اختلاف الرأي في إيمان أبي طالبو اختلف الناس في إيمان أبي طالب فقالت الإمامية و أكثر الزيدية ما مات إلا مسلما . [ 66 ] و قال بعض شيوخنا المعتزلة بذلك منهم الشيخ أبو القاسم البلخي و أبو جعفر الإسكافي و غيرهما . و قال أكثر الناس من أهل الحديث و العامة من شيوخنا البصريين و غيرهم مات على دين قومه و يروون في ذلك حديثا مشهورا أن رسول الله ص قال له عند موته قل يا عم كلمة أشهد لك بها غدا عند الله تعالى فقال لو لا أن تقول العرب إن أبا طالب جزع عند الموت لأقررت بها عينك . و روي أنه قال أنا على دين الأشياخ . و قيل إنه قال أنا على دين عبد المطلب و قيل غير ذلك . و روى كثير من المحدثين أن قوله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ وَ ما كانَ اِسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ الآية أنزلت في أبي طالب لأن رسول الله استغفر له بعد موته . و رووا أن قوله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ نزلت في أبي طالب . و رووا أن عليا ع جاء إلى رسول الله ص بعد موت أبي طالب فقال له إن عمك الضال قد قضى فما الذي تأمرني فيه . و احتجوا بأنه لم ينقل أحد عنه أنه رآه يصلي و الصلاة هي المفرقة بين المسلم و الكافر و أن عليا و جعفرا لم يأخذا من تركته شيئا و رووا عن النبي ص أنه قال إن الله قد وعدني بتخفيف عذابه لما صنع في حقي و إنه في ضحضاح من نار و رووا عنه أيضا أنه قيل له لو استغفرت لأبيك و أمك فقال لو استغفرت لهما لاستغفرت لأبي طالب فإنه صنع إلي ما لم يصنعا و إن عبد الله و آمنة و أبا طالب جمرات من جمرات جهنم . [ 67 ] فأما الذين زعموا أنه كان مسلما فقد رووا خلاف ذلك و أسندوا خبرا إلى أمير المؤمنين ع أنه قال قال رسول الله ص قال لي جبرائيل إن الله مشفعك في ستة بطن حملتك آمنة بنت وهب و صلب أنزلك عبد الله بن عبد المطلب و حجر كفلك أبي طالب و بيت آواك عبد المطلب و أخ كان لك في الجاهلية قيل يا رسول الله و ما كان فعله قال كان سخيا يطعم الطعام و يجود بالنوال و ثدي أرضعتك حليمة بنت أبي ذؤيب . قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد عن هذا الخبر و قد قرأته عليه هل كان لرسول الله ص أخ من أبيه أو من أمه أو منهما في الجاهلية فقال لا إنما يعني أخا له في المودة و الصحبة قلت له فمن هو قال لا أدري . قالوا و قد نقل الناس كافة عن رسول الله ص أنه قال نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية فوجب بهذا أن يكون آباؤه كلهم منزهين عن الشرك لأنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين . قالوا و أما ما ذكر في القرآن من إبراهيم و أبيه آزر و كونه كان ضالا مشركا فلا يقدح في مذهبنا لأن آزر كان عم إبراهيم فأما أبوه فتارخ بن ناحور و سمي العم أبا كما قال أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ ثم عد فيهم إسماعيل و ليس من آبائه و لكنه عمه . قلت و هذا الاحتجاج عندي ضعيف لأن المراد من قوله نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية تنزيه آبائه و أجداده و أمهاته عن السفاح لا غير هذا مقتضى [ 68 ] سياقة الكلام لأن العرب كان يعيب بعضها بعضا باختلاط المياه و اشتباه الأنساب و نكاح الشبهة . و قولهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين يقال لهم لم قلتم إنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهري الأصلاب فإنه لا منافاة بين طهارة الأصلاب و عبادة الصنم أ لا ترى أنه لو أراد ما زعموه لما ذكر الأصلاب و الأرحام بل جعل عوضها العقائد و اعتذارهم عن إبراهيم و أبيه يقدح في قولهم