الصفحة السابقة الصفحة التالية

المعيار والموازنة

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

 

ص 226

[في أن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كان قد فاق العالمين زهدا وصبرا وعبادة، وكان أزهدهم في الزخارف الدنيوية وأصبرهم عند الهزاهز والشدائد وأعبدهم في ساحات المناجاة مع الله ومقام العبودية]

ثم ارجعوا إلى النظر في الزهد، ودرجته لتعلموا أن علي بن أبي طالب قد برز على الزاهدين بزهده وصبره، وسبق العابدين بعبادته (1). فكان ممن يطعم الطعام على حب الله مسكينا ويتيما وأسيرا (2)

(هامش)

(1) وروى ابن أبي الحديد في شرح المختار: (57) من نهج البلاغة: ج 4 ص 110، ط الحديث بمصر، قال: وروى زرارة [ابن أعين] قال: قيل لجعفر بن محمد عليه السلام: إن قوما ها هنا ينتقصون عليا عليه السلام!! قال: بم ينتقصونه لا أبا لهم؟! وهل فيه موضع نقيصة؟ والله ما عرض لعلي أمران قط كلاهما لله طاعة إلا عمل بأشدهما وأشقهما عليه. ولقد كان يعمل العمل كأنه قائم بين الجنة والنار ينظر إلى ثواب هؤلاء فيعمل له، وينظر إلى عقاب هؤلاء فيعمل له. وإن كان ليقوم إلى الصلاة، فإذا قال: وجهت وجهي تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه. ولقد أعتق ألف عبد من كد يده، كلهم تعرق فيه جبينه وتحفى فيه كفه. ولقد بشر بعين نبعت في ماله مثل عنق الجزور فقال: بشر الوارث بشر. ثم جعلها صدقة على الفقراء والمساكين وابن السبيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ليصرف الله النار عن وجهه، ويصرف وجهه عن النار. أقول: وللحديث شواهد جمة ذكرناها في شرح المختار: (63) من باب الوصايا من كتاب نهج السعادة: ج 8 ص 445 وما بعدها. وله أيضا شواهد أخر تجدها في شرح المختار: (34) من نهج البلاغة من شرح ابن أبي الحديد: ج 2 ص 201 (2) وانظر الأحاديث الواردة في تفسير سورة: هل أتى من كتاب شواهد التنزيل: ج 2 ص 299 وما يليها. (*)

ص 227

وكان من المؤثرين على أنفسهم وإن كانت بهم خصاصة (1). وكان من الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس. وكان من الصابرين على البأساء والضراء. وكان ممن قسم بالسوية، وعدل في الرعية، ولم يرزأ شيئا من مال الله (2) ولم تدع

(هامش)

(1) وانظر ما رواه الحافظ الحسكاني في تفسير الآية (9) من سورة الصف من كتاب شواهد التنزيل: ج 2

ص 246

ط 1. (2) لم يرزأ - على وزن يحسب -: لم يصب ولم يؤثر لنفسه شيئا منه. وهذا الأمر مما تسالم عليه أولياؤه وأعداؤه معا ولم يجد أعداؤه سبيلا إلى إنكاره مع شدة حرصهم على تشويه ساحته وعلو مقامه بالأخذ بالشبهات والتعلق بالمعضلات. وقد عرفه رسول الله صلى الله عليه وآله بهذا قبل أن يكون له ولاية على مال أو كفالة على ثروة أو غنيمة وأنفال، كما عرفه صلى الله عليه وآله بكثير من مكارم أخلاقه،. وقد رواه أبو نعيم في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من حلية الأولياء: ج 1، ص 71، قال: حدثنا أبو الفرج أحمد بن جعفر النسائي، حدثنا محمد بن جرير، حدثنا عبد الأعلى بن واصل، حدثنا مخول بن إبراهيم، حدثنا علي بن حزور، عن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي إن الله تعالى قد زينك بزينة لم تزين العباد بزينة أحب إلى الله تعالى منها، وهي زينة الأبرار عند الله عز وجل [وهي] الزهد في الدنيا، فجعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا، ولا ترزأ الدنيا منك شيئا.. ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (713 - 714) من ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2

ص 212

ط 1، وعلقناه عليه أيضا عن مصادر. ورواه أيضا الحافظ الحسكاني في الحديث: (548 و549) من كتاب شواهد التنزيل: ج 1، ص 395 ورواه أيضا الطبراني في كتاب الأوسط.. كما رواه عنه في مجمع الزوائد: ج 9 ص 132. ورواه المتقي الهندي نقلا عن الطبراني والخطيب والحاكم. في كنز العمال: ج 6 ص 158 - 159، ط 1. (*)

ص 228

عليه زلة، ولا تهمة ولا تكبر ولا حمية، وفيه نزلت: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون [55 / المائدة: 5] تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه إذ قرن الله ولايته بولاية رسوله. (1) وفيه نزلت: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا؟ لا يستوون، أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون، وأما الذين فسقوا فمأواهم النار [20 / السجدة: 32]. وكان إذا اجتمع عنده مال من مال المسلمين [أنفقه عليهم ثم] قال: هذا جناي وخياره فيه * وكل جان يده إلى فيه

(هامش)

(1) بنحو الاطلاق بلا قيد وشرط فهو المعصوم في أقواله وأفعاله فيجب متابعته بنحو الاطلاق ولا يجوز مخالفته والتقاعد عنه كما لا يجوز التخلف عن الله ورسوله، فهو الإمام المتبع والقائد المطاع. (*)

ص 229

[ذكر أعمدة من شوامخ علوه وعظمته وكظمه الغيظ وصبره]

