الصفحة السابقة الصفحة التالية

المعيار والموازنة

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

 

ص 26

[10 / الفتح: 48]. ثم قال: ما العمرة يريدان ولقد أتياني بوجهي فاجرين وخرجا من عندي بوجهي غادرين (1) ناكثين [والله] لا ألقاهما [بعد] إلا في كتيبة خشناء يقتلان فيها أنفسهما، فما خفي أمرهما عليه، ولقد أصاب الرأي فيهما وأعمل الحق في تخليتهما حتى كشفا قناعهما، وأبرزا صفحتهما للحق. فأما عائشة، فقد علمتم توبتها ورجوعها (2) وذلك لأن الله أمرها بلزوم بيتها، ونهاها ألا تتبرج بقوله: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [33 / الأحزاب: 33] وقد وقفتها أم سلمة على ما فيه رشدها وصلاحها، وذكرتها وصية النبي صلى الله عليه وسلم لها، وأم سلمة لم تقل ما قالت في علي لقرابتها القريبة منه، ولا لهوى وميل إليه بغير الحق، وقد كانت مخزومية غير أن الدين والتقوى والورع والرغبة في الحق دعاها إلى القول بفضل علي والصدع به.

(هامش)

(1) هذا هو الصواب الموافق لما رويناه في المختار: (68) من نهج السعادة: ج 1، ص 232 ط 1، وما وضعناه بعد ذلك بين المعقوفات أيضا مأخوذ منه، وفي الأصل: بوجهين فاجرين وخرجا من عندي بوجهين غادرين.. (2) القرائن حاكمة بعدم توبتها، وأن ندامتها كانت ندامة مغلوبة لا تائبة، منها قولها لما بلغها شهادة أمير المؤمنين عليه السلام: فألقت عصاها واستقر بها النوا * كما قر عينا بالإياب المسافر وانظر شرح القصة مما ذكرناه في ذيل المختار: (65) من باب الوصايا من نهج السعادة: ج 8 ص 508 ومنها منعها من دفن الإمام الحسن في حجرة جده رسول الله صلى الله عليه وآله. كما رواه ابن سعد في الحديث: (175) من ترجمة الإمام الحسن عليه السلام من الطبقات الكبرى. ج 8 ص... ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (357) من ترجمة الإمام الحسن عليه السلام من تاريخ دمشق ص 224. ورواه أيضا في الحديث: (71) من ترجمة الإمام الحسن عليه السلام من أنساب الأشراف: ج 3 ص 61 ط 1. ورواه أيضا المدائني كما في شرح المختار: (31) من الباب الثاني من نهج البلاغة، من شرح ابن أبي الحديد: ج 16، ص 13، طبع الحديث بمصر. ورواه أيضا أبو الفرج في آخر ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من مقاتل الطالبيين ص 74. (*)

ص 27

[ما خطته أم المؤمنين عائشة ونقضته أم المؤمنين أم سلمة سلام الله عليها]

. وفيما يؤثر عنها: أن عائشة لما لقيتها بمكة قالت لها: يا بنت أبي أمية كنت أول ضعينة هاجرت، وكنت كبيرة أمهات المؤمنين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لنا من بيتك، وكان جبريل أكثر شيء تعبدا في بيتك (1). قالت أم سلمة: يا بنت أبي بكر لأمر ما تقولين هذا القول؟! قالت عائشة: إن ابني وابن أختي (2) أخبراني أن القوم استتابوا الرجل حتى إذا تاب قتلوه - يعني عثمان - وأخبراني: أن ابن عامر أخبرهم أن بالبصرة مائة ألف يغضبون لقتله ويطلبون بدمه وقد خشيت أن يكون بين الناس حربا ودما، فهل لك أن أسير أنا وأنت لعل الله أن يصلح هذا الأمر على أيدينا؟ قالت لها أم سلمة: يا بنت أبي بكر: أبدم عثمان تطلبين؟ فوالله إن كنت لأشد الناس عليه وما كنت تدعينه إلا نعثلا! أم على علي ابن أبي طالب تنقمين وقد بايعه المهاجرون والأنصار، أذكرك الله وخمسا (3) سمعتهن أنا وأنت من رسول الله صلى الله عليه وآله! قالت: وما هن؟ قالت: [أتذكرين] يوم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن معه حتى إذا هبط من قديد مال الناس ذات اليمين وذات الشمال، فأقبل هو وعلي بن أبي طالب يتناجيان، فأقبلت على جملك [عليهما] فنهيتك، وقلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن عمه ولعل لهما حاجة، فعصيتيني، فهجمت عليهما فلم تلبثي أن رجعت تبكين، فقلت لك:

(هامش)

(1) وفي شرح نهج البلاغة: وكان جبريل أكثر ما يكون في منزلك . (2) وفي شرح نهج البلاغة: إن عبد الله أخبرني أن القوم . (3) وفي شرح نهج البلاغة: فقالت أم سلمة إنك كنت بالأمس تحرضين على عثمان وتقولين فيه أخبث القول، وما كان اسمه عندك إلا نعثلا، وإنك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب، أفأزدك؟ قالت: نعم... . (*)

ص 28

قد نهيتك، فقلت: والله ما جرأني على ذلك إلا أنه يومي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لك: ما أبكاك؟ فقلت: هجمت عليهما فقلت: يا علي إنما لي من رسول الله صلى الله عليه من تسعة أيام يوم، فلا تدعني ويومي؟ فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبانا محمرا وجهه، فقال: والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي وغيرهم إلا خرج من الإيمان، وإنه مع الحق والحق معه! أتذكرين هذا؟ قالت: نعم! قالت: ويوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تغسلين رأسه وأنا أحيس [له] حيسا (1) وكان يعجبه فرفع رأسه إلي فقال: يا بنت أبي أمية أعيذك بالله أن تكوني منبحة كلاب الحوأب، وأنت يومئذ ناكبة عن الصراط. فرفعت يدي من الحيس فقلت: أعوذ بالله وبرسوله من ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إحداكن يفعل هذا (2) أتذكرين هذا؟ قالت: نعم! قالت: ويوم كنا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة بنت عمر فتبذلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولبست كل امرأة منا ثياب صاحبتها فأقبل رسول الله / 6 / صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جنبك وكنت تعجبينه فقال: وضرب بيده على ظهرك: أترين يا حميراء أني لا أعرفك إن لأمتي منك يوما مرا. أتذكرين هذا؟ قالت: نعم (3). قالت: ويوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وكان علي يتعاهد ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعله، فإذا رأى ثوبه قد توسخ

(هامش)

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في شرح النهج، وفي الأصل: وأنت تفلين رأسه وأنا أحوس حيسا وكان يعجبه.. . (2) وفي شرح النهج: قالت: وأذكرك أيضا كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وأنت تغسلين رأسه وأنا أحيس له حيسا، وكان الحيس يعجبه فرفع رأسه وقال: يا ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأذنب. تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكية عن الصراط. فرفعت يدي من الحيس فقلت: أعوذ بالله وبرسوله من ذلك. ثم ضرب على ظهرك وقال: إياك أن تكونيها. ثم قال: يا بنت أبي أمية ة إياك أن تكونيها. يا حميراء أما أنا فقد أنذرتك . (3) من قوله: قالت ويوم كنا أزواج رسول الله إلى قولها: نعم غير موجود في شرح النهج طبع مصر بدار الكتب العربية. (*)