في أبي طالب لأنه لم يكن أبا محمد ص بل كان عمه فإذا جاز عندهم أن يكون العم و هو آزر مشركا كما قد اقترحوه في تأويلهم لم يكن لهم حجة من هذا الوجه على إسلام أبي طالب . و احتجوا في إسلام الآباء بما روي عن جعفر بن محمد ع أنه قال يبعث الله عبد المطلب يوم القيامة و عليه سيماء الأنبياء و بهاء الملوك و روي أن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله ص بالمدينة يا رسول الله ما ترجو لأبي طالب فقال أرجو له كل خير من الله عز و جل و روي أن رجلا من رجال الشيعة و هو أبان بن محمود كتب إلى علي بن موسى الرضا ع جعلت فداك إني قد شككت في إسلام أبي طالب فكتب إليه وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ الآية و بعدها إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار و قد روي عن علي بن محمد الباقر ع أنه سئل عما يقوله الناس إن أبا طالب في ضحضاح من نار فقال لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان و إيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه ثم قال أ لم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا ع كان يأمر أن يحج عن عبد الله و أبيه أبي طالب في حياته ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم . و روي أن أبا بكر جاء بأبي قحافة إلى النبي ص عام الفتح يقوده [ 69 ] و هو شيخ كبير أعمى فقال رسول الله أ لا تركت الشيخ حتى نأتيه فقال أردت يا رسول الله أن يأجره الله أما و الذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحا بإسلام عمك أبي طالب مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك فقال صدقت . و روي أن علي بن الحسين ع سئل عن هذا فقال وا عجبا إن الله تعالى نهى رسوله أن يقر مسلمة على نكاح كافر و قد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام و لم تزل تحت أبي طالب حتى مات . و يروي قوم من الزيدية أن أبا طالب أسند المحدثون عنه حديثا ينتهي إلى أبي رافع مولى رسول الله ص قال سمعت أبا طالب يقول بمكة حدثني محمد ابن أخي أن ربه بعثه بصلة الرحم و أن يعبده وحده لا يعبد معه غيره و محمد عندي الصادق الأمين . و قال قوم إن قول النبي ص أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة إنما عنى به أبا طالب . و قالت الإمامية إن ما يرويه العامة من أن عليا ع و جعفرا لم يأخذا من تركة أبي طالب شيئا حديث موضوع و مذهب أهل البيت بخلاف ذلك فإن المسلم عندهم يرث الكافر و لا يرث الكافر المسلم و لو كان أعلى درجة منه في النسب . قالوا و قوله ص لا توارث بين أهل ملتين نقول بموجبه لأن التوارث تفاعل و لا تفاعل عندنا في ميراثهما و اللفظ يستدعي الطرفين كالتضارب لا يكون إلا من اثنين قالوا و حب رسول الله ص [ 70 ] لأبي طالب معلوم مشهور و لو كان كافرا ما جاز له حبه لقوله تعالى لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ الآية . قالوا و قد اشتهر و استفاض الحديث و هو قوله ص لعقيل أنا أحبك حبين حبا لك و حبا لحب أبي طالب فإنه كان يحبك . قالوا و خطبة النكاح مشهورة خطبها أبو طالب عند نكاح محمد ص خديجة و هي قوله الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسماعيل و جعل لنا بلدا حراما و بيتا محجوجا و جعلنا الحكام على الناس ثم إن محمد بن عبد الله أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برا و فضلا و حزما و عقلا و رأيا و نبلا و إن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل و عارية مسترجعة و له في خديجة بنت خويلد رغبة و لها فيه مثل ذلك و ما أحببتم من الصداق