الفصل الثالث قصة غزوة بدرالفصل الثالث في شرح القصة في غزاة بدر و نحن نذكر ذلك من كتاب المغازي لمحمد بن عمر الواقدي و نذكر ما عساه زاده محمد بن إسحاق في كتاب المغازي و ما زاده أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في تاريخ الأشراف . قال الواقدي بلغ رسول الله ص أن عير قريش قد فصلت من مكة تريد الشام و قد جمعت قريش فيها أموالها فندب لها أصحابه و خرج يعترضها على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره ع فخرج في خمسين و مائة و يقال في مائتين فلم يلق العير و فاتته ذاهبة إلى الشام و هذه غزاة ذي العشيرة رجع منها إلى المدينة فلم يلق حربا فلما تحين انصراف العير من الشام قافلة ندب أصحابه لها و بعث طلحة بن عبيد الله و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قبل خروجه من المدينة بعشر ليال [ 85 ] يتجسسان خبر العير حتى نزلا على كشد الجهني بالموضع المعروف بالنخبار و هو من وراء ذي المروة على الساحل فأجارهما و أنزلهما فلم يزالا مقيمين في خباء وبر حتى مرت العير فرفعهما على نشز من الأرض فنظرا إلى القوم و إلى ما تحمل العير و جعل أهل العير يقولون لكشد يا كشد هل رأيت أحدا من عيون محمد فيقول أعوذ بالله و أنى لمحمد عيون بالنخبار فلما راحت العير باتا حتى أصبحا ثم خرجا و خرج معهما كشد خفيرا حتى أوردهما ذا المروة و ساحلت العير فأسرعت و سار بها أصحابها ليلا و نهارا فرقا من الطلب و قدم طلحة و سعيد المدينة في اليوم الذي لقي رسول الله ص قريشا ببدر فخرجا يعترضان رسول الله ص فلقياه بتربان و تربان بين ملل و السالة على المحجة و كانت منزل عروة بن أذينة الشاعر و قدم كشد بعد ذلك على النبي ص و قد أخبر طلحة و سعيد رسول الله ص بما صنع بهما فحباه و أكرمه و قال أ لا أقطع لك ينبع قال إني كبير و قد نفد عمري و لكن أقطعها لابن أخي فأقطعها له قالوا و ندب رسول الله ص المسلمين و قال هذه عير قريش فيها أموالهم لعل الله أن يغنمكموها فأسرع من أسرع حتى إن كان الرجل ليساهم أباه في الخروج فكان ممن ساهم أباه سعد بن خيثمة فقال سعد لأبيه إنه لو كان غير الجنة آثرتك به إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا فقال خيثمة آثرني و قر مع نسائك فأبى سعد فقال خيثمة إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم فاستهما فخرج سهم سعد فقتل ببدر و أبطأ عن النبي ص بشر كثير من أصحابه و كرهوا خروجه و كان في ذلك كلام كثير و اختلاف و بعضهم تخلف من أهل النيات و البصائر لم يظنوا أنه يكون قتال إنما هو الخروج للغنيمة و لو ظنوا أنه يكون قتال لما تخلفوا منهم أسيد [ 86 ] بن حضير فلما قدم رسول الله ص قال أسيد الحمد لله الذي سرك و أظهرك على عدوك و الذي بعثك بالحق ما تخلفت عنك رغبة بنفسي عن نفسك و لا ظننت أنك تلاقي عدوا و لا ظننت إلا أنها العير فقال له رسول الله ص صدقت . قال و خرج رسول الله ص حتى انتهى إلى المكان المعروف بالبقع و هي بيوت السقيا و هي متصلة ببيوت المدينة فضرب عسكره هناك و عرض المقاتلة فعرض عبد الله بن عمر و أسامة بن زيد و رافع بن خديج و البراء بن عازب و أسيد بن ظهير و زيد بن أرقم و زيد بن ثابت فردهم و لم يجزهم . قال الواقدي فحدثني أبو بكر بن إسماعيل عن أبيه عن عامر بن سعد عن أبيه قال رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله ص يتوارى فقلت ما لك يا أخي قال إني أخاف أن يراني رسول الله ص فيستصغرني فيردني و أنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة قال فعرض على رسول الله ص فاستصغره فقال ارجع فبكى عمير فأجازه . قال فكان سعد يقول كنت أعقد له حمائل سيفه من صغره فقتل ببدر و هو ابن ست عشرة سنة . قال فلما نزل ع بيوت السقيا أمر أصحابه أن يستقوا من بئرهم و شرب ع منها كان أول من شرب و صلى عندها و دعا يومئذ لأهل المدينة فقال [ 87 ] اللهم إن إبراهيم عبدك و خليلك و نبيك دعاك لأهل مكة و إني محمد عبدك و نبيك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم و مدهم و ثمارهم اللهم حبب إلينا المدينة و اجعل ما بها من الوباء بخم اللهم إني حرمت ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم خليلك مكة . قال الواقدي و خم على ميلين من الجحفة . و قدم رسول الله ص أمامه عدي بن أبي الزغباء و بسيس بن عمرو و جاء إليه عبد الله بن عمرو بن حرام فقال يا رسول الله لقد سرني منزلك هذا و عرضك فيه أصحابك و تفاءلت به إن هذا منزلنا في بني سلمة حيث كان بيننا و بين أهل حسيكة ما كان . قال الواقدي هي حسيكة الذباب و الذباب جبل بناحية المدينة و كان بحسيكة يهود و كان لهم بها منازل . قال عبد الله بن عمرو بن حرام فعرضنا يا رسول الله هاهنا أصحابنا فأجزنا من كان يطيق السلاح و رددنا من صغر عن حمل السلاح ثم سرنا إلى يهود حسيكة و هم أعز يهود كانوا يومئذ فقتلناهم كيف شئنا فذلت لنا سائر يهود إلى اليوم و أنا أرجو يا رسول الله أن نلتقي نحن و قريش فيقر الله عينك منهم . قال الواقدي و كان خلاد بن عمرو بن الجموح لما كان من النهار رجع إلى أهله بخرباء فقال له أبوه عمرو بن الجموح ما ظننت إلا أنكم قد سرتم فقال إن رسول الله ص يعرض الناس بالبقيع فقال عمرو نعم الفأل و الله إني لأرجو أن تغنموا و أن تظفروا بمشركي قريش إن هذا منزلنا يوم سرنا إلى حسيكة [ 88 ] قال فإن رسول الله ص قد غير اسمه و سماه السقيا قال فكانت في نفسي أن أشتريها حتى اشتراها سعد بن أبي وقاص ببكرين و يقال بسبع أواق فذكر للنبي ص أن سعدا اشتراها فقال ربح البيع . قال الواقدي فراح رسول الله ص من بيوت السقيا لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان و خرج المسلمون معه ثلاثمائة و خمسة و تخلف ثمانية ضرب لهم بسهامهم و أجورهم فكانت الإبل سبعين بعيرا و كانوا يتعاقبون الإبل الاثنين و الثلاثة و الأربعة فكان رسول الله ص و علي بن أبي طالب ع و مرثد بن أبي مرثد و يقال زيد بن حارثة مكان مرثد يتعاقبون بعيرا واحدا و كان حمزة بن عبد المطلب و زيد بن حارثة و أبو كبشة و أنسة موالي النبي ص على بعير و كان عبيدة بن الحارث و الطفيل و الحصين ابنا الحارث و مسطح بن أثاثة على بعير لعبيدة بن الحارث ناضح ابتاعه من أبي داود المازني و كان معاذ و عوف و معوذ بنو عفراء و مولاهم أبو الحمراء على بعير و كان أبي بن كعب و عمارة بن حزام و حارثة بن النعمان على بعير و كان خراش بن الصمة و قطبة بن عامر بن حديدة و عبد الله بن عمرو بن حزام على بعير و كان عتبة بن غزوان و طليب بن عمير على جمل لعتبة بن غزوان يقال له العبس و كان مصعب بن عمير و سويبط بن حرملة و مسعود بن ربيع على جمل لمصعب و كان عمار بن ياسر و عبد الله بن مسعود على بعير و كان عبد الله بن كعب و أبو داود المازني و سليط بن قيس على جمل لعبد الله بن كعب و كان عثمان بن عفان و قدامة بن مظعون و عبد الله بن مظعون و السائب بن عثمان على بعير يتعاقبون و كان أبو بكر و عمر و عبد الرحمن بن عوف على بعير و كان سعد بن معاذ و أخوه و ابن أخيه الحارث بن أوس و الحارث بن أنس على جمل لسعد بن معاذ ناضح يقال له الذيال و كان سعيد بن زيد و سلمة بن [ 89 ] سلامة بن وقش و عباد بن بشر و رافع بن يزيد على ناضح لسعيد بن زيد ما تزودوا إلا صاعا من تمر . قال الواقدي فروى معاذ بن رفاعة عن أبيه قال خرجت مع النبي ص إلى بدر و كان كل ثلاثة يتعاقبون بعيرا فكنت أنا و أخي خلاد بن رافع على بكر لنا و معنا عبيدة بن يزيد بن عامر فكنا نتعاقب فسرنا حتى إذا كنا بالروحاء إذ مر بنا بكرنا و برك علينا و أعيا فقال أخي اللهم إن لك علي نذرا لئن رددتنا إلى المدينة لأنحرنه فمر بنا النبي ص و نحن على تلك الحال فقلنا يا رسول الله برك علينا بكرنا فدعا بماء فتمضمض و توضأ في إناء ثم قال افتحا فاه ففعلنا فصبه في فيه ثم على رأسه ثم على عنقه ثم على حاركه ثم على سنامه ثم على عجزه ثم على ذنبه ثم قال اركبا و مضى رسول الله ص فلحقناه أسفل من المنصرف و إن بكرنا لينفر بنا حتى إذا كنا بالمصلى راجعين من بدر برك علينا فنحره أخي فقسم لحمه و تصدق به . قال الواقدي و قد روي أن سعد بن عبادة حمل في بدر على عشرين جملا . قال و روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال فخرجنا إلى بدر مع رسول الله ص و معنا سبعون بعيرا فكانوا يتعاقبون الثلاثة و الأربعة و الاثنان على بعير و كنت أنا من أعظم أصحاب النبي ع عنه غناء و أرجلهم رجلة و أرماهم لسهم لم أركب خطوة ذاهبا و لا راجعا قال الواقدي و قال رسول الله ص حين فصل من بيوت السقيا اللهم إنهم حفاة فاحملهم و عراة فاكسهم و جياع فأشبعهم و عالة فأغنهم من فضلك فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا للرجل البعير و البعيران و اكتسى [ 90 ] من كان عاريا و أصابوا طعاما من أزوادهم و أصابوا فداء الأسرى فأغنى به كل عائل . قال و استعمل رسول الله ص على المشاة قيس بن أبي صعصعة و اسم أبي صعصعة عمر بن يزيد بن عوف بن مبذول و أمره النبي ص حين فصل من بيوت السقيا أن يعد المسلمين فوقف لهم ببئر أبي عبيدة يعدهم ثم أخبر النبي ص و خرج من بيوت السقيا حتى سلك بطن العقيق ثم سلك طريق المكيمن حتى خرج على بطحاء بن أزهر فنزل تحت شجرة هناك فقام أبو بكر إلى حجارة هناك فبنى منها مسجدا فصلى فيه رسول الله و أصبح يوم الاثنين و هو هناك ثم صار إلى بطن ملل و تربان بين الحفيرة و ملل . قال الواقدي فكان سعد بن أبي وقاص يقول لما كنا بتربان قال لي رسول الله ص يا سعد انظر إلى الظبي فأفوق له بسهم و قام رسول الله ص فوضع رأسه بين منكبي و أذني ثم قال اللهم سدد رميته قال فما أخطأ سهمي عن نحره فتبسم رسول الله ص و خرجت أعدو فأخذته و به رمق فذكيته فحملناه حتى نزلنا قريبا و أمر به رسول الله ص فقسم بين أصحابه . قال الواقدي و كان معهم فرسان فرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي و فرس للمقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة و يقال فرس للزبير و لم يكن إلا فرسان لاختلاف عندهم أن المقداد له فرس و قد روي عن ضباعة بنت الزبير عن المقداد [ 91 ] قال كان معي يوم بدر فرس يقال له سبحة و قد روى سعد بن مالك الغنوي عن آبائه أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي شهد بدرا على فرس له يقال له السيل . قال الواقدي و لحقت قريش بالشام في عيرها و كانت العير ألف بعير و كان فيها أموال عظام و لم يبق بمكة قرشي و لا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في العير حتى إن المرأة لتبعث بالشيء التافه و كان يقال إن فيها لخمسين ألف دينار و قالوا أقل و إن كان ليقال إن أكثر ما فيها من المال لآل سعيد بن العاص لأبي أحيحة إما مال لهم أو مال مع قوم قراض على النصف و كان عامة العير لهم و يقال بل كان لبني مخزوم فيها مائتا بعير و خمسة أو أربعة آلاف مثقال ذهبا و كان يقال للحارث بن عامر بن نوفل فيها ألفا مثقال . قال الواقدي و حدثني هشام بن عمارة بن أبي الحويرث قال كان لبني عبد مناف فيها عشرة آلاف مثقال و كان متجرهم إلى غزة من أرض الشام . قال الواقدي و حدثني عبد الله بن جعفر عن أبي عون مولى المسور عن مخرمة بن نوفل قال لما لحقنا بالشام أدركنا رجل من جذام فأخبرنا أن محمدا قد كان عرض لعيرنا في بدأتنا و أنه تركه مقيما ينتظر رجعتنا قد حالف علينا أهل الطريق و وادعهم قال مخرمة فخرجنا خائفين نخاف الرصد فبعثنا ضمضم بن عمرو حين فصلنا من الشام . قال الواقدي و كان عمرو بن العاص مع العير و كان يحدث بعد ذلك يقول لما كنا بالزرقاء و الزرقاء بالشام من أذرعات على مرحلتين و نحن منحدرون إلى مكة لقينا رجلا من جذام فقال قد كان عرض محمد لكم في بدأتكم في أصحابه فقلنا ما شعرنا قال بلى فأقام شهرا ثم رجع إلى يثرب و أنتم يوم عرض محمد لكم مخفون فهو الآن أحرى أن يعرض لكم إنما يعد لكم الأيام عدا فاحذروا على عيركم [ 92 ] و ارتئوا آراءكم فو الله ما أرى من عدد و لا كراع و لا حلقة فأجمع القوم أمرهم فبعثوا ضمضم بن عمرو و كان في العير و قد كانت قريش مرت به و هو بالساحل معه بكران فاستأجروه بعشرين مثقالا و أمره أبو سفيان أن يخبر قريشا أن محمدا قد عرض لعيرهم و أمره أن يجدع بعيره إذا دخل و يحول رحله و يشق قميصه من قبله و دبره و يصيح الغوث الغوث و يقال إنما بعثوه من تبوك و كان في العير ثلاثون رجلا من قريش فيهم عمرو بن العاص و مخرمة بن نوفل . قال الواقدي و قد كانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت قبل مجيء ضمضم بن عمرو رؤيا أفزعتها و عظمت في صدرها فأرسلت إلى أخيها العباس فقالت يا أخي لقد و الله رأيت رؤيا أفزعتني و تخوفت أن يدخل على قومك منها شر و مصيبة فاكتم علي ما أحدثك منها رأيت راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته يا آل غدر انفروا إلى مصارعكم في ثلاث فصرخ بها ثلاث مرات فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد و الناس يتبعونه إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها ثلاثا ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها ثلاثا ثم أخذ صخرة من أبي قبيس فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت في أسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة و لا دار من دورها إلا دخلته منها فلذة . قال الواقدي و كان عمرو بن العاص يحدث بعد ذلك فيقول لقد رأيت كل هذا و لقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس و لقد كان ذلك عبرة و لكن الله لم يرد أن نسلم يومئذ لكنه أخر إسلامنا إلى ما أراد . قلت كان بعض أصحابنا يقول لم يكف عمرا أن يقول رأيت الصخرة في دور مكة عيانا فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء باطنا على وجه النفاق و استخفافه بعقول المسلمين [ 93 ] زعم حتى يضيف إلى ذلك القول بالخبر الصراح فيقول إن الله تعالى لم يكن أراد منه الإسلام يومئذ . قال الواقدي قالوا و لم يدخل دارا و لا بيتا من دور بني هاشم و لا بني زهرة من تلك الصخرة شيء قال فقال العباس إن هذه لرؤيا فخرج مغتما حتى لقي الوليد بن عتبة بن ربيعة و كان له صديقا فذكرها له و استكتمه ففشا الحديث في الناس قال العباس فغدوت أطوف بالبيت و أبو جهل في رهط من قريش يتحدثون برؤيا عاتكة فقال أبو جهل ما رأت عاتكة هذه فقلت و ما ذاك فقال يا بني عبد المطلب أ ما رضيتم بأن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساءكم زعمت عاتكة أنها رأت في المنام كذا و كذا للذي رأت فسنتربص بكم ثلاثا فإن يكن ما قالت حقا فسيكون و إن مضت الثلاث و لم يكن نكتب عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب فقال له العباس يا مصفر استه أنت أولى بالكذب و اللؤم منا فقال أبو جهل إنا استبقنا المجد و أنتم فقلتم فينا السقاية فقلنا لا نبالي تسقون الحجاج ثم قلتم فينا الحجابة فقلنا لا نبالي تحجبون البيت ثم قلتم فينا الندوة قلنا لا نبالي يكون الطعام فتطعمون الناس ثم قلتم فينا الرفادة فقلنا لا نبالي تجمعون عندكم ما ترفدون به الضعيف فلما أطعمنا الناس و أطعمتم و ازدحمت الركب و استبقنا المجد فكنا كفرسي رهان قلتم منا نبي ثم قلتم منا نبية فلا و اللات و العزى لا كان هذا أبدا . قلت لا أرى كلام أبي جهل منتظما لأنه إذا سلم للعباس أن هذه الخصال كلها فيهم و هي الخصال التي تشرف بها القبائل بعضها على بعض فكيف يقول لا نبالي لا نبالي و كيف يقول فلما أطعمنا للناس و أطعمتم و قد كان الكلام منتظما لو قال و لنا بإزاء هذه المفاخر كذا و كذا ثم يقول بعد ذلك استبقنا المجد فكنا كفرسي رهان و ازدحمت الركب و لم يقل شيئا و لا عد مآثره و لعل أبا جهل قد قال ما لم ينقل [ 94 ] قال الواقدي قال العباس فو الله ما كان مني غير أني جحدت ذلك و أنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئا فلما أمسيت لم تبق امرأة أصابتها ولادة عبد المطلب إلا جاءت فقلن لي أ رضيتم بهذا الفاسق الخبيث يقع في رجالكم ثم قد تناول نساءكم و لم تكن لك عند ذلك غيرة فقلت و الله ما قلت إلا لأني لا أبالي به و لايم الله لأعرضن له غدا فإن عاد كفيتكن إياه فلما أصبحوا من ذلك اليوم الذي رأت فيه عاتكة ما رأت قال أبو جهل هذه ثلاثة أيام ما بقي قال العباس و غدوت في اليوم الثالث و أنا حديد مغضب أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه و أذكر ما أحفظني به النساء من مقالتهن فو الله إني لأمشي نحوه و كان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو باب بني سهم يشتد فقلت ما باله لعنه الله أ كل هذا فرقا من أن أشاتمه فإذا هو قد سمع صوت ضمضم بن عمرو و هو يقول يا معشر قريش يا آل لؤي بن غالب اللطيمة قد عرض لها محمد في أصحابه الغوث الغوث و الله ما أرى أن تدركوها و ضمضم ينادي بذلك في بطن الوادي و قد جدع أذني بعيره و شق قميصه قبلا و دبرا و حول رحله و كان يقول لقد رأيتني قبل أن أدخل مكة و إني لأرى في النوم و أنا على راحلتي كأن وادي مكة يسيل من أسفله إلى أعلاه دما فاستيقظت فزعا مذعورا فكرهتها لقريش و وقع في نفسي أنها مصيبة في أنفسهم . قال الواقدي و كان عمير بن وهب الجمحي يقول ما رأيت أعجب من أمر ضمضم قط و ما صرح على لسانه إلا شيطان كأنه لم يملكنا من أمورنا شيئا حتى نفرنا على الصعب و الذلول و كان حكيم بن حزام يقول ما كان الذي جاءنا فاستنفرنا إلى العير إنسانا إن هو إلا شيطان قيل كيف يا أبا خالد قال إني لأعجب منه ما ملكنا من أمرنا شيئا . قال الواقدي فجهز الناس و شغل بعضهم عن بعض و كان الناس بين رجلين إما خارج و إما باعث مكانه رجلا و أشفقت قريش لرؤيا عاتكة و سر بنو هاشم [ 95 ] و قال قائلهم كلا زعمتم أنا كذبنا و كذبت عاتكة فأقامت قريش ثلاثا تتجهز و يقال يومين و أخرجت أسلحتها و اشتروا سلاحا و أعان قويهم ضعيفهم و قام سهيل بن عمرو في رجال من قريش فقال يا معشر قريش هذا محمد و الصباة معه من شبانكم و أهل يثرب قد عرضوا لعيركم و لطيمتكم فمن أراد ظهرا فهذا ظهر و من أراد قوة فهذه قوة و قام زمعة بن الأسود فقال إنه و اللات و العزى ما نزل بكم أمر أعظم من أن طمع محمد و أهل يثرب أن يعرضوا لعيركم فيها خزائنكم فأوعبوا و لا يتخلف منكم أحد و من كان لا قوة له فهذه قوة و الله لئن أصابها محمد و أصحابه لا يروعكم منهم إلا و قد دخلوا عليكم بيوتكم و قال طعيمة بن عدي يا معشر قريش و الله ما نزل بكم أمر أجل من هذه أن يستباح عيركم و لطيمة قريش فيها أموالكم و خزائنكم و الله ما أعرف رجلا و لا امرأة من بني عبد مناف له نش فصاعدا إلا و هو في هذه العير فمن كان لا قوة به فعندنا قوة نحمله و نقويه فحمل على عشرين بعيرا و قوي بهم و خلفهم في أهلهم بمعونة و قام حنظلة بن أبي سفيان و عمرو بن أبي سفيان فحضا الناس على الخروج و لم يدعوا إلى قوة و لا حملان فقيل لهما أ لا تدعوان إلى ما دعا إليه قومكما من الحملان قالا و الله ما لنا مال و ما المال إلا لأبي سفيان و مشى نوفل بن معاوية الديلمي إلى أهل القوة من قريش و كلمهم في بذل النفقة و الحملان لمن خرج فكلم عبد الله بن أبي ربيعة فقال هذه خمسمائة دينار تضعها حيث رأيت و كلم حويطب بن عبد العزى فأخذ منه مائتي دينار أو ثلاثمائة ثم قوي بها في السلاح و الظهر . قال الواقدي و ذكروا أنه كان لا يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعثا فمشت قريش إلى أبي لهب فقالوا له إنك سيد من سادات قريش و إنك إن تخلفت عن [ 96 ] النفير يعتبر بك غيرك من قومك فاخرج أو ابعث رجلا فقال و اللات و العزى لا أخرج و لا أبعث أحدا فجاءه أبو جهل فقال أقم يا أبا عتبة فو الله ما خرجنا إلا غضبا لدينك و دين آبائك و خاف أبو جهل أن يسلم أبو لهب فسكت أبو لهب و لم يخرج و لم يبعث و ما منع أبا لهب أن يخرج إلا الإشفاق من رؤيا عاتكة كان يقول إنما رؤيا عاتكة أخذ باليد و يقال إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة و كان له عليه دين فقال اخرج و ديني عليك لك فخرج عنه . و قال محمد بن إسحاق في المغازي كان دين أبي لهب على العاص بن هشام أربعة آلاف درهم فمطله بها و أفلس فتركها له على أن يكون مكانه فخرج مكانه . قال الواقدي و أخرج عتبة و شيبة دروعا لهما فنظر إليهما مولاهما عداس و هما يصلحان دروعهما و آلة حربهما فقال ما تريدان فقالا أ لم تر إلى الرجل الذي أرسلناك إليه بالعنب في كرمنا بالطائف قال نعم قالا نخرج فنقاتله فبكى و قال لا تخرجا فو الله إنه لنبي فأبيا فخرجا و خرج معهما فقتل ببدر معهما . قلت حديث العنب في كرم ابني ربيعة بالطائف قد ذكره أرباب السيرة و شرحه الطبري في التاريخ قال لما مات أبو طالب بمكة طمعت قريش في رسول الله ص و نالت منه ما لم تكن تناله في حياة أبي طالب فخرج من مكة خائفا على نفسه مهاجرا إلى ربه يؤم الطائف راجيا أن يدعو أهلها إلى الإسلام فيجيبوه و ذلك في شوال من سنة عشر من النبوة فأقام بالطائف عشرة أيام و قيل شهرا لا يدع أحدا من أشراف ثقيف إلا جاءه و كلمه فلم يجيبوه و أشاروا عليه أن يخرج عن أرضهم و يلحق بمجاهل الأرض و بحيث لا يعرف و أغروا به سفهاءهم فرموه بالحجارة حتى إن رجليه لتدميان فكان معه زيد بن حارثة فكان يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه . [ 97 ] و الشيعة تروي أن علي بن أبي طالب كان معه أيضا في هجرة الطائف فانصرف رسول الله ص عن ثقيف و هو محزون بعد أن مشى إلى عبد ياليل و مسعود و حبيب ابني عمرو بن عمير و هم يومئذ سادة ثقيف فجلس إليهم و دعاهم إلى الله و إلى نصرته و القيام معه على قومه فقال له أحدهم أنا أمرط بباب الكعبة إن كان الله أرسلك و قال الآخر أ ما وجد الله أحدا أرسله غيرك و قال الثالث و الله لا أكلمك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام و لئن كنت كاذبا على الله ما ينبغي أن أكلمك فقام رسول الله ص من عندهم و قد يئس من خير ثقيف و اجتمع عليه صبيانهم و سفهاؤهم و صاحوا به و سبوه و طردوه حتى اجتمع عليه الناس يعجبون منه و ألجئوه بالحجارة و الطرد و الشتم إلى حائط لعتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و هما يومئذ في الحائط فلما دخل الحائط رجع عنه سفهاء ثقيف فعمد إلى ظل حبلة منه فجلس فيه و ابنا ربيعة ينظران و يريان ما لقي من سفهاء ثقيف قال الطبري فلما اطمأن به قال فيما ذكر لي اللهم إليك أشكو ضعف قوتي و قلة حيلتي و هواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين و أنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد فيتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري فإن لم يكن منك غضب علي فلا أبالي و لكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول و لا قوة إلا بك . فلما رأى عتبة و شيبة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما نصرانيا لهما يقال له [ 98 ] عداس فقالا له خذ قطفا من هذا العنب و ضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل و قل له فليأكل منه ففعل و أقبل به حتى وضعه بين يديه فوضع يده فيه فقال بسم الله و أكل فقال عداس و الله إن هذه الكلمة لا يقولها أهل هذه البلدة فقال له رسول الله ص من أي البلاد أنت و ما دينك قال أنا نصراني من أهل نينوى قال أ من قرية الرجل الصالح يونس بن متى قال و ما يدريك من يونس بن متى قال ذاك أخي كان نبيا و أنا نبي فأكب عداس على يديه و رجليه و رأسه يقبلها قال يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك فلما جاءهما قالا ويلك ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل و يديه و قدميه قال يا سيدي ما في الأرض خير من هذا فقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي . قال الواقدي و استقسمت قريش بالأزلام عند هبل للخروج و استقسم أمية بن خلف و عتبة و شيبة بالآمر و الناهي فخرج القدح الناهي فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل فقال ما استقسمت و لا نتخلف عن عيرنا . قال الواقدي لما توجه زمعة بن الأسود خارجا فكان بذي طوى أخرج قداحه و استقسم بها فخرج الناهي عن الخروج فلقي غيظا ثم أعادها الثانية فخرج مثل ذلك فكسرها و قال ما رأيت كاليوم قدحا أكذب و مر به سهيل بن عمرو و هو على تلك الحال فقال ما لي أراك غضبان يا أبا حكيمة فأخبره زمعة فقال امض عنك أيها الرجل قد أخبرني عمير بن وهب أنه لقيه مثل الذي أخبرتني فمضوا على هذا الحديث . [ 99 ] قال الواقدي و حدثني موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه قال قال أبو سفيان بن حرب لضمضم إذا قدمت على قريش فقل لها لا تستقسم بالأزلام . قال الواقدي و حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري عن أبي بكر بن سليم بن أبي خيثمة قال سمعت حكيم بن حزام يقول ما توجهت وجها قط كان أكره إلي من مسيري إلى بدر و لا بان لي في وجه قط ما بان لي قبل أن أخرج ثم قال قدم ضمضم فصاح بالنفير فاستقسمت بالأزلام كل ذلك يخرج الذي أكره ثم خرجت على ذلك حتى نزلنا مر الظهران فنحر ابن الحنظلية جزورا منها بها حياة فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها فكان هذا بين ثم هممت بالرجوع ثم أذكر ابن الحنظلية و شؤمه فيردني حتى مضيت لوجهي و كان حكيم يقول لقد رأينا حين بلغنا الثنية البيضاء و هي الثنية التي تهبطك على فخ و أنت مقبل من المدينة إذا عداس جالس عليها و الناس يمرون إذ مر علينا ابنا ربيعة فوثب إليهما فأخذ بأرجلهما في غرزهما و هو يقول بأبي أنتما و أمي و الله إنه لرسول الله ص و ما تساقان إلا إلى مصارعكما و إن عينيه لتسيل دمعا على خديه فأردت أن أرجع أيضا ثم مضيت و مر به العاص بن منبه بن الحجاج فوقف عليه حين ولى عتبة و شيبة فقال ما يبكيك قال يبكيني سيدي أو سيدا أهل الوادي يخرجان إلى مصارعهما و يقاتلان رسول الله ص فقال العاص و إن محمدا لرسول الله فانتفض عداس انتفاضة و اقشعر جلده ثم بكى و قال إي و الله إنه لرسول الله إلى الناس كافة قال فأسلم العاص بن منبه و مضى و هو على الشك حتى قتل مع المشركين على شك و ارتياب و يقال رجع عداس و لم يشهد بدرا و يقال شهد بدرا و قتل . قال الواقدي و القول الأول أثبت عندنا . [ 100 ] قال الواقدي و خرج سعد بن معاذ معتمرا قبل بدر فنزل على أمية بن خلف فأتاه أبو جهل و قال أ تترك هذا و قد آوى محمدا و آذننا بالحرب فقال سعد بن معاذ قل ما شئت أما إن طريق عيركم علينا قال أمية بن خلف مه لا تقل هذا لأبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي قال سعد بن معاذ و أنت تقول ذلك يا أمية أما و الله لسمعت محمدا يقول لأقتلن أمية بن خلف قال أمية أنت سمعته قال سعد بن معاذ فقلت نعم قال فوقع في نفسه فلما جاء النفير أبى أمية أن يخرج معهم إلى بدر فأتاه عقبة بن أبي معيط و أبو جهل و مع عقبة مجمرة فيها بخور و مع أبي جهل مكحلة و مرود فأدخلها عقبة تحته فقال تبخر فإنما أنت امرأة و قال أبو جهل اكتحل فإنما أنت امرأة فقال أمية ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي فابتاعوا له جملا بثلاثمائة دينار من نعم بني قشير فغنمه المسلمون يوم بدر فصار في سهم خبيب بن يساف . قال الواقدي و قالوا ما كان أحد ممن خرج إلى العير أكره للخروج من الحارث بن عامر و قال ليت قريشا تعزم على القعود و أن مالي في العير تلف و مال بني عبد مناف أيضا فيقال له إنك سيد من ساداتها أ فلا تردعها عن الخروج قال إني أرى قريشا قد أزمعت على الخروج و لا أرى أحدا به طرق تخلف إلا من علة و أنا أكره خلافها و ما أحب أن تعلم قريش ما أقول على أن ابن الحنظلية رجل مشئوم على قومه ما أعلمه إلا يحرز قومه أهل يثرب و لقد قسم الحارث مالا من ماله بين ولده و وقع في نفسه أنه لا يرجع إلى مكة و جاءه ضمضم بن عمرو و كانت للحارث عنده أياد فقال أبا عامر إني رأيت رؤيا كرهتها و إني لكاليقظان على راحلتي و أراكم أن واديكم يسيل دما من أسفله إلى أعلاه فقال الحارث ما خرج أحد وجها من الوجوه أكره له من وجهي هذا قال يقول ضمضم و الله إني لأرى لك أن تجلس فقال لو سمعت [ 101 ] هذا منك قبل أن أخرج ما سرت خطوة فاطو هذا الخبر أن تعلمه قريش فإنها تتهم كل من عوقها عن المسير و كان ضمضم قد ذكر هذا الحديث للحارث ببطن يأجج قالوا و كرهت قريش أهل الرأي منهم المسير و مشى بعضهم إلى بعض و كان ممن أبطأ بهم عن ذلك الحارث بن عامر و أمية بن خلف و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و حكيم بن حزام و أبو البختري و علي بن أمية بن خلف و العاص بن منبه حتى بكتهم أبو جهل بالجبن و أعانه عقبة بن أبي معيط و النضر بن الحارث بن كلدة و حضوهم على الخروج و قالوا هذا فعل النساء فأجمعوا المسير و قالت قريش لا تدعوا أحدا من عدوكم خلفكم . قال الواقدي و مما استدل به على كراهة الحارث بن عامر للخروج و عتبة و شيبة أنه ما عرض رجل منهم حملانا و لا حملوا أحدا من الناس و إن كان الرجل ليأتيهم حليفا أو عديدا و لا قوة له فيطلب الحملان منهم فيقولون إن كان لك مال و أحببت أن تخرج فافعل و إلا فأقم حتى كانت قريش تعرف ذلك منهم . قال الواقدي فلما اجتمعت قريش إلى الخروج و المسير ذكروا الذي بينهم و بين بني بكر من العداوة و خافوهم على من يخلفونه و كان أشدهم خوفا عتبة بن ربيعة و كان يقول يا معشر قريش إنكم و إن ظفرتم بالذي تريدون فإنا لا نأمن على من نخلف إنما نخلف نساء و لا ذرية و من لا طعم به فارتئوا آراءكم فتصور لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي فقال يا معشر قريش قد عرفتم شرفي و مكاني في قومي أنا لكم جار أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه فطابت نفس عتبة و قال له أبو جهل [ 102 ] فما تريد هذا سيد كنانة هو لنا جار على من نخلف فقال عتبة لا شيء أنا خارج قال الواقدي و كان الذي بين بني كنانة و قريش أن ابنا لحفص بن الأحنف أحد بني معيط بن عامر بن لؤي خرج يبغي ضالة و هو غلام في رأسه ذؤابة و عليه حلة و كان غلاما وضيئا فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح بن يعمر أحد رؤساء بني كنانة و كان بضجنان فقال من أنت يا غلام قال ابن لحفص بن الأحنف فقال يا بني بكر أ لكم في قريش دم قالوا نعم قال ما كان رجل يقتل هذا برجله إلا استوفى فاتبعه رجل من بني بكر فقتله بدم له في قريش فتكلمت فيه قريش فقال عامر بن يزيد قد كانت لنا فيكم دماء فإن شئتم فأدوا ما لنا قبلكم و نؤدي إليكم ما كان فينا و إن شئتم فإنما هو الدم رجل برجل و إن شئتم فتجافوا عنا فيما قبلنا و نتجافى عنكم فيما قبلكم فهان ذلك الغلام على قريش و قالوا صدق رجل برجل فلهوا عنه أن يطلبوا بدمه فبينا أخوه مكرز بن حفص بمر الظهران إذ نظر عامر بن يزيد و هو سيد بني بكر على جمل له فلما رآه قال ما أطلب أثرا بعد عين و أناخ بعيره و هو متوشح سيفه فعلاه به حتى قتله ثم أتى مكة من الليل فعلق سيف عامر بن يزيد بأستار الكعبة فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد فعرفوا أن مكرز بن حفص قتله و قد كانت تسمع من مكرز في ذلك قولا و جزعت بنو بكر من قتل سيدها فكانت معدة لقتل رجلين من قريش سيدين أو ثلاثة من ساداتها فجاء النفير و هم على هذا الأمر فخافوهم على من تخلف بمكة من ذراريهم فلما قال سراقة ما قال و هو ينطق بلسان إبليس شجع القوم . [ 103 ] قال الواقدي و خرجت قريش سراعا و خرجوا بالقيان و الدفوف سارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب و عزة مولاة أسود بن المطلب و فلانة مولاة أمية بن خلف يغنين في كل منهل و ينحرون الجزر و خرجوا بالجيش يتقاذفون بالحراب و خرجوا بتسعمائة و خمسين مقاتلا و قادوا مائة فرس بطرا و رئاء الناس كما ذكر الله تعالى في كتابه و أبو جهل يقول أ يظن محمد أن يصيب منا ما أصاب بنخلة و أصحابه سيعلم أ نمنع عيرنا أم لا . قلت سرية نخلة سرية قبل بدر و كان أميرها عبد الله بن جحش قتل فيها عمرو بن الحضرمي حليف بني عبد شمس قتله واقد بن عبد الله التميمي رماه بسهم فقتله و أسر الحكم بن كيسان و عثمان بن عبد الله بن المغيرة و استاق المسلمون العير و كانت خمسمائة بعير فخمسها رسول الله ص و قسم أربعمائة فيمن شهدها من المسلمين و هم مائتا رجل فأصاب كل رجل بعيران . قال الواقدي و كانت الخيل لأهل القوة منهم و كان في بني مخزوم منها ثلاثون فرسا و كانت الإبل سبعمائة بعير و كان أهل الخيل كلهم دارع و كانوا مائة و كان في الرجالة دروع سوى ذلك . قال الواقدي و أقبل أبو سفيان بالعير و خاف هو و أصحابه خوفا شديدا حين دنوا من المدينة و استبطئوا ضمضما و النفير فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر جعلت العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر و كانوا باتوا من وراء بدر آخر ليلتهم و هم على [ 104 ] أن يصبحوا بدرا إن لم يعترض لهم فما أقرتهم العير حتى ضربوها بالعقل على أن بعضها ليثنى بعقالين و هي ترجع الحنين تواردا إلى ماء بدر و ما إن بها إلى الماء من حاجة لقد شربت بالأمس و جعل أهل العير يقولون إن هذا شيء ما صنعته الإبل منذ خرجنا قالوا و غشينا تلك الليلة ظلمة شديدة حتى ما نبصر شيئا . قال الواقدي و كان بسبس بن عمرو و عدي بن أبي الزغباء وردا على مجدي بدرا يتجسسان الخبر فلما نزلا ماء بدر أناخا راحلتيهما إلى قريب من الماء ثم أخذ أسقيتهما يسقيان من الماء فسمعا جاريتين من جواري جهينة يقال لإحداهما برزة و هي تلزم صاحبتها في درهم كان لها عليها و صاحبتها تقول إنما العير غدا أو بعد غد قد نزلت و مجدي بن عمر يسمعها فقال صدقت فلما سمع ذلك بسبس و عدي انطلقا راجعين إلى النبي ص حتى أتياه بعرق الظبية فأخبراه الخبر . قال الواقدي و حدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده و كان أحد البكاءين قال قال رسول الله ص لقد سلك فج الروحاء موسى النبي ع في سبعين ألفا من بني إسرائيل و صلوا في المسجد الذي بعرق الظبية . قال الواقدي و هي من الروحاء على ميلين مما يلي المدينة إذا خرجت على يسارك . قال الواقدي و أصبح أبو سفيان ببدر قد تقدم العير و هو خائف من الرصد فقال يا مجدي هل أحسست أحدا تعلم و الله ما بمكة قرشي و لا قرشية له نش [ 105 ] فصاعدا و النش نصف أوقية وزن عشرين درهما إلا و قد بعث به معنا و لئن كتمتنا شأن عدونا لا يصالحك رجل من قريش ما بل بحر صوفة فقال مجدي و الله ما رأيت أحدا أنكره و لا بينك و بين يثرب من عدو و لو كان بينك و بينها عدو لم يخف علينا و ما كنت لأخفيه عنك إلا أني قد رأيت راكبين أتيا إلى هذا المكان و أشار إلى مناخ عدي و بسبس فأناخا به ثم استقيا بأسقيتهما ثم انصرفا فجاء أبو سفيان مناخهما فأخذ أبعارا من أبعار بعيريهما ففتها فإذا فيها نوى فقال هذه و الله علائف يثرب هذه و الله عيون محمد و أصحابه ما أرى القوم إلا قريبا فضرب وجه عيره فساحل بها و ترك بدرا يسارا و انطلق سريعا و أقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل يطعمون الطعام من أتاهم و ينحرون الجزور فبينا هم كذلك في مسيرهم إذ تخلف عتبة و شيبة و هما يترددان قال أحدهما لصاحبه أ لم تر إلى رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب لقد خشيت منها قال الآخر فاذكرها و ذكرها فأدركهما أبو جهل فقال ما تتحادثون به قالا نذكر رؤيا عاتكة قال يا عجبا من بني عبد المطلب لم يرضوا أن تتنبأ علينا رجالهم حتى تنبأت علينا النساء أما و الله لئن رجعنا إلى مكة لنفعلن بهم و لنفعلن قال عتبة إن لهم أرحاما و قرابة قريبة ثم قال أحدهما لصاحبه هل لك أن ترجع قال أبو جهل أ ترجعان بعد ما سرنا فتخذلان قومكما و تقطعان بهم بعد أن رأيتم ثأركم بأعينكم أ تظنان أن محمدا و أصحابه يلاقونكما كلا و الله إن معي من قومي مائة و ثمانين كلهم من أهل بيتي يحلون إذا أحللت و يرحلون إذا رحلت فارجعا إن شئتما قالا و الله لقد هلكت و أهلكت قومك . ثم قال عتبة لأخيه شيبة إن هذا رجل مشئوم يعني أبا جهل و إنه لا يمسه من قرابة محمد ما يمسنا مع أن محمدا معه الولد فارجع بنا و دع قوله . [ 106 ] قلت مراده بقوله مع أن محمدا معه الولد أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان أسلم و شهد بدرا مع رسول الله ص قال الواقدي فقال شيبة و الله تكون علينا سبة يا أبا الوليد أن نرجع الآن بعد ما سرنا فمضينا ثم انتهى إلى الجحفة عشاء فنام جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف فقال إني لأرى بين النائم و اليقظان أنظر إلى رجل أقبل على فرس معه بعير له حتى وقف علي فقال قتل عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و زمعة بن الأسود و أمية بن خلف و أبو البختري و أبو الحكم و نوفل بن خويلد في رجال سماهم من أشراف قريش و أسر سهيل بن عمرو و فر الحارث بن هشام عن أخيه قال و كأن قائلا يقول و الله إني لأظنهم الذين يخرجون إلى مصارعهم ثم قال أراه ضرب في لبة بعيره فأرسله في العسكر فقال أبو جهل و هذا نبي آخر من بني عبد مناف ستعلم غدا من المقتول نحن أو محمد و أصحابه و قالت قريش لجهيم إنما يلعب بك الشيطان في منامك فسترى غدا خلاف ما رأيت يقتل أشراف محمد و يؤسرون قال فخلا عتبة بأخيه شيبة فقال له هل لك في الرجوع فهذه الرؤيا مثل رؤيا عاتكة و مثل قول عداس و الله ما كذبنا عداس و لعمري لئن كان محمد كاذبا إن في العرب لمن يكفيناه و لئن كان صادقا إنا لأسعد العرب به للحمته فقال شيبة هو على ما تقول أ فنرجع من بين أهل العسكر فجاء أبو جهل و هما على ذلك فقال ما تريدان قالا الرجوع أ لا ترى إلى رؤيا عاتكة و إلى رؤيا جهيم بن الصلت مع قول عداس لنا فقال لا تخذلان و الله قومكما و تقطعان بهم قالا هلكت و الله و أهلكت قومك فمضيا على ذلك . قال الواقدي فلما أفلت أبو سفيان بالعير و رأى أن قد أحرزها و أمن عليها أرسل إلى قريش قيس بن إمرئ القيس و كان مع أصحاب العير خرج معهم من مكة فأرسله أبو سفيان يأمرهم بالرجوع و يقول قد نجت عيركم و أموالكم فلا تحرزوا أنفسكم [ 107 ] أهل يثرب فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك إنما خرجتم لتمنعوا عيركم و أموالكم و قد نجاها الله فإن أبوا عليك فلا يأبون خصلة واحدة يردون القيان فعالج قيس بن إمرئ القيس قريشا فأبت الرجوع قالوا أما القيان فسنردهن فردوهن من الجحفة . قلت لا أعلم مراد أبي سفيان برد القيان و هو الذي أخرجهن مع الجيش يوم أحد يحرضن قريشا على إدراك الثأر و يغنين و يضربن الدفوف فكيف نهى عن ذلك في بدر و فعله في أحد و أقول من تأمل الحال علم أن قريشا لم يمكن أن تنتصر يوم بدر لأن الذي خالطها من التخاذل و التواكل و كراهية الحرب و حب الرجوع و خوف اللقاء و خفوق الهمم و فتور العزائم و رجوع بني زهرة و غيرهم من الطريق و اختلاف آرائهم في القتال يكفي بعضه في هلاكهم و عدم فلاحهم لو كانوا قد لقوا قوما جبناء فكيف و إنما لقوا الأوس و الخزرج و هم أشجع العرب و فيهم علي بن أبي طالب ع و حمزة بن عبد المطلب و هما أشجع البشر و جماعة من المهاجرين أنجاد أبطال و رئيسهم محمد بن عبد الله رسول الله الداعي إلى الحق و العدل و التوحيد المؤيد بالقوة الإلهية دع ما أضيف إلى ذلك من ملائكة السماء كما نطق به الكتاب . قال الواقدي و لحق الرسول أبا سفيان بالهدة و الهدة على سبعة أميال من عقبة عسفان على تسعة و ثلاثين ميلا من مكة فأخبره بمضي قريش فقال وا قوماه هذا عمل عمرو بن هشام يكره أن يرجع لأنه قد ترأس على الناس و بغى و البغي منقصة و شؤم و الله لئن أصاب أصحاب محمد النفير ذللنا إلى أن يدخل مكة علينا . قال الواقدي و قال أبو جهل و الله لا نرجع حتى نرد بدرا و كانت بدر موسما [ 108 ] من مواسم العرب في الجاهلية يجتمعون بها و فيها سوق تسمع بنا العرب و بمسيرنا فنقيم على بدر ثلاثا ننحر الجزر و نطعم الطعام و نشرب الخمر و تعزف علينا القيان فلن تزال العرب تهابنا أبدا . قال الواقدي و كان الفرات بن حيان العجلي أرسلته قريش حين فصلت من مكة إلى أبي سفيان بن حرب يخبره بمسيرها و فصولها و ما قد حشدت فحالف أبا سفيان في الطريق و ذلك أن أبا سفيان لصق بالبحر و لزم الفرات بن حيان المحجة فوافى المشركين بالجحفة فسمع كلام أبي جهل و هو يقول لا نرجع فقال ما بأنفسهم عن نفسك رغبة و إن الذي يرجع بعد أن رأى ثأره من كثب لضعيف فمضى مع قريش فترك أبا سفيان و جرح يوم بدر جراحات كثيرة و هرب على قدميه و هو يقول ما رأيت كاليوم أمرا أنكد إن ابن الحنظلية لغير مبارك الأمر . قال الواقدي و قال الأخنس بن شريق و اسمه أبي و كان حليفا لبني زهرة يا بني زهرة قد نجى الله عيركم و خلص أموالكم و نجى صاحبكم مخرمة بن نوفل و إنما خرجتم لتمنعوه و ماله و إنما محمد رجل منكم ابن أختكم فإن يك نبيا فأنتم أسعد به و إن يك كاذبا يلي قتله غيركم خير من أن تلوا قتل ابن أختكم فارجعوا و اجعلوا خبثها لي فلا حاجة لكم أن تخرجوا في غير ما يهمكم و دعوا ما يقوله هذا الرجل يعني أبا جهل فإنه مهلك قومه سريع في فسادهم فأطاعته بنو زهرة و كان فيهم مطاعا و كانوا يتيمنون به فقالوا فكيف نصنع بالرجوع حتى نرجع فقال الأخنس نسير مع القوم فإذا أمسيت سقطت عن بعيري فيقولون نحل الأخنس فإذا أصبحوا فقالوا سيروا فقولوا لا نفارق صاحبنا حتى نعلم أ حي هو أم ميت [ 109 ] فندفنه فإذا مضوا رجعنا إلى مكة ففعلت بنو زهرة ذلك فلما أصبحوا بالأبواء راجعين تبين للناس أن بني زهرة رجعوا فلم يشهدها زهري البتة و كانوا مائة و قيل أقل من مائة و هو أثبت و قال قوم كانوا ثلاثمائة و لم يثبت ذلك . قال الواقدي و قال عدي بن أبي الزغباء منحدره من بدر إلى المدينة و انتشرت الركاب عليه فجعل عدي يقول
أقم لها صدورها يا بسبس قال الواقدي و ذكر أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب إن بني عدي خرجوا من النفير حتى كانوا بثنية لفت فلما كان في السحر عدلوا في الساحل منصرفين إلى مكة فصادفهم أبو سفيان فقال كيف رجعتم يا بني عدي و لا في العير و لا في النفير قالوا أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع فرجع من رجع و مضى من مضى فلم يشهدها أحد من بني عدي و يقال إنه لاقاهم بمر الظهران فقال تلك المقالة لهم . قال الواقدي و أما رسول الله ص فكان صبيحة أربع عشرة من شهر رمضان بعرق الظبية فجاء أعرابي قد أقبل من تهامة فقال له أصحاب النبي ص هل لك علم بأبي سفيان بن حرب قال ما لي بأبي سفيان علم قالوا تعال فسلم على رسول الله ص قال أ و فيكم رسول الله قالوا نعم قال فأيكم رسول الله قالوا هذا فقال أنت رسول الله قال نعم قال فما في [ 110 ] بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا فقال سلمة بن سلامة بن وقش نكحتها و هي حبلى منك فكره رسول الله ص مقالته و أعرض عنه . قال الواقدي و سار رسول الله ص حتى أتى الروحاء ليلة الأربعاء للنصف من شهر رمضان فقال لأصحابه هذا سجاسج يعني وادي الروحاء هذا أفضل أودية العرب . قال الواقدي و صلى رسول الله ص بالروحاء فلما رفع رأسه من الركعة الأخيرة من وتره لعن الكفرة و دعا عليهم فقال اللهم لا تفلتن أبا جهل بن هشام فرعون هذه الأمة اللهم لا تفلتن زمعة بن الأسود اللهم أسخن عين أبي زمعة اللهم أعم بصر أبي دبيلة اللهم لا تفلتن سهيل بن عمرو ثم دعا لقوم من قريش فقال اللهم أنج سلمة بن هشام و عياش بن أبي ربيعة و المستضعفين من المؤمنين و لم يدع للوليد بن المغيرة يومئذ و أسر ببدر و لكنه لما رجع إلى مكة بعد بدر أسلم و أراد أن يخرج إلى المدينة فحبس فدعا له النبي ص بعد ذلك قال الواقدي و كان خبيب بن يساف رجلا شجاعا و كان يأبى الإسلام فلما خرج النبي ص إلى بدر خرج هو و قيس بن محرث و يقال ابن الحارث و هما على دين قومهما فأدركا رسول الله ص بالعقيق و خبيب مقنع في الحديد فعرفه رسول الله ص من تحت المغفر فالتفت إلى سعد بن معاذ و هو يسير إلى جنبه فقال أ ليس بخبيب بن يساف قال بلى فأقبل خبيب حتى أخذ [ 111 ] ببطان ناقة رسول الله ص فقال له و لقيس بن محرث ما أخرجكما قال كنت ابن أختنا و جارنا و خرجنا مع قومنا للغنيمة فقال ص لا يخرجن معنا رجل ليس على ديننا فقال خبيب لقد علم قومي أني عظيم الغناء في الحرب شديد النكاية فأقاتل معك للغنيمة و لا أسلم فقال رسول الله ص لا و لكن أسلم ثم قاتل فلما كان بالروحاء جاء فقال يا رسول الله أسلمت لرب العالمين و شهدت أنك رسول الله فسر بذلك و قال امضه فكان عظيم الغناء في بدر و في غير بدر و أما قيس بن الحارث فأبى أن يسلم فرجع إلى المدينة فلما قدم النبي ص من بدر أسلم و شهد أحدا فقتل . قال الواقدي و لما خرج رسول الله ص صام يوما أو يومين ثم نادى مناديه يا معشر العصاة إني مفطر فأفطروا و ذلك أنه قد كان قال لهم قبل ذلك أفطروا فلم يفعلوا . قلت هذا هو سر النبوة و خاصيتها إذا تأمل المتأملون ذلك و هو أن يبلغ بهم حبه و طاعته و قبول قوله على أن يكلفهم ما يشق عليهم فيمتثلوه امتثالا صادرا عن حب شديد و حرص عظيم على الطاعة حتى إنه لينسخه عنهم و يسقط وجوبه عليهم فيكرهون ذلك و لا يسقطونه عن أنفسهم إلا بعد الإنكار التام و هذا أحسن من المعجزات الخارقة للعادات بل هذا بعينه معجزة خارقة للعادة أقوى و آكد من شق البحر و قلب العصا حية . قال الواقدي و مضى رسول الله ص حتى إذا كان دوين بدر أتاه الخبر بمسير قريش فأخبر رسول الله ص بمسيرهم و استشار الناس [ 112 ] فقام أبو بكر فقال فأحسن ثم قام عمر فقال فأحسن ثم قال يا رسول الله إنها قريش و عزها و الله ما ذلت منذ عزت و لا آمنت منذ كفرت و الله لا تسلم عزها أبدا و لتقاتلنك فاتهب لذلك أهبته و أعد عدته ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله لأمر الله فنحن معك و الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ و لكن اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون و الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا . قال الواقدي برك الغماد من وراء مكة بخمس ليال من وراء الساحل مما يلي البحر و هو على ثمان ليال من مكة إلى اليمن . فقال له رسول الله ص خيرا و دعا له بخير ثم قال ص أشيروا علي أيها الناس و إنما يريد الأنصار و كان يظن أن الأنصار لا تنصره إلا في الدار و ذلك أنهم شرطوا أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم و أولادهم فقال رسول الله ص أشيروا علي فقام سعد بن معاذ فقال أنا أجيب عن الأنصار كأنك يا رسول الله تريدنا قال أجل قال إنك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوحي إليك و إنا قد آمنا بك و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به حق و أعطيناك مواثيقنا و عهودنا على السمع و الطاعة فامض يا نبي الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل و صل من شئت و خذ من أموالنا ما أردت فما أخذته من أموالنا أحب إلينا مما تركت و الذي نفسي بيده ما سلكت هذه الطريق قط و ما لي بها من علم و إنا لا نكره أن نلقى عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا بعض ما تقر به عينك . [ 113 ] قال الواقدي و حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال قال سعد بن معاذ يومئذ يا رسول الله إنا قد خلفنا من قومنا قوما ما نحن بأشد حبا لك منهم و لا أطوع لهم رغبة و نية في الجهاد و لو ظنوا أنك يا رسول الله ملاق عدوا ما تخلفوا عنك و لكن إنما ظنوا أنها العير نبني لك عريشا فتكون فيه و نعد عندك رواحلك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله و أظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا و إن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا فقال له النبي ص خيرا ثم قال أ و يقضي الله خيرا يا سعد . قال الواقدي فلما فرغ سعد من المشورة قال رسول الله ص سيروا على بركة الله فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين و الله لكأني أنظر إلى مصارع القوم . قال الواقدي و قالوا لقد أرانا رسول الله ص مصارعهم يومئذ هذا مصرع فلان و هذا مصرع فلان فما عدا كل رجل منهم مصرعه قال فعلم القوم أنهم يلاقون القتال و أن العير تفلت و رجا القوم النصر لقول النبي ص . قال الواقدي فمن يومئذ عقد رسول الله ص الألوية و كانت ثلاثة و أظهر السلاح و كان خرج من المدينة على غير لواء معقود و سار فلقي سفيان الضمري و مع رسول الله ص قتادة بن النعمان و معاذ بن جبل فقال رسول الله ص من الرجل فقال الضمري بل و من أنتم فقال رسول الله ص تخبرنا و نخبرك فقال الضمري و ذاك بذاك قال نعم قال الضمري فاسألوا عما شئتم فقال له ص أخبرنا عن قريش قال الضمري بلغني أنهم خرجوا يوم كذا من مكة فإن كان الخبر صادقا فإنهم بجنب هذا الوادي ثم قال [ 114 ] الضمري فمن أنتم فقال النبي ص نحن من ماء و أشار بيده نحو العراق فجعل الضمري يقول من ماء من أي ماء من العراق أم من غيره ثم انصرف رسول الله ص إلى أصحابه . قال الواقدي فبات الفريقان كل منهم لا يعلم بمنزل صاحبه إنما بينهم قوز من رمل . قال الواقدي و مر رسول الله ص بجبلين فسأل عنهما فقالوا هذا مسلح و مخرئ فقال من ساكنهما فقيل بنو النار و بنو حراق فانصرف عنهما و جعلهما يسارا و لقيه بسبس بن عمرو و عدي بن أبي الزغباء فأخبراه خبر قريش و نزل رسول الله ص وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان فبعث عليا ع و الزبير و سعد بن أبي وقاص و بسبس بن عمرو يتحسسون على الماء و أشار لهم إلى ظريب و قال أرجو أن تجدوا الخير عند القليب الذي يلي هذا الظريب فاندفعوا تلقاءه فوجدوا على تلك القليب روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم و أفلت بعضهم فكان ممن عرف أنه أفلت عجير فكان أول من جاء قريشا بخبر النبي ص و أصحابه فنادى يا آل غالب هذا ابن أبي كبشة و أصحابه و قد أخذوا سقاءكم فماج العسكر و كرهوا ما جاء به . [ 115 ] قال الواقدي فكان حكيم بن حزام يحدث قال كنا يومئذ في خباء لنا على جزور نشوي من لحمها فما هو إلا أن سمعنا الخبر فامتنع الطعام منا و لقي بعضنا بعضا و لقيني عتبة بن ربيعة فقال يا أبا خالد ما أعلم أحدا يسير أعجب من مسيرنا إن عيرنا قد نجت و إنا جئنا إلى قوم في بلادهم بغيا عليهم فقلت أراه لأمر حم و لا رأي لمن لا يطاع هذا شؤم ابن الحنظلية فقال عتبة أبا خالد أ تخاف أن تبيتنا القوم قلت لأنت آمن من ذلك قال فما الرأي يا أبا خالد قلت نتحارس حتى نصبح و ترون رأيكم قال عتبة هذا الرأي قال فتحارسنا حتى أصبحنا فقال أبو جهل هذا عن أمر عتبة كره قتال محمد و أصحابه إن هذا لهو العجب أ تظنون أن محمدا و أصحابه يعترضون لجمعكم و الله لأنتحين ناحية بقومي فلا يحرسنا أحد فتنحى ناحية و إن السماء لتمطر عليه قال يقول عتبة إن هذا لهو النكد قال الواقدي أخذ من السقاء من على القليب يسار غلام سعيد بن العاص و أسلم غلام منبه بن الحجاج و أبو رافع غلام أمية بن خلف فأتي بهم النبي ص و هو قائم يصلي فسألهم المسلمون فقالوا نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهم و رجوا أن يكونوا لأبي سفيان و أصحاب العير فضربوهم فلما أذلقوهم بالضرب قالوا نحن لأبي سفيان و نحن في العير و هذا العير بهذا القوز فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم فسلم رسول الله ص من صلاته ثم قال إن صدقوكم ضربتموهم و إن كذبوكم تركتموهم فقال أصحابه ع إنهم يا رسول الله يقولون إن قريشا قد جاءت فقال لقد صدقوكم خرجت قريش تمنع عيرها و خافوكم عليها ثم أقبل ص على السقاء فقال أين [ 116 ] قريش فقالوا خلف هذا الكثيب الذي ترى قال كم هم قالوا كثير قال كم عددهم قالوا لا ندري قال كم ينحرون قالوا يوما عشرة و يوما تسعة فقال القوم ما بين الألف و التسعمائة ثم قال للسقاء كم خرج من أهل مكة قالوا لم يبق أحد به طعم إلا خرج فأقبل رسول الله ص على الناس فقال هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ثم سألهم رسول الله ص هل رجع منهم أحد قالوا نعم رجع ابن أبي شريق ببني زهرة فقال ص راشدهم و ما كان برشيد و إن كان ما علمت لمعاديا لله و لكتابه ثم قال فأحد غيرهم قالوا نعم بنو عدي بن كعب فتركهم رسول الله ص ثم قال لأصحابه أشيروا علي في المنزل فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله أ رأيت منزلك هذا أ هو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه و لا نتأخر عنه أم هو الرأي و الحرب و المكيدة قال بل هو الرأي و الحرب و المكيدة قال فإن هذا ليس بمنزل انطلق بنا إلى أدنى مياه القوم فإني عالم بها و بقلبها فإن بها قليبا قد عرفت عذوبة مائها و ماؤها كثير لا ينزح نبني عليها حوضا و نقذف فيها بالآنية فنشرب و نقاتل و نعور ما سواها من القلب . قال الواقدي فكان ابن عباس يقول نزل جبريل على النبي ص فقال الرأي ما أشار به الحباب فقال يا حباب أشرت بالرأي و نهض و فعل كل ذلك . قال الواقدي و بعث الله السماء و كان الوادي دهسا أي كثير الرمل فأصاب المسلمين ما لبد الأرض و لم يمنعهم من المسير و أصاب قريشا ما لم يقدروا معه أن يرتحلوا منه و إنما بين الطائفتين قوز من رمل . قال الواقدي و أصاب المسلمين تلك الليلة النعاس ألقي عليهم فناموا و لم يصبهم من المطر ما يؤذيهم . [ 117 ] قال الزبير بن العوام لقد سلط الله عليهم النعاس تلك الليلة حتى إني كنت لأتشدد و النعاس يجلد بي الأرض فما أطيق إلا ذلك فكان رسول الله ص و أصحابه على مثل ذلك الحال و قال سعد بن أبي وقاص لقد رأيتني و إن ذقني بين ثديي فما أشعر حتى أقع على جنبي . و قال رفاعة بن رافع بن مالك لقد غلبني النوم فاحتلمت حتى اغتسلت آخر الليل . قال الواقدي فلما تحول رسول الله ص إلى المنزل بعد أن أخذ السقاء أرسل عمار بن ياسر و عبد الله بن مسعود فأطافا بالقوم ثم رجعا إليه فقالا له يا رسول الله القوم مذعورون فزعون إن الفرس ليريد أن يصهل فيضرب وجهه مع أن السماء تسح عليهم . قال الواقدي فلما أصبحوا قال منبه بن الحجاج و كان رجلا يبصر الأثر هذا و الله أثر ابن سمية و ابن أم عبد أعرفهما لقد جاءنا محمد بسفهائنا و سفهاء أهل يثرب ثم قال
لم يترك الجوع لنا مبيتا يا معشر قريش انظروا غدا إن لقينا محمد و أصحابه فاتقوا على شبانكم و فتيانكم [ 118 ] بأهل يثرب فإنا إن نرجع بهم إلى مكة يبصروا من ضلالتهم ما فارقوا من دين آبائهم . قال الواقدي و لما نزل رسول الله ص على القليب بني له عريش من جريد فقام سعد بن معاذ على باب العريش متوشحا سيفه فدخل النبي ص و أبو بكر . قلت لأعجب من أمر العريش من أين كان لهم أو معهم من سعف النخل ما يبنون به عريشا و ليس تلك الأرض أعني أرض بدر أرض نخل و الذي كان معهم من سعف النخل يجري مجرى السلاح كان يسيرا جدا قيل إنه كان بأيدي سبعة منهم سعاف عوض السيوف و الباقون كانوا بالسيوف و القسي و هذا قول شاذ و الصحيح أنه ما خلا أحد منهم عن سلاح اللهم إلا أن يكون معهم سعافات يسيرة و ظلل عليها بثوب أو ستر و إلا فلا أرى لبناء عريش من جريد النخل هناك وجها . قال الواقدي و صف رسول الله ص أصحابه قبل أن تنزل قريش فطلعت قريش و رسول الله ص يصف أصحابه و قد أترعوا حوضا يفرطون فيه من السحر و قذفت فيه الآنية و دفع رسول الله ص رايته إلى مصعب بن عمير فتقدم بها إلى الموضع الذي أمره أن يضعها و وقف رسول الله ص ينظر إلى الصفوف فاستقبل المغارب و جعل الشمس خلفه و أقبل المشركون فاستقبلوا الشمس و نزل بالعدوة الدنيا من الوادي و نزلوا بالعدوة اليمانية و هي القصوى و جاءه رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن كان هذا عن وحي فامض له و إلا فإني [ 119 ] أرى أن تعلوا الوادي فإني أرى ريحا قد هاجت من أعلاها و أراها بعثت بنصرك فقال رسول الله ص قد صففت صفوفي و وضعت رايتي فلا أغير ذلك ثم دعا رسول الله ص فأمده الله بالملائكة . قال الواقدي و روى عروة بن الزبير قال عدل رسول الله ص الصفوف يومئذ فتقدم سواد بن غزية أمام الصف فدفع النبي ص بقدح في بطنه و قال استو يا سواد فقال أوجعتني و الذي بعثك بالحق أقدني فكشف ص عن بطنه و قال استقد فاعتنقه و قبله فقال ما حملك على ما صنعت قال حضر يا رسول الله من أمر الله ما قد ترى و خشيت القتل فأردت أن يكون آخر عهدي بك و أن أعتنقك . قال الواقدي فحدثني موسى بن يعقوب عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم عن رجل من بني أود قال سمعت عليا ع يخطب على منبر الكوفة و يقول بينا أنا أميح في قليب بدر جاءت ريح لم أر مثلها قط شدة ثم ذهبت فجاءت أخرى لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها ثم جاءت ريح أخرى لم أر مثلها إلا الأوليين فكانت الأولى جبريل في ألف مع رسول الله ص و الثانية ميكائيل في ألف عن ميمنته و الثالثة إسرافيل في ألف عن ميسرته فلما هزم الله أعداءه حملني رسول الله ص على فرس فجرت بي فلما جرت بي خررت على عنقها فدعوت ربي فأمسكني حتى استويت و ما لي و للخيل و إنما كنت صاحب الحشم فلما استويت طعنت فيهم بيدي هذه حتى اختضبت مني ذي يعني إبطه [ 120 ] قلت أكثر الرواة يروونه فحملني رسول الله على فرسه و الصحيح ما ذكرناه لأنه لم يكن لرسول الله ص فرس يوم بدر و إنما حضرها راكب بعير و لكنه لما اصطدم الصفان و قتل قوم من فرسان المشركين حمل رسول الله ص عليا ع على بعض الخيل المأخوذة منهم . قال الواقدي قالوا كان على ميمنة رسول الله ص أبو بكر و كان على ميسرته علي بن أبي طالب ع و كان على ميمنة قريش هبيرة بن أبي وهب المخزومي و على ميسرتهم عمرو بن عبد ود قيل كان زمعة بن الأسود على ميسرتهم و قيل بل كان على خيل المشركين و قيل الذي على الخيل الحارث بن هشام و قال قوم لم يكن هبيرة على الميمنة بل كان عليها الحارث بن عامر بن نوفل . قال الواقدي و حدثني محمد بن صالح عن يزيد بن رومان و ابن أبي حبيبة قالا ما كان على ميمنة النبي ص يوم بدر و لا على ميسرته أحد يسمى و كذلك ميمنة المشركين و ميسرتهم ما سمعنا فيها بأحد قال الواقدي و هذا هو الثبت عندنا قال و كان لواء رسول الله ص يومئذ الأعظم لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير و لواء الخزرج مع الحباب بن المنذر و لواء الأوس مع سعد بن معاذ و كان مع قريش ثلاثة ألوية لواء مع أبي عزيز و لواء مع المنذر بن الحارث و لواء مع طلحة بن أبي طلحة . قال الواقدي و خطب رسول الله ص المسلمين يومئذ فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه و أنهاكم عما نهاكم الله عنه فإن الله عظيم شأنه يأمر بالحق و يحب الصدق و يعطي على الخير أهله على منازلهم عنده [ 121 ] به يذكرون و به يتفاضلون و إنكم أصبحتم بمنزل من منازل الحق لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه و إن الصبر في البأس مما يفرج الله به الهم و ينجي به من الغم تدركون به النجاة في الآخرة فيكم نبي الله يحذركم و يأمركم فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شيء من أمركم يمقتكم عليه فإنه تعالى يقول لَمَقْتُ اَللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ انظروا إلى الذي أمركم به من كتابه و أراكم من آياته و ما أعزكم به بعد الذلة فاستمسكوا به يرض ربكم عنكم و ابلوا ربكم في هذه المواطن أمرا تستوجبون به الذي وعدكم من رحمته و مغفرته فإن وعده حق و قوله صدق و عقابه شديد و إنما أنا و أنتم بالله الحي القيوم إليه ألجأنا ظهورنا و به اعتصمنا و عليه توكلنا و إليه المصير و يغفر الله لي و للمسلمين . قال الواقدي و لما رأى رسول الله ص قريشا تصوب من الوادي و كان أول من طلع زمعة بن الأسود على فرس له يتبعه ابنه فاستجال بفرسه يريد أن يبنوا للقوم منزلا فقال رسول الله ص اللهم إنك أنزلت علي الكتاب و أمرتني بالقتال و وعدتني إحدى الطائفتين و أنت لا تخلف الميعاد اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها و فخرها تخاذل و تكذب رسولك اللهم نصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة و طلع عتبة بن ربيعة على جمل أحمر فقال رسول الله ص إن يك في أحد من القوم خير ففي صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا . قال الواقدي و كان إيماء بن رحضة قد بعث إلى قريش ابنا له بعشر جزائر حين مروا به أهداها لهم و قال إن أحببتم أن يمدكم بسلاح و رجال فإنا معدون لذلك مؤدون فعلنا فأرسلوا أن وصلتك رحم قد قضيت الذي عليك و لعمري لئن [ 122 ] كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم و لئن كنا نقاتل الله بزعم محمد فما لأحد بالله طاقة . قال الواقدي فروى خفاف بن إيماء بن رحضة قال كان أبي ليس شيء أحب إليه من إصلاح بين الناس موكلا بذلك فلما مرت به قريش أرسلني بجزائر عشر هدية لها فأقبلت أسوقها و تبعني أبي فدفعتها إلى قريش فقبلوها و وزعوها في القبائل فمر أبي على عتبة بن ربيعة و هو سيد الناس يومئذ فقال يا أبا الوليد ما هذا المسير قال لا أدري و الله غلبت قال فأنت سيد العشيرة فما يمنعك أن ترجع بالناس و تحمل دم حليفك و تحمل العير التي أصابوا بنخلة فتوزعها على قومك فو الله ما يطلبون قبل محمد إلا هذا و الله يا أبا الوليد ما تقتلون بمحمد و أصحابه إلا أنفسكم . قال الواقدي و حدثني ابن أبي الزناد عن أبيه قال ما سمعنا بأحد سار بغير مال إلا عتبة بن ربيعة . قال الواقدي و روى محمد بن جبير بن مطعم قال لما نزل القوم أرسل رسول الله ص عمر بن الخطاب إلى قريش فقال ارجعوا فلأن يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إلي من أن تلوه مني و أن أليه من غيركم أحب إلى من أن أليه منكم فقال حكيم بن حزام قد عرض نصفا فلبوه و الله لا تنصرون عليه بعد أن عرض عليكم من النصف ما عرض و قال أبو جهل لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم و لا نطلب أثرا بعد عين و لا يعرض لعيرنا بعد هذا أبدا . قال الواقدي و أقبل نفر من قريش حتى وردوا الحوض منهم حكيم بن حزام فأراد المسلمون تنحيتهم عنه فقال النبي ص دعوهم فوردوا الماء [ 123 ] فشربوا فلم يشرب منهم أحد إلا قتل إلا ما كان من حكيم بن حزام . قال الواقدي فكان سعيد بن المسيب يقول نجا حكيم من الدهر مرتين لما أراد الله تعالى به من الخير خرج رسول الله ص على نفر من المشركين و هم جلوس يريدونه فقرأ يس و نثر على رءوسهم التراب فما أفلت منهم أحد إلا قتل ما عدا حكيم بن حزام و ورد الحوض يوم بدر مع من ورده مع المشركين فما ورده إلا من قتل إلا حكيم بن حزام . قال الواقدي فلما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي و كان صاحب قداح فقالوا احزر لنا محمدا و أصحابه فاستجال بفرسه حول العسكر و صوب في الوادي و صعد يقول عسى أن يكون لهم مدد أو كمين ثم رجع فقال لا مدد و لا كمين و القوم ثلاثمائة إن زادوا قليلا و معهم سبعون بعيرا و معهم فرسان ثم قال يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة و لا ملجأ إلا سيوفهم أ لا ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي و الله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل رجلا فإذا أصابوا منكم عددهم فما خير في العيش بعد ذلك فروا رأيكم . قال الواقدي و حدثني يونس بن محمد الظفري عن أبيه أنه قال لما قال لهم عمير بن وهب هذه المقالة أرسلوا أبا أسامة الجشمي و كان فارسا فأطاف بالنبي ص و أصحابه ثم رجع إليهم فقالوا له ما رأيت قال و الله ما رأيت جلدا و لا عددا و لا حلقة و لا كراعا و لكني و الله رأيت قوما لا يريدون أن يردوا إلى أهليهم رأيت قوما مستميتين ليست معهم منعة و لا ملجأ إلا سيوفهم زرق العيون [ 124 ] كأنهم الحصا تحت الحجف ثم قال أخشى أن يكون لهم كمين أو مدد فصوب في الوادي ثم صعد ثم رجع إليهم فقال لا كمين و لا مدد فروا رأيكم . قال الواقدي و لما سمع حكيم بن حزام ما قال عمير بن وهب مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة فقال يا أبا الوليد أنت كبير قريش و سيدها و المطاع فيها فهل لك ألا تزال تذكر فيها بخير آخر الدهر مع ما فعلت يوم عكاظ و عتبة يومئذ رئيس الناس فقال و ما ذاك يا أبا خالد قال ترجع بالناس و تحمل دم حليفك و ما أصابه محمد من تلك العير ببطن نخلة إنكم لا تطلبون من محمد شيئا غير هذا الدم و العير فقال عتبة قد فعلت و أنت علي بذلك ثم جلس عتبة على جمله فسار في المشركين من قريش يقول يا قوم أطيعوني و لا تقاتلوا هذا الرجل و أصحابه و اعصبوا هذا الأمر برأسي و اجعلوا جبنها في فإن منهم رجالا قرابتهم قريبة و لا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أبيه و أخيه فيورث ذلك بينكم شحناء و أضغانا و لن تخلصوا إلى قتلهم حتى يصيبوا منكم عددهم مع أنه لا آمن أن تكون الدائرة عليكم و أنتم لا تطلبون إلا دم القتيل منكم و العير التي أصيبت و أنا أحتمل ذلك و هو علي يا قوم إن يك محمد كاذبا يكفيكموه ذؤبان العرب و إن يك ملكا كنتم في ملك ابن أخيكم و إن يك نبيا كنتم أسعد الناس به يا قوم لا تردوا نصيحتي و لا تسفهوا رأيي فحسده أبو جهل حين سمع خطبته و قال إن يرجع الناس عن خطبة عتبة يكن سيد الجماعة و كان عتبة أنطق الناس و أطولهم لسانا و أجملهم جمالا ثم قال عتبة لهم أنشدكم الله في هذه الوجوه التي كأنها المصابيح أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه التي كأنها وجوه الحيات فلما فرغ عتبة من كلامه قال أبو جهل إن عتبة يشير عليكم بهذا [ 125 ] لأن محمدا ابن عمه و هو يكره أن يقتل ابنه و ابن عمه امتلأ و الله سحرك يا عتبة و جبنت حين التقت حلقتا البطان الآن تخذل بيننا و تأمرنا بالرجوع لا و الله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا و بين محمد فغضب عتبة فقال يا مصفرا استه ستعلم أينا أجبن و ألأم و ستعلم قريش من الجبان المفسد لقومه و أنشد
هذاي و أمرت أمري قال الواقدي و ذهب أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو بن الحضرمي المقتول بنخلة فقال له هذا حليفك يعني عتبة يريد أن يرجع بالناس و قد رأيت ثأرك بعينك و تخذل بين الناس أ قد تحمل دم أخيك و زعم أنك قابل الدية أ لا تستحي تقبل الدية و قد قدرت على قاتل أخيك قم فانشد خفرتك فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم حثا على استه التراب و صرخ وا عمراه يخزي بذلك عتبة لأنه حليفه من بين قريش فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة و حلف عامر لا يرجع حتى يقتل من أصحاب محمد و قال أبو جهل لعمير بن وهب حرش بين الناس فحمل عمير فناوش المسلمين لأن ينفض الصف فثبت المسلمون على صفهم و لم يزولوا و تقدم ابن الحضرمي فشد على القوم فنشبت الحرب . قال الواقدي فروى نافع بن جبير عن حكيم بن حزام قال لما أفسد الرأي أبو جهل على الناس و حرش بينهم عامر بن الحضرمي فأقحم فرسه كان أول من خرج إليه من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب فقتله عامر و كان أول قتيل قتل من الأنصار حارثة بن سراقة قتله حيان بن العرقة . قال الواقدي و قال عمر بن الخطاب في مجلس ولايته يا عمير بن وهب أنت [ 126 ] حاذرنا للمشركين يوم بدر تصعد في الوادي و تصوب كأني أنظر إلى فرسك تحتك تخبر المشركين أنه لا كمين لنا و لا مدد قال إي و الله يا أمير المؤمنين و أخرى أنا و الله الذي حرشت بين الناس يومئذ و لكن الله جاءنا بالإسلام و هدانا له و ما كان فينا من الشرك أعظم من ذلك قال عمر صدقت . قال الواقدي و كان عتبة بن ربيعة كلم حكيم بن حزام و قال ليس عند أحد خلاف إلا عند ابن الحنظلية فاذهب إليه فقل له إن عتبة يحمل دم حليفه و يضمن العير قال حكيم فدخلت على أبي جهل و هو يتخلق بخلوق طيب و درعه موضوعة بين يديه فقلت إن عتبة بن ربيعة بعثني إليك فأقبل علي مغضبا فقال ما وجد عتبة أحدا يرسله غيرك فقلت و الله لو كان غيره أرسلني ما مشيت في ذلك و لكني مشيت في إصلاح بين الناس و كان أبو الوليد سيد العشيرة فغضب غضبة أخرى قال و تقول أيضا سيد العشيرة فقلت أنا أقوله و قريش كلها تقوله فأمر عامرا أن يصيح بخفرته و اكتشف و قال إن عتبة جاع فاسقوه سويقا و جعل المشركين يقولون عتبة جاع فاسقوه سويقا و جعل أبو جهل يسر بما صنع المشركون بعتبة قال حكيم فجئت إلى منبه بن الحجاج فقلت له مثل ما قلت لأبي جهل فوجدته خيرا من أبي جهل قال نعما مشيت فيه و ما دعا إليه عتبة فرجعت إلى عتبة فوجدته قد غضب من كلام قريش فنزل عن جمله و قد كان طاف عليهم في عسكرهم يأمرهم بالكف عن القتال فيأبون فحمي فنزل فلبس درعه و طلبوا له بيضة فلم يوجد في الجيش بيضة تسع رأسه من عظم هامته فلما رأى ذلك اعتجر ثم برز راجلا بين أخيه شيبة و بين ابنه الوليد بن عتبة فبينا أبو جهل في الصف على فرس أنثى حاذاه عتبة و سل سيفه فقيل هو و الله يقتله فضرب بالسيف عرقوب فرس أبي جهل فاكتسعت الفرس [ 127 ] و قال انزل فإن هذا اليوم ليس بيوم ركوب ليس كل قومك راكبا فنزل أبو جهل و عتبة يقول سيعلم أينا شؤم عشيرته الغداة قال حكيم فقلت تالله ما رأيت كاليوم . قال الواقدي ثم دعا عتبة إلى المبارزة و رسول الله ص في العريش و أصحابه على صفوفهم فاضطجع فغشيه النوم و قال لا تقاتلوا حتى أوذنكم و إن كثبوكم فارموهم و لا تسلوا السيوف حتى يغشوكم فقال أبو بكر يا رسول الله قد دنا القوم و قد نالوا منا فاستيقظ و قد أراه الله إياهم في منامه قليلا و قلل بعضهم في أعين بعض ففزع رسول الله ص و هو رافع يديه يناشد ربه ما وعده من النصر و يقول اللهم إن تظهر علي هذه العصابة يظهر الشرك و لا يقم لك دين و أبو بكر يقول و الله لينصرنك الله و ليبيضن وجهك قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله إني أشير عليك و أنت أعظم و أعلم بالله من أن يشار عليك إن الله أجل و أعظم من أن ينشد وعده فقال ع يا ابن رواحة أ لا أنشد الله وعده إن الله لا يخلف الميعاد و أقبل عتبة يعمد إلى القتال فقال له حكيم بن حزام مهلا مهلا يا أبا الوليد لا تنه عن شيء و تكون أوله . قال الواقدي قال خفاف بن إيماء فرأيت أصحاب النبي ص يوم بدر و قد تصاف الناس و تزاحفوا و هم لا يسلون السيوف و لكنهم قد انتضوا القسي و قد تترس بعضهم عن بعض بصفوف متقاربة لا فرج بينها و الآخرون قد سلوا السيوف حين طلعوا فعجبت من ذلك فسألت بعد ذلك رجلا من المهاجرين فقال أمرنا رسول الله ص ألا نسل السيوف حتى يغشونا . قال الواقدي فلما تزاحف الناس قال الأسود بن عبد الأسد المخزومي حين دنا من [ 128 ] الحوض أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه فشد حتى دنا من الحوض و استقبله حمزة بن عبد المطلب فضربه فأطن قدمه فزحف الأسود ليبر قسمه زعم حتى وقف في الحوض فهدمه برجله الصحيحة و شرب منه و أتبعه حمزة فضربه في الحوض فقتله و المشركون ينظرون ذلك على صفوفهم . قال الواقدي و دنا الناس بعضهم من بعض فخرج عتبة و شيبة و الوليد حتى فصلوا من الصف ثم دعوا إلى المبارزة فخرج إليهم فتيان ثلاثة من الأنصار و هم بنو عفراء معاذ و معوذ و عوف بنو الحارث و يقال إن ثالثهم عبد الله بن رواحة و الثابت عندنا أنهم بنو عفراء فاستحى رسول الله ص من ذلك و كره أن يكون أول قتال لقي المسلمون فيه المشركين في الأنصار و أحب أن تكون الشوكة لبني عمه و قومه فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم و قال لهم خيرا ثم نادى منادي المشركين يا محمد أخرج إلينا الأكفاء من قومنا فقال لهم رسول الله ص يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله فقام حمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب و عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف فمشوا إليهم فقال عتبة تكلموا نعرفكم و كان عليهم البيض فأنكروهم فإن كنتم أكفاءنا قاتلناكم و روى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي خلاف هذه الرواية قال إن بني عفراء و عبد الله بن رواحة برزوا إلى عتبة و شيبة و الوليد فقالوا لهم من أنتم قالوا رهط من الأنصار فقالوا ارجعوا فما لنا بكم من حاجة ثم نادى مناديهم يا محمد [ 129 ] أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال رسول الله ص قم يا فلان قم يا فلان قم يا فلان . قلت و هذه الرواية أشهر من رواية الواقدي و في رواية الواقدي ما يؤكد صحة رواية محمد بن إسحاق و هو قوله إن منادي المشركين نادى يا محمد أخرج إلينا الأكفاء من قومنا فلو لم يكن قد كلمهم بنو عفراء و كلموهم و ردوهم لما نادى مناديهم بذلك و يدل على ذلك قول بعض القرشيين لبعض الأنصار في فخر فخر به عليه أنا من قوم لم يرض مشركوهم أن يقتلوا مؤمني قومك . قال الواقدي فقال حمزة أنا حمزة بن عبد المطلب أسد الله و أسد رسوله فقال عتبة كفء كريم و أنا أسد الحلفاء من هذان معك قال علي بن أبي طالب و عبيدة بن الحارث بن المطلب فقال كفآن كريمان . قال الواقدي قال ابن أبي الزناد حدثني أبي قال لم أسمع لعتبة كلمة قط أوهن من قوله أنا أسد الحلفاء يعني بالحلفاء الأجمة . قلت قد روي هذه الكلمة على صيغة أخرى و أنا أسد الحلفاء و روي أنا أسد الأحلاف . قالوا في تفسيرهما أراد أنا سيد أهل الحلف المطيبين و كان الذين حضروه بني عبد مناف و بني أسد بن عبد العزى و بني تيم و بني زهرة و بني الحارث بن فهر خمس قبائل و رد قوم هذا التأويل فقالوا إن المطيبين لم يكن يقال لهم الحلفاء و لا الأحلاف و إنما ذلك لقب خصومهم و أعدائهم الذين وقع التحالف لأجلهم و هم بنو عبد الدار و بنو مخزوم و بنو سهم و بنو جمح و بنو عدي بن كعب خمس [ 130 ] قبائل و قال قوم في تفسيرهما إنما عنى حلف الفضول و كان بعد حلف المطيبين بزمان و شهد حلف الفضول رسول الله ص و هو صغير في دار ابن جدعان و كان سببه أن رجلا من اليمن قدم مكة بمتاع فاشتراه العاص بن وائل السهمي و مطله بالثمن حتى أتعبه فقام بالحجر و ناشد قريشا ظلامته فاجتمع بنو هاشم و بنو أسد بن عبد العزى و بنو زهرة و بنو تميم في دار ابن جدعان فتحالفوا غمسوا أيديهم في ماء زمزم بعد أن غسلوا به أركان البيت أن ينصروا كل مظلوم بمكة و يردوا عليه ظلامته و يأخذوا على يد الظالم و ينهوا عن كل منكر ما بل بحر صوفة فسمي حلف الفضول لفضله و قد ذكره رسول الله ص فقال شهدته و ما أحب أن لي به حمر النعم و لا يزيده الإسلام إلا شدة و هذا التفسير أيضا غير صحيح لأن بني عبد الشمس لم يكونوا في حلف الفضول فقد بان أن ما ذكره الواقدي أصح و أثبت . قال الواقدي ثم قال عتبة لابنه قم يا وليد فقام الوليد و قام إليه علي و كانا أصغر النفر فاختلفا ضربتين فقتله علي بن أبي طالب ع ثم قام عتبة و قام إليه حمزة فاختلفا ضربتين فقتله حمزة رضي الله عنه ثم قام شيبة و قام إليه عبيدة و هو يومئذ أسن أصحاب رسول الله ص فضرب شيبة رجل عبيدة بذباب السيف فأصاب عضلة ساقه فقطعها و كر حمزة و علي على شيبة فقتلاه و احتملا عبيدة فحازاه إلى الصف و مخ ساقه يسيل فقال عبيدة يا رسول الله أ لست شهيدا قال بلى قال أما و الله لو كان أبو طالب حيا لعلم أني أحق بما قال حين يقول
كذبتم و بيت الله نخلي محمدا و نزلت فيهم هذه الآية هذانِ خَصْمانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ . [ 131 ] و روى محمد بن إسحاق أن عتبة بارز عبيدة بن الحارث و أن شيبة بارز حمزة بن عبد المطلب فقتل حمزة شيبة لم يمهله أن قتله و لم يمهل علي الوليد أن قتله و اختلف عبيدة و عتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه و كر حمزة و علي ع على عتبة بأسيافهما حتى وقعا عليه و احتملا صاحبهما فحازاه إلى الصف . قلت و هذه الرواية توافق ما يذكره أمير المؤمنين ع في كلامه إذ يقول لمعاوية و عندي السيف الذي أعضضت به أخاك و خالك و جدك يوم بدر و يقول في موضع آخر قد عرفت مواقع نصالها في أخيك و خالك و جدك و ما هي من الظالمين ببعيد . و اختار البلاذري رواية الواقدي و قال إن حمزة قتل عتبة و إن عليا ع قتل الوليد و شرك في قتل شيبة . و هذا هو المناسب لأحوالهم من طريق السن لأن شيبة أسن الثلاثة فجعل بإزاء عبيدة و هو أسن الثلاثة و الوليد أصغر الثلاثة سنا فجعل بإزاء علي ع و هو أصغر الثلاثة سنا و عتبة أوسطهم سنا فجعل بإزاء حمزة و هو أوسطهم سنا و أيضا فإن عتبة كان أمثل الثلاثة فمقتضى القياس أن يكون قرنه أمثل الثلاثة و هو حمزة إذ ذاك لأن عليا ع لم يكن قد اشتهر أمره جدا و إنما اشتهر الشهرة التامة بعد بدر و لمن روى أن حمزة بارز شيبة و هي رواية ابن إسحاق أن ينتصر بشعر هند بنت عتبة ترثي أباها
أ عيني جودا بدمع سرب
[ 132 ] فإذا كانت قد قالت إن عتبة أباها أذاقه بنو هاشم و بنو المطلب حر أسيافهم فقد ثبت أن المبارز لعتبة إنما هو عبيدة لأنه من بني المطلب جرح عتبة فأثبته ثم ذفف عليه حمزة و علي ع فأما الشيعة فإنها تروي أن حمزة بادر عتبة فقتله و أن اشتراك علي و حمزة إنما هو في دم شيبة بعد أن جرحه عبيدة بن الحارث هكذا ذكر محمد بن النعمان في كتاب الإرشاد و هو خلاف ما تنطق به كتب أمير المؤمنين ع إلى معاوية و الأمر عندي مشتبه في هذا الموضع . و روى محمد بن النعمان عن أمير المؤمنين ع أنه كان يذكر يوم بدر و يقول أختلف أنا و الوليد بن عتبة ضربتين فأخطأتني ضربته و أضربه فاتقاني بيده اليسرى فأبانها السيف فكأني أنظر إلى وميض خاتم في شماله ثم ضربته أخرى فصرعته و سلبته فرأيت به الردع من خلوق فعلمت أنه قريب عهد بعرس قال الواقدي و قد روي أن عتبة بن ربيعة حين دعا إلى البراز قام إليه ابنه أبو حذيفة بن عتبة يبارزه فقال له النبي ص اجلس فلما قام إليه النفر أعان أبو حذيفة على أبيه عتبة بضربة . قال الواقدي و أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال شيبة أكبر من عتبة بثلاث سنين و حمزة أسن من النبي ص بأربع سنين و العباس أسن من النبي ص بثلاث سنين . قال الواقدي و استفتح أبو جهل يوم بدر فقال اللهم أقطعنا للرحم و آتانا بما لا يعلم فأحنه الغداة فأنزل الله تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ اَلْفَتْحُ الآية . [ 133 ] قال الواقدي و روى عروة عن عائشة أن النبي ص جعل شعار المهاجرين يوم بدر يا بني عبد الرحمن و شعار الخزرج يا بني عبد الله و شعار الأوس يا بني عبد الله . قال و روى زيد بن علي بن الحسين ع أن شعار رسول الله ص يوم بدر يا منصور أمت . قال الواقدي و نهى رسول الله ص عن قتل أبي البختري و كان قد لبس السلاح بمكة يوما قبل الهجرة في بعض ما كان ينال النبي ص من الأذى و قال لا يعرض اليوم أحد لمحمد بأذى إلا وضعت فيه السلاح فشكر ذلك له النبي ص قال أبو داود المازني فلحقته يوم بدر فقلت له إن رسول الله ص قد نهى عن قتلك إن أعطيت بيدك قال و ما تريد إلي إن كان قد نهى عن قتلي فقد كنت أبليته ذلك فأما أن أعطي بيدي فو اللات و العزى لقد علمت نسوة بمكة أني لا أعطي بيدي و قد عرفت أنك لا تدعني فافعل الذي تريد فرماه أبو داود بسهم و قال اللهم سهمك و أبو البختري عبدك فضعه في مقتله و أبو البختري دارع ففتق السهم الدرع فقتله . قال الواقدي و يقال إن المجذر بن ذياد قتل أبا البختري و لا يعرفه و قال المجذر في ذلك شعرا عرف منه أنه قاتله . و في رواية محمد بن إسحاق أن رسول الله ص نهى يوم بدر عن قتل أبي البختري و اسمه الوليد بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى لأنه كان أكف [ 134 ] الناس عن رسول الله ص بمكة كان لا يؤذيه و لا يبلغه عنه شيء يكرهه و كان فيمن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار فقال له إن رسول الله ص نهانا عن قتلك و مع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة يقال له جنادة بن مليحة فقال البختري و زميلي قال المجذر و الله ما نحن بتاركي زميلك ما نهانا رسول الله ص إلا عنك وحدك قال إذا و الله لأموتن أنا و هو جميعا لا تتحدث عني نساء أهل مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة فنازله المجذر و ارتجز أبو البختري فقال
لن يسلم ابن حرة زميله ثم اقتتلا فقتله المجذر و جاء إلى رسول الله ص فأخبره و قال و الذي بعثك بالحق لقد جهدت أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا القتال فقاتلته فقتلته . قال الواقدي و نهى النبي ص عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل و قال ائسروه و لا تقتلوه و كان كارها للخروج إلى بدر فلقيه خبيب بن يساف فقتله و لا يعرفه فبلغ النبي ص ذلك فقال لو وجدته قبل أن يقتل لتركته لنسائه و نهى عن قتل زمعة بن الأسود فقتله ثابت بن الجذع و لا يعرفه . قال الواقدي و ارتجز عدي بن أبي الزغباء يوم بدر فقال
أنا عدي و السحل يعني درعه فقال النبي ص من عدي فقال رجل من القوم أنا يا رسول الله قال و ما ذا قال ابن فلان قال لست أنت عديا فقال عدي بن أبي [ 135 ] الزغباء أنا يا رسول الله عدي قال و ما ذا قال و السحل أمشي بها مشي الفحل قال النبي ص و ما السحل قال درعي فقال ص نعم العدي عدي بن أبي الزغباء . قال الواقدي و كان عقبة بن أبي معيط قال بمكة حين هاجر رسول الله ص إلى المدينة
يا راكب الناقة القصواء هاجرنا فبلغ قوله النبي ص فقال اللهم أكبه لمنخره و اصرعه فجمح به فرسه يوم بدر بعد أن ولى الناس فأخذه عبد الله بن سلمة العجلاني أسيرا و أمر النبي ص عاصم بن أبي الأقلح فضرب عنقه صبرا . قال الواقدي و كان عبد الرحمن يحدث يقول إني لأجمع أدراعا يوم بدر بعد أن ولى الناس فإذا أمية بن خلف و كان لي صديقا في الجاهلية و كان اسمي عبد عمرو فلما جاء الإسلام تسميت عبد الرحمن فكان يلقاني بمكة فيقول يا عبد عمرو فلا أجيبه فيقول إني لا أقول لك عبد الرحمن إن مسيلمة باليمامة تسمى بالرحمن فأنا لا أدعوك إليه فكان يدعوني عبد الإله فلما كان يوم بدر رأيته و كأنه جمل يساق و معه ابنه علي فناداني يا عبد عمرو فأبيت أن أجيبه فناداني يا عبد الإله فأجبته فقال أ ما لكم حاجة في اللبن نحن خير لك من أدرعك هذه فقلت امضيا فجعلت أسوقهما أمامي و قد رأى أمية أنه قد أمن بعض الأمن فقال لي أمية رأيت رجلا فيكم اليوم معلما في صدره بريشة نعامة من هو فقلت حمزة بن عبد المطلب [ 136 ] فقال ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل ثم قال فمن رجل دحداح قصير معلم بعصابة حمراء قلت ذاك رجل من الأنصار يقال له سماك بن خرشة قال و بذاك أيضا يا عبد الإله صرنا اليوم جزرا لكم قال فبينا هو معي أزجيه أمامي و معه ابنه إذ بصر به بلال و هو يعجن عجينا له فترك العجين و جعل يفتل يديه منه فتلا ذريعا و هو ينادي يا معشر الأنصار أمية بن خلف رأس الكفر لا نجوت إن نجوت قال لأنه كان يعذبه بمكة فأقبلت الأنصار كأنهم عوذ حنت إلى أولادها حتى طرحوا أمية على ظهره و اضطجعت عليه أحميه منهم فأقبل الخباب بن المنذر فأدخل سيفه فاقتطع أرنبة أنفه فلما فقد أمية أنفه قال لي إيها عنك أي خل بيني و بينهم قال عبد الرحمن فذكرت قول حسان أو عن ذلك الأنف جادع قال و يقبل إليه خبيب بن يساف فضربه حتى قتله و قد كان أمية ضرب خبيب بن يساف حتى قطع يده من المنكب فأعادها النبي ص فالتحمت و استوت فتزوج خبيب بن يساف بعد ذلك ابنة أمية بن خلف فرأت تلك الضربة فقالت لا يشل الله يد رجل فعل هذا فقال خبيب و أنا و الله قد أوردته شعوب فكان خبيب يحدث يقول فأضربه فوق العاتق فأقطع عاتقه حتى بلغت مؤتزره و عليه الدرع و أنا أقول خذها و أنا ابن يساف و أخذت سلاحه و درعه و أقبل علي بن أمية فتعرض له الخباب فقطع رجله فصاح صيحة ما سمع مثلها قط و لقيه عمار فضربه ضربة فقتله و يقال إن عمارا لاقاه قبل ضربة الخباب فاختلفا ضربات فقتله عمار و الأولى أثبت أنه ضربه بعد أن قطعت رجله . قال الواقدي و قد سمعنا في قتل أمية غير ذلك حدثني عبيد بن يحيى عن معاذ بن [ 137 ] رفاعة عن أبيه قال لما كان يوم بدر و أحدقنا بأمية بن خلف و كان له فيهم شأن و معي رمحي و معه رمحه فتطاعنا حتى سقطت أزجتها ثم صرنا إلى السيفين فتضاربنا بهما حتى انثلما ثم بصرت بفتق في درعه تحت إبطه فحششت السيف فيه حتى قتلته و خرج السيف عليه الودك قال الواقدي و قد سمعنا وجها آخر حدثني محمد بن قدامة بن موسى عن أبيه عن عائشة بنت قدامة قالت قال صفوان بن أمية بن خلف يوما يا قدام لقدامة بن مظعون أنت المشلي بأبي يوم بدر الناس فقال قدامة لا و الله ما فعلت و لو فعلت ما اعتذرت من قتل مشرك قال صفوان فمن يا قدام المشلي به يوم بدر قال رأيت فتية من الأنصار أقبلوا إليه فيهم معمر بن خبيب بن عبيد الحارث يرفع سيفه و يضعه فيه فقال صفوان أبو قرد و كان معمر رجلا دميما فسمع بذلك الحارث بن حاطب فغضب له فدخل على أم صفوان فقال ما يدعنا صفوان من الأذى في الجاهلية و الإسلام قالت و ما ذاك فأخبرها بمقالة صفوان لمعمر حين قال أبو قرد فقالت أم صفوان يا صفوان أ تنتقص معمر بن خبيب من أهل بدر و الله لا أقبل لك كرامة سنة قال صفوان يا أمة لا أعود و الله أبدا تكلمت بكلمة لم ألق لها بالا . قال الواقدي و حدثني محمد بن قدامة عن أبيه عن عائشة بنت قدامة قالت قيل لأم صفوان بن أمية و نظرت إلى الخباب بن المنذر بمكة هذا الذي قطع رجل علي بن أمية يوم بدر قالت دعونا عن ذكر من قتل على الشرك قد أهان الله عليا بضربة الخباب بن المنذر و أكرم الله الخباب بضربته عليا و لقد كان على الإسلام حين خرج من هاهنا فقتل على غير ذلك . [ 138 ] فأما محمد بن إسحاق فإنه قال قال عبد الرحمن بن عوف أخذت بيد أمية بن خلف و يد ابنه علي بن أمية أسيرين يوم بدر فبينا أنا أمشي بينهما رآنا بلال و كان أمية هو الذي يعذب بلالا بمكة يخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمره بالصخرة العظيمة فتوضع بحرارتها على صدره و يقول له لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد فيقول بلال أحد أحد لا يزيده على ذلك فلما رآه صاح رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجوت قال عبد الرحمن فقلت أي بلال أسيري فقال لا نجوت إن نجا فقلت استمع يا ابن السوداء قال لا نجوت إن نجا ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله أمية بن خلف رأس الكفر لا نجوت إن نجا فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة و أنا أذب عنه و يحذف عمار بن ياسر عليا ابنه بالسيف فأصاب رجله فوقع و صاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط فخليت عنه و قلت انج بنفسك و لا نجاء به فو الله ما أغني عنك شيئا قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما قال فكان عبد الرحمن بن عوف يقول رحم الله بلالا أذهب أدرعي و فجعني بأسيري . قال الواقدي و كان الزبير بن العوام يحدث فيقول لما كان يومئذ لقيت عبيدة بن سعد بن العاص على فرس عليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه و هو يقول و كانت له صبية صغيرة يحملها و كان لها بطين و كانت مقسمة أنا أبو ذات الكرش أنا أبو ذات [ 139 ] الكرش قال و في يدي عنزة فأطعن بها في عينه و وقع و أطؤه برجلي على خده حتى أخرجت العنزة متعقفة و أخرجت حدقته و أخذ رسول الله ص تلك العنزة فكانت تحمل بين يديه ثم صارت تحمل بين يدي أبي بكر و عمر و عثمان . قال الواقدي و أقبل عاصم بن أبي عوف بن صبيرة السهمي لما جال الناس و اختلطوا و كأنه ذئب و هو يقول يا معشر قريش عليكم بالقاطع مفرق الجماعة الآتي بما لا يعرف محمد لا نجوت إن نجا و يعترضه أبو دجانة فاختلفا ضربتين و يضربه أبو دجانة فقتله و وقف على سلبه يسلبه فمر به عمر بن الخطاب فقال دع سلبه حتى يجهض العدو و أنا أشهد لك به قال الواقدي و يقبل معبد بن وهب أحد بني عامر بن لؤي فضرب أبا دجانة ضربة برك منها أبو دجانة كما يبرك الجمل ثم انتهض و أقبل على معبد فضربه ضربات لم يصنع سيفه شيئا حتى يقع معبد بحفرة أمامه لا يراها و نزل أبو دجانة عليه فذبحه ذبحا و أخذ سلبه . قال الواقدي و لما كان يومئذ و رأت بنو مخزوم مقتل من قتل قالت أبو الحكم لا يخلص إليه فإن ابني ربيعة عجلا و بطرا و لم تحام عنهما عشيرتهما فاجتمعت بنو مخزوم فأحدقوا به فجعلوه في مثل الحرجة و أجمعوا أن يلبسوا لأمة أبي جهل رجلا منهم فألبسوها عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة فصمد له علي ع فقتله و هو يراه أبا جهل و مضى عنه و هو يقول أنا ابن عبد المطلب ثم ألبسوها أبا قيس بن [ 140 ] الفاكه بن المغيرة فصمد له حمزة و هو يراه أبا جهل فضربه فقتله و هو يقول خذها و أنا ابن عبد المطلب ثم ألبسوها حرملة بن عمرو فصمد له علي ع فقتله ثم أرادوا أن يلبسوها خالد بن الأعلم فأبى أن يلبسها قال معاذ بن عمرو بن الجموح فنظرت يومئذ إلى أبي جهل في مثل الحرجة و هم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه فعرفت أنه هو فقلت و الله لأموتن دونه اليوم أو لأخلصن إليه فصمدت له حتى إذا أمكنتني منه غرة حملت عليه فضربته ضربة طرحت رجله من الساق فشبهتها النواة تنزو من تحت المراضخ فأقبل ابنه عكرمة علي فضربني على عاتقي فطرح يدي من العاتق إلا أنه بقيت جلدة فذهبت أسحب يدي بتلك الجلدة خلفي فلما آذتني وضعت عليها رجلي ثم تمطيت عليها فقطعتها ثم لاقيت عكرمة و هو يلوذ كل ملاذ و لو كانت يدي معي لرجوت يومئذ أن أصيبه و مات معاذ في زمن عثمان . قال الواقدي فروي أن رسول الله ص نفل معاذ بن عمرو بن الجموح سيف أبي جهل و أنه عند آل معاذ بن عمرو اليوم و به فل بعد أن أرسل النبي ص إلى عكرمة بن أبي جهل يسأله من قتل أباك قال الذي قطعت يده فدفع رسول الله ص سيفه إلى معاذ بن عمرو لأن عكرمة بن أبي جهل قطع يده يوم بدر . قال الواقدي و ما كان بنو المغيرة يشكون أن سيف أبي الحكم صار إلى معاذ بن عمرو بن الجموح و أنه قاتله يوم بدر . قال الواقدي و قد سمعت في قتله و أخذ سلبه غير هذا حدثني عبد الحميد بن جعفر عن عمر بن الحكم بن ثوبان عن عبد الرحمن بن عوف قال عبأنا رسول الله ص بليل فأصبحنا و نحن على صفوفنا فإذا بغلامين ليس منهما واحد إلا قد [ 141 ] ربطت حمائل سيفه في عنقه لصغره فالتفت إلي أحدهما فقال يا عم أيهم أبو جهل قال قلت و ما تصنع به يا ابن أخي قال بلغني أنه يسب رسول الله ص فحلفت لئن رأيته لأقتلنه أو لأموتن دونه فأشرت إليه فالتفت إلي الآخر و قال لي مثل ذلك فأشرت له إليه و قلت له من أنتما قالا ابنا الحارث قال فجعلا لا يطرفان عن أبي جهل حتى إذا كان القتال خلصا إليه فقتلاه و قتلهما . قال الواقدي فحدثني محمد بن عوف عن إبراهيم بن يحيى بن زيد بن ثابت قال لما كان يومئذ قال عبد الرحمن و نظر إليهما عن يمينه و عن شماله ليته كان إلى جنبي من هو أبدن من هذين الصبيين فلم أنشب أن التفت إلى عوف فقال أيهم أبو جهل فقلت ذاك حيث ترى فخرج يعدو إليه كأنه سبع و لحقه أخوه فأنا أنظر إليهم يضطربون بالسيوف ثم نظرت إلى رسول الله ص يمر بهم في القتلى و هما إلى جانب أبي جهل . قال الواقدي و حدثني محمد بن رفاعة بن ثعلبة قال سمعت أبي ينكر ما يقول الناس في ابني عفراء من صغرهما و يقول كانا يوم بدر أصغرهما ابن خمس و ثلاثين سنة فهذا يربط حمائل سيفه قال الواقدي و القول الأول أثبت . و روى محمد بن عمار بن ياسر عن ربيع بنت معوذ قالت دخلت في نسوة من الأنصار على أسماء أم أبي جهل في زمن عمر بن الخطاب و كان ابنها عبد الله بن أبي ربيعة يبعث إليها بعطر من اليمن فكانت تبيعه إلى الأعطية فكنا نشتري منها فلما جعلت لي في قواريري و وزنت لي كما وزنت لصواحبي قال اكتبن لي عليكن حقي قلت نعم اكتب لها على الربيع بنت معوذ فقالت أسماء خلفي و إنك [ 142 ] لابنة قاتل سيده فقلت لا و لكن ابنة قاتل عبده فقالت و الله لا أبيعك شيئا أبدا فقلت أنا و الله لا أشتري منك أبدا فو الله ما هو بطيب و لا عرف و الله يا بني ما شممت عطرا قط كان أطيب منه و لكني يا بني غضبت قال الواقدي فلما وضعت الحرب أوزارها أمر رسول الله ص أن يلتمس أبو جهل قال ابن مسعود فوجدته في آخر رمق فوضعت رجلي على عنقه فقلت الحمد لله الذي أخزاك قال إنما أخزى الله العبد ابن أم عبد لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا لمن الدبرة قلت لله و لرسوله قال ابن مسعود فأقلع بيضته عن قفاه و قلت إني قاتلك قال لست بأول عبد قتل سيده أما إن أشد ما لقيته اليوم لقتلك إياي ألا يكون ولي قتلي رجل من الأحلاف أو من المطيبين قال فضربه عبد الله ضربة وقع رأسه بين يديه ثم سلبه و أقبل بسلاحه و درعه و بيضته فوضعها بين يدي رسول الله ص فقال أبشر يا نبي الله بقتل عدو الله أبي جهل فقال رسول الله أ حقا يا عبد الله فو الذي نفسي بيده لهو أحب إلي من حمر النعم أو كما قال ثم قال إنه أصابه جحش من دفع دفعته في مأدبة ابن جدعان فجحشت ركبته فالتمسوه فوجدوا ذلك الأثر . قال الواقدي و روي أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي كان عند النبي ص تلك الساعة فوجد في نفسه و أقبل على ابن مسعود و قال أنت قتلته قال نعم الله قتله قال أبو سلمة أنت وليت قتله قال نعم قال لو شاء لجعلك في كمه فقال ابن مسعود فقد و الله قتلته و جردته فقال أبو سلمة فما علامته قال شامة سوداء ببطن فخذه اليمنى فعرف أبو سلمة النعت فقال أ جردته و لم يجرد قرشي غيره فقال [ 143 ] ابن مسعود إنه و الله لم يكن في قريش و لا في حلفائها أحد أعدى لله و لا لرسوله منه و ما أعتذر من شيء صنعته به فأمسك أبو سلمة . قال الواقدي سمع أبو سلمة بعد ذلك يستغفر الله من كلامه في أبي جهل و قال اللهم إنك قد أنجزت ما وعدتني فتمم علي نعمتك قال و كان عبد الله بن عتبة بن مسعود يقول سيف أبي جهل عندنا محلى بفضة غنمه عبد الله بن مسعود يومئذ . قال الواقدي اجتمع قول أصحابنا أن معاذ بن عمرو و ابني عفراء أثبتوه و ضرب ابن مسعود عنقه في آخر رمق فكل شرك في قتله . قال الواقدي و قد روي أن رسول الله ص وقف على مصرع ابني عفراء فقال يرحم الله ابني عفراء فإنهما قد شركا في قتل فرعون هذه الأمة و رأس أئمة الكفر فقيل يا رسول الله و من قتله معهما قال الملائكة و ذفف عليه ابن مسعود فكان قد شرك في قتله . قال الواقدي و حدثني معمر عن الزهري قال قال رسول الله ص يوم بدر اللهم اكفني نوفل بن العدوية و هو نوفل بن خويلد من بني أسد بن عبد العزى و أقبل نوفل يومئذ يصيح و هو مرعوب قد رأى قتل أصحابه و كان في أول ما التقوا هم و المسلمون يصيح بصوت له زجل رافعا عقيرته يا معشر قريش إن هذا اليوم يوم العلاء و الرفعة فلما رأى قريشا قد انكشفت جعل يصيح بالأنصار ما حاجتكم إلى دمائنا أ ما ترون من تقتلون أ ما لكم في اللبن من حاجة فأسره جبار بن صخر فهو يسوقه أمامه فجعل نوفل يقول لجبار و رأى عليا ع مقبلا نحوه يا أخا الأنصار من هذا و اللات و العزى إني لأرى رجلا إنه ليريدني قال [ 144 ] جبار هذا علي بن أبي طالب قال نوفل تالله ما رأيت كاليوم رجلا أسرع في قومه فصمد له علي ع فيضربه فينشب سيف علي في حجفته ساعة ثم ينزعه فيضرب به ساقيه و درعه مشتمرة فيقطعها ثم أجهز عليه فقتله فقال رسول الله ص من له علم بنوفل بن خويلد قال علي ع أنا قتلته فكبر رسول الله ص و قال الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه . قال الواقدي و أقبل العاص بن سعيد بن العاص يبحث للقتال فالتقى هو و علي ع و قتله علي فكان عمر بن الخطاب يقول لابنه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ما لي أراك معرضا تظن أني قتلت أباك فقال سعيد لو قتلته لكان على الباطل و كنت على الحق قال فقال عمر إن قريشا أعظم الناس أحلاما و أكثرها أمانة لا يبغيهم أحد الغوائل إلا كبه الله لفيه . قال الواقدي و روي أن عمر قال لسعيد بن العاص ما لي أراك معرضا كأني قتلت أباك يوم بدر و إن كنت لا أعتذر من قتل مشرك لقد قتلت خالي بيدي العاص بن هاشم بن المغيرة . و نقلت من غير كتاب الواقدي أن عثمان بن عفان و سعيد بن العاص حضرا عند عمر في أيام خلافته فجلس سعيد بن العاص حجرة فنظر إليه عمر فقال ما لي أراك معرضا كأني قتلت أباك إني لم أقتله و لكنه قتله أبو حسن و كان علي ع حاضرا فقال اللهم غفرا ذهب الشرك بما فيه و محا الإسلام ما قبله فلما ذا تهاج [ 145 ] القلوب فسكت عمر و قال سعيد لقد قتله كفء كريم و هو أحب إلي من أن يقتله من ليس من بني عبد مناف . قال الواقدي و كان علي ع يحدث فيقول إني يومئذ بعد ما متع النهار و نحن و المشركون قد اختلطت صفوفنا و صفوفهم خرجت في إثر رجل منهم فإذا رجل من المشركين على كثيب رمل و سعد بن خيثمة و هما يقتتلان حتى قتل المشرك سعد بن خيثمة و المشرك مقنع في الحديد و كان فارسا فاقتحم عن فرسه فعرفني و هو معلم فناداني هلم يا ابن أبي طالب إلى البراز فعطفت إلى البراز فعطفت عليه فانحط إلي مقبلا و كنت رجلا قصيرا فانحططت راجعا لكي ينزل إلي كرهت أن يعلوني فقال يا ابن أبي طالب فررت فقلت قريبا مفر ابن الشتراء فلما استقرت قدماي و ثبت أقبل فاتقيت فلما دنا مني ضربني بالدرقة فوقع سيفه فلحج فأضربه على عاتقه و هو دارع فارتعش و لقد قط سيفي درعه فظننت أن سيفي سيقتله فإذا بريق سيف من ورائي فطأطأت رأسي و يقع السيف فأطن قحف رأسه بالبيضة و هو يقول خذها و أنا ابن عبد المطلب فالتفت من ورائي فإذا هو حمزة عمي و المقتول طعيمة بن عدي . قلت في رواية محمد بن إسحاق بن يسار أن طعيمة بن عدي قتله علي بن أبي طالب ع ثم قال و قيل قتله حمزة . و في رواية الشيعة قتله علي بن أبي طالب شجره بالرمح فقال له و الله لا تخاصمنا في الله بعد اليوم أبدا و هكذا روى محمد بن إسحاق . [ 146 ] و روى محمد بن إسحاق قال و خرج النبي ص من العريش إلى الناس ينظر القتال فحرض المسلمين و قال كل امرئ بما أصاب و قال و الذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل في جملة فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة و في يده تمرات يأكلهن بخ بخ فما بيني و بين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم قذف التمرات من يده و أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل قال محمد بن إسحاق و حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة أن عوف بن الحارث و هو ابن عفراء قال لرسول الله ص يوم بدر يا رسول الله ص ما يضحك الرب من عبده قال غمسه يده في العدو حاسرا فنزع عوف درعا كانت عليه و قذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل . قال الواقدي و ابن إسحاق و أخذ رسول الله ص كفا من البطحاء فرماهم بها و قال شاهت الوجوه اللهم أرعب قلوبهم و زلزل أقدامهم فانهزم المشركون لا يلوون على شيء و المسلمون يتبعونهم يقتلون و يأسرون . قال الواقدي و كان هبيرة بن أبي وهب المخزومي لما رأى الهزيمة انخزل ظهره فعقر فلم يستطع أن يقوم فأتاه أبو أسامة الجشمي حليفه ففتق درعه و احتمله و يقال ضربه أبو داود المازني بالسيف فقطع درعه و وقع لوجهه و أخلد إلى الأرض و جاوزه أبو داود و بصر به ابنا زهير الجشميان مالك و أبو أسامة و هما حليفاه فذبا عنه حتى نجوا به و احتمله أبو أسامة و مالك يذب عنه حتى خلصاه فقال رسول الله ص حماه كلباه الحليفان . [ 147 ] قال الواقدي و حدثني عمر بن عثمان عن عكاشة بن محصن قال انقطع سيفي يوم بدر فأعطاني رسول الله ص عودا فإذا هو سيف أبيض طويل فقاتلت به حتى هزم الله المشركين و لم يزل ذلك السيف عند عكاشة حتى هلك . قال و قد روى رجال من بني عبد الأشهل عدة قالوا انكسر سيف سلمة بن أسلم بن حريش يوم بدر فبقي أعزل لا سلاح معه فأعطاه رسول الله ص قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب فقال اضرب به فإذا هو سيف جيد فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد . قال الواقدي و أصاب حارثة بن سراقة و هو يكرع في الحوض سهم غرب من المشركين فوقع في نحره فمات فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه و بلغ أمه و أخته و هما بالمدينة مقتله فقالت أمه و الله لا أبكي عليه حتى يقدم رسول الله ص فأسأله فإن كان في الجنة لم أبك عليه و إن كان في النار بكيته لعمر الله فأعولته فلما قدم رسول الله ص من بدر جاءت أمه إليه فقالت يا رسول الله قد عرفت موضع حارثة في قلبي فأردت أن أبكي عليه ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول الله ص عنه فإن كان في الجنة لم أبكه و إن كان في النار بكيته فأعولته فقال النبي ص هبلت أ جنة واحدة إنها جنان كثيرة و الذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى قالت فلا أبكي عليه أبدا . قال الواقدي و دعا رسول الله ص حينئذ بماء في إناء فغمس يده فيه و مضمض فاه ثم ناول أم حارثة بن سراقة فشربت ثم ناولت ابنتها فشربت [ 148 ] ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما ثم رجعتا من عند النبي ص و ما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما و لا أسر . قال الواقدي و كان حكيم بن حزام يقول انهزمنا يوم بدر فجعلت أسعى و أقول قاتل الله ابن الحنظلية يزعم أن النهار قد ذهب و الله إن النهار لكما هو قال حكيم و ما ذا بي إلا حبا أن يأتي الليل فيقصر عنا طلب القوم فيدرك حكيم عبيد الله و عبد الرحمن بني العوام على جمل لهما فقال عبد الرحمن لأخيه انزل فاحمل أبا خالد و كان عبيد الله رجلا أعرج لا رجلة به فقال عبيد الله إنه لا رجلة بي كما ترى و قال عبد الرحمن و الله أن منه لا بد ألا نحمل رجلا إن متنا كفانا ما خلفنا من عيالنا و إن عشنا حملنا كلنا فنزل عبد الرحمن و أخوه الأعرج فحملاه فكانوا يتعاقبون الجمل فلما دنا من مكة و كان بمر الظهران قال و الله لقد رأيت هاهنا أمرا ما كان يخرج على مثله أحد له رأي و لكنه شؤم ابن الحنظلية إن جزورا نحرت هاهنا فلم يبق خباء إلا أصابه من دمها فقالا قد رأينا ذلك و لكن رأيناك و قومك قد مضيتم فمضينا معكم و لم يكن لنا معكم أمر . قال الواقدي فحدثني عبد الرحمن بن الحارث عن مخلد بن خفاف عن أبيه قال كانت الدروع في قريش كثيرة يومئذ فلما انهزموا جعلوا يلقونها و جعل المسلمون يتبعونهم و يلقطون ما طرحوا و لقد رأيتني يومئذ التقطت ثلاث أدرع جئت بها أهلي فكانت عندنا بعد فزعم لي رجل من قريش و رأى درعا منها عندنا فعرفها قال هذه درع الحارث بن هشام . قال الواقدي و حدثني محمد بن حميد عن عبد الله بن عمرو بن أمية قال أخبرني من انكشف من قريش يومئذ منهزما و إنه ليقول في نفسه ما رأيت مثل هذا فر منه إلا النساء . [ 149 ] قال الواقدي كان قباث بن أشيم الكناني يقول شهدت مع المشركين بدرا و إني لأنظر إلى قلة أصحاب محمد في عيني و كثرة من معنا من الخيل و الرجل فانهزمت فيمن انهزم فلقد رأيتني و إني لأنظر إلى المشركين في كل وجه و إني لأقول في نفسي ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء و صاحبني رجل فبينا هو يسير معي إذ لحقنا من خلفنا فقلت لصاحبي أ بك نهوض قال لا و الله ما بي قال و عقر و ترفعت فلقد صبحت غيقة قال و غيقة عن يسار السقيا بينها و بين الفرع ليلة و بين الفرع و المدينة ثمانية برد قبل الشمس كنت هاديا بالطريق و لم أسلك المحاج و خفت من الطلب فتنكبت عنها فلقيني رجل من قومي بغيقة فقال ما وراءك قلت لا شيء قتلنا و أسرنا و انهزمنا فهل عندك من حملان قال فحملني على بعير و زودني زادا حتى لقيت الطريق بالجحفة ثم مضيت حتى دخلت مكة و إني لأنظر إلى الحيسمان بن حابس الخزاعي بالغميم فعرفت أنه تقدم ينعى قريشا بمكة فلو أردت أن أسبقه لسبقته فتنكبت عنه حتى سبقني ببعض النهار فقدمت و قد انتهى إلى مكة خبر قتلاهم و هم يلعنون الخزاعي و يقولون ما جاءنا بخير فمكثت بمكة فلما كان بعد الخندق قلت لو قدمت المدينة فنظرت ما يقول محمد و قد وقع في قلبي الإسلام فقدمت المدينة فسألت عن رسول الله ص فقالوا هو ذاك في ظل المسجد مع ملأ من أصحابه فأتيته و أنا لا أعرفه من بينهم فسلمت فقال يا قباث بن أشيم أنت القائل يوم بدر ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء قلت أشهد أنك رسول الله و أن هذا الأمر ما خرج مني إلى أحد قط و ما ترمرمت به إلا شيئا حدثت به نفسي فلو لا أنك نبي ما أطلعك الله عليه هلم حتى أبايعك فأسلمت [ 150 ] قال الواقدي و قد روي أنه لما توجه المشركون إلى بدر كان فتيان ممن تخلف عنهم بمكة سمارا يسمرون بذي طوى في القمر حتى يذهب الليل يتناشدون الأشعار و يتحدثون فبينا هم كذلك إذ سمعوا صوتا قريبا منهم و لا يرون القائل رافعا صوته يتغنى
أزاد الحنيفيون بدرا مصيبة قال الواقدي أنشدنيه و رواه لي عبد الله بن أبي عبيدة عن محمد بن عمار بن ياسر قال فاستمعوا الصوت فلا يرون أحدا فخرجوا في طلبه فلم يروا أحدا فخرجوا فزعين حتى جازوا الحجر فوجدوا مشيخة منهم جلة سمارا فأخبروهم الخبر فقالوا لهم إن كان ما تقولون فإن محمدا و أصحابه يسمون الحنيفية قال فلم يبق أحد من الفتيان الذين كانوا بذي طوى إلا وعك فما مكثوا إلا ليلتين أو ثلاثا حتى قدم الحيسمان الخزاعي بخبر أهل بدر و من قتل منهم فجعل يخبرهم فيقول قتل عتبة و شيبة ابنا ربيعة و قتل ابنا الحجاج و أبو البختري و زمعة بن الأسود قال و صفوان بن أمية في الحجر جالس يقول لا يعقل هذا شيئا مما يتكلم به سلوه عني فقالوا صفوان بن أمية لك به علم قال نعم هو ذاك في الحجر و لقد رأيت أباه و أخاه مقتولين و رأيت سهيل بن عمرو و النضر بن الحارث أسيرين رأيتهما مقرونين في الحبال . [ 151 ] قال الواقدي و بلغ النجاشي مقتل قريش و ما ظفر الله به رسوله فخرج في ثوبين أبيضين ثم جلس على الأرض و دعا جعفر بن أبي طالب و أصحابه فقال أيكم يعرف بدرا فأخبروه فقال أنا عارف بها قد رعيت الغنم في جوانبها هي من الساحل على بعض نهار و لكني أردت أن أتثبت منكم قد نصر الله رسوله ببدر فاحمدوا الله على ذلك فقال بطارقته أصلح الله الملك إن هذا شيء لم تكن تصنعه يريدون لبس البياض و الجلوس على الأرض فقال إن عيسى ابن مريم كان إذا حدثت له نعمة ازداد بها تواضعا . قال الواقدي فلما رجعت قريش إلى مكة قام فيهم أبو سفيان بن حرب فقال يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم و لا تنح عليهم نائحة و لا يندبهم شاعر و أظهروا الجلد و العزاء فإنكم إذا نحتم عليهم و بكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأكلكم ذلك عن عداوة محمد و أصحابه مع أن محمدا إن بلغه و أصحابه ذلك شمتوا بكم فتكون أعظم المصيبتين و لعلكم تدركون ثأركم فالدهن و النساء علي حرام حتى أغزو محمدا فمكثت قريش شهرا لا يبكيهم شاعر و لا تنوح عليهم نائحة . قال الواقدي و كان الأسود بن المطلب قد ذهب بصره و قد كمد على من قتل من ولده و كان يحب أن يبكي عليهم فتأبى عليه قريش ذلك فكان يقول لغلامه بين اليومين ويلك احمل معي خمرا و اسلك بي الفج الذي سلكه أبو حكيمة يعني زمعة ولده المقتول ببدر فيأتي به غلامه على الطريق عند ذلك الفج فيجلس فيسقيه الخمر [ 152 ] حتى ينتشي ثم يبكي على أبي حكيمة و إخوته ثم يحثي التراب على رأسه و يقول لغلامه ويحك اكتم علي فإني أكره أن تعلم بي قريش إني أراها لم تجمع البكاء على قتلاها . قال الواقدي حدثني مصعب بن ثابت عن عيسى بن معمر عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت قالت قريش حين رجعوا إلى مكة لا تبكوا على قتلاكم فيبلغ محمدا و أصحابه فيشمتوا بكم و لا تبعثوا في أسراكم فيأرب بكم القوم ألا فأمسكوا عن البكاء . قال و كان الأسود بن المطلب أصيب له ثلاثة من ولده زمعة و عقيل و الحارث بن زمعة فكان يحب أن يبكي على قتلاه فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلامه و قد ذهب بصره انظر هل بكت قريش على قتلاها لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة فإن جوفي قد احترق فذهب الغلام و رجع إليه فقال إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلته فقال الأسود
تبكي أن يضل لها بعير [ 153 ]
على بدر سراة بني هصيص قال الواقدي و مشت نساء من قريش إلى هند بنت عتبة فقلن أ لا تبكين على أبيك و أخيك و عمك و أهل بيتك فقالت حلأني أن أبكيهم فيبلغ محمدا و أصحابه فيشمتوا بنا و نساء بني الخزرج لا و الله حتى أثأر محمدا و أصحابه و الدهن علي حرام إن دخل رأسي حتى نغزو محمدا و الله لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت و لكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة فمكثت على حالها لا تقرب الدهن و لا قربت فراش أبي سفيان من يوم حلفت حتى كانت وقعة أحد . قال الواقدي و بلغ نوفل بن معاوية الديلي و هو في أهله و قد كان شهد معهم بدرا أن قريشا بكت على قتلاها فقدم مكة فقال يا معشر قريش لقد خفت أحلامكم و سفه رأيكم و أطعتم نساءكم أ مثل قتلاكم يبكى عليهم هم أجل من البكاء مع أن ذلك يذهب غيظكم عن عداوة محمد و أصحابه فلا ينبغي أن يذهب الغيظ عنكم إلا أن تدركوا ثأركم من عدوكم فسمع أبو سفيان بن حرب كلامه فقال يا أبا معاوية غلبت و الله ما ناحت امرأة من بني عبد شمس على قتيل لها إلى اليوم و لا بكاهم شاعر إلا نهيته حتى ندرك ثأرنا من محمد و أصحابه و إني لأنا الموتور الثائر قتل ابني حنظلة و سادة أهل هذا الوادي أصبح هذا الوادي مقشعرا لفقدهم . قال الواقدي و حدثني معاذ بن محمد الأنصاري عن عاصم بن عمر بن قتادة قال لما رجع المشركون إلى مكة و قد قتل صناديدهم و أشرافهم أقبل عمير بن وهب بن عمير الجمحي حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحجر فقال صفوان بن أمية قبح العيش [ 154 ] بعد قتلى بدر قال عمير بن وهب أجل و الله ما في العيش بعدهم خير و لو لا دين علي لا أجد له قضاء و عيال لا أدع لهم شيئا لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق فإن لي عندهم علة أقول قدمت على ابني هذا الأسير ففرح صفوان بقوله و قال يا أبا أمية و هل نراك فاعلا قال إي و رب هذه البنية قال صفوان فعلي دينك و عيالك أسوة عيالي فأنت تعلم أنه ليس بمكة رجل أشد توسعا على عياله مني قال عمير قد عرفت ذلك يا أبا وهب قال صفوان فإن عيالك مع عيالي لا يسعني شيء و نعجز عنهم و دينك علي فحمله صفوان على بعيره و جهزه و أجرى على عياله مثل ما يجري على عيال نفسه و أمر عمير بسيفه فشحذ و سم ثم خرج إلى المدينة و قال لصفوان اكتم علي أياما حتى أقدمها و خرج فلم يذكره صفوان و قدم عمير فنزل على باب المسجد و عقل راحلته و أخذ السيف فتقلده ثم عمد نحو رسول الله ص و عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون و يذكرون نعمة الله عليهم في بدر فرأى عميرا و عليه السيف ففزع عمر منه و قال لأصحابه دونكم الكلب هذا عمير بن وهب عدو الله الذي حرش بيننا يوم بدر و حزرنا للقوم و صعد فينا و صوب يخبر قريشا أنه لا عدد لنا و لا كمين فقاموا إليه فأخذوه فانطلق عمر إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله هذا عمير بن وهب قد دخل المسجد و معه السلاح و هو الغادر الخبيث الذي لا يؤمن على شيء فقال النبي ص أدخله علي فخرج عمر فأخذ بحمائل سيفه فقبض بيده عليها و أخذ بيده الأخرى قائم السيف ثم أدخله على رسول الله ص فلما رآه قال يا عمر تأخر عنه فلما دنا عمير إلى النبي ص قال أنعم صباحا فقال له النبي ص قد أكرمنا الله عن تحيتك و جعل تحيتنا السلام و هي تحية أهل الجنة قال عمير إن عهدك بها لحديث فقال النبي ص قد أبدلنا [ 155 ] الله خيرا فما أقدمك يا عمير قال قدمت في أسيري عندكم تفادونه و تقاربوننا فيه فإنكم العشيرة و الأصل قال النبي ص فما بال السيف قال عمير قبحها الله من سيوف و هل أغنت من شيء إنما نسيته حين نزلت و هو في رقبتي و لعمري إن لي لهما غيره فقال رسول الله ص اصدق يا عمير ما الذي أقدمك قال ما قدمت إلا في أسيري قال ص فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر ففزع عمير و قال ما ذا شرطت له قال تحملت بقتلي على أن يقضي دينك و يعول عيالك و الله حائل بينك و بين ذلك قال عمير أشهد أنك صادق و أشهد أن لا إله إلا الله كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي و بما يأتيك من السماء و إن هذا الحديث كان بيني و بين صفوان كما قلت لم يطلع عليه غيره و غيري و قد أمرته أن يكتمه ليالي فأطلعك الله عليه فآمنت بالله و رسوله و شهدت أن ما جئت به حق الحمد لله الذي ساقني هذا المساق و فرح المسلمون حين هداه الله و قال عمر بن الخطاب لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع و هو الساعة أحب إلي من بعض ولدي و قال النبي ص علموا أخاكم القرآن و أطلقوا له أسيره فقال عمير يا رسول الله إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله فله الحمد أن هداني فأذن لي فألحق قريشا فأدعوهم إلى الله و إلى الإسلام فلعل الله يهديهم و يستنقذهم من الهلكة فأذن له فخرج فلحق بمكة و كان صفوان يسأل عن عمير بن وهب كل راكب يقدم من المدينة يقول هل حدث بالمدينة من حدث و يقول لقريش أبشروا بوقعة تنسيكم وقعة بدر فقدم رجل من المدينة فسأله صفوان عن عمير فقال أسلم فلعنه صفوان و لعنه المشركون بمكة و قالوا صبأ عمير و حلف صفوان ألا يكلمه أبدا و لا ينفعه و طرح عياله و قدم عمير فنزل في أهله و لم يأت صفوان و أظهر الإسلام فبلغ صفوان فقال قد عرفت حين لم يبدأ بي قبل منزله و قد كان رجل [ 156 ] أخبرني أنه ارتكس لا أكلمه من رأسي أبدا و لا أنفعه و لا عياله بنافعة أبدا فوقع عليه عمير و هو في الحجر فقال يا أبا وهب فأعرض صفوان عنه فقال عمير أنت سيد من ساداتنا أ رأيت الذي كنا عليه من عبادة حجر و الذبح له أ هذا دين أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله فلم يجبه صفوان بكلمة و أسلم مع عمير بشر كثير . قال الواقدي و كان فتية من قريش خمسة قد أسلموا فاحتبسهم آباؤهم فخرجوا مع أهلهم و قومهم إلى بدر و هم على الشك و الارتياب لم يخلصوا إسلامهم و هم قيس بن الوليد بن المغيرة و أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة و الحارث بن زمعة بن الأسود و علي بن أمية بن خلف و العاص بن منبه بن الحجاج فلما قدموا بدرا و رأوا قلة أصحاب النبي ص قالوا غر هؤلاء دينهم ففيهم أنزل إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ثم أنزل فيهم إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها إلى تمام ثلاث آيات . قال فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من أقام بمكة مسلما فقال جندب بن ضمرة الخزاعي لا عذر لي و لا حجة في مقامي بمكة و كان مريضا فقال لأهله أخرجوني لعلي أجد روحا قالوا أي وجه أحب إليك قال نعم التنعيم فخرجوا به إلى التنعيم و بين التنعيم و مكة أربعة أميال من طريق المدينة فقال اللهم إني خرجت إليك مهاجرا فأنزل الله تعالى وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ الآية فلما رأى ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج خرجوا فطلبهم أبو سفيان في رجال من المشركين [ 157 ] فردوهم و سجنوهم فافتتن منهم ناس و كان الذين افتتنوا إنما افتتنوا حين أصابهم البلاء فأنزل الله تعالى فيهم وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذابِ اَللَّهِ الآية و ما بعدها فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من كان بمكة مسلما فلما جاءهم الكتاب بما أنزل فيهم قالوا اللهم إن لك علينا إن أفلتنا ألا نعدل بك أحدا فخرجوا الثانية فطلبهم أبو سفيان و المشركون فأعجزوهم هربا في الجبال حتى قدموا المدينة و اشتد البلاء على من ردوا من المسلمين فضربوهم و آذوهم و أكرهوهم على ترك الإسلام و رجع ابن أبي سرح مشركا فقال لقريش ما كان يعلم محمدا إلا ابن قمطة عبد نصراني لقد كنت أكتب له فأحول ما أردت فأنزل الله تعالى وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ الآية |