ص 29

غسله، وإذا رأى نعله قد نقبت أو رثت خصفها، فأقبل علي يوما فأخذ نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فخصفها في ظل سمرة، فأقبل أبوك وعمر فاستأذنا فقمنا إلى الحجاب فدخلا ثم قالا: يا رسول الله إنا والله ما ندري ما قدر ما تصحبنا، أفلا تعلمنا خليفتك فينا فيكون مفزعنا إليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إني قد أرى مكانه ولو فعلت لنفرتم عنه كما نفرت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران. فلما أن خرجا، خرجت أنا وأنت فقلت له: - وكنت جريئة عليه -: يا رسول الله من كنت مستخلفا عليهم،؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خاصف النعل، قال: فنظرت إلى علي بن أبي طالب فقلت: يا رسول الله ما أرى إلا علي بن أبي طالب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو ذاك. أتذكرين هذا؟ قالت: نعم (1). قالت: ويوم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه عند موته. فقال: يا نسائي! اتقين الله وقرن في بيوتكن ولا يستفزنكن أحد. أتذكرين هذا؟ قالت: نعم. فخرجت من عندها وقد ضعفت عزيمتها، وفترت عن الخروج، وأمرت مناديها فنادى بمكة: ألا إن أم المؤمنين قد بدا لها من الخروج. فاجتمع عليها طلحة والزبير، ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير، فقلبوا رأيها وموهوا الأمور عليها، واستغلطوها واستغفلوها، وقالوا لها: تخرجين وتصلحين بين الناس فلعل الله أن يدفع بك الفتنة فهو أعظم لأجرك؟!! فردوا رأيها وقووا عزمها (2).

(هامش)

(1) وفي أواخر باب مناقب أهل البيت من اللآلي المصنوعة: ج 1، ص 211 ط 1. شاهد لما ها هنا. (2) ورواه أيضا ابن أبي الحديد في شرح المختار: (79) من نهج البلاغة - وهو قوله عليه السلام: معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان.. -: ج 2 ص 77 ط مصر،وفيط الحديث بمصر: ج 6 ص 217

ورواه عنه العلامة الأميني في الغدير: ج 2 ص 319 ط 3. (*)

ص 30

[كتاب أم المؤمنين أم سلمة رضوان الله عليها إلى أمير المؤمنين عند مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة وإعلامها أمير المؤمنين بمسير القوم وبعثها ابنها عمر بن أبي سلمة لمعاضدة أمير المؤمنين عليه السلام]

. فلما ساروا إلى البصرة ذكروا أن أم سلمة كتبت إلى علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين! إنه والله لولا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقر في بيوتنا لخرجت معك، ولكنني باعثة معك سمعي وبصري عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن أخيك فأغذه بالعلم ورشحه بالمروءة. واحفظ منه ما تحفظ من ابني الحسن والحسين. فلما زحف علي للمسير دعت أم سلمة ابنها، وكان له فضل وفقه وعبادة، فقالت له: يا بني إلحق بعلي بن أبي طالب فإذا لقيت الخيل فاطعن واضرب واعلم أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في علي قولا لا يحل لك [بعده] أن تتخلف [عنه] ولا يحل لي أن أحبسك. فمضى إلى علي حتى لحق به وقاتل معه.

ص 31

[ذكر أصناف المخالفين والمعادين للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام]

 ونحن راجعون إلى ذكر أصناف المخالفين، ثم نأتي إلى الرد عليهم بما فيه إيضاح الحق وقمع الباطل، فاستمعوا لما نحن ذاكروه، وأحضرونا أفهامكم، والتمسوا الإنصاف بترك الميل يتبين لكم الحق بدلائله الواضحة وأسبابه الجلية. قد علمتم أن أقوى الخطأ في هذا الباب - والذي أشكل على أهل النظر - من علماء المرجئة والمعتزلة [هو جهلهم بأول هذا الأمر وآخره، وقلة معرفتهم بالنظر والتمييز بين السنة والفريضة، وتشريعهم التقليد بما دعت إليه ملوك بني أمية] (1) فبعضهم قدم أبا بكر على علي، وبعضهم أمسك ودان بالوقف. وأفضح من هذا خطأ موازنة علي بطلحة والزبير، والوقوف عندهم، وهو ما تعلقت به خاصة العامة. وأعظم من هذا جهلا وعمى موازنة علي بمعاوية وهو ما ذهب إليه بعض العامة المتحيرة وطغام الحشوية البائنة. فإذا بدأنا بالقول الأول وبينا باطله، وأوضحنا خطأه وضح ما بعده وبان. ولعلي بن أبي طالب رضي الله عنه (2) عند اختلاف الناس فيه مثل من عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، فاختلفت الأمة / 7 / في علي أصنافا كما اختلفت أمة عيسى صلى الله عليه فيه أصنافا، وأفرط فيه قوم فعبدوه، وقصر فيه قوم فشتموه وقذفوه.

(هامش)

(1) ما وضعناه بين المعقوفين مأخوذ مما تقدم عن المصنف في ص 4. (2) وفي هامش الأصل بخط مغاير لخط الأصل: صلوات الله عليه.. . (*)

ص 32

فمنزلة النصارى في الافراط، منزلة الروافض في الافراط (1) ومنزلة المرجئة في النصب والتقصير في علي منزلة اليهود في التقصير وشتم عيسى بن مريم صلى الله عليه. وفي ذلك ما يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: يهلك فيك رجلان محب مفرط، ومبغض مفرط (2). وأول ما [يجب] في هذا الباب من التنبيه على الحق قبل التلخيص والتفسير: أنكم تعلمون أن بلدان النصب والمقصرين على فضل علي بن أبي طالب الشام والري والبصرة. وأما البصرة، فإن الأمور لما انكشفت ورجع الناس - بعد الذي كان - إلى النظر استبصروا وأبصروا وشيعوا وزادوا، وكذلك أهل الشام والري (3). [و] ليعلم أن أموره تنكشف على طول الأيام، وأن الحق يعلو عند النظر بما ترادف من قوارع الحجج، فيمل الناس الجهل والتعصب والخطأ (4). وأخرى أيضا أنك لم تر شيعيا قط رجع القهقرى بل يزداد في الافراط، ويغلو في القول ولا يرجع إلى التقصير حتى يصير بالإفراط رافضيا كبيرا!!! ولذلك قال بعض الناس: أرني شيعيا صغيرا أريك رافضيا كبيرا.

