نبذ من الأقوال الحكمية في حمد القناعة و قلة الأكل

و قد مضى القول في صغر الدنيا في عين أهل التحقيق فأما سلطان البطن و مدح الإنسان بأنه لا يكثر من الأكل إذا وجد أكلا و لا يشتهي من الأكل ما لا يجده فقد قال الناس فيه فأكثروا . قال أعشى باهلة يرثي المنتشر بن وهب

طاوي المصير على العزاء منصلت
بالقوم ليلة لا ماء و لا شجر
تكفيه فلذة لحم إن ألم بها
من الشواء و يروي شربه الغمر
و لا يباري لما في القدر يرقبه
و لا تراه أمام القوم يفتقر

[ 185 ]

لا يغمز الساق من أين و لا وصب
و لا يعض على شرسوفه الصفر

و قال الشنفري

و أطوي على الخمص الحوايا كما انطوت
خيوطة ماري تغار و تفتل
و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
و ما ذاك إلا بسطة عن تفضل
عليهم و كان الأفضل المتفضل

و قال بعضهم لابنه يا بني عود نفسك الأثرة و مجاهدة الهوى و الشهوة و لا تنهش نهش السباع و لا تقضم قضم البراذين و لا تدمن الأكل إدمان النعاج و لا تلقم لقم الجمال إن الله جعلك إنسانا فلا تجعل نفسك بهيمة و لا سبعا و احذر سرعة الكظة و داء البطنة فقد قال الحكيم إذا كنت بطنا فعد نفسك من الزمنى . و قال الأعشى

و البطنة يوما تسفه الأحلاما

و اعلم أن الشبع داعية البشم و البشم داعية السقم و السقم داعية الموت و من مات هذه الميتة فقد مات موتة لئيمة و هو مع هذا قاتل نفسه و قاتل نفسه ألوم من قاتل غيره يا بني و الله ما أدى حق السجود و الركوع ذو كظة و لا خشع لله ذو بطنة و الصوم مصحة و لربما طالت أعمار الهند و صحت أبدان العرب و لله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم و أن الداء إدخال الطعام في أثر الطعام يا بني لم صفت أذهان الأعراب و صحت أذهان الرهبان مع طول الإقامة في الصوامع حتى لم تعرف وجع المفاصل و لا الأورام إلا لقلة الرزء و وقاحة الأكل و كيف لا ترغب في تدبير يجمع لك بين صحة البدن و ذكاء الذهن و صلاح المعاد

[ 186 ]

و القرب و عيش الملائكة يا بني لم صار الضب أطول شي‏ء ذماء إلا لأنه يتبلغ بالنسيم و لم زعم رسول الله ص أن الصوم وجاء إلا ليجعله حجابا دون الشهوات فافهم تأديب الله و رسوله فإنهما لا يقصدان إلا مثلك يا بني إني قد بلغت تسعين عاما ما نقص لي سن و لا انتشر لي عصب و لا عرفت دنين أنف و لا سيلان عين و لا تقطير بول ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة و إن كنت تريد الموت فلا يبعد الله إلا من ظلم . و كان يقال البطنة تذهب الفطنة . و قال عمرو بن العاص لأصحابه يوم حكم الحكمان أكثروا لأبي موسى من الطعام الطيب فو الله ما بطن قوم قط إلا فقدوا عقولهم أو بعضها و ما مضى عزم رجل بات بطينا . و كان يقال أقلل طعاما تحمد مناما و دعا عبد الملك بن مروان رجلا إلى الغداء فقال ما في فضل فقال إني أحب الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل فقال يا أمير المؤمنين عندي مستزاد و لكني أكره أن أصير إلى الحال التي استقبحها أمير المؤمنين . و كان يقال مسكين ابن آدم أسير الجوع صريع الشبع . و سأل عبد الملك أبا الزعيرعة فقال هل أتخمت قط قال لا قال و كيف قال لأنا إذا طبخنا أنضجنا و إذا مضغنا دققنا و لا نكظ المعدة و لا نخليها . و كان يقال من المروءة أن يترك الإنسان الطعام و هو بعد يشتهيه . و قال الشاعر

فإن قراب البطن يكفيك ملؤه
و يكفيك سوآت الأمور اجتنابها

و قال عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي كان عمي يقول لي لا تخرج يا بني من منزلك

[ 187 ]

حتى تأخذ حلمك يعني تتغذى فإذا أخذت حلمك فلا تزدد إليه حلما فإن الكثرة تئول إلى قلة و

في الحديث المرفوع ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن بحسب الرجل من طعامه ما أقام صلبه و أما إذا أبيت فثلث طعام و ثلث شراب و ثلث نفس و

روى حذيفة عن النبي ص من قل طعمه صح بطنه و صفا قلبه و من كثر طعمه سقم بطنه و قسا قلبه و

عنه ص لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام و الشراب فإن القلب يموت بهما كالزرع يموت إذا أكثر عليه الماء و

روى عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال أكلت يوما ثريدا و لحما سمينا ثم أتيت رسول الله و أنا أتجشأ فقال احبس جشأك أبا جحيفة إن أكثركم شبعا في الدنيا أكثركم جوعا في الآخرة قال فما أكل أبو جحيفة بعدها مل‏ء بطنه إلى أن قبضه الله و

