وله الصحبة المعروفة والشجاعة المذكورة، ومحنته بطلحة واستمالة الناس بخطبه،
والتمويه عليهم بسابقته مع من أشبههم من الخاصة والعامة ثم ما ذكرنا بعدهم. وأبو
بكر لم ينفرد بمحنة الردة، ولقد كان علي له معينا وشريكا، ولقد أشار عليه بما
ذكرنا. وأين محنة أبي بكر - وقد أطاعه القوم جميعا بعد الخلاف - من محنة علي مع أهل
الخلاف عليه، وأبو بكر يتخلف من عسكره فلا يباشر حربا بنفسه، ويعبنه علي على
تدبيره، فلم يباشر حرب ما حدث في زمانه فيكون له فضيلة ولا تفرد بالتدبير والرأي
فينسب ذلك إليه ويتقدم به، وعلي في عسكره يتولى تدبيره بنفسه، ويخوض تلك الحروب
ببأسه، ويقوم أود تلك العساكر برأيه، ليس له نظير يعينه، ولا وزير يشاركه. فمهلا
رحمكم الله فإلى كم تلجون في الخطأ، وتعتلون بالشك والوقف معاشر المرجئة والمعتزلة.
فأما أنتم أيها المنسوبون إلى الرواية، والمحصون للآثار عن رسول الله، فقد علمنا
أنه لا حظ لكم في استنباط المعرفة، ولا رأي فيدعوكم إلى المحاجة، ولا نظر فتدعوا في
العلم رساخة، ولستم باللذين تدعون إلى عدل المقايسة، فتقولون نحن أصوب منكم مقالة،
وكيف يمكنكم ذلك ومتى ذكر لكم النظر كنتم كالحمر / 64 / المستنفرة، فأنتم إذا رفعنا
منزلتكم في المثل كالصيادلة الذين لا يعرفون إلا أسماء الأدوية [وهم] جهال بالدواء
والعلة، أو كتاجر ليس له بالصرف معرفة. وأهل النظر في المثل هم الأطباء والصيارفة
العارفون (1) معاني الأدواء والأدوية و[ذوو] البصر بالذهب والفضة فإن عرضتم علينا
ما في أيديكم من الرواية للنظر في خطائها من صوابها أصبتم وجه بالرأي في التعلم،
ولم تلبثوا إلا ريث ما حتى ينكشف لكم الحق فيما عنه تسألون، وكان مثلكم
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: الغارمون معاني الأدواء... . (*)
ص 204
كتاجر لا بصر له بالذهب والفضة، فإن صار في يده من ذلك ما لا علم له به عرضه على
البصير يسلم في تجارته وأضعف رأس ماله، وإن أهملتم أنفسكم وجمح بكم سوء النظر، وقلد
بعضكم بعضا الخبر كنتم كمن تعسف تجارته وقل نظره لنفسه، ولم يعرض ما وقع في يده من
فضته وذهبه على البصراء به وقلد من هو في مثل حاله في أمره ونهيه وجهله، ولم يلبث
إلا ريثما حتى أفقر نفسه وذهب رأس ماله. وقد يأثرون (1) عن النبي صلى الله عليه في
تحقيق ما قلنا أنه قال: رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
(2) وأنتم المعنيون بهذا الحديث، والمرادون به إذا كانت معرفتكم به أسماء الرجال
وعددهم. وعنه يؤثر صلى الله عليه أنه قال: يحمل هذا العلم من كل خلف من أهل بيتي
عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين (3). وكيف ينفي
ذلك من لا علم له بالمقايسة وجمع الأشباه؟ ومن هو عن النظر بمعزل؟ ومن دينه
السكوت؟! وترك الفكرة والتدبير للجمع بين ما صح وفسد، لبحق الحق ويبطل الباطل. [وقد
كشفنا الستار عن الحق] لتعلموا أن القوم الذين عنوا بالفقه والتمييز والتدبير هم
أهل الحق والنظر، فأما من لا تمييز عنده بين باطل من حق كيف يعلم من أفرط وغلا،
وتأويل من قصر وأخطأ؟! وفي كل ذلك يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا
أتاكم عني حديث فاحملوه على أحسن وجوهه وظنوا به الذي هو أزكى وأهدى وأتقى . فكيف
يحمله على أحسن وجوهه من لا يخطر الفكرة فيه على قلبه؟ ومن قد حرم
(هامش)
(1) وهو على زنة: ينقلون لفظا ومعنى. وقد جاء أيضا على زنة: يضربون . (2)
وللحديث مصادر كثيرة جدا، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم هذا القول في آخر خطبة
خطبها بمنى. (3) وهذا الحديث أيضا له مصادر كثيرة تجدها في كتاب العلم من بحار
الأنوار. ج 1. (*)
ص 205
النظر على نفسه وشأنه تصحيح الخبر لسماعه؟!!! فهذه هي الفرقة الحاملة للفقه إلى من
هو أفقه منها، وقلدت الخبر رهبانها، وانقادت لكبرائها وفي أشباههم يقول الله:
كمثل الحمار يحمل أسفارا [5 / الجمعة: 62] واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا
[31 / التوبة: 9]. أي: بالطاعة لهم والانقياد لقولهم وهم الذين قالوا: أطعنا
سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا [67 / الأحزاب:]. فارجعوا إلى النظر عن قريب ما
دمتم في فسحة التمكين، وفكروا في فضائل أمير المؤمنين تجدوا ما قلنا بينا، ولا
تؤثروا الغفلة، وتميلوا إلى الجهالة، فإن بالمعرفة يعبد الله، وإلى النظر والتدبر
دعا الله عز وجل [حيث] قال: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [24 /
محمد: 47]. وقال: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين
يستنبطونه منهم [83 / النساء: 4]. فقد مدح الله الاستنباط، وعلة الاستنباط التدبر
والنظر، فمن لم يتدبر لم يستنبط، ومن لم يستنبط لم يعلم، ومن لم يعلم لم يوفق، ومن
لم يوفق شك وجهل، ومن جهل لم يخش ربه، لأنه لا يخشاه إلا من عرفه لقوله: إنما
يخشى الله من عباده العلماء [28 / فاطر 35]. ونحن قابلون لما في أيديكم من
الرواية، وراضون بما أسندتم من مشهور / 65 / الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم في علي وأبي بكر، لتعلموا أن علة ما قلتموه الهوى لا الأثر، والبدعة لا السنة.
ص 206
[تفنيد المصنف بعض مفتريات شيعة آل أبي سفيان في شأن الشيخين].

قد قلتم: إن من
السنة تفضيل أبي بكر وعمر!!! فأي سنة قامت بأنهما عن علي ابن أبي طالب أفضل (1)؟
والجماعة في هذا مضطربة، فأوقفونا على شهادة معروفة، وأوضحوا دعوى هذه السنة التي
بانت بالبدعة. فإن قلتم: [منها] قول النبي صلى الله عليه وسلم: سيدا كهول [أهل
الجنة] . قلنا: فقد عارض هذا من خبركم ما هو أقوى [منه] في المعنى، وأسلم من خطأ
التأويل وهو قوله في الحسن والحسين: [هما] سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما
(2). فنظرنا في الحديث الأول فوجدنا للشبهة فيه مساغا، ولخطأ التأويل [فيه] مدخلا
لأنه ليس في الجنة كهل. وهذا لا يدخل فيما قلنا في قوله في الحسن والحسين إذ كان
أهل الجنة [كلهم] شبابا، فإذا ثبت أن أهل الجنة شباب دون كهول فقد قدمهما على [كل]
من في الجنة تقديما واضحا.
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: فأي نسبة قامت بأيهما عن علي بن أبي طالب . (2)
والحديث مجمع عليه بين الشيعة وأهل السنة، وقد رواه الحافظ ابن عساكر بأسانيد كثيرة
تحت الرقم: (128 - 142) من ترجمة الإمام الحسن عليه السلام من تاريخ دمشق ج 12، ص
72 وما بعدها من ط 1. ورواه أيضا بأسانيد كثيرة أخر في الحديث: (61) وما بعده من
ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 12، ص 41 - 59 ط 1. وقد علقناه
عليهما أيضا نقلا عن مصادر قوية قديمة سنية، فراجعهما فإنهما يغنيانك عن غيرهما.
(*)
ص 207
واستثناؤه أباهما يوجب أن الخبر عام ولو أراد به الخصوص لم يكن للاستثناء معنى. فإن
قلتم: لم يرد بقوله: سيدا كهول أهل الجنة إخبارا بأنه يكون في الجنة كهول ولكن لما
كانا في وقت القول كهلين جاز أن يقول: سيدا كهول أهل الجنة مجازا. قلنا: فهذا خبر
يدخل فيه من كان في ذلك الوقت كهلا فيكون قد دخل فيه كهول من بالحضرة دون من لم يكن
في ذلك الوقت كهلا، فعلي بن أبي طالب لم يكن في ذلك الوقت كهلا فيكون في الخبر
داخلا (1). هذا قد يجب عليكم متى سلمنا دعواكم وتركنا الاستقصاء عليكم في خبركم،
فنحن إذا نظرنا فيما ذكرتم احتجتم إلى التأويل فيما رويتم في أبي بكر وعمر. فأما
تأولتم فسلمنا لكم التأويل أو هدناكم أنه ليس فيه على قولكم دليل. فقد ثبت بما
شرحنا ووصفنا أن قوله: سيدا شباب أهل الجنة أدل على التفضيل وأوفى بالعموم مما
يدخله الطعن عند القياس، واحتجتم في تصحيحه إلى استعمال التأويل.
(هامش)
(1) أي فلا يكون في الخبر داخلا. (*)
ص 208
[بيان إجمالي في مؤاخات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار،
ثم بينه وبين علي صلوات الله عليهما].

ثم فكروا في حديث المؤاخات وما فيه من
الدلالة الواضحة، إذ ميزهم على قدر منازلهم، ثم آخا بينهم على حسب مفاضلتهم (1) فلم
يكن أحد أقرب من فضل أبي بكر من عمر فلذلك آخا بينهما، وأشبه طلحة الزبير (2) وقربت
منازلهما، لذلك فآخا بينهما، وكذلك فعل بعبد الرحمن بن عوف آخا بينه وبين عثمان. ثم
قال لعلي: إنما أخرتك لنفسي أنت أخي وصاحبي. فلم يكن فيهم أحد أشبه بالنبي عليه
السلام من علي، ولا أولى بمؤاخات النبي منه، فاستحق بمؤاخات النبي عليه السلام
لتقدمه على القوم، وكانت مؤاخات علي أفضل من مؤاخات غيره لفضله على غيره.
(هامش)
(1) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي أصلي: مفاضلهم ولعله كان في الأصل: تفاضلهم
فصحفه الكاتب. (2) لعل هذا هو الصواب، وفي أصلي: واشتبه طلحة والزبير.. . ثم
إن أصل حديث المؤاخات بين النبي وعلي صلوات الله عليهما، وبين كل واحد من المهاجرين
والأنصار ومن يشاكله من الحقائق الثابتة التي أصفق على تصديقها والإدغان بها جميع
فرق المسلمين وله مصادر كثيرة غير محصورة. نعم، في بعض طرق الحديث زيادات مختلقة قد
قامت القرائن الخارجية على اختلافها مثل ما يتضمنه الحديث المنقول في الباب: (20
و21) من كتاب فرائد السمطين: ج 1، ص 112 - 121، ط 2. والقصة قد رواها الحافظ ابن
عساكر بأسانيد كثيرة تحت الرقم: (141) وما بعده من ترجمة الإمام = (*)
ص 209
(هامش)
= أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 1، ص 117، وما بعدها
من ط 2 وقد علقنا عليه أيضا عن مصادر جمة. وقد رواها أيضا بطرق الحافظ الطبراني،
وإليك ما رواه في الحديث: (1000) من مسند عبد الله بن عمر من المعجم الكبير: ج 3 /
الورق 205 / ب / قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، أنبأنا محمد بن يزيد هو أبو
هاشم الرفاعي أنبأنا عبد الله ابن محمد الطهوي، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر قال:
بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ظلل بالمدينة وهو يطلب عليا - رضي الله
عنه - إذ انتهينا إلى حائط فنظرنا فيه، فنظر [النبي] إلى علي وهو نائم في الأرض وقد
اغبر فقال: لا ألوم الناس يكنونك أبا تراب. [قال ابن عمر:] فلقد رأيت عليا تغير
وجهه واشتد ذلك عليه، فقال: ألا أرضينك يا علي؟ قال: بلي يا رسول الله، قال: أنت
أخي ووزيري تقضي ديني وتنجز موعدي وتبرئ ذمتي، فمن أحبك في حياة مني فقد قضى نحبه،
ومن أحبك في حياة منك بعدي ختم الله له بالأمن والإيمان، ومن أحبك بعدي ولم يرك ختم
الله له بالأمن والإيمان، وآمنه يوم الفزع الأكبر، ومن مات وهو يبغضك يا علي مات
ميتة جاهلية [و] يحاسبه الله بما عمل في الإسلام. وقريبا منه جدا رواه أيضا في
الحديث: (10) مما أسنده عبد الله بن العباس من المعجم الكبير: ج 3 / الورق 109 /.
ورواه أيضا الهيثمي في مجمع الزوائد: ج 9 ص 111، نقلا عن الطبراني في الكبير
والأوسط. (*)
ص 210
[حديث الغدير المتواتر بين المسلمين، أو قطعة من خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ب غدير خم في إعلام الناس بمنزلة علي علي عليه السلام من رسول الله ونصبه
علما للناس ومفزعا لهم بعد وفاته صلى الله عليه وآله].

ثم قوله [صلى الله عليه
وآله] له في غدير خم : من كنت مولاه فعلي مولاه [يكون] إبانة له منهم،
وتقريبا له من نفسه، ليعلموا أنه لا منزلة أقرب إلى النبي صلى الله عليه من منزلته.
فإن قال قائل: إنما قال ذلك النبي عليه السلام في ولاء النعمة، ومعنى الحديث في زيد
بن حارثة لأنهما قد كانت بينهما مشاجرة، فادعى علي بن أبي طالب ولاء زيد ابن حارثة،
وأنكر ذلك زيد (1) فبلغ ذلك النبي عليه السلام فقال: من كنت مولاه
(هامش)
(1) إلى الآن لم أظفر على سند لهذا الحديث، بل ولا على مصدر له غير ما أبداه أبو
جعفر ها هنا من قبل المنحرفين عن علي عليه السلام، ذكره كي يبطله ويسد باب تعلق
المبطلين وتمسكهم به. نعم، ذكر الحافظ ابن عساكر في الحديث: (590) من ترجمة الإمام
أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2 ص 86 ط 1 بسنده ما لفظه: عن مسروق بن
ماهان التيمي، عن أبي بسطام مولى أسامة بن زيد: أنه كان بين علي وبين أسامة [شيء]
فقال [أسامة]: والله إني لا أحبه!! قال: فكأنه دخل على علي من ذاك [أذى وغم] فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أراك تتناول عندي عليا من كنت مولاه فعلي
مولاه. وكيفما كان فقصة زيد رحمه الله أو ابنه أسامة لا سبيل إلى إثباتها والاعتقاد
بتحققها في عالم الخارج، لعدم السند والمصدر للأول، وضعف سند الثاني، فالقصتان من
قبيل كلام الليل الذي يمحوه النهار، وهو حديث الغدير المتواتر بين المسلمين. = (*)
ص 211
فعلي مولاه [فيكون ذلك إذا] في ولاء العتق (1). قلنا: ليس لما ذهبتم إليه معنى
يصح لأن أول الحديث وآخره يبطل / 66 / ما ذكرتم، لأنه ذكر في أول الحديث [أنه صلى
الله عليه وآله وسلم خطب الناس] فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ و[من] كل
مؤمن ومؤمنة؟ قالوا: اللهم بلى. فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فلا يكون من البيان
في نفي ما قلتم أوضح من هذا، لأنه قد نص على المؤمنين جميعا بقوله، ودل على إبانة
علي من الكل بمولويته (2) على كل مؤمن ومؤمنة، ثم أقامه في
(هامش)
= وعلى فرض ثبوتهما أيضا لا تعارضان حديث الغدير، إذ زيد بن حارثة رضوان الله عليه
قد استشهد قبل غدير خم نحو سنتين. وهكذا قصة أسامة على فرض ثبوتها أيضا لا
تعارض حديث الغدير لأنه لم يعلم في أي تاريخ أبدى أسامة ما في نفسه، وعصى قوله رسول
الله صلى الله عليه وآله: من آذى عليا فقد آذاني . ولعله كان قبل غدير خم. وعلى
فرض تأخرها عن غدير خم، ونصب رسول الله عليا علما للناس أيضا لا تعارض حديث الغدير،
لأن رسول الله صلى الله عليه وآله ذكر أسامة ونبهه على لوازم مولوية علي عليه
السلام التي سجلها عليهم، وأخذ ميثاقهم في غدير خم على الالتزام بها والقيام
بلوازمها، ومن جملة لوازمها أن المولى على مثل أسامة وسائر المسلمين يجب عليهم أن
يحبوا إمامهم وخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومما يقوي هذا الاحتمال ما
كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتوسم فيهم من أنهم سيخالفون أوامره ووصاياه في
حق وصيه وخليفته، ولهذا في أواخر أيامه ومرض وفاته أمره على جيش، وجعل تحت إمارته
أبا بكر وعمر وأكابر المهاجرين، وأكد عليه أن يفصل المدينة ويغير على الروم بأرض
مؤنة، وبلغ من تأكيده صلى الله عليه وآله في ذلك أنه مرارا كان يقول نفذوا جيش
أسامة، حتى ورد من طريقهم أنه قال: لعن الله من تخلف عن جيش أسامة. فتسامح أسامة في
المسير بعد ما عسكر خارج المدينة حتى راوغ شيوخ القوم في الرجوع إلى المدينة، ثم هو
أيضا لم يبرح من معسكره حتى توفي النبي صلى الله عليه وآله فرجع إلى المدينة. ثم
أسامة في أيام خلافة أمير المؤمنين عليه السلام تخلف عنه وأبدى عذرا كان أكبر من
الجرم الذي كان قد ارتكبه فكان يجعله عذرا ووسيلة للتخلف عن أمير المؤمنين عليه
السلام. ومن هذا ينفتح احتمال اختلاق أبي بسطام للحديث كاحتمال اختلافه من ماهان
التيمي لأنهما ورثا الانحراف عن كلالة:!. (2) ما بين المعقوفين زيادة توضيحية لم
تكن في الأصل. (2) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: تجميعا بقوله ودل على إبانة علي من
الكل بتوقيعه . (*)
ص 212
التقديم عليهم مقامه، وأعلمهم أن تلك لعلي فضيلة عليهم كما كانت له صلى الله عليه
وسلم فضيلة تأكيدا وبيانا لما أراد من قيام الحجة، ونفي تأويل من تأول بغير معرفة.
ولو كان ذلك من النبي عليه السلام على طريق الولاء والملك لكان العباس بذلك أولى من
علي لأنه أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منه. وآخر الحديث [أيضا] يدل على أن
ذلك لم يكن لما ذكروه من العلة وهو قوله: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه
وهذا كله يدل على ما قلنا [ه] من تقدمه [على الناس] في الدين، وتفضيله على
العالمين، و[أن النبي صلى الله عليه وآله إنما] اختاره [لعلمه] بأنه لا يكون منه
تغيير ولا تبديل، وأن حاله واحدة، متصلة عداوته بعداوة الله، وولايته بولايته، كما
اتصل ذلك من النبي عليه السلام (1). [وقد ذكرنا من مدلول الحديث ما يلفت نظركم إلى
الحق] لتعلموا أن النظر في الحديث يوجب أن النبي إنما أراد بهذا الحديث إبانه علي
رضي الله عنه من المؤمنين جميعا، وإعلامهم أن منزلته في التفضيل عليهم، والتقدم لهم
بمنزلة عليه السلام (2). ففكروا في هذا الحديث فما أبين دلائله، وأوضح حجته
وتأكيده، وما أعجب قوته عند النظر فيه من جميع أسبابه ومعانيه. و[فكروا أيضا في]
قول عمر - له عندما سمع [من النبي صلى الله عليه وآله] هذا الحديث: بخ بخ [لك] يا
ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. فهذا حديث يؤكد بعضه بعضا، ويشهد
بشهادة واحدة، وينفي تحريف الشاكين والمقصرين، ويوجب قول أهل العلم واليقين.
(هامش)
(1) ولتفرد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بتلك المزايا أمر الله نبيه أن ينصبه
خليفة له ووصيا، فامتثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمره تعالى، فنصبه علما
للناس وإماما لهم. (2) فهو المتعين لأن يخلفه على أمته ويقيمه مقامه، ويجعله إماما
وقائدا لهم. (*)
ص 213
وقد قال قوم (2): إن معنى الحديث إنما هو في الولاية، فمعنى قوله: من كنت
(هامش)
(2) وقد قال به قبلهم خالق الأقوام وبارئ الأكوان، فقال لنبيه: يا أيها الرسول
بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته [67 / المائدة: 5] فقد روى
الواحدي في أسباب النزول 150، عن أبي سعيد الخدري، قال: نزلت هذه يوم غدير خم في
علي بن أبي طالب. وروى الحافظ الحسكاني في الحديث: (247 - 250) بأسانيده عن عبد
الله بن أبي، أو في الصحابي والإمام أبي جعفر عليه السلام. وعن جابر بن عبد الله،
وعبد الله بن العباس الصحابيين قالا: أمر الله محمدا أن ينصب عليا للناس ويخبرهم
بولايته، فتخوف رسول الله أن يقولوا حابا ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى
الله إليه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك.. فقام رسول الله بولايته
يوم غدير خم. وروى السيوطي في الدر المنثور عن الحافظ ابن مردويه، وابن عساكر
بسنديهما عن أبي سعيد الخدري قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا يوم
غدير خم فنادى له بالولاية، هبط جبرئيل عليه بهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم..
. أقول: ورواه أيضا بأسانيد الحافظ الحسكاني في الحديث: (211) وتواليه من شواهد
التنزيل: ج 1، ص 157. ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (585 - 586) من ترجمة أمير
المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2 ص 85 ط 1. وقد روى الخطيب والحافظ
الحسكاني وابن عساكر وابن كثير والخوارزمي وابن المغازلي بأسانيد عن أبي هريرة قال:
من صام يوم ثماني عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرا، وهو يوم غدير خم لما أخذ
النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب فقال: ألست ولي المؤمنين؟ قالوا: بلى
يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن
أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم، فأنزل الله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم..
. وروى الحافظ الحسكاني في الحديث: (211) وما بعده، والخوارزمي في الفصل: (14) من
مناقبه والفصل: (4) من مقتله: ج 1، ص 47 واللفظ له - وقد حذفنا الأسانيد اختصارا -
قال: عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري: أن النبي يوم دعا الناس إلى غدير خم
أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقم - وذلك يوم الخميس - ثم دعا الناس إلى علي
فأخذ بضبعه فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه ثم لم يتفرقا حتى نزلت هذه الآية:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة = (*)
ص 214
مولاه فعلي مولاه : من كنت وليه فعلي وليه. ويدل (1) على ذلك قول الله: ذلك بأن
(هامش)
= ورضي الرب برسالتي والولاية لعلي ثم قال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه
وانصر من نصره واخذل من خذله. فقال حسان بن ثابت: يا رسول الله لي أن أقول أبياتا؟
فقال: قل ببركة الله تعالى. فقال حسان ابن ثابت: يا معشر مشيخة قريش اسمعوا شهادة
رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع
بالرسول مناديا بأني مولاكم نعم ووليكم * فقالوا: ولم يبدو هناك التعاميا إلهك
مولانا وأنت ولينا * ولا تجدن في الخلق للأمر عاصيا فقال له: قم يا علي فإنني *
رضيتك من بعدي إماما وهاديا فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا والقصة ذكرها أيضا مع الأبيات
السيوطي في كتاب الأزهار فيما عقده الشعراء من الأشعار. أقول: وبما قدمناه ظهر قول
كثير من الأقوام القائلين في هذا الحديث بمثل ما قال الله تبارك وتعالى فيه: منهم
رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال بعد ما نصب عليا إماما للناس وخليفة له: الله
أكبر على إكمال الذين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي. ومنهم أمين
الوحي جبرئيل حيث هبط بأمر من الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وقال له:
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وأن لم تفعل فما بلغت رسالته.. . ومن
القائلين بهذا القول من أصحاب رسول الله ج صلى الله عليه وآله جابر بن عبد الله
الأنصاري وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن أبي أوفى وعبد الله بن العباس وأبي هريرة
الأموي وحسان بن ثابت الأنصاري العثماني وعمر ابن الخطاب. وسيمر عليك قريبا في
التعليقات القادمة شعر أمير المؤمنين عليه السلام: وأوجب لي ولايته عليكم * رسول
الله يوم غدير خم وستقرأ أيضا ما كتبه عمرو بن العاص إلى خالهم معاوية لما ألح عليه
بطلب خراج مصر، فكتب إليه عمرو مهددا إياه إن أصر على الطلب منه ومنه: وكم قد سمعنا
من المصطفى * وصايا مخصصة بعلي وفي يوم خم رقى منبرا * وبلغ والصحب لم يرحل فؤمنحه
إمرة المؤمنين * من الله مستخلف المنهل ومن أراد المزيد فعليه بما ألفه علماء
المسلمين في هذا الحديث قرنا بعد قرن، مثل رسالة الحافظ ابن عقدة وحديث الغدير
للطبري المفسر والمؤرخ الشهير، وحديث الغدير للحافظ الدارقطني والذهبي وعبيد الله
الحسكاني ومسعود السجستاني وغيرهم.. وعليك بكتاب الغدير، وحديث الغدير من كتاب
عبقات الأنوار فإن فيهما ما تشتهيه الأنفس. (1) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: يريد:
من كنت وليه، فيدل على ذلك قول الله.. . (*)
ص 215
الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [11 / محمد: 47] فإنما أراد الله
بهذه الولاية فخص علي بن أبي طالب بهذه الكلمة [لأنه أراد منها الرئاسة والإمارة،
ولو كان يريد منها غير الرئاسة والإمارة من مثل المحبة والنصرة] و[كان] المؤمنون
جميعا في معنى الولاية [بهذا التفسير] داخلون لأنهم لله ولرسوله موالون [لم يكن وجه
لتخصيصه عليا بها] كما خصت الأنصار باسم النصرة، والمؤمنون جميعا في معنى النصرة
[لله] ولرسوله داخلون (1). [قال أبو جعفر الإسكافي]: وهذا أيضا خطأ من التأويل (2)
بدلالة أول الحديث لأن قوله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وبكل مؤمن ومؤمنة؟
[وهذا] يدل
(هامش)
(1) وها هنا في كلام أبي جعفر في تبيين مرام الله ورسوله والمؤمنين اختلال فاحش،
ولذا زدنا ما بين المعقوفات ترميما لبعض اختلالاته،. وأما قوله: كما خصت
الأنصار.. فهذا ليس من كلام أهل الحق المنقادين والتابعين لأوامر الله ورسوله.
ولعل في هذا المقام وقع في الكلام حذف، أو أن كاتب الأصل صحف بعض الكلمات، أو تصرف
في الكلام بالتقديم والتأخير. (2) عفى الله عنك يا أبا جعفر لم تكن بغباوة الحشوية
حتى تكابر في تجاه البديهيات، كيف يكون هذا المعنى تأويلا وهو الظاهر المتبادر من
الكلام، وبمعونة القرائن الحالية والمقالية الحافة بالكلام يكون نصا وصريحا فيه
بحيث لو تردد أحد في فهم المراد منه يعد من سلب منه القوة الإدراكية أو إيمانه
بالله ورسوله. ومثل أبي جعفر في هذا المقام مثل طبيب يريد أن يداوي من غير دواء،
كما أن مثل كثير من رواة الحديث من المقلدة. مثل صيدلي عنده أقسام من الدواء ولكن
لا يعلم منها إلا الاسم، ولا يدرك من هويتها إلا اللون، وكان الواجب على أبي جعفر
أن ينظر إلى جميع الأخبار الواردة في المقام ثم يبدي رأيه. يا أبا جعفر، أهذا
تأويل، وقد قال الله في شأنه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم
تفعل فما بلغت رسالته ؟. أهذا تأويل وقد قال الله في عظمته: اليوم أكملت لكم
دينكم.. ؟ أهذا تأويل ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيه: الله أكبر على
إكمال الدين.. ورضا الرب برسالتي، والولاية لعلي؟؟ أهذا تأويل؟ والصحابي الكبير أبو
سعيد الخدري يقول: لما نصب رسول الله عليا يوم غدير خم فنادى = (*)
ص 216
[على] أنه لم يرد بذلك الولاية لأن هذا المعنى لا يجوز أن يكون لهم لأن الوليين كل
واحد منهما مولى صاحبه (2). وقوله: ألست أولى بكل مؤمن ومؤمنة؟ وأولى بالمؤمنين
من أنفسهم؟ إيجاب أن للنبي عليه السلام عليهم في ذلك ما ليس لهم في التقدمة،
وكذلك علي مولاهم أنه أولى بهم من جهة التقدمة لأن آخر الكلام على أوله مردود، فمن
أراد أن يدخل في آخر الحديث معنى يزيل ما قلنا [ه] نفاه أول الحديث، ومن أراد أن
يدخل في أوله معنى غير ما وصفنا [ه] نفاه آخر الحديث، فالحديث يشهد بعضه لبعض بما
قلنا، ويوجب الحجة الواضحة بما إليه ذهبنا (2).
(هامش)
= له بالولاية، نزل عليه جبريل بهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم.. . أهذا تأويل؟
وعمر بن الخطاب في نفس ذلك اليوم يخاطب عليا ويقول: بخ بخ لك أصبحت مولاي ومولى كل
مؤمن ومؤمنة. وبعد ذلك كان يقول هو مولاي، فمن لم يكن مولاه فليس بمؤمن؟!!. أهذا
تأويل؟ والإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول: فأوجب لي ولايته عليكم * رسول الله
يوم غدير خم أهذا تأويل؟ وحسان بن ثابت ينشد في ذلك اليوم بمحضر النبي والمهاجرين
والأنصار، ويقول عن لسان النبي: فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما
وهاديا أهذا تأويل؟ وعمرو بن العاص يحكي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله
ويهدد معاوية ويقول: وكم قد سمعنا من المصطفى * وصايا مخصصة في علي وفي يوم خم رقى
منبرا * وبلغ والصحب لم يرحل فامنحه إمرة المؤمنين * من الله مستخلف المنحل وفي كفه
كفه معلنا * ينادي بأمر العزيز العلي وقال: فمن كنت مولى له * علي له اليوم نعم
الولي ومن أراد المزيد فعليه بكتاب الغدير، وفضائل الخمسة: ج 1، ص 392. وشواهد
التنزيل، وترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2 ص 1 - 90.
وعبقات الأنوار، والمراجعات.. (1) بل هذا الصدر يدل على خصوص الإمارة والرئاسة،
وإلا فأي فائدة في ذكره، ويدل عليه أيضا تفريع ما بعده عليه حيث قال: فمن كنت مولاه
فعلي مولاه. . وقول أبي جعفر: لأن الوليين كل واحد منهما مولى صاحبه طريف جدا،
ويلزم على قوله إذا قلنا: السلطان ولي الرعية. أن يكون كل واحد من السلطان والرعية
وسلطانا! لأن كل واحد منهما مولى صاحبه!!! (2) وبما قدمناه من التعليقات تجلي الأمر
لكل ذي شعور وتبين له أن حجة المصنف ها هنا داحضة. (*