(هامش)

(1) مراده من الروافض هم القائلون بربوبية علي بقرينة تنزيل منزلتهم منزلة النصارى. (2) هذا هو الصواب، وفي الأصل: ومغط مفرط . وللحديث مصادر كثيرة، وقد ذكره الحافظ الحسكاني في تفسير قوله تعالى: ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون [57 / الزخرف: 44] ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (737) وما حوله من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2 ص 159 ط 2 وقد علقناه أيضا عليهما من مصادر شتى. ورواه أيضا البحراني في الباب: (181) من كتاب غاية المرام ص 424. ورواه أيضا في الحديث: (132 - 135) في الباب: (35) من السمط الأول من فرائد السمطين: ج 1، ص 172، ط 1. (3) التشيع في عموم أهل الشام غير معهود، نعم تركوا لعن أمير المؤمنين وشتمه في أيام بني العباس، في الأماكن العامة وعلى رؤوس الأشهاد. (4) لعل هذا هو الصواب، وظاهر رسم الخط من الأصل المخطوط: الخطباء . (*)

ص 33

وعلة ذلك أنه إذا قال بالتشيع اتسعت عليه الفضائل وكثرت المناقب وترد عليه عند النظر من فضائل صاحبه، وتقدمه دلائل تبهر وتلوح كالقمر الأزهر وكالنجوم المضيئة فيضيق عليه المخرج، فلا يكون عنده من الورع وحزم التوقي ولطافة النظر والعلم بالمخرج ما يمنعه من الغلو ويقعده من الافراط والتقدم، فعندها ترفض. وأفرط [قوم في بغضه ومقته فلعنه] وشتم وكفر (1) وقال قوم بنبوته. وقال آخرون فيه بمثل مقالة النصارى في عيسى بن مريم. ولا تجد أحدا قال ذلك في أبي بكر وعمر. بل قد نجد القائلين بتقديم أبي بكر وعمر قد يرجعون إلى ترك المذهب، ويميلون إلى الاعتقاد الحسن، والصواب في اعتقاد التشيع. ولسنا نجعل إفراط من أفرط وشتم من شتم حجة في تقديم علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر، وإنما جعلنا ذلك تنبيها قبل النظر لتعلموا أن التمييز والمعرفة في تقديمه يحثان على الفحص والنظر، ولأن قوما دعاهم التعصب والحمق إلى أن جعلوا إفراط من أفرط فيه، وخلاف من خالفه تنقصا لأبي الحسن صلوات الله عليه، فأريناهم أن ذلك في الفضل أولى من النقص، وعلى التقديم أدل منه على التقصير كما قلنا في عيسى بن مريم. [وبلغ التوهم إلى حد] حتى دعا قوما إلى أن زعموا أن كثرة الخلاف عليه في عسكره وما حدث من نكث الناكثين عليه يدل على أنه لم يكن له نفاذ في التدبير ولا كان معه من حسن التأليف ورجاحة السياسة ما كان مع غيره على ما زعموا. وهذا غاية ما يكون من التعدي في القول والإفراط في ترك قلة الإنصاف وذلك بأنهم لم يوقفونا من سوء تدبيره وخطأ سياسته على أمر معروف ولا على حديث في ذلك مأثور ومشهور، و[إنما] أرادوا أن يوجهوا ذلك بالقياس قصدا منهم إلى نصرة الخطأ وميلا إلى العصبية والحما.

(هامش)

(1) ما بين المعقوفين قد سقط من الأصل، ولا بد منه أو مما هو في معناه. (*)

ص 34

وهيهات أن ينالوا في علي ما قصدوا إليه، ولو كان ما ذهبوا إليه صوابا قلنا (1): فارتداد العرب قاطبة، واجتماعها على الردة في أيام أبي بكر أعظم وأدل على الخطأ في الرأي، والغلط في السياسة، لأن الفتنة كانت أعظم في أيامه وكذلك فتنتهم أيام عثمان. - المعيار والموازنة - أبوجعفر الإسكافي ص 34: أشد، واختلافهم [عليه] أكبر وأجل، فما قلتم / 8 / على عثمان أوجب ومن أبي حسن أبعد لأن الخلاف عليه كان هو سببه وعلته وذلك مأثور مشهور في [كتب] العامة فكيف في [كتب] الخاصة. وذلك أن القوم خالفوه لما ظهر من ضعفه وعواره، ولما حدث عندهم من نهمته ودعوى من ادعى عليه تبديل السنن واستيثار الفئ، وإيواء الطريد (2) ورجوعه [عن رأيه] مرة بعد أخرى، ومن شيء بعد شيء، وإخراج أبي ذر رضي الله عنه (3). فهذا عليكم في عثمان قد وجب، وفي علي قد بطل، فالحمد لله على تعريفه بهت من كفر، وقمع من عاند. ومتى اعتل أهل الحيرة في تنقيص أبي حسن بما حدث في زمانه من الخلاف والفتن، فذلك عليهم في أبي بكر أوجب ولعثمان ألزم. ومتى صوبوا رأي عثمان في كفه عن الحرب وخطأوا عليا في إقدامه على القتال لزمهم تخطئة أبي بكر في محاربته لمن منع الزكاة أ [ن] يلزموه الضلال والخطأ إذ زعم أنه يسفك الدماء ويقتل الأنفس من أجل عقال لو منعوه. ومتى صوبوا أبا بكر في رأيه، خطأوا عثمان في كفه عن الدفع عن نفسه ودينه. فأين المذهب والمفر وقد أحاطت بكم الحجج لولا المعاندة والتعصب. وأبين من هذا أن أسامة بن زيد لما سئل عن علة قعوده (4) عن نصرة أمير المؤمنين على أعدائه أنه قال: حلفت أيام النبي صلى الله عليه وسلم أن لا أقاتل من قال: لا

(هامش)

(1) هذا هو الظاهر وفي الأصل: فإن قلنا: فارتداد العرب.. . (2) وهو الحكم بن أبي العاص أبو مروان بن الحكم الذي كان يستهزئ برسول الله صلى الله عليه وآله. (3) وما ذكره هاهنا من ضروريات التاريخ، راجع تاريخ الطبري وأنساب الأشراف والكامل لابن الأثير وغيرها. (4) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: عن علته وقعوده . (*)

ص 35

إله إلا الله. وذلك إنه كان في سرية في بعض محاربة المشركين فقتل رجلا بعد أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال رسول الله: قتلته وهو يشهد أن لا إله إلا الله؟ فعاهد [أسامة] رسول الله صلى الله عليه أن لا يقاتل أحدا يشهد الشهادتين. فأخطأ في أول مرة في الحكم في قتل الكفرة، وغلط في حكم الله في محاربة أهل القبلة، لأن الكافر إنما وجبت محاربته لإنكاره الشهادة، وأهل الصلاة لم يجب قتالهم لإقرارهم (1) وإنما وجب قتالهم لبغيهم، فالحكم في أهل الصلاة أن يكف عن قتلهم إذا رجعوا عن بغيهم، وفاؤا إلى أمر ربهم كما أن الحكم في أهل الكفر أن لا يقاتلوا إذا رجعوا عن كفرهم. فلم يسلم [أسامة] من الخطأ في إقدامه ولم يدرك الصواب في إمساكه، فغلط أسامة الضعيف في الحكمين [جميعا]. على أن هذا من قول أسامة يدل على تخطئة أبي بكر في رأيه، لأن أبا بكر قد رأى محاربة من أقر بالشهادة وصلى القبلة. والعجب أن الخلاف على أبي بكر كان في هذا الرأي أكثر، لأن عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أسندوا رأيهم في خلاف أبي بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمعنا النبي صلى الله عليه يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. فكان هذا من قولهم أكبر في الخلاف، وأعظم في الشبهة مما رواه محمد بن مسلمة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأيت فتنة فاتخذ سيفا من خشب واضرب بسيفك الحائط (1). مع روايتكم الظاهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: علي مع الحق والحق