فعلي و له و الله بعد نبأ شائع و خطب جليل . قالوا أ فتراه يعلم نبأه الشائع و خطبه الجليل ثم يعانده و يكذبه و هو من أولي الألباب هذا غير سائغ في العقول . قالوا و قد روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ع أن رسول الله ص قال إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان و أظهروا الكفر فآتاهم الله أجرهم مرتين و إن أبا طالب أسر الإيمان و أظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين و في الحديث المشهور أن جبرائيل ع قال له ليلة مات أبو طالب اخرج منها فقد مات ناصرك . قالوا و أما حديث الضحضاح من النار فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد و هو المغيرة بن شعبة و بغضه لبني هاشم و على الخصوص لعلي ع مشهور معلوم و قصته و فسقه أمر غير خاف . [ 71 ] و قالوا و قد روي بأسانيد كثيرة بعضها عن العباس بن عبد المطلب و بعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة أن أبا طالب ما مات حتى قال لا إله إلا الله محمد رسول الله و الخبر مشهور أن أبا طالب عند الموت قال كلاما خفيا فأصغى إليه أخوه العباس ثم رفع رأسه إلى رسول الله ص فقال يا ابن أخي و الله لقد قالها عمك و لكنه ضعف عن أن يبلغك صوته . و روي عن علي ع أنه قال ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله ص من نفسه الرضا . قالوا و أشعار أبي طالب تدل على أنه كان مسلما و لا فرق بين الكلام المنظوم و المنثور إذا تضمنا إقرارا بالإسلام أ لا ترى أن يهوديا لو توسط جماعة من المسلمين و أنشد شعرا قد ارتجله و نظمه يتضمن الإقرار بنبوة محمد ص لكنا نحكم بإسلامه كما لو قال أشهد أن محمدا رسول الله ص فمن تلك الأشعار قوله
يرجون منا خطة دون نيلها [ 72 ]
فلا تحسبونا مسلميه فمثله و من شعر أبي طالب في أمر الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم
ألا أبلغا عني على ذات بينها [ 73 ]
و لكننا أهل الحفائظ و النهى و من ذلك قوله
فلا تسفهوا أحلامكم في محمد و من ذلك قوله و قد غضب لعثمان بن مظعون الجمحي حين عذبته قريش و نالت منه
أ من تذكر دهر غير مأمون [ 74 ]
أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب قالوا و قد جاء في الخبر أن أبا جهل بن هشام جاء مرة إلى رسول الله ص و هو ساجد و بيده حجر يريد أن يرضخ به رأسه فلصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد فقال أبو طالب في ذلك من جملة أبيات
أفيقوا بني عمنا و انتهوا و منها
و أعجب من ذاك في أمركم قالوا و قد اشتهر عن عبد الله المأمون رحمه الله أنه كان يقول أسلم أبو طالب و الله بقوله
نصرت الرسول رسول المليك
[ 75 ] قالوا و قد جاء في السيرة و ذكره أكثر المؤرخين أن عمرو بن العاص لما خرج إلى بلاد الحبشة ليكيد جعفر بن أبي طالب و أصحابه عند النجاشي قال
تقول ابنتي أين أين الرحيل قالوا فكان عمرو يسمى الشانئ ابن الشانئ لأن أباه كان إذا مر عليه رسول الله ص بمكة يقول له و الله إني لأشنؤك و فيه أنزل إِنَّ شانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ قالوا فكتب أبو طالب إلى النجاشي شعرا يحرضه فيه على إكرام جعفر و أصحابه و الإعراض عما يقوله عمرو فيه و فيهم من جملته
ألا ليت شعري كيف في الناس جعفر في أبيات كثيرة . قالوا و روي عن علي ع أنه قال قال لي أبي يا بني الزم ابن عمك فإنك تسلم به من كل بأس عاجل و آجل ثم قال لي
إن الوثيقة في لزوم محمد
[ 76 ] و من شعره المناسب لهذا المعنى قوله
