ص 51
عليها، ودخلت منزلي فاستخرجتموني، وقبضت يدي وبسطتموها، وتداككتم علي كتداك الإبل
عند ورودها، حتى خشيت أن يقتل بعضكم بعضا، وخفت أن لا يسعني عند الله ردكم حين
اجتمع إلي ملأكم، فبايعتموني طائعين غير مكرهين، ثم خالفني منكم مخالفون، ونكث
ناكثون، على غير حدث أحدثته، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من وال
ولي من أمر أمتي شيئا إلا جاء يوم القيامة حتى يوقف به على حد الصراط، ثم ينشر
كتابه فتقرأه الملائكة، فإن كان عادلا نجا، وإن كان جائرا هوى، ثم ينتفض به الصراط
انتفاضة إلى الدرك الأسفل من النار. فإن أنتم معاشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم
سمعتم قولي وأطعتم أمري، أقمتم على المحجة البيضاء، وإن أبيتم عاقبتكم بسيفي هذا
حتى يحكم الله بيني وبينكم وهو خير الحاكمين (1). فأول من بايعه طلحة والزبير، ثم
المهاجرون والأنصار، ثم قام فخطب الخطبة المعروفة بالفضل على الخطب والكلام الذي لا
يعرف مثله لأحد (2) فلما فرغ [أمير المؤمنين] من خطبته، قام خزيمة بن ثابت الأنصاري
ذو الشهادتين، ثم قال: أيها الناس: إنا قد تشاورنا واخترنا لديننا ودنيانا رجلا
اختاره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، ولو استوى عباد الله ذهب النعم،
ولو اتبع الهوى ذهبت الشورى ولو جاز التنازع ذهب التسليم، إن المدينة دار الإيمان
والهجرة، وبها الحكام على الناس ولسنا من أمر عثمان في شيء. وقام أبو الهيثم ابن
التيهان (3) - وكان عقبيا بدريا - فقال: قد عرفتم
(هامش)
(1) ببالي أن الخطبة رويناها عن مصدر - أو مصادر - ولكن لم تكن مسوداتي عندي حين
تحقيق ما هاهنا. ليت المصنف ذكر الخطبة بتمامها أو فقرات منها حتى ينسد باب
الاحتمال والتشكيك، والمظنون أن المراد منها ما ذكرناه في المختار: (54) من كتاب
نهج السعادة: ج 1، ص 188، ط 1. (3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: وقال أبو الهيثم
ابن التيهان.. . وقوله: عقبيا بدريا يعني أنه كان ممن حضر العقبة وبايع رسول
الله صلى الله عليه وآله فيمن بايعه فيها، وكان حضر مع رسول الله صلى الله عليه
وآله في حرب بدر، وحارب الكفار فيها. (*)
ص 52
رأيي لكم ونصحي إياكم، ومكاني [الذي] كان [لي] من رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقد جعلنا هذا الأمر إلى أولاكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقدمكم إسلاما،
وأكثركم علما، وأفقهكم في دين الله، وأنصحكم للأمة، وأعرفكم بالسنة، وعسى الله أن
يجمع به الألفة، ويحقن به الدماء، ويصلح به ذات البين، ويظهر به ما درس الظالمون.
فقالوا جميعا: قد أجبنا إليه وعرفنا فضله. فلما بلغه خبر من تخلف عن بيعته، قال:
إنهم لم يعرفوا الحق فيسارعوا إليه، ولم يعرفوا الباطل فيخذلوا من آتاه (1). فخلى
سبيلهم ولم يكره أحدا على بيعته.
(هامش)
(1) كذا في الأصل، وفي المختار: (17) من الباب الثالث من نهج البلاغة: [إنهم]
خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل.. . وفي المختار: (262) منه: إن سعدا وعبد الله بن
عمر لم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل . وانظر المختار: (92) من كتاب نهج السعادة: ج
1 ص 298. (*)
ص 53
[خطبة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لما بلغه مسير طلحة والزبير وعائشة إلى
البصرة وإخباره عن نفسيتهم ومآل أمرهم وقصة نباح كلاب الحوأب على عائشة واضطرابها]

فلما بلغه رضي الله عنه وعن جميع المؤمنين مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة صعد
المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على / 14 / محمد النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
قد سارت عائشة والزبير وطلحة، وكل يدعي الأمر دون صاحبه، يطلبه طلحة لأنه ابن عم
عائشة، ولا يرى الزبير إلا أنه أحق بالخلافة لأنه ختن عائشة!! فوالله لئن ظفروا بما
يريدون - ولا يرون ذلك أبدا - ليضربن طلحة عنق الزبير، والزبير عنق طلحة! تنازعا
(1) شديدا على الملك!! والله إن راكبة الجمل لا تصعد عقبة (2) ولا تنزل منزلا إلا
إلى معصية الله وسخطه حتى تورد نفسها ومن معها متالف الهلكة، يقتل ثلثهم (3) ويهزم
ثلثهم، ويتوب ثلثهم،
(هامش)
(1) وهذا مما أظهره عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وهو من الأخبار الغيبية التي
أخبر بها قبل وقوعها فوقع الخبر على طبق ما أخبر به عليه السلام. (2) لعل هذا هو
الصواب، وفي الأصل: والله إنما الراكبة الجمل لا يستد عقبة.. . وانظر المختار:
(71) من كتاب نهج السعادة: ج 1، ص 238. (3) هذا هو الصواب الذي ذكره في هامش الأصل
عن نسخة من الكتاب، وفي متن الأصل المخطوط: يقتل ثلاثتهم . (*)
ص 54
والله لتنبحنها كلاب الحوأب، فهل يعتبر معتبر أو يتفكر متفكر؟ والله إن طلحة
والزبير ليعلمان أنهما مخطئان وما يجهلان، ولرب عالم قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه.
فتدبروا رحمكم الله هذه الأنباء ففيها التبيان والشفاء، وتفهموا ما يرد عليكم من
الهدى، ولا يذهبن عنكم صفحا لتعلموا أن أموره مبنية على يقين متقدم، وعلم ثاقب وحجة
بالغة. لا يهن عند الشدائد ولا يفتر عند النوازل، أمره في التقدم والبصيرة أمر واحد
لا يضجع في القول، ولا يفتر عند الإقدام، ولا يفرق بين حاله أيام النبي صلى الله
عليه وسلم، وبين هذه الحال في الجهد والاجتهاد، والقوة والعزم والبصيرة في جميع
أموره [فلاحظوا أحواله] لتعلموا أن أعماله مبنية على أساس اليقين، وأموره ماضية على
البصيرة في الدين، وأن هذه الأفعال لا يبينها إلا علم نافذ و[أن] أموره لا تتسق ولا
تتفق إلا لمن اعتمد على الثقة والمعرفة، وأيد بالنصر من الله والملائكة. ثم قوله
[عليه السلام] على المنبر: إنه لم ير إلا قتالهم أو الكفر بما أنزل الله (1).
