ص 151
فلما بلغ ذلك عليا قال لأصحابه: أملكوا عني هذا الغلام (1) - يعني ابنه [الحسن] -
لا يهدني [فقده]. فأسرعت إليه خيل من أصحاب علي فردوا الحسن. وانصرف الزبرقان وهو
يقول: إني أخاف الله في ابن فاطمة، وإن ذا الكلاع حدثني أنه سمع جهما يقول: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن حسنا وحسينا سيدا شباب أهل الجنة (2).
(هامش)
(1) ورواه السيد الرضي رحمه الله بزيادات جيدة في المختار: (207) من نهج البلاغة.
(2) ورواه ابن عساكر في الحديث: (141) من ترجمة الإمام الحسن عليه السلام من تاريخ
دمشق
ص 82 ط 1، بسنده عن أبي وائل، عن ذي الكلاع، عن جهم... ورواه أيضا ابن حجر عن مصادر
في ترجمة جهم الصحابي من كتاب الإصابة: ج 1، ص 255. (*)
ص 152
[كلام أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه لما مر بجمع من أهل الشام وهم يشتمونه]

ثم
إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دفع إلى جماعة من أصحابه يقاتلون قتالا شديدا،
والآخرون [من أهل الشام] يلعنون عليا ويشتمونه (1) فقال: من هؤلاء؟ فقالوا: [جماعة
فيهم] الوليد بن عقبة فقال: انهدوا إليهم وعليكم السكينة وسيماء الصالحين ووقار
الإسلام، فوالله لا أقرب بقوم من الجهل بالله [قوم] قائدهم ومؤدبهم معاوية (2) وابن
النابغة - يعني عمرو - وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الخمر المجلود حدا في
الإسلام [و] ها هم يقومون فيقصبوني (3) ويشتموني وقبل اليوم ما قابلوني وشتموني،
وأنا أدعوهم إذ ذاك إلى الإسلام وهم يدعوني إلى عبادة الأوثان، الحمد لله [و] قديما
عاداني الفاسقون فبعدهم الله (4) ألم تعجبوا أن هذا هو الخطب الجليل، أن فساقا
كانوا عندنا غير مرضيين، وعلى الإسلام وأهله متخوفين، خدعوا شطر هذه الأمة، وأشربوا
قلوبهم حب الفتنة، واستمالوا أهواءهم بالإفك والبهتان [و] قد نصبوا لنا الحرب،
وجدوا في إطفاء نور الله.
(هامش)
(1) ما بين المعقوفين كان قد سقط من الأصل ولا بد منه. (2) وفي المختار: (211) من
نهج السعادة: والله لأقرب قوم من الجهل بالله عز وجل قوم قائدهم ومؤدبهم معاوية..
. (3) هذا هو الظاهر الموافق للمختار: (211) من نهج السعادة: ج 2 ص 213، وفي
الأصل: فيعصوني.. . (4) الظاهر أن هذا هو الصواب، وهذه الجملة غير موجودة في
كتاب صفين والمختار: ( 211) من نهج السعادة، وكانت في الأصل المخطوط مصحفة:
فعبدكم الله . (*)
ص 153
اللهم فاردد الحق، وافضض جمعهم، وشتت كلمتهم وأبلسهم بخطاياهم (1) فإنه لا يذل من
واليت ولا يعز من عاديت. ثم نهد إليهم فضاربهم حتى أزالهم عن مكانهم وكان رضي الله
عنه في تلك الأحوال يباشر الحروب بنفسه، ويقومها برأيه، ويجبر صدعها ببأسه، ويقوي
ضعيفها بكلامه، ويشجع جبانها بالبشارة والحجة، ويدور على الرايات، فيقوم أودها،
ويقاتل مع المتأخر عنها حتى تلحق مكانها. [وكان يتحمل تلك الشدائد لله] ليعلموا أن
منافسته في طلب ثواب الله في هذه الحال كمنافسته أيام النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعاوية - لعنه الله - على سريره بعيد من عسكره، حوله الحرس والشرط، متشبها
بالجبابرة وأبناء ملوك العجم، يقول ما لا يفعل، ويرغب فيما فيه زهد، ويتخلف عما أمر
حرصا على الدنيا، وحدوا منه بما طلب (2).
(هامش)
(1) كذا في الأصل، وفي المختار: (211) من نهج السعادة: اللهم فإنهم قد ردوا الحق
فافضض جمعهم وشتت كلمتهم وأبسلهم بخطاياهم.. . أي خذهم بخطاياهم وأهلكهم بها. (2)
كذا في الأصل، فإن صحت اللفظة فلعل معناها: تباعا منه بما طلب من قولهم: حد الليل
النهار - من باب دعا - حدوا : تبعه. ويحتمل أيضا إنها مصحفة عن: عدوا من
قولهم: عدا زيد - كدعا - عدوا : جرى وركض ووثب. (*)
ص 154
[توجيه النفوس إلى الحق والحقيقة بذكر لمعات من أنوار ما بثته حواري أمير المؤمنين
عليه السلام وإيراد بعض ما كان عليه مخالفيهم من حواري معاوية].

ثم التمسوا علم
[سيرة] أهل البصيرة من أصحابه لتعلموا أنهم قد حذوا أمثاله، وفقهم بعلمه، وغذاهم
بعدله حتى / 47 / قربت بصيرتهم من بصيرته. هذا عمار بن ياسر ينادي بأعلى صوته:
الرواح إلى الجنة، تزينوا للحور العين. وكبر عندما شرب [ضياح] اللبن وروى لهم حديثا
سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له: آخر زادك ضياح من لبن ثم تلقاني.
وقال: لو [ضربونا حتى] بلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنهم على الباطل وأنا على الحق
(1). وكان عمرو بن العاصي قد أخرج ابنيه في ذلك اليوم عبد الله ومحمد، وحمل أبو
اليقظان بمن معه من الرجالة وأهل النجدة فنظر عمرو إلى غبار ساطع فقال: على من
(هامش)
(1) ما بين المعقوفين كان قد سقط من الأصل ولا بد منه كما ورد في جميع المصادر.
والحديث من مقطوعات أقوال عمار - قدس الله نفسه - التي روته العام والخاص، وله
مصادر كثيرة. وقد رواه الطبري بسندين في عنوان: مقتل عمار بن ياسر من حوادث سنة
(37) من تاريخه: ج 5 ص 21. ورواه أيضا نصر بن مزاحم المنقري في أواسط الجزء الخامس
من كتاب صفين ص 322 - 342. وانظر ما علقناه على الحديث: (225) في الباب: (54) من
فرائد السمطين: ج 1، ص 286 ط 1. (*)
ص 155
الغبار؟ فقالوا: على ابنيك عبد الله ومحمد فصاح [عمرو] بأصحابه أن قدموا الراية.
فقال له معاوية إنه ليس على ابنيك بأس فلا تنقض الصف. فقال له عمرو: إنك لم تلدهما
يا معاوية (1). [قال ذلك وأصر على الدفاع عن ابنيه] حرصا منه على البقاء، ودلالة
على معرفته بخطأ ما هم فيه. وذكروا أن سعيد بن قيس قال: الحمد لله على ما كرهنا
وأحببنا وقد اختصنا الله منه بنعمة منه لا نستطيع أداء شكرها: إن أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم المصطفين الأبرار معه في حزبنا. فوالله الذي هو بعباده (2) خبير
بصير لو كان قائدنا حبشيا مجدعا إلا أن معنا من البدريين سبعين رجلا لكان ينبغي لنا
أن نحسن بصائرنا ونطيب أنفسنا كيف ورئيسنا ابن عم نبينا صدقه أولا (3) وصلى مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم صغيرا وجاهد مع نبيكم كبيرا، ومعاوية طليق بن طليق من وثاق
الإسار [إلا أنه أغوى جفاة فأوردهم النار وأورثهم العار، والله محل بهم الذل
والصغار ألا [و] إنكم ستلقون عدوكم غدا] [ف] عليكم بتقوى الله والجد والحزم والصبر
فإن الله مع الصابرين.
(هامش)
(1) وذكره أيضا في كتاب صفين ص 388. (2) هذا هو الصواب، وفي الأصل: بالعبادة .
وفي كتاب صفين ص 236: فوالله الذي هو بالعباد بصير.. وللخطبة هناك مصدر غير
مذكور هاهنا. كما أن لها ذيل، وما وضعناه في المتن بين المعقوفين أيضا مأخوذ منه
(3) وفي كتاب صفين لكان ينبغي لنا أن تحسن بصائرنا وتطيب أنفسنا فكيف وإنما
رئيسنا ابن عم نبينا يدري صدق صلى صغيرا وجاهد مع نبيكم كبيرا. ثم إن في خطبة سعيد
هذا شاهد على رد بعض النواصب حيث أنكر وجود بدري في جند أمير المؤمنين عليه السلام
غير عمار بن ياسر رضوان الله عليه، وقد ذكرنا للموضوع شواهد أخر في تعليق المختار.
(175) من نهج السعادة: ج 2 ص 91. (*)
ص 156
قالوا (1): وخرج رجل من خثعم من أهل الشام [يقال له: شمر بن عبد الله] وخرج [إليه]
رجل من خثعم من أصحاب علي [يقال له أبو كعب وهو رأس خثعم العراق] فقتله الشامي
وانصرف وهو يبكي ويقول: رحمك الله لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحما منهم وأحب
إلى نفسا، ولكن والله ما أدري ما أقول إلا أن الشيطان قد قتلنا ولا أرى قريشا إلا
قد لعبوا بنا (2). [وإنما ذكرنا هذا وأمثاله] لتعلموا أن من خالفه إنما كان (3)
يقاتله على الحمية والعصبية والشبهة لا على ثقة ومعرفة. وذكروا أن كعبا المرادي (4)
كان رجلا من أصحاب علي بن أبي طالب، فلما صرع يوم صفين مر به الأسود بن قيس
المرادي، فقال له كعب: يا ابن قيس. قال لبيك. فعرفه وهو بآخر رمق فقال له ابن قيس:
عز علي بمصرعك، أما والله لو شهدتك لآسيتك ولدافعت عنك، ولو علمت الذي أسعرك وأبغضك
(5) لأحببت أن لا نتزايل حتى أقتله أو ألحق بك. ثم نزل إليه فقال: أما والله إن كان
جارك لآمنا لبوائقك وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا، فأوصني يرحمك الله. فقال
أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه المحلين حتى
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: قال... (2) ورواه أيضا في أواسط الجزء الرابع من
كتاب صفين ص 257 وفيه: ولكن الله ما أدري ما أقول ولا أرى الشيطان إلا قد فتننا
ولا أرى قريشا إلا قد لعبت بنا . (3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: إنما يكون
يقاتله . وما بنى المعقوفين زيادة منا. (4) كذا في الأصل، وفي تاريخ الطبري: ج 6 ص
25: عبد الله بن كعب المرادي.. . ومثله في أواسط الجزء: (7) من كتاب صفين ص 456.
(5) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين وحوادث سنة (37) من تاريخ الطبري: ولو عرفت الذي
أشعرك لأحببت... . (*)
ص 157
يظفر أو تقتل!! وأبلغه عني السلام، وقل له: قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك،
فإنه من أصبح من وراء المعركة كان الظافر. ثم لم يلبث أن مات، وأقبل ابن قيس إلى
علي فأخبره، فقال [على] رحمه الله قاتل معنا عدونا في الحياة، ونصح لنا عند الوفاة.
(*)
ص 158
[شأنه عليه السلام في حروبه مع أعدائه، ثم وصيته عليه السلام وتحريضه لأصحابه عند
دنوهم من عدوهم للمناوشة والمقاتلة].

وقالوا: إنه كان رضي الله عنه لا يبدأ عدوه
بقتال حتى يبدأوه، ولا يحاربهم حتى ينابؤهم، فلما ناباهم يوم صفين وأنظرهم فلم
يدعوا و[لم] يرجعوا أمر مناديه فنادى في أهل الشام. ألا إني قد استدمتكم واستأنيتكم
لترجعوا إلى الحق وتنثنوا إليه، واحتججت [عليكم] بكتاب الله ودعوتكم إليه فلم
تناهوا عن طغيانكم، ولم تجيبوا إلى حق. ألا وإني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا
يحب الخائنين (1). ثم تقدم إلى مقدمته أن قفوا ولا تقدموا عليهم إقدام من يريد أن
ينشب حربا، ولا تأخروا عنهم تأخر من يهاب البأس، ولا يحملنكم سبابهم [إياكم] على
قتالهم قبل أن تدعوهم وتعذروا إليهم (2). [وإنما كان يأتي بهذا وأمثاله] ليعلموا أن
شأنه / 48 / وبغيته ومراده اتباع حكم الله وإصابة الحق في قتالهم. ثم أقبل على
أصحابه لما هموا بلقاء عدوهم [و] حرضهم [وهو] يقول لهم: عباد الله اتقوا الله وغضوا
الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمحاولة
والمحافظة والمعانقة والمكادمة، واثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون، ولا
تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين. اللهم ألهمهم الصبر،
وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر (3).
(هامش)
(1) ورواه أيضا نصر بن مزاحم في أواخر الجزء الثالث من كتاب صفين ص 203. كما رواه
أيضا الطبري في تاريخه: ج 6 ص 5. (2) وقريبا منه رواه نصر بن مزاحم في أواسط الجزء
الثالث من كتاب صفين ص 153. (3) وهذا الكلام رويناه في المختار: (197) من نهج
السعادة: ج 2 ص 159 ط 1، عن مصادر. (*)
ص 159
[كلام الشهيد عقبة المرادي يوم صفين في هوان الدنيا وغلاء الدار الآخرة، وحث الناس
على قتال معاوية وجنده ثم خروجه مع أخوته إلى البراز واستشهادهم رضي الله عنهم].

وذكروا أن عقبة بن جرير المرادي (1) - وهو من أصحاب علي - قال يوم صفين: إن مرعى
الدنيا أصبح هشيما وأصبح شجرها حصيدا (2) وجديدها سملا، وحلوها مر المذاق. ألا
وإنني أنبئكم نبأ امرئ صادق، بأني قد سئمت الدنيا وعزفت [نفسي] عنها، وقد كنت أتمنى
الشهادة وأتعرض لها في كل جيش أو غارة، فأبى الله إلا أن يبلغ (3) هذا اليوم، ألا
وإني متعرض لها [من] ساعتي هذه، وقد طمعت فيها. فما تنتظرون عباد الله في جهاد
أعداء الله؟ أخوفا من اليوم القادم عليكم (4) الذاهب
(هامش)
(1) كذا في الأصل، والقصة ذكرها أيضا الطبري في حوادث سنة: (37) من تاريخه: ج 6 ص
15، قال: قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن حصيرة عن أشياخ النمر: أن عقبة بن حديد
النمري قال يوم صفين.. (2) وفي النسخة الموجودة عندي من تاريخ الطبري: وأصبح
شجرها خضيدا.. . (3) كذا في الأصل، وفي تاريخ الطبري: وقد كنت أتمنى الشهادة
وأتعرض لها في كل جيش وغارة فأبى الله عز وجل إلا أن يبلغني هذا اليوم.. . (4) وفي
تاريخ الطبري: فما تنتظرون عباد الله بجهاد من عادى الله؟ [أ] خوفا من الموت
القادم عليكم الذاهب بأنفسكم لا محالة.. . ثم إن جميع ما وضعناه بين المعقوفات
مأخوذ من تاريخ الطبري. (*)
ص 160
بأنفسكم لا محالة؟ أو [من] ضربة كف بالسيف تستبدلون الدنيا بالآخرة، ومرافقة
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار القرار؟ ما هذا بالرأي [السديد]. ثم
مضى وقال: يا إخواني إني قد بعت هذه الدار الدنيا بالدار الآخرة التي أمامها وهذا
وجهي إليها فلا تبرح وجوهكم ولا يقطع الله رجاءكم. فتبعه إخوته وقالوا: لا نطلب
رزقا بعدك قبح الله العيش بعدك، اللهم إنا نحتسب عندك أنفسنا. فاستقدموا فقاتلوا،
فقتلوا رحمهم الله. وذكروا أن رجلين تخاصما عند معاوية لعنه الله في قتل عمار فقال
أحدهما: أنا قتلته. وقال الآخر: أنا قتلته. فقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: إنما
تختصمان أيكما يدخل النار!! سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قاتل عمار في
النار (1). وذكروا أن غلاما من أهل الشام قاتل يوم صفين قتالا شديدا (2) فقال له
بعض أصحاب علي: يا فتى هل أهمك أمر هذا الدين قط؟ وأمر هذه الأمة؟ فقال: لا والله
لا أقول باطلا ما أهمني. قال: فعلام تقاتل؟ قال: إن أصحابي يخبروني أن صاحبكم لا
يصلي! قال له: وكيف يقولون ذلك وهو أول من صلى وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى
الهدى وأصحابه الفقهاء والقراء. فرجع الفتى إلى أصحابه وخرق الصف، فقال له أصحابه:
خدعك العراقي؟ قال: لا والله ولكن نصح لي. فقد تعلمون عند التدبر في أمور من خالفه
(3) أنها موضوعة على الكذب والغدر وطلب الدنيا وتعمد الخطاء.
(هامش)
(1) والقصة مروية في مصادر كثيرة بأسانيد مختلفة، وذكرها أيضا الطبري في عنوان:
مقتل عمار من حوادث سنة (37) من تاريخه: ج 6 ص 23. والقصة ذكرها أيضا نصر بن
مزاحم تفصيلا في أول الجزء السادس من كتاب صفين ص 354. (2) ورواه أيضا الطبري في
عنوان: خبر هاشم بن عتبة.. وليلة الهرير من تاريخه: ج 6 ص 23 قال: فإنهم لكذلك
إذ خرج عليهم شاب فتى وهو يقول: = (*)
ص 161
(هامش)
= أنا ابن أرباب الملوك غسان * والدائن اليوم بدين عثمان إني أتاني خبر فأشجان * إن
عليا قتل ابن عفان ثم [جعل] يشد فلا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم يشتم ويلعن ويكثر
الكلام! فقال له هاشم بن عتبة: يا عبد الله إن هذا الكلام بعده الخصام، وإن هذا
القتال بعده الحساب، فاتق الله فإنك راجع إلى الله فسائلك عن هذا الموقف وما أردت
به. قال [الشاب]: فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي وأنتم لا تصلون
أيضا!! وأقاتلكم لأن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم أردتموه على قتله!!!. فقال له هاشم:
وما أنت وابن عفان؟ إنما قتله أصحاب محمد وأبناء أصحابه وقرأه الناس حين أحدث
الأحداث، وخالف حكم الكتاب، وهم أهل الدين وأولى بالنظر في أمور الناس منك ومن
أصحابك، وما أظن أمر هذه الأمة، وأمر هذا الدين أهمك طرفة عين؟!. فقال له أجل والله
لا أكذب فإن الكذب يضر ولا ينفع. قال: فإن أهل هذا الأمر أعلم به فخله وأهل العلم
به. قال [الشاب]: ما أظنك والله إلا نصحت لي. [ثم] قال [هاشم]: وأما قولك: إن
صاحبنا لا يصلي!! فهو أولى من صلى، وأفقه خلق الله في دين الله، وأولى [الناس]
بالرسول. وأما من ترى معي فكلهم قارئ لكتاب الله، لا ينام الليل تهجدا، فلا يغوينك
عن دينك هؤلاء الأشقياء المغرورون. فقال الفتى: يا عبد الله إني أظنك امرءا صالحا
فتخبرني هل تجد لي من توبة؟ فقال [هاشم]: نعم يا عبد الله تب إلى الله يتب عليك،
فإنه يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ويحب المتطهرين. فجشر والله الفتى
الناس راجعا، فقال له رجل من أهل الشام: خدعك العراقي خدعك العراقي. قال: لا. ولكن
نصح لي. أقول: والقصة ذكرها أيضا بالتفصيل نصر بن مزاحم في أول الجزء السادس من
كتاب صفين ص 354 طبع مصر. (3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: عند التدبير لأمور من
خالفه . (*)
ص 162
[خدعة عمرو بن العاص ومعاوية صبيحة ليلة الهرير برفع المصاحف على الرماح وصياح
الشاميين بأمرهما في أهل العراق وقولهم لهم: بيننا وبينكم كتاب الله: وانخداع أهل
العراق بهذا النداء، ثم خطبة أمير المؤمنين فيهم وتحذيره إياهم عن الركون إلى هذا
المكر، ثم ما جرى بينه وبين النوكى من القراء وممن كان في قلبه مرض من قواد
العراق].

ولما عضت الحرب القوم وقرب أصحاب علي من الفتح قال عمرو بن العاص لمعاوية:
ها هنا حيلة توجب الاختلاف بينهم والفرقة، وذاك أن عليا وأصحابه أصحاب ورع ودين
فإذا أصبحنا رفعنا المصاحف وقلنا: بيننا وبينكم كتاب الله. فلما أصبحوا رفعوا
المصاحف وقالوا: بيننا وبينكم كتاب الله، الله الله في البقية. واستقبلوا علي بن
أبي طالب بالمصاحف. فقال علي: والله ما الكتاب يريدون، وإن هذا منهم لمكيدة، فاتقوا
الله عباد الله وامضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فإن معاوية وعمرا وابن أبي معيط، وابن مسلمة وابن أبي سرح ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنا أعرف بهم منكم، قد
صحبناهم أطفالا ورجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال. إنهم والله ما رفعوها ليعملوا
بها وما رفعوها إلا خديعة ووهنا ومكيدة لكم (1). فنفرق عند ذلك أصحابه واختلف
قولهم، ورأى أكثرهم طلب الصلح والموادعة. فإن قال قائل: فقد نرى ما قلتم وما يؤثر
عن علي بن أبي طالب يوجب عليه الخطأ
(هامش)
(1) وقريبا منه رويناه في المختار: (220 - 221) من نهج السعادة: ج 2 ص 246. (*)
ص 163
وأنه معتمد لترك الصواب لأنه أشار بقتال القوم عند رفع المصاحف وأخبر أنها منهم
خديعة ثم رجع / 49 / عن هذا من رأيه إلى محاكمتهم وموادعتهم وهذا نفس ما نقمته
الخوارج وادعت خطأ علي فيه. قلنا لهم: لسنا نبعد قلة معرفتكم بما ذكرنا [ه] وبعد
وهمكم عنه إذ ذهبتم عما هو أوضح منه إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما أشار على
القوم بقتالهم وأن لا يكفوا من حربهم لأن القوم الذين رفعوا المصاحف قد علم أنهم لم
يرفعوها لشبهة دخلت [عليهم] وأن رفعها عند قرب الفتح والظفر بهم خديعة، وعلم أن
الذين رفعوها قد قامت عليهم الحجة وعرفوا حقه فتركوه بالمعاندة، ولو مضى أصحابه على
بصيرتهم ويقينهم [و] لم تدخل عليهم الشبهة، و[لم] تختلف الكلمة لكان سيمضي علي أمره
في محاربتهم لأنه قد أعذر إليهم وأقام حجته عليهم، وكان رأيه رضي الله عنه صوابا في
تحريك أصحابه في محاربتهم و[قد] أعلمهم أن الذي كان منهم خديعة ليمضوا على بصائرهم.
فلما دخلت أصحابه الشبهة، وجاء أمر احتاج إلى إزالته بحجة أمسك عن القوم حتى ينكشف
لأهل الضعف خطأؤهم فيزول عنهم شكهم إذا اعلموا أن القوم لم يطلبوا الحق برفع
المصاحف، فيرجع بعد إلى مناجزتهم وقتالهم. فقالوا له أرسل إلى الأشتر فرده. فأرسل
إلى الأشتر أن أقبل إلي. فأرسل إليه الأشتر: ليس هذه ساعة ينبغي أن تزيلني فيها عن
موضعي إني قد رجوت أن يفتح الله [علي] فلا تعجلن. فارتفعت الريح، وعلت الأصوات من
ناحية الأشتر، فقال القوم: والله ما نراك إلا قد أمرته يقاتل!! فقال علي رضي الله
عنه: من أين ينبغي لكم أن تروا ذلك؟ هل رأيتموني ساررت الرسول؟ ألم أكلمه على رؤسكم
علانية وأنتم تسمعون؟! (1).
(هامش)
(1) راجع شرح القصة عن لسان إبراهيم بن الأشتر رضوان الله عليهما الحاضر في المعركة
والمعاين لحدوث الكارثة في آخر الجزء السابع من كتاب صفين ص 490، وحوادث العام (37)
الهجري من تاريخ الطبري: ج 6 ص 27. (*)
ص 164
فجاء من أمرهم أمر عجيب وخرجوا عند الشك إلى تهمته والادعاء عليه! فأرسل علي إلى
الأشتر أن أقبل الساعة فقد وقعت الفتنة. فإن قال قائل: فهلا (1) ترك الأشتر يمضي
على بصيرته؟ قلنا: لو فعل ذلك ازدادوا شكا وحيرة ولدعاهم ذلك إلى قتله وقد تهددوه
بذلك. فرجع الأشتر [عن ساحة القتال وخاطب رسول أمير المؤمنين] فقال: الرفع هذه
المصاحف دعوتموني؟ قالوا: نعم. قال: أما والله لقد ظننت إذ رفعت أنها ستلقي اختلافا
وفرقة!! أما إنها من مشورة ابن النابغة. ثم قال [لرسول أمير المؤمنين]: ألا ترى
الفتح، أما ترى ما يلقون؟ أيسعني أن أنصرف عن هذا وأدعه، وقد صنع الله لنا ونصرنا
(2). فقال [له] بعض القوم: أتحب أنك ظفرت ها هنا وأمير المؤمنين بمكانه يتفرق عنه
ويسلم إلى عدوه أو يقتل؟ قال: سبحان الله لا والله. قال: فإنهم قد قالوا: لترسلن
إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلك كما قتلنا ابن عفان!! فأقبل عليهم الأشتر فقال: يا
أهل العراق يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا
المصاحف يدعوكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر [ه] الله [به] فيها، وتركوا
سنة من أنزل عليه الكتاب، مهلا [لا] تجيبوهم وأمهلوني فإني قد أحسست بالفتح. فأبوا
عليه! قال: فأمهلوني عدوة الفرس فإني قد طمعت في النصر. فقالوا: إذا ندخل معك في
خطيئتك. قال: فحدثوني عنكم - وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم - متى كنتم محقين؟ أحين
كنتم تقاتلون، وخياركم مقتولون؟ فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون؟ أم أنتم
الآن محقون وقتلاكم الذين كنتم لا تنكرون
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: فألا ترك الأشتر يضمي على بصيرته . (2) ما بين
المعقوفات زيادة منا، زدناها ليتوافق ما هاهنا لما في كتاب صفين وتاريخ الطبري. (*)
ص 165
فضلهم، وكانوا خيرا منكم في النار (1). فقالوا: دعنا منك يا أشتر قاتلناهم في الله،
وندع قتالهم لله، إنا لسنا نطيعك ولا صاحبك ما حيينا (2) قال: خدعتم والله
فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم (3) يا أصحاب / 50 / الجباه السود كنا نظن
صلاتكم هذه [زهادة] في الدنيا وشوقا إلى الله، فلا أرى فراركم من الموت [إلا] إلى
الدنيا!!! ألا فقبحا [لكم يا أشباه النيب الجلالة] (4) ما أنتم برائين بعدها عزا
أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون. فضربوا وجه دابته بسياطهم وضرب وجوه دوابهم
بسوطه!! وصاح بهم علي [أن] كفوا. فكفوا. وكان ما كان من علي في إجابة القوم لشك
أصحابه واختلافهم، وما دخلهم من الجهل وحلول الشبهة، ليس [من أجل] أنه لم يكن في
أمر معاوية وعمرو على بصيرة أو أنه ذهب عنه أن ذلك منهم مكيدة وخديعة. فلما رأى
الشك قد وقع وجبت المناظرة، ولم يجد بدا من الموادعة، ولو لم يفعل ذلك لازداد في
غيه الجاهل، وقويت دعوى المخالف، وكان في ذلك تهمة، وأنه فرار من حكم الله.
(هامش)
(1) وفي كتاب صفين ص 491: فحدثوني عنكم - وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم - متى
كنتم محقين؟ أحين كنتم تقتلون أهل الشام؟ فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون؟
أم [أنتم] الآن [في إمساككم عن القتال] محقون؟ فقتلاكم إذن - الذين لا تنكرون فضلهم
وكانوا خيرا منكم - في النار؟ . (2) وفي كتاب صفين: قالوا: دعنا منك يا أشتر
قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا . (3) وها هنا أي
في آخر صفحة 9. الأصل من المخطوط. هامش من غير علامة لتعيين محله في المتن، وهذا
نصه: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . (4) هذا هو الظاهر، وفي الأصل:
إلا قيحا . وما وضعناه بين المعقوفات مأخوذ من كتاب صفين وفيه: كنا نظن صلاتكم
زهادة في الدنيا وشوق إلى الله... . (*)
ص 166
وليس أحد يدعي أن ما فعل القوم ذهب عنه وأن القوم استغفلوه بالمكيدة، ولقد قام رضي
الله عنه فقال: والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يفجر ويغدر، ولو لا كراهة الغدر
(1) كنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به
يوم القيامة.
(هامش)
(1) كذا في الأصل، وفي المختار: (197) من نهج لبلاغة والمختار (245) من نهج
السعادة: ج 2 ص 317 ط 1: ولو لا كراهية الغدر.. . (*)
ص 167
[كلمات بعض رؤساء أهل العراق وقواد جند أمير المؤمنين عليه السلام لما رفع الفئة
الباغية القرآن على الرماح، وادعوا مكرا وحيلة انقيادهم لحكم القرآن، فخدع
العراقيون فاختلفوا].

ثم قام حصين بن المنذر فقال: أيها الناس إنما بني هذا الدين
على التسليم، فلا ترفعوه بالقياس، ولا تهدموه بالشبهة (1) فإنا والله لو أنا لا
نقبل من الأمور إلا ما نعرف لأصبح الحق في أيدينا قليلا، ولو ركبنا الهوى لأصبح
الباطل في أيدينا كثيرا (2) وإن لنا لراعيا قد أحمدنا ورده وصدره، وهو المصدق على
ما قال، والمأمون على ما قعل، فإن قال: لا. قلنا: لا. وإن قال: نعم. قلنا: نعم (3).
وتكلم ابن عباس فقال: يا قوم إنه من مكر معاوية فلا تختلفوا (4). ثم قام سفيان بن
ثور (5) فقال: أيها الناس إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله فردوه [علينا]
فقاتلناهم، وإنهم دعونا إلى كتاب الله فإن رددناه عليهم حل لهم منا ما حل
(هامش)
(1) كذا في الأصل - غير أنه كان فيه: ولا ترفعوه -، وفي كتاب صفين ص 485: فلا
توفروه بالقياس، ولا تهدموه بالشفقة.. . (2) كذا في الأصل، وفي أواخر الجزء: (7)
من كتاب صفين ص 485: ولو تركنا [و] ما نهوى لكان الباطل في أيدينا كثيرا.. . (3)
قال في كتاب صفين ص 488: فلما ظهر قول حضين رمته بكر بن وائل بالعداوة!! (4) لم أجد
كلام ابن عباس هذا في كتاب صفين، ولكن الذي لا يعتريه شك أن رأيه كان تبعا لأمير
المؤمنين. (5) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين ص 485: ثم قام شقيق بن ثور البكري فقال:
أيها الناس. (*)
ص 168
لنا منهم [و] لسنا نخاف أن يحيف الله علينا ورسوله وقد أكلتنا الحرب ولا نرى البقاء
إلا في الموادعة. وتكلم عامة الناس مثل كلامه (1). فلما رأى علي بن أبي طالب رضي
الله عنه أن الاختلاف قد شمل عسكره وشك في حربهم عامة أصحابه أجاب القوم إلى ما
سألو [ه]. فإن قال قائل: أرأيت لو أن أصحابه لم يختلفوا عليه كان يحبذ قتالهم (2)
وقد دعوه إلى حكم الكتاب، وأمسكوا عن حربه؟ وإنما حل قتالهم في البدء لأنهم أبوا
حكم الكتاب. قلنا له: إنما دعاهم أولا ليدينوا بحكم الكتاب وليرجعوا إلى ما أمر
[هم] الله [به] والدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار وعلى الشاك منهم أن يجئ
مجئ مستفهم متعلم لا مجئ مستطيل محارب. على أنه [عليه السلام] لم يستحل قتالهم أولا
حتى أقام عليهم الحجة ودلهم على بغيهم وباطلهم، فلا يرفع عنهم السيف بعد إقامة
الحجة إلا بالإنابة والتوبة. وليس قولهم في هذا الحال: قد رضينا بحكم الكتاب
إلا خديعة ظاهرة ومكيدة مكشوفة، فلا معنى لقولهم هذا مع الإقامة على التعبئة وتهيئة
الحرب، فإن كانوا طلبوا الحجة وكشف البينة، فقد قامت في البدء ووضحت. فإن قالوا: قد
رضينا بحكم الكتاب على الندم والرجوع والإنابة فعلامة دعواهم
(هامش)
(1) قال نصر في كتاب صفين ص 484: وذكروا أن الناس ماجوا وقالوا: أكلتنا الحرب وقتلت
الرجال. وقال قوم: نقاتل القوم على ما قاتلناهم عليه أمس. ولم يقل هذا إلا قليل من
الناس، ثم رجعوا عن قولهم مع الجماعة، وثارت الجماعة بالموادعة. (2) لعل هذا هو
الصواب، أو الصواب: كان يحل قتالهم أو كان يجيز قتالهم ؟ وفي الأصل: كان
حبر قتالهم . (*)
ص 169
على سبيل الطلب وسببه فلم يعرف لقولهم علة إلا الخديعة، ولو وجب رفع السيف عنهم متى
دعوا إلى كتاب الله لم يقم بهذا دين، ولم يغلب فاسق لأنه متى دعا إلى الكتاب عند
شدة الحرب ومخافة الظفر به وجبت إجابته، فإذا حوكم فأبى بعد الحكومة، ثم دعا إلى
المحاربة فالت به الحرب أيضا إلى مثل حاله الأولى، فدعا إلى حكم الكتاب ثانية وجب
أيضا إجابته والكف عنه وإن كانت إجابته غير جائزة بعد الحكومة لقيام الحجة والبيان
وكان / 51 / قوله: قد رضيت بحكم الكتاب قولا مردودا دون الإنابة والرجوع فكذلك
حكمه في حالة الأولى، أن إجابته لا يجوز لأن الحجة قد قامت والبيان قد وجب، وهم لم
يستحلوا في البدء قتال معاوية حتى أقام عليه الحجة وعرفوا معاندته وتعمده للخطأ وهم
القائلون في البدء: إنما جعل [معاوية] الطلب بدم عثمان علة وسببا للفتنة والتمويه
على الضعفة. فإن قالوا: فنرى إجابة علي له خطأ عندكم. قلنا: ذلك رأيتموه بعين الظن
والشك دون اليقين والعلم لأن علي بن أبي طالب لم يجب القوم لطلبهم (1) ولا لأنهم
دعوا إلى حكم الكتاب، وإنما أجابهم لعلة انتشار أصحابه عليه واختلاف كلمتهم. فإن
قالوا: أو ليس الذي كان من أصحابه خطأ عنده مع من دفع الحرب وطلب الموادعة؟. قلنا:
نعم. فإن قالوا: فكأنكم قلتم: أجابهم إلى خطأ من أجل خطأ آخر حدث في عسكره. قلنا
لهم: إن أصحابه وإن كانوا قد أخطأوا، و[لكن] لم يكن خطأهم بالتعمد منهم، وإنما كان
خطأهم لشبهة دخلت، وشك وجب، وقد كانوا أصحاب دين وورع فلم يكونوا عندهم في شكهم أقل
من أهل الشام في بغيهم، ولم يكونوا في خطائهم على
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: لغلبهم . (*)
ص 170
غير التعمد أكثر من خطأ معاوية على التعمد، وكان ترك القتال واستنقاذ أصحابه من هذه
الفتنة أمثل، ومناظرتهم لإحيائهم وكشف الحق لهم أصوب عنده، فوادع القوم واشتغل
بمناظرة أصحابه، وإلا فقد علم أن هذه من القوم خديعة، وإنما قاتلهم (1) ليدينوا
بحكم الكتاب، لا ليدعوا إليه، والدينونة بحكم الله هو أن يفيئوا إلى أمر الله وقال
لهم رضي الله عنه: وإنما قاتلناهم لأنهم عصوا الله فيما أمر [ه] ونسوا عهده ونبذوه
وراء ظهورهم، فامضوا على حقكم وصدقكم، فإنهم غير الحق يريدون (2). فلما أبوا عليه
وتمكن منهم الشك، واعتقدوه دينا يدعون إليه، وإن عليا [لو] قاتلهم في هذه الحال كان
حكمه حكمهم في الظلم والبغي [لما] رأى أن الاشتغال بمناظرة أصحابه أوجب. ألا ترون
أنه لما ناظر أيضا الخوارج فأقام عليهم الحجة فلم يقبلوا [ما] استخار الله في
قتالهم ومحاربتهم، ولم يلتفت إلى قولهم: لا حكم إلا الله . وقال: كلمة حق يراد
بها باطل. وشك الخوارج أكثر في الشبهة، ومعاوية وعمرو عنده على يقين ومعرفة لما هم
عليه من الباطل والبغي، لأن معاوية إنما اعتل بطلب دم عثمان وطلبه ليس هو إلى
معاوية، وإنما يطلب بدمه أولياؤه وهم ولده، وليس لهم أن يطلبوا حقهم بوضع الحرب
ونصبها، لأن طلب الحقوق على غير هذا السبيل يكون، وإنما يكون بالتقدم إلى الإمام
بالإجلال والتعظيم. فإن قالوا: إن حقهم الذي ادعوه إنما ادعوه على الإمام. قلنا:
إذا كانت دعواهم على غير الإمام لا تقبل فهي على الإمام الذي قد وجبت عدالته
وطهارته ونزاهته أولى أن ترد [وا] عليهم أن يأتوا الإمام حتى ينصفهم من نفسه بمحضر
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: وإلا فقد علمتم أن هذه من القوم خديعة، وإنما
قاتلناهم.. . (2) كذا في الأصل، وقريبا منه رويناه في المختار: (222) من نهج
السعادة: ج 2 ص 249 ط 1. وانظر أيضا المختار (171) من نهج البلاغة. (*)
ص 171
جماعة من المسلمين. على أنهم جميعا [كانوا] يعلمون أن معاوية كان بالشام وعلي
بالمدينة أيام قتل عثمان بن عفان، وعلى أنهم جميعا [كانوا] يعلمون أن عليا لم يدخل
دار عثمان بن عفان، وعلى أنهم جميعا يعلمون أن معاوية ادعى [على] علي رضي الله عنه
التهمة، ثم ادعى القتل، ثم ادعى أن إمامته لا تجب. ينتقل عن دعوى إلى دعوى ينقضها
على ما يشاهد من احتمال القوم له، وقبولهم لدعوته. وعلي ينكر قتل عثمان ولا ينسبه
إلى نفسه، فلما أنكر [كونه قاتل عثمان] قالوا له: آويت قتلته؟ فادفعهم إلينا! فقال:
قد ضربت الأمر، وفكرت في ذلك فلم يسعني دفعهم إليكم (1). وذلك من قوله رضي الله عنه
حق لا يدفعه أحد، علم الحق وعقل أحكام الرب لأن أولياء المقتول / 52 / لم يأتوه
يطلبون ذلك كما يطلب الحقوق، وعليهم أن يقيموا البينة على رجل بعينه أنه هو المتولي
لقتله، أو على جماعة، والبينة لا تكون من أهل الدعوى والخصومة لأن كل من أظهر
دعواه، وكشف خصومته خرج من حكم الشهود ودخل في معنى الخصوم. فإن قالوا: إن البينة
إنما تقام إذا أنكر القاتل، فأما وقتلته مقرون [فلا] هذا عمار ابن ياسر يقر بذلك
ويقول: قتلناه كافرا. قلنا: متى صح قولكم [هذا] على عمار وجب أن عثمان لم يقتل
مظلوما لأن شهادة النبي لعمار: إنه من أهل الجنة أثبت وأشهر وأظهر من ادعائكم
على عمار
(هامش)
(1) كذا في الأصل، والظاهر أنه ذكر كلام الإمام بالمعنى، وفي المختار: (9) من باب
الكتب من نهج البلاغة: وأما ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك فإني نظرت في هذا
الأمر فلم أره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك.. (*)
ص 172
هذا الاقرار، فمتى أوجبتم ذلك من إقرار عمار بطلت دعواكم وعلتكم. وقد قلنا في تصويب
علي رضي الله عنه وعدله - في قوله وفعله وخطأ المدعين عليه، والشاكين في صوابه،
والطاعنين عليه في أحكامه - ما فيه أشفى الشفاء وأعدل المقال. فإن قال قائل: قد
فهمنا ما قلتم في رفعه السيف وإجابة القوم إلى الحكومة، فما معنى تحكيمه الرجال في
دين الله؟ والحكومة في الدين ساقطة! لأنه متى حكم الحاكم بغير الحق لم يقبل منه،
ومتى حكم بالحق وخالفه صاحبه عادت البينة خدعة وكانت القصة واحدة. قلنا: هو رضي
الله عنه كان أعرف بدين الله من أن يحكم الرجال، لأن الرجال قد يمكن منهم الانتقال
والتقية والتغيير، فلم يحكم الرجال وإنما حكم الكتاب، إذ كان الكتاب لا يتبدل حكمه
ولا يشهد بغير الحق لأن حكمه واحد. فإن قالوا: فلم حكم أبا موسى وقد عرف رأيه وقد
سقطت عنده عدالته بقعوده عنه، وزالت ولايته بتثبيطه الناس عنه (1). قلنا: لم يبعث
هو بأبي موسى، ولم يرض بحكومته، وإنما أدخله في ذلك الأشعث ابن قيس مع أهل اليمن،
فقال لهم علي: أبعث مع عمرو بعبد الله بن عباس، فقال الأشعث: أميرنا مضري وأميرهم
مضري، وحكمنا مضري وحكمهم مضري ما نرى لنا في الأمر نصيبا! فأبوا وقالوا: ابعث منا
يمانيا وإلا لم يدم معك يماني بسهم أبدا. فقال لهم: قد رموكم بحجر الأرض فدعوني
أصكهم بغلام من قريش. فأبوا
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: تثبيط الناس عنه وهو من قولهم: ثبط زيد فلانا
عن الأمر - على زنة نصر - وثبطه عنه تثبيطا : عوقه وشغله عنه. (*)
ص 173
عليه، ولم يكن في الرأي إذ رآهم قد أعملوا العصبية واللجاج (1) إلا مداراتهم فيما
يحل ولا يدخل على الدين ضررا. فإن قالوا: [أليس] يكون من الدخول فيما عاب، ومن
الضرر أكثر من الرضى (2) بأبي موسى المخدوع المغفل؟ قلنا: لم نوجب رضاه بأبي موسى،
وإن ما قلناه كان من أمر القوم على مداراة [منه لهم و] لا يلزمه تقصير في دين (3)
ولكن لما قالوا: لا نرضى إلا بيماني قال: فإني أبعث بالأشتر فهو يماني، ولم يسمع
أحد منه الرضى بأبي موسى. فقال الأشعث: حكومة الأشتر طرحتنا فيما نرى، ابعث أبا
موسى وإلا لم يرم معك يماني بسهم. فقال علي رضي الله عنه: كيف أبعث رجلا ليس على
رأينا ولا أمرنا وقد خذل الناس عنا. ثم أقبل رجل من بني يشكر على فرس فقال: يا علي
أكفر بعد إسلام، ونقض عهد بعد توكيده وردا بعد معرفة؟! أنا ممن أقر بالحكومة ترى؟.
ثم حمل على أصحاب معاوية فقتل مهم إنسانا ثم انصرف إلى عسكر علي. فتكلم عند الخلاف
من كان يرى التقليد، واجترأ الصغير والكبير على القال والقيل بعد إن كانوا أتباعا،
كل يتكلم على قدر هواه ورأيه. ثم قام عدي بن حاتم الطائي فقال: يا أمير المؤمنين
إنه وإن كان أهل الباطل لا يقومون لأهل الحق (4) فإنه لم يصب منا عميد إلا وقد أصيب
منهم مثله وكل مقروح، ولكنا أمثل بقية، وقد جزع القوم وليس بعد الجزع إلا ما نحب،
فناجز القوم. ثم قام الأشتر [فقال:] يا أمير المؤمنين إن معاوية لا خلف له من رجاله
ولك
(هامش)
(1) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي الأصل: قد أعملوا القضية والإلحاح.. . وانظر
تفصيل القصة في الجزء الثامن من كتاب صفين ص 499 - 513. (2) كذا. (3) كذا في الأصل،
ولعل الصواب: وأن ما تلباه من أمر القوم كان على مداراة.. . (4) كذا في أواخر
الجزء: (7) من كتاب صفين ص 482، وفي الأصل: لا يقرون لأهل الحق.. (*)
ص 174
بحمد الله الخلف (1) ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا بصرك، إقرع
الحديد بالحديد واستعن بالله. فقام الأشعث مغضبا فقال: إنا / 53 / لك اليوم على ما
كنا عليه أمس، ولسنا ندري كيف يكون غدا، فقد والله كل الحد وكلت البصائر، وما آخر
أمرنا كأوله، وما القوم الذين كلموك بأحما للعراق، ولا أوثر للشام مني، فأجب القوم
إلى كتاب الله فأنت أحق به منهم وقد أحب الناس البقاء فانظر فيه للعامة (2). وقام
فيما ذكروا عبد الله بن عمرو بن العاص بين الصفين وقال: يا أهل العراق إنه قد كانت
بيننا وبينكم أمور (3) للدين [أ] والدنيا؟ فإن تكن للدين فقد والله أعذرنا وأعذرتم،
وإن تكن للدنيا فقد أسرفنا وأسرفتم، وقد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا إليه أجبناكم،
فإن يجمعنا [وإياكم] الرضا به فذاك من الله، وإلا فاغتنموا هذه الفرصة التي لعله
(4) أن يعيش بها الأحياء وينسى فيها القتلى [فإن بقاء المهلك بعد الهالك قليل]. وقد
تعلمون أن هذا الكلام إذا صادف قلوبا قد ضعفت، ونيات قد فترت، وشبهة قد وقعت وقع من
القلوب موقعا عجيبا وزاد في القلوب أضعاف ما بها من المرض والنكول، وهذه من حيل
معاوية وعمرو بن العاص أرادوا بها اللبس والتمويه. فقام سعيد بن قيس في أثر هذا
الكلام فقال: يا أهل الشام إنه قد كانت بيننا وبينكم أمور حامينا فيها على الدين
والدنيا سميتموها غدرا [أ] وسرفا وقد دعوتمونا
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في كتاب صفين ص 482، وفي أصلي: ثم قال الأشتر: يا
أمير المؤمنين إن معاوية لا خلف له من رجاله ولك عند الله الخلف.. . (2) وقريبا
منه ذكره عنه نصر بن مزاحم في كتاب صفين ص 482. (3) هذا هو الصواب الموافق لكتاب
صفين، وفي أصلي: بأمور الدين . (4) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين: فاغتنموا هذه
الفرجة لعله أن يعيش فيها المحترف، وينسى فيها القتيل وما وضعناها بين المعقوفات
أيضا مأخوذ منه. (*)
ص 175
[اليوم] إلى ما قاتلناكم عليه [بالأمس] ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم ولا
أهل الشام إلى شامهم بأمر أجمل من أن يحكم بما أنزل الله (1) والأمر في أيدينا
دونكم وإلا فنحن نحن وأنتم أنتم. فتكافأ فيه (2) كلام عبد الله بن عمرو وسعيد ممن
قد عرفتم نجدته وبلاءه ويقينه فما ظنكم بغيره. فتكلم علي رضي الله عنه فقال: أيها
الناس إنه لم يزل بي في أمري ما أحب حتى نهكتكم الحرب (3) وقد والله أخذت منكم
وتركت وهي لعدوكم أنهك، ولقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا، وكنت أمس ناهيا
فأصبحت اليوم منهيا، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون. فتفهموا
أمور المؤيد بالحق، وتدبروا قول المنصور بالتأييد من الرب كيف يتخلص إلى الصواب عند
اعتراض هذه الآراء وكيف يسلم من اتباع هذه الأهواء، وكيف اتبع الحق عند إحاطة هذه
الفتن، لتعلموا أنه لا نظير له بعد النبيين، ولا يداني فضله أحد من المؤمنين. ثم
قام رفاعة بن شداد البجلي فقال: أيها الناس إنه لا يفوتنا شيء من حقنا [إن أجبناهم
إلى ما] قد دعونا في آخر أمرهم إلى ما دعوناهم إليه في أوله، وقد قبلوه من حيث لم
يعقلوه، فإن يتم الأمر على ما نريد فبعد بلاء وقتل وإلا أثرناها جذعة (4) وقد رجع
إلينا جدنا.
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في كتاب صفين ص 483، وفي أصلي هكذا: بأمر أجمل مه،
وأن يحكم فيه بما أنزل الله... . وما بين المعقوفات أيضا مأخوذ من كتاب صفين. (2)
لعل هذا الصواب، وذكرها في أصلي بنحو الاهمال: فتكافيه . (3) كذا في الأصل، وفي
المختار: (208) من نهج البلاغة: أيها الناس إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب حتى
نهكتكم الحرب... وفي المختار: (223) من نهج السعادة: إنه لم يزل أمري معكم على ما
أحب إلى أن أخذت منكم الحرب... . (4) ومثله في أواخر الجزء السابع من كتاب صفين
ص 489. (*)