إن عليا و جعفرا ثقتي قالوا و قد جاءت الرواية أن أبا طالب لما مات جاء علي ع إلى رسول الله ص فآذنه بموته فتوجع عظيما و حزن شديدا ثم قال له امض فتول غسله فإذا رفعته على سريره فأعلمني ففعل فاعترضه رسول الله ص و هو محمول على رءوس الرجال فقال وصلتك رحم يا عم و جزيت خيرا فلقد ربيت و كفلت صغيرا و نصرت و آزرت كبيرا ثم تبعه إلى حفرته فوقف عليه فقال أما و الله لأستغفرن لك و لأشفعن فيك شفاعة يعجب لها الثقلان . قالوا و المسلم لا يجوز أن يتولى غسل الكافر و لا يجوز للنبي أن يرق لكافر و لا أن يدعو له بخير و لا أن يعده بالاستغفار و الشفاعة و إنما تولى علي ع غسله لأن طالبا و عقيلا لم يكونا أسلما بعد و كان جعفر بالحبشة و لم تكن صلاة الجنائز شرعت بعد و لا صلى رسول الله ص على خديجة و إنما كان تشييع و رقة و دعاء . قالوا و من شعر أبي طالب يخاطب أخاه حمزة و كان يكنى أبا يعلى
فصبرا أبا يعلى على دين أحمد [ 77 ]
و باد قريشا بالذي قد أتيته قالوا و من شعره المشهور
أنت النبي محمد قالوا و من شعره المشهور أيضا قوله يخاطب محمدا و يسكن جأشه و يأمره بإظهار الدعوة
لا يمنعنك من حق تقوم به [ 78 ]
فإن كفك كفي إن بليت بهم و من ذلك قوله و يقال إنها لطالب بن أبي طالب
إذا قيل من خير هذا الورى و من ذلك قوله
لقد أكرم الله النبي محمدا و قوله أيضا و قد يروى لعلي ع
يا شاهد الله علي فاشهد قالوا فكل هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر لأنه إن لم تكن آحادها متواترة فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك و هو تصديق محمد ص و مجموعها متواتر كما أن كل واحدة من قتلات علي ع الفرسان منقولة آحادا و مجموعها متواتر يفيدنا العلم الضروري بشجاعته و كذلك القول فيما روي من سخاء حاتم و حلم الأحنف و معاوية و ذكاء إياس و خلاعة أبي نواس و غير ذلك قالوا و اتركوا هذا كله جانبا ما قولكم في القصيدة اللامية التي شهرتها كشهرة قفا نبك و إن جاز الشك فيها أو في شيء من أبياتها جاز الشك في قفا نبك و في بعض أبياتها و نحن نذكر منها هاهنا قطعة و هي قوله [ 79 ]
أعوذ برب البيت من كل طاعن
[ 80 ] و ورد في السيرة و المغازي أن عتبة بن ربيعة أو شيبة لما قطع رجل عبيدة بن الحارث بن المطلب يوم بدر أشبل عليه علي و حمزة فاستنقذاه منه و خبطا عتبة بسيفيهما حتى قتلاه و احتملا صاحبهما من المعركة إلى العريش فألقياه بين يدي رسول الله ص و إن مخ ساقه ليسيل فقال يا رسول الله لو كان أبو طالب حيا لعلم أنه قد صدق في قوله
كذبتم و بيت الله نخلي محمدا فقالوا إن رسول الله ص استغفر له و لأبي طالب يومئذ و بلغ عبيدة مع النبي ص إلى الصفراء فمات فدفن بها . قالوا و قد روي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله ص في عام جدب فقال أتيناك يا رسول الله و لم يبق لنا صبي يرتضع و لا شارف يجتر ثم أنشده
أتيناك و العذراء تدمى لبانها فقام النبي ص يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه و قال اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا هنيئا مريعا سحا سجالا غدقا طبقا قاطبا دائما درا تحيي به الأرض و تنبت به الزرع و تدر به الضرع و اجعله سقيا نافعا عاجلا غير رائث فو الله ما رد رسول الله ص يده إلى نحره حتى ألقت السماء [ 81 ] أرواقها و جاء الناس يضجون الغرق الغرق يا رسول الله فقال اللهم حوالينا و لا علينا فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالإكليل فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ثم قال لله در أبي طالب لو كان حيا لقرت عينه من ينشدنا قوله فقام علي فقال يا رسول الله لعلك أردت و أبيض يستسقى الغمام بوجهه قال أجل فأنشده أبياتا من هذه القصيدة و رسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر ثم قام رجل من كنانة فأنشده