أكل علي ع قليلا من تمر دقل و شرب عليه ماء و أمر يده على بطنه و قال من أدخله بطنه النار فأبعده الله ثم تمثل

فإنك مهما تعط بطنك سؤله
و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا

و كان ع يفطر في رمضان الذي قتل فيه عند الحسن ليلة و عند الحسين ليلة و عند عبد الله بن جعفر ليلة لا يزيد على اللقمتين أو الثلاث فيقال له فيقول إنما هي ليال قلائل حتى يأتي أمر الله و أنا خميص البطن فضربه ابن ملجم لعنه الله تلك الليلة . و قال الحسن لقد أدركت أقواما ما يأكل أحدهم إلا في ناحية بطنه ما شبع رجل منهم من طعام حتى فارق الدنيا كان يأكل فإذا قارب الشبع أمسك . و أنشد المبرد

[ 188 ]

فإن امتلاء البطن في حسب الفتى
قليل الغناء و هو في الجسم صالح

و

قال عيسى ع يا بني إسرائيل لا تكثروا الأكل فإنه من أكثر من الأكل أكثر من النوم و من أكثر النوم أقل الصلاة و من أقل الصلاة كتب من الغافلين و

قيل ليوسف ع ما لك لا تشبع و في يديك خزائن مصر قال إني إذا شبعت نسيت الجائعين . و قال الشاعر

و أكلة أوقعت في الهلك صاحبها
كحبة القمح دقت عنق عصفور
لكسرة بجريش الملح آكلها
ألذ من تمرة تحشى بزنبور

و وصف لسابور ذي الأكتاف رجل من إصطخر للقضاء فاستقدمه فدعاه إلى الطعام فأخذ الملك دجاجة من بين يديه فنصفها و جعل نصفها بين يدي ذلك الرجل فأتى عليه قبل أن يفرغ الملك من أكل النصف الآخر فصرفه إلى بلده و قال إن سلفنا كانوا يقولون من شره إلى طعام الملك كان إلى أموال الرعية أشره . قيل لسميرة بن حبيب إن ابنك أكل طعاما فأتخم و كاد يموت فقال و الله لو مات منه ما صليت عليه

أنس يرفعه إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت . دخل عمر على عاصم ابنه و هو يأكل لحما فقال ما هذا قال قرمنا إليه قال أ و كلما قرمت إلى اللحم أكلته كفى بالمرء شرها أن يأكل كل ما يشتهي .

أبو سعيد يرفعه استعينوا بالله من الرعب قالوا هو الشره و يقال الرعب شؤم

أنس يرفعه أصل كل داء البردة قالوا هي التخمة و قال أبو دريد العرب تعير بكثرة الأكل و أنشد

لست بأكال كأكل العبد
و لا بنوام كنوم الفهد

[ 189 ]

و قال الشاعر

إذا لم أزر إلا لآكل أكلة
فلا رفعت كفي إلي طعامي
فما أكلة إن نلتها بغنيمة
و لا جوعة إن جعتها بغرام

ابن عباس كان رسول الله ص يبيت طاويا ليالي ما له و لأهله عشاء و كان عامة طعامه الشعير و

قالت عائشة و الذي بعث محمدا بالحق ما كان لنا منخل و لا أكل رسول الله ص خبزا منخولا منذ بعثه الله إلى أن قبض قالوا فكيف كنتم تأكلون دقيق الشعير قالت كنا نقول أف أف

أنس ما أكل رسول الله ص رغيفا محورا إلى أن لقي ربه عز و جل

أبو هريرة ما شبع رسول الله ص و أهله ثلاثة أيام متوالية من خبز حنطة حتى فارق الدنيا و روى مسروق قال دخلت على عائشة و هي تبكي فقلت ما يبكيك قالت ما أشاء أن أبكي إلا بكيت مات رسول الله ص و لم يشبع من خبز البر في يوم مرتين ثم انهارت علينا الدنيا . حاتم الطائي

و إني لأستحيي صحابي أن يروا
مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
أقصر كفي أن تنال أكفهم
إذا نحن أهوينا و حاجاتنا معا
أبيت خميص البطن مضطمر الحشا
حياء أخاف الضيم أن أتضلعا

[ 190 ]

فإنك إن أعطيت نفسك سؤلها
و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا

فأما قوله ع كان لا يتشهى ما لا يجد فإنه قد نهى أن يتشهى الإنسان ما لا يجد و قالوا إنه دليل على سقوط المروءة . و قال الأحنف جنبوا مجالسنا ذكر تشهي الأطعمة و حديث النكاح . و قال الجاحظ جلسنا في دار فجعلنا نتشهى الأطعمة فقال واحد و أنا أشتهي سكباجا كثيرة الزعفران و قال آخر أنا أشتهي طباهجة ناشفة و قال آخر أنا أشتهي هريسة كثيرة الدارصيني و إلى جانبنا امرأة بيننا و بينها بئر الدار فضربت الحائط و قالت أنا حامل فأعطوني مل‏ء هذه الغضارة من طبيخكم فقال ثمامة جارتنا تشم رائحة الأماني

[ 191 ]