الفصل الثاني في النظر في أن النبي ص هل يورث أم لا

نذكر في هذا الموضع ما حكاه المرتضى رحمه الله في الشافي عن قاضي القضاة في هذا المعنى و ما اعترضه به و إن استضعفنا شيئا من ذلك قلنا ما عندنا و إلا تركناه على حاله . قال المرتضى أول ما ابتدأ به قاضي القضاة حكايته عنا استدلالنا على أنه ص مورث بقوله تعالى يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ و هذا الخطاب عام يدخل فيه النبي و غيره . ثم أجاب يعني قاضي القضاة عن ذلك فقال إن الخبر الذي احتج به أبو بكر يعني

قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث لم يقتصر على روايته هو وحده حتى استشهد عليه عمر و عثمان و طلحة و الزبير و سعدا و عبد الرحمن فشهدوا به فكان لا يحل لأبي بكر و قد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثا و قد خبر رسول الله ص بأنها صدقة و ليست بميراث و أقل ما في هذا الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد

[ 238 ]

فلو أن شاهدين شهدا في التركة أن فيها حقا أ ليس كان يجب أن يصرف ذلك عن الإرث فعلمه بما قال رسول الله ص مع شهادة غيره أقوى و لسنا نجعله مدعيا لأنه لم يدع ذلك لنفسه و إنما بين أنه ليس بميراث و أنه صدقة و لا يمتنع تخصيص القرآن بذلك كما يخص في العبد و القاتل و غيرهما و ليس ذلك بنقص في الأنبياء بل هو إجلال لهم يرفع الله به قدرهم عن أن يورثوا المال و صار ذلك من أوكد الدواعي ألا يتشاغلوا بجمعه لأن أحد الدواعي القوية إلى ذلك تركه على الأولاد و الأهلين و لما سمعت فاطمة ع ذلك من أبي بكر كفت عن الطلب فيما ثبت من الأخبار الصحيحة فلا يمتنع أن تكون غير عارفة بذلك فطلبت الإرث فلما روى لها ما روى كفت فأصابت أولا و أصابت ثانيا . و ليس لأحد أن يقول كيف يجوز أن يبين النبي ص ذلك للقوم و لا حق لهم في الإرث و يدع أن يبين ذلك لمن له حق في الإرث مع أن التكليف يتصل به و ذلك لأن التكليف في ذلك يتعلق بالإمام فإذا بين له جاز ألا يبين لغيره و يصير البيان له بيانا لغيره و إن لم يسمعه من الرسول لأن هذا الجنس من البيان يجب أن يكون بحسب المصلحة . قال ثم حكى عن أبي علي أنه قال أ تعلمون كذب أبي بكر في هذه الرواية أم تجوزون أن يكون صادقا قال و قد علم أنه لا شي‏ء يقطع به على كذبه فلا بد من تجويز كونه صادقا و إذا صح ذلك قيل لهم فهل كان يحل له مخالفة الرسول فإن قالوا لو كان صدقا لظهر و اشتهر قيل لهم إن ذلك من باب العمل و لا يمتنع أن ينفرد بروايته جماعة يسيرة بل الواحد و الاثنان مثل سائر الأحكام و مثل الشهادات فإن قالوا نعلم أنه لا يصح لقوله تعالى في كتابه وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ قيل لهم

[ 239 ]

و من أين أنه ورثه الأموال مع تجويز أن يكون ورثه العلم و الحكمة فإن قالوا إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال قيل لهم إن كتاب الله يبطل قولكم لأنه قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا و الكتاب ليس بمال و يقال في اللغة ما ورثت الأبناء عن الآباء شيئا أفضل من أدب حسن و قالوا العلماء ورثة الأنبياء و إنما ورثوا منهم العلم دون المال على أن في آخر الآية ما يدل على ما قلناه و هو قوله تعالى حاكيا عنه وَ قالَ يا أَيُّهَا اَلنَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ فنبه على أن الذي ورث هو هذا العلم و هذا الفضل و إلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول فإن قالوا فقد قال تعالى فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ و ذلك يبطل الخبر قيل لهم ليس في ذلك بيان المال أيضا و في الآية ما يدل على أن المراد النبوة و العلم لأن زكريا خاف على العلم أن يندرس و قوله وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي يدل على ذلك لأن الأنبياء لا تحرص على الأموال حرصا يتعلق خوفها بها و إنما أراد خوفه على العلم أن يضيع فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه و قوله وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يدل على أن المراد العلم و الحكمة لأنه لا يرث أموال يعقوب في الحقيقة و إنما يرث ذلك غيره قال فأما من يقول إن المراد أنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة أي ما جعلناه صدقة في حال حياتنا لا نورثه فركيك من القول لأن إجماع الصحابة يخالفه لأن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه لأنه لا يكون في ذلك تخصيص الأنبياء و لا مزية لهم و لأن قوله ما تركناه صدقة جملة من الكلام مستقلة بنفسها كأنه

[ 240 ]

ع مع بيانه أنهم لا يورثون المال يبين أنه صدقة لأنه كان يجوز ألا يكون ميراثا و يصرف إلى وجه آخر غير الصدقة . قال فأما خبر السيف و البغلة و العمامة و غير ذلك فقد قال أبو علي إنه لم يثبت أن أبا بكر دفع ذلك إلى أمير المؤمنين ع على جهة الإرث كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه و كيف يجوز لو كان وارثا أن يخصه بذلك و لا إرث له مع العم لأنه عصبة فإن كان وصل إلى فاطمة ع فقد كان ينبغي أن يكون العباس شريكا في ذلك و أزواج رسول الله ص و لوجب أن يكون ذلك ظاهرا مشهورا ليعرف أنهم أخذوا نصيبهم من ذلك أو بدله و لا يجب إذا لم يدفع أبو بكر ذلك إليه على جهة الإرث ألا يحصل ذلك في يده لأنه قد يجوز أن يكون النبي ص نحله ذلك و يجوز أيضا أن يكون أبو بكر رأى الصلاح في ذلك أن يكون بيده لما فيه من تقوية الدين و تصدق ببدله بعد التقويم لأن الإمام له أن يفعل ذلك . قال و حكى عن أبي علي في البرد و القضيب أنه لم يمتنع أن يكون جعله عدة في سبيل الله و تقوية على المشركين فتداولته الأئمة لما فيه من التقوية و رأى أن ذلك أولى من أن يتصدق به إن ثبت أنه ع لم يكن قد نحله غيره في حياته ثم عارض نفسه بطلب أزواج النبي ص الميراث و تنازع أمير المؤمنين ع و العباس بعد موت فاطمة ع و أجاب عن ذلك بأن قال يجوز أن يكونوا لم يعرفوا رواية أبي بكر و غيره للخبر . و قد روي أن عائشة لما عرفتهن الخبر أمسكن و قد بينا أنه لا يمتنع في مثل ذلك أن يخفى على من يستحق الإرث و يعرفه من يتقلد الأمر كما يعرف العلماء و الحكام من أحكام المواريث ما لا يعلمه أرباب الإرث و قد بينا أن رواية أبي بكر مع الجماعة

[ 241 ]

أقوى من شاهدين لو شهد أن بعض تركته ع دين و هو أقوى من رواية سلمان و ابن مسعود لو رويا ذلك . قال و متى تعلقوا بعموم القرآن أريناهم جواز التخصيص بهذا الخبر كما أن عموم القرآن يقتضي كون الصدقات للفقراء و قد ثبت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة . هذا آخر ما حكاه المرتضى من كلام قاضي القضاة . ثم قال نحن نبين أولا ما يدل على أنه ص يورث المال و نرتب الكلام في ذلك الترتيب الصحيح ثم نعطف على ما أورده و نتكلم عليه . قال رضي الله عنه و الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى مخبرا عن زكريا ع وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا فخبر أنه خاف من بني عمه لأن الموالي هاهنا هم بنو العم بلا شبهة و إنما خافهم أن يرثوا ماله فينفقوه في الفساد لأنه كان يعرف ذلك من خلائقهم و طرائقهم فسأل ربه ولدا يكون أحق بميراثه منهم و الذي يدل على أن المراد بالميراث المذكور ميراث المال دون العلم و النبوة على ما يقولون إن لفظة الميراث في اللغة و الشريعة لا يفيد إطلاقها إلا على ما يجوز أن ينتقل على الحقيقة من الموروث إلى الوارث كالأموال و ما في معناها و لا يستعمل في غير المال إلا تجوزا و اتساعا و لهذا لا يفهم من قول القائل لا وارث لفلان إلا فلان و فلان يرث مع فلان بالظاهر و الإطلاق إلا ميراث الأموال و الأعراض دون العلوم و غيرها و ليس لنا أن نعدل عن ظاهر الكلام و حقيقته إلى مجازه بغير دلالة و أيضا فإنه تعالى خبر عن نبيه أنه اشترط في وارثه أن يكون رضيا و متى لم يحمل الميراث في الآية على المال دون العلم

[ 242 ]

و النبوة لم يكن للاشتراط معنى و كان لغوا و عبثا لأنه إذا كان إنما سأل من يقوم مقامه و يرث مكانه فقد دخل الرضا و ما هو أعظم من الرضا في جملة كلامه و سؤاله فلا مقتضي لاشتراطه أ لا ترى أنه لا يحسن أن يقول اللهم ابعث إلينا نبيا و اجعله عاقلا و مكلفا فإذا ثبتت هذه الجملة صح أن زكريا موروث ماله و صح أيضا لصحتها أن نبينا ص ممن يورث المال لأن الإجماع واقع على أن حال نبينا ع لا يخالف حال الأنبياء المتقدمين في ميراث المال فمن مثبت للأمرين و ناف للأمرين . قلت إن شيخنا أبا الحسين قال في كتاب الغرر صورة الخبر الوارد في هذا الباب و هو الذي رواه أبو بكر لا نورث و لم يقل نحن معاشر الأنبياء لا نورث فلا يلزم من كون زكريا يورث الطعن في الخبر و تصفحت أنا كتب الصحاح في الحديث فوجدت صيغة الخبر كما قاله أبو الحسين و إن كان رسول الله ص عنى نفسه خاصة بذلك فقد سقط احتجاج الشيعة بقصة زكريا و غيره من الأنبياء إلا أنه يبعد عندي أن يكون أراد نفسه خاصة لأنه لم تجر عادته أن يخبر عن نفسه في شي‏ء بالنون . فإن قلت أ يصح من المرتضى أن يوافق على أن صورة الخبر هكذا ثم يحتج بقصة زكريا بأن يقول إذا ثبت أن زكريا موروث ثبت أن رسول الله ص يجوز أن يكون موروثا لإجماع الأمة على أن لا فرق بين الأنبياء كلهم في هذا الحكم . قلت و إن ثبت له هذا الإجماع صح احتجاجه و لكن ثبوته يبعد لأن من نفى كون زكريا ع موروثا من الأمة إنما نفاه لاعتقاده أن رسول الله ص قال نحن معاشر الأنبياء فإذا كان لم يقل هكذا لم يقل إن زكريا ع غير موروث

[ 243 ]

قال المرتضى و مما يقوي ما قدمناه أن زكريا ع خاف بني عمه فطلب وارثا لأجل خوفه و لا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون العلم و النبوة لأنه ع كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيا ليس بأهل للنبوة و أن يورث علمه و حكمه من ليس أهلا لهما و لأنه إنما بعث لإذاعة العلم و نشره في الناس فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في البعثة فإن قيل هذا يرجع عليكم في الخوف عن إرث المال لأن ذلك غاية الضن و البخل قلنا معاذ الله أن يستوي الحال لأن المال قد يصح أن يرزقه الله تعالى المؤمن و الكافر و العدو و الولي و لا يصح ذلك في النبوة و علومها و ليس من الضن أن يأسى على بني عمه و هم من أهل الفساد أن يظفروا بماله فينفقوه على المعاصي و يصرفوه في غير وجوهه المحبوبة بل ذلك غاية الحكمة و حسن التدبير في الدين لأن الدين يحظر تقوية الفساق و إمدادهم بما يعينهم على طرائقهم المذمومة و ما يعد ذلك شحا و لا بخلا إلا من لا تأمل له . فإن قيل أ فلا جاز أن يكون خاف من بني عمه أن يرثوا علمه و هم من أهل الفساد على ما ادعيتم فيستفسدوا به الناس و يموهوا به عليهم قلنا لا يخلو هذا العلم الذي أشرتم إليه من أن يكون هو كتب علمه و صحف حكمته لأن ذلك قد يسمى علما على طريق المجاز أو يكون هو العلم الذي يحل القلب فإن كان الأول فهو يرجع إلى معنى المال و يصحح أن الأنبياء يورثون أموالهم و ما في معناها و إن كان الثاني لم يخل هذا من أن يكون هو العلم الذي بعث النبي لنشره و أدائه أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلق بالشريعة و لا يجب إطلاع جميع الأمة عليه كعلم العواقب و ما يجري في مستقبل الأوقات و ما جرى مجرى ذلك و القسم الأول لا يجوز على النبي أن يخاف من وصوله إلى بني عمه و هم من جملة أمته الذين بعث لإطلاعهم على ذلك و تأديته إليهم و كأنه على هذا الوجه يخاف مما هو الغرض من بعثته و القسم الثاني فاسد أيضا لأن

[ 244 ]

هذا العلم المخصوص إنما يستفاد من جهته و يوقف عليه بإطلاعه و إعلامه و ليس هو مما يجب نشره في جميع الناس فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه إلى بعض الناس فسادا ألا يلقيه إليه فإن ذلك في يده و لا يحتاج إلى أكثر من ذلك . قلت لعاكس أن يعكس هذا على المرتضى رحمه الله حينئذ و يقول له و قد كان يجب إذا خاف من أن يرث بنو عمه أمواله فينفقوها في الفساد أن يتصدق بها على الفقراء و المساكين فإن ذلك في يده فيحصل له ثواب الصدقة و يحصل له غرضه من حرمان أولئك المفسدين ميراثه . قال المرتضى رضي الله عنه و مما يدل على أن الأنبياء يورثون قوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ و الظاهر من إطلاق لفظة الميراث يقتضي الأموال و ما في معناها على ما دللنا به من قبل . قال و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ الآية و قد أجمعت الأمة على عموم هذه اللفظة إلا من أخرجه الدليل فيجب أن يتمسك بعمومها لمكان هذه الدلالة و لا يخرج عن حكمها إلا من أخرجه دليل قاطع . قلت أما قوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ فظاهرها يقتضي وراثة النبوة أو الملك أو العلم الذي قال في أول الآية وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً لأنه لا معنى لذكر ميراث سليمان المال فإن غيره من أولاد داود قد ورث أيضا أباه داود و في كتب اليهود و النصارى أن بني داود كانوا تسعة عشر و قد قال بعض المسلمين أيضا ذلك فأي معنى في تخصيص سليمان بالذكر إذا كان إرث المال و أما يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فالبحث في تخصيص ذلك بالخبر فرع من فروع مسألة خبر الواحد هل هو حجة في

[ 245 ]

الشرعيات أم لا فإن ثبت مذهب المرتضى في كونه ليس بحجة فكلامه هنا جيد و إن لم يثبت فلا مانع من تخصيص العموم بالخبر فإن الصحابة قد خصصت عمومات الكتاب بالأخبار في مواضع كثيرة . قال المرتضى و أما تعلق صاحب الكتاب بالخبر الذي رواه أبو بكر و ادعاؤه أنه استشهد عمر و عثمان و فلانا و فلانا فأول ما فيه أن الذي ادعاه من الاستشهاد غير معروف و الذي روي أن عمر استشهد هؤلاء النفر لما تنازع أمير المؤمنين ع و العباس رضي الله عنه في الميراث فشهدوا بالخبر المتضمن لنفي الميراث و إنما مقول مخالفينا في صحة الخبر الذي رواه أبو بكر عند مطالبة فاطمة ع بالإرث على إمساك الأمة عن النكير عليه و الرد لقضيته . قلت صدق المرتضى رحمه الله فيما قال أما عقيب وفاة النبي ص و مطالبة فاطمة ع بالإرث فلم يرو الخبر إلا أبو بكر وحده و قيل إنه رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان و أما المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة فإنما شهدوا بالخبر في خلافة عمر و قد تقدم ذكر ذلك . قال المرتضى ثم لو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجة لأن الخبر على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم و هو في حكم أخبار الآحاد و ليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجرى هذا المجرى لأن المعلوم لا يخص إلا بمعلوم و إذا كانت دلالة الظاهر معلومة لم يجز أن يخرج عنها بأمر مظنون . قال و هذا الكلام مبني على أن التخصيص للكتاب و السنة المقطوع بها لا يقع

[ 246 ]

بأخبار الآحاد و هو المذهب الصحيح و قد أشرنا إلى ما يمكن أن يعتمد في الدلالة عليه من أن الظن لا يقابل العلم و لا يرجع عن المعلوم بالمظنون قال و ليس لهم أن يقولوا إن التخصيص بأخبار الآحاد يستند أيضا إلى علم و إن كان الطريق مظنونا و يشيروا إلى ما يدعونه من الدلالة على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة و أنه حجة لأن ذلك مبني من قولهم على ما لا نسلمه و قد دل الدليل على فساده أعني قولهم خبر الواحد حجة في الشرع على أنهم لو سلم لهم ذلك لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنه يقبل في تخصيص القرآن لأن ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول جواز النسخ به . قلت أما قول المرتضى لو سلمنا أن هؤلاء المهاجرين الستة رووه لما خرج عن كونه خبرا واحدا و لما جاز أن يرجع عن عموم الكتاب به لأنه معلوم و الخبر مظنون . و لقائل أن يقول ليته حصل في كل واحد من آيات القرآن رواية مثل هذه الستة حيث جمع القرآن على عهد عثمان و من قبله من الخلفاء فإنهم بدون هذا العدد كانوا يعملون في إثبات الآية في المصحف بل كانوا يحلفون من أتاهم بالآية و من نظر في كتب التواريخ عرف ذلك فإن كان هذا العدد إنما يفيد الظن فالقول في آيات الكتاب كذلك و إن كانت آيات الكتاب أثبتت عن علم مستفاد من رواية هذا العدد و نحوه فالخبر مثل ذلك . فأما مذهب المرتضى في خبر الواحد فإنه قول انفرد به عن سائر الشيعة لأن من قبله من فقهائهم ما عولوا في الفقه إلا على أخبار الآحاد كزرارة و يونس و أبي بصير و ابني بابويه و الحلبي و أبي جعفر القمي و غيرهم ثم من كان في عصر المرتضى منهم

[ 247 ]

كأبي جعفر الطوسي و غيره و قد تكلمت في اعتبار الذريعة على ما أعتمد عليه في هذه المسألة و أما تخصيص الكتاب بخبر الواحد فالظاهر أنه إذا صح كون خبر الواحد حجة في الشرع جاز تخصيص الكتاب به و هذا من فن أصول الفقه فلا معنى لذكره هنا . قال المرتضى رضي الله عنه و هذا يسقط قول صاحب الكتاب إن الشاهدين لو شهدا أن في التركة حقا لكان يجب أن ينصرف عن الإرث و ذلك لأن الشهادة و إن كانت مظنونة فالعمل بها يستند إلى علم لأن الشريعة قد قررت العمل بالشهادة و لم تقرر العمل بخبر الواحد و ليس له أن يقيس خبر الواحد على الشهادة من حيث اجتمعا في غلبة الظن لأنا لا نعمل على الشهادة من حيث غلبة الظن دون ما ذكرناه من تقرير الشريعة العمل بها أ لا ترى أنا قد نظن بصدق الفاسق و المرأة و الصبي و كثير ممن لا يجوز العمل بقوله فبان أن المعول في هذا على المصلحة التي نستفيدها على طريق الجملة من دليل الشرع . قال و أبو بكر في حكم المدعي لنفسه و الجار إليها بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب و كذلك من شهد له إن كانت هناك شهادة و ذلك أن أبا بكر و سائر المسلمين سوى أهل بيت الرسول ص يحل لهم الصدقة و يجوز أن يصيبوا فيها و هذه تهمة في الحكم و الشهادة . قال و ليس له أن يقول فهذا يقتضي ألا يقبل شهادة شاهدين في تركة فيها صدقة لمثل ما ذكرتم .

[ 248 ]

قال و ذلك لأن الشاهدين إذا شهدا في الصدقة فحظهما منها كحظ صاحب الميراث بل سائر المسلمين و ليس كذلك حال تركة الرسول لأن كونها صدقة يحرمها على ورثته و يبيحها لسائر المسلمين . قلت هذا فرق غير مؤثر اللهم إلا أن يعني به تهمة أبي بكر و الشهود الستة في جر النفع إلى أنفسهم يكون أكثر من تهمتهم لو شهدوا على أبي هريرة مثلا أن ما تركه صدقة لأن أهل أبي هريرة يشاركون في القسمة و أهل النبي ص لا يشاركون الشهود فيما يصيبهم إذ هم لا تحل لهم الصدقة فتكون حصة أبي بكر و الشهود مما تركه رسول الله أكثر من حصتهم مما يتركه أبو هريرة فيكون تطرق التهمة إلى أبي بكر و الشهود أكثر حسب زيادة حصتهم و ما وقفت للمرتضى على شي‏ء أطرف من هذا لأن رسول الله ص مات و المسلمون أكثر من خمسين ألف إنسان لأنه قاد في غزاة تبوك عشرين ألفا ثم وفدت إليه الوفود كلها بعد ذلك فليت شعري كم مقدار ما يتوفر على أبي بكر و ستة نفر معه و هم من جملة خمسين ألفا بين ما إذا كان بنو هاشم و بنو المطلب و هم حينئذ عشرة نفر لا يأخذون حصة و بين ما إذا كانوا يأخذون أ ترى أ يكون المتوفر على أبي بكر و شهوده من التركة عشر عشر درهم ما أظن أنه يبلغ ذلك و كم مقدار ما يقلل حصص الشهود على أبي هريرة إذا شركهم أهله في التركة لتكون هذه القلة موجبة رفع التهمة و تلك الزيادة و الكثرة موجبة حصول التهمة و هذا الكلام لا أرتضيه للمرتضى . قال المرتضى رضي الله عنه و أما قوله يخص القرآن بالخبر كما خصصناه في العبد و القاتل فليس بشي‏ء لأنا إنما خصصنا من ذكر بدليل مقطوع عليه معلوم و ليس هذا موجودا في الخبر الذي ادعاه فأما قوله و ليس ذلك ينقص الأنبياء بل هو إجلال لهم

[ 249 ]

فمن الذي قال له إن فيه نقصا و كما أنه لا نقص فيه فلا إجلال فيه و لا فضيلة لأن الداعي و إن كان قد يقوى على جمع المال ليخلف على الورثة فقد يقويه أيضا إرادة صرفه في وجوه الخير و البر و كلا الأمرين يكون داعيا إلى تحصيل المال بل الداعي الذي ذكرناه أقوى فيما يتعلق بالدين . قال و أما قوله إن فاطمة لما سمعت ذلك كفت عن الطلب فأصابت أولا و أصابت ثانيا فلعمري إنها كفت عن المنازعة و المشاحة لكنها انصرفت مغضبة متظلمة متألمة و الأمر في غضبها و سخطها أظهر من أن يخفى على منصف فقد روى أكثر الرواة الذين لا يتهمون بتشيع و لا عصبية فيه من كلامها في تلك الحال و بعد انصرافها عن مقام المنازعة و المطالبة ما يدل على ما ذكرناه من سخطها و غضبها .

أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدثني محمد بن أحمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال حدثني الزيادي قال حدثنا الشرقي بن القطامي عن محمد بن إسحاق قال حدثنا صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها و أقبلت في لمة من حفدتها . . .

قال المرتضى و أخبرنا المرزباني قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد المكي قال حدثنا أبو العيناء بن القاسم اليماني قال حدثنا ابن عائشة قال لما قبض رسول الله ص أقبلت فاطمة إلى أبي بكر في لمة من حفدتها ثم اجتمعت الروايتان من هاهنا . . . و نساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ص

[ 250 ]

حتى دخلت على أبي بكر و هو في حشد من المهاجرين و الأنصار و غيرهم فنيطت دونها ملاءة ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء و ارتج المجلس ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم و هدأت فورتهم افتتحت كلامها بالحمد لله عز و جل و الثناء عليه و الصلاة على رسول الله ص ثم قالت لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم و أخا ابن عمي دون رجالكم فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة مائلا عن سنن المشركين ضاربا ثبجهم يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة آخذا بأكظام المشركين يهشم الأصنام و يفلق الهام حتى انهزم الجمع و ولوا الدبر و حتى تفرى الليل عن صبحه و أسفر الحق عن محضه و نطق زعيم الدين و خرست شقائق الشياطين و تمت كلمة الإخلاص و كنتم على شفا حفرة من النار نهزة الطامع و مذقة الشارب و قبسة العجلان و موطإ الأقدام تشربون الطرق و تقتاتون القد أذلة خاسئين يختطفكم الناس من حولكم حتى أنقذكم الله برسوله ص بعد اللتيا و التي و بعد أن مني بهم الرجال و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب و كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة قذف أخاه في لهواتها و لا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه و يطفئ عادية لهبها بسيفه أو قالت يخمد لهبها بحده مكدودا في ذات الله و أنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون

[ 251 ]

إلى هنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة و أما

عروة عن عائشة فزاد بعد هذا حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ظهرت حسيكة النفاق و شمل جلباب الدين و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الآفكين و هدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم و أطلع الشيطان رأسه صارخا بكم فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين و لقربه متلاحظين ثم استنهضكم فوجدكم خفافا و أحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم و وردتم غير شربكم هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجرح لما يندمل إنما زعمتم ذلك خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و إن جهنم لمحيطة بالكافرين فهيهات و أنى بكم و أنى تؤفكون و كتاب الله بين أظهركم زواجره بينة و شواهده لائحة و أوامره واضحة أ رغبة عنه تريدون أم لغيره تحكمون بئس للظالمين بدلا و من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها تسرون حسوا في ارتغاء و نحن نصبر منكم على مثل حز المدى و أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا أ فحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون يا ابن أبي قحافة أ ترث أباك و لا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله و الزعيم محمد و الموعد القيامة و عند الساعة يخسر المبطلون ثم انكفأت إلى قبر أبيها ع فقالت

قد كان بعدك أنباء و هنبثة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إذا فقدناك فقد الأرض وابلها
و اختل قومك فاشهدهم و لا تغب

و روى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتا ثالثا

فليت بعدك كان الموت صادفنا
لما قضيت و حالت دونك الكتب

[ 252 ]

قال فحمد أبو بكر الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ص و قال يا خير النساء و ابنة خير الآباء و الله ما عدوت رأي رسول الله ص و لا عملت إلا بإذنه و إن الرائد لا يكذب أهله و إني أشهد الله و كفى بالله شهيدا

أني سمعت رسول الله يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة و لا دارا و لا عقارا و إنما نورث الكتاب و الحكمة و العلم و النبوة

قال فلما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب ع كلم في رد فدك فقال إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا منع منه أبو بكر و أمضاه عمر

قال المرتضى و أخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال حدثني علي بن هارون قال أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه قال ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع كلام فاطمة ع عند منع أبي بكر إياها فدك و قلت له إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع و أنه من كلام أبي العيناء لأن الكلام منسوق البلاغة فقال لي رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم و يعلمونه أولادهم و قد حدثني به أبي عن جدي يبلغ به فاطمة ع على هذه الحكاية و قد رواه مشايخ الشيعة و تدارسوه قبل أن يوجد جد أبي العيناء و قد حدث الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام . ثم قال أبو الحسن زيد و كيف تنكرون هذا من كلام فاطمة ع و هم

[ 253 ]

يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة ع و يحققونه لو لا عداوتهم لنا أهل البيت ثم ذكر الحديث بطوله على نسقه و زاد في الأبيات بعد البيتين الأولين

ضاقت علي بلادي بعد ما رحبت
وسم سبطاك خسفا فيه لي نصب
فليت قبلك كان الموت صادفنا
قوم تمنوا فأعطوا كل ما طلبوا
تجهمتنا رجال و استخف بنا
مذ غبت عنا و كل الإرث قد غصبوا

قال فما رأينا يوما أكثر باكيا أو باكية من ذلك اليوم . قال المرتضى و قد روى هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة و وجوه كثيرة فمن أرادها أخذها من مواضعها فكيف يدعي أنها ع كفت راضية و أمسكت قانعة لو لا البهت و قلة الحياء . قلت ليس في هذا الخبر ما يدل على فساد ما ادعاه قاضي القضاة لأنه ادعى أنها نازعت و خاصمت ثم كفت لما سمعت الرواية و انصرفت تاركة للنزاع راضية بموجب الخبر المروي و ما ذكره المرتضى من هذا الكلام لا يدل إلا على سخطها حال حضورها و لا يدل على أنها بعد رواية الخبر و بعد أن أقسم لها أبو بكر بالله تعالى أنه ما روى عن رسول الله ص إلا ما سمعه منه انصرفت ساخطة و لا في الحديث المذكور و الكلام المروي ما يدل على ذلك و لست أعتقد أنها انصرفت راضية كما قال قاضي القضاة بل أعلم أنها انصرفت ساخطة و ماتت و هي على أبي بكر واجدة و لكن لا من هذا الخبر بل من أخبار أخر كان الأولى بالمرتضى أن يحتج بها على

[ 254 ]

ما يرويه في انصرافها ساخطة و موتها على ذلك السخط و أما هذا الخبر و هذا الكلام فلا يدل على هذا المطلوب . قال المرتضى رحمه الله فأما قوله إنه يجوز أن يبين ع أنه لا حق لميراثه في ورثته لغير الورثة و لا يمتنع أن يرد من جهة الآحاد لأنه من باب العمل و كل هذا بناء منه على أصوله الفاسدة في أن خبر الواحد حجة في الشرع و أن العمل به واجب و دون صحة ذلك خرط القتاد و إنما يجوز أن يبين من جهة أخرى إذا تساويا في الحجة و وقوع العمل فأما مع تباينهما فلا يجوز التخيير فيهما و إذا كان ورثة النبي ص متعبدين بألا يرثوه فلا بد من إزاحة علتهم في هذه العبادة بأن يوقفهم على الحكم و يشافههم به و يلقيه إلى من يقيم الحجة عليهم بنقله و كل ذلك لم يكن . فأما قوله أ تجوزون صدقه في الرواية أم لا تجوزون ذلك فالجواب إنا لا نجوزه لأن كتاب الله أصدق منه و هو يدفع روايته و يبطلها فأما اعتراضه على قولنا إن إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال بقوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا و قولهم ما ورثت الأبناء من الآباء شيئا أفضل من أدب حسن و قولهم العلماء ورثة الأنبياء فعجيب لأن كل ما ذكر مقيد غير مطلق و إنما قلنا إن مطلق لفظ الميراث من غير قرينة و لا تقييد يفيد بظاهره ميراث الأموال فبعد ما ذكره و عارض به لا يخفى على متأمل . فأما استدلاله على أن سليمان ورث داود علمه دون ماله بقوله يا أَيُّهَا اَلنَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ و أن المراد أنه

[ 255 ]

ورث العلم و الفضل و إلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول فليس بشي‏ء يعول عليه لأنه لا يمتنع أن يريد به أنه ورث المال بالظاهر و العلم بهذا المعنى من الاستدلال فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ على معنى المجاز أن يقتصر بها عليه بل يجب أن يحملها على الحقيقة التي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع على أنه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة ثم يقول مع ذلك إنا عُلِّمْنا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ و يشير اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ إلى العلم و المال جميعا فله بالأمرين جميعا فضل على من لم يكن عليهما و قوله وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ يحتمل المال كما يحتمل العلم فليس بخالص ما ظنه . فأما قوله في قصة زكريا إنه خاف على العلم أن يندرس لأن الأنبياء و إن كانوا لا يحرصون على الأموال و إنما خاف أن يضيع العلم فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه فقد بينا أن الأنبياء و إن كانوا لا يحرصون على الأموال و لا يبخلون بها فإنهم يجتهدون في منع المفسدين من الانتفاع بها على الفساد و لا يعد ذلك بخلا و لا حرصا بل فضلا و دينا و ليس يجوز من زكريا أن يخاف على العلم الاندراس و الضياع لأنه يعلم أن حكمة الله تعالى تقتضي حفظ العلم الذي هو الحجة على العباد و به تنزاح عللهم في مصالحهم فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله . فإن قيل فهبوا أن الأمر كما ذكرتم من أن زكريا كان يأمن على العلم أن يندرس أ ليس لا بد أن يكون مجوزا أن يحفظه الله تعالى بمن هو من أهله و أقاربه كما يجوز حفظه بغريب أجنبي فما أنكرتم أن يكون خوفه إنما كان من بني عمه ألا يتعلموا العلم و لا يقوموا فيه مقامه فسأل الله ولدا يجمع فيه هذه العلوم حتى لا يخرج العلم عن بيته و يتعدى إلى غير قومه فيلحقه بذلك وصمة .

[ 256 ]

قلنا أما إذا رتب السؤال هذا الترتيب فالجواب عنه ما أجبنا به صاحب الكتاب و هو أن الخوف الذي أشاروا إليه ليس من ضرر ديني و إنما هو من ضرر دنياوي و الأنبياء إنما بعثوا لتحمل المضار الدنياوية و منازلهم في الثواب إنما زادت على كل المنازل لهذا الوجه و من كانت حاله هذه الحال فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم وجهه بعينه أن يكون محمولا على مضار الدين لأنها هي جهة خوفهم و الغرض في بعثهم تحمل ما سواها من المضار فإذا قال النبي ص أنا خائف فلم يعلم جهة خوفه على التفصيل يجب أن يصرف خوفه بالظاهر إلى مضار الدين دون الدنيا لأن أحوالهم و بعثهم يقتضي ذلك فإذا كنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد في الدنيا و أسبابها و التعفف عن منافعها و الرغبة في الآخرة و التفرد بالعمل لها لكنا نحمل على ما يظهر لنا من خوفه الذي لا يعلم وجهه بعينه على ما هو أشبه و أليق بحاله و نضيفه إلى الآخرة دون الدنيا و إذا كان هذا واجبا فيمن ذكرناه فهو في الأنبياء ع أوجب . قلت ينبغي ألا يقول المعترض فيلحقه بذلك وصمة فيجعل الخوف من هذه الوصمة بل يقول إنه خاف ألا يفلح بنو عمه و لا يتعلموا العلم لما رأى من الأمارات الدالة على ذلك فالخوف على هذا الترتيب يتعلق بأمر ديني لا دنيوي فسأل الله تعالى أن يرزقه ولدا يرث عنه علمه أي يكون عالما بالدينيات كما أنا عالم بها و هذا السؤال متعلق بأمر ديني لا دنيوي و على هذا يندفع ما ذكره المرتضى على أنه لا يجوز إطلاق القول بأن الأنبياء بعثوا لتحمل المضار الدنياوية و لا القول الغرض في بعثتهم تحمل ما سوى المضار الدينية من المضار فإنهم ما بعثوا لذلك و لا الغرض في بعثتهم ذلك و إنما بعثوا لأمر آخر و قد تحصل المضار في أداء الشرع ضمنا و تبعا لا على أنها الغرض و لا داخلة

[ 257 ]

في الغرض و على أن قول المرتضى لا يجوز أن يخاف زكريا من تبديل الدين و تغييره لأنه محفوظ من الله فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله غير مستمر على أصوله لأن المكلفين الآن قد حرموا بغيبة الإمام عنده ألطافا كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود و صلاة الجمعة و الأعياد و هو و أصحابه يقولون في ذلك أن اللوم على المكلفين لأنهم قد حرموا أنفسهم اللطف فهلا جاز أن يخاف زكريا من تبديل الدين و تغييره و إفساد الأحكام الشرعية لأنه إنما يجب على الله تعالى التبليغ بالرسول إلى المكلفين فإذا أفسدوا هم الأديان و بدلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم لأنهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف . و اعلم أنه قد قرئ وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي و قيل إنها قراءة زين العابدين و ابنه محمد بن علي الباقر ع و عثمان بن عفان و فسروه على وجهين أحدهما أن يكون ورائي بمعنى خلفي و بعدي أي قلت الموالي و عجزوا عن إقامة الدين تقول قد خف بنو فلان أي قل عددهم فسأل زكريا ربه تقويتهم و مظاهرتهم بولي يرزقه . و ثانيهما أن يكون ورائي بمعنى قدامي أي خف الموالي و أنا حي و درجوا و انقرضوا و لم يبق منهم من به اعتضاد و على هذه القراءة لا يبقى متعلق بلفظة الخوف . و قد فسر قوم قوله وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ أي خفت الذين يلون الأمر من بعدي لأن الموالي يستعمل في الوالي و جمعه موال أي خفت أن يلي بعد موتي أمراء و رؤساء يفسدون شيئا من الدين فارزقني ولدا تنعم عليه بالنبوة و العلم كما أنعمت

[ 258 ]

علي و اجعل الدين محفوظا به و هذا التأويل غير منكر و فيه أيضا دفع لكلام المرتضى . قال المرتضى و أما تعلق صاحب الكتاب في أن الميراث محمول على العلم بقوله وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ لأنه لا يرث أموال آل يعقوب في الحقيقة و إنما يرث ذلك غيره فبعيد من الصواب لأن ولد زكريا يرث بالقرابة من آل يعقوب أموالهم على أنه لم يقل يرث آل يعقوب بل قال يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ تنبيها بذلك على أنه يرث من كان أحق بميراثه في القرابة . فأما طعنه على من تأول الخبر بأنه ع لا يورث ما تركه للصدقة بقوله إن أحدا من الصحابة لم يتأوله على هذا الوجه فهذا التأويل الذي ذكرناه أحد ما قاله أصحابنا في هذا الخبر فمن أين له إجماع الصحابة على خلافه و إن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه . فإن قال لو كان ذلك لظهر و اشتهر و لوقف أبو بكر عليه فقد مضى من الكلام فيما يمنع من الموافقة على هذا المعنى ما فيه كفاية . قلت لم يكن ذلك اليوم أعني يوم حضور فاطمة ع و قولها لأبي بكر ما قالت يوم تقية و خوف و كيف يكون يوم تقية و هي تقول له و هو الخليفة يا ابن أبي قحافة أ ترث أباك و لا أرث أبي و تقول له أيضا لقد جئت شيئا فريا فكان ينبغي إذا لم يؤثر أمير المؤمنين ع أن يفسر لأبي بكر معنى الخبر أن يعلم فاطمة ع

[ 259 ]

تفسيره فتقول لأبي بكر أنت غالط فيما ظننت إنما قال أبي ما تركناه صدقة فإنه لا يورث . و اعلم أن هذا التأويل كاد يكون مدفوعا بالضرورة لأن من نظر في الأحاديث التي ذكرناها و ما جرت عليه الحال يعلم بطلانه علما قطعيا . قال المرتضى و قوله إنه لا يكون إذ ذلك تخصيص للأنبياء و لا مزية ليس بصحيح و قد قيل في الجواب عن هذا إن النبي ص يجوز أن يريد أن ما ننوي فيه الصدقة و نفرده لها من غير أن نخرجه عن أيدينا لا تناله ورثتنا و هذا تخصيص للأنبياء و مزية ظاهرة . قلت هذه مخالفة لظاهر الكلام و إحالة اللفظ عن وضعه و بين قوله ما ننوي فيه الصدقة و هو بعد في ملكنا ليس بموروث و قوله ما نخلفه صدقة ليس بموروث فرق عظيم فلا يجوز أن يراد أحد المعنيين باللفظ المفيد للمعنى الآخر لأنه إلباس و تعمية و أيضا فإن العلماء ذكروا خصائص الرسول في الشرعيات عن أمته و عددوها نحو حل الزيادة في النكاح على أربع و نحو النكاح بلفظ الهبة على قول فرقة من المسلمين و نحو تحريم أكل البصل و الثوم عليه و إباحة شرب دمه و غير ذلك و لم يذكروا في خصائصه أنه إذا كان قد نوى أن يتصدق بشي‏ء فإنه لا يناله ورثته لو قدرنا أنه يورث الأموال و لا الشيعة قبل المرتضى ذكرت ذلك و لا رأينا في كتاب من كتبهم و هو مسبوق بإجماع طائفته عليه و إجماعهم عندهم حجة . قال المرتضى فأما قوله إن قوله ع ما تركناه صدقة جملة من الكلام

[ 260 ]

مستقلة بنفسها فصحيح إذا كانت لفظة ما مرفوعة على الابتداء و لم تكن منصوبة بوقوع الفعل عليها و كانت لفظة صدقة أيضا مرفوعة غير منصوبة و في هذا وقع النزاع فكيف يدعى أنها جملة مستقلة بنفسها و أقوى ما يمكن أن نذكره أن نقول الرواية جاءت بلفظ صدقة بالرفع و على ما تأولتموه لا تكون إلا منصوبة و الجواب عن ذلك إنا لا نسلم الرواية بالرفع و لم تجر عادة الرواة بضبط ما جرى هذا المجرى من الإعراب و الاشتباه يقع في مثله فمن حقق منهم و صرح بالرواية بالرفع يجوز أن يكون اشتبه عليه فظنها مرفوعة و هي منصوبة قلت و هذا أيضا خلاف الظاهر و فتح الباب فيه يؤدي إلى إفساد الاحتجاج بكثير من الأخبار . قال و أما حكايته عن أبي علي أن أبا بكر لم يدفع إلى أمير المؤمنين ع السيف و البغلة و العمامة على جهة الإرث و قوله كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه و كيف خصصه بذلك دون العم الذي هو العصبة فما نراه زاد على التعجب و مما عجب منه عجبنا و لم يثبت عصمة أبي بكر فينتفي عن أفعاله التناقض . قلت لا يشك أحد في أن أبا بكر كان عاقلا و إن شك قوم في ذلك فالعاقل في يوم واحد لا يدفع فاطمة ع عن الإرث و يقول إن أباك قال لي إنني لا أورث ثم يورث في ذلك اليوم شخصا آخر من مال ذلك المتوفى الذي حكى عنه أنه لا يورث و ليس انتفاء هذا التناقض عن أفعاله موقوفا على العصمة بل على العقل .

[ 261 ]

قال المرتضى و قوله يجوز أن يكون النبي ص نحله إياه و تركه أبو بكر في يده لما في ذلك من تقوية الدين و تصدق ببدله و كل ما ذكره جائز إلا أنه قد كان يجب أن يظهر أسباب النحلة و الشهادة بها و الحجة عليها و لم يظهر من ذلك شي‏ء فنعرفه و من العجائب أن تدعي فاطمة فدك نحلة و تستشهد على قولها أمير المؤمنين ع و غيره فلا يصغى إلى قولها و يترك السيف و البغلة و العمامة في يد أمير المؤمنين على سبيل النحلة بغير بينة ظهرت و لا شهادة قامت . قلت لعل أبا بكر سمع الرسول ص و هو ينحل ذلك عليا ع فلذلك لم يحتج إلى البينة و الشهادة فقد روى أنه أعطاه خاتمه و سيفه في مرضه و أبو بكر حاضر و أما البغلة فقد كان نحله إياها في حجة الوداع على ما وردت به الرواية و أما العمامة فسلب الميت و كذلك القميص و الحجزة و الحذاء فالعادة أن يأخذ ذلك ولد الميت و لا ينازع فيه لأنه خارج أو كالخارج عن التركة فلما غسل ع أخذت ابنته ثيابه التي مات فيها و هذه عادة الناس على أنا قد ذكرنا في الفصل الأول كيف دفع إليه آلة النبي ص و حذاءه و دابته و الظاهر أنه فعل ذلك اجتهادا لمصلحة رآها و للإمام أن يفعل ذلك . قال المرتضى على أنه كان يجب على أبي بكر أن يبين ذلك و يذكر وجهه بعينه لما نازع العباس فيه فلا وقت لذكر الوجه في ذلك أولى من هذا الوقت . قلت لم ينازع العباس في أيام أبي بكر لا في البغلة و العمامة و نحوها و لا في غير

[ 262 ]

ذلك و إنما نازع عليا في أيام عمر و قد ذكرنا كيفية المنازعة و فيما ذا كانت . قال المرتضى رضي الله عنه في البردة و القضيب إن كان نحلة أو على الوجه الآخر يجري مجرى ما ذكرناه في وجوب الظهور و الاستشهاد و لسنا نرى أصحابنا يعني المعتزلة يطالبون أنفسهم في هذه المواضع بما يطالبوننا بمثله إذا ادعينا وجوها و أسبابا و عللا مجوزة لأنهم لا يقنعون منا بما يجوز و يمكن بل يوجبون فيما ندعيه الظهور و الاستشهاد و إذا كان هذا عليهم نسوه أو تناسوه . قلت أما القضيب فهو السيف الذي نحله رسول الله ص عليا ع في مرضه و ليس بذي الفقار بل هو سيف آخر و أما البردة فإنه وهبها كعب بن زهير ثم صار هذا السيف و هذه البردة إلى الخلفاء بعد تنقلات كثيرة مذكورة في كتب التواريخ . قال المرتضى فأما قوله فإن أزواج النبي ص إنما طلبن الميراث لأنهن لم يعرفن رواية أبي بكر للخبر و كذلك إنما نازع علي ع بعد موت فاطمة ع في الميراث لهذا الوجه فمن أقبح ما يقال في هذا الباب و أبعده عن الصواب و كيف لا يعرف أمير المؤمنين ع رواية أبي بكر و بها دفعت زوجته عن الميراث و هل مثل ذلك المقام الذي قامته و ما رواه أبو بكر في دفعها يخفى على من هو في أقاصي البلاد فضلا عمن هو في المدينة حاضر شاهد يراعي الأخبار و يعني بها إن هذا لخروج في المكابرة عن الحد و كيف يخفى على الأزواج ذلك حتى يطلبنه مرة بعد أخرى و يكون عثمان الرسول لهن و المطالب عنهن و عثمان على زعمهم أحد من شهد

[ 263 ]

أن النبي ص لا يورث و قد سمعن على كل حال أن بنت النبي ص لم تورث ماله و لا بد أن يكن قد سألن عن السبب في دفعها فذكر لهن الخبر فكيف يقال إنهن لم يعرفنه . قلت الصحيح أن أمير المؤمنين ع لم ينازع بعد موت فاطمة في الميراث و إنما نازع في الولاية لفدك و غيرها من صدقات رسول الله ص و جرى بينه و بين العباس في ذلك ما هو مشهور و أما أزواج النبي ص فما ثبت أنهن نازعن في ميراثه و لا أن عثمان كان المرسل لهن و المطالب عنهن إلا في رواية شاذة و الأزواج لما عرفن أن فاطمة ع قد دفعت عن الميراث أمسكن و لم يكن قد نازعن و إنما اكتفين بغيرهن و حديث فدك و حضور فاطمة عند أبي بكر كان بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله ص و الصحيح أنه لم ينطق أحد بعد ذلك من الناس من ذكر أو أنثى بعد عود فاطمة ع من ذلك المجلس بكلمة واحدة في الميراث . قال المرتضى فإن قيل فإذا كان أبو بكر قد حكم بالخطإ في دفع فاطمة ع عن الميراث و احتج بخبر لا حجة فيه فما بال الأمة أقرته على هذا الحكم و لم تنكر عليه و في رضاها و إمساكها دليل على صوابه . قلت قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا إلا في هذا الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا و ذكرنا في ذلك قولا شافيا و قد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال جوابا حسن المعنى و اللفظ نحن

[ 264 ]

نذكره على وجهه ليقابل بينه و بين كلامه في العثمانية و غيرها . قلت ما كناه المرتضى رحمه الله في غير هذا الموضع أصلا بل كان ساخطا عليه و كناه في هذا الموضع و استجاد قوله لأنه موافق غرضه فسبحان الله ما أشد حب الناس لعقائدهم . قال قال أبو عثمان و قد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما يعني أبا بكر و عمر في منع الميراث و براءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله ص النكير عليهما ثم قال قد يقال لهم لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما ليكونن ترك النكير على المتظلمين و المحتجين عليهما و المطالبين لهما دليلا على صدق دعواهم أو استحسان مقالتهم و لا سيما و قد طالت المناجاة و كثرت المراجعة و الملاحاة و ظهرت الشكية و اشتدت الموجدة و قد بلغ ذلك من فاطمة ع حتى إنها أوصت ألا يصلي عليها أبو بكر و لقد كانت قالت له حين أتته طالبة بحقها و محتجة لرهطها من يرثك يا أبا بكر إذا مت قال أهلي و ولدي قالت فما بالنا لا نرث النبي ص فلما منعها ميراثها و بخسها حقها و اعتل عليها و جلح في أمرها و عاينت التهضم و أيست من التورع و وجدت نشوة الضعف و قلة الناصر قالت و الله لأدعون الله عليك قال و الله لأدعون الله لك قالت و الله لا أكلمك أبدا قال و الله لا أهجرك أبدا فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلا على صواب منعها إن في ترك النكير على فاطمة ع دليلا على صواب طلبها و أدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت و تذكيرها ما نسيت و صرفها عن الخطإ و رفع قدرها عن البذاء و أن تقول هجرا أو تجور عادلا أو تقطع واصلا فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا فقد تكافأت

[ 265 ]

الأمور و استوت الأسباب و الرجوع إلى أصل حكم الله من المواريث أولى بنا و بكم و أوجب علينا و عليكم . قال فإن قالوا كيف تظن به ظلمها و التعدي عليها و كلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها لينا و رقة حيث تقول له و الله لا أكلمك أبدا فيقول و الله لا أهجرك أبدا ثم تقول و الله لأدعون الله عليك فيقول و الله لأدعون الله لك ثم يحتمل منها هذا الكلام الغليظ و القول الشديد في دار الخلافة و بحضرة قريش و الصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء و التنزيه و ما يجب لها من الرفعة و الهيبة ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذرا متقربا كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها و الصائن لوجهها المتحنن عليها ما أحد أعز علي منك فقرا و لا أحب إلي منك غنى و لكني سمعت رسول الله ص يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة قيل لهم ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم و السلامة من الجور و قد يبلغ من مكر الظالم و دهاء الماكر إذا كان أريبا و للخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم و ذلة المنتصف و حدب الوامق و مقة المحق و كيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة و دلالة واضحة و قد زعمتم أن عمر قال على منبره متعتان كانتا على عهد رسول الله ص متعة النساء و متعة الحج أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما فما وجدتم أحدا أنكر قوله و لا استشنع مخرج نهيه و لا خطأه في معناه و لا تعجب منه و لا استفهمه و كيف تقضون بترك النكير و قد شهد عمر يوم السقيفة و بعد ذلك

أن النبي ص قال الأئمة من قريش ثم قال في شكاته لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه شك حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين

[ 266 ]

جعلهم شورى و سالم عبد لامرأة من الأنصار و هي أعتقته و حازت ميراثه ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر و لا قابل إنسان بين قوله و لا تعجب منه و إنما يكون ترك النكير على من لا رغبة و لا رهبة عنده دليلا على صدق قوله و صواب عمله فأما ترك النكير على من يملك الضعة و الرفعة و الأمر و النهي و القتل و الاستحياء و الحبس و الإطلاق فليس بحجة تشفي و لا دلالة تضي‏ء . قال و قال آخرون بل الدليل على صدق قولهما و صواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما و الخروج عليهما و هم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل و رد النصوص و لو كان كما تقولون و ما تصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلهم فيه و عثمان كان أعز نفرا و أشرف رهطا و أكثر عددا و ثروة و أقوى عدة . قلنا إنهما لم يجحدا التنزيل و لم ينكرا النصوص و لكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث و ما عليه الظاهر من الشريعة ادعيا رواية و تحدثا بحديث لم يكن محالا كونه و لا ممتنعا في حجج العقول مجيئه و شهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه و لعل بعضهم كان يرى تصديق الرجل إذا كان عدلا في رهطه مأمونا في ظاهره و لم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة و لا جرت عليه غدرة فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن و تعديل الشاهد و لأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج و الذي يقطع بشهادته على الغيب و كان ذلك شبهة على أكثرهم فلذلك قل النكير و تواكل الناس فاشتبه الأمر فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلا العالم المتقدم أو المؤيد المرشد و لأنه لم يكن لعثمان في صدور العوام و قلوب السفلة و الطغام ما كان لهما من المحبة و الهيبة و لأنهما كانا أقل استئثارا بالفي‏ء و تفضلا بمال الله منه و من شأن الناس إهمال السلطان ما وفر عليهم أموالهم و لم يستأثر بخراجهم و لم يعطل ثغورهم و لأن الذي صنع أبو بكر

[ 267 ]

من منع العترة حقها و العمومة ميراثها قد كان موافقا لجلة قريش و كبراء العرب و لأن عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه مستخفا بقدره لا يمنع ضيما و لا يقمع عدوا و لقد وثب ناس على عثمان بالشتم و القذف و التشنيع و النكير لأمور لو أتى أضعافها و بلغ أقصاها لما اجترءوا على اغتيابه فضلا على مبادأته و الإغراء به و مواجهته كما أغلظ عيينة بن حصن له فقال له أما إنه لو كان عمر لقمعك و منعك فقال عيينة إن عمر كان خيرا لي منك أرهبني فاتقاني . ثم قال و العجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه و القدر و الوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه و خصومه ما هو أقرب إسنادا و أصح رجالا و أحسن اتصالا حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي ص نسخوا الكتاب و خصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما ردوه و أكذبوا قائليه و ذلك أن كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه و يصدق ما وافق رضاه . هذا آخر كلام الجاحظ ثم قال المرتضى رضي الله عنه فإن قيل ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير و قوله كما لم ينكروا على أبي بكر فلم ينكروا أيضا على فاطمة ع و لا على غيرها من الطالبين بالإرث كالأزواج و غيرهن معارضة صحيحة و ذلك أن نكير أبي بكر لذلك و دفعها و الاحتجاج عليها و يكفيهم و يغنيهم عن تكلف نكير آخر و لم ينكر على أبي بكر ما رواه منكر فيستغنوا بإنكاره . قلنا أول ما يبطل هذا السؤال أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه بعد

[ 268 ]

احتجاجها من التظلم و التألم و التعنيف و التبكيت و قولها على ما روي و الله لأدعون الله عليك و لا أكلمك أبدا و ما جرى هذا المجرى فقد كان يجب أن ينكره غيره و من المنكر الغضب على المنصف و بعد فإن كان إنكار أبي بكر مقنعا و مغنيا عن إنكار غيره من المسلمين فإنكار فاطمة حكمه و مقامها على التظلم منه مغن عن نكير غيرها و هذا واضح