 وبلغ من كظمه الغيظ ما رأيتم من صبره على الخليفتين، وما كان من مشاركته لهم في الأمر، ومؤازرتهم على الرأي [حينما كانا يراجعان إليه عند ضيق خناقهم وعجزهم عن تدبير ما ابتليا به]. وقد علمتم أنهما لم يشاوراه في عقد الخلافة، ولم يقطعاه قطيعة، ولا ولياه ولاية. فقد تعلمون ما ظهر من حرص قوم على الولاية، وما كان [برز لهم] من الرغبة الشاملة (1) [وإنما أذكركم بهذه الحقائق] لتعلموا أن علي بن أبي طالب لم يكن غضبه ولا رضاه إلا لله تعالى، يغضب إذا عصي ربه، ويرضى إذا أطيع الله، ويسلم ما دامت له الألفة، ويعين على اجتماع الكلمة، ويكظم ما سوى ذلك مما يناله في نفسه خاصة، دون الدين. فقد نازعت زوجته [أبا بكر وعمر] في فدك، وشهد علي [على] دعواها فلم

(هامش)

(1) حيث تركوا تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله ودبوا ودرجوا إلى سقيفة بني ساعدة وأبرموا ما سولت لهم أنفسهم، ولم يحضروا دفن رسول الله صلى الله عليه وآله. ثم اقتدى بهم طلحة والزبير، ثم معاوية وجميع من أتى بعده من ظلمة بني أمية وبني العباس. (*)

ص 230

يفد ذلك [في استرجاع فدك إليها] فصبر على مر الحق (1) عندما ظهر [من أبي بكر وعمر] من [الحرص البالغ والعزم القاطع على] الحكم [عليها] ثم ولي الأمر فأمضى ذلك على ما لم يزل (2).

(هامش)

(1) عفى الله عنك يا أبا جعفر، كيف ركنت إلى خرافة الحشوية واتباع خرافات ومختلقات معاوية، ورضيت لنفسك ما تذم به الحشوية؟ أليس من الواضحات الأولية أن منعهم فاطمة الزهراء صلوات الله عليها كان من أفحش الظلم، وكان أساس كل مرارة وظلامة ابتلي بها الأمة الإسلامية. يا سبحان الله كيف يكون حقا ما تدعي فاطمة بنت رسول الله التي أذهب الله عنها الرجس - خلافه؟؟؟!!! يا سبحان الله كيف يكون حقا ما يؤذي بضعة المصطفى التي قال أبوها في حقها: يؤذيني ما يؤذيها، ويؤلمني ما يؤلمها، ويسخطني ما يسخطها، ويرضيني ما يرضيها. يا سبحان الله!!! العمل الذي يوجب غضب بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وتهجر القوم بسببه تبرما منهم وإنكارا عليهم كيف يمكن أن يحمل على الحق؟! فإن كان هذا العمل حقا فلا بد أن يكون غضب الزهراء باطلا، وأن يكون غضب رسول الله وأذاه من جهة غضب ابنته وأذيتها باطلا، وهذا هو الرد على رسول الله - وعلى كونه متبعا للحق - الذي كان يخوف أبو جعفر النواصب بأنه موجب للكفر!!! يا سبحان الله! كيف يكون صنيعهم حقا وقضاؤهم قسطا، ومحور الحق علي بن أبي طالب يشهد لبنت رسول الله خلافا لحكمهم وقضائهم؟! أيكون حكمهم حقا وباب مدينة علم النبي على خلافهم!!!؟ أيكون قضاؤهم في أخذ فدك قسطا، وعديل القرآن والحق علي بن أبي طالب الذي يدور مع القرآن والحق وهما معا يدوران معه، يكون على ضدهم وخلافهم؟؟؟!! كيف يكون أخذهم فدك حقا وصوت الحق علي بن أبي طالب عليه السلام قد ملأ الدنيا صراخا وصياحا وشكاية وتظلما بقوله: بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين!! ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك؟!. (3) عفى الله عنك يا أبا جعفر لم تكن بليدا ولا كليل اللسان عن التعبير بالواقع، ما هذا التسامح في البيان، وعدم العناية للتعبير عن الواقع على ما هو عليه؟ هل يمكن إمضاء الظلم؟ هل تعهد من أولياء الله في آن من آنات الدنيا أنهم جوزوا الظلم؟! أو تصديق الظالمين ومجاراتهم إياهم في جورهم وعتوهم وطغيانهم؟!!! = (*)

ص 231

(هامش)

= معاذ الله أن ينسب إلى خليفة النبي ووصيه أن يمضي ظلم الظالمين أو يوقع أو يصدق جور الجائرين، وهو نصب للردع عن الظلم، وتشويه أعمال الظالمين، وتقبيح صنيعهم، وتحذير العالمين عن اتباع خطواتهم. نعم، سكت عليه السلام عن التعرض لاستردادها ولم يسترجعها لما كان تمركز في داخلة المسلمين من الاختلالات الفادحة والانحرافات الشاسعة، وأراد أن يتدرج في إصلاح الاختلالات حتى لا يتسع الفتق عليه وعلى المسلمين. وكيف يمكن أن يكون عدم استرداده لفدك في أيام خلافته دالا على إمضائه عمل القوم مع أنه عليه السلام يشكوهم إلى الله ويقول: ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك؟... ويقول: اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفئوا إنائي وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري.. فراجع تمام كلامه في المختار: (25 و215) من نهج البلاغة. وكيف يمكن أن يتمسك أحد بعدم استرداد علي عليه السلام الفدك إلى أهل البيت، ويتفوه بأن هذا إمضاء منه عليه السلام لعمل القوم؟ مع ما يلمسه من انحراف قريش عن علي عليه السلام وتقليبهم الامور عليه، وإجماعهم على خلافه؟! وكيف يدل عدم استرجاعه فدكا على توقيعه لعمل القوم؟ وهو القائل: لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيرت أشياء. كما في المختار: (275) من الباب الثالث من نهج البلاغة وغيره. وكيف يصح الاستدلال بعدم تغييره عليه السلام قضاء القوم وسننهم على إمضائه لسننهم؟ مع ما صح وثبت عنه عليه السلام أنه أجاب القضاة في أيام خلافته وقال لهم: اقضوا على ما كنتم تقضون حتى يكون للناس اجتماع. (*)

ص 232

[ذكر صفحة من صفحات صبره، وتحمله عن حاسديه ومعانديه وعدم تعرضه لهم].

 وبلغ من صبره أنه قعد عن خلافته قوم فلم يحبسهم ولم يكرههم، وتكلموا فلم يعاقبهم، ولم ينفهم، وولاهم ما تولوا ولم يفعل بهم كما فعل من ذكرتم بسعد بن عبادة (1)، وكما رويتم من نفي عثمان بن عفان لأبي ذر إلى الربذة، وما فعل بعمار وابن مسعود وغيرهم.

(هامش)

(1) روى ابن عبد ربه تحت الرقم الثالث من كتاب العسجدة الثانية من العقد الفريد: ج 3 ص 63 ط 2، وفي ط 2: ج 5 ص 13، قال: الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر [هم]: علي والعباس والزبير وسعد بن عبادة. فأما علي والعباس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم!!!. فأقبل [عمر إلى بيت فاطمة] بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار!! فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة!!.. وساق الكلام إلى أن قال: وأما سعد بن عبادة فإنه رحل إلى الشام. قال أبو المنذر هشام بن محمد الكلبي: بعث عمر رجلا إلى الشام فقال [له]: ادعه إلى البيعة واحمل له بكل ما قدرت عليه، فإن أبى فاستعن الله عليه. فقدم الرجل الشام: فلقيه بحوران في حائط فدعاه إلى البيعة، فقال [سعد]: لا أبايع قرشيا أبدا. قال: فإني أقاتلك. قال: وإن قاتلتني. قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟ قال: أما من البيعة فأنا خارج. فرماه بسهم فقتله. وأيضا قال ابن عبد ربه في العقد الفريد: [وعن] ميمون بن مهران، عن أبيه قال: رمي سعد بن عبادة = (*)

ص 233

(هامش)

= في حمام بالشام فقتل. [وعن] سعيد بن أبي عروبة، عن ابن سيرين قال: رمي سعد بن عبادة بسهم فوجد دفينا في جسده فمات فبكته الجن فقالت: وقتلنا سيد الخزرج * سعد بن عبادة ورميناه بسهمين * فلم تخط فؤاده وقال ابن أبي الحديد في شرح المختار: (62) من الباب: (2) من نهج البلاغة: ج 17، ص 223: الطعن الثالث عشر على أبي بكر قولهم: إنه كتب إلى خالد بن الوليد وهو على الشام يأمره أن يقتل سعد بن عبادة، فكمن له [خالد] هو وآخر [كان] معه ليلا، فلما مر بهما [سعد] رمياه فقتلاه!. وهتف صاحب خالد في ظلام الليل - بعد أن ألقيا سعدا في بئر هناك فيها ماء ببيتين: نحن قتلنا سيد الخزرج * سعد بن عبادة ورميناه بسهمين * فلم تخط فؤاده يوهم أن ذلك شعر الجن، وأن الجن قتلت سعدا. فلما أصبح الناس فقدوا سعدا، وقد سمع قوم منهم ذلك الهاتف فطلبوه فوجدوه بعد ثلاثة أيام في تلك البئر وقد أخضر فقالوا: هذا مسيس الجن. وقال مؤمن الطاق لسائل سأله: ما منع عليا أن يخاصم أبا بكر في الخلافة؟ فقال: يا ابن أخي خاف أن تقتله الجن!! ثم قال ابن أبي الحديد: الجواب: أما أنا فلا أعتقد أن الجن قتلت سعدا، ولا أن هذا شعر الجن، ولا أرتاب أن البشر قتله، وأن هذا الشعر شعر البشر، ولكن لم يثبت عندي أن أبا بكر أمر خالدا [بقتل سعد] ولا أستبعد أن يكون [خالد] فعله من تلقاء نفسه ليرضي بذلك أبا بكر - وحاشاه - فيكون الإثم على خالد، وأبو بكر برئ من إثمه، وما ذلك من أفعال خالد ببعيد. أقول: وقريبا مما نقلناه أولا عن ابن عبد ربه رواه أيضا البلاذري في آخر ترجمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذكر مراثيه من كتاب أنساب الأشراف من النسخة المخطوطة: ج 1 / الورق 141 / عن المدائني، عن ابن جعدبة، عن صالح بن كيسان. وعن أبي مخنف، عن الكلي وغيرهما. (*)

ص 234

[ذكر نبذة من عوالم عفوه وغفرانه، وغضه عمن أساء إليه وظلمه].

وبلغ من عفوه أنه يوم الحكمين كان في يده أسرى من أهل الشام فخلى سبيلهم. ومنعوه الماء ولم يمنعهم. ونادى يوم الجمل عند الطعن: أن لا تقحموا منازلهم، ولا تغنموا أموالهم، ولا تتبعوا المولي منهم (1).

(هامش)

(1) وكل ذلك من سيرته الميمونة من مقطوعات علم التاريخ، وقلما يوجد تاريخ يتعرض لأيام أمير المؤمنين وسيرته ويكون خاليا عن ذكر هذه المكارم والمحاسن المخصوصة به عليه السلام. وروي أنه عليه السلام كان جالسا في أصحابه فقال له رجل من الخوارج: قاتله الله كافرا ما أفقهه!! فوثب أصحابه ليقتلوه فقال [لهم]: رويدا إما سب بسب أو عفو عن ذنب. كما رواه السيد الرضي في المختار: (420) من باب القصار من نهج البلاغة. وروي ابن أبي الحديد في شرح المختار: (57) من نهج البلاغة: ج 4 ص 109، طبع الحديث بمصر، قال: وروى زرارة بن أعين عن أبيه، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام قال: كان علي عليه السلام إذا صلى الفجر لم يزل معقبا إلى أن تطلع الشمس فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس فيعلمهم الفقه والقرآن. وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك، فقام يوما فمر برجل، فرماه [الرجل] بكلمة هجر قال: [و] لم يسمه محمد بن علي عليه السلام - فرجع عوده إلى بدئه حتى صعد المنبر وأمر فنودي الصلاة جامعة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال: أيها الناس إنه لا شيء أحب إلى الله ولا أعم نفعا من حلم إمام وفقهه، ولا شيء أبغض إلى الله ولا أعم ضررا من جهل إمام وخرقه، ألا وإنه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ، ألا وإنه من أنصف من نفسه لم يزده الله إلا غزا، ألا وإن الذل في طاعة الله أقرب إلى الله من التعزز في معصيته. ثم قال: أين المتكلم آنفا؟ فلم يستطع الانكار فقال: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين. فقال: أما إني لو أشاء لقلت. فقال: إن تعف وتصفح فأنت أهل ذلك. قال: عفوت وصفحت. (*)

ص 235

[ذكر أشعة من أنوار إفضاله على المعدمين، وإيثاره إياهم على نفسه وأهل بيته الطاهرين].

 وبلغ من تفضله وإيثاره على نفسه، أن عمر سأله سهمه من الفئ - وهو سهم ذي القربى - ليعود به على المسلمين فجادلهم به تفضلا وكرما (1).

(هامش)

(1) وللقصة مصادر وشواهد، وقد ذكرها البيهقي في باب سهم ذي القربى من كتاب قسم الفئ والغنيمة من السنن الكبرى: ج 6 ص 343 قال: أخبرنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزكي، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأنا الربيع، أنبأنا الشافعي، أنبأنا إبراهيم، عن مطر الوراق ورجل لم يسمه كلاهما عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمان ابن أبي ليلى قال: لقيت عليا عند أحجار الزيت فقلت له: بأبي وأمي ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهل البيت من الخمس؟ فقال علي: أما أبو بكر فلم يكن في زمانه أخماس وما كان فقد أوفاناه. وأما عمر فلم يزل يعطيناه حتى جاءه مال السوس والأهواز - أو قال: الاهوازء أو قال: فارس. قال الشافعي: أنا أشك، فقال في حديث مطر أو حديث آخر - فقال: في المسلمين خلة فإن أحببتم تركتم حقكم فجعلناه في خلة المسلمين حتى يأتينا مال فأوفيكم حقكم منه؟ فقال العباس لعلي: لا تطمعه في حقنا. فقلت له: يا أبا الفضل ألسنا أحق من أجاب أمير المؤمنين ورفع خلة المسلمين؟ فتوفي عمر قبل أن يأتيه مال فيقضيناه. وقال الحكم في حديث مطر، والآخر: إن عمر قال: لكم حق ولا يبلغ علمي إذا كثر أن يكون لكم كله، فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم؟! فأبينا عليه إلا كله، فأبى أن يعطينا كله. قال الشافعي فيما لم أسمعه من أبي زكريا -: وقد روى الزهري عن ابن عباس، عن عمر قريبا من هذا المعنى، وذكره في القديم من حديث يونس عن الزهري. أقول: وقريبا منه جدا رواه قبله مع شواهد أخر بأسانيد أخر. (*)

ص 236

ومما يحقق ذلك ما يؤثر عنه من حديث المقداد: ذكروا أن عليا قال يوما لفاطمة: هل عندك شيء تطعميني؟ قالت: لا والله يا أبا الحسن ما عندنا منذ ثلاث، شيء إلا شيء أوثرك به على نفسي وعلى ابني! قال لها: فهلا أعلمتيني؟ قالت: إني لاستحيي من ربي أن أكلفك ما لا تقدر عليه!!

(هامش)

وأما ما ذكره في صدر هذا الحديث: من أن أبا بكر لم يكن في زمانه أخماس وما كان فقد أوفاناه. فهو معارض بما ذكره البيهقي في أوائل هذا الباب ص 342 من أن أبا بكر كان يقسم الخمس غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما كان النبي يعطيهم منه. ومثله رواه أحمد بسند صحيح، كما رواه عنه الهيثمي في باب قسم الغنيمة من مجمع الزوائد: ج 5 ص 341. وأيضا يدل على خلاف هذا الصدر دلالة قطعية ما هو من ضروريات التاريخ من أن أبا بكر وصاحبه قطعا فدك عن ابنة رسول الله وغصباها منها. والحديث رواه أيضا الحافظ الحسكاني تحت الرقم: (294) من شواهد التنزيل: ج 1، ص 219 وقال: رواه جماعة عن هاشم. وهكذا رواه البخاري في ترجمة الحسين بن ميمون الخندقي تحت الرقم: (2860) من التاريخ الكبير: ج 1، ق 2 ص 385، ولكن جرى على منهاجه الانحرافي فأسقط ذيل الحديث بلا نصب قرينة، ولكن لم يناقش في سند الحديث. ولذيل الحديث أيضا شواهد كثيرة جدا وقد ذكر ثلاثة منها البيهقي بعد الرواية المتقدمة، كما تجد أيضا شواهد أخر في الموضع المذكور من شواهد التنزيل وتعليقه، وكذلك في أول كتاب قسم الفئ من المستدرك: ج 2 ص 128. ورواه أيضا عبد الرزاق في باب ذكر الخمس وسهم ذي القربى من كتاب الجهاد تحت الرقم: (9480) من المصنف: ج 5 ص 238: عن معمر عن الزهري: أن ابن عباس سئل عن سهم ذي القربى؟ [ف‍] قال: كان لنا فمنعناه قومنا!!! فدعانا عمر فقال: ينكح فيه أياماكم ويعطى فيه غارمكم. فأبينا [عليه] فأبى [علينا] عمر. ورواه أيضا أحمد بن حنبل في مسند عبد الله بن عباس تحت الرقم: (1967 و2235 و2812 و2943 و3299 في: ج 1 ص 224 و296 و308 و320 ط 1، وهذا نص الحديث: (2943) في ص 320 ط 1، وفي ط 2 ج 4 ص 338 قال: حدثنا عثمان بن عمر، حدثني يونس عن الزهري، عن يزيد بن هرمز: أن نجدة الحروري حين خرج من فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن تراه؟ قال: هو لنا لقربي رسول الله صلى الله عليه قسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وقد كان عمر عرض علينا شيئا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه وأبينا أن نقبله وكان الذي عرض عليهم أن يعين ناكحهم وأن يقضي عن غارمهم، وأن يعطي فقيرهم، وأبى أن يزيدهم على ذلك. (*)

ص 237

فخرج [علي] من عندها فتحمل دينارا أخذه قرضا فتلقاه المقداد نصف النهار، وقد وضع المقداد كمه على رأسه من شدة الحر، فقال له علي: ما أخرجك في هذه الحال وأراك كالحيران؟ قال: خلني ولا تسألني. قال: لتخبرني. قال: خلني يا أبا الحسن ولا تكشفني. قال: يا أخي إنه لا يسعني أن أخليك، ولا يسعك أن تكتمني. قال / 70 / خرجت من منزلي هاربا على وجهي وذلك لأني رأيت صبياني ينضاغون جوعا (1) فلم يقو على ذلك صبري. فأخرج علي الدينار فدفعه إليه، ثم قال: ما أخرجني إلا ما أخرجك. ثم مضى علي إلى المسجد. فلما فرغ رسول الله عليه السلام من صلاة المغرب خرج من المسجد، وركض عليا برجله وأتبعه علي فوقف على باب المسجد، فلما لحقه قال له النبي عليه السلام: هل عندك عشاء؟ قال علي: فكرهت أن أقول نعم. وقد علمت أني لم أخلف في منزلي شيئا، واستحييت أن أقول: لا. فقال لي: إما [أن] تقول: نعم، فنمضي معك، وإما أن تقول: لا فندعك. قال: فقلت: نمضي يا رسول الله. فمضى هو وعلي إلى منزل فاطمة، فلما دخل قال النبي عليه السلام: هاتي ما عندك يا فاطمة. قال: فأخرجت إليه مائدة عليها طعام طيب لم أر أحسن منه لونا، ولا أطيب ريحا. فنظر إليها علي نظرا وأحد النظر، فقالت: ما أشد نظرك يا أبا الحسن. قال: وكيف لا يكون كذلك وقد زعمت أنه لا شيء عندك. فقالت: والله ما كذبتك. فقال له النبي عليه السلام: هذا رزق من الله بدل دينارك، الحمد لله الذي جعلك مثلا لزكريا عليه السلام، وجعلها مثلا لمريم: كلمات دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال: يا مريم أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من شاء بغير حساب [37 / آل عمران:] (2).

(هامش)

(1) أي يبكون من الجوع، ويتضورون ويتلوون ظهرا لبطن. (2) وهذا الحديث ذكره ابن شاهين قي رسالته التي جمعها في فضائل الزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليهما = (*)

ص 238

وبلغ من صبره ما إن كان الجوع إذا اشتد به وأجهده خرج حتى يؤجر نفسه في سقي الماء بكف تمر لا يسد جوعته ولا خلته، فإذا أعطى أجرته لم يستبده به وحده حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه من الجوع مثل ما به، فيشتركان جميعا في أكله (1). فأين مثل هذه إلا له؟ [ظ] قيمة قميصه ثلاثة دراهم، ونفقته في كفه! ولقد أخرج يوما سيفه فقال: من يشتري هذا مني، فلو كان عندي إزار ما بعته (2).

(هامش)

= وعلى آلهما، وقد كتبتها بخط يدي، ولكن لم تكن تحضرني حينما حققت هذا الكتاب. وقد رواه أيضا عنه الحافظ ابن شهرآشوب. ورواه أيضا عن ابن شيرويه في مناقب آل أبي طالب: ج 1، ص.. ورواه عنه في الباب: (102) من كتاب بحار الأنوار: ج 9 ص 515 ط 1 وقد رواه أيضا ابن عساكر في كتاب الأربعين الطوال. كما رواه عنه المحب الطبري في ذخائر العقبى ص 45 وعنه رواه في فضائل الخمسة: ج 2 ص 124 (1) وبهذا السياق رواه أحمد بن حنبل في مسند علي عليه السلام تحت الرقم: (1135) من كتاب المسند: ج 1، ص 135، ط 1، وفي ط 2: ج 2 ص 262. ورواه أيضا في مسنده عليه السلام تحت الرقم: (687) من كتاب المسند: ج 1، ص 90 ط 1، وفي ط 2: ج 2 ص 82 ولكن باختصار. كما رواه أحمد محمد شاكر في هامش الحديث: (1135) منه نقلا عن مجمع الزوائد: ج 41 ص 97 وقال: ونسبه أيضا لابن ماجة باختصار. أقول: ورواه على وجه آخر وبسند آخر في الحديث: (229) من المطبوع من كتاب الموفقيات ص 373 ط بغداد. كما رواه أيضا ابن أبي الدنيا في الحديث: (16) من كتاب الجوع / الورق 2 / ب /. ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (966) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2 ص 449 ط 1، على وجه آخر وبسند آخر. ورواه في منتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 56، عن أحمد والدورقي وابن مييع وعن حلية الأولياء. (2) ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (1235) وما بعده من ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق: ج 3 ص 189، ط 1، وانظر ما قبلهما وما بعدهما وما علقناه عليهما فإنها تغنيك عن غيرها. ورواه عنه وعن يعقوب بن سفيان وأوسط الطبراني وحلية الأولياء في باب: سيرته وفقره وتواضعه من منتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد: ج 5 ص 56 ط 1. (*)

ص 239

فهل ترون أحدا من الصحابة بلغ هذه المنزلة؟ ولما فرغ من حرب الجمل دعا بالعرفاء، فقالوا: قتلهم؟ ودعا بالوكلاء فقالوا: قتلتهم؟ فقال: بالله تخوفوني؟ هذا قميصي من نسج أهلي، وهذه نفقتي في كمي، والله إن خرجت بغير ما دخلت إني إذا لمن الظالمين (3)

(هامش)

(1) وقريبا منه رويناه عن مصدر آخر في المختار: (127) من نهج السعادة ج 1، ص 413 ط بيروت. (*)

ص 240

[ثواقب شواهد زهده وتواضعه وكلامه عليه السلام في نعت الكملين من الشيعة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله. وبيان مالية ما خلفه من ثيابه].

ويروى أن قوما تذاكروا أزهد أصحاب النبي عليه السلام عند عمر بن عبد العزيز فقال قوم: عمر. وقال قوم: أبا ذر. فقال عمر بن عبد العزيز: [أزهد الناس] علي بن أبي طالب (1). وكيف لا يكون كذلك، وقد قام فيهم يوما خطيبا فقال: ما رزأت من أموالكم شيئا إلا هذه القارورة أهداها إلي دهقان (2). وكان يجمع [الفقرأ] فيعطيهم الطعام ويجعلهم الرفقاء، فإذا أخذوا أمكنتهم جاء إلى رفقة منها فقال: هل أنتم موسعون؟ فيقولون: نعم. فيجلس فيأكل معهم (3).

(هامش)

(1) قال ابن أبي الدنيا في الحديث: (96) وتاليه من مقتل أمير المؤمنين عليه السلام / الورق 14 / ب /: أنبأنا أحمد بن حاتم الطويل، أنبأنا محمد بن الحجاج، عن مجالد، عن الشعبي: عن قبيصة بن جابر، قال: ما رأيت في الدنيا أزهد من علي بن أبي طالب. [وقال مجالذ أيضا:] أبنأنا علي بن الجعد، قال: سمعت الحسن بن [صالح بن] حي قال: تذاكروا زهاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه عند عمر بن عبد العزيز فقال بعضهم عمر. وقال بعضهم: فلان. فقال عمر بن عبد العزيز علي عليه السلام. والثاني رواه أيضا في الحديث: (355) من كتاب ذم الدنيا / الورق 43 / أ /. ورواه ابن عساكر بسنده عن يحيى بن معين، عن علي بن الجعد.. في الحديث: (1254) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 202 ط 1. وراجع أيضا الأحاديث التي رواها قبله فإنها تريك زهد علي عليه السلام ملموسا وأنه لا زاهد غيره. (2) وهذا رويناه عن مصادر كثيرة في المختار: (126) من نهج السعادة: ج 1، ص 411، ط 1. ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (1227) وما حوله من ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق ج 3 ص 181، كما رواه أيضا ابن أبي الحديد في شرح المختار: (34) من نهج البلاغة ج 2 ص 198. (3) وانظر الحديث: (122) وما حوله من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب أنساب الأشراف: ج 2 ص 136، ط 1. (*)

ص 241

فمن بلغ هذه المنزلة؟ في تواضعه وزهده، يخدمهم بنفسه، ويقدمهم قبله، ويكون دونهم في منازلهم. وكان ربما حضرت الصلاة، وقد غسل قميصه، فلا يكون عنده غيره فيلبسه قبل أن يجف، فيجففه وهو يخطب (1). فمن بلغ هذه المنزلة في لباسه؟ وذكروا أنه كرم الله وجهه خرج يوما، فإذا قوم جلوس فقال: من أنتم؟ فقالوا: نحن شيعتك يا أمير المؤمنين. فقال: سبحان الله فما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة؟ قالوا: يا أمير المؤمنين وما سيماء الشيعة؟ قال: عمش العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين (2). وذكروا أنه صلى يوما صلاة الفجر / 71 / فلما سلم انفتل عن يمينه، ثم مكث ساعة كان عليه الكآبة، ثم قلب يده، ثم قال (3): والله لقد رأيت أصحاب محمد عليه السلام، فما أرى اليوم إنسانا يشبههم، لقد رأيتهم يصبحون صفرا شعثا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزي، قد باتوا لله سجدا وقياما، يتلون كتاب ربهم، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله جل ثناؤه مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم.

(هامش)

(1) ورواه أيضا ابن أبي الحديد. (2) ورويناه أيضا في المختار: (108) من القسم الثاني من باب الخطب من نهج السعادة: ج 3 ص 412 عن مصادر أخر. (3) وهذا الكلام له مصادر كثيرة. ورواه أيضا السيد الرضي رحمه الله في ذيل المختار (0 5) من نهج البلاغة. كما رويناه أيضا في المختار: (344) من نهج السعادة: ج 2 ص 636. (*)

ص 242

والله لكان القوم باتوا غافلين. ثم نهض. [وإنما ذكرنا من سيرته الميمونة أشعات، ومن كلامه الجاذب بأعناق العباد إلى الله قبسات] لتعلموا أن بالاعتبار والفكرة نال هذه المنازل الرفيعة، وأنه يزداد على طول الأيام جدا وتشميرا لا يقصر ولا يتوانى. وكان رضي الله عنه إذا أتي بغلة ماله من ينبع اشترى الزيت والعجوة واللحم، فيتخذ لنفسه ثريدا يأتدمه (1) ويطعم الناس اللحم [و] ذلك معروف منه أيام كان بالكوفة. وذكروا أنهم قوموا ما خلف من الثياب فبلغ ثمنها تسعة دراهم.

(هامش)

(1) لعل هذا هو الصواب، وفي أصلي: ثريدا يرم.. (*)

ص 243

[عيادة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة العلاء بن زياد الحارثي وكلامه معه ومع أخيه عاصم بن زياد].

 وذكروا أنه لما قدم البصرة دخل على العلاء بن زياد الحارثي يعوده (1) فلما رأى سعة داره قال: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا [و] أنت إليها في الآخرة أحوج.؟ وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتؤدي فيها الحقوق، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة. قال [العلاء] يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال: وما له؟ قال: لبس العبا وتخلى عن الدنيا. قال: علي به. فأتي به، فقال [له]: يا عدو نفسه أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك؟ قال: ويحك! إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره (2).

(هامش)

(1) ومثله في المختار: (207) من نهج البلاغة، والصواب: الربيع بن زياد الحارثي كما في المختار: (114) من نهج السعادة: ج 1، ص 341 ط 1. (2) أي كيلا يهيج بالفقير فقره ولا يغلبه. يقال: باغ بفلان الدم - على زنة باع - وتبيغ به : هاج و تبوغ به الدم تبوغا : هاج. وباغه بوغا: غلبه. (*)

ص 244

فتفهموا عباد الله وتدبروا ما ذكرنا [ه] من أمور الطاهر الزكي العدل الرضي، سيد المؤمنين، وراحم المساكين، وقوة المستضعفين، وشريك الفقراء، وأمين الضعفاء، وجابر الكسير، ومغني اليتيم، والمساوي بعدله بين القريب والبعيد، [وهو] تعب نصب في جنب الله أيام حياته، منقطع القرين في زمانه، في كل مذكور من فضائله، هو كالأب الرحيم بمن وليه، يغذوهم صغارا، ويعدل عليهم كبارا، ويوردهم المناهل العذبة، يكلؤهم بعينه، ويقدمهم على نفسه في أيام حياته،

ص 245

[وصية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عند إشرافه على الخلاص من دار التعب والعناء ولحوقه بالملأ الأعلى] (1).

فلما احتضر وأيقن بمفارقة الدنيا، والقدوم على ربه، جمع ولده وأهله ثم أقبل على الحسن ابنه فقال: يا بني أنت أولى بالأمر بالدم بعدي، فإن عفوت فلك، وإن قتلت، فضربة مكان ضربة ولا تمثل. ثم قال: أكتب يا بني: هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون صلى الله على محمد وعلى أهل بيته. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين. ثم إني أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه / 72 / كتابي [هذا]

(هامش)

(1) ولهذه الوصية الشريفة أسانيد ومصادر جمة في كتب المسلمين، وذكرها السيد الرضي رحمه الله في المختار: (47) من الباب الثاني من نهج البلاغة، وذكرناها بمناسبات مختلفة في غير واحد من أبواب نهج السعادة فراجع. (*)

ص 246

من المؤمنين بتقوى الله ربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم. وانظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهون الله عليكم الحساب. والله الله في اليتامى فلا تغبوا أفواههم (1) ولا يضيعوا بحضرتكم، فإني سمعت نبي الله عليه السلام يقول: من عال يتيما حتى يستغني أوجب الله له بذلك الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار. والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم. والله الله في جيرانكم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم. والله الله في الفقراء والمساكين فشاركوهم في معيشتكم. والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان: إمام مهدي أو مطيع لله مقتد بهداه (2). والله الله في ذرية نبيكم (3) عليه السلام، لا تظلمن بين أظهركم وأنتم تقدرون على الدفع عنهم.

(هامش)

(1) هذا هو الظاهر الموافق لنهج البلاغة، أي تعاهدوا شؤونهم بحيث لا ينقطعون عن المأكل والمشرب في وقتهما كيلا يكونوا من جهة فقدان الغذاء والشراب كالماشية التي تورد الماء يوما وتترك يوما. والكلام على الكناية والاستعارة، ويصح أيضا أن يكون من قولهم: أغب القوم : جاءهم يوما وتركهم يوما: وفي أصلي: فلا تغبون أفواههم . ويحتمل أيضا أنه مصحف عن فلا تغبن أفواههم أي فلا تفسدن أفواههم، ولا تصيرن شفاههم منتنة من جهة عدم سبيلهم إلى الأكل والشرب في وقتهما. والمال واحد. (2) هذا هو الصواب الموافق لما ذكرناه في المختار: (65) من باب الوصايا من نهج السعادة: ج 8 ص 479، وفي أصلي هنا: أو مقتذي بهداه.. . (3) هذا هو الصواب المذكور في كثير من المصادر، وفي الأصل: والله الله في ذمة نبيكم.. . (*)

ص 247

والله الله في الضعيفين، النساء وما ملكت أيمانكم، لا تخافن في الله لومة لائم، يكفكم الله من أرادكم وبغى عليكم، قولوا الناس حسنا كما أمركم الله. لا تتركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي الله الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم. عليكم يا بني: بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب. حفظكم الله أهل البيت، وحفظ فيكم نبيكم، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام. ثم لم ينطق إلا ب‍ لا إله إلا الله حتى قبضه الله إليه، بيض الله وجهه وشرف مقامه، فقد اجتهد في مرضاة الله نفسه، وقام بوصية الله في حياته وعند موته. فقام الحسن ابنه خطيبا صبيحة قتل أبوه في العشر الأواخر من رمضان، فقال: لقد قتلتم رجلا ما سبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون. وجعل خاتمه في إصبعه السبابة، ثم قال: إن عليا والله ما ورثنا درهما ولا دينارا ولا فضة ولا ذهبا إلا شيئا في خاتمي هذا ما عدا (1) ثلثمائة درهم بقيت من عطائه ادخرها ليتصدق بها يوم فطره، فما هي لنا (2). فهذه حاله في زهده، وما لم أذكره أكثر.

(هامش)

(1) لعل هذا هو الصواب، وفي أصلي: إلا سافي خاتمي هذا ما جاء ثلاثمأة درهم.. فإن صح ما ذكرناه فلعل معنى قوله: إلا شيئا في خاتمي هذا.. أي إلا فضة كائنة في خاتمي هذا والظاهر أنه عليه السلام كان يومئذ لبس خاتم أبيه أمير المؤمنين عليه السلام. (2) لم أظفر بالحديث بهذا السياق في غير هذا المورد. (*)

ص 248

[لمعات من عدله عليه السلام في أهله ورعيته، وقبسات من أقواله وأعماله في جذب النفوس إلى الله تعالى، وإيصال الحقوق إلى أهلها ووضعها في موضعها].

ثم عدله في سيرته وإشرافه على عياله يسوي بينهم في عطائه، ويواسي بينهم بماله. وذكروا أنه ولي رجلا من ثقيف عكبرا فقال له: بين يدي أهل الأرض الذين [كان] عليهم [الخراج: لتستوفي خراجهم ولا يجدون فيك رخصة] ولا يجدون فيك ضعفا (1). ثم قال له: عد إلي عند الظهر قال: فلما رحت إليه دخلت عليه وليس بيني وبينه حجاب، وإذا [في] جنبه كوز فيه ماء وقدح، قال: ودعا بطينة مختومة (2) فأتي بها، فقلت عند نفسي: كل هذا قد نزلت عند أمير المؤمنين يريني جوهرا، وظننت

(هامش)

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما رواه ابن عساكر في الحديث: (1249) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 198، ط 1. وما وضعناه بين ثاني المعقوفين أيضا مأخوذ منه. وفي أصلي هكذا فقال له بين يدي أهل الأرض الذي عليهم ولا يجدوا فيك ضعفا . (2) كذا في الأصل غير أن الكاتب كان ترك إثبات نقطتي الياء والتاء هكذا: بطنه . والقصة ذكرناها في المختار: 166 من نهج السعادة: ج 2 ص 44 عن مصادر وفيها: بطيبة . وذكره في هامش حلية الأولياء نقلا عن بعض نسخها: بظبية . وقال بعضهم: الظبية: جريب من جلد ظني عليه شعره. (*)

ص 249

أن فيها جوهرا، فكسر الخاتم ثم صب الماء (1) في القدح، فإذا سويق فشرب، ثم سقاني ولم أصبر أن قلت: يا أمير المؤمنين أبالعراق تصنع هذا؟ العراق أكثر خيرا وأكثر طعاما؟! فقال لي: إني لست لشيء أحفظ مني لما ترى إذا خرج عطائي ابتعت منه ما يكفيني، وأكره أن يفنى فيزاد فيه من غيره، وأكره أن أدخل بطني إلا طيبا ثم أمر بها فختمت ثم رفعت. ثم أقبل علي فقال: إني لم أقل لك الذي قلت بين يدي أهل الأرض، إلا أنهم قوم خدع / 73 / فإذا قدمت على القوم (2) فانظر ما أمرك به، فإن خالفتني وأخذك الله به دوني (3) وإن بلغني خلاف ما آمرك به عزلتك إن شاء الله إذا قدمت على القوم فلا تبغين فيهم كسوة شتاء ولا صيف، ولا درهما ولا دابة، ولا تضربن رجلا سوطا لمكان درهم ولا تقمه على رجليه (4). قال: قلت: يا أمير المؤمنين إذن أرجع كما ذهبت؟ قال: وإن رجعت فإنا لم نؤمر أن نأخذ منهم إلا العفو (5). قال: فرجعت فما بقي علي درهم إلا أديته.

(هامش)

(1) وقد شطب في أصلي على لفظ: الماء ولكن الظاهر أنه سهو من الكاتب. وفي تاريخ دمشق: للحافظ ابن عساكر: من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام: فكسر الخاتم فإذا فيها سويق، فأخرج منه وصب في القدح، فصب عليه ماءا فشرب وسقاني... . (2) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: فإذا قدمت على القوم - فلا خير فيهم - فانظر ما أمرك به ولكن كاتب الأصل كان قد شطب على لفظي: فلا خير دون لفظة: فيهم . (3) كذا في الأصل، وفي تاريخ دمشق: ولكني آمرك الآن بما تأخذهم به، فإن أنت فعلت وإلا أخذك الله به دوني.. . (4) كذا في أصلي، غير أنه كان فيه: كسوة شتى... . وفي ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: فلا تبيعن لهم رزقا يأكلونه، ولا كسوة شتاء ولا صيف، ولا تضربن رجلا منهم سوطا في طلب درهم، ولا تقمه [ظ] في طلب درهم فإنا لم نؤمر بذلك. ولا تبيعن لهم دابة يعملون عليها إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو .. - المعيار والموازنة - أبوجعفر الإسكافي ص 249: (5) أي الفاضل عما يحتاجون إليه في شؤوناتهم وجهات معيشتهم وحياتهم، والظاهر أن هذا هو المراد في قوله تعالى في الآية: (219) من سورة البقرة: ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل: العفو . (*)

ص 250

[دخول أبي صالح بيت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وإحضارهم الطعام له، وقوله لهم: أتطعموني هذا الطعام وأنتم الأمراء].

وذكروا أن رجلا يكنى أبا صالح دخل على أم كلثوم بنت علي فقالت: إئتوا أبا صالح بطعام. قال: فأتوني ب‍ (مرقة) فيها حبوب فقلت: أتطعموني هذا وأنتم الأمراء؟ قالت: فكيف لو رأيت أمير المؤمنين عليا وأتي بأترج فأخذ الحسن أترجة منها فانتزعها من يده وقسمها بين المسلمين (1). وكان [عليه السلام] يؤتى بالرمان فيقسمه في المساجد (2). وكانت له امرأتين، فإذا كان يوم أحدهما اشترى [لها] بنصف درهم لحما (3) وكان يقول رحمه الله: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، ويعظم حلمك، وتباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت، استغفرت الله. ولا خير في الدنيا إلا لرجلين، رجل أذنب ذنوبا فهو يتدارك ذلك بتوبة، أو

(هامش)

(1) ورويناه في تعليق الحديث: (232) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من أنساب الأشراف: ج 2 ص 140. ط 1. نقلا عن أحمد بن حنبل. ورواه أيضا أحمد بن حنبل في الحديث: (24) من باب فضائل أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب الفضائل. (2) وانظر الحديث: (125) من ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من أنساب الأشراف: ج 2 ص 137 (3) ببالي أنه ذكره أحمد بن حنبل في الحديث: (...) من باب فضائل علي عليه السلام من كتاب الفضائل. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

المعيار والموازنة

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب