اختلاف الرأي في إيمان أبي طالب

و اختلف الناس في إيمان أبي طالب فقالت الإمامية و أكثر الزيدية ما مات إلا مسلما .

[ 66 ]

و قال بعض شيوخنا المعتزلة بذلك منهم الشيخ أبو القاسم البلخي و أبو جعفر الإسكافي و غيرهما . و قال أكثر الناس من أهل الحديث و العامة من شيوخنا البصريين و غيرهم مات على دين قومه و

يروون في ذلك حديثا مشهورا أن رسول الله ص قال له عند موته قل يا عم كلمة أشهد لك بها غدا عند الله تعالى فقال لو لا أن تقول العرب إن أبا طالب جزع عند الموت لأقررت بها عينك . و روي أنه قال أنا على دين الأشياخ . و قيل إنه قال أنا على دين عبد المطلب و قيل غير ذلك . و روى كثير من المحدثين أن قوله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى‏ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ وَ ما كانَ اِسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ الآية أنزلت في أبي طالب لأن رسول الله استغفر له بعد موته . و رووا أن قوله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ نزلت في أبي طالب . و رووا أن عليا ع جاء إلى رسول الله ص بعد موت أبي طالب فقال له إن عمك الضال قد قضى فما الذي تأمرني فيه . و احتجوا بأنه لم ينقل أحد عنه أنه رآه يصلي و الصلاة هي المفرقة بين المسلم و الكافر و أن عليا و جعفرا لم يأخذا من تركته شيئا و

رووا عن النبي ص أنه قال إن الله قد وعدني بتخفيف عذابه لما صنع في حقي و إنه في ضحضاح من نار و

رووا عنه أيضا أنه قيل له لو استغفرت لأبيك و أمك فقال لو استغفرت لهما لاستغفرت لأبي طالب فإنه صنع إلي ما لم يصنعا و إن عبد الله و آمنة و أبا طالب جمرات من جمرات جهنم .

[ 67 ]

فأما الذين زعموا أنه كان مسلما فقد رووا خلاف ذلك و

أسندوا خبرا إلى أمير المؤمنين ع أنه قال قال رسول الله ص قال لي جبرائيل إن الله مشفعك في ستة بطن حملتك آمنة بنت وهب و صلب أنزلك عبد الله بن عبد المطلب و حجر كفلك أبي طالب و بيت آواك عبد المطلب و أخ كان لك في الجاهلية قيل يا رسول الله و ما كان فعله قال كان سخيا يطعم الطعام و يجود بالنوال و ثدي أرضعتك حليمة بنت أبي ذؤيب . قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد عن هذا الخبر و قد قرأته عليه هل كان لرسول الله ص أخ من أبيه أو من أمه أو منهما في الجاهلية فقال لا إنما يعني أخا له في المودة و الصحبة قلت له فمن هو قال لا أدري . قالوا و

قد نقل الناس كافة عن رسول الله ص أنه قال نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية فوجب بهذا أن يكون آباؤه كلهم منزهين عن الشرك لأنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين . قالوا و أما ما ذكر في القرآن من إبراهيم و أبيه آزر و كونه كان ضالا مشركا فلا يقدح في مذهبنا لأن آزر كان عم إبراهيم فأما أبوه فتارخ بن ناحور و سمي العم أبا كما قال أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ ثم عد فيهم إسماعيل و ليس من آبائه و لكنه عمه . قلت و هذا الاحتجاج عندي ضعيف لأن المراد من قوله نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية تنزيه آبائه و أجداده و أمهاته عن السفاح لا غير هذا مقتضى

[ 68 ]

سياقة الكلام لأن العرب كان يعيب بعضها بعضا باختلاط المياه و اشتباه الأنساب و نكاح الشبهة . و قولهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين يقال لهم لم قلتم إنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهري الأصلاب فإنه لا منافاة بين طهارة الأصلاب و عبادة الصنم أ لا ترى أنه لو أراد ما زعموه لما ذكر الأصلاب و الأرحام بل جعل عوضها العقائد و اعتذارهم عن إبراهيم و أبيه يقدح في قولهم في أبي طالب لأنه لم يكن أبا محمد ص بل كان عمه فإذا جاز عندهم أن يكون العم و هو آزر مشركا كما قد اقترحوه في تأويلهم لم يكن لهم حجة من هذا الوجه على إسلام أبي طالب . و احتجوا في إسلام الآباء

بما روي عن جعفر بن محمد ع أنه قال يبعث الله عبد المطلب يوم القيامة و عليه سيماء الأنبياء و بهاء الملوك و

روي أن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله ص بالمدينة يا رسول الله ما ترجو لأبي طالب فقال أرجو له كل خير من الله عز و جل و

روي أن رجلا من رجال الشيعة و هو أبان بن محمود كتب إلى علي بن موسى الرضا ع جعلت فداك إني قد شككت في إسلام أبي طالب فكتب إليه وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى‏ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ الآية و بعدها إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار و

قد روي عن علي بن محمد الباقر ع أنه سئل عما يقوله الناس إن أبا طالب في ضحضاح من نار فقال لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان و إيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه ثم قال أ لم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا ع كان يأمر أن يحج عن عبد الله و أبيه أبي طالب في حياته ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم . و روي أن أبا بكر جاء بأبي قحافة إلى النبي ص عام الفتح يقوده

[ 69 ]

و هو شيخ كبير أعمى فقال رسول الله أ لا تركت الشيخ حتى نأتيه فقال أردت يا رسول الله أن يأجره الله أما و الذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحا بإسلام عمك أبي طالب مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك فقال صدقت . و

روي أن علي بن الحسين ع سئل عن هذا فقال وا عجبا إن الله تعالى نهى رسوله أن يقر مسلمة على نكاح كافر و قد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام و لم تزل تحت أبي طالب حتى مات . و يروي قوم من الزيدية أن أبا طالب أسند المحدثون عنه حديثا ينتهي إلى أبي رافع مولى رسول الله ص قال سمعت أبا طالب يقول بمكة حدثني محمد ابن أخي أن ربه بعثه بصلة الرحم و أن يعبده وحده لا يعبد معه غيره و محمد عندي الصادق الأمين . و قال قوم إن

قول النبي ص أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة إنما عنى به أبا طالب . و قالت الإمامية إن ما يرويه العامة من أن عليا ع و جعفرا لم يأخذا من تركة أبي طالب شيئا حديث موضوع و مذهب أهل البيت بخلاف ذلك فإن المسلم عندهم يرث الكافر و لا يرث الكافر المسلم و لو كان أعلى درجة منه في النسب . قالوا و

قوله ص لا توارث بين أهل ملتين نقول بموجبه لأن التوارث تفاعل و لا تفاعل عندنا في ميراثهما و اللفظ يستدعي الطرفين كالتضارب لا يكون إلا من اثنين قالوا و حب رسول الله ص

[ 70 ]

لأبي طالب معلوم مشهور و لو كان كافرا ما جاز له حبه لقوله تعالى لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ الآية . قالوا و قد اشتهر و استفاض الحديث و هو

قوله ص لعقيل أنا أحبك حبين حبا لك و حبا لحب أبي طالب فإنه كان يحبك . قالوا و خطبة النكاح مشهورة خطبها أبو طالب عند نكاح محمد ص خديجة و هي قوله الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسماعيل و جعل لنا بلدا حراما و بيتا محجوجا و جعلنا الحكام على الناس ثم إن محمد بن عبد الله أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برا و فضلا و حزما و عقلا و رأيا و نبلا و إن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل و عارية مسترجعة و له في خديجة بنت خويلد رغبة و لها فيه مثل ذلك و ما أحببتم من الصداق فعلي و له و الله بعد نبأ شائع و خطب جليل . قالوا أ فتراه يعلم نبأه الشائع و خطبه الجليل ثم يعانده و يكذبه و هو من أولي الألباب هذا غير سائغ في العقول . قالوا و

قد روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ع أن رسول الله ص قال إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان و أظهروا الكفر فآتاهم الله أجرهم مرتين و إن أبا طالب أسر الإيمان و أظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين و

في الحديث المشهور أن جبرائيل ع قال له ليلة مات أبو طالب اخرج منها فقد مات ناصرك . قالوا و أما حديث الضحضاح من النار فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد و هو المغيرة بن شعبة و بغضه لبني هاشم و على الخصوص لعلي ع مشهور معلوم و قصته و فسقه أمر غير خاف .

[ 71 ]

و قالوا و قد روي بأسانيد كثيرة بعضها عن العباس بن عبد المطلب و بعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة أن أبا طالب ما مات حتى قال لا إله إلا الله محمد رسول الله و الخبر مشهور أن أبا طالب عند الموت قال كلاما خفيا فأصغى إليه أخوه العباس ثم رفع رأسه إلى رسول الله ص فقال يا ابن أخي و الله لقد قالها عمك و لكنه ضعف عن أن يبلغك صوته . و

روي عن علي ع أنه قال ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله ص من نفسه الرضا . قالوا و أشعار أبي طالب تدل على أنه كان مسلما و لا فرق بين الكلام المنظوم و المنثور إذا تضمنا إقرارا بالإسلام أ لا ترى أن يهوديا لو توسط جماعة من المسلمين و أنشد شعرا قد ارتجله و نظمه يتضمن الإقرار بنبوة محمد ص لكنا نحكم بإسلامه كما لو قال أشهد أن محمدا رسول الله ص فمن تلك الأشعار قوله

يرجون منا خطة دون نيلها
ضراب و طعن بالوشيج المقوم
يرجون أن نسخى بقتل محمد
و لم تختضب سمر العوالي من الدم
كذبتم و بيت الله حتى تفلقوا
جماجم تلقى بالحطيم و زمزم
و تقطع أرحام و تنسى حليلة
حليلا و يغشى محرم بعد محرم
على ما مضى من مقتكم و عقوقكم
و غشيانكم في أمركم كل مأثم
و ظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى
و أمر أتى من عند ذي العرش قيم

[ 72 ]

فلا تحسبونا مسلميه فمثله
إذا كان في قوم فليس بمسلم

و من شعر أبي طالب في أمر الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم

ألا أبلغا عني على ذات بينها
لؤيا و خصا من لؤي بني كعب
أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا
رسولا كموسى خط في أول الكتب
و أن عليه في العباد محبة
و لا حيف فيمن خصه الله بالحب
و أن الذي رقشتم في كتابكم
يكون لكم يوما كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى
و يصبح من لم يجن ذنبا كذي ذنب
و لا تتبعوا أمر الغواة و تقطعوا
أواصرنا بعد المودة و القرب
و تستجلبوا حربا عوانا و ربما
أمر على من ذاقه حلب الحرب
فلسنا و بيت الله نسلم أحمدا
لعزاء من عض الزمان و لا كرب
و لما تبن منا و منكم سوالف
و أيد أترت بالمهندة الشهب
بمعترك ضيق ترى قصد القنا
به و الضباع العرج تعكف كالشرب
كأن مجال الخيل في حجراته
و غمغمة الأبطال معركة الحرب
أ ليس أبونا هاشم شد أزره
و أوصى بنيه بالطعان و بالضرب
و لسنا نمل الحرب حتى تملنا
و لا نشتكي مما ينوب من النكب

[ 73 ]

و لكننا أهل الحفائظ و النهى
إذا طار أرواح الكماة من الرعب

و من ذلك قوله

فلا تسفهوا أحلامكم في محمد
و لا تتبعوا أمر الغواة الأشائم
تمنيتم أن تقتلوه و إنما
أمانيكم هذي كأحلام نائم
و إنكم و الله لا تقتلونه
و لما تروا قطف اللحى و الجماجم
زعمتم بأنا مسلمون محمدا
و لما نقاذف دونه و نزاحم
من القوم مفضال أبي على العدا
تمكن في الفرعين من آل هاشم
أمين حبيب في العباد مسوم
بخاتم رب قاهر في الخواتم
يرى الناس برهانا عليه و هيبة
و ما جاهل في قومه مثل عالم
نبي أتاه الوحي من عند ربه
و من قال لا يقرع بها سن نادم

و من ذلك قوله و قد غضب لعثمان بن مظعون الجمحي حين عذبته قريش و نالت منه

أ من تذكر دهر غير مأمون
أصبحت مكتئبا تبكي كمحزون
أم من تذكر أقوام ذوي سفه
يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين
أ لا يرون أذل الله جمعهم
أنا غضبنا لعثمان بن مظعون
و نمنع الضيم من يبغي مضامتنا
بكل مطرد في الكف مسنون
و مرهفات كأن الملح خالطها
يشفى بها الداء من هام المجانين
حتى تقر رجال لا حلوم لها
بعد الصعوبة بالإسماح و اللين

[ 74 ]

أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب
على نبي موسى أو كذي النون

قالوا و قد جاء في الخبر أن أبا جهل بن هشام جاء مرة إلى رسول الله ص و هو ساجد و بيده حجر يريد أن يرضخ به رأسه فلصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد فقال أبو طالب في ذلك من جملة أبيات

أفيقوا بني عمنا و انتهوا
عن الغي من بعض ذا المنطق
و إلا فإني إذا خائف
بوائق في داركم تلتقي
كما ذاق من كان من قبلكم
ثمود و عاد و ما ذا بقي

و منها

و أعجب من ذاك في أمركم
عجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من حينه
إلى الصابر الصادق المتقي
فأثبته الله في كفه
على رغمه الخائن الأحمق

قالوا و قد اشتهر عن عبد الله المأمون رحمه الله أنه كان يقول أسلم أبو طالب و الله بقوله

نصرت الرسول رسول المليك
ببيض تلألأ كلمع البروق
أذب و أحمي رسول الإله
حماية حام عليه شفيق
و ما إن أدب لأعدائه
دبيب البكار حذار الفنيق
و لكن أزير لهم ساميا
كما زار ليث بغيل مضيق

[ 75 ]

قالوا و قد جاء في السيرة و ذكره أكثر المؤرخين أن عمرو بن العاص لما خرج إلى بلاد الحبشة ليكيد جعفر بن أبي طالب و أصحابه عند النجاشي قال

تقول ابنتي أين أين الرحيل
و ما البين مني بمستنكر
فقلت دعيني فإني امرؤ
أريد النجاشي في جعفر
لأكويه عنده كية
أقيم بها نخوة الأصعر
و لن أنثني عن بني هاشم
بما اسطعت في الغيب و المحضر
و عن عائب اللات في قوله
و لو لا رضا اللات لم تمطر
و إني لأشنا قريش له
و إن كان كالذهب الأحمر

قالوا فكان عمرو يسمى الشانئ ابن الشانئ لأن أباه كان إذا مر عليه رسول الله ص بمكة يقول له و الله إني لأشنؤك و فيه أنزل إِنَّ شانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ قالوا فكتب أبو طالب إلى النجاشي شعرا يحرضه فيه على إكرام جعفر و أصحابه و الإعراض عما يقوله عمرو فيه و فيهم من جملته

ألا ليت شعري كيف في الناس جعفر
و عمرو و أعداء النبي الأقارب
و هل نال إحسان النجاشي جعفرا
و أصحابه أم عاق عن ذاك شاغب

في أبيات كثيرة . قالوا و

روي عن علي ع أنه قال قال لي أبي يا بني الزم ابن عمك فإنك تسلم به من كل بأس عاجل و آجل ثم قال لي

إن الوثيقة في لزوم محمد
فاشدد بصحبته على أيديكا

[ 76 ]

و من شعره المناسب لهذا المعنى قوله

إن عليا و جعفرا ثقتي
عند ملم الزمان و النوب
لا تخذلا و انصرا ابن عمكما
أخي لأمي من بينهم و أبي
و الله لا أخذل النبي و لا
يخذله من بني ذو حسب

قالوا و قد جاءت الرواية أن أبا طالب لما مات جاء علي ع إلى رسول الله ص فآذنه بموته فتوجع عظيما و حزن شديدا ثم قال له امض فتول غسله فإذا رفعته على سريره فأعلمني ففعل فاعترضه رسول الله ص و هو محمول على رءوس الرجال فقال وصلتك رحم يا عم و جزيت خيرا فلقد ربيت و كفلت صغيرا و نصرت و آزرت كبيرا ثم تبعه إلى حفرته فوقف عليه فقال أما و الله لأستغفرن لك و لأشفعن فيك شفاعة يعجب لها الثقلان . قالوا و المسلم لا يجوز أن يتولى غسل الكافر و لا يجوز للنبي أن يرق لكافر و لا أن يدعو له بخير و لا أن يعده بالاستغفار و الشفاعة و إنما تولى علي ع غسله لأن طالبا و عقيلا لم يكونا أسلما بعد و كان جعفر بالحبشة و لم تكن صلاة الجنائز شرعت بعد و لا صلى رسول الله ص على خديجة و إنما كان تشييع و رقة و دعاء . قالوا و من شعر أبي طالب يخاطب أخاه حمزة و كان يكنى أبا يعلى

فصبرا أبا يعلى على دين أحمد
و كن مظهرا للدين وفقت صابرا
و حط من أتى بالحق من عند ربه
بصدق و عزم لا تكن حمز كافرا
فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن
فكن لرسول الله في الله ناصرا

[ 77 ]

و باد قريشا بالذي قد أتيته
جهارا و قل ما كان أحمد ساحرا

قالوا و من شعره المشهور

أنت النبي محمد
قرم أعز مسود
لمسودين أكارم
طابوا و طاب المولد
نعم الأرومة أصلها
عمرو الخضم الأوحد
هشم الربيكة في الجفان
و عيش مكة أنكد
فجرت بذلك سنة
فيها الخبيزة تثرد
و لنا السقاية للحجيج
بها يماث العنجد
و المأزمان و ما حوت
عرفاتها و المسجد
أنى تضام و لم أمت
و أنا الشجاع العربد
و بطاح مكة لا يرى
فيها نجيع أسود
و بنو أبيك كأنهم
أسد العرين توقد
و لقد عهدتك صادقا
في القول لا تتزيد
ما زلت تنطق بالصواب
و أنت طفل أمرد

قالوا و من شعره المشهور أيضا قوله يخاطب محمدا و يسكن جأشه و يأمره بإظهار الدعوة

لا يمنعنك من حق تقوم به
أيد تصول و لا سلق بأصوات

[ 78 ]

فإن كفك كفي إن بليت بهم
و دون نفسك نفسي في الملمات

و من ذلك قوله و يقال إنها لطالب بن أبي طالب

إذا قيل من خير هذا الورى
قبيلا و أكرمهم أسره
أناف لعبد مناف أب
و فضله هاشم العزه
لقد حل مجد بني هاشم
مكان النعائم و النثره
و خير بني هاشم أحمد
رسول الإله على فتره

و من ذلك قوله

لقد أكرم الله النبي محمدا
فأكرم خلق الله في الناس أحمد
و شق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود و هذا محمد

و قوله أيضا و قد يروى لعلي ع

يا شاهد الله علي فاشهد
أني على دين النبي أحمد
من ضل في الدين فإني مهتد

قالوا فكل هذه الأشعار قد جاءت مجي‏ء التواتر لأنه إن لم تكن آحادها متواترة فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك و هو تصديق محمد ص و مجموعها متواتر كما أن كل واحدة من قتلات علي ع الفرسان منقولة آحادا و مجموعها متواتر يفيدنا العلم الضروري بشجاعته و كذلك القول فيما روي من سخاء حاتم و حلم الأحنف و معاوية و ذكاء إياس و خلاعة أبي نواس و غير ذلك قالوا و اتركوا هذا كله جانبا ما قولكم في القصيدة اللامية التي شهرتها كشهرة قفا نبك و إن جاز الشك فيها أو في شي‏ء من أبياتها جاز الشك في قفا نبك و في بعض أبياتها و نحن نذكر منها هاهنا قطعة و هي قوله

[ 79 ]

أعوذ برب البيت من كل طاعن
علينا بسوء أو يلوح بباطل
و من فاجر يغتابنا بمغيبة
و من ملحق في الدين ما لم نحاول
كذبتم و بيت الله يبزى محمد
و لما نطاعن دونه و نناضل
و ننصره حتى نصرع دونه
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل
و حتى نرى ذا الردع يركب ردعه
من الطعن فعل الأنكب المتحامل
و ينهض قوم في الحديد إليكم
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
و إنا و بيت الله من جد جدنا
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكل فتى مثل الشهاب سميدع
أخي ثقة عند الحفيظة باسل
و ما ترك قوم لا أبا لك سيدا
يحوط الذمار غير نكس مواكل
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة و فواضل
و ميزان صدق لا يخيس شعيرة
و وزان صدق وزنه غير عائل
أ لم تعلموا أن ابننا لا مكذب
لدينا و لا يعبأ بقول الأباطل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد
و أحببته حب الحبيب المواصل
و جدت بنفسي دونه فحميته
و دافعت عنه بالذرى و الكواهل
فلا زال للدنيا جمالا لأهلها
و شينا لمن عادى و زين المحافل
و أيده رب العباد بنصره
و أظهر دينا حقه غير باطل

[ 80 ]

و ورد في السيرة و المغازي أن عتبة بن ربيعة أو شيبة لما قطع رجل عبيدة بن الحارث بن المطلب يوم بدر أشبل عليه علي و حمزة فاستنقذاه منه و خبطا عتبة بسيفيهما حتى قتلاه و احتملا صاحبهما من المعركة إلى العريش فألقياه بين يدي رسول الله ص و إن مخ ساقه ليسيل فقال يا رسول الله لو كان أبو طالب حيا لعلم أنه قد صدق في قوله

كذبتم و بيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه و نناضل
و ننصره حتى نصرع حوله
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل

فقالوا إن رسول الله ص استغفر له و لأبي طالب يومئذ و بلغ عبيدة مع النبي ص إلى الصفراء فمات فدفن بها .

قالوا و قد روي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله ص في عام جدب فقال أتيناك يا رسول الله و لم يبق لنا صبي يرتضع و لا شارف يجتر ثم أنشده

أتيناك و العذراء تدمى لبانها
و قد شغلت أم الرضيع عن الطفل
و ألقى بكفيه الفتى لاستكانة
من الجوع حتى ما يمر و لا يحلي
و لا شي‏ء مما يأكل الناس عندنا
سوى الحنظل العامي و العلهز الفسل
و ليس لنا إلا إليك فرارنا
و أين فرار الناس إلا إلى الرسل

فقام النبي ص يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه و قال اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا هنيئا مريعا سحا سجالا غدقا طبقا قاطبا دائما درا تحيي به الأرض و تنبت به الزرع و تدر به الضرع و اجعله سقيا نافعا عاجلا غير رائث فو الله ما رد رسول الله ص يده إلى نحره حتى ألقت السماء

[ 81 ]

أرواقها و جاء الناس يضجون الغرق الغرق يا رسول الله فقال اللهم حوالينا و لا علينا فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالإكليل فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ثم قال لله در أبي طالب لو كان حيا لقرت عينه من ينشدنا قوله فقام علي فقال يا رسول الله لعلك أردت

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه

قال أجل فأنشده أبياتا من هذه القصيدة و رسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر ثم قام رجل من كنانة فأنشده

لك الحمد و الحمد ممن شكر
سقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوة
إليه و أشخص منه البصر
فما كان إلا كما ساعة
أو أقصر حتى رأينا الدرر
دفاق العزالي و جم البعاق
أغاث به الله عليا مضر
فكان كما قاله عمه
أبو طالب ذو رواء غرر
به يسر الله صوب الغمام
فهذا العيان و ذاك الخبر
فمن يشكر الله يلق المزيد
و من يكفر الله يلق الغير

فقال رسول الله إن يكن شاعر أحسن فقد أحسنت قالوا و إنما لم يظهر أبو طالب الإسلام و يجاهر به لأنه لو أظهره لم يتهيأ له من نصرة النبي ص ما تهيأ له و كان كواحد من المسلمين الذين اتبعوه نحو أبي بكر و عبد الرحمن بن عوف و غيرهما ممن أسلم و لم يتمكن من نصرته و القيام دونه

[ 82 ]

حينئذ و إنما تمكن أبو طالب من المحاماة عنه بالثبات في الظاهر على دين قريش و إن أبطن الإسلام كما لو أن إنسانا كان يبطن التشيع مثلا و هو في بلد من بلاد الكرامية و له في ذلك البلد وجاهة و قدم و هو يظهر مذهب الكرامية و يحفظ ناموسه بينهم بذلك و كان في ذلك البلد نفر يسير من الشيعة لا يزالون ينالون بالأذى و الضرر من أهل ذلك البلد و رؤسائه فإنه ما دام قادرا على إظهار مذهب أهل البلد يكون أشد تمكنا من المدافعة و المحاماة عن أولئك النفر فلو أظهر ما يجوز من التشيع و كاشف أهل البلد بذلك صار حكمه حكم واحد من أولئك النفر و لحقه من الأذى و الضرر ما يلحقهم و لم يتمكن من الدفاع أحيانا عنهم كما كان أولا . قلت فأما أنا فإن الحال ملتبسة عندي و الأخبار متعارضة و الله أعلم بحقيقة حاله كيف كانت . و يقف في صدري رسالة النفس الزكية إلى المنصور و قوله فيها فأنا ابن خير الأخيار و أنا ابن شر الأشرار و أنا ابن سيد أهل الجنة و أنا ابن سيد أهل النار . فإن هذه شهادة منه على أبي طالب بالكفر و هو ابنه و غير متهم عليه و عهده قريب من عهد النبي ص لم يطل الزمان فيكون الخبر مفتعلا . و جملة الأمر أنه قد روي في إسلامه أخبار كثيرة و روي في موته على دين قومه أخبار كثيرة فتعارض الجرح و التعديل فكان كتعارض البينتين عند الحاكم و ذلك يقتضي التوقف فأنا في أمره من المتوقفين .

[ 83 ]

فأما الصلاة و كونه لم ينقل عنه أنه صلى فيجوز أن يكون لأن الصلاة لم تكن بعد قد فرضت و إنما كانت نفلا غير واجب فمن شاء صلى و من شاء ترك و لم تفرض إلا بالمدينة و يمكن أن يقول أصحاب الحديث إذا تعارض الجرح و التعديل كما قد أشرتم إليه فالترجيح عند أصحاب أصول الفقه لجانب الجرح لأن الجارح قد اطلع على زيادة لم يطلع عليها المعدل . و لخصومهم أن يجيبوا عن هذا فنقول إن هذا إنما يقال و يذكر في أصول الفقه في طعن مفصل في مقابلة تعديل مجمل مثاله أن يروي شعبة مثلا حديثا عن رجل فهو بروايته عنه قد وثقه و يكفي في توثيقه له أن يكون مستور الحال ظاهره العدالة فيطعن فيه الدار قطني مثلا بأن يقول كان مدلسا أو كان يرتكب الذنب الفلاني فيكون قد طعن طعنا مفصلا في مقابلة تعديل مجمل و فيما نحن فيه و بصدده الروايتان متعارضتان تفصيلا لا إجمالا لأن هؤلاء يروون أنه تلفظ بكلمتي الشهادة عند الموت و هؤلاء يروون أنه قال عند الموت أنا على دين الأشياخ . و بمثل هذا يجاب على من يقول من الشيعة روايتنا في إسلامه أرجح لأنا نروي حكما إيجابيا و نشهد على إثبات و خصومنا يشهدون على النفي و لا شهادة على النفي و ذلك أن الشهادة في الجانبين معا إنما هي على إثبات و لكنه إثبات متضاد . و صنف بعض الطالبيين في هذا العصر كتابا في إسلام أبي طالب و بعثه إلي و سألني أن أكتب عليه بخطي نظما أو نثرا أشهد فيه بصحة ذلك و بوثاقة الأدلة عليه فتحرجت أن أحكم بذلك حكما قاطعا لما عندي من التوقف فيه و لم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة و أعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة فكتبت على ظاهر المجلد

[ 84 ]

و لو لا أبو طالب و ابنه
لما مثل الدين شخصا فقاما
فذاك بمكة آوى و حامى
و هذا بيثرب جس الحماما
تكفل عبد مناف بأمر
و أودى فكان علي تماما
فقل في ثبير مضى بعد ما
قضى ما قضاه و أبقى شماما
فلله ذا فاتحا للهدى
و لله ذا للمعالي ختاما
و ما ضر مجد أبي طالب
جهول لغا أو بصير تعامى
كما لا يضر إياة الصباح
من ظن ضوء النهار الظلاما

فوفيته حقه من التعظيم و الإجلال و لم أجزم بأمر عندي فيه وقفة