(هامش)

(1) كذا. (2) وعلى أمثال هذا الخائن يوجه وينطبق قوله تعال في الآية: (49) من سورة التوبة: (9) ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. (*)

ص 36

مع علي (1) فكيف تكون فتنة [حرب] قائدها ودليلها علي بن أبي طالب؟!. مع روايتكم المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن وليتموها أبا بكر وجدتموه ضعيفا في بدنه قويا في دين الله، وإن وليتموها عمر وجدتموه قويا في بدنه قويا في دين الله، وإن وليتموها عليا يهدكم طريق الحق ويسلك بكم المحجة البيضاء (2). فقبلوا هذا الرأي من أبي بكر من غير أن يسنده لهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستشهد عليه أحدا من طريق الأثر، وشكوا في مثله، ولم يصوبوا / 9 / نظيره في [علي في] محاربته من بغى ونكث وشق العصا واستأثر بالفئ (3) مع إسناد

(هامش)

(1) رواه الترمذي في الحديث الثالث من باب مناقب علي عليه السلام من سننه: ج 12، ص 126. وانظر ما رواه ابن عساكر في الحديث: (1162) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق. ج 3 ص 120 ط 1. وانظر أيضا الباب: (36) من السمط الأول من فرائد السمطين: ج 1، ص 176، ط 1. ورواه أيضا في الباب: (45) من الفصل الأخير من كتاب غاية المرام ص 539 ط 1، عن مصادر. ورواه أيضا العلامة الأميني في الغدير: ج 3 ص 179، ط 2. ورواه أيضا عن مصادر في كتاب ذيل إحقاق الحق: ج 5 ص 644. (2) للحديث مع هذه الخصوصية أسانيد كلها ضعيفة، ولهذا أدرجه ابن الجوزي في الواهيات، كما في ذيل الخلافة من منتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد: ج 2 ص 191، ط 1. وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: ج 3 ص 70: هذا الخبر منكر. نعم ذيل الحديث: إن وليتموها عليا يهدكم طريق الحق ويسلك بكم المحجة البيضاء صحيح من أجل شهادة القرائن الخارجية على صدقه، ومن جهة كونه مرويا بأسانيد أخر معتبرة، ومن جهة كونه مرويا بروايات شيعة آل أبي سفيان، وبني العباس ومعاداتهما لأهل البيت لا تقل عما بين إبراهيم ونمرود، وموسى وفرعون؟!! فراجع ما علقناه على الحديث: (97 - 100) من شواهد التنزيل: ج 1، ص 61 - 63 ط 1. وراجع أيضا ما ذكرناه في تعليق الحديث: (1110) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 68 وتواليها، ط 1. وراجع أيضا ما فندنا به صدر الحديث تحت الرقم: (208) من السمط الأول من فرائد السمطين: ج 1، ص 266 ط 1. (3) لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: واستأثروا بعد.. . (*)

ص 37

علي [فعله] إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قوله: إنه لعهد النبي صلى الله (5) عليه إلي أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين . وشهادة المهاجرين والأنصار له بما قال [و] فيهم عمار بن ياسر، وأبو أيوب الأنصاري، وأهل الفضل والسابقة. [وإنما قدمنا هذه المقدمة] لتعلموا أن شأن من ذهب عن فضل أمير المؤمنين [ليس إلا] المعاندة واتباع الهوى دون الحجة.

(هامش)

(5) وفي الأصل كتب فوق قوله: صلى الله عليه لفظتا عليه السلام . ثم إن أمر النبي عليا عليه السلام بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين من الأخبار المتواترة المقطوعة الصدور عن النبي صلى الله عليه وآله، وعده العلماء من أدلة صدق النبي ونبوته لأنه أخبر بهذا الأمر قبل تحققه فوقع على طبق ما أخبر به. فممن ذكره في أعلام النبوة هو أبو حاتم الرازي في الفصل: (5) من كتاب أعلام النبوة ص 110، ومنهم أبو نعيم والبيهقي في كتابيهما دلائل النبوة. وللحديث مصادر وأسانيد كثيرة، وشواهد جمة تجدها تحت الرقم: (216) وتواليه في الباب: (53) من السمط الأول من فرائد السمطين: ج 1، ص 278 ط 1، وتحت الرقم: (1195) وتواليه من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 158، ط 1. (*)

ص 38

[بيان بدء بيعة أبي بكر، وبيانه وإبانته عن نفسيته وشخصيته].

 فارجعوا الآن إلى النظر في بدء بيعة أبي بكر، وكيف كان السبب لتعلموا أن القوم لم يميلوا إليه تفضيلا له على علي بن أبي طالب، ولا جعلوا ذلك علة للتقدمة. ولسنا نحتج عليكم بما روته الرافضة من أن بيعته كانت على المغالبة والقهر دون الاجتماع والرفق (1) والذي رويتم أن القوم لما بلغهم اجتماع الأنصار وتأميرهم سعدا، مضوا وبادروا بالبيعة عن غير شورى ولا اجتماع ولا نظر. فالتمسنا طلب المخرج، وتأولنا ما رويتم تأويلا حسنا، فقلنا: إن القوم لما بلغهم اجتماع الأنصار، وما بدأوا به من الخلاف بادروا بالبيعة لأبي بكر مخافة الانتشار والاختلاف وفساد القوم (2) ولذلك قال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقاه الله شرها. [وإنما أنطقه الله بذلك] لتعلموا أن القوم لم يميلوا إلى أبي بكر بالتقديم، ولا وجبت [له] الإمامة بالتفضيل، ولا ادعى ذلك له أحد علمناه وإنما كانت علتهم في ذلك دفع قول الأنصار [وبيان حق] القرابة من رسول الله صلى الله عليه [و] أن الإمامة في قريش محصورة، وعلى غيرهم محظورة.

(هامش)

(1) هذا غير مختص بروايات الرافضة بل الناصبة من شيعة أبي بكر أيضا رووا ذلك مع شدة كراهتهم عن رواية أمثاله مما يوهن أمر أبي بكر وأصحابه، ويفضحهم عند من له إنسانية وحرية ضمير، فراجع قضية السقيفة من أنساب الأشراف وتاريخ الطبري وكتاب السقيفة للجوهري وتاريخ الكامل من أمثالها مما ألفه من له إنصاف، وممن يراعي حق العلم والأمانة مقدارا ما. (2) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: لفساد القول... . (*)

ص 39

ولسنا نحتج عليكم إلا بسلاحكم، ولا نأخذكم إلا بما رويتم لتعلموا أن الحق قوي، وأن الباطل وهي. وما يحقق ما قلنا ويصدقه قول أبي بكر: وليتكم ولست بخيركم فقد أبان عن نفسه بخلاف ما قلتم، وكذبكم نصا في مقالتكم (1). فإن زعم قوم أن قوله: وليتكم ولست بخيركم معناه: [لست بخيركم] نسبا. كان هذا من التأويل خطأ، لأن الخبر متى خرج مرسلا عاما، وحمل على الخصوص بطلت حجية الأخبار، وسقط الاحتجاج بالآثار فلم ينتج (2) علم أخبار الله في القرآن وسقطت المناظرة وتعلق كل مبطل بمثل هذه العلة وجعل العام خاصا، والخاص عاما، ولو ساغ هذا التأويل لساغ مثله في الخبر، لو جاء عن أبي بكر: وليتكم ولست بخيركم (3). فإن قال قائل: لو قال هذا لم يكن للتأويل مساغ. قلنا: بلي. يقول: لست، بخيركم دينا فيما مضى ولست بخيركم دينا في نفس الولاية، فإنما كنت خيركم دينا بنفس السبق والهجرة. ومعنى قوله: لست بخيركم دينا، يريد أني لم أكن خيركم دينا من أجل ولايتكم. وهذا أشد [خطأ] من الأول لأنه ذكر الولاية في كلامه ولم يذكر النسب، والكلام على عمومه يلزمكم مخرجه وظاهره، فمن ادعى الخصوص ادعى أمرا معينا لا يوصل إلى علمه إلا بأمر ظاهر أو خبر منصوص، وقائل هذا لم يذهب إلى معنى [يدل عليه ظاهر الكلام، أو خبر منصوص يبين المراد منه] غير أن ضيق الباطل يدعو صاحبه إلى مثل هذا التأويل. وذلك لأن نسب أبي بكر كان معروفا عند القوم غير مجهول، ولم يكن بينهم

(هامش)

(1) كذا في الأصل، غير أن جملة: وكذبكم نصا في كانت فيه مهملة. (2) لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: والآثار فلم كتب علم أخيار الله في القرآن.. . (3) كذا. (*)

ص 40

مشاجرة في النسب، ولا شبهة فيحتاج أبو بكر إلى ذكره ونعته فهذا من قوله محال، وقد علموا جميعا أن أبا بكر ليس بخيرهم نسبا، ولا معنى لهذا التأويل أكثر من التلطف إلى الحيلة، وإنما قال أبو بكر ذلك عندنا على جهة الإبانة [عن نفسه]. فإن بعض الناس (1) توهم أن الولاية كانت لأبي بكر على جهة التفضيل والتقدمة، فأبان عن نفسه، ونفى غلط الناس في ذلك وخطأهم وتعديهم وردهم إلى الحق، ووقفهم عليه لأن هذا كان طريقه ومذهبه / 10 / أن يحمل الناس على الصواب فيه وفي غيره، ويبين لهم الحق عند تركه والذهاب عنه، فقال: وليتكم ولست بخيركم فلا تجعلوا ولايتي سببا لغلطكم وقولكم: أني أفضل وأحق من غيري. وقد احتال قوم أيضا لهذه الكلمة حيلة أخرى، فقالوا: إنما كان ذلك منه على حد التواضع والنصفة، وترك التزكية، لأن المؤمن لا يمدح نفسه ولا يزكيها على لسانه لقول الله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [32 / النجم: 53]. وهذا في التأويل أوضح خطأ من الأول مع ما يلزم قائله من النقص وذلك لأن التواضع لا يكون في الكذب ولا الإنصاف يكون على نفي مصير الحق، لأن هذا القول من غير أبي بكر كذب، وكيف يكون من غيره كذبا ومنه تواضعا؟ ولا يجوز أن يقول المؤمن: لست بمؤمن تواضعا وقد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر الخلق تواضعا وإنصافا، ولا يجوز أن يقول: أرسلت إليكم ولست بخيركم على التواضع والنصفة، وليس من التواضع أن يقول الزكي: لست بزكي (2) والمؤمن لست بمؤمن، والصالح لست بصالح، والفاضل لست بفاضل، وإنما التواضع يكون بالإمساك عن ذكر نفسه ومدحه لها وحسن المحاورة والمساواة، بحسن العشرة. ثم نرجع إلى المقدمين لأبي بكر على أبي حسن بالمسألة، فنقول (3): ما حجتكم

(هامش)

(1) هذا هو الصواب، وفي الأصل: وإن بعض الناس.. . (2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل لست: لست بمؤمن.. . (3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: فيقال: ما حجتكم... . (*)

ص 41

في تفضيله على علي بن أبي طالب؟ فإن لجأوا إلى اجتماع الناس على أبي بكر وهي من أكبر عللهم قلنا لهم: إن تقديم الناس له قد شرحنا سببه، وإن اختيارهم له لا يوجب له الفضل على غيره، وإنما سألناكم عن إبانة فضله على غيره قبل الاختيار له، وإلا فإن لم يكن قبل الاختيار فاضلا مقدما على علي بن أبي طالب لم يكن لقولكم: اختاروه لأنه أفضل معنى يثبت النسب؟ وإن زعمتم أن باختيارهم [له] كان فاضلا لفعل غيره، لأن اختيارهم له فعلهم. و[الجواب إنه لو كان باختيارهم فاضلا مقدما، لكان قبل الأخيار منقوصا مؤخرا، فأرونا فضله على علي وتقدمه عليه بفضيلة مشهورة [كي يكون] لاختيارهم بذلك مستحقا، وبالإمامة أولا، وإلا فلم نسلم لكم ما ادعيتم أبدا. فإن قالوا: قد كانت له فضائل لا يعرف عليها، وعلي لا يعرفها، غير أنا نعلم أن اختيارهم له [كان] عن تقديم وتفضيل. يقال لهم فما الفرق بينكم وبين من قال: أجمعوا على أبي بكر لعلة لا أقف عليها، إلا أني أعلم أنهم لم يجمعوا عليه لأنه كان أفضل، ولو كان قبل الاختيار أفضل من علي لبان ذلك وشهر، ولكان ظاهرا غير مكتم، ولو كان اختيارهم لعلة تفضيله وكانت إمامة المفضول غير جائزة لما جاز للأنصار أن يقولوا: منا أمير ومنكم أمير، ولكان حراما على أبي بكر أن يمد يده إلى عمر وأبي عبيدة ويقول: أنا أبايع أيكم شاء فليمد يده. فإن قالوا: الدليل على ما قلنا: صلاته بالناس أيام حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: مري أبا بكر يصلي بالناس. قلنا: هذا خبر جاء عن عائشة لم تقم حجته ولم تلقه الأمة بالقبول، على أنا متى سلمنا لكم الحديث لم يجب به تقدمة لأبي بكر على علي، ومتى نظرنا في آخر الحديث احتجنا إلى أن نطلب للحديث مخرجا من النقص والتقصير وذلك أن في آخره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجد إفاقة وأحس بقوة خرج حتى أتى المسجد، وتقدم فأخذ بيد أبي بكر فنحاه عن مقامه وقام في موضعه. فقالت الرافضة: هذا من فعله يدل على أن ذلك لم يكن عن أمره ودليل على تهمة

ص 42

الخبر بل يوجب اليقين والعلم بأن الأمر له بالصلاة لو كان تلقيا (1) عن الرسول صلى الله عليه لم يخرج بالمبادرة مع الضعف / 11 / والعلة حتى نحاه وصار في موضعه، ولو كان ذلك عن أمره لتركه وصلى خلفه كما صلى خلف عبد الرحمن بن عوف. وقد شهدتم جميعا أن صلاته خلف عبد الرحمان بن عوف لا توجب له تقديما على علي بن أبي طالب. مع ما يدخل حديثكم من الوهن والضعف والشذوذ. وقد عارضتكم الرافضة في حديثكم، فقالت: كيف قبلتم قول عائشة في الصلاة وجعلتموها حجة، ولم تقبلوا قول فاطمة في فدك، وشهادة أم أيمن لها وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة. فإن قلتم: إن الحكم في الأصول لا تجب بشهادة امرأة! قلنا لكم: وكذلك الحجة في الدين لا يثبت بقول امرأة، ولئن كانت صلاة أبي بكر بالناس توجب له التقدم على من صلى خلفه، فصلاة عمرو بن العاص بأبي بكر وعمر توجب له التقدم عليهما، ولعمرو مع الصلاة الولاية الجامعة للصلاة وغيرها وهذا الخبر مجمع عليه، فلم يكن عند أحد منهم علة يدعيها في تقديم أبي بكر على علي رضي الله عنه. فلجأ بعض أهل النظر إلى القياس، فقال: لو جاز أن يولى المفضول على الفاضل لجاز أن يرسل مفضول إلى فاضل، ولو جاز ذلك لجاز أن يكون في زمن الرسل من هو أفضل منهم، فرجع هذا بعد إلى فعل الناس فجعله حجة من طريق القياس. فقلنا له: إن جوابك هذا قد انتقض من وجوه: أولها: إن الإمامة لا تشبه النبوة، وهي بالإمارة أشبه (2) لأن الإمام لا يشهد على

(هامش)

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: تلعبا.. . (2) هذا سهو عظيم من المؤلف ومن على مزعمته، إذ الإمامة أخت النبوة، والعلة الماسة. - المعيار والموازنة - أبوجعفر الإسكافي ص 42: إلى بعث الرسول، هي العلة الماسة إلى تعيين الرسول خليفته في أمته كي يحافظ على ما جاءه به من عند الله من كتاب الله تعالى، ومما سن لأمته مما لا يوجد في كتاب الله، أو مما لا يمكن لغير المؤيد من عند الله، وغير المتعلم من رسول الله أن يفهمه من كتاب الله تعالى، وإلا لغير الجاهلون والمبطلون من الأمة الدين عن مجراه الأصيل ومنهجه القويم، وقضوا (*)

ص 43

غيبه، وقد يجوز عليه التبديل والتغيير، والنبي صلى الله عليه وسلم قد يشهد على غيبه ويؤمن تبديله وتغييره، فهل يجوز لقائل أن يقول: لو جاز أن يولى إمام لا يشهد على غيبه لجاز أن يرسل رسولا يشهد على نفسه (1). ولو أمكن أن يكون إمام لا يؤمن تبديله وتغييره، أمكن أن يرسل الله رسولا لا يؤمن تبديله وتغييره، فهذا عندهم قياس منتقض فاسد، والإمامة لا تقاس بالنبوة، وقياس الإمامة الإمارة لأن الإمام ليس له أن يتعدى حكم الله وعليه الاتباع، وتلك منزلة الأمير والأمير لا يشهد على نفسه كما لا يشهد على غيبه [ظ] الإمام، والإمام قد يولى ويعزل ويصلي وتلك منزلة الأمير. قلنا: فهل يجوز تولية المفضول على الفاضل؟ وذلك في الدين جائز صحيح ومن اختيار الأمة غير فاسد على حسب ما كان من اختيار النبي صلى الله عليه وسلم عمرو ابن العاص وتوليته على أبي بكر وعمر في غزوة ذات السلاسل، ولم يوجب تجويزه بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفضولا إلى من هو أفضل منه، قياسا على إمارة المفضول على الفاضل، ولو كان ما قلتم جائزا لكان هذا لكم ألزم لأن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم إلى اختيار الله أقرب وأولى من اختيار الناس باختيار الله. فإن قالوا: فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأن عمرو بن العاص متى بدل وغير رجع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بعد موته غير جائز. قلنا: تولية الإمام المفضول جائزة من اختيار الأمة لأنه متى بدل وغير رجع أمره إلى الأمة في عزله وتولية غيره، ولو كانت تولية المفضول جائزة أيام النبي صلى الله عليه وسلم لأنه متى غير المولى رجع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان حيا لكان هذا في إرسال الله نبيا إلى الفاضل أوكد، لأنه متى عصى وغير رجع أمره إلى الله إذا كان حيا لا يموت. انقضى القول في إمامة المفضول.

(هامش)

على الدين وأهله في أقصر مدة كما صنعه من يدعي اتباع موسى وعيسى عليهما السلام، فإذا لا بد من وصي الرسول وخليفته أن يكون كالرسول إلا في النبوة، وتلقى الوحي من الله بلا واسطة. (1) كذا. (*)

ص 44

[طريقة انعقاد الإمامة بنظر المؤلف، ووصف بيعة الناس لأمير المؤمنين عليه السلام، وإنها كانت أقوى بيعة أركانا وأعظمها حجة وأوضحها سنة وأوكدها سببا وأقومها طريقة].

 ونحن / 12 / واصفون (1) إمامة علي و[أنها] كيف كان سببها لتعلموا أن إمامته كانت أقوى إمامة سببا وأثبتها قوة وأقواها أركانا، وأوضحها سنة، وأعدلها سبيلا، وأعظمها حجة. إن سبيل الإمامة وسببها أن تكون برأي أهل الفضل والسابقة ومن بمثلهم يزول التهمة والريبة، وتثبت الحيطة والنصيحة. وسنة الإمامة أن تكون شورى بين أهل الفضل والعدالة والعلم والمعرفة بحكم الكتاب والسنة لقول الله تبارك وتعالى: وأمرهم شورى بينهم [38 / الشورى: 42]. وسنة الإمامة أن لا يكون الناظرون فيها يظهر كل إنسان منهم لنفسه الطلب لها والرغبة فيها لأن هذا المعنى يدعو إلى الاختلاف ويوجب الظنة والتهمة، ويكون سببا للانتشار والفتنة. ومن سببها أن يكون متى بدأ بعقدها لرجل وتولاها جماعة موصوفون بالستر والعدالة معروفون بالخير غير متهمين أن يسلم الباقون إلا أن يكون عندهم حجة في أن المولى لا يستحقها، وأن غيره أولى بها، فمتى لم يظهر منهم طعن عليه [ولم] تتبين حجة أو

(هامش)

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: ونحن واضعون.. . (*)

ص 45

دليل واضح كان عليهم الرضا والتسليم. فانظر [وا] هذه الشرائط فيمن اجتمعت لتعلموا صحة ما نقول. وقد وصفنا لكم بيعة أبي بكر وكيف كان سببها وإنها كانت على العجلة دون الانتظار والمشورة، وأن الذي تولى عقدها رجلان في البدء: عمر وأبو عبيدة، وأنهم سعوا فيها وطلبوها بعد أن كان العقد للأنصار وما كان من خلاف سعد ويمينه (1) وقول سلمان وغيره (2). وروي أن علي بن أبي طالب لم يبايع أشهرا من غير أن يظهر إنكارا ولا سخطا (3).

(هامش)

(1) وهو قوله لعمر - لما قال: اقتلوه قتله الله -: أما والله لو أن بي قوة أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيرا يحنجرك وأصحابك. أما والله إذا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع.. وأيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم... (2) كحباب بن المنذر وقيس بن سعد بن عبادة والزبير بن العوام، والصديقة الطاهرة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليهما، والإمام أمير المؤمنين عليه السلام. والقوم لشدة كراهتهم عن ذكر أمثاله لم يذكروه على سبيل التفصيل ومجموع الأطراف، نعم أجرى الله قلمهم بذكر جمل وافية منها تتم بها الحجة كما تجدها في تاريخ الطبري والكامل وأنساب الأشراف وسقيفة الجوهري وغيرها. (3) والمروي في كتاب المصنف: لعبد الرزاق: ج 5 ص 442 وصحيح البخاري وحوادث سنة (11) من الهجرة من تاريخ الطبري: ج 3 ص 202. وتاريخ الكامل: ج 2 ص 220 ط بيروت إنه عليه السلام مع كافة بني هاشم لم يبايعوا أبا بكر حتى توفي بضعة رسول الله فاطمة الزهراء صلوات الله عليهما بعد ستة أشهر من وفاة النبي صلى الله عليه وآله، فعند ذلك صرف وجوه الناس عنه بالكلية فاضطر إلى بيعة أبي بكر. ثم إن قول المصنف: من غير أن يظهر إنكارا ولا سخطا من أبدع العجائب، ومن المصنف طريف جدا، فإنه عليه السلام أنكر تقدمهم عليه فعلا وقولا، أما إنكاره عليهم فعلا فكفى إمساكه عن بيعته لهم طول حياة فاطمة صلوات الله عليها، وكفى لضلالهم وكون رئاستهم ظلما وزورا أن يتخلف عنهم علي الذي يدور معه الحق حيثما دار، والذي يكون مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا على النبي صلى الله عليه وسلم حوضه كما في حديث الثقلين الذي ورد بنحو التواتر عن النبي صلى الله عليه وآله. ورواه شيعة آل أبي سفيان في صحاحهم وكتبهم المعتبرة بشتى الأسانيد. وكذلك قوله صلى الله عليه وآله = (*)

ص 46

(هامش)

= وسلم: علي مع الحق والحق معه حيثما دار وقوله صلى الله عليه وآله: علي مع القرآن والقرآن معه . فراجع الحديثين في الباب: (36) من فرائد السمطين: ج 1، ص 176، ط 1، وتحت الرقم: (1160) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 117، ط 1، وفي الباب: (45) من الفصل الأخير من غاية المرام ص 539 والغدير: ج 3 ص 179، ط 3، وإحقاق الحق: ج 5 ص 644. وأما إنكاره عليه السلام قولا على المتقدمين عليه وإظهاره السخط عليهم شفاها فيكفي لمن له حرية الضمير ما رواه البلاذري في الحديث: (359) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب أنساب الأشراف: ج 1 / الورق 366. وفي ط 1: ج 2 ص 281. ورواه أيضا ابن عبد ربه في العقد الفريد: ج 3 ص 108، ط 2. ورواه أيضا الخوارزمي في آخر الفصل: (3) من الفصل: (16) من مناقبه ص 175، من أن عليا عليه السلام كتب في جواب معاوية: وذكرت حسدي الخلفاء، وإبطائي عنهم وبغيي عليهم، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون، وأما الابطاء والكراهية لأمرهم فلست أعتذر منه إلى الناس.. وراجع أيضا المختار: (12) من نهج السعادة: ج 1، ص 44 ط 1. فإنك تجد فيه وفي تعليقه شواهد في شكايته عنهم. سبحان الله هل يمكن لأحد أن يعبر عن سخطه بمثل ما عبر به عليه السلام في الخطبة الشقشقية، وهو قوله: فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى!!! أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول لسبيله - إلى إن قال -: فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها.. . فراجع تمام الخطبة تحت الرقم: (3) من نهج البلاغة. والرقم: (302) من نهج السعادة: ج 2 ص 498. واعجبا! هل يتصور إنكار قولي مثل قوله عليه السلام: فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجى، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمر من طعم العلقم!!! هكذا رواه السيد الرضي رحمه الله في المختار: (25) من نهج البلاغة، وأظهر منه ما رواه أيضا في المختار: (220) من نهج البلاغة قال: اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري، وقالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه!! فاصبر مغموما أو مت متأسفا!! فنظرت، فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد. إلا أهل بيتي!! فضننت بهم عن المنية، فأغضيت على القذى، وجرعت ريقي على الشجى. وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم، وآلم للقلب من حز الشفار!!!. وانظر أيضا قوله عليه السلام في المختار: (64) منه: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة . وقوله عليه السلام في المختار: (167) منه: أما الاستبداد علينا بهذا المقام - ونحن الأعلون نسبا = (*)

ص 47

[في أن عقد الخلافة لعمر إنما كان من أبي بكر خاصة، كما كان عمر عقدها لأبي بكر في يوم السقيفة، فجلبها كل واحد منهما للآخر تداولا وتشاطرا].

 ثم كانت بعده بيعة عمر فعقدها [له] أبو بكر، كما عقدها هو لأبي بكر - وفي هذا مقال يسبق إلى القلب يدفع بلطيف الحجج والمخرج (1) - فأظهر المسلمون الانكار لذلك والتسخط وقالوا: وليت علينا فظا غليظا!! فقال: وليتهم يا رب خير أهلك. وعلي في ذلك الوقت ساكت، ولو كان ممن يرغب في الإمامة على غير طريقها، وبغير حقها (2) و[كان] يحب - كما قال الجاهلون - الفتنة لكان لهذا الموضع

(هامش)

= والأشدون برسول الله نوطا - فإنها كانت أثره شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين؟! والحكم الله والمعود إليه القيامة . وقوله في المختار: (177): اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي، أمرا هو لي.. . وقوله عليه السلام في المختار: (206): وستنبأك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها فاحفها السؤال.. . وقوله عليه السلام في المختار: (44): من الباب الثاني منه: بلى كانت في أيدينا فدك من كل كل من أظلتها السماء فشحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم الله.. . أقول: وله عليه السلام كلم آخر في الموضوع بمساق الكلم المذكورة كل واحد منها بانفراده يحكي بأوضح دلالة وأبلغ مفاد على أن الخصام والمعاداة بين علي ومن تقدم عليه كان بلغ آخر حده وأقصى مرتبته، فإن لم يكن هذا الكلام من أكمل أنحاء بيان السخط والإنكار لم يوجد في دار الوجود سخط ولا إنكار حتى بين الله وبين إبليس، وبين الأنبياء والفراعنة وبقية النماردة!!!.. (1) عفى الله عنك يا أبا جعفر ما هذا التسامح في التعبير والكشف عن الواقع؟ (2) عفى الله عنك يا أبا جعفر قل لنا بحق العلم والإنصاف متى كانت الإمامة والخلافة لغير علي أو تليق لغيره، = (*)

ص 48

بعينه، ولكان [يظهر منه] ما كان [ظهر] من الأنصار من محبته [لها والتصدي لطلبها] فلم يكف عن ذلك إلا طلب السلامة وانتظارا لرجوع القوم إلى الحق ومجتمع الكلمة (1). ثم جعلها عمر شورى بين ستة فوجهت إلى عثمان بما قد عرفتم. فهذا موضع الكلام والشبه، وموضع النكت الغامضة، لا ما تعلقتم به من التفضيل والتقدمة.

(هامش)

= ولا تليق به حتى يكون تطرقه إليها وطلبه إياها على غير طريقها وبغير حقها؟! أفلا يسمع أبو جعفر دوي شكاية علي وطنين تظلمه في الدنيا، وصدى قوله: أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى... حتى إذا مضى إلى سبيله فأدلى بها إلى فلان بعده!!! فيا عجبا!!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها!!! فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها، ويخشن مسها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها!!! وأما قول أبي جعفر: وعلي في ذلك الوقت ساكت.. فإن كان مراده من السكوت السكوت القولي وعدم تكلمه وتلفظه بكون الولاية والخلافة مخصوصة له، ولا حظ فيها لمن تقمصها بعد صاحبه، فهذا غير مسلم، بل كان عليه السلام دائما متى تسنح له الفرصة، ويرى المصلحة، يعلن التبرم من صنيعهم، ويظهر الشكوى عنهم وأنهم تقمصوا قميصه ظلما..!!.. ولو سلمنا جدلا أنه عليه السلام سكت ولم يتكلم حول اغتصاب عمر الخلافة منه، يكفينا ويكفي كل منصف إعلانه عليه السلام ببطلان خلافة أبي بكر وأنه ظلما وعدوانا تردا برداء الخلافة التي كانت تخص عليا، ولا حظ لأبي بكر وغيره فيها، وإذا تلكم على بطلان خلافة أبي بكر فقد أعلن ببطلان خلافة عمر لأنها فرع خلافة أبي بكر. وإن أراد أبو جعفر من السكوت السكوت العملي وعدم التحرك لتصدي الخلافة وتبعيد عمر وأشكاله عن عليا ساحتها، فهذا مسلم وعلة هذا السكون وعدم التحرك هو كون المسلمين حديثي عهد بالإسلام، وفيهم من يتشبث بكل الوسائل لانهدام الإسلام، والثانية تكثير الجن الذين قتلوا سعد بن عبادة!!! (1) هذا هو الظاهر وفي أصلي: وانتظار القوم لرجوع الحق وانتظار الكلمة.. . (*)

ص 49

[إسراع الناس بعد قتل عثمان إلى الإمام علي بن أبي طالب، وتداكهم عليه وإلحاحهم به لأن يبسط يده ليبايعوه، وتقريضهم إياه بتعينه للإمامة والخلافة، وإبائه عن ذلك، ثم ازدحام الناس عليه، ثم إتمامه الحجة على طلحة والزبير، ثم شرطه على الناس أن يبايعوه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم مبايعة الناس إياه في المسجد]

. وهو رضي الله عنه [كان] على طريقة واحدة في الكف والرضا عند اجتماع الكلمة. فلما قتل عثمان وقد كان علي قبل ذلك معتزلا له لما كان منه في أبي ذر وغيره - كأنه رضي الله عنه مطبوع على الصواب، مؤيد بملك يجنبه طرق الخطأ و[يثبته على] لزوم الاستقامة والصحة لا يقدر أحد أن يرينا في فضله تناقضا، ولا في قوله اختلافا، فبيض الله وجهه وأعلى في الآخرة درجته -. فلما قتل عثمان تداك الناس على علي بن أبي طالب بالرغبة والطلب له بعد أن أتوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

(هامش)

(1) أنظر إلى كلامه عليه السلام في وصف بيعته في المختار: (3) من نهج البلاغة: فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب. حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم.. . وقوله عليه السلام في المختار: (51) منه: فتداكوا علي تداك الإبل الهيم يوم وردها، قد أرسلها راعيها، وخلعت مثانيها، حتى ظننت أنهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لدي.. . وقوله عليه السلام في المختار: (230): وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها. ثم تداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل وسقطت الرداء ووطئ الضعيف. وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن أبتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب. (*)

ص 50

وحضر المهاجرون والأنصار وأجمع رأيهم على علي بن أبي طالب بالإجماع منهم أنه أولى بها من غيره، وأنه لا نظير له في زمانه فقاموا إليه حتى استخرجوه من منزله. ومضى علي بن أبي طالب إلى طلحة بن عبيد الله، فقال له: إن الناس قد اجتمعوا على أن يبايعوا لي ولا حاجة لي في بيعتهم، فابسط يدك يبايعك الناس على كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له طلحة: أنت أولى بذاك مني، وأحق به لفضلك وسابقتك وقرابتك، وقد استجمع لك من هؤلاء الناس ما قد تفرق علي / 13 / قال له علي: إني أخاف أن تغدر بي وتنكث بيعتي، قال: لا تخافن ذلك فوالله لا تؤتى من قبلي بشيء تكرهه، قال: الله عليك بذلك كفيل؟ قال: الله علي به كفيل. فأتى الزبير، فقال له مثل ذلك، ورد عليه مثل طلحة. فمضى علي بن أبي طالب إلى منزله إرادة التأني والتوكيد. فرجع الناس إليه وهم متوافرون مجتمعون فاستخرجوه من داره، وقالوا له: ابسط يدك نبايعك؟ فقبضها ومدوها، ولما رأى تداكهم عليه، واجتماعهم، قال: لا أبايعكم إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا، فإن كرهني قوم لم أبايع. فأتى المسجد وخرج الناس إلى المسجد، ونادى مناديه. فيروى عن ابن عباس أنه قال: إني والله لمتخوف أن يتكلم بعض السفهاء، أو من قتل علي أباه أو أخاه في مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: لا حاجة لنا بعلي بن أبي طالب فيمتنع من البيعة. قال: فلم يتكلم أحد إلا بالتسليم والرضا. ثم قال في بعض كلامه رضي الله عنه. كنت والله كارها للحكومة بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم (1) حتى أكرهتموني

(هامش)

(1) وذلك لأجل اعتيادهم بالترفه والأثرة في أيام السابقين، وانحرافهم عن محجة العدالة الإسلامية، ورغبتهم إلى الأثرة والاستبداد بالمصالح الشخصية والنزعات الطائفية، ونسيانهم ما كان النبي صلى الله عليه وآله يسلك بهم من الايثار وتقوية نزعة السماح والجود والكرم، واجتثاث جذور البخل والحرص ومذام الشيم. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

المعيار والموازنة

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب