الصفحة السابقة الصفحة التالية

المعيار والموازنة

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

 

ص 176

ومشت العشائر إلى العشائر، والقبائل إلى القبائل، فأبى الناس إلا أبا موسى الأشعري والرضى به. وأقبل أبو موسى مع القراء وأصحاب البرانس وقد حفوا به (1). فقام الأشتر فقال: يا معشر القراء وأصحاب البرانس، اجعلوا أمركم إلى صاحبكم فليبعث من أحب فوالله ما أصبحنا على ضلال، ولم يصب قلوبنا إلى اتباع معاوية، وإن قتيلنا لشهيد وإن حينا لثائر. فقام أبو أيوب الأنصاري [فقال] (2) نحن على ما خرجنا عليه، عدونا أهل الشام ورأس حربنا معاوية، ونحن نرد الأمر إلى أمير المؤمنين إن قادنا أتبعناه، وإن دعانا أجبناه. وكان هذا قول من ثبتت بصيرته / 54 / ولم تضعف يقينه وهم قليل لا يبلغون ما ينفذ به رأي أمير المؤمنين.

(هامش)

(1) وفي أوائل الجزء (8) من كتاب صفين ص 500... ق‍ [قال 6 نصر بن مزاحم]: وفي حديث عمر: قال: قال علي: قد أبيتم إلا أبا موسى؟ قالوا: نعم. قال: فاصنعوا ما أردتم. فبعثوا إلى أبي موسى وقد اعتزل بأرض من أرض الشام يقال لها عرض واعتزل القتال، فأتاه مولى له فقال: إن الناس قد اصطلحوا. قال: الحمد لله رب العالمين. قال: وقد جعلوك حكما. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فجاء أبو موسى حتى دخل عسكر علي. (2) هذا هو الظاهر، وما بين المعقوفين زيادة منا، وفي الأصل: فقال أبو أيوب الأنصاري.. . وقريبا منه رواه الطبراني عن سهل بن حنيف في ترجمة محمد بن حاتم من المعجم الصغير: ج 2 ص 5 ط 2 قال: حدثنا محمد بن حاتم المروزي بطرسوس، حدثنا سويد بن نصر وحيان بن موسى المروزيان، قالا: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عيسى بن عمر، عن عمرو بن مرة: عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: قال سهل بن حنيف يوم صفين: يا أيها الناس اتهموا رأيكم فإنا والله ما أخذنا بقوائم سيوفنا إلى أمر يفضعنا إلا أسهل بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا فإنه لا يزداد إلا شدة ولبسا. لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أجد أعوانا على رسول الله صلى الله عليه وآله لأنكرت. [قال الطبراني]: لم يروه عن عمرو إلا عيسى بن عمرو تفرد بن ابن المبارك. (*)

ص 177

فقال علي رضي الله عنه: إني لست أحكم الرجال ولكن أحكم الكتاب فإن حكموا بالكتاب قبلت منهم، فإن الكتاب يحكم أني أولى من معاوية، وإن لم يحكموا بالكتاب لم أقبل. فإن قال قائل: فما بال الأشتر لم يرض بما فعل، وحلف أن لا يكتب اسمه في الصحيفة، ولا يوادع، فقد خالف رأيه رأي علي بن أبي طالب، فقد خرج من حزبه وقطع العصمة منه. قلنا: هذا هو رأي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، وهذا من رأي الأشتر ليس بخطأ، وذلك إن الأشتر ليس بإمام فيجب عليه تآلف القوم واستعطافهم والانتقال عن هذا الرأي إلى غيره على جهة التآلف والاستعطاف كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولو كان رأي الباقين مثل رأي الأشتر لكان رأي علي له موافقا، ولكن لما كان الأشتر ليس هو في موضع المداراة جاز له المقام على رأيه. ولما رأى علي رضي الله عنه خلاف الناس على الأشتر وميلهم إلى الموادعة لم يحب (1) أن يقيم على مثل ما رآه الأشتر فيحمل الناس على كشفه والنصب له، ويجعلهم أعداءا وله في الحق سعة يكون به إلى التي هي أصلح فهو رضي الله عنه يؤثر الرأي والرغبة في الألفة بالتآلف لأصحابه ما وجد في الحق سعة، فإذا ضاق عليه الحق وبلغت به الحال إلى أمر متى تركه دخل في الباطل، وما لا يحل له آثر الله على الخلق جميعا ولم يأخذه في الله لومة لائم، وانقطع إلى الله وإن ذهب الناس عنه، وكذلك فعل حين استنفرهم أخيرا بعد انقضاء الموادعة، وحينما فل الناس عنه (2) وتخاذلوا عن نصرته [كما يرى ذلك ملموسا من سيرته، وكثير من كلماته عليه السلام، منها جوابه عليه السلام لكتاب أخيه عقيل].

(هامش)

(1) كذا في الأصل. (2) هذا هو الظاهر، أي تفرق الناس عنه وندروا منه كندور برادة الحديد وشرارة النار منهما. وذكره في الأصل بالقاف. قال أبو جعفر المحمودي: وما ذكره أبو جعفر الإسكافي ها هنا في صدر كلامه لا يخلو من قصور، = (*)

ص 178

(هامش)

= فإن ما أتى به أمير المؤمنين عليه السلام كان أحزم ما يكون، ولكن النوكى من القراء والذين كان في قلوبهم مرض أو لم تكن لهم نيات صادقة في الجهاد في سبيل الله حالوا بينه وبين قطع جزور الفساد وأصول الانحراف معاوية وحزبه الفئة الباغية، وهددوه بالقتل أو تسليمه إلى معاوية، أو التقاعد والكشف عنه حتى يقتل هو وجميع من صبر معه وانقاد له من أهل الحق - وهم قليلون في الغاية - بيد الفئة الباغية الذين حاربوا رسول الله وسعوا في إطفاء نوره، فلو كان أمير المؤمنين عليه السلام يقيم ويصر على ما قال لهم وأبدى لهم من الحق أولا مع مخالفة أكثر العراقيين له، لكان انهزاما أبديا وانكسارا لا يتدارك، ولذا تنازل عليه السلام عن رأيه الصواب، ودفع الانهزام المؤبد بما يوجب الظفر في المستقبل القريب إن عملوا بما دبر. (*)

ص 179

[كتاب عقيل إلى أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لما خذله الكوفيون في أواخر أيامه الميمونة].

 وكتب إليه عقيل به أبي طالب رضي الله عنه (1) يعرض نفسه عليه فكتب إليه: أما بعد، فإن الله جارك من كل سوء، وعاصمك من المكروه، وإني خرجت معتمرا فلقيت عبد الله بن أبي سرح في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء، فقلت لهم - وعرفت المنكر في وجوههم -: يا أبناء الطلقاء أبمعاوية تلحقون؟ عداوة - والله - لنا منكم غير مستنكرة قديما تريدون بها إطفاء نور الله وتغيير أمره؟! فأسمعني القوم وأسمعتهم. ثم قدمت مكة وأهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة واحتمل من أموالها شيئا، ثم انكفأ راجعا، فأف لحياة في دهر جرأ عليك الضحاك، وما الضحاك إلا فقع قرقرة. وقد ظننت أن أنصارك خذلوك، فاكتب إلي يا ابن أمي برأيك، فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أبيك وولد أخيك، فعشنا ما عشت ومتنا معك، فوالله ما أحب أن أبقى بعدك فواقا، وأقسم بالله الأعز الأجل أن عيشا أعيشه بعدك في الدنيا غير هنئ ولا نجيع.

(هامش)

(1) ولهذا الكتاب وجواب أمير المؤمنين عليه السلام مصادر كثيرة أشرنا إليها في ذيل المختار: (159) من باب الكتب من نهج السعادة: ج 5 ص 306. ورواه أيضا السيد الرضي في المختار (36) من كتب نهج البلاغة. (*)

ص 180

فأجابه علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1): أما بعد كلانا الله وإياك كلاءة من يخشاه بالغيب، إنه حميد مجيد. قدم علي عبد الرحمن بن عبيد الأزدي بكتابك تذكر أنك لقيت ابن أبي سرح مقبلا من قديد في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء متوجهين حيث توجهوا. (2) وإن ابن أبي سرح طال ما قد كاد الله ورسوله وكتابه فصد عن سبيله وبغاها عوجا. فدع ابن أبي سرح عنك ودع قريشا وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، فإن قريشا قد أجمعت على حرب أخيك إجماعها على حرب رسول الله قبل اليوم، فأضحوا قد جهلوا حقه (3) وجحدوا فضله وبادروه العداوة ونصبوا له الحرب، وجهدوا عليه الجهد، وساقوا [إليه] الأمرين. اللهم فأجز قريشا عني الجوازي / 55 / فقد قطعت رحمي، وتظاهروا علي!! فأحمد الله على كل حال. وأما ما سألت أن أكتب إليك برأيي فإن رأيي قتال المحلين حتى ألقى الله. لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، لأني محق والله مع الحق وأهله وما أكره الموت مع الحق لأني محق، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان محقا. وأما ما عرضت علي من مسير بني أبيك وولدا أخيك فلا حاجة لي في ذلك، فأقم راشدا مهديا فوالله ما أحب أن يهلكوا معي إن هلكت، ولا تحسبن ابن أبيك [و] لو أسلمه الناس - متضرعا متخشعا، ولكني كما قال أخو بني سليم:

(هامش)

(1) وكتب في الأصل بخط مغاير لخطه فوق قوله: رضي الله عنه صلوات الله عليه. (2) كذا في الأصل، وفي المختار (159) من باب الكتب من نهج السعادة: متوجهين إلى جهة الغرب (3) وأيضا يحتمل رسم الخط أن يقرأ: فأصبحوا.. . (*)

ص 181

فإن تسأليني كيف أنت فإنني * صبور على ريب الزمان صليب يعز علي أن ترى بي كآبة * فيشمت عاد أو يساء حبيب فهذا يؤكد ما قلنا [ه] ويحققه من أنه وادع القوم لا من ضعف فيه (1) ولا دخول في خطأ، ولكنه - شرف الله مقامه - أعمل التآلف والمداراة إذ وجد في الحق سعة، وأجابهم إلى الموادعة ليحكموا بكتاب الله، فإن خالف لم يرض بحكمه. وله علة أخرى في الموادعة، وهو أنه نظر إلى من حصل معه من أهل البصيرة والمعرفة فإذا هم قليل تعدو عنهم العين لا يقوون بمن خالفهم فوادعهم لتكثر أنصاره وليقووا على من خالفهم، وذلك معروف فيما يؤثر عن سليمان بن صرد: قالوا: ثم أقبل [إلى] علي بن [أبي طالب] سليمان بن صرد يوم صفين عند كلام الناس في الموادعة مضروبا وجهه بالسيوف فنظر إليه علي فقال له: فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا (2) فأنت ممن ينتظر، وممن لم يبدل، فقال له سليمان بن صرد: والله لقد مشيت في العسكر لأن ألتمس أعوانا ولأن يعودوا إلى أمرهم الأول فما وجدت إلا قليلا، وما في الناس خير. فهذه أيضا من العلل التي كان علي بالموادعة فيها مصيبا. وله علة [أخرى] أيضا تؤثر عنه [و] لولاها لمضى على بصيرته وجده وإن أسلمه الناس جميعا:

(هامش)

(1) هذا هو الصواب، وفي الأصل: من أنه أودع القوم لا من ضعف فيه . وأيضا يحتمل رسم الخط أن يقرأ: من ضعف نية... . (2) اقتباس من الآية (23) من سورة الأحزاب: (33)، وكان في أصلي: منهم من قضى... ه وهذا ذكره مسندا في كتاب صفين ص 519 وفيه: فقال: يا أمير المؤمنين أما لو وجدت أعوانا ما كتبت هذه الصحيفة أبدا، أما والله لقد مشيت في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأول فما وجدت أحدا عنده خير إلا قليلا . وكان قبل هذه الفقرة في أصلي تصحيف صححته على كتاب صفين. (*)

ص 182

[رجوع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من صفين إلى الكوفة، وكلامه مع عبد الله بن وديعة الأنصاري، واستفساره منه عن قول الناس فيما جرى بينه وبين معاوية]