لك الحمد و الحمد ممن شكر فقال رسول الله إن يكن شاعر أحسن فقد أحسنت قالوا و إنما لم يظهر أبو طالب الإسلام و يجاهر به لأنه لو أظهره لم يتهيأ له من نصرة النبي ص ما تهيأ له و كان كواحد من المسلمين الذين اتبعوه نحو أبي بكر و عبد الرحمن بن عوف و غيرهما ممن أسلم و لم يتمكن من نصرته و القيام دونه [ 82 ] حينئذ و إنما تمكن أبو طالب من المحاماة عنه بالثبات في الظاهر على دين قريش و إن أبطن الإسلام كما لو أن إنسانا كان يبطن التشيع مثلا و هو في بلد من بلاد الكرامية و له في ذلك البلد وجاهة و قدم و هو يظهر مذهب الكرامية و يحفظ ناموسه بينهم بذلك و كان في ذلك البلد نفر يسير من الشيعة لا يزالون ينالون بالأذى و الضرر من أهل ذلك البلد و رؤسائه فإنه ما دام قادرا على إظهار مذهب أهل البلد يكون أشد تمكنا من المدافعة و المحاماة عن أولئك النفر فلو أظهر ما يجوز من التشيع و كاشف أهل البلد بذلك صار حكمه حكم واحد من أولئك النفر و لحقه من الأذى و الضرر ما يلحقهم و لم يتمكن من الدفاع أحيانا عنهم كما كان أولا . قلت فأما أنا فإن الحال ملتبسة عندي و الأخبار متعارضة و الله أعلم بحقيقة حاله كيف كانت . و يقف في صدري رسالة النفس الزكية إلى المنصور و قوله فيها فأنا ابن خير الأخيار و أنا ابن شر الأشرار و أنا ابن سيد أهل الجنة و أنا ابن سيد أهل النار . فإن هذه شهادة منه على أبي طالب بالكفر و هو ابنه و غير متهم عليه و عهده قريب من عهد النبي ص لم يطل الزمان فيكون الخبر مفتعلا . و جملة الأمر أنه قد روي في إسلامه أخبار كثيرة و روي في موته على دين قومه أخبار كثيرة فتعارض الجرح و التعديل فكان كتعارض البينتين عند الحاكم و ذلك يقتضي التوقف فأنا في أمره من المتوقفين . [ 83 ] فأما الصلاة و كونه لم ينقل عنه أنه صلى فيجوز أن يكون لأن الصلاة لم تكن بعد قد فرضت و إنما كانت نفلا غير واجب فمن شاء صلى و من شاء ترك و لم تفرض إلا بالمدينة و يمكن أن يقول أصحاب الحديث إذا تعارض الجرح و التعديل كما قد أشرتم إليه فالترجيح عند أصحاب أصول الفقه لجانب الجرح لأن الجارح قد اطلع على زيادة لم يطلع عليها المعدل . و لخصومهم أن يجيبوا عن هذا فنقول إن هذا إنما يقال و يذكر في أصول الفقه في طعن مفصل في مقابلة تعديل مجمل مثاله أن يروي شعبة مثلا حديثا عن رجل فهو بروايته عنه قد وثقه و يكفي في توثيقه له أن يكون مستور الحال ظاهره العدالة فيطعن فيه الدار قطني مثلا بأن يقول كان مدلسا أو كان يرتكب الذنب الفلاني فيكون قد طعن طعنا مفصلا في مقابلة تعديل مجمل و فيما نحن فيه و بصدده الروايتان متعارضتان تفصيلا لا إجمالا لأن هؤلاء يروون أنه تلفظ بكلمتي الشهادة عند الموت و هؤلاء يروون أنه قال عند الموت أنا على دين الأشياخ . و بمثل هذا يجاب على من يقول من الشيعة روايتنا في إسلامه أرجح لأنا نروي حكما إيجابيا و نشهد على إثبات و خصومنا يشهدون على النفي و لا شهادة على النفي و ذلك أن الشهادة في الجانبين معا إنما هي على إثبات و لكنه إثبات متضاد . و صنف بعض الطالبيين في هذا العصر كتابا في إسلام أبي طالب و بعثه إلي و سألني أن أكتب عليه بخطي نظما أو نثرا أشهد فيه بصحة ذلك و بوثاقة الأدلة عليه فتحرجت أن أحكم بذلك حكما قاطعا لما عندي من التوقف فيه و لم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة و أعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة فكتبت على ظاهر المجلد [ 84 ]
و لو لا أبو طالب و ابنه فوفيته حقه من التعظيم و الإجلال و لم أجزم بأمر عندي فيه وقفة |