أقوال حكيمة في وصف الدنيا و فناء الخلق

و اعلم أنا قدمنا في وصف الدنيا و الفناء و الموت من محاسن كلام الصالحين و الحكماء ما فيه الشفاء و نذكر الآن أشياء آخر . فمن كلام الحسن البصري يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة فإذا مضى يوم مضى بعضك . عن بعض الحكماء رحم الله امرأ لا يغره ما يرى من كثرة الناس فإنه يموت وحده و يقبر وحده و يحاسب وحده . و قال بعضهم لا وجه لمقاساة الهموم لأجل الدنيا و لا الاعتداد بشي‏ء من متاعها و لا التخلي منها أما ترك الاهتمام لها فمن جهة أنه لا سبيل إلى دفع الكائن من مقدورها و أما ترك الاعتداد بها فإن مرجع كل أحد إلى تركها و أما ترك التخلي عنها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها . و من كلام بعض الحكماء أفضل اختيار الإنسان ما توجه به إلى الآخرة و أعرض به عن الدنيا و قد تقدمت الحجة و أذنا بالرحيل و لنا من الدنيا على الدنيا دليل و إنما أحدنا في مدة بقائه صريع لمرض أو مكتئب بهم أو مطروق بمصيبة أو مترقب لمخوف لا يأمن المرء أصناف لذته من المطعوم و المشروب أن يكون موته فيه و لا يأمن مملوكه

[ 92 ]

و جاريته أن يقتلاه بحديد أو سم و هو مع ذلك عاجز عن استدامة سلامة عقله من زوال و سمعه من صمم و بصره من عمى و لسانه من خرس و سائر جوارحه من زمانة و نفسه من تلف و ماله من بوار و حبيبه من فراق و كل ذلك يشهد شهادة قطعية أنه فقير إلى ربه ذليل في قبضته محتاج إليه لا يزال المرء بخير ما حاسب نفسه و عمر آخرته بتخريب دنياه و إذا اعترضته بحار المكاره جعل معابرها الصبر و التأسي و لم يغتر بتتابع النعم و إبطاء حلول النقم و أدام صحبة التقي و فطم النفس عن الهوى فإنما حياته كبضاعة ينفق من رأس المال منها و لا يمكنه أن يزيد فيها و مثل ذلك يوشك فناؤه و سرعة زواله . و قال أبو العتاهية في ذكر الموت

ستباشر الترباء خدك
و سيضحك الباكون بعدك
و لينزلن بك البلى
و ليخلفن الموت عهدك
و ليفنينك مثل ما
أفنى أباك بلى و جدك
لو قد رحلت عن القصور
و طيبها و سكنت لحدك
لم تنتفع إلا بفعل
صالح قد كان عندك

[ 93 ]

و ترى الذين قسمت مالك
بينهم حصصا و كدك
يتلذذون بما جمعت
لهم و لا يجدون فقدك

وَ اِعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَ إِنْ كَانَ وَاقِفاً وَ يَقْطَعُ اَلْمَسَافَةَ وَ إِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً وَ اِعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ وَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ وَ أَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ فَخَفِّضْ فِي اَلطَّلَبِ وَ أَجْمِلْ فِي اَلْمُكْتَسَبِ فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ وَ لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ وَ لاَ كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ وَ أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَ إِنْ سَاقَتْكَ إِلَى اَلرَّغَائِبِ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً وَ لاَ تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَ قَدْ جَعَلَكَ اَللَّهُ حُرّاً وَ مَا خَيْرُ خَيْرٍ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِشَرٍّ وَ يُسْرٍ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِعُسْرٍ وَ إِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا اَلطَّمَعِ فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ اَلْهَلَكَةِ وَ إِنِ اِسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ وَ آخِذٌ سَهْمَكَ وَ إِنَّ اَلْيَسِيرَ مِنَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ وَ أَعْظَمُ أَعْظَمُ وَ أَكْرَمُ مِنَ اَلْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ

[ 94 ]

مثل الكلمة الأولى قول بعض الحكماء و

قد نسب أيضا إلى أمير المؤمنين ع أهل الدنيا كركب يسار بهم و هم نيام . قوله فخفضن في الطلب من

قول رسول الله ص إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فأجملوا في الطلب . و قال الشاعر

ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله
عوضا و لو نال الغنى بسؤال
و إذا النوال إلى السؤال قرنته
رجح السؤال و خف كل نوال

و قال آخر

رددت رونق وجهي عن صحيفته
رد الصقال بهاء الصارم الخذم
و ما أبالي و خير القول أصدقه
حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي

و قال آخر

و إني لأختار الزهيد على الغنى
و أجزأ بالمال القراح عن المحض
و أدرع الإملاق صبرا و قد أرى
مكان الغنى كي لا أهين له عرضي

و قال أبو محمد اليزيدي في المأمون

أبقى لنا الله الإمام و زاده
شرفا إلى الشرف الذي أعطاه
و الله أكرمنا بأنا معشر
عتقاء من نعم العباد سواه

و قال آخر

كيف النهوض بما أوليت من حسن
أم كيف أشكر ما طوقت من نعم

[ 95 ]

ملكتني ماء وجه كاد يسكبه
ذل السؤال و لم تفجع به هممي

و قال آخر

لا تحرصن على الحطام فإنما
يأتيك رزقك حين يؤذن فيه
سبق القضاء بقدره و زمانه
و بأنه يأتيك أو يأتيه

و كان يقال ما استغنى أحد بالله إلا افتقر الناس إليه . و قال رجل في مجلس فيه قوم من أهل العلم لا أدري ما يحمل من يوقن بالقدر على الحرص على طلب الرزق فقال له أحد الحاضرين يحمله القدر فسكت . أقول لو كنت حاضرا لقلت لو حمله القدر لما نهاه العقلاء عن الحرص و لما مدحوه على العفة و القناعة فإن عاد و قال و أولئك ألجأهم القدر إلى المدح و الذم و الأمر و النهي فقد جعل نفسه و غيره من الناس بل من جميع الحيوانات بمنزلة الجمادات التي يحركها غيرها و من بلغ إلى هذا الحد لا يكلم . و قال الشاعر

أراك تزيدك الأيام حرصا
على الدنيا كأنك لا تموت
فهل لك غاية إن صرت يوما
إليها قلت حسبي قد رضيت

أبو العتاهية

أي عيش يكون أطيب من عيش
كفاف قوت بقدر البلاغ
قمرتني الأيام عقلي و مالي
و شبابي و صحتي و فراغي

و أوصى بعض الأدباء ابنه فكتب إليه

[ 96 ]

كن حسن الظن برب خلقك
بني و احمده على ما رزقك
و اعلم بأن الحرص يطفي رونقك
فجانب الحرص و حسن خلقك
و اصدق و صادق أبدا من صدقك
دار معاديك و مق من ومقك
و اجعل لأعدائك حزما ملقك
و جنبن حشو الكلام منطقك
هذي وصاة والد قد عشقك
وصاة من يقلقه ما أقلقك
أرشدك الله لها و وفقك

أبو العتاهية

أجل الغنى مما يؤمل أسرع
و أراك تجمع دائما لا تشبع
قل لي لمن أصبحت تجمع دائبا
أ لبعل عرسك لا أبا لك تجمع

و أوصى زياد ابنه عبيد الله عند موته فقال لا تدنسن عرضك و لا تبذلن وجهك و لا تخلقن جدتك بالطلب إلى من إن ردك كان رده عليك عيبا و إن قضى حاجتك جعلها عليك منا و احتمل الفقر بالتنزه عما في أيدي الناس و الزم القناعة بما قسم لك فإن سوء عمل الفقير يضع الشريف و يخمل الذكر و يوجب الحرمان : وَ تَلاَفِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ وَ حِفْظُ مَا فِي اَلْوِعَاءِ بِشَدِّ اَلْوِكَاءِ وَ حِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ وَ مَرَارَةُ اَلْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ اَلطَّلَبِ إِلَى اَلنَّاسِ وَ اَلْحِرْفَةُ مَعَ اَلْعِفَّةَ خَيْرٌ مِنَ اَلْغِنَى مَعَ اَلْفُجُورِ وَ اَلْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ وَ رُبَّ سَاعٍ فِيمَا يَضُرُّهُ

[ 97 ]

مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ وَ مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ قَارِنْ أَهْلَ اَلْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ وَ بَايِنْ أَهْلَ اَلشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ بِئْسَ اَلطَّعَامُ اَلْحَرَامُ وَ ظُلْمُ اَلضَّعِيفِ أَفْحَشُ اَلظُّلْمِ إِذَا كَانَ اَلرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ اَلْخُرْقُ رِفْقاً رُبَّمَا كَانَ اَلدَّوَاءُ دَاءً وَ اَلدَّاءُ دَوَاءً وَ رُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ اَلنَّاصِحِ وَ غَشَّ اَلْمُسْتَنْصَحُ وَ إِيَّاكَ وَ اَلاِتِّكَالَ عَلَى اَلْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ اَلنَّوْكَى وَ اَلْعَقْلُ حِفْظُ اَلتَّجَارِبِ وَ خَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ بَادِرِ اَلْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ وَ لاَ كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ وَ مِنَ اَلْفَسَادِ إِضَاعَةُ اَلزَّادِ وَ مَفْسَدَةُ اَلْمَعَادِ وَ لِكُلِّ أَمْرٍ عَاقِبَةٌ سَوْفَ يَأْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ اَلتَّاجِرُ مُخَاطِرٌ وَ رُبَّ يَسِيرٍ أَنْمَى مِنْ كَثِيرٍ هذا الكلام قد اشتمل على أمثال كثيرة حكمية . أولها قوله تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك و هذا مثل قولهم أنت قادر على أن تجعل صمتك كلاما و لست بقادر على أن تجعل كلامك صمتا و هذا حق لأن الكلام يسمع و ينقل فلا يستطاع إعادته صمتا و الصمت عدم الكلام فالقادر على الكلام قادر على أن يبدله بالكلام و ليس الصمت بمنقول و لا مسموع فيتعذر استدراكه .

[ 98 ]

و ثانيها قوله حفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في أيدي غيرك هذا مثل قولهم في المثل البخل خير من سؤال البخيل و ليس مراد أمير المؤمنين ع وصايته بالإمساك و البخل بل نهيه عن التفريط و التبذير قال الله تعالى وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً و أحمق الناس من أضاع ماله اتكالا على مال الناس و ظنا أنه يقدر على الاستخلاف قال الشاعر

إذا حدثتك النفس أنك قادر
على ما حوت أيدي الرجال فكذب

و ثالثها قوله مرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس من هذا أخذ الشاعر قوله

و إن كان طعم اليأس مرا فإنه
ألذ و أحلى من سؤال الأراذل

و قال البحتري

و اليأس إحدى الراحتين و لن ترى
تعبا كظن الخائب المغرور

و رابعها قوله الحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور و الحرفة بالكسر مثل الحرف بالضم و هو نقصان الحظ و عدم المال و منه قوله رجل محارف بفتح الراء يقول لأن يكون المرء هكذا و هو عفيف الفرج و اليد خير من الغنى مع الفجور و ذلك لأن ألم الحرفة مع العفة و مشقتها إنما هي في أيام قليلة و هي أيام العمر و لذة الغنى إذا كان مع الفجور ففي مثل تلك الأيام يكون و لكن يستعقب عذابا طويلا فالحال الأولى خير لا محالة و أيضا ففي الدنيا خير أيضا للذكر الجميل فيها و الذكر القبيح في الثانية و للمحافظة على المروءة في الأولى و سقوط المروءة في الثانية .

[ 99 ]

و خامسها قوله المرء أحفظ لسره أي الأولى ألا تبوح بسرك إلى أحد فأنت أحفظ له من غيرك فإن أذعته فانتشر فلا تلم إلا نفسك لأنك كنت عاجزا عن حفظ سر نفسك فغيرك عن حفظ سرك و هو أجنبي أعجز قال الشاعر

إذا ضاق أصدر المرء عن حفظ سره
فصدر الذي يستودع السر أضيق

و سادسها قوله رب ساع فيما يضره قال عبد الحميد الكاتب في كتابه إلى أبي مسلم لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا . و سابعها قوله من أكثر أهجر يقال أهجر الرجل إذا أفحش في المنطق السوء و الخنى قال الشماخ

كماجدة الأعراق قال ابن ضرة
عليها كلاما جار فيه و أهجرا

و هذا مثل قولهم من كثر كلامه كثر سقطه و قالوا أيضا قلما سلم مكثار أو أمن من عثار . و ثامنها قوله من تفكر أبصر قالت الحكماء الفكر تحديق العقل نحو المعقول كما أن النظر البصري تحديق البصر نحو المحسوس و كما أن من حدق نحو المبصر و حدقته صحيحة و الموانع مرتفعة لا بد أن يبصره كذلك من نظر بعين عقله و أفكر فكرا صحيحا لا بد أن يدرك الأمر الذي فكر فيه و يناله . و تاسعها قوله قارن أهل الخير تكن معهم و باين أهل الشر تبن عنهم كأن يقال حاجبك وجهك و كاتبك لسانك و جليسك كلك و قال الشاعر

عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن مقتد

[ 100 ]

و عاشرها قوله بئس الطعام الحرام هذا من قوله تعالى إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى‏ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً . و حادي عشرها قوله ظلم الضعيف أفحش الظلم رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاما فقال يا بني كيف لا يسع حلمك من تضربه فلا يمتنع منك و أمر المأمون بإشخاص الخطابي القاص من البصرة فلما مثل بين يديه قال له يا سليمان أنت القائل العراق عين الدنيا و البصرة عين العراق و المربد عين البصرة و مسجدي عين المربد و أنا عين مسجدي و أنت أعور فإن عين الدنيا عوراء قال يا أمير المؤمنين لم أقل ذاك و لا أظن أمير المؤمنين أحضرني لذلك قال بلغني أنك أصبحت فوجدت على سارية من سواري مسجدك

رحم الله عليا
إنه كان تقيا

فأمرت بمحوه قال يا أمير المؤمنين كان و لقد كان نبيا فأمرت بإزالته فقال كذبت كانت القاف أصح من عينك الصحيحة ثم قال و الله لو لا أن أقيم لك عند العامة سوقا لأحسنت تأديبك قال يا أمير المؤمنين قد ترى ما أنا عليه من الضعف و الزمانة و الهرم و قلة البصر فإن عاقبتني مظلوما فاذكر

قول ابن عمك علي ع ظلم الضعيف أفحش الظلم و إن عاقبتني بحق فاذكر أيضا

قوله لكل شي‏ء رأس و الحلم رأس السؤدد فنهض المأمون من مجلسه و أمر برده إلى البصرة و لم يصله بشي‏ء و لم يحضر أحد قط مجلس المأمون إلا وصله عدا الخطابي و ليس هذا هو المحدث الحافظ المشهور ذاك أبو سليمان أحمد بن محمد بن أحمد البستي كان في أيام المطيع و الطائع و هذا قاص بالبصرة كان يقال له أبو زكريا سليمان بن محمد البصري . و ثاني عاشرها قوله إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا يقول إذا كان استعمال

[ 101 ]

الرفق مفسدة و زيادة في الشر فلا تستعمله فإنه حينئذ ليس برفق بل هو خرق و لكن استعمل الخرق فإنه يكون رفقا و الحالة هذه لأن الشر لا يلقى إلا بشر مثله قال عمرو ابن كلثوم

ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا

و في المثل إن الحديد بالحديد يفلج . و قال زهير

و من لا يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم و من لا يظلم الناس يظلم

و قال أبو الطيب

و وضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى

و ثالث عشرها قوله و ربما كان الدواء داء و الداء دواء هذا مثل قول أبي الطيب

ربما صحت الأجسام بالعلل

و مثله قول أبي نواس

و داوني بالتي كانت هي الداء

و مثل قول الشاعر

تداويت من ليلى بليلى فلم يكن
دواء و لكن كان سقما مخالفا

و رابع عشرها قوله ربما نصح غير الناصح و غش المستنصح كان المغيرة بن شعبة يبغض عليا ع منذ أيام رسول الله ص و تأكدت

[ 102 ]

بغضته إلى أيام أبي بكر و عثمان و عمر و أشار عليه يوم بويع بالخلافة أن يقر معاوية على الشام مدة يسيرة فإذا خطب له بالشام و توطأت دعوته دعاه إليه كما كان عمر و عثمان يدعوانه إليهما و صرفه فلم يقبل و كان ذلك نصيحة من عدو كاشح . و استشار الحسين ع عبد الله بن الزبير و هما بمكة في الخروج عنها و قصد العراق ظانا أنه ينصحه فغشه و قال له لا تقم بمكة فليس بها من يبايعك و لكن دونك العراق فإنهم متى رأوك لم يعدلوا بك أحدا فخرج إلى العراق حتى كان من أمره ما كان . و خامس عشرها قوله إياك و الاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى جمع أنوك و هو الأحمق من هذا أخذ أبو تمام قوله

من كان مرعى عزمه و همومه
روض الأماني لم يزل مهزولا

و من كلامهم ثلاثة تخلق العقل و هو أوضح دليل على الضعف طول التمني و سرعة الجواب و الاستغراب في الضحك و كان يقال التمني و الحلم سيان و قال آخر شرف الفتى ترك المنى . و سادس عشرها قوله العقل حفظ التجارب من هذا أخذ المتكلمون قولهم العقل نوعان غريزي و مكتسب فالغريزي العلوم البديهية و المكتسب ما أفادته التجربة و حفظته النفس . و سابع عشرها قوله خير ما جربت ما وعظك مثل هذا قول أفلاطون إذا لم تعظك التجربة فلم تجرب بل أنت ساذج كما كنت . و ثامن عشرها قوله بادر الفرصة قبل أن تكون غصة حضر عبيد الله بن زياد عند هانئ بن عروة عائدا و قد كمن له مسلم بن عقيل و أمره أن يقتله إذا جلس

[ 103 ]

و استقر فلما جلس جعل مسلم يؤامر نفسه و يريدها على الوثوب به فلم تطعه و جعل هانئ ينشد كأنه يترنم بالشعر

ما الانتظار بسلمى لا تحييها

و يكرر ذلك فأوجس عبيد الله خيفة و نهض فعاد إلى قصر الإمارة و فات مسلما منه ما كان يؤمله بإضاعة الفرصة حتى صار أمره إلى ما صار و تاسع عشرها قوله ليس كل طالب يصيب و لا كل غائب يثوب الأولى كقول القائل

ما كل وقت ينال المرء ما طلبا
و لا يسوغه المقدار ما وهبا

و الثانية كقول عبيد

و كل ذي غيبة يئوب
و غائب الموت لا يئوب

العشرون قوله من الفساد إضاعة الزاد و مفسدة المعاد و لا ريب أن من كان في سفر و أضاع زاده و أفسد الحال التي يعود إليها فإنه أحمق و هذا مثل ضربه للإنسان في حالتي دنياه و آخرته . الحادي و العشرون قوله و لكل أمر عاقبة هذا مثل المثل المشهور لكل سائلة قرار . الثاني و العشرون قوله سوف يأتيك ما قدر لك هذا من

قول رسول الله ص و إن يقدر لأحدكم رزق في قبة جبل أو حضيض بقاع يأته . الثالث و العشرون قوله التاجر مخاطر هذا حق لأنه يتعجل بإخراج الثمن و لا يعلم هل يعود أم لا و هذا الكلام ليس على ظاهره بل له باطن و هو أن من مزج الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة مثل قوله خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً

[ 104 ]

فإنه مخاطر لأنه لا يأمن أن يكون بعض تلك السيئات تحبط أعماله الصالحة كما لا يأمن أن يكون بعض أعماله الصالحة يكفر تلك السيئات و المراد أنه لا يجوز للمكلف أن يفعل إلا الطاعة أو المباح . الرابع و العشرون قوله رب يسير أنمى من كثير قد جاء في الأثر قد يجعل الله من القليل الكثير و يجعل من الكثير البركة و قال الفرزدق

فإن تميما قبل أن يلد الحصى
أقام زمانا و هو في الناس واحد

و قال أبو عثمان الجاحظ رأينا بالبصرة أخوين كان أبوهما يحب أحدهما و يبغض الآخر فأعطى محبوبه يوم موته كل ماله و كان أكثر من مائتي ألف درهم و لم يعط الآخر شيئا و كان يتجر في الزيت و يكتسب منه ما يصرفه في نفقة عياله ثم رأينا أولاد الأخ الموسر بعد موت الأخوين من عائلة ولد الأخ المعسر يتصدقون عليهم من فواضل أرزاقهم : لاَ خَيْرَ فِي مُعِينٍ مُهِينٍ مَهِينٍ وَ لاَ فِي صَدِيقٍ ظَنِينٍ سَاهِلِ اَلدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ وَ لاَ تُخَاطِرْ بِشَيْ‏ءٍ رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَ إِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اَللَّجَاجِ اِحْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى اَلصِّلَةِ وَ عِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اَللُّطْفِ وَ اَلْمُقَارَبَةِ وَ عِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى اَلْبَذْلِ وَ عِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى اَلدُّنُوِّ وَ عِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اَللِّينِ وَ عِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى اَلْعُذْرِ حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ وَ كَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ

[ 105 ]

وَ إِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ لاَ تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ وَ اِمْحَضْ أَخَاكَ اَلنَّصِيحَةَ حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَةً وَ تَجَرَّعِ اَلْغَيْظَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً وَ لاَ أَلَذَّ مَغَبَّةً وَ لِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ وَ خُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فَإِنَّهُ أَحَدُ أَحْلَى اَلظَّفَرَيْنِ وَ إِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبِقْ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذَلِكَ يَوْماً مَا وَ مَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ وَ لاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اِتِّكَالاً عَلَى مَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ وَ لاَ يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى اَلْخَلْقِ بِكَ وَ لاَ تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ عَنْكَ وَ لاَ يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ وَ لاَ تَكُونَنَّ عَلَى اَلْإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى اَلْإِحْسَانِ وَ لاَ يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَ نَفْعِكَ وَ لَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ هذا الفصل قد اشتمل على كثير من الأمثال الحكمية . فأولها قوله لا خير في معين مهين و لا في صديق ظنين مثل الكلمة الأولى قولهم

إذا تكفيت بغير كاف
وجدته للهم غير شاف

و من الكلمة الثانية أخذ الشاعر قوله

فإن من الإخوان من شحط النوى
به و هو راع للوصال أمين
و منهم صديق العين أما لقاؤه
فحلو و أما غيبه فظنين

[ 106 ]

و ثانيها قوله ساهل الدهر ما ذلك لك قعوده هذا استعارة و القعود البكر حين يمكن ظهره من الركوب إلى أن يثني و مثل هذا المعنى قولهم في المثل من ناطح الدهر أصبح أجم . و مثله

و در مع الدهر كيفما دارا

و مثله

و من قامر الأيام عن ثمراتها
فأحر بها أن تنجلي و لها القمر

و مثله

إذا الدهر أعطاك العنان فسر به
رويدا و لا تعنف فيصبح شامسا

و ثالثها قوله لا تخاطر بشي‏ء رجاء أكثر منه هذا مثل قولهم من طلب الفضل حرم الأصل . و رابعها قوله إياك و أن تجمح بك مطية اللجاج هذا استعارة و في المثل ألج من خنفساء و ألج من زنبور و كان يقال اللجاج من القحة و القحة من قلة الحياء و قلة الحياء من قلة المروءة و في المثل لج صاحبك فحج . و خامسها قوله احمل نفسك من أخيك إلى قوله أو تفعله بغير أهله اللطف بفتح اللام و الطاء الاسم من ألطفه بكذا أي بره به و جاءتنا لطفة من فلان أي هدية و الملاطفة المبارة و روي عن اللطف و هو الرفق للأمر و المعنى أنه أوصاه إذا قطعه أخوه أن يصله و إذا جفاه أن يبره و إذا بخل عليه أن يجود عليه إلى آخر الوصاة . ثم قال له لا تفعل ذلك مع غير أهله قال الشاعر

[ 107 ]

و أن الذي بيني و بين بني أبي
و بين بني أمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
و إن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
و إن زجروا طيرا بنحس تمر بي
زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا
و لا أحمل الحقد القديم عليهم
و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

و قال الشاعر

إني و إن كان ابن عمي كاشحا
لمقاذف من خلفه و ورائه
و مفيده نصري و إن كان امرأ
متزحزحا في أرضه و سمائه
و أكون والي سره و أصونه
حتى يحق علي وقت أدائه
و إذا الحوادث أجحفت بسوامه
قرنت صحيحتنا إلى جربائه
و إذا دعا باسمي ليركب مركبا
صعبا قعدت له على سيسائه
و إذا أجن فليقة في خدره
لم أطلع مما وراء خبائه
و إذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل
يا ليت أن علي فضل ردائه

و سادسها قوله لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك قد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا قال بعضهم

إذا صافى صديقك من تعادي
فقد عاداك و انقطع الكلام

و قال آخر

صديق صديقي داخل في صداقتي
و خصم صديقي ليس لي بصديق

و قال آخر

تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك إن الرأي عنك لعازب

[ 108 ]

و سابعها قوله و امحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة ليس يعني ع بقبيحة هاهنا القبيح الذي يستحق به الذم و العقاب و إنما يريد نافعة له في العاجل كانت أو ضارة له في الأجل فعبر عن النفع و الضرر بالحسن و القبيح كقوله تعالى وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ . و قد فسره قوم فقالوا أراد كانت نافعة لك أو ضارة لك و يحتمل تفسير آخر و هو وصيته إياه أن يمحض أخاه النصيحة سواء كانت مما لا يستحيا من ذكرها و شياعها أو كانت مما يستحيا من ذكرها و استفاضتها بين الناس كمن ينصح صديقه في أهله و يشير عليه بفراقهم لفجور اطلع عليه منهم فإن الناس يسمون مثل هذا إذا شاع قبيحا . و ثامنها قوله تجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة و لا ألذ مغبة هذا مثل قولهم الحلم مرارة ساعة و حلاوة الدهر كله و كان يقال التذلل للناس مصايد الشرف .

قال المبرد في الكامل أوصى علي بن الحسين ابنه محمد بن علي ع فقال يا بني عليك بتجرع الغيظ من الرجال فإن أباك لا يسره بنصيبه من تجرع الغيظ من الرجال حمر النعم و الحلم أعز ناصرا و أكثر عددا . و تاسعها قوله لن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك هذا مثل المثل المشهور إذا عز أخوك فهن و الأصل في هذا قوله تعالى اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . و عاشرها قوله خذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين هذا معنى مليح و منه قول ابن هانئ في المعز

[ 109 ]

ضراب هام الروم منتقما و في
أعناقهم من جوده أعباء
لو لا انبعاث السيف و هو مسلط
في قتلهم قتلتهم النعماء

و كنت كاتبا بديوان الخلافة و الوزير حينئذ نصير الدين أبو الأزهر أحمد بن الناقد رحمه الله فوصل إلى حضرة الديوان في سنة اثنتين و ثلاثين و ستمائة محمد بن محمد أمير البحرين على البر ثم وصل بعده الهرمزي صاحب هرمز في دجلة بالمراكب البحرية و هرمز هذه فرضة في البحر نحو عمان و امتلأت بغداد من عرب محمد بن محمد و أصحاب الهرمزي و كانت تلك الأيام أياما غراء زاهرة لما أفاض المستنصر على الناس من عطاياه و الوفود تزدحم من أقطار الأرض على أبواب ديوانه فكتبت يوم دخول الهرمزي إلى الوزير أبياتا سنحت على البديهة و أنا متشاغل بما كنت فيه من مهام الخدمة و كان رحمه الله لا يزال يذكرها و ينشدها و يستحسنها

يا أحمد بن محمد أنت الذي
علقت يداه بأنفس الأعلاق
ما أملت بغداد قبلك أن ترى
أبدا ملوك البحر في الأسواق
ولهوا عليها غيرة و تنافسوا
شغفا بها كتنافس العشاق
و غدت صلاتك في رقاب سراتهم
و نداك كالأطواق في الأعناق
بسديد رأيك أصلحت جمحاتهم
و تألفوا من بعد طول شقاق
لله همه ماجد لم تعتلق
بسحيل آراء و لا أحذاق
جلب السلاهب من أراك و بعدها
جلب المراكب من جزيرة واق
هذا العداء هو العداء فعد عن
قول ابن حجر في لأى و عناق
و أظنه و الظن علم أنه
سيجيئنا بممالك الآفاق
إما أسير صنيعة في جيده
بالجود غل أو أسير وثاق

[ 110 ]

لا زال في ظل الخليفة ما له
فان و سودده المعظم باق

و حادي عشرها قوله إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا ذلك له يوما هذا مثل قولهم أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما و أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما و ما كان يقال إذا هويت فلا تكن غاليا و إذا تركت فلا تكن قاليا . و ثاني عشرها قوله من ظن خيرا فصدق ظنه كثير من أرباب الهمم يفعلون هذا يقال لمن قد شدا طرفا من العلم هذا عالم هذا فاضل فيدعوه ما ظن فيه من ذلك إلى تحقيقه فيواظب على الاشتغال بالعلم حتى يصير عالما فاضلا حقيقة و كذلك يقول الناس هذا كثير العبادة هذا كثير الزهد لمن قد شرع في شي‏ء من ذلك فتحمله أقوال الناس على الالتزام بالزهد و العبادة . و ثالث عشرها قوله و لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك و بينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه من هذا النحو قول الشاعر .

إذا خنتم بالغيب عهدي فما لكم
تدلون إدلال المقيم على العهد
صلوا و افعلوا فعل المدل بوصله
و إلا فصدوا و افعلوا فعل ذي الصدى

و كان يقال إضاعة الحقوق داعية العقوق . و رابع عشرها قوله لا ترغبن فيمن زهد فيك الرغبة في الزاهد هي الداء العياء قال العباس بن الأحنف

ما زلت أزهد في مودة راغب
حتى ابتليت برغبة في زاهد
هذا هو الداء الذي ضاقت به
حيل الطبيب و طال يأس العائد

[ 111 ]

و قد قال الشعراء المتقدمون و المتأخرون فأكثروا نحو قولهم

و في الناس إن رثت حبالك واصل
و في الأرض عن دار القلى متحول

و قول تأبط شرا

إني إذا خلة ضنت بنائلها
و أمسكت بضعيف الحبل أحذاقي
نجوت منها نجائي من بجيلة إذ
ألقيت ليلة خبت الرهط أرواقي

و خامس عشرها قوله لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته و لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان هذا أمر له بأن يصل من قطعه و أن يحسن إلى من أساء إليه . ظفر المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بكتب قد كتبها محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ع إلى أهل الكرخ و غيرهم من أعمال أصفهان يدعوهم فيها إلى نفسه فأحضرها بين يديه و دفعها إليه و قال له أ تعرف هذه فأطرق خجلا فقال له أنت آمن و قد وهبت هذا الذنب لعلي و فاطمة ع فقم إلى منزلك و تخير ما شئت من الذنوب فإنا نتخير لك مثل ذلك من العفو . و سادس عشرها قوله لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنه يسعى في مضرته و نفعك و ليس جزاء من سرك أن تسوءه

جاء في الخبر المرفوع إنه ص سمع عائشة تدعو على من سرق عقدا لها فقال لها لا تمسحي عنه بدعائك أي لا تخففي عذابه و قوله ع و ليس جزاء من سرك أن تسوءه يقول لا تنتقم ممن ظلمك فإنه قد نفعك في الآخرة بظلمه لك و ليس جزاء من ينفع إنسانا أن يسي‏ء إليه و هذا مقام جليل

[ 112 ]

لا يقدر عليه إلا الأفراد من الأولياء الأبرار و قبض بعض الجبابرة على قوم صالحين فحبسهم و قيدهم فلما طال عليهم الأمر زفر بعضهم زفرة شديدة و دعا على ذلك الجبار فقال له بعض أولاده و كان أفضل أهل زمانه في العبادة و كان مستجاب الدعوة لا تدع عليه فتخفف عن عذابه قالوا يا فلان أ لا ترى ما بنا و بك لا يأنف ربك لنا قال إن لفلان مهبطا في النار لم يكن ليبلغه إلا بما ترون و إن لكم لمصعدا في الجنة لم تكونوا لتبلغوه إلا بما ترون قالوا فقد نال منا العذاب و الحديد فادع الله لنا أن يخلصنا و ينقذنا مما نحن فيه قال إني لأظن أني لو فعلت لفعل و لكن و الله لا أفعل حتى أموت هكذا فألقى الله فأقول له أي رب سل فلانا لم فعل بي هذا و من الناس من يجعل قوله ع و ليس جزاء من سرك أن تسوءه كلمة مفردة مستقلة بنفسها ليست من تمام الكلام الأول و الصحيح ما ذكرناه . و سابع عشرها و من حقه أن يقدم ذكره قوله و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك هذا كما يقال في المثل من شؤم الساحرة أنها أول ما تبدأ بأهلها و المراد من هذه الكلمة النهي عن قطيعة الرحم و إقصاء الأهل و حرمانهم و

في الخبر المرفوع صلوا أرحامكم و لو بالسلام : وَ اِعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ اَلرِّزْقَ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ مَا أَقْبَحَ اَلْخُضُوعَ عِنْدَ اَلْحَاجَةِ وَ اَلْجَفَاءَ عِنْدَ اَلْغِنَى إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ وَ إِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ

[ 113 ]

اِسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ فَإِنَّ اَلْأُمُورَ أَشْبَاهٌ وَ لاَ تَكُونَنَّ مِمَّنْ لاَ تَنْفَعُهُ اَلْعِظَةُ إِلاَّ إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلاَمِهِ فَإِنَّ اَلْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالآْدَابِ وَ اَلْبَهَائِمَ لاَ تَتَّعِظُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ . اِطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ اَلْهُمُومِ بِعَزَائِمِ اَلصَّبْرِ وَ حُسْنِ اَلْيَقِينِ مَنْ تَرَكَ اَلْقَصْدَ جَارَ وَ اَلصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ وَ اَلصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ وَ اَلْهَوَى شَرِيكُ اَلْعَمَى وَ رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ وَ قَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ وَ اَلْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ مَنْ تَعَدَّى اَلْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ وَ مَنِ اِقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ وَ أَوْثَقُ سَبَبٍ أَخَذْتَ بِهِ سَبَبٌ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ مَنْ لَمْ يُبَالِكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ قَدْ يَكُونُ اَلْيَأْسُ إِدْرَاكاً إِذَا كَانَ اَلطَّمَعُ هَلاَكاً لَيْسَ كُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ وَ لاَ كُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ وَ رُبَّمَا أَخْطَأَ اَلْبَصِيرُ قَصْدَهُ وَ أَصَابَ اَلْأَعْمَى رُشْدَهُ أَخِّرِ اَلشَّرَّ فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ وَ قَطِيعَةُ اَلْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ اَلْعَاقِلِ مَنْ أَمِنَ اَلزَّمَانَ خَانَهُ وَ مَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ إِذَا تَغَيَّرَ اَلسُّلْطَانُ تَغَيَّرَ اَلزَّمَانُ سَلْ عَنِ اَلرَّفِيقِ قَبْلَ اَلطَّرِيقِ وَ عَنِ اَلْجَارِ قَبْلَ اَلدَّارِ

[ 114 ]

في بعض الروايات اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر و كرم العزاء قد مضى لنا كلام شاف في الرزق . و روى أبو حيان قال رفع الواقدي إلى المأمون رقعة يذكر فيها غلبة الدين عليه و كثرة العيال و قلة الصبر فوقع المأمون عليها أنت رجل فيك خلتان السخاء و الحياء فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك و أما الحياء فهو الذي بلغ بك إلى ما ذكرت و قد أمرنا لك بمائة ألف درهم فإن كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك و إن كنا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك و أنت كنت حدثتني و أنت على قضاء الرشيد

عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك إن رسول الله ص قال للزبير يا زبير إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش ينزل الله تعالى للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم فمن كثر كثر له و من قلل قلل له قال الواقدي و كنت أنسيت هذا الحديث و كانت مذاكرته إياي به أحب من صلته . و اعلم أن هذا الفصل يشتمل على نكت كثيرة حكمية منها قوله الرزق رزقان رزق تطلبه و رزق يطلبك و هذا حق لأن ذلك إنما يكون على حسب ما يعلمه الله تعالى من مصلحة المكلف فتارة يأتيه الرزق بغير اكتساب و لا تكلف حركة و لا تجشم سعي و تارة يكون الأمر بالعكس . دخل عماد الدولة أبو الحسن بن بويه شيراز بعد أن هزم ابن ياقوت عنها و هو فقير

[ 115 ]

لا مال له فساخت إحدى قوائم فرسه في الصحراء في الأرض فنزل عنها و ابتدرها غلمانه فخلصوها فظهر لهم في ذلك الموضع نقب وسيع فأمرهم بحفرة فوجدوا فيه أموالا عظيمة و ذخائر لابن ياقوت ثم استلقى يوما آخر على ظهره في داره بشيراز التي كان ابن ياقوت يسكنها فرأى حية في السقف فأمر غلمانه بالصعود إليها و قتلها فهربت منهم و دخلت في خشب الكنيسة فأمر أن يقلع الخشب و تستخرج و تقتل فلما قلعوا الخشب وجدوا فيه أكثر من خمسين ألف دينار ذخيرة لابن ياقوت . و احتاج أن يفصل و يخيط ثيابا له و لأهله فقيل هاهنا خياط حاذق كان يخيط لابن ياقوت و هو رجل منسوب إلى الدين و الخير إلا أنه أصم لا يسمع شيئا أصلا فأمر بإحضاره فأحضر و عنده رعب و هلع فلما أدخله إليه كلمه و قال أريد أن تخيط لنا كذا و كذا قطعة من الثياب فارتعد الخياط و اضطرب كلامه و قال و الله يا مولانا ما له عندي إلا أربعة صناديق ليس غيرها فلا تسمع قول الأعداء في فتعجب عماد الدولة و أمر بإحضار الصناديق فوجدها كلها ذهبا و حليا و جواهر مملوءة وديعة لابن ياقوت . و أما الرزق الذي يطلبه الإنسان و يسعى إليه فهو كثير جدا لا يحصى و منها قوله ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى هذا من قول الله تعالى حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ . و من الشعر الحكمي في هذا الباب قول الشاعر

خلقان لا أرضاهما لفتى
تيه الغنى و مذلة الفقر

[ 116 ]

فإذا غنيت فلا تكن بطرا
و إذا افتقرت فته على الدهر

و منها قوله إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك هذا من

كلام رسول الله ص يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت . و قال أبو العتاهية

ليس للمتعب المكادح من دنياه
إلا الرغيف و الطمران

و منها قوله و إن كنت جازعا على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك يقول لا ينبغي أن تجزع على ما ذهب من مالك كما لا ينبغي أن تجزع على ما فاتك من المنافع و المكاسب فإنه لا فرق بينهما إلا أن هذا حصل و ذاك لم يحصل بعد و هذا فرق غير مؤثر لأن الذي تظن أنه حاصل لك غير حاصل في الحقيقة و إنما الحاصل على الحقيقة ما أكلته و لبسته و أما القنيات و المدخرات فلعلها ليست لك كما قال الشاعر

و ذي إبل يسقي و يحسبها له
أخي تعب في رعيها و دءوب
غدت و غدا رب سواه يسوقها
و بدل أحجارا و جال قليب

و منها قوله استدل على ما لم يكن بما كان فإن للأمور أشباها يقال إذا شئت أن تنظر للدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك . و قال أبو الطيب في سيف الدولة

ذكي تظنيه طليعة عينه
يرى قلبه في يومه ما يرى غدا

و منها قوله و لا تكونن ممن لا تنفعه العظة . . . إلى قوله إلا بالضرب هو قول الشاعر

[ 117 ]

العبد يقرع بالعصا
و الحر تكفيه الملامة

و كان يقال اللئيم كالعبد و العبد كالبهيمة عتبها ضربها . و منها قوله اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر و كرم العزاء هذا كلام شريف فصيح عظيم النفع و الفائدة و قد أخذ عبد الله بن الزبير بعض هذه الألفاظ فقال في خطبته لما ورد عليه الخبر بقتل مصعب أخيه لقد جاءنا من العراق خبر أحزننا و سرنا جاءنا خبر قتل مصعب فأما سرورنا فلأن ذلك كان له شهادة و كان لنا إن شاء الله خيرة و أما الحزن فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى حسن الصبر و كرم العزاء . و منها قوله من ترك القصد جار القصد الطريق المعتدل يعني أن خير الأمور أوسطها فإن الفضائل تحيط بها الرذائل فمن تعدى هذه يسيرا وقع في هذه . و منها قوله الصاحب مناسب كان يقال الصديق نسيب الروح و الأخ نسيب البدن قال أبو الطيب

ما الخل إلا من أود بقلبه
و أرى بطرف لا يرى بسوائه

و منها قوله الصديق من صدق غيبه من هاهنا أخذ أبو نواس قوله في المنهوكة

هل لك و الهل خبر
فيمن إذا غبت حضر
أو ما لك اليوم أثر
فإن رأى خيرا شكر
أو كان تقصير عذر

و منها قوله الهوى شريك العمى هذا مثل قولهم حبك الشي‏ء يعمي و يصم قال الشاعر

[ 118 ]

و عين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا

و منها قوله رب بعيد أقرب من قريب و قريب أبعد من بعيد هذا معنى مطروق قال الشاعر

لعمرك ما يضر البعد يوما
إذا دنت القلوب من القلوب

و قال الأحوص

إني لأمنحك الصدود و إنني
قسما إليك مع الصدود لأميل

و قال البحتري

و نازحة و الدار منها قريبة
و ما قرب ثاو في التراب مغيب

و منها قوله و الغريب من لم يكن له حبيب يريد بالحبيب هاهنا المحب لا المحبوب قال الشاعر

أسرة المرء والداه و فيما
بين جنبيهما الحياة تطيب
و إذا وليا عن المرء يوما
فهو في الناس أجنبي غريب

و منها قوله من تعدى الحق ضاق بمذهبه يريد بمذهبه هاهنا طريقته و هذه استعارة و معناه أن طريق الحق لا مشقة فيها لسالكها و طرق الباطل فيها المشاق و المضار و كان سالكها سالك طريقة ضيقة يتعثر فيها و يتخبط في سلوكها . و منها قوله من اقتصر على قدره كان أبقى له هذا مثل

قوله رحم الله امرأ عرف قدره و لم يتعد طوره و

قال من جهل قدره قتل نفسه و قال أبو الطيب

و من جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى

[ 119 ]

و منها قوله أوثق سبب أخذت به سبب بينك و بين الله سبحانه هذا من قول الله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى‏ لاَ اِنْفِصامَ لَها . و منها قوله فمن لم يبالك فهو عدوك أي لم يكترث بك و هذه الوصاة خاصة بالحسن ع و أمثاله من الولاة و أرباب الرعايا و ليست عامة للسوقة من أفناء الناس و ذلك لأن الوالي إذا أنس من بعض رعيته أنه لا يباليه و لا يكترث به فقد أبدى صفحته و من أبدى لك صفحته فهو عدوك و أما غير الوالي من أفناء الناس فليس أحدهم إذا لم يبال الآخر بعدو له . و منها قوله قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاكا هذا مثل قول القائل

من عاش لاقى ما يسوء
من الأمور و ما يسر
و لرب حتف فوقه
ذهب و ياقوت و در

و المعنى ربما كان بلوغ الأمل في الدنيا و الفوز بالمطلوب منها سببا للهلاك فيها و إذا كان كذلك كان الحرمان خيرا من الظفر . و منها قوله ليس كل عورة تظهر و لا كل فرصة تصاب يقول قد تكون عورة العدو مستترة عنك فلا تظهر و قد تظهر لك و لا يمكنك إصابتها . و قال بعض الحكماء الفرصة نوعان فرصة من عدوك و فرصة في غير عدوك فالفرصة من عدوك ما إذا بلغتها نفعتك و إن فاتتك ضرتك و في غير عدوك ما إذا أخطأك نفعه لم يصل إليك ضره .

[ 120 ]

و منها قوله فربما أخطأ البصير قصده و أصاب الأعمى رشده من هذا النحو قولهم في المثل مع الخواطئ سهم صائب و قولهم رمية من غير رام و قالوا في مثل اللفظة الأولى الجواد يكبو و الحسام قد ينبو و قالوا قد يهفو الحليم و يجهل العليم . و منها قوله أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته مثل هذا قولهم في الأمثال الطفيلية كل إذا وجدت فإنك على الجوع قادر و من الأمثال الحكمية ابدأ بالحسنة قبل السيئة فلست بمستطيع للحسنة في كل وقت و أنت على الإساءة متى شئت قادر . و منها قوله قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل هذا حق لأن الجاهل إذا قطعك انتفعت ببعده عنك كما تنتفع بمواصلة الصديق العاقل لك و هذا كما يقول المتكلمون عدم المضرة كوجود المنفعة و يكاد أن يبتني على هذا قولهم كما أن فعل المفسدة قبيح من البارئ فالإخلال باللطف منه أيضا يجب أن يكون قبيحا . و منها قوله من أمن الزمان خانه و من أعظمه أهانه مثل الكلمة الأولى قول الشاعر

و من يأمن الدنيا يكن مثل قابض
على الماء خانته فروج الأنامل

و قالوا احذر الدنيا ما استقامت لك و من الأمثال الحكمية من أمن الزمان ضيع ثغرا مخوفا و مثل الكلمة الثانية قولهم الدنيا كالأمة اللئيمة المعشوقة كلما ازددت لها عشقا و عليها تهالكا ازدادت إذلالا و عليك شطاطا . و قال أبو الطيب

و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ
عهدا و لا تتمم وصلا

[ 121 ]

شيم الغانيات فيها فلا أدري
لذا أنث اسمها الناس أم لا

و منها قوله ليس كل من رمى أصاب هذا معنى مشهور قال أبو الطيب

ما كل من طلب المعالي نافذا
فيها و لا كل الرجال فحولا

و منها قوله إذا تغير السلطان تغير الزمان في كتب الفرس أن أنوشروان جمع عمال السواد و بيده درة يقلبها فقال أي شي‏ء أضر بارتفاع السواد و أدعى إلى محقه أيكم قال ما في نفسي جعلت هذه الدرة في فيه فقال بعضهم انقطاع الشرب و قال بعضهم احتباس المطر و قال بعضهم استيلاء الجنوب و عدم الشمال فقال لوزيره قل أنت فإني أظن عقلك يعادل عقول الرعية كلها أو يزيد عليها قال تغير رأي السلطان في رعيته و إضمار الحيف لهم و الجور عليهم فقال لله أبوك بهذا العقل أهلك آبائي و أجدادي لما أهلوك له و دفع إليه الدرة فجعلها في فيه . و منها قوله سل عن الرفيق قبل الطريق و عن الجار قبل الدار و قد روي هذا الكلام مرفوعا و في المثل جار السوء كلب هارش و أفعى ناهش . و في المثل الرفيق إما رحيق أو حريق : إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ اَلْكَلاَمِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً وَ إِنْ حَكَيْتَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِكَ

[ 122 ]

وَ إِيَّاكَ وَ مُشَاوَرَةَ اَلنِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَى أَفْنٍ وَ عَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْنٍ وَ اُكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ فَإِنَّ شِدَّةَ اَلْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ وَ لَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ وَ إِنِ اِسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ وَ لاَ تُمَلِّكِ اَلْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا فَإِنَّ اَلْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ وَ لَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ وَ لاَ تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا وَ لاَ تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا وَ إِيَّاكَ وَ اَلتَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو اَلصَّحِيحَةَ إِلَى اَلسَّقَمِ وَ اَلْبَرِيئَةَ إِلَى اَلرِّيَبِ وَ اِجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِكَ عَمَلاً تَأْخُذُهُ بِهِ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلاَّ يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ وَ أَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ اَلَّذِي بِهِ تَطِيرُ وَ أَصْلُكَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ وَ يَدُكَ اَلَّتِي بِهَا تَصُولُ اِسْتَوْدِعِ اَللَّهَ دِينَكَ وَ دُنْيَاكَ وَ اِسْأَلْهُ خَيْرَ اَلْقَضَاءِ لَكَ فِي اَلْعَاجِلَةِ وَ اَلآْجِلَةِ وَ اَلدُّنْيَا وَ اَلآْخِرَةِ وَ اَلسَّلاَمُ نهاه أن يذكر من الكلام ما كان مضحكا لأن ذلك من شغل أرباب الهزل و البطالة و قل أن يخلو ذلك من غيبة أو سخرية ثم قال و إن حكيت ذلك عن غيرك فإنه كما يستهجن الابتداء بذلك يستهجن حكايته عن الغير و ذلك كلام فصيح أ لا ترى أنه لا يجوز الابتداء بكلمة الكفر و يكره أيضا حكايتها و قال عمر لما نهاه

[ 123 ]

رسول الله ص أن يحلف بالله فما حلفت به ذاكرا و لا آثرا و لا حاكيا . و كان يقال من مازح استخف به و من كثر ضحكه قلت هيبته . فأما مشاورة النساء فإنه من فعل عجزة الرجال قال الفضل بن الربيع أيام الحرب بين الأمين و المأمون في كلام يذكر فيه الأمين و يصفه بالعجز ينام نوم الظربان و ينتبه انتباهة الذئب همه بطنه و لذته فرجه لا يفكر في زوال نعمة و لا يروي في إمضاء رأي و لا مكيدة قد شمر له عبد الله عن ساقه و فوق له أشد سهامه يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ و الموت القاصد قد عبى له المنايا على متون الخيل و ناط له البلايا بأسنة الرماح و شفار السيوف فكأنه هو قال هذا الشعر و وصف به نفسه و أخاه

يقارع أتراك ابن خاقان ليله
إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم
فيصبح من طول الطراد و جسمه
نحيل و أضحي في النعيم أصمم
و همي كأس من عقار و قينة
و همته درع و رمح و مخذم
فشتان ما بيني و بين ابن خالد
أمية في الرزق الذي الله يقسم

و نحن معه نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذممنا و إن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا و إنما نحن شعب من أصل إن قوي قوينا و إن ضعف ضعفنا إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء يشاور النساء و يعتزم على الرؤيا قد أمكن أهل الخسارة و اللهو من سمعه فهم يمنونه الظفر و يعدونه عقب الأيام و الهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل . قوله ع فإن رأيهن إلى أفن الأفن بالسكون النقص و المتأفن

[ 124 ]

المتنقص يقال فلان يتأفن فلانا أي يتنقصه و يعيبه و من رواه إلى أفن بالتحريك فهو ضعف الرأي أفن الرجل يأفن أفنا أي ضعف رأيه و في المثل إن الرقين تغطي أفن الأفين و الوهن الضعف . قوله و اكفف عليهن من أبصارهن من هاهنا زائدة و هو مذهب أبي الحسن الأخفش في زيادة من في الموجب و يجوز أن يحمل على مذهب سيبويه فيعنى به فاكفف عليهن بعض أبصارهن . ثم ذكر فائدة الحجاب و نهاه أن يدخل عليهن من لا يوثق به و قال إن خروجهن أهون من ذلك و ذلك لأن من تلك صفته يتمكن من الخلوة ما لا يتمكن منه من يراهن في الطرقات . ثم قال إن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل كان لبعضهم بنت حسناء فحج بها و كان يعصب عينيها و يكشف للناس وجهها فقيل له في ذلك فقال إنما الحذر من رؤيتها الناس لا من رؤية الناس لها . قال و لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها أي لا تدخلها معك في تدبير و لا مشورة و لا تتعدين حال نفسها و ما يصلح شأنها . فإن المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة أي إنما تصلح للمتعة و اللذة و ليست وكيلا في مال و لا وزيرا في رأي . ثم أكد الوصية الأولى فقال لا تعد بكرامتها نفسها هذا هو قوله و لا تملكها من أمرها ما جاوز نفسها . ثم نهاه أن يطمعها في الشفاعات .

[ 125 ]

و روى الزبير بن بكار قال كانت الخيزران كثيرا ما تكلم موسى ابنها لما استخلف في الحوائج و كان يجيبها إلى كل ما تسأل حتى مضت أربعة أشهر من خلافته و تتألى الناس عليها و طمعوا فيها فكانت المواكب تغدو إلى بابها و كلمته يوما في أمر فلم يجد إلى إجابتها سبيلا و احتج عليها بحجة فقالت لا بد من إجابتي فقال لا أفعل قالت إني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك فغضب موسى و قال ويلي على ابن الفاعلة قد علمت أنه صاحبها و الله لا قضيتها لك و لا له قالت و الله لا أسألك حاجة أبدا قال إذن و الله لا أبالي فقامت مغضبة فقال مكانك تستوعبي كلامي و أنا و الله بري‏ء من قرابتي من رسول الله ص لئن بلغني أنه وقف أحد من قوادي و خاصتي و خدمي و كتابي على بابك لأضربن عنقه و أقبضن ماله فمن شاء فليلزم ذلك ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم أ ما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك إياك ثم إياك أن تفتحي فاك في حاجة لملي أو ذمي فانصرفت و ما تعقل ما تطأ عليه و لم تنطق عنده بحلوة و لا مرة بعدها حتى هلك . و أخذ هذه اللفظة منه و هي قوله إن المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة الحجاج فقالها للوليد بن عبد الملك روى ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار قال دخل الحجاج على الوليد بن عبد الملك و عليه درع و عمامة سوداء و فرس عربية و كنانة و ذلك في أول قدمة قدمها عليه من العراق فبعثت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان و هي تحت الوليد إليه من هذا الأعرابي المستلئم في السلاح عندك و أنت في غلالة فأرسل إليها هذا الحجاج فأعادت إليه الرسول فقال تقول لك و الله لأن يخلو بك ملك الموت في اليوم أحيانا أحب

[ 126 ]

إلي من أن يخلو بك الحجاج فأخبره الوليد بذلك و هو يمازحه فقال يا أمير المؤمنين دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول فإنما المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة فلا تطلعها على سرك و مكايدة عدوك فلما دخل الوليد عليها أخبرها و هو يمازحها بمقالة الحجاج فقالت يا أمير المؤمنين حاجتي أن تأمره غدا أن يأتيني مسلما ففعل ذلك فأتاها الحجاج فحجبته فلم يزل قائما ثم أذنت له فقالت يا حجاج أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتلك ابن الزبير و ابن الأشعث أما و الله لو لا أن الله علم أنك شر خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام و لا بقتل ابن ذات النطاقين أول مولود في دار هجرة الإسلام و أما نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء و بلوغ لذاته و أوطاره فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالأخذ منك و إن كن ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك أما و الله لقد نقص نساء أمير المؤمنين الطيب من غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من قرن قد أظلتك رماحهم و أثخنك كفاحهم و حين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من أبنائهم و آبائهم فأنجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه قاتل الله القائل حين ينظر إليك و سنان غزالة بين كتفيك

أسد علي و في الحروب نعامة
ربداء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى
بل كان قلبك في جناحي طائر

قم فاخرج فقام فخرج

[ 127 ]