ذكروا أنه لما رجع من صفين وقرب من الكوفة (1) لقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري فدنا منه وسايره، ثم قال له علي: ما سمعت الناس يقولون في أمرنا هذا؟ قال: منهم المعجب به، ومنهم الكاره له، والناس كما قال الله: ولا يزالون مختلفين [118 / هود: 11]. فقال علي: فما قول ذوي الرأي [منهم؟]. قال: أما قول ذوي الرأي فيقولون: إن عليا كان له جمع عظيم ففرقه، وكان في حصن حصين فهدمه [و] حتى متى يبني ما قد هدم؟ ويجمع ما قد فرق؟ فلو أنه مضى بمن تبعه وأطاعه - حين عصاه من عصاه - فقاتل حتى يظفر أو يهلك كان ذلك [هو] الحزم. فقال له علي: أنا هدمت أمرهم أم هم هدموا؟! أم أنا فرقتهم أم هم تفرقوا؟! وأما قولهم: لو أنه كان مضى بمن أطاعه - إذ عصاه من عصاه - فقاتل حتى يظفر أو يهلك إذا كان ذلك الحزم. فوالله ما غني عني ذلك وإن كنت لسخيا بنفسي عن الدنيا طيبة نفسي بالموت (2) ولقد هممت بالإقدام على القوم فنظرت إلى هذين قد ابتدراني، يعني الحسن والحسين، ونظرت إلى هذين قد استقدماني - يعني عبد الله

(هامش)

(1) وذكرناه في المختار: (238) من نهج السعادة: ج 2 ص 294 نقلا عن كتاب صفين في أواسط الجزء (7) منه ص 529. (2) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين: طيب النفس بالموت.. . (*)

ص 183

ابن جعفر ومحمد بن علي (1) - فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسب محمد صلى الله عليه من هذه الأمة فكرهت / 56 / وأشفقت على هذين أن يهلكا - يعني عبد الله ابن جعفر ومحمد بن علي - ولولا مكاني لم يستقدما، وأيم الله لئن لقيتهم بعد يومي هذا لألقينهم وليسوا [هما معي] في عسكر ولا دار (2) فاجتمعت له هذه العلل في الموادعة وفي كلها له المخرج، وما ذهب عليه من أقاويل الناس شيء [إلا] ولقد أخطره على قلبه وأعمل فيه النظر، وقدم العذر واختار التي هي أولى وأحسن. فليجتهد مجتهد [هل] يقدر أن يأتي بشيء ينفذ فيه الحجة منه، ولم ير له بعلة لا تدفع. وقد قيل له فيما سألتم عنه من رأي مالك الأشتر لما كتب الصحيفة: إن الأشتر لا يرضى بما في الصحيفة، ولا يرى إلا قتال القوم. فقال: ولا أنا والله رضيت ولا أحببت أن ترضوا. وأما ما ذكرتم من خلافه علي، وتركه أمري، فليس من أولئك، ولست أخافه

(هامش)

(2) كذا في الأصل هاهنا وما بعده، وهذا من تصرفات الرواة، والصواب أن المراد منهما الحسن والحسين صلوات الله عليهما دون محمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر، فلو كان لأمير المؤمنين ملء الأرض مثل محمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر لافتدى بهما في سبيل الله واكتفى في تفديتهما في طريق استئصال الكفر والنفاق عن الاستعانة بالناس في ذلك السبيل. نعم، للحسن والحسين بما أنهما ودائع النبوة وأوصياء رسول الله، وحجتي الله على خلقه، شأن آخر، كي لا تنقطع حجج الله عن البرية، ويتم الحجة على الناس، ولا يكون لهم على الله حجة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وليجد الناس في كل عصر هداتهم وقادتهم كي يلجأوا إلى ظلهم، ويلتفوا تحت لوائهم فرارا عن براثن الضلال وكيد الطغاة (3) هذا هو الصواب الموافق لكتاب صفين، وما بين المعقوفات أيضا مأخوذ منه، وفي أصلي: وليسوا في عسكر ولا دار . (*)

ص 184

على ذلك، وليت فيكم مثله اثنان، يا ليت فيكم مثله واحد يرى في عدوكم مثل رأيه إذا لخفت (1) علي مؤونتكم، ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم. وقد نهيتكم عما أتيتم فعصيتموني فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن: وهل أنا إلا من غزية إن غوت * غويت وإن ترشد غزية أرشد ألا ترى أن رأي الأشتر كان قتالهم، فلما لم يقاتل معه أحد كف عنه. فكذلك قد كان رأي علي قتالهم فلما اختلف أصحابه كف [عنهم اضطرارا ولكن حصن لهم حصون الدفاع ومهد لهم سبل الظفر والنجاح إذا أفاقوا من سكرتهم وانتبهوا من نومتهم] فرأي الأشتر لهذا موافق [لرأيه] نعرفه من الكف. ولقد قال للناس يومئذ وعرفهم رأيه في كلام كثير يحكى عنه وقد ذكرنا بعضه. وذكروا أنه قال لهم يوم تكلموا وطلبوا الموادعة: لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة وأسقطت منة، وأورثت وهنا وذلة، ولما كنتم الأعلين وخاف عدوكم الاجتياح واستحر بهم القتل ووجدوا ألم الجراح ورفعوا المصاحف ودعوكم إلى ما فيها فلفتوكم عنها ليقطعوا الحرب بينهم وبينكم، وتربصوا بكم ريب المنون خديعة ومكيدة. فما لبثتم أن جامعتموهم على ما أحبوا، وأجبتموهم إلى ما سألوا، وقد أعلمتكم ما يريدون فما لبثتم إلا أن تدهنوا وتجوروا. وأيم الله ما أظنكم بعدها موافقين رشدا ولا مصيبين باب حزم. والله لقد كنا مع النبي صلى الله عليه وآله نقتل آباءنا وأعمامنا وأبناءنا وإخواننا ثم ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما، ومضيا على أمض الألم وجد على جهاد العدو،

(هامش)

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في كتاب صفين، وفي الأصل: إذا بالغت علي مؤونتكم.. . وبعده في كتاب صفين: وأما القضية فقد استوثقنا لكم فيها فقد طمعت أن لا تضلوا إن شاء الله رب العالمين . وما ذكره هنا بعد ذلك من كلام أمير المؤمنين غير موجود في كتاب صفين ولكن له مصادر جمة (*)

ص 185

واستقلالا بمبارزة الأقران. [و] لقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس الموت. فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله منا صدقا وصبرا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر. ولعمري لو كنا نأتي [مثل] الذي أتيتم (1) ما قام الدين و[لما] عز الإسلام. وأيم الله لتحلبنها دما فاحفظوا ما أقول [لكم] (2). فهذا بيانه رضي الله عنه وهذا جده واجتهاده بيض الله وجهه - وهذه علله واعتذاره، وهذا تحذيره وتحريضه، أترون بعده غاية؟ وهل بقي لأحد عليه حجة إلا وقد أزاحها، ولا شبهة إلا وقد كشفها. أعلى الله في الأعلين درجته، فما شبهت محنته إلا بمحنة الأنبياء، يمتحن في بدء الإسلام عند القلة والوحدة بالبيات على الفراش - كما امتحن بالذبح إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام - لما دعاه النبي صلى الله عليه وآله حين تألبت عليه قريش وأوقدت له نيرانها، وانقطع رجاؤه من تجادلها، وأجمعوا على الايقاع به / 57 /. فعندها دعا [النبي] بأوثق الناس عنده، وأبذلهم لنفسه دونه، وأصبرهم على شديدة عند أمره فقال له: يا علي إن قريشا قد تحالفت وتعاقدت أن يبيتوني الليلة، فامض إلى فراشي وتلفف ببردي ليروا أني لم أبرح فلا يجدون في طلبي. فوالله ما تلكأ، ولقد أجاب سامعا مطيعا كما أجاب ذبيح الله أباه إبراهيم صابرا عند قوله: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟ قال: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين [102 / الصافات: 37].

(هامش)

(1) هذا هو الصواب الموافق لما في نهج السعادة، وما بين المعقوفين أيضا مأخوذ منه، وفي الأصل: لو كنا نأتي الذين.. . (2) وهذا رويناه في المختار: (225) من نهج السعادة: ج 2 ص 258 عن كتاب صفين ص 520. وقريبا منه رواه السيد الرضي في المختار: (53) من نهج البلاغة. (*)

ص 186

وعلى مثل ذلك كان جواب الصديق الأكبر وسرعة طاعته عندما دعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمضى حتى تلفف ببرده لا يظن إلا أن القوم سيقعون به فسمحت نفسه بذلك كما سمحت نفس ذبيح الله للإجابة، ودفع الله عنهما جميعا وسلمهما من التلف عندما امتحنا، وعظم الثواب والأجر لهما على ما قصدا ونويا. فهذه محنة لم نعرف لها شبها إلا في محن الأنبياء عليهم السلام، وفي ذلك نزلت: وإذا يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [54 / آل عمران: 3] وكان علي مكر الله في تلك الليلة. ثم محنته يوم الجمل ويوم صفين، وما ذكرنا من تفرق أصحابه عند بعد ليلة الهرير، وما دخل عليهم من الشك والارتياب بمكيدة الملاعين أشباه السامري لم يعرف لها مثلا إلا ما امتحن الله به هارون نبي الله مع بني إسرائيل عند تمويه السامري لهم باتخاذ العجل وما أدخل عليهم من اللبس بما سمعوا [من العجل] من الخوار، فتفرقوا عند ذلك عن هارون صلى الله عليه، وأقبلوا عليه يعكفون فقالوا: هذا إلهنا وإله موسى. كفرا بعد إيمان وشكا بعد يقين عند مخالفتهم لموسى وهارون، وتركهم لهارون مفردا وحيدا وهارون يناديهم: يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري. قالوا لن نبرح عليه عاكفين [91 / طه: 20]. وعلى مثل ذلك دعاهم الصديق علي بن أبي طالب الشهيد لما تفرق أصحابه يوم صفين عندما ظهر من مكيدة أشباه السامري [فقال لهم]: إنكم يا قوم قد فتنتم وخدعتم برفع المصاحف فاتقوا الله ولا تعصوني في أمري فإنكم إن فعلتم لم تروا عزا أبدا (1) ولتلقون بعدي ذلا شاملا، وسيفا قاتلا، وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة. فأبوا عليه إلا مضيا مع الشبهة، ولم يطيعوا أمره انقيادا للخدعة.

(هامش)

(1) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي الأصل: لم تروا عدوا أبدا . ويمكن أيضا أن تكون اللفظة مصحفة عدن إعداء من قولهم: أعدى زيد فلانا إعداء : نصره وقواه. (*)

ص 187

فهذه محنته يوم صفين مشبهة لمحنة هارون مع بني إسرائيل. [فهذا الموجز يكفيكم] لتعلموا أنه رحمه الله باستحقاق كانت منزلته من النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون من موسى المصطفى صلى الله عليه بالاسم والمعنى. فتدبروا ما نحن واصفون من مناقب أمير المؤمنين معاشر المسلمين، لتعلموا فضله على جميع العالمين، وأنه قد برز على جميع الصديقين، وفضل على جميع المجاهدين. ومتى قال قائل: قد كان ينبغي له يوم صفين أن يمضي بمن أطاعه إذ علم أن تلك مكيدة من القوم، ويحمل بنفسه قدما على بصيرته ولا يجيبهم إلى الموادعة، فلهذا من القول معارض في خلافه أقوى منه في وجه الرأي وباب الحزم، لأنه لو فعل ذلك فقتل وقتل من معه، لقال قائل: قد كان ينبغي إذا اختلف أصحابه وبقي وحده مع عصابة قليلة أن لا يعجل عليهم فيغرر بنفسه ويعرض / 58 / من معه ومن يرى رأيه للتلف والهلكة ويعز العدو بهذا من فعله ولو وادع العدو كان أبلغ في الرأي ليقوى الضعيف ويتثبت الشاك ويكثر الأنصار، ويحقن الدماء فإن أجاب القوم إلى متابعته وإلا انكفأ عليهم راجعا وقد قوي جده واستبصر أصحابه وكثر أنصاره وانكشف للناس ظلم من خالفه، وأنه لم يرد الله بما دعا إليه من الحكومة (1). فهذان الرأيان في القول قد وقعا، وأبلغهما وأقواهما في باب الحزم [هو] ما فعل رضي الله عنه، لأن الأمة كانت إليه أحوج، وصلاحها في بقائه أوضح لأنه هاديها وغياثها وقائدها إلى ما فيه رشدها. ولا أظن أحدا يتوهم أنه فعل ما فعل هيبة للحرب وخوفا من الموت ومحبة للبقاء، ولكنه آثر النظر للدين وحيطة الإيمان، وما هو أصلح للعباد. فلم يرض الناس إلا أبا موسى الأشعري، واتفقت كلمة أكثرهم عليه.

(هامش)

(1) هذا هو الصواب الظاهر من السياق، وفي أصلي: وأنه لم يرد إلا الله.. . (*)

ص 188

فلم يلبث أن جاء أبو موسى وعليه برنس مع أصحاب البرانس والقراء والناس معه. فقال لهم علي: إن أطعتموني بعثتم غيره. قالوا: لا يذهب غيره. قال لهم: فلست أحكم إلا بكتاب الله فمتى خالفه لم أرض بحكمه. فقام الأحنف إلى أبي موسى فقال: يا أبا موسى إنك تسير إلى أمر عظيم، إنما يبعثك أهل العراق لتأخذ من عدوهم، وتأخذ لهم بحقهم، فأعرض على أهل الشام أن يختار أهل العراق من قريش الشام من شاؤوا، وأن يختار أهل الشام من قريش العراق من شاؤوا (1). وإما أراد الأحنف أن يعرف ما في نفس أبي موسى بهذا الكلام [لعلي كي] يقول له أبو موسى مجيبا له: أجل. [و] قال له الأحنف: يرى الله منك أنك منطلق على كل حال وقد أبى الناس غيرك فاحفظ عني ثلاثا: فإذا لقيته فلا تبدأه بالسلام فإن السلام أمانة، ولا تصافحه بيدك فإن المصافحة خدعة، ولا يقعد بك على صدر الفراش فإن ذلك سخرية. واحذر أن يضمك وإياه بيت تتوارى فيه عنك عيون الرجال فإنه من قد علمت، وخاصم القوم بكتاب الله فإن عليا أحق بهذا الأمر، وأن معاوية من أبناء الطلقاء فاعقل ما يقال لك.

(هامش)

(1) كذا في أصلي، وفي أواسط الجزء (8) من كتاب صفين

ص 536

ط مصر: وكان آخر من ودع أبا موسى الأحنف بن قيس أخذ بيده ثم قال له: يا أبا موسى أعرف خطب هذا الأمر واعلم أن له ما بعده، وإنك إن أضعت العراق فلا عراق، فاتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك، وإذا لقيت عمرا غدا فلا تبدأه بالسلام فإنها وإن كانت سنة إلا أنه ليس من أهلها، ولا تعطه يدك فإنها أمانة. وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة، ولا تلقه وحده، واحذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع تخبأ فيه الرجال والشهود. ثم أراد أن يبور ما في نفسه لعلي فقال له: فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي فخيره أن يختار أهل العراق من قريش الشام من شاؤوا فإنهم يولونا الخيار فنختار من نريد، وإن أبوا فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاؤوا، فإن فعلوا كان الأمر فينا، قال أبو موسى: قد سمعت ما قلت ولم يتحاش لقول الأحنف. (*)

ص 189

وكتبوا الكتاب ودفن الناس قتلاهم وانصرف [أهل العراق] (1) متباغضين متعادين يشتم بعضهم بعضا بعد أن كانوا إخوانا. ثم وجه معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام إلى دومة الجندل. وبعث علي أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ وبعث معهم عبد الله بن عباس على الصلاة ومعهم أبو موسى. وما فعل علي أيضا من تأميره لشريح على الجند، وبعثه ابن عباس على الصلاة، والنظر في أمور الناس دليل على ما قلنا [ه] من أنه لم يرض بحكم أبي موسى وتوليته في حال من الحال [كذا]. وإنما ولى ابن عباس الصلاة لئلا يصلي بهم أبو موسى، فهذا يدل على أن بعثة أبي موسى إنما كانت من قبل أهل اليمن ومن تابعهم فتركهم على ذلك لما ذكرنا [ه] من الانتشار وقلة موافقيه. فلما اجتمع أبو موسى وعمرو بن العاص ترك النظر في الكتاب وما بعث له، وجلس مع عمرو يعمل الرأي والهوى فأداره عمرو على أن يجعل الأمر لابنه عبد الله بن عمرو، وأداره هو لعبد الله بن عمر، وقال له: هل لك أن نحيي بذلك [سنة عمر ونولي ابن] عمر؟! فأبى ذلك عليه عمرو، وقال: هو ضعيف وهذا الأمر لا يصلحه إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم، فلما أبى كل واحد منهما على صاحبه رأيه قال له أبو موسى: فأشر رأيك (2) فقال له عمرو: أرى أن نخلع / 59 / هذين الرجلين

(هامش)

(1) ما بين المعقوفين زيادة منا، وفي الأصل: وانصرفوا متباغضين.. . (2) يترك - كما ترون - ما بعث فيه من النظر في كتاب الله وتوكيد حق [الله] ويعمل رأيه ويستشير الفاسق في حكم الله!! أقول: هذه القطعة من المتن وكانت بعد قوله: فأشر رأيك ومن أجل إخلالها بانسجام القصة ووقوعها معترضة محيرة لذهن البسطاء من القراء ذكرناها في الهامش. (*)

ص 190

ثم نجعل الأمر شورى بين المسلمين فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا. [ف‍] قال له: فإن الرأي ما رأيت. فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، وفيهم ابن عباس فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع واتفق. فقال أبو موسى إن رأيي ورأي هذا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به هذه الأمة. فقال عمرو. صدق وبرر أبا موسى (1) تقدم. فتقدم الضعيف المغفل ليتكلم فدعاه ابن عباس فقال له: ويحك والله إني لأظنه قد خدعك، إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه ليتكلم بذلك الأمر قبلك ثم تكلم أنت به بعده، فإن عمرو رجل غادر ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا بأمر فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس خالفك. فقال [أبو موسى له]: إنا قد اتفقنا. ثم تقدم أبو موسى المخدوع، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من ألا نتبتر أمورها (2) [و] قد اجتمع رأيي ورأي صاحبي عمرو على خلع علي ومعاوية، وتستقبل الأمة هذا الأمر فيكون شورى بينهم يولون من أحبوا عليهم. ثم تنحى. وقام عمرو فحمد الله ثم قال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي عثمان بن عفان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه!! فقال له أبو موسى: لا وفقك الله غدرت وفجرت إنما مثلك كمثل الكلب إن

(هامش)

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: صدق وبرر أبو موسى تقدم . وفي ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب أنساب الأشراف: ج 2 ص 351 ط 1: فقال عمرو صدق وبر، تكلم يا [أ] با موسى.. . (2) كلمة: نتبتر كانت مهملة في الأصل، وصحح محقق كتاب صفين هذه اللفظة فيه ص 545 عن شرح ابن أبي الحديد بقوله: من أن لا تتباين أمورها وقال في هامشه: وفي الأصل [يعني كتاب صفين]: ألا نبتر أمورها (*)

ص 191

تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث!!! فقال له عمرو: إنما مثلك مثل الحمار يحمل أسفارا. وقام شريح [بن هانئ] رضي الله عنه فقنع عمرو بن العاص بالسوط. وطلب أهل الكوفة أبا موسى فوجدوه قد مضى. [ومن هذا وكثير من أشباهه يستفاد قطعيا أن المنحرفين على علي كانوا] يعملون - كما ترى الخديعة في أمرهم كله ولا يحجزهم من ذلك خوف ولا مراقبة. ورجع القوم إلى رأي الموفق المسدد وتصويبه، وإلى التلهف والندامة [عما خالفوه قبل] فقال بعضهم: كفرنا. وكفرت إفراطا بعد تقصير، وإغراقا في النزع بعد الضعف والوهن.

ص 192

[كلام أمير المؤمنين عليه السلام مع صالح بن سليم، وحارث بن شرحبيل عندما رجع من صفين وأشرف على الكوفة].

ذكروا أن عليا رضي الله عنه لما جاز النخيلة (1) وقرب من الكوفة، إذا هو بشيخ جالس في ظل بيت على وجهه أثر مرض، فأقبل إليه فسلم عليه فرد ردا حسنا، فقال له علي: أرى وجهك منكفأ مم ذلك؟ أمن مرض؟ قال: نعم. قال: فلعلك كرهته؟ قال: ما أحب أن يكون بغيري. قال: أليس احتسابا للخير فيما أصابك منه؟ قال، بلى. قال: فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك، من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا صالح ابن سليم. قال: ممن؟ قال: أما الأصل فمن سلمان طي (2) وأما الدعوة ففي بني سليم ابن منصور. قال: سبحان الله ما أحسن اسمك واسم أبيه واسم أجدادك واسم من اعتزيت إليه، هل شهدت معنا غزاتنا هذه؟ قال: لا والله ما شهدتها ولقد أردتها ولكن ما ترى من إلحاح الحمى (3) خذلني عنها. قال: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم [91 التوبة: 9].

(هامش)

(1) وهذه القصة ذكرناها في صدر المختار: (238) من نهج السعادة: ج 2 ص 292. نقلا عن كتاب صفين ص 528 وتاريخ الطبري. (2) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين: أما الأصل فمن سلامان بن طي، وأما الجوار والدعوة فمن بني سليم بن منصور... . (3) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين: من لحب الحمى أي من إنحالها لجسمي. (*)

ص 193

[ثم] قال له: ما قول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام؟ قال: فيهم المسرور بما كان بينك وبينهم، وأولئك أغشاء الناس لك، وفيهم المكتئب الآسف (1) بما كان من ذلك. فأولئك نصحاء الناس. فقال: صدقت جعل الله ما كان من شكواك حظا لسيئاتك، فإن المرض لا أجر فيه ولكن لا يدع على المرء ذنبا إلا حطه، وإنما الأجر في القول باللسان والعمل باليد والرجل، فإن الله ليدخل بصدق النية والسريرة الصالحة / 60 / عالما الجنة (2). ثم مضى فدخل الكوفة، فسمع البكاء والأصوات، فقيل له: هذا البكاء على قتلى صفين. فقال: أما إني أشهد لمن قتل منهم صابرا محتسبا بالشهادة. ثم مر فسمع الأصوات، وسمع وجبة شديدة، فوقف، فخرج إليه حارث بن شرحبيل فقال له علي. [أ] تغلبكم نساؤكم؟ ألا تنهونهن على هذا الرنين؟ فقال [حارث]: يا أمير المؤمنين لو كانت دارا أو دارين أو ثلاثا قدرنا على ذلك، ولكنه قتل من هذا الحي ثمانون ومائة قتيل، وليس فيها دار إلا وفيها بكاء، فأما نحن معاشر الرجال فإنا لا نبكي، ولكنا نفرح لهم بالشهادة. فقال علي: رحم الله (3) قتلاكم وموتاكم. وأقبل الرجل يمشي معه وعلي راكب [وهو راجل] فقال له علي: إرجع. فوقف فقال له: إرجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن. ثم مضى، فلم يزل يذكر الله حتى دخل القصر.

(هامش)

(1) كذا في أصلي، غير أن فيه: وأولئك أغش الناس لك.. . (2) وفي كتاب صفين: قال: منهم المسرور بما كان بينك وبينهم وأولئك أغشاء الناس لك، ومنهم المكبوت الآسف . (2) وفي تاريخ الطبري: عالما جما.. . وفي المختار: (42) من قصار نهج البلاغة: فإن المرض لا أجر فيه ولكنه يحط السيئات ويحتها حت الأوراق، وإنما الأجر في القول باللسان والعمل بالأيدي والأقدام، وإن الله سبحانه يدخل بصدق النية والسريرة الصالحة من يشاء من عباده الجنة. . (3) هذا هو الظاهر الموافق لكتاب صفين ص 532، وفي أصلي: رحمه الله . (*)

ص 194

[مفارقة النوكي والضلال من الخوارج عن قطب الحق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وإعلانهم بتكفير أصحابه، وبالمشاقة له].

ولم يدخل [القصر] معه أصحاب البرانس، واعتزلوه وأتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي (1) وأمير الصلاة ابن الكواء والأمر بعد الفتح شورى والبيعة لله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم قالوا لأصحاب علي: إنكم استبقتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان!! بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا وكرهوا. وبايعتم أنتم عليا على أنكم أولياء من والا [ه] وأعداء من عادا [ه] فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط علي يده فبايعناه إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم لما خالفتموه جا [ءت إليه] شيعته فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ونحن كذلك، لأنه على الحق والهدى، ومن خالفه ضال مضل. وبعث علي رضي الله عنه بعبد الله بن عباس إلى الخوارج وقال له: لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك. فخرج [إليهم] ابن عباس، فلما لقيهم جعلوا يكلمونه، فلم يصبر حتى سألهم فقال لهم: كيف نقمتم عليه الحكمين وقد قال الله: فابعثوا حكما من أهله وحكما

(هامش)

(1) هذا هو الصواب، وفي أصلي: شبيب بن ربعي . (*)

ص 195

من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما [35 / النساء: 4]. فزعموا أن الخوارج قالت: كلما جعل الله حكمه إلى الناس وأمره بالنظر فيه فهو إليهم، وما نفذ حكم الله فيه فليس لهم رده وعليهم إمضاؤه، وكذلك عليهم الامضاء على محاربة أهل البغي (1). فقال لهم ابن عباس: وأنتم الذين وادعتم وشككتم دوننا. وليس ما قالوا في الزاني شبيه للحكمين، وذلك لأن الزاني لا شبهة فيه على أحد أقر بالصلاة (2) وليس يجب حد الزنا إلا على من عرف الزنا، وتحريمه بذلك وجبت بالسنة، ونحن على أنه يقام الحد [على] من يجهل تحريم الزنا [أ] وادعى فيه شبهة (3) وليس ذلك حكم الله في أهل البغي عندنا وعندهم، ولو أن الزاني امتنع من الحد بحرب نصبها وادعى عندها شبهة اختلفت عندها الأمة كما فعل معاوية لم يكن ذلك أيضا قياسا للحكومة يوم صفين لأن الزاني إذا أنكر الحد لغير علة كان مرتدا. فإن أنكر الحد وزعم أنه ليس بزان لشبهة دخلها أنكر من أجلها أن يكون زانيا كما أنكر معاوية أن يكون باغيا لشبهة أحدثها (4) كان الفريقان في الأمرين واحد [ا] والحكم متفقا (5). وذكروا أن ابن عباس قال لهم: فإن الله يقول: يحكم به ذوا عدل منكم [95 / المائدة: 54] فقالت الخوارج: فعدل عمرو عندك وأبو موسى؟ هذه الآية بيننا، فإن كان عمرو عدلا فنحن غير عدول!!

(هامش)

(1) ولاحتجاج ابن عباس هذا صور ذكر بعضها ابن عساكر تحت الرقم: (1193) وما بعده من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 150 ط 1 وذكرناه أيضا في تعليقه عن مصادر. (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: وذلك لأن تحريم الزنا لا شبهة فيه على أحد أقر بالصلاة.. (3) لعل هذا هو الصواب، وما بين المعقوفين أيضا زياده منا، وفي أصلي: وتحريمه بذلك وجبت السنة، ونحن على أن يقيم الحد من يجهل تحريم وأدعى فيه شبهة.. . (4) هذا هو الظاهر من السياق، وفي أصلي: راعيا بشبهة أحدثها... (5) ومن قوله: وليس ما قالوا.. إلى هنا جمل معترضة من كلام المؤلف رد بها على الخوارج. (*)

ص 196

فقال لهم ابن عباس فقد قال الله: فابعثوا حكما / 61 / من أهله وحكما من أهلها [35 / النساء: 4] أرأيتم إن كانت المرأة يهودية أليس قد دارت حكومة أهلها وهم غير عدول؟ وأما قولهم في الموادعة، فإن الله إنما أزال الموادعة عند ظهور الإسلام وعلو أهله [على] عدوهم (1) وقد كانت الموادعة قبل الهجرة، والدعوة غير ظاهرة وأنصار الدين بهم قلة، فالموادعة زائلة متى وجبت القوة وكان المسلمون على الكثرة والقوة والعدة التي من أجلها زالت الموادعة، ومتى اختلفت الكلمة ورجع أهل الحق إلى قلة، وكان أهل الباطل أكثر رجعت الموادعة إلى علتها قبل الهجرة ووجب حكمها بوجوب علتها، وقد تعلمون أن المشركين من سائر الملة ومن أقر بالصلاة من أهل البغي من الأمة قد أوجب الله قتالهم على حد معروف وفرض موصوف تخفيف من الله (2) بعد فرض كان أشد في المحنة منه فقال: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مأتين، وإن يكن منكم ألف يغلبون ألفين [66 / الأنفال: 8] فهذا تحديد في الفرض خفف الله به عن الخلق في محنة الحرب بعد أن كان الفرض على المائة محاربة الألف. قلنا: فمتى نقص من هذا التحديد من عدة المؤمنين، وكان المشركون أكثر من العدد الذي حدد الله في قتالهم حلت للمؤمنين الموادعة، ووسعهم الكف حتى يصيروا إلى الحد الذي ذكره الله تعالى، فقد جعل الله للموادعة حدا وهو (3) حكم الله بين عباده أبدا في محاربة العدو، ولم يحصل من علي بن أبي طالب يوم صفين عند الفرقة واختلاف الكلمة إلا قليل، وإنما تراجع الناس إليه بعد الحكمين حين انكشف للناس غدر عمرو

(هامش)

(1) كذا في الأصل، غير أن ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق. (2) كذا. (3) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: وهم حكم الله.. . (*)

ص 197

ابن العاص وضعف أبي موسى المغفل واستعماله هواه ورأيه، فأنابوا (1) إلى علي واعتزلت الخوارج. فأما يوم صفين، فكان أهل الحق ممن ثبت على بصيرته قليل تعدوهم العين، فقد وجبت الموادعة عند القلة مع من كفر بالله فكيف لا يجب مع أهل القبلة، وذلك حكم الله في الموادعة إلى يوم القيامة.

(هامش)

(1) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي أصلي: فانابا بإهمال الحرف الوسط. وأنابوا: رجعوا. (*)

ص 198

[خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في الاحتجاج على الخوارج بعد ما فارقوه فأرسل إليهم ابن عباس ثم لحقه ودخل معسكرهم].

 وذكروا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1) خرج إلى الخوارج فأتى فسطاط يزيد بن قيس فدخله فتوضأ فيه وصلى ركعتين ثم خرج حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس، فقال علي لابن عباس: انته عن كلامهم، ألم أنهك رحمك الله؟ ثم تكلم علي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا مقام من فتح الله له فيه كان أولى بالفتح يوم القيامة (2) ومن نطف فيه وأوعب فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. ثم قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء. قال علي: فما أخرجكم من حكمنا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفين. قال: نشدتكم بالله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم: نجيبهم إلى كتاب الله. قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم [إنهم] ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، فإني قد صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال، امضوا على حقكم وصدقكم، فإنما رفع القوم لكم هذه المصاحف خديعة ووهنا ومكيدة

(هامش)

(1) وكان في الأصل بين الأسطر مكتوبا فوق قوله: رضي الله عنه كلمتي: رضوان الله [عليه] . (2) كذا في الأصل، وفي المختار: (237) من نهج السعادة: ج 2 ص 289: هذا مقام من فلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة . (*)

ص 199

فرددتم علي رأيي وقلتم: لا بل نقبل منهم. فقلت لكم: اذكروا قولي ومعصيتكم إياي فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا [ه] القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في الكتاب، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء. فهل قام إلي منكم رجل فقال: يا علي إن هذا الأمر أمر الله فلا تعطه القوم؟ قالوا: لا. قالوا: فأخبرنا أتراه / 62 / عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟ قال: إنا لسنا الرجال حكمنا، وإنما حكمنا القرآن وهو خط مسطور بين لوحين لا ينطق حتى يتكلم به الرجال (1) وأنتم حكمتم أبا موسى وجئتموني وأتيتموني به (2) مبرنسا، وقلتم: لا نرضى إلا به. ومعاوية حكم عمرو. [ثم قال:] وأخبرني عنك يا ابن الكواء متي سمي أبو موسى حكما؟ أحين أرسل أم حين حكم؟ قال: حين حكم. قال: فقد سار وهو مسلم وأنت ترجو أن يحكم بما أنزل الله؟ قال: نعم. قال: فلا أرى الضلال في إرساله إذ كان عدلا. قالوا: فخبرنا عن الأجل لما جعلته بيننا وبينهم؟ قال: ليتعلم الجاهل (3) ويتثبت العالم، ولعل الله أن يصلح في تلك المدة بين الأمة. ثم قال علي: أرأيتم لو أن رسول الله عليه السلام أرسل رجلا مؤمنا يدعو قوما مشركين إلى كتاب الله فارتد على عقبه كافرا كان يضر النبي صلى الله عليه شيئا؟ قالوا: لا قال: فما ذنبي إن ضل أبو موسى ولم أرض بحكومته إذ حكم، ولا بقوله إذ قال.

(هامش)

(1) وفي المختار: (122) من نهج البلاغة: إنما لم نحكم الرجال وإنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال.. . (2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: وجئتموني به وأتيتموني ولكن لفظة: أتيتموني مكتوبة فوق قوله: جئتموني . ومنه قوله عليه السلام في جواب أحنف به قيس - كما في كتاب صفين

ص 502

-: إن القوم أتوني بعبد الله بن قيس مبرنسا فقالوا: إبعث هذا فقد رضينا به. والله بالغ أمره. (3) هذا هو الظاهر: وفي أصلي: ليعلم الجاهل.. . وفي المختار: (122) من نهج البلاغة: وأما قولكم: لم جعلت بينك وبينهم أجلا في التحكيم فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل ويتثبت العالم ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة.. . ولا تؤخذ بأكظامها فتعجل عن تبين الحق، وتنقاد لأول الغي. (*)

ص 200

قالوا: أفرأيت كتابك باسمك واسم أبيك وتركك اسمك الذي سماك الله به بإمرة المؤمنين. قال علي: على [يدي] دار [مثل] هذا الحديث كتب النبي عليه السلام (1): هذا كتاب من محمد رسول الله. وقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: لا نقر ولا نعرف [أنك رسول الله] لقد ظلمنا [ك] إذا إن شهدنا أنك رسول الله ثم قاتلناك، ولكن اكتب باسمك واسم أبيك. فقال رسول الله [صلى الله عليه وآله]: اكتب من محمد بن عبد الله فإن ذلك لا يضر نبوتي شيئا، فكتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لآبائهم، وكتبتها [أنا] لأبنائهم. قالوا: صدقت. [ولكن] بقيت خصلة: إنا قد علمنا أنك لم ترض بحكمهم حتى شككت وكتبت في كتابك: إن جرني كتاب الله إليك تبعتك، وإن جرك إلي تبعتني. تعطي هذا القول وقد أحصا (2) خيلنا في دمائهم؟ وما فعلت هذا حتى شككت. فقال علي: نبئني أنت ومن معك أولى بأن لا تشكوا في دينكم أم المهاجرون والأنصار؟ أم أنا أولى بالشك أم معاوية وأهل الشام (3)؟ قال ابن الكواء: النبي عليه السلام أولى باليقين منك، وأهل الشام خير من مشركي قريش، والمهاجرون والأنصار خير منا. قال: أفرأيت الله حين يقول لرسوله: قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين [49 / القصص: 28] أشك النبي عليه السلام فيما هو عليه حين يقول هذا؟ أم أعطاهم إنصافا؟ قال ابن الكواء: خصمتنا ورب الكعبة وأنت أعلم منا بما صنعت. فقال علي رضي الله عنه: ادخلوا مصركم رحمكم الله.

(هامش)

(1) ما بين المعقوفات زدنا لإصلاح الكلام، وفي الأصل: على هذا دار الحديث كتب النبي.. . (2) كذا. (3) كذا في أصلي مع غموض في لفظ: نبئني وفي الكلام اختلال ونقص ولم يتيسر لي المراجعة وبذل الجهد لإصلاح الكلام وتصويبه. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

المعيار والموازنة

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب