فصل في ذكر بعض وصايا العربو ينبغي أن يذكر في هذا الموضع وصايا من كلام قوم من رؤساء العرب أوصوا بها أولادهم و رهطهم فيها آداب حسان و كلام فصيح و هي مناسبة لعهد أمير المؤمنين ع هذا و وصاياه المودعة فيه و إن كان كلام أمير المؤمنين ع أجل و أعلى من أن يناسبه كلام لأنه قبس من نور الكلام الإلهي و فرع من دوحة المنطق النبوي . روى ابن الكلبي قال لما حضرت الوفاة أوس بن حارثة أخا الخزرج لم يكن له ولد غير مالك بن الأوس و كان لأخيه الخزرج خمسة قيل له كنا نأمرك بأن تتزوج في شبابك فلم تفعل حتى حضرك الموت و لا ولد لك إلا مالك فقال لم يهلك هالك ترك مثل مالك و إن كان الخزرج ذا عدد و ليس لمالك ولد فلعل الذي استخرج [ 119 ] العذق من الجريمة و النار من الوثيمة أن يجعل لمالك نسلا و رجالا بسلا و كلنا إلى الموت يا مالك المنية و لا الدنية و العتاب قبل العقاب و التجلد لا التبلد و اعلم أن القبر خير من الفقر و من لم يعط قاعدا حرم قائما و شر الشرب الاشتفاف و شر الطعم الاقتفاف و ذهاب البصر خير من كثير من النظر و من كرم الكريم الدفع عن الحريم و من قل ذل و خير الغنى القناعة و شر الفقر الخضوع الدهر صرفان صرف رخاء و صرف بلاء و اليوم يومان يوم لك و يوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر و إذا كان عليك فاصطبر و كلاهما سينحسر و كيف بالسلامة لمن ليست له إقامة و حياك ربك . و أوصى الحارث بن كعب بنيه فقال يا بني قد أتت علي مائة و ستون سنة ما صافحت يميني يمين غادر و لا قنعت لنفسي بخلة فاجر و لا صبوت بابنة عم و لا كنة و لا بحت لصديق بسر و لا طرحت عن مومسة قناعا و لا بقي على دين عيسى ابن مريم و قد روي على دين شعيب من العرب غيري و غير تميم بن مر بن أسد بن خزيمة فموتوا على شريعتي و احفظوا علي وصيتي و إلهكم فاتقوا يكفكم ما أهمكم و يصلح لكم حالكم و إياكم و معصيته فيحل بكم الدمار و يوحش منكم الديار كونوا جميعا و لا تفرقوا فتكنوا شيعا و بزوا قبل أن تبزوا فموت [ 120 ] في عز خير من حياة في ذل و عجز و كل ما هو كائن كائن و كل جمع إلى تباين و الدهر صرفان صرف بلاء و صرف رخاء و اليوم يومان يوم حبرة و يوم عبرة و الناس رجلان رجل لك و رجل عليك زوجوا النساء الأكفاء و إلا فانتظروا بهن القضاء و ليكن أطيب طيبهم الماء و إياكم و الورهاء فإنها أدوأ الداء و إن ولدها إلى أفن يكون لا راحة لقاطع القرابة و إذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم و آفة العدد اختلاف الكلمة و التفضل بالحسنة يقي السيئة و المكافأة بالسيئة دخول فيها و عمل السوء يزيل النعماء و قطيعة الرحم تورث الهم و انتهاك الحرمة يزيل النعمة و عقوق الوالدين يعقب النكد و يخرب البلد و يمحق العدد و الإسراف في النصيحة هو الفضيحة و الحقد منع الرفد و لزوم الخطيئة يعقب البلية و سوء الدعة يقطع أسباب المنفعة و الضغائن تدعو إلى التباين يا بني إني قد أكلت مع أقوام و شربت فذهبوا و غبرت و كأني بهم قد لحقت ثم قال
أكلت شبابي فأفنيته وصى أكثم بن صيفي بنيه و رهطه فقال يا بني تميم لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي إن بين حيزومي و صدري لكلاما لا أجد له مواقع إلا أسماعكم و لا مقار إلا قلوبكم فتلقوه بأسماع مصغية و قلوب دواعية تحمدوا مغبته الهوى [ 121 ] يقظان و العقل راقد و الشهوات مطلقة و الحزم معقول و النفس مهملة و الروية مقيدة و من جهة التواني و ترك الروية يتلف الحزم و لن يعدم المشاور مرشدا و المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل و من سمع سمع به و مصارع الرجال تحت بروق الطمع و لو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام و على الاعتبار طريق الرشاد و من سلك الجدد أمن العثار و لن يعدم الحسود أن يتعب قلبه و يشغل فكره و يورث غيظه و لا تجاوز مضرته نفسه يا بني تميم الصبر على جرع الحلم أعذب من جنا ثمر الندامة و من جعل عرضه دون ماله استهدف للذم و كلم اللسان أنكى من كلم السنان و الكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم فإذا نجمت مزجت فهي أسد محرب أو نار تلهب و رأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز و نفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن و الضرب . و أوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلدا حين استخلفه على جرجان فقال له يا بني قد استخلفتك على هذه البلاد فانظر هذا الحي من اليمن فكن لهم كما قال الشاعر
إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم و انظر هذا الحي من ربيعة فإنهم شيعتك و أنصارك فاقض حقوقهم و انظر هذا الحي من تميم فأمطرهم و لا تزه لهم و لا تدنهم فيطمعوا و لا تقصهم فيقطعوا و انظر هذا الحي من قيس فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية و مناصفوهم المآثر في الإسلام و رضاهم منك البشر يا بني إن لأبيك صنائع فلا تفسدها فإنه كفى بالمرء نقصا أن يهدم ما بنى أبوه و إياك و الدماء فإنه لا تقية معها و إياك و شتم الأعراض فإن الحر [ 122 ] لا يرضيه عن عرضه عوض و إياك و ضرب الأبشار فإنه عار باق و وتر مطلوب و استعمل على النجدة و الفضل دون الهوى و لا تعزل إلا عن عجز أو خيانة و لا يمنعك من اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها و ليكن صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم و إذا كتبت كتابا فأكثر النظر فيه و ليكن رسولك فيما بيني و بينك من يفقه عني و عنك فإن كتاب الرجل موضع عقله و رسوله موضع سره و أستودعك الله فلا بد للمودع أن يسكت و للمشيع أن يرجع و ما عف من المنطق و قل من الخطيئة أحب إلى أبيك . و أوصى قيس بن عاصم المنقري بنيه فقال يا بني خذوا عني فلا أحد أنصح لكم مني إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم فسودوا أكبركم فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم و إذا سودوا أصغرهم أزرى ذلك بهم في أكفائهم و إياكم و معصية الله و قطيعة الرحم و تمسكوا بطاعة أمرائكم فإنهم من رفعوا ارتفع و من وضعوا اتضع و عليكم بهذا المال فأصلحوه فإنه منبهة للكريم و جنة لعرض اللئيم و إياكم و المسألة فإنها آخر كسب الرجل و إن أحدا لم يسأل إلا ترك الكسب و إياكم و النياحة فإني سمعت رسول الله ص ينهى عنها و ادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها و أصوم و لا يعلم بكر بن وائل بمدفني فقد كانت بيني و بينهم مشاحنات في الجاهلية و الإسلام و أخاف أن يدخلوا عليكم بي عارا و خذوا عني ثلاث خصال إياكم و كل عرق لئيم أن تلابسوه فإنه إن يسرركم اليوم يسؤكم غدا و اكظموا الغيظ و احذروا بني أعداء آبائكم فإنهم على منهاج آبائهم ثم قال [ 123 ]
أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا قال ابن الكلبي فيحكي الناس هذا البيت سابقا للزبير و ما هو إلا لقيس بن عاصم . و أوصى عمرو بن كلثوم التغلبي بنيه فقال يا بني إني قد بلغت من العمر ما لم يبلغ أحد من آبائي و أجدادي و لا بد من أمر مقتبل و أن ينزل بي ما نزل بالآباء و الأجداد و الأمهات و الأولاد فاحفظوا عني ما أوصيكم به إني و الله ما عيرت رجلا قط أمرا إلا عيرني مثله إن حقا فحق و إن باطلا فباطل و من سب سب فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لأعراضكم و صلوا أرحامكم تعمر داركم و أكرموا جاركم بحسن ثنائكم و زوجوا بنات العم بني العم فإن تعديتم بهن إلى الغرباء فلا تألوا بهن عن الأكفاء و أبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال فإنه أغض للبصر و أعف للذكر و متى كانت المعاينة و اللقاء ففي ذلك داء من الأدواء و لا خير فيمن لا يغار لغيره كما يغار لنفسه و قل من انتهك حرمة لغيره إلا انتهكت حرمته و امنعوا القريب من ظلم الغريب فإنك تدل على قريبك و لا يجمل بك ذل غريبك و إذا تنازعتم في الدماء فلا يكن حقكم الكفاء فرب رجل خير من ألف و ود خير من خلف و إذا حدثتم فعوا و إذا حدثتم فأوجزوا فإن مع الإكثار يكون الإهذار و موت عاجل خير من ضنى آجل و ما بكيت من زمان إلا دهاني بعده زمان و ربما شجاني من لم يكن أمره [ 124 ] عناني و ما عجبت من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة و اعلموا أن أشجع القوم العطوف و خير الموت تحت ظلال السيوف و لا خير فيمن لا روية له عند الغضب و لا فيمن إذا عوتب لم يعتب و من الناس من لا يرجى خيره و لا يخاف شره فبكوؤه خير من دره و عقوقه خير من بره و لا تبرحوا في حبكم فإن من أبرح في حب آل ذلك إلى قبيح بغض و كم قد زارني إنسان و زرته فانقلب الدهر بنا فقبرته و اعلموا أن الحليم سليم و أن السفيه كليم أني لم أمت و لكن هرمت و دخلتني ذلة فسكت و ضعف قلبي فأهترت سلمكم ربكم و حياكم . و من كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه و الملوك من بعده رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان الملك و الدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه فالدين أس الملك و عماده ثم صار الملك حارس الدين فلا بد للملك من أسه و لا بد للدين من حارسه فأما ما لا حارس له فضائع و ما لا أس له فمهدوم إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إياكم إلى دراسة الدين و تأويله و التفقه فيه فتحملكم الثقة بقوة الملك على التهاون بهم فتحدث في الدين رئاسات منتشرات سرا فيمن قد وترتم و جفوتم و حرمتم و أخفتم و صغرتم من سفلة الناس و الرعية و حشو العامة ثم لا تنشب تلك الرئاسات أن تحدث خرقا في الملك و وهنا في الدولة و اعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجسادكم الرعية لا على قلوبها و إن غلبتم الناس على ما في أيديهم فلن تغلبوهم على ما في عقولهم و آرائهم و مكايدهم و اعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه و هو أقطع سيفيه و إن أشد ما يضر بكم من لسانه ما صرف الحيلة فيه إلى الدين فكان للدنيا يحتج و للدين فيما يظهر يتعصب فيكون [ 125 ] للدين بكاؤه و إليه دعاؤه ثم هو أوحد للتابعين و المصدقين و المناصحين و المؤازرين لأن تعصب الناس موكل بالملوك و رحمتهم و محبتهم موكلة بالضعفاء المغلوبين فاحذروا هذا المعنى كل الحذر و اعلموا أنه ليس ينبغي للملك أن يعرف للعباد و النساك بأن يكونوا أولى بالدين منه و لا أحدب عليه و لا أغضب له و لا ينبغي له أن يخلي النساك و العباد من الأمر و النهي في نسكهم و دينهم فإن خروج النساك و غيرهم من الأمر و النهي عيب على الملوك و على المملكة و ثلمة بينة الضرر على الملك و على من بعده . و اعلموا أنه قد مضى قبلنا من أسلافنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الحماية بالتفتيش و الجماعة بالتفضيل و الفراغ بالاشتغال كتعهده جسده بقص فضول الشعر و الظفر و غسل الدرن و الغمر و مداواة ما ظهر من الأدواء و ما بطن و قد كان من أولئك الملوك من صحة ملكه أحب إليه من صحة جسده فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد و كان أرواحهم روح واحدة يمكن أولهم لآخرهم و يصدق آخرهم أولهم يجتمع أبناء أسلافهم و مواريث آرائهم و ثمرات عقولهم عند الباقي منهم بعدهم و كأنهم جلوس معه يحدثونه و يشاورونه حتى كأن على رأس دارا بن دارا ما كان من غلبة الإسكندر الرومي على ما غلب عليه من ملكه و كان إفساده أمرنا و تفرقته جماعتنا و تخريبه عمران مملكتنا أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا فلما أذن الله عز و جل في جمع مملكتنا و إعادة أمرنا كان من بعثه إيانا ما كان و بالاعتبار يتقى العثار و التجارب الماضية دستور يرجع إليه من الحوادث الآتية . و اعلموا أن طباع الملوك على غير طباع الرعية و السوقة فإن الملك يطيف به العز و الأمن و السرور و القدرة على ما يريد و الأنفة و الجرأة و العبث و البطر و كلما ازداد [ 126 ] في العمر تنفسا و في الملك سلامة ازداد من هذه الطبائع و الأخلاق حتى يسلمه ذلك إلى سكر السلطان الذي هو أشد من سكر الشراب فينسى النكبات و العثرات و الغير و الدوائر و فحش تسلط الأيام و لؤم غلبة الدهر فيرسل يده بالفعل و لسانه بالقول و عند حسن الظن بالأيام تحدث الغير و تزول النعم و قد كان من أسلافنا و قدماء ملوكنا من يذكره عزه الذل و أمنه الخوف و سروره الكآبة و قدرته المعجزة و ذلك هو الرجل الكامل قد جمع بهجة الملوك و فكرة السوقة و لا كمال إلا في جمعها . و اعلموا أنكم ستبلون على الملك بالأزواج و الأولاد و القرباء و الوزراء و الأخدان و الأنصار و الأعوان و المتقربين و الندماء و المضحكين و كل هؤلاء إلا قليلا أن يأخذ لنفسه أحب إليه من أن يعطي منها عمله و إنما عمله سوق ليومه و ذخيرة لغده فنصيحته للملوك فضل نصيحته لنفسه و غاية الصلاح عنده صلاح نفسه و غاية الفساد عنده فسادها يقيم للسلطان سوق المودة ما أقام له سوق الأرباح و المنافع إذا استوحش الملك من ثقاته أطبقت عليه ظلم الجهالة أخوف ما يكون العامة آمن ما يكون الوزراء و آمن ما يكون العامة أخوف ما يكون الوزراء . و اعلموا أن كثيرا من وزراء الملوك من يحاول استبقاء دولته و أيامه بإيقاع الاضطراب و الخبط في أطراف مملكة الملك ليحتاج الملك إلى رأيه و تدبيره فإذا عرفتم هذا من وزير من وزرائكم فاعزلوه فإنه يدخل الوهن و النقص على الملك و الرعية لصلاح حال نفسه و لا تقوم نفسه بهذه النفوس كلها . و اعلموا أن بدء ذهاب الدولة ينشأ من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة و لا أعمال معلومة فإذا نشأ الفراغ تولد منه النظر في الأمور و الفكر في الفروع و الأصول . فإذا نظروا في ذلك نظروا فيه بطبائع مختلفة فتختلف بهم المذاهب و يتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم و تضاغنهم و هم مع اختلافهم هذا متفقون و مجتمعون على بغض الملوك فكل صنف منهم إنما يجري إلى فجيعة الملك بملكه و لكنهم لا يجدون سلما إلى [ 127 ] ذلك أوثق من الدين و الناموس ثم يتولد من تعاديهم أن الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد فإن انفرد باختصاص بعضهم صار عدو بقيتهم ولى طباع العامة استثقال الولاة و ملالهم و النفاسة عليهم و الحسد لهم و في الرعية المحروم و المضروب و المقام عليه الحدود و يتولد من كثرتهم مع عداوتهم أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم فإن في إقدام الملك على الرعية كلها كافة تغريرا بملكه و يتولد من جبن الملك عن الرعية استعجالهم عليه و هم أقوى عدو له و أخلقه بالظفر لأنه حاضر مع الملك في دار ملكه فمن أفضى إليه الملك بعدي فلا يكونن بإصلاح جسده أشد اهتماما منه بهذه الحال و لا تكونن لشيء من الأشياء أكره و أنكر لرأس صار ذنبا و ذنب صار رأسا و يد مشغولة صارت فارغة أو غني صار فقيرا أو عامل مصروف أو أمير معزول . و اعلموا أن سياسة الملك و حراسته ألا يكون ابن الكاتب إلا كاتبا و ابن الجندي إلا جنديا و ابن التاجر إلا تاجرا و هكذا في جميع الطبقات فإنه يتولد من تنقل الناس عن حالاتهم أن يلتمس كل امرئ منهم فوق مرتبته فإذا انتقل أوشك أن يرى شيئا أرفع مما انتقل إليه فيحسد أو ينافس و في ذلك من الضرر المتولد ما لا خفاء به فإن عجز ملك منكم عن إصلاح رعيته كما أوصيناه فلا يكون للقميص القمل أصرع خلعا منه لما لبس من قميص ذلك الملك . و اعلموا أنه ليس ملك إلا و هو كثير الذكر لمن يلي الأمر بعده و من فساد أمر الملك نشر ذكره ولاة العهود فإن في ذلك ضروبا من الضرر و أن ذلك دخول عداوة بين الملك و ولي عهده لأنه تطمح عينه إلى الملك و يصير له أحباب و أخدان يمنونه ذلك و يستبطئون موت الملك ثم إن الملك يستوحش منه و تنساق الأمور إلى هلاك أحدهما و لكن لينظر الوالي منكم لله تعالى ثم لنفسه ثم للرعية و لينتخب وليا للعهد من بعده [ 128 ] و لا يعلمه ذلك و لا أحد من الخلق قريبا كان منه أو بعيدا ثم يكتب اسمه في أربع صحائف و يختمها بخاتمه و يضعها عند أربعة نفر من أعيان أهل المملكة ثم لا يكون منه في سره و علانيته أمر يستدل به على ولي عهده من هؤلاء في إدناء و تقريب يعرف به و لا في إقصاء و أعراض يستراب له و ليتق ذلك في اللحظة و الكلمة فإذا هلك الملك جمعت تلك الصحائف إلى النسخة التي تكون في خزانة الملك فتفض جميعا ثم ينوه حينئذ باسم ذلك الرجل فيلقي الملك إذا لنية بحداثة عهده بحال السوقة و يلبسه إذا لبسه ببصر السوقة و سمعها فإن في معرفته بحاله قبل إفضاء الملك إليه سكرا تحدثه عنده ولاية العهد ثم يلقاه الملك فيزيده سكرا إلى سكره فيعمي و يصم هذا مع ما لا بد أن يلقاه أيام ولاية العهد من حيل العتاة و بغي الكذابين و ترقية النمامين و إيغار صدره و إفساد قلبه على كثير من رعيته و خواص دولته و ليس ذلك بمحمود و لا صالح . و اعلموا أنه ليس للملك أن يحلف لأنه لا يقدر أحد استكراهه و ليس له أن يغضب لأنه قادر و الغضب لقاح الشر و الندامة و ليس له أن يعبث و يلعب لأن اللعب و العبث من عمل الفراغ و ليس له أن يفرغ لأن الفراغ من أمر السوقة و ليس للملك أن يحسد أحدا إلا على حسن التدبير و ليس له أن يخاف لأنه لا يد فوق يده . و اعلموا أنكم لن تقدروا على أن تختموا أفواه الناس من الطعن و الإزراء عليكم و لا قدرة لكم على أن تجعلوا القبيح من أفعالكم حسنا فاجتهدوا في أن تحسن أفعالكم كلها و إلا تجعلوا للعامة إلى الطعن عليكم سبيلا . و اعلموا أن لباس الملك و مطعمه و مشربه مقارب للباس السوقة و مطعمهم و ليس [ 129 ] فضل الملك على السوقة إلا بقدرته على اقتناء المحامد و استفادة المكارم فإن الملك إذا شاء أحسن و ليس كذلك السوقة . و اعلموا أن لكل ملك بطانة و لكل رجل من بطانته بطانة ثم إن لكل امرئ من بطانة البطانة بطانة حتى يجتمع من ذلك أهل المملكة فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب فيهم أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامة الرعية . احذروا بابا واحدا طالما أمنته فضرني و حذرته فنفعني احذروا إفشاء السر بحضرة الصغار من أهليكم و خدمكم فإنه ليس يصغر واحد منهم عن حمل ذلك السر كاملا لا يترك منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون إما سقطا أو غشا . و اعلموا أن في الرعية صنفا أتوا الملك من قبل النصائح له و التمسوا إصلاح منازلهم بإفساد منازل الناس فأولئك أعداء الناس و أعداء الملوك و من عادى الملوك و الناس كلهم فقد عادى نفسه . و اعلموا أن الدهر حاملكم على طبقات فمنها حال السخاء حتى يدنو أحدكم من السرف و منها حال التبذير حتى يدنو من البخل و منها حال الأناة حتى يدنو من البلادة و منها حال انتهاز الفرصة حتى يدنو من الخفة و منها حال الطلاقة في اللسان حتى يدنو من الهذر و منها حال الأخذ بحكمة الصمت حتى يدنو من العي فالملك منكم جدير أن يبلغ من كل طبقة في محاسنها حدها فإذا وقف عليه ألجم نفسه عما وراءها . و اعلموا أن ابن الملك و أخاه و ابن عمه يقول كدت أن أكون ملكا و بالحري ألا أموت حتى أكون ملكا فإذا قال ذلك قال ما لا يسر الملك و إن كتمه فالداء [ 130 ] في كل مكتوم و إذا تمنى ذلك جعل الفساد سلما إلى الصلاح و لم يكن الفساد سلما إلى صلاح قط و قد رسمت لكم في ذلك مثالا اجعلوا الملك لا ينبغي إلا لأبناء الملوك من بنات عمومتهم و لا يصلح من أولاد بنات العم إلا كامل غير سخيف العقل و لا عازب الرأي و لا ناقص الجوارح و لا مطعون عليه في الدين فإنكم إذا فعلتم ذلك قل طلاب الملك و إذا قل طلابه استراح كل امرئ إلى ما يليه و نزع إلى حد يليه و عرف حاله و رضي معيشته و استطاب زمانه . فقد ذكرنا وصايا قوم من العرب و وصايا أكثر ملوك الفرس و أعظمهم حكمة لتضم إلى وصايا أمير المؤمنين فيحصل منها وصايا الدين و الدنيا فإن وصايا أمير المؤمنين ع الدين عليها أغلب و وصايا هؤلاء الدنيا عليها أغلب فإذا أخذ من أخذ التوفيق بيده بمجموع ذلك فقد سعد و لا سعيد إلا من أسعده الله [ 131 ] |