابرهم أعظم من شرب الخمر و استحلاله فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفارا . الثاني

أنه ع قال له بلا خلاف بين أهل النقل حربك يا علي حربي و سلمك سلمي و نحن نعلم أنه لم يرد إلا التشبيه بينهما في الأحكام و من أحكام محاربي النبي ص الكفر بلا خلاف . الثالث

أن النبي ص قال له بلا خلاف أيضا اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله و قد ثبت عندنا أن العداوة من الله لا تكون إلا للكفار الذين يعادونه دون فساق أهل الملة . الرابع قوله إنا لا نعلم ببقاء هؤلاء المخلفين إلى أيام أمير المؤمنين ع فليس بشي‏ء لأنه إذا لم يكن ذلك معلوما و مقطوعا عليه فهو مجوز و غير معلوم خلافه و الجواز كاف لنا في هذا الموضع . و لو قيل له من أين علمت بقاء المخلفين المذكورين في الآية على سبيل القطع إلى أيام أبي بكر لكان يفزع إلى أن يقول حكم الآية يقتضي بقاءهم حتى يتم كونهم مدعوين إلى قتال أولي البأس الشديد على وجه يلزمهم فيه الطاعة و هذا بعينه يمكن أن يقال له و يعتمد في بقائهم إلى أيام أمير المؤمنين ع على ما يوجبه حكم الآية . فإن قيل كيف يكون أهل الجمل و صفين كفارا و لم يسر أمير المؤمنين ع

[ 194 ]

فيهم بسيرة الكفار لأنه ما سباهم و لا غنم أموالهم و لا تبع موليهم قلنا أحكام الكفر تختلف و إن شملهم اسم الكفر لأن في الكفار من يقتل و لا يستبقى و فيهم من يؤخذ منه الجزية و لا يحل قتله إلا بسبب طارئ غير الكفر و منهم من لا يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين فعلى هذا يجوز أن يكون أكثر هؤلاء القوم كفارا و إن لم يسر فيهم بجميع سيرة أهل الكفر لأنا قد بينا اختلاف أحكام الكفار و يرجع في أن حكمهم مخالف لأحكام الكفار إلى فعله ع و سيرته فيهم على أنا لا نجد في الفساق من حكمه أن يقتل مقبلا و لا يقتل موليا و لا يجهز على جريحه إلى غير ذلك من الأحكام التي سيرها في أهل البصرة و صفين . فإذا قيل في جواب ذلك أحكام الفسق مختلفة و فعل أمير المؤمنين هو الحجة في أن حكم أهل البصرة و صفين ما فعله قلنا مثل ذلك حرفا بحرف و يمكن مع تسليم أن الداعي لهؤلاء المخلفين أبو بكر أن يقال ليس في الآية دلالة على مدح الداعي و لا على إمامته لأنه قد يجوز أن يدعو إلى الحق و الصواب من ليس عليهما فيلزم ذلك الفعل من حيث كان واجبا في نفسه لا لدعاء الداعي إليه و أبو بكر إنما دعا إلى دفع أهل الردة عن الإسلام و هذا يجب على المسلمين بلا دعاء داع و الطاعة فيه طاعة لله تعالى فمن أين له أن الداعي كان على حق و صواب و ليس في كون ما دعا إليه طاعة ما يدل على ذلك . و يمكن أيضا أن يكون قوله تعالى سَتُدْعَوْنَ إنما أراد به دعاء الله تعالى لهم بإيجاب القتال عليهم لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين و رفعهم عن بيضة الإسلام فقد دعاهم إلى القتال و وجبت عليهم الطاعة و وجب لهم الثواب إن أطاعوا و هذا أيضا تحتمله الآية .

[ 195 ]

فهذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله في هذا الموضع و أكثره جيد لا اعتراض عليه و قد كان يمكنه أن يقول لو سلمنا بكل هذا لكان ليس في قوله لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً الآية ما يدل على أن النبي ص لا يكون هو الداعي لهم إلى القوم أولي البأس الشديد لأنه ليس فيها إلا محض الإخبار عنهم بأنهم لا يخرجون معه و لا يقاتلون العدو معه و ليس في هذا ما ينفي كونه داعيا لهم كما

أنه ع قال أبو لهب لا يؤمن بي لم يكن هذا القول نافيا لكونه يدعوه إلى الإسلام . و قوله فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخالِفِينَ ليس بأمر على الحقيقة و إنما هو تهديد كقوله اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ و لا بد للمرتضى و لقاضي القضاة جميعا من أن يحملا صيغة افعل على هذا المحمل لأنه ليس لأحدهما بمسوغ أن يحمل الأمر على حقيقته لأن الشارع لا يأمر بالقعود و ترك الجهاد مع القدرة عليه و كونه قد تعين وجوبه . فإن قلت لو قدرنا أن هذه الآية و هي قوله تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اَلْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أنزلت بعد غزوة تبوك و بعد نزول سورة براءة التي تتضمن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً و قدرنا أن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ليس إخبارا محضا كما تأولته أنت و حملت الآية عليه بل معناه لا أخرجكم معي و لا أشهدكم حرب العدو هل كان يتم الاستدلال قلت لا لأن للإمامية أن تقول يجوز أن يكون الداعي إلى حرب القوم أولي البأس الشديد مع تسليم هذه المقدمات كلها هو رسول الله ص لأنه دعاهم إلى حرب الروم في سرية أسامة بن زيد في صفر من سنة إحدى عشرة لما سيره إلى البلقاء و قال له سر إلى الروم مقتل أبيك فأوطئهم الخيول و حشد معه أكثر المسلمين فهذا الجيش قد دعي فيه المخلفون من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد

[ 196 ]

في غزاة تبوك إلى قوم أولي بأس شديد و لم يخرجوا مع رسول الله ص و لا حاربوا معه عدوا . فإن قلت إذا خرجوا مع أسامة فكأنما خرجوا مع رسول الله و إذا حاربوا مع أسامة العدو فكأنما حاربوا مع رسول الله ص و قد كان سبق أنهم لا يخرجون مع رسول الله ص و لا يحاربون معه عدوا قلت و إذا خرجوا مع خالد بن الوليد و غيره في أيام أبي بكر و مع أبي عبيدة و سعد في أيام عمر فكأنما خرجوا مع رسول الله ص و حاربوا العدو معه أيضا . فإن اعتذرت بأنه و إن شابه الخروج معه و الحرب معه إلا أنه على الحقيقة ليس معه و إنما هو مع امرئ من قبل خلفائه قيل لك و كذلك خروجهم مع أسامة و محاربة العدو معه و إن شابه الخروج مع النبي و محاربة العدو معه إلا أنه على الحقيقة ليس معه و إنما هو مع بعض أمرائه . و يمكن أن يعترض الاستدلال بالآية فيقال لا يجوز حملها على بني حنيفة لأنهم كانوا مسلمين و إنما منعوا الزكاة مع قولهم لا إله إلا الله محمد رسول الله ص و منع الزكاة لا يخرج به الإنسان عن الإسلام عند المرجئة و الإمامية مرجئة و لا يجوز حملها على فارس و الروم لأنه تعالى أخبر أنه لا واسطة بين قتالهم و إسلامهم كما تقول إما كذا و إما كذا فيقتضي ذلك نفي الواسطة و قتال فارس و الروم بينه و بين إسلامهم واسطة و هو دفع الجزية و إنما تنتفي هذه الواسطة في قتال العرب لأن مشركي العرب لا تؤخذ منهم الجزية فالآية إذن دالة على أن المخلفين سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد الحكم فيهم إما قتالهم و إما إسلامهم و هؤلاء هم مشركو العرب و لم يحارب مشركي العرب إلا رسول الله ص فالداعي لهم إذا هو رسول الله و بطل الاستدلال بالآية

[ 197 ]

أَنَا وَضَعْتُ فِي اَلصِّغَرِ بِكَلاَكِلِ اَلْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ ص بِالْقَرَابَةِ اَلْقَرِيبَةِ وَ اَلْمَنْزِلَةِ اَلْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ وَ كَانَ يَمْضَغُ اَلشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لاَ خَطْلَةً فِي فِعْلٍ وَ لَقَدْ قَرَنَ اَللَّهُ بِهِ ص مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ اَلْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلاَقِ اَلْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اِتِّبَاعَ اَلْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لاَ يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اَللَّهِ ص وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ اَلْوَحْيِ وَ اَلرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ اَلنُّبُوَّةِ وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ اَلشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ اَلْوَحْيُ عَلَيْهِ ص فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ مَا هَذِهِ اَلرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا اَلشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ الباء في قوله بكلاكل العرب زائدة و الكلاكل الصدور الواحد كلكل و المعنى أني أذللتهم و صرعتهم إلى الأرض .

[ 198 ]

و نواجم قرون ربيعة و مضر من نجم منهم و ظهر و علا قدره و طار صيته . فإن قلت أما قهره لمضر فمعلوم فما حال ربيعة و لم نعرف أنه قتل منهم أحدا قلت بلى قد قتل بيده و بجيشه كثيرا من رؤسائهم في صفين و الجمل فقد تقدم ذكر أسمائهم من قبل و هذه الخطبة خطب بها بعد انقضاء أمر النهروان . و العرف بالفتح الريح الطيبة و مضغ الشي‏ء يمضغه بفتح الضاد . و الخطلة في الفعل الخطأ فيه و إيقاعه على غير وجهه . و حراء اسم جبل بمكة معروف . و الرنة الصوت