لا يجترئ من خالفه أن يدعي مثل هذه ولا يقدم أحد على تكذيبه، فأين هذه إلا له. ثم
نتبع هذا الكلام بأن نقول: [إنه كان يقول]: إنه لعهد النبي صلى الله عليه
(هامش)
(1) وقد رواه البلاذري بسندين في الحديث: (293) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام
من كتاب أنساب الأشراف: ج 2 ص 236 ط 1. ورويناه عنه وعن الحاكم في المختار: (78 -
79) من كتاب نهج السعادة: ج 1، ص 255 256. ورواه أيضا الحاكم في باب مناقب أمير
المؤمنين عليه السلام من المستدرك: ج 3 ص 115. ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث:
(1211 - 1212) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 174، ط 1.
ورواه أيضا الحموئي في الحديث: (218) في الباب: (53) من فرائد السمطين: ج 1،
ص 279 ط 1. (*)
ص 55
وسلم إلي أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين (1) فهل تجد لمن خالفه مثل هذه
الدعوى قبل النظر في الحجة؟ وما تجد لهم إلا عللا ملفقة ينكرها من سمعها، ويستدل
على ريبة القوم بها وضعفهم عند ذكرها، فمرة يطلب بدم عثمان، ومرة بايعنا مكرهين!!
ومرة جئنا لنصلح بين الناس!! مع ما يرد عليهم من الاحتجاج، ممن رأى الاختلاف في
قولهم والتناقض في منطقهم، وما تروون من تلون عائشة، وروايتكم عنها مرة: أخرج
للإصلاح، ومرة تعزم على الرجوع عند تذكر الخطأ، وعند التوقيف لها [كذا]. هذه
روايتكم ظاهرة مكشوفة في ماء الحوأب [بأسانيدكم] عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: طرقت
عائشة وطلحة والزبير ماء الحوأب ومن معهم ليلا - وهو ماء لبني عامر بن صعصعة،
فنبحتهم كلاب الحوأب، فنفرت صعاب إبلهم، فقال قائل: لعن الله أهل الحوأب ما أكثر
كلابهم. قالت عائشة: أي ماء هذا؟ فقال محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير: هذا ماء
الحوأب، فقالت عائشة: والله لا صحبتكم ردوني ردوني، إني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: كأني بكلاب ماء يدعى الحوأب قد نبحت على امرأة من نسائي وهي في
فئة باغية، ثم قال: لعلك أنت يا حميراء، قالت: ثم دعا عليا فناجاه بما شاء ردوني.
(هامش)
(1) الحديث متواتر، وقد عده علماء السنة من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وآله.
كما ذكره أبو حاتم الرازي في الفصل: (5) من كتاب أعلام النبوة ص 210 - 211، قال:
فقاتل علي بعده هذا الفرق الثلاثة. وقد رواه الحاكم النيسابوري في أربعينه بطرق
كثيرة. ورواه عنه الحموئي في الحديث: (219) وتواليه في الباب: (53) من فرائد
السمطين: ج 1، ص 281. ورواه أيضا السيوطي في آخر مناقب أهل البيت عليهم السلام في
اللآلي - المصنوعة: ج 1 ص 213. ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (1195 - 1210) من
ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 158 - 174، ط 1. (*)
ص 56
فقال لها الزبير: مهلا يرحمك الله، يراك الناس والمسلمون فيصلح الله ذات بينهم.
وقال طلحة: ليس هذا بحين رجوع. ثم جاء عبد الله بن الزبير، فقال: ليس هذا ماء
الحوأب، وحلف لها على ذلك، قالت: وهل من شاهد يشهد على أن هذا ليس ماء الحوأب؟
فأقاموا خمسين رجلا من الأعراب يشهدون أنه ليس ماء الحوأب، وجعلوا لهم جعلا، وكانت
أول شهادة زور أقيمت في الإسلام (1). فليعتبر من به حياة، وليذكر من كان له قلب!!
واعلموا أن مثل هذه الأخبار لا تكون مفتعلة، وكيف أفتعل مثل هذه الأخبار في عائشة
ولم يفتعل مثلها في علي [وإنما مهدنا ذلك] لتعلموا أنه لو كان سبيلها التخرص
والتقول لجاز لمن خالفه عليه مثلها، وهذه روايتكم لا تدفعونها / 15 / والكذب من علي
والمهاجرين والأنصار أبعد، ومن الأعراب والطغام، وجند المرأة أقرب. يقول علي رضي
الله عنه وهو بالمدينة: ستنبحها كلاب الحوأب وتقول هي - لما رأت لما ونبحتها
كلاب الحوأب -: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم [وذكرت] ما ذكرناه آنفا، [ثم
قالت]: ثم دعا بعلي فناجاه . هل يكون بيان أوضح [من هذا] من أن عليا لم يقدم ولم
يحجم، ولم يقل، ولم يسكت إلا بأمر من الرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قوله:
لئن ظفرا بالأمر - يعني الزبير وطلحة - ليضربن بعضهم بعضا (2). وقد كان من تشاحهما
على الصلاة وقتالهما عليها ما يحقق قوله رضي الله عنه.
(هامش)
(1) والقصة من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وآله حيث أخبر بها نحوا من أربعين
سنة قبل وقوعها، فوقعت على وفق ما أخبر بها صلى الله عليه وآله. وهي من ضروريات فن
التاريخ والحديث، وقد رواها في كتاب فضائل الخمسة: ج 2 ص 369 عن مصادر كثيرة. (2)
هذا نقل بالمعنى، ونص الحديث كما تقدم آنفا: فوالله لئن ظفروا بما يريدون - ولا
يرون ذلك أبدا - ليضربن طلحة عنق الزبير، والزبير عنق طلحة.. . (*)
ص 57
[استقبال الصحابي الكبير عمران بن حصين الخزاعي وأبي الأسود الدئلي أم المؤمنين
عائشة بقرب البصرة ونصيحتهما لها ووعظهما إياها].

وذكروا أن عائشة لما قربت من
البصرة، لقيها عمران بن حصين الخزاعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو
الأسود الدئلي، فلما دخلا عليها قالا لها: يا أم المؤمنين! أبعهد من رسول الله صلى
الله عليه وسلم خرجت من بيتك؟ ألم يبايع الناس لابن عم نبيهم ووصي رسولهم وخير من
تعلمون؟ فتركت بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمه وأتيت البصرة؟!! قالت جئنا
نطلب بدم عثمان!! فقال لها عمران بن حصين: ليس بالبصرة أحد من قتلة عثمان. قالت:
لكنهم مع عل بن أبي طالب، فجئنا لنقاتلهم فيمن تبعنا من أهل البصرة وغيرهم!! غضبنا
لكم من السوط والعصا على عثمان، ولا نغضب لعثمان من السيف؟ فقالا لها: وما أنت من
سيفنا وسوطنا وسوط عثمان وعصاه؟ إنما أنت حبيسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد
أمرك الله أن تقري في بيتك، وتذكري ما يتلى فيه من آيات ربك، فتركت ذلك وجئت تضربين
الناس بعضهم ببعض؟ ولست من طلب الدماء وحضور القتال في شيء؟ وعلي أولى بعثمان منك!
فقالت: وهل أحد يقاتلني؟! قال: إي والله قتالا أهونه الشديد، قالت: إنما جئت مصلحة
ألم ولا أشعث، وأجمع ولا أفرق!!. فقال لها عمران بن حصين: اتقي الله يا أم المؤمنين
فإن الله إنما عظمك وشرفك في أعين الناس ببني هاشم، فاتقي الله واحفظي قرابة علي من
رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه إياه. (*)
ص 58
قد بايع الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك، فرضي وسلم ولم يخالف ولم
ينكث (1) ثم جعله عمر سادس ستة فرضي وسلم. ثم كان من أحداث عثمان، وأمر الناس فيه
ما قد علمت، وكنت أنت أشد الناس فيه قولا، وأكثرهم عليه تحرضا. ثم بايعه طلحة
والزبير والناس، وأتتنا كتبهم بذلك فرضينا وبايعنا، فما الذي بدا لكم؟! فلم يكن
عندها شيء أكثر من أن قالت لهما: القيا طلحة فهذا كلام من خالفه [وهو] يدل على تهمة
قائله وخطئه، من قولها: أتينا نصلح بين الناس والناس على هدوء وسكون، وسبيل
استقامة وطاعة في مصرهم وما بينهم، فلما دخلوا المصر، أوغروا الصدور، وشتتوا الكلمة
وعصبوا القبائل، ودعوا إلى خلاف ابن أبي طالب، وقتلوا السبابجة وغيرهم من أهل
السوابق والفضل. فتدبروا أفاعيلهم تجدوها ناقضة لأقاويلهم، منبهة لهم على مرادهم
وبغيتهم. فهذه أحوالهم قد كانت مكشوفة لأهل الفطنة والمعرفة، ثم انكشفت لأهل
التقليد والحيرة ممن لم يكن له معرفة عند انكشاف الحق، وحين وضعت الحرب أوزارها
ازداد أهل الإيمان والمقتدون بالإمام بصيرة ويقينا، ورجع المفرطون إلى التلهف
والأسف والندامة، وارتهن الماضي منهم بعمله، وتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا،
ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب / 16 / ينقلبون.
فارجعوا رحمكم الله إلى الأخذ بما تعرفون، واعرفوا للفاضل فضله، وللمحق حقه، تكونوا
في حزبه، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين.
(هامش)
(1) أما عدم مخالفة أمير المؤمنين علي عليه السلام عملا مع القوم فمسلم، وأما رضاه
عليه السلام عنهم فلا. وقد تقدم في ص 46 ذكر شواهد جمة من كلام أمير المؤمنين عليه
السلام في شكايته عنهم، وأنهم ظلموه وغصبوا حقه. فلما لم يجد أنصارا يصول بهم
لاسترداد حقه سكت وأغضى على القذى وصبر من كظم الغيظ على أمر من العلقم، وآلم من حز
الشفار!!! فم هاهنا إن ثبت أن عمران وأبا الأسود قالاه لأم المؤمنين، فالمراد منه
لازمه وهو عدم قيام علي عليه السلام لمخالفة القوم عملا، لا أنه كان راضيا عنهم.
(*)
ص 59
فلو أردنا أن نذكر لكم كل ما في هذه الأبواب بالتقصي لطال ذلك، ولكنا نذكر من كل
باب جملة كافية وصفات شافية. ثم انظروا في سير أمير المؤمنين وحروبه، فاعتبروا
بفعله وقوله، فإنكم تجدونه أوفى الناس بذمة، وأعدلهم سيرة، وأحسنهم عفوا عند
المقدرة، وأدعاهم إلى النصفة، وأصبرهم على محنة، وأصدعهم بأمر الله.
ص 60
[كتاب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف
الأنصاري لما صح عنده مسير طلحة والزبير إلى البصرة وأمره إياه بالحسنى. وبعض مكارم
أخلاقه مع أصحاب الجمل]

. كتب (1) [عليه السلام] عندما صح عنده من مسير القوم إلى
البصرة - ونكثهم وخروجهم من طاعته - إلى واليه بالبصرة: بسم الله الرحمن الرحيم: من
عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف أما بعد فإن النكثة لما عاهدوا الله
[عليه] نكثوا. ثم توجهوا إلى مصرك، وسائقهم الشيطان يريدون ما لا يرضى الله به،
والله أشد بأسا وأشد تنكيلا، فإن قدموا مصرك فادعهم إلى الحق والرجوع إلى الوفاء
بعهد الله والميثاق الذي بايعوا عليه، فإن فعلوا فأحسن جوارهم، ومرهم بالانصراف إلى
المكان الذي أقبلوا منه، وإن أبوا وتمسكوا بحبل النكث فقاتلهم حتى يحكم الله بينك
وبينهم (2). ثم إن عليا رضي الله عنه ظفر بهم فلم يجهز على جريحهم، ولم يفتح
منازلهم، ولم يتبع المولي منهم، ولم يغنم أموالهم، يتبع حكم الله فيهم في الأحوال
كلها. ثم دعا بمحمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر، وأمرهما بأن يكونا قريبا من عائشة
فإذا انكشف القوم دنوا منها، ودفعوا الناس عنها، ويستروها، لأن لا يبدو للناس من
أمرها ما لا يحل حفظا لها ورفقا بها. ثم أخرى قد تعلمونها لا يمكنكم دفعها، ولا
يقبل قلوبكم غيرها، أن الرجل القاسي
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر من السياق، وظاهر رسم الخط من الأصل المخطوط: يكتب ويساعد
رسم الخط أيضا ضعيفا أن يقرأ: فكتب . (2) ورويناه عن مصدر آخر في المختار: (14)
من باب الكتب من نهج السعادة: ج 4 ص 42. (*)
ص 61
القلب، المنهمك في الشر إذا نزل به ملك الموت رق قلبه، واستغفر ربه من معصية إن
عملها، أو شبهة إن كانت. قد علمتم أن عمر بن الخطاب قد ندم في مرضه على أمور كثيرة،
ودعا علي بن أبي طالب، فسأله عن رضائه عنه، وقال: إن بقيت صرت إلى التسوية بين
الناس. وهذا أبو بكر يقول في بعض كلامه: إذا أنا زللت فقوموني فإن لي شيطان يعتريني
فإذا غضبت فتنحوا عني، لا أوثر في أشعاركم ولا أبشاركم (1). و[هذا] عمر يقول:
أنشدكم بالله هل تعرفوني عدلا؟ يقولها ثلاثا. وهذا الزبير وما كان من نصرته عند
توقيف علي له (2). وذكروا أن رجلا قال لعلي - رضي الله عنه وعن جميع المؤمنين -
عندما اشتدت الحرب، وبلغت [ما بلغت] من القوم: يا أمير المؤمنين أي فتنة أعظم من
هذه؟ إن البدريين يمشي بعضهم إلى بعض بالسيف!!؟ فقال له علي رضي الله عنه: أفتنة
هذه ويحك وأنا قائدها وأميرها؟! والذي أكرم محمدا بالحق صلى الله عليه وسلم، ما
كذبت ولا كذبت، ولا ضللت ولا ضل بي، ولا زللت ولا زل بي، وإني لعلى بينة من ربي،
بينها الله لرسوله وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم لي، وليكفرن عني ذنوبي ما أنا
فيه من قتالهم. وهذه عائشة وما تظهر من ندامتها وبكائها، وقولها: لوددت أن الله
أماتني قبل ذلك بعشرين سنة. هذا مع قولها في عمار: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: إن الجنة تشتاق
(هامش)
(1) هذا هو الصواب، والأبشار: جمع بشرة: ظاهر الجلد، وفي الأصل: أشباركم.. (2)
لفظة: نصرته رسم خطها غير واضح في أصلي. (*)
ص 62
إلى أربعة: أحدهم عمار بن ياسر (1). فقال لها رجل من ثقيف: كيف كنت صانعة يا أم
المؤمنين لو أنه قتل عند جملك؟! وما يؤثر عن طلحة وإقراره بالخطأ، وقوله عند الموت:
ما رأيت شيخا أخطأ مني، وقد عنا الله [بنا] بهذه الآية: أو اتقوا فتنة لا تصيبن
الذين ظلموا منكم خاصة [25 / الأنفال: 8]. وعلي مستبشر بما فعل، جاد مجتهد مسرور
بما رزقه الله من الصبر على جهاد من بغى عليه، مبشر لأصحابه مرغب. تلك حاله في
السراء والضراء، شاكر ذاكر صابر، محتسب حتى / 17 / لقي الله مفقودا شهيدا صلوات
الله عليه صلاة تامة زاكية مرضية، وألحقه بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم
تسليما. [و] قد قلنا في الإمامة بما فيه البيان والكفاية، والحمد لله على منه
وإحسانه حمدا كثيرا، وشكرا أبدا سرمدا
(هامش)
(1) أنظر الحديث: (331) وتواليه من مناقب من ابن المغازلي ص 290 والحديث: (658) من
ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2 ص 178، ط 1. (*)
ص 63
[البيان التفصيلي لأفضلية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على جميع البشر بعد
الأنبياء والرسل، لاحتوائه على أصول المكارم، واشتماله على أساس المحاسن مما قد
تفرق في غيره، واستغنائه عن غيره، واحتياج غيره إليه].

وبعد فمن سألنا من أصناف أهل
النظر في تقديم علي بن أبي طالب على جميع البشر بعد النبيين والمرسلين (1) وقال: قد
طعنتم فيما قلنا (5) فأثبتوا قولكم بحجج لا يمكن دفعها، وأبينوا صاحبكم بفضيلة يكون
بها على غيره مقدما. قلنا: ذلك لكم علينا، ونحن ذاكرون - وبالله نستعين - من أموره
أمورا مكشوفة لا تدفع، وحججا قوية لا ترد، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا، وإياه
نسأل تأييدنا. فقد عرفتم أن فضل الفاضل، ومنزلة المتقدم، إنما يكون بفضل وتفضل
باجتماع مناقب الخير فيه، واحتوائه على الفضائل، فيجتمع فيه ما يتفرق في غيره، فلا
يكون له مساو فيما جمع، ولا نظير فيما حوا [5]. وتفسير المناقب والخصال التي بها
يجب فضل الفاضل ما لا ينكرونه أمور أولها: العلم بالله وبدينه، والذب عن توحيده،
والقيام بحجته على من عند عنه، وفي تحقيق ذلك يقول الله: هل يستوي الذين يعلمون
والذين لا يعلمون [9 / الزمر: 39] (2)
(هامش)
(1) وانظر عنوان: علي خير البرية وانظر أيضا الحديث (960) من ترجمة أمير
المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2 ص 444 وما حولها من ط 1. (2) وقال تعالى
في الآية: (50) من سورة الأنعام: 6: قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون .
وقال تعالى في الآية (16) من سورة الرعد: 12: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أم هل
تستوي الظلمات والنور . وبسياقهما الآية: (19) من سورة فاطر، والآية: (58) من سورة
فاطر غافر. (*)
ص 64
وقال: أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا
الألباب [19 / الرعد: 13] وقال: إنما يخشى الله من عباده العلماء [28 / فاطر:
35]. ثم بعده التقدم في الإسلام، وفي تحقيق ذلك يقول الله: لا يستوي منكم من أنفق
من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد
الله الحسنى [10 / الحديد: 57]. ثم جهاد العدو، وفيه يقول [الله تعالى]: فضل
الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما [95 / النساء: 4] وقال: إن الله اشترى
من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله (1) فيقتلون
ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله؟
فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [111 / التوبة: 9]. ثم
الصبر على البأساء والضراء، وكظم الغيظ، وفيه يقول الله تبارك وتعالى: والصابرين
في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون [177 /
البقرة: 2]. وقال: [يا أيها الذين آمنوا] اصبروا وصابروا ورابطوا [واتقوا الله
لعلكم تفلحون [200 / آل عمران: 3]. [وقال تعالى:] وبشر الصابرين [الذين إذا
أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم وأولئك
هم المهتدون] (2).
(هامش)
(1) إلى هنا ذكرها في الأصل ثم قال: إلى قوله: فاستبشروا ببيعكم الذي.. (2) وهذه
هي الآية: (155 - 157) من سورة البقرة، والمصنف ذكر كلمتين منها في المتن. (*)
ص 65
[وقال جلا وعلا:] واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [35 / الأحقاف: 46]. [وقال
عز شأنه:] والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس [134 / آل عمران: 3]. ثم العبادة
بالزهد والصوم والصلاة والمسارعة في أعمال البر. فهذه مناقب الفضل، ومنازل الخير،
فهي مذكورة في القرآن بالجملة والتفسير، فمن حازها وجمعها فهو المتقدم بها [على]
الناس باجتماعها. (*)
ص 66
[أفضلية علي عليه السلام من غيره من جهة سبقه إلى الإسلام، واعتناقه به حيثما كان
غيره يعبد الأصنام].

فنبتدئ بذكر تقدمه في الإسلام فإن الناس مختلفون (1) في أبي
بكر وعلي، وقد أجمعوا أن عليا أسلم قبله (2) إلا أنهم زعموا أن إسلامه كان وهو طفل
فقد وجب تصديقنا في أنه أسلم قبله. ودعواهم في أنه كان طفلا غير مقبول إلا بحجة
(3). فإن قالوا: وقولكم: إنه أسلم وهو بالغ، دعوى مردودة. قلنا: الإسلام قد ثبت له،
وحكمه قد وجب بالدعوة والإقرار ولو كان طفلا لكان في الحقيقة غير مسلم، لأن أسماء
الإسلام والإيمان، وأسماء الكفر والضلال والطاعة
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر وفي الأصل: بذكر التقدمة في الإسلام فإن الناس يختلفون.. .
(2) وبعد الاجماع الأخبار أيضا بذلك متواترة فانظر الحديث: (59 - 140) وما علقناه
عليها من ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 1، ص 41 - 117،
ط 2. وانظر أيضا الباب: (21) من الفصل: (2) من كتاب غاية المرام ص 99 ط 1،
والباب(65) من البحار: ج 9 ص 325، وفي ط الحديث: ج 38 ص 201 ط 2 وذيل إحقاق الحق: ج
4 ص 29، وذكره أيضا في ج 5 ص 493، وفي: ج 7 ص 493. وقد ذكر المصنف أيضا قطعا كثيرة
من هذه الأقمار المنيرة مسندة في رده على عثمانية الجاحظ المطبوع في آخرها ص 282.
وقد رواها عنه ابن أبي الحديد في شرح الخطبة القاصعة - وهو المختار: (238) من نهج
البلاغة -: ج 3 ص 250 طبع القديم بمصر، وفي الطبع الحديث: ج 13، ص 219. (3) وهذا
الفصل وأكثر ما يأتي بعد ذلك ذكرها المصنف في رده على عثمانية الجاحظ ولكن بألفاظ
أجود مما هاهنا. (*)
ص 67
والمعصية، إنما يقع على العقلاء البالغين دون الأطفال [والمجانين] (1). وحجة [أخرى]
أيضا: إن الله لم يرسل رسولا إلى الأطفال والمجانين، فلما رأيناه قد قصد صلى الله
عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب فدعاه إلى الإسلام، وأمره بالإيمان وبدأ به قبل
الخلق علمنا أنه عاقل بالغ، وأن الأمر له لازم. فإن قالوا: وما تنكرون أن يكون ذلك
منه بالتأديب كما يكون / 18 / ذلك منا إلى أطفالنا على جهة التعليم. قلنا: ذلك من
قولكم غير جائز وإنما ذلك يكون منا عند تمكن الإسلام بأهله وعند ظهوره والنشوء
والولادة عليه، فأما في دار الشرك والحرب فليس يجوز ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم
لم يكن ليدع ما أرسل به ويقصد إلى دعاء الأطفال والدار دار شرك وكفر، فيشتغل
بالتطوع قبل أداء الفرض [و] ذلك عنه منفر صلى الله عليه وسلم. وما باله لم يدع طفلا
غير علي بن أبي طالب؟! وليس في السنه أن يدعى أطفال المشركين إلى الإسلام، ويفرق
بينهم وبين آبائهم قبل أن يبلغوا الحلم. وحجة [أخرى] أيضا. إن منزلة النبي صلى الله
عليه وسلم كانت في بدء الدعوة منزلة ضيق ووحدة وغربة وشدة، وهذه منازل لا ينتقل
إليها إلا من قد تمكن الإسلام عنده بحجته، ودخل اليقين قلبه بالعلم والمعرفة، وشأن
الطفل اتباع أهله، وتقليد قرابته، والمضي على منشئه ومولده، وأن لا يدخل فيما تزعجه
المعرفة، وتميل إليه النفس باليقين والعلم والعاقبة (2).
(هامش)
(1) ما بين المعقوفين مأخوذ مما ذكره المصنف في رده على عثمانية الجاحظ، وزاد بعده:
وإذا أطلقتم وأطلقنا عليه اسم الإسلام، فالأصل في الاطلاق. الحقيقة كيف وقد قال له
النبي صلى الله عليه وآله: أنت أول من آمن بي وصدقني. وقال لفاطمة: زوجتك أقدمهم
سلما. أو قال: إسلاما. (2) ولأبي جعفر رحمه الله في رده على عثمانية الجاحظ هاهنا
أدلة فطرية، وأبحاث وجدانية يصدقها كل عاقل = (*)
ص 68
فإن قالوا: إن عليا قد كان يألف النبي صلى الله عليه وسلم، فوافقه على طريق
المساعدة. قلنا لهم: وإن كان يألفه، فلم يكن إلفه [به] بأكثر من [إلفه] أبويه
وإخوته وعمومته وأهل بيته (1) ولم يكن الألف مما يخرجه عما نشأ عليه وغذي به، ولم
يكن الإسلام مما غذي به، وكثر على سمعه. ووجه آخر: إن الإسلام لا يكون إلا بخلع
الأنداد والأصنام، وكل معبود من
(هامش)
= سلمت فطرته ولم يعقد قلبه على بغض الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ومشاقة
الحقائق، وآثرنا أن نذكر ها هنا جملا منها، قال: وما بال هذا الطفل لم يأنس
بأقرانه، ولم يلصق بأشكاله، ولم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه، وهو كأحدهم
في طبقته، كبعضهم في معرفته؟!!! وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته؟ فيقال: دعاه
نقص الصبا وخاطر من خواطر الدنيا، وحملته الغرة والحداثة على حضور لهوهم، والدخول
في حالهم! بل ما رأيناه إلا ماضيا على إسلامه، مصمما في أمره، محققا لقوله بفعله،
وقد صدق إسلامه بعفافه وزهده، ولصق برسول الله صلى الله عليه وآله من بين جميع من
[كان] بحضرته، فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته، وقد قهر شهوته وجاذب خواطره صابرا
على ذلك نفسه لما يرجوه من فوز العاقبة، وثواب الآخرة. (1) هذا هو الصواب، وفي
الأصل: أبوته... وما بين المعقوفين زيادة توضيحية منا. وقال المصنف في ذيل ما
ذكرناه الآن عنه في نقض عثمانية الجاحظ: ثم لينظر المنصف، وليدع الهوى جانبا، ليعلم
نعمة الله على علي عليه السلام بالإسلام حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه، فإنه
لولا الألطاف التي خص بها والهداية التي منحها له، لما كان إلا كبعض أقارب محمد
وأهله صلى الله عليه، فقد كان ممازجا له كممازجته، ومخالطا له كمخالطة كثير من أهله
ورهطه، ولم يستجب أحد منهم له إلا بعد حين، ومنهم من لم يستجب له أصلا.. وساق
الكلام في تسمية من استجاب النبي ومن لم يستجبه من عشيرته إلى أن قال: فكيف ينسب
إسلام علي عليه السلام إلى الألف والتربية والقرابة واللحمة، والتلقين والحضانة،
والدار الجامعة، وطول العشرة، والأنس والخلوة، وقد كان كل ذلك حاصلا لهؤلاء، أو
لكثير منهم، ولم يهتد أحد منهم إذ ذاك، بل كانوا بين من جحد وكفر ومات على كفره،
ومن أبطأ وتأخر وسبق بالإسلام، وجاء سكيتا وقد فاز بالمنزلة غيره. وهل يدل تأمل حال
علي عليه السلام مع الإنصاف إلا على أنه أسلم لأنه شاهد الأعلام، ورأى المعجزات وشم
ريح النبوة، ورأى نور الرسالة، وثبت اليقين في قلبه بمعرفة وعلم ونظر صحيح، لا
بتقليد ولا حمية ولا رغبة ولا رهبة، إلا فيما يتعلق بأمور الآخرة. (*)
ص 69
دون الله والبراءة ممن أشرك بالله وهذا لا يجتمع في اعتقاد طفل، بل قد يشتد اجتماع
ذلك عند العقلاء البالغين إلا من آثر الحجة، ورغب في العاقبة، وخاف عذابا لا طاقة
له به. وإن قالوا: فكيف أوجبتم له حكم البلوغ وحكم النبي صلى الله عليه وسلم في
البلوغ كان في خمس عشرة سنة، ولم تكن هذه سن علي بن أبي طالب؟ وذلك أن حكمه كان يوم
الخندق في إجازته من أتت عليه خمس عشرة سنة (1). قلنا لهم: إن آخر حد البلوغ هو
[إكمال] خمسة عشر سنة، ولآخر حد البلوغ آخر وأوسط يعلمه الله ويعلمه النبي صلى الله
عليه وسلم، وكان الحكم في خمس عشرة سنة جعله الله حكما وقف العباد عليه، لأن أقل
الخلق عقلا وأنقصهم طبعا في القوة على المعرفة يتم بلوغه في خمس عشرة سنة. وفي
الناس تفاضل في سرعة البلوغ وكمال العقول فأول حد البلوغ هي منزلة علي ابن أبي طالب
بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهي ثلاث عشرة سنة، وآخر حد البلوغ هي منزلة عبد الله
بن عمر وهو خمس عشرة سنة، وبين ذلك وقت البلوغ على قدره لتفاضل الناس في العقول
وذلك معروف في التعارف والعادة وما عليه الصغار والكبار من التفاضل في الحفظ والعلم
والفطن والبلوغ من الاحتلام والحيض وذلك أيضا معروف في صفة الصبيان في الكتاتيب
والصناعات [فإنهم] مختلفون في حفظهم وقوتهم على التعليم، وقد يوظف المعلم على كل
صبي ما يحتمله حفظه، وتضبطه معرفته. ولله أحكام كثيرة هي مثال ما قلنا [ه] في
البلوغ، في أن البلوغ حد له أول وآخر
(هامش)
(1) أنظر لي ما ذكره أبو جعفر في رده على عثمانية الجاحظ في سرد الأخبار الدالة على
كمية عمر علي عليه السلام حين أظهر إسلامه. وليلاحظ أيضا الحديث: (64 - 69)
وتعليقها من ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 1، ص 44 - 46
ط 2. (*)
ص 70
وواسط، كما حكم صلى الله عليه وسلم في وقت صلاة الظهر أن أوله أن يكون ظل كل شيء
مثله، وآخره أن يكون ظل كل شيء مثليه، وقال صل الله عليه وسلم: ما بين هذين وقت
لأمتي. وكذلك ما وقت في صلاة العصر على هذا المثال. قلنا: فقد أبان الله علي بن أبي
طالب رضي الله عنه وعن جميع المؤمنين في عقله فجعله أول الناس بلوغا بعد النبي صلى
الله عليه وسلم وأقدمهم إسلاما، وكان في سن الأطفال، وعقول البالغين، فبان عقله
وتقدم في إسلامه وتكليفه. وأنتم قد تعلمون أن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في
البلوغ / 19 / والعقل ليست كمنزلة الخلق، كذلك كان في صغر سنه يعرف بالوقار والحلم
والوفاء والصدق والرجاحة في علمه. [وإنما أطلنا الكلام] ليعلموا أن حكم البلوغ
يختلف، وأن الناس يتفاضلون فيه، فمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم لم يلحقها أحد،
ومنزلة علي دونها لم يلحقها أحد. ليعلموا أن أموره عند الفكرة فيها والاستنباط لها
منزلة على البينونة من الناس والقرب من النبي صلى الله عليه وسلم لذلك استحق أن
يكون منه بمنزلة هارون من موسى - صلوات الله على محمد وعلى من تقدمه من الأنبياء -
وقد رويتم أنه اصطفاه لإخوته، وقال: علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي
بعدي (1). وقد رويتم ما قلنا [ه] في الأثر: ذكروا أن عليا دخل على النبي صلى الله
عليه وسلم، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم وخديجة يصليان، فلما فرغ قال له علي: ما
هذا الذي رأيتك فعلت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا دين الله - يا علي - الذي
بعثني به فأدخل فيه. فقال له علي بن أبي طالب: انظرني حتى أتفكر فيه الليلة.
(هامش)
(1) والحديث متواتر بين شيعة آل أبي سفيان فضلا عن تواتره بين شيعة أهل البيت صلوات
الله عليهم. ويكفيك مراجعة الحديث: (336) وتواليه من ترجمة الإمام أمير المؤمنين
عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 1. ص 306 - 394 ط 2. (*)
ص 71
فأنظره، ثم أصبح مسلما بعد الروية والفكرة. فليس هذا فعل طفل ولا جوابه، ولا دعاء
النبي صلى الله عليه وسلم دعاء طفل. ويروى عن زيد بن علي عليه السلام، أن عليا أتى
بغلام قد سرق فقال: حلوا مئزره وانظروا إليه. فنظروا فلم يجدوا شيئا، فقال خلوا
سبيله، وقال: الغلام إذا أتت عليه اثنتا عشر سنة جرى عليه الحكم وله فيما بينه وبين
الله، والجارية إذا أتت عليها عشر سنين جرى عليها [الحكم] ولها فيما بينها وبين
الله، وإذا بدت العانات جرت الحدود. فهذا في الأثر قد أتى وإن كان ما قلنا [ه] قد
وجب بحجة الخبر، ودللنا على معرفته بالقياس وحسن النظر. وفي مثله وتحقيقه يؤثر عن
أسماء بنت عميس، قالت: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ظهره إلى قبة ثم قال:
لأقولن اليوم كما قال أخي موسى صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لي ذنبي، واشرح لي
صدري، واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي اشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك
كثيرا، ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا (1). فأشهد أن الله قد أجابه وشفع مسألته،
ثم أمره بأن يشهر ذلك لأمته في حجة الوداع تأكيدا وإظهارا لأمر الله، لتقوم بذلك
الحجة على الخليقة، وينقطع عذر الناصبة النابتة والمرجئة، فقام خطيبا فقال: ألست
أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: اللهم نعم. فقال: ألست أولى بكل مؤمنة من نفسها؟
(2) قالوا: اللهم نعم. فأخذ بيد علي وقال:
(هامش)
(1) إقتباس من الآية: (30 - 33) من سورة طه . والحديث رواه الحافظ الحسكاني في
تفسير الآية الكريمة من شواهد التنزيل بأسانيد، ورويناه أيضا في تعليقه عن مصادر
بأسانيد. (2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: ألست أولى بكل مؤمن ومؤمنة... . وهذا هو
حديث الغدير المتواتر بين المسلمين، فانظر الحديث: (501) وتواليه من ترجمة أمير
المؤمنين علي عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2 ص 5. (*)
ص 72
من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فهذا يصدق من قلته من
الرواية، ويقطع علة كل معتل يلتمس إدخال شبهة من أهل الكلام والنابتة والمرجئة، لأن
هذا خبر قد بانت حجته، وثبتت أسبابه وأركانه، وما قلنا [ه] من طريق النظر فقد
تقصينا بما فيه كفاية مما لا يمكن للمخالف أن يدخل في ذلك شبهة، وثبت ذلك بحجة
واضحة بغاية ما يكون للمخالفين من الدحل - فنحمد الله على ما أعطى وأنعم - ففضيلة
السبق في الإسلام قد ثبتت [لعلي] وصحت. وفي الإسلام فضيلة أخرى [لعلي] تتلو ما
تقدم، وهو أن إسلام أبي بكر كان عن كفر تقدم، وإسلام علي عن غير خطأ وزلل (1) فكيف
لا تكون هذه فضيلة ثابتة وقد بانت بها الرسل قبله، تكون معها الرسالة، كيف لا تكون
لعلي فضيلة لأنها من معاني الطهارة، وزوال التهم، وازدياد في الحجج. فإن قال قائل:
فأنت أفضل من أبي بكر / 20 / لأنك أسلمت لا عن كفر، وأسلم أبو بكر عن كفر. قلنا:
ليس ما قلت قياسا [صائبا] لأن أبا بكر وعليا كانا في زمن واحد بين قوم مشركين،
أحدهما قد نشأ وعقل فبعد (2) وقصد وأشرك وكفر - ولله عليه في تلك الحال حجج من قبل
الرسل قائمة -. وعلي في تلك الحال قد نشأ في دار الشرك والكفر كما نشأ أبو بكر، فلا
قرعته الحجة أسلم ولم يجحد، وآمن ولم يكفر ومنزلتي مخالفة لهذه المنازل، لأني إنما
نشأت في دار الإسلام والإيمان، وولدت
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر و، وفي الأصل عن غير خطأ ولا زلل.. . (2) لعل هذا هو الصواب،
وفي الأصل: فبعدا مهملة. ويحتمل أيضا أن الأصل كان فعند فصحفها الكاتب. (*)
ص 73
على ذلك، وتلك منزلة الأب والأم [و] ليس بتلك المنزلة علي بن أبي طالب وأبو بكر
[لأنهما] استويا في الولادة في دار الشرك، وفي كفر الأب والأم، ثم اختلفا في
الإسلام، فخلص له الفضل على أبي بكر، إذ اتفقت العلل والأسباب، واختلفا في الكفر
والإيمان. وفرق [آخر] أيضا فيما سألتم عني وعن أبي بكر وذلك لأن أبا بكر قد بان مني
بأمور كثيرة لا أقاس أنا به، وأكون بهذه الخصلة مقدما عليه، لو كنت له مساويا في
الأمور كلها خلاف هذه الخصلة لكنت منه باينا. وأمور على كلها تؤكد تقدمه عليه
وفضيلته في الخصلة التي ذكرناها. فإن قال قائل: قد نجد لأبي بكر فضيلة في السبق
ليست لعلي (1) بدلالة الآية: [10 / من سورة الحديد] وهي قوله: لا يستوي منكم من
أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد
الله الحسنى لأنه أسلم. - المعيار والموازنة - أبوجعفر الإسكافي ص 73: أبو بكر
وهو ذو مال فأنفقه على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حتى قال: لقد نفعنا مال
أبي بكر. قلنا: إن الله لم يذكر إنفاق المال مفردا، وإنما قرن معها (2) فضيلة بان
بها علي على أبي بكر وهو سبق علي إلى القتال فلما قرن الله الإنفاق مع القتال وكان
لأبي بكر الإنفاق (3) دون القتال حصلت الفضيلة لعلي بن أبي طالب بالقتال.
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: لأبي بكر فضيلة في السبق بدلالة الآية.. . (2)
هذا هو الظاهر الموافق لما سنذكره عن نقض العثمانية، وفي الأصل: إن الله إنما ذكر
إنفاق المال مفردا وقد قرن معها فضيلة... . (3) هذا من باب المجاملة والتسليم
للخصم جدلا، وإلا لم يعهد لأبي بكر إنفاق أبدا، والدليل على عدم كون أبي بكر من
المنفقين هو تقاعده مع أخذانه عن مناجاة رسول الله مخافة أن ينقص من مالهم مقدار
دانق أو أقل، من أجل التصدق على الفقراء كي يحل لهم المناجاة مع رسول الله صلى الله
عليه وآله، فتركوا رسول الله وحده ولم يناج معه غير علي بن أبي طالب كان له دينار
صرفه بعشرة دراهم، كلما أراد أن يناجي مع رسول الله تصدق بدرهم حتى نسخت الآية
الكريمة، ونزل في ذم الممسكين عن النجوى والتصدق. قوله = (*)
ص 74
فإن قال قائل: ولم جعلت فضيلة القتال لعلي إذ تفرد بها ولا تجعل فضيلة الإنفاق لأبي
بكر إذ تفرد بها؟ قلنا: لأن الله قد ندبهما جميعا إلى القتال ولم يندبهما إلى
الإنفاق فلا يلزم عليا التقصير في الإنفاق لأن الله لم يندبه إليه، ووجب على أبي
بكر التقصير في فضيلة القتال لأنه مندوب إليه، وعلي غير مندوب إلى الإنفاق، ولو كان
لهما جميعا مال قد ندبا إلى الإنفاق منه، فأنفق أحدهما ولم ينفق الآخر كان صاحب
الإنفاق أفضل، كما أنهما
(هامش)
= تعالى: أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات؟ فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم
[14 / المجادلة]. فراجع تفسير الآية: (13) من سورة المجادلة من شواهد التنزيل: ج
2 ص 231 ط 1، حتى ينكشف لك توغل القوم في اللؤم. وقال المصنف في رد فخفخة العثمانية
وبخبختهم لإنفاق أبي بكر: أخبرونا على أي نوائب الإسلام أنفق [أبو بكر] هذا المال؟
وفي أي وجه وضعه؟ فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت حفظه وينسى ذكره.
وأنتم لم تقفوا على شيء أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها يبلغ ثمنها في ذلك العصر
مأة درهم. وكيف يدعى له الإنفاق الجليل وقد باع من رسول الله صلى الله عليه وآله
بعيرين عند خروجه إلى يثرب وأخذ منه الثمن في تلك الحال، روى ذلك جميع المحدثين.
وقد رويتم أيضا أنه كان حيث كان بالمدينة موسرا. ورويتم عن عائشة أنها قالت: هاجر
أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم، وقلتم: إن الله تعالى أنزل فيه: ولا يأتل أولوا
الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى [22 / سورة النور: 34] قلتم: هي في أبي
بكر ومسطح بن أثاثة. فأين الفقر الذي زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءة. وأنتم
رويتم أيضا: أن الله تعالى لما أنزل آية النجوى فقال: يا أيها الذين آمنوا إذا
ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلكم خير لكم [13 / المجادلة]. لم يعمل
بها إلا علي بن أبي طالب وحده مع إقراركم بفقره وقلة ذات يده، وأبو بكر في الذي
ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته، فعاتب الله المؤمنين في ذلك فقال: أأشفقتم أن
تقدموا بين يدي نجواكم صدقات؟ فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم . فجعله سبحانه ذنبا
يتوب عليهم منه. وهو إمساكهم عن تقديم الصدقة!! فكيف سخت نفسه [أي أبي بكر] بإنفاق
أربعين ألفا وأمسك عن مناجاة الرسول، وإنما كان يحتاج إلى إخراج [درهم أو] درهمين.
وساق الكلام إلى أن قال: فأما قوله تعالى: لا يستوي منكم من أنفق.. فقد ذكرنا
ما عندنا من دعواهم لأبي بكر إنفاق المال. وأيضا فإن الله تعالى لم يذكر إنفاق
المال مفردا وإنما قرن به القتال. ولم يكن أبو بكر صاحب قتال وحرب = (*)
ص 75
لما اتفقا في ندبة القتال فقاتل أحدهما ولم يقاتل الآخر كان صاحب القتال أفضل. فهذا
في الحجة مؤكد لما تقدم، وعلى مثال ما قلنا، بل أدل وأبين وقد استوت حاله فيما يمكن
به القتال مع وجوب الأمر عليهما، ففضل من أقدم عن منزلة من منزلة من أنفق إذ كان
معدما والآخر موجدا فقد استوت حالهما في الأمر في القتال وقد مكنا، واختلفت حالهما
في المال في العدم والوجود، فالذي قاتل قد فضل على من لم يقاتل إذ كانا جميعا قد
ندبا إلى القتال ولم يكونا جميعا مندوبين إلى الإنفاق، فلم يفضل من أنفق على من لم
ينفق، إذ لم يكن [الإنفاق] مأمورا به. فتفهموا ما قلنا، والطفوا في النظر فما بقيت
لكم غاية في النقض إلا وقد ذكرتها فصرت من المسألة إلى آخرها وحد الكلام فيها ولم
أغتنم تقصيركم عن غايتها وعجزكم عن القيام بها وتوليت من أموركم كلما سبق إلى قلبي
أنه يجري في عللكم وألزمت نفسي الصدق فيما لي ولكم، وجانبت الهوى في الميل عليكم
ففعلت ذلك لخلال. أولها: أداء ما يجب لله [علي] من المبالغة في الطلب والاجتهاد في
النظر. والثانية: لأن ينقطع العلل والقال ممن يدعي النظر فلا يقول: أغفل وقصر.
(هامش)
= فلا تشمله الآية. وكان علي عليه السلام صاحب قتال وإنفاق قبل الفتح.. أما قتاله
فمعلوم بالضرورة. وأما إنفاقه فقد كان على حسب حاله وفقره. وهو الذي أطعم الطعام
على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، فنزلت فيه وفي زوجته وابنيه سورة كاملة من القرآن
[وهي سورة الدهر]. وهو الذي ملك أربعة دراهم فأخرج منها درهما سرا. ودرهما علانية
ليلا، ثم أخرج منها في النهار درهما سرا ودرهما علانية [كذا] فأنزل فيه قوله تعالى:
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية [274 / سورة البقرة]. وهو
الذي قدم بين يدي نجواه صدقة دون المسلمين كافة. وهو الذي تصدق بخاتمه وهو راكع
فأنزل الله فيه: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة،
ويؤتون الزكاة وهم راكعون، [55 سورة المائدة: 5]. أقول: وليراجع الأخبار الواردة
حول شأن نزول هذه الآيات المباركات من كتاب شواهد التنزيل فإنه مغن عن غيره، ويلقم
النواصب حجر الحجة. ويجعل أفئدتهم هواءا. (*)