الصفحة السابقة الصفحة التالية

المعيار والموازنة

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 251

رجل يسارع في الخيرات (1). ولا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل (2). وكان يقول رضي الله عنه: أنا يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة (3). وكان رضي الله عنه يقسم ما في بيت المال، ثم يكنسه ويصلي فيه رجاء أن تشهد له عند الله يوم القيامة (4). وكان يدعو اليتامى، فيطعمهم العسل، وما حضر حتى قال بعضهم: لوددت أنني كنت يتيما (5). و[كان] يقول: قد تأتينا أشياء نستكثرها إذا جاءتنا، ونستقلها إذا قسمناها، وإنا لنقسم القليل والكثير. ولقد رئي عليه إزأر مرقوع، فعوتب في لباسه فقال رضي الله عنه: يخشع به القلب

(هامش)

(1) وللكلام مصادر جمة، ورواه أيضا السيد الرضي في المختار: (94) من الباب الثالث من نهج البلاغة. (2) ورواه أيضا في المختار: (95) من باب قصار كلام أمير المؤمنين عليه السلام من نهج البلاغة، وله أسانيد ومصادر كثيرة. (3) وفي المختار: (316) من الباب الثالث من نهج البلاغة: والمال يعسوب الفجار . قال السيد الرضي رحمه الله: ومعنى ذلك: أن المؤمنين يتبعونني والفجار يتبعون المال كما تتبع النحل يعسوبها وهو رئيسها. (4) وقال عبد الله بن أبي الدنيا: حدثنا إسحاق بن إسماعيل قال: حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري وميسرة [قالا]: إن عليا كرم الله وجهه قسم ما في بيت المال حتى لم يبق فيه إلا أربعة، فأمر بها فقسمت، فقيل له في ذلك، فقال: لا والله حتى تبعر فيه الغنم. هكذا رواه ابن أبي الدنيا في الحديث: (354) من كتاب ذم الدنيا / الورق 34 / أ /. (5) وهذا وما بعده رواه في الحديث: (122) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب أنساب الأشراف: ج 2 ص 136، ط 1. ورواه أيضا أحمد بن حنبل وفي الحديث: (..) من باب فضائله عليه السلام من كتاب الفضائل. (*)

ص 252

ويقتدي به المؤمن. وكان إذا ورد عليه المال يقول: أيها الناس هلموا إلى مالكم فخذوه، فإنما أنا لكم خازن. ثم يقسمه على الأحمر والأسود حتى لا يبقى شيء. ولقد بلغني أنه كان يقسم بين المسلمين الابزار يصرها لهم صررا (1). فهذه منازله في زهده، وسيرته في عدله، وما لم يذكر من أموره أكثر وأشهر. فهل تذكرون لأحد ممن قدمتموه عليه مثل ما ذكرنا [ه] عنه؟ فعمر وإن كان زاهدا فلم يبلغ هذه الغاية، ولم يصر إلى هذه المنزلة، وقد قسم على غير السوية، وعزم في مرضه على السوية، وكان عليه دين فادح. و[أما] أبو بكر فلم يمتحن بكثرة الأموال، ولم يظهر منه هذه السير والأحكام. فإن قال قائل: إنما شاع ذلك من فعل علي بن أبي طالب لأنه عمر وبقي فظهرت منه هذه السير والمناقب، وأبو بكر لم يعمر ولم يبق. قلت: القائل هذا إن كان معتزليا عدليا [نقول له:] ليس لما قلتم معنى يجوز في مقالك، والذي تعلقت به فاسد عندك لأن من قولك: إن الله لا يخترم عبدا يعلم أنه يزداد عند البقاء خيرا، ولا يقطعه عن أمر يعلم أنه لو بلغ إليه شرفت حاله وأضعفت طاعته، فما قلت ناقض لقولك. وإن كان قائل هذا مجبرا فالحجة عليه قائمة لأنه لا يدري أن لو بقي في أي المنزلتين كانت تكون حاله، ولا يدري لعله لو بقي لكفر!!! لأنه جائز في عدل الله عنده

(هامش)

(1) كذا. (*)

ص 253

أن يبتديه بالخذلان والشر، وينقله أن لو بقي من الإيمان إلى الكفر. على أنه لو كان ممن يزداد على البقاء طاعة وفضلا ثم لم يبلغه لم تكن منزلته منزلة من بقي حتى فعله وناله، وليس بجائز أن يكون فاضلا بما لم يفعله ولم يبق إليه، فلأمر ما دفع الله / 74 / عن علي ابن أبي طالب ووقاه بلطفه من تلك المحن، وصرف عنه تلك المصائب حتى خلصت له سوابق المهاجرين الأولين وآثار السابقين، وأكمل الله له فضائل التابعين، فأعز الله به الدين في الأول والآخر هاديا مهديا طاهرا زكيا. ففي فضل هذا يقصر؟ ومثل علي بن أبي طالب يؤخر؟ وعليه يقدم؟ فوالله لو ترك الهوى والتعصب، وأعمل الإنصاف والنظر لم يخف على طالب فضل علي بن أبي طالب على البشر. ووالله لو ترك الهوى من لم ينظر، وقلد الحبر لم يقدم [أحد] على علي بن أبي طالب، لكثرة مناقبه المشهورة في الحديث والأثر. أو ليس من العجب أن لا يعلم تقدمه على البشر بمؤاخات رسول الله إياه دون الناس؟ أيظنون أن رسول الله عليه السلام أخر لنفسه من لا يقرب من منزلته؟ وقصر في الاختيار؟! بأي الوجهين كان؟ إما بالبعد وإما بالغفلة إذا اصطفى لنفسه من غيره أولى به منه، وأفضل عند الله ممن اختاره؟! وكيف لا يقنع الناظرون بهذه الجملة، ولا إشكال فيها ولا شبهة، ويكلفوننا تفسير ذلك الجواب والمسألة ليكشف لهم أن أخوة النبي عليه السلام لعلي بن أبي طالب كانت لفضله على غيره، وأن منزلته عنده منزلة هارون من موسى ليس على التقديم له. ما أوضح خطأ من كلفنا الجواب في هذا والمسألة [واضحة] قد فرغته الأخبار و[كشفها من] التمس علم الآثار (1).

(هامش)

(1) ما بين المعقوفين زيادة منا زدناها لإصلاح الكلام. (*)

ص 254

[فضيلة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على جميع البشر بعد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله من جهة العلم، وتقدمه فيه من جميع الجهات على العالمين، وذكر نماذج من علومه عليه السلام وخطبه، منها خطبته الموسومة بالزهراء].

ونحن ذاكرون بعد هذا تقدمه في العلم وفضله فيه على الخلق أجمعين بعد النبيين. وللعلم أصل وفروع، وجملة وتفسير، وفيه تطوع وفرض، وذلك على صنوف شتى، وأبواب كثيرة. فأصل العلم، العلم بالله وهو أصل الدين والإسلام، فأعلم الخلق بالله أذبهم عن توحيده، وأحسنهم عبارة عنه، وأوصفهم لحدوده وأحكامه، وأقومهم بمحاجة من ألحد في الله بالجواب والمسألة، فالتمسوا علم ذلك في خطبة لتعلموا أنه منقطع القرين في علمه وأنه نسيج وحده: وهو القائل في بعض خطبه وهي خطبته الزهراء: [المعروفة: الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه. الأول لا شيء قبله، والآخر لا غاية له، علا فدنا، ودنا فعلا، لا تقع الأوهام له على صفة، ولا تعقد القلوب منه على كيفية، ولا تحيط له بذات، ولا يناله التجزئة ولا يدركه التبعيض.

(هامش)

(1) ولعلها بعينها هي خطبة الزهراء التي رواها أبو مخنف بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام كما ذكرنا الصدر في كتاب الشيعة وفنون الإسلام ص 17. (*)

ص 255

الذي لا من شيء كان، ولا من شيء خلق ما كان. قدرة بان (1) بها من الأشياء وبانت الأشياء منه. فليست له صفة تنال، ولا حد تضرب له فيه الأمثال. كل دون صفاته تحبير اللغات، وضل فيما هنالك تصاريف الصفات، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير، وحال دون غيبه المكنون حجب الغيوب (2) وتاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول (3). فتبارك الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن، وتعالى الذي ليس له وقت معدود، ولا أجل ممدود، ولا نعت محدود (4). وسبحان الذي ليس له أول مبتدأ، ولا غاية منتهى، ولا آخر يفنى، سبحانه هو كما وصف نفسه. حد الأشياء كلها عند خلقه إياها إبانة لها من شبهة، وإبانة له منها، فلم يحلل فيها فيقال: هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال [هو] منها بائن، ولم يخل عنها فيقال له: أين؟ ولكنه سبحانه أحاط بها علمه، وأتقنها صنعه وأحصاها حفظه، فلم يعزب عنه

(هامش)

(1) ومثله في كتاب الغارات والكافي. قيل: إنها مبتدأ حذف خبره، أي له قدرة بان بها من الأشياء. أو إنها خبر حذف مبتدأه، أي هو قدرة بان بها من الأشياء. وقيل إنها منصوبة على التميز، أو بنزع الخافض وحذفه، أي ولكن خلق الأشياء قدرة أو بقدرة. وفي كتاب التوحيد للشيخ الصدوق رحمه الله: قدرته بان بها من الأشياء.. . (2) دون غيبه: قبل الوصول إلى غيبه. (3) هذا هو الصواب الموافق للمختار: (156 و258) من نهج السعادة: ج 1، ص 539 ط 1، و، ج 2 ص 348 ط 1. وفي أصلي: وتاهت في أداني أدانيها طامحات العقول . وتاهت: تحيرت. والضمير في أدانيها راجع إلى الحجب. وطامحات العقول: أي العقول الطامحة الراقية التي سبقت العقول العادية في جهات الوصول إلى الحقائق. (4) هذا هو الظاهر الموافق لما في المختار الأول من نهج البلاغة، وفي أصلي هاهنا: بتحديد . (*)

ص 256

خفيات غيوب الهواء، ولا غامضات سرائر مكنون ظلم / 75 / الدجا (1) ولا ما في السماوات العلى والأرضين السفلى لكل شيء منها حافظ ورقيب، وكل شيء منها بكل شيء محيط، والمحيط بما أحاط به منها (2) الله الواحد الأحد الصمد الذي لا تغيره صروف سوالف الأزمان، ولم يتكأده صنع شيء (3) كان أن قال لما شاء أن يكون كن فكان. فابتدع ما خلق بلا مثال ولا تعب ولا نصب. وكل صانع شيء فمن شيء صنع والله لا من شيء خلق ما خلق. وكل عالم فبعد جهل تعلم، والله لم يجهل سبحانه ولم يتعلم (4). فسبحان من لم يؤده خلق من ابتدأ، ولا تدبير ما برأ، ولكن قضاء متقن وعلم محكم، وأمر مبرم، توحد فيه بالربوبية، وخص نفسه فيه بالوحدانية، واستخلص المجد والسناء واستكمل الحمد والثناء فتفرد بالتوحيد، وتوحد بالتمجيد وتمجد بالتحميد. فجل سبحانه عن الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء. فليس له فيما خلق ند، ولا فيما ملك ضد، ولم يشركه فيما ملكه أحد، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا (5)

(هامش)

(1) فلم يعزب: لم يغب عنه، ولم يخف عنه. والدجى: جمع الدجية: الظلمة أو شدتها. وفي كتاب الكافي: ولا غوامض مكنون ظلم الدجى . وفي كتاب الغارات: ولا غامض سرائر مكنون الدجى.. . (2) هذا هو الظاهر الموافق لكتابي الغارات والكافي، وفي أصلي: والمحيط بها أحاط به منها . (3) يتكأده لم يثقله ولم يصعب ولم يشق عليه. (4) للفظة: سبحانه غير موجودة في كتابي الغارات والكافي، وفيهما: وكل عالم فمن بعد جهل تعلم... . وفيهما أيضا بعد قوله: ولم يتعلم هكذا: أحاط بالأشياء علما قبل كونها، فلم يزدد بكونها [بتكوينه إياها الغارات ] علما، علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بها بعد تكوينها. لم يكونها لتشديد سلطان، ولا لتخوف زوال ولا نقصان، ولا استعانة على ضد مثاور، ولا ند مكاثر، ولا شريك مكابر [مكائد خ ] لكن خلائق مربوبون، وعباد داخرون، فسبحان من لا يؤده خلق ما ابتدأ... . ولكن بين الكتابين اختلاف لفظي في بعض الكلمات. (5) إلى هنا تنتهي رواية الثقفي رحمه الله في كتاب الغارات. (*)

ص 257

ثم قال [عليه السلام]: سبحانك اللهم ما أعظم ما نرى من خلقك (1) وما أصغر عظمه في [جنب] قدرتك، وما أعظم ما نرى من ملكوتك، وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من ملكك، وما أسبغ نعمتك في الدنيا وما أقلها في جنب نعمتك في الآخرة. وما عسى أن نصف من قدرتك وسلطانك في قدر ما غاب عنا من ذلك، وقصرت أبصارنا عنه وانتهت عقولنا دونه. فمن أعمل طرفه وقرع سمعه وأجهد فكره كيف ذرأت خلقك وكيف أقمت عرشك وكيف علقت في الهواء سماواتك وكيف مددت أرضك رجع طرفه حسيرا وعقله والها وسمعه مبهورا وفكره متحيرا (2). فكيف لا يعظم شأنك عند من عرفك وهو يرى من عظيم خلقك ما يملأ قلبه ويذهل عقله. فلا إله غيرك ولا شريك لك في ملكك، ليس كمثلك (3) شيء وأنت السميع البصير (4). فتفهموا صفته للتوحيد، هل تجدون ما قال [إلا] أصلا أخذ المتكلمون [به وبنوا] عليه، وافتقروا إليه؟ وهل تجدون أحدا أبلغ من صفة التوحيد ما [أ] بلغه؟ وذكر من عظمة الله وقدرته ما ذكره؟ وهل تعلمون أحدا احتج في إثبات الربوبية واستدل

(هامش)

وهذا هو الظاهر الموافق لما رويناه في المختار: (348) من نهج السعادة: ج 2 ص 646، وفي أصلي وما أصغر عظيمة في قدرتك.. . وفي المختار: (109) من نهج البلاغة: وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك (2) وفي المختار: (109) من نهج البلاغة: فمن فرغ قلبه وأعمل فكره ليعلم كيف أقمت عرشك وكيف ذرأت خلقك، وكيف علقت في الهواء سماواتك، وكيف مددت على مور الماء أرضك، رجع طرفه حسيرا وعقله مبهورا، وسمعه والها، وفكره حائرا . وقريبا منه رويناه في المختار: (348) من نهج السعادة: ج 2 ص 647 ط 1 (3) ويحتمل رسم الخط أن يقرأ أيضا: ليس كمثله (4) وبعد هذا في المختار: (109) من نهج البلاغة والمختار (348) من نهج السعادة ذيل طويل (*)

ص 258

على الوحدانية إلا ببعض ما ذكرنا من كلامه؟. [فتدبروا كلمه] لتعلموا أن المتكلمين عيال عليه في صفة التوحيد والاحتجاج على الملحدين، وأن الخطباء عليه معولهم، وبكلامه استعانوا على خطبهم. فقد بان [علوه] في علم التوحيد من الخلق أجمعين فله فضيلة الاستنباط والرسوخ في علم القرآن، وفضل التعليم وأجور المتعلمين.

ص 259

[كلامه عليه السلام في جواب يهودي سأله: متى كان ربنا؟].

 ولقد قام إليه بعض اليهود فقال له: متى كان ربنا؟ فقال له: لم يكن ربنا فكان [و] إنما يقال: متى كان؟ لشيء لم يكن فكان [و] هو كائن بلا كينونة كائن، كان لم يزل، ليس له قبل فهو قبل القبل وقبل الغاية، انقطعت الغايات عنده فهو غاية كل غاية (1). فهذه جملة مما قال في التوحيد، قد بان بها من جميع أهل الكلام والعلماء بالتوحيد.

(هامش)

(1) والكلام رويناه مسندا عن مصادر أخر في المختار: (155) من القسم الأول من نهج السعادة: ج 1، ص 537 ط 1، وفي المختار: (9) من القسم الثاني: ج 3 ص 38 ط 1. (*)

ص 260

[كلامه عليه السلام في نعت الإسلام وعظم قواعده وأركانه].

ثم وصف الإسلام [ب‍] ما انقطعت عنه ألسن الناطقين، وعجز عنه وصف القائلين عند مسألة السائل له: ما الإسلام؟ فقال: الحمد لله الذي شرع الإسلام فسهل شرائعه لمن ورده، وأعز أركانه على من حاربه، فجعله عزا لمن والاه، وسلما لمن دخله، وهدى لمن ائتم به، وزينة لمن تحلى به، وعصمة لمن اعتصم به، وحبلا لمن تمسك به، وبرهانا لمن تكلم به، ونورا لمن استضاء به وشاهدا لمن / 36 / خاصم به، وفلجا لمن حاج به، وعلما لمن وعى، وحديثا لمن روى، وحكما لمن قضى، وحلما لمن جرب، ولبا لمن تدبر، وفهما لمن تفطن، ويقينا لمن عقل وتبصرة لمن عزم، وآية لمن توسم، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، ومودة من الله لمن أصلح، وزلفى لمن ارتقب، وثقة لمن توكل، وراحة لمن فوض، وجنة لمن صبر. فذلك الحق سبيله الهدى، وصفته الحسنى، ومأثرته المجد.. فهو أبلج المنهاج، مشرق المنار، مضئ المصابيح، رفيع الغاية، يسير المضمار، جامع الحلبة، متنافس السبقة، أليم النقمة، كريم الفرسان. التصديق منهاجه، والصالحات مناره، والفقه مصابيحه، والموت غايته، والدنيا مضماره، والقيامة حلبته، والجنة سبقته (1) والنار نقمته، والتقوى عدته، والمحسنون فرسانه.

(هامش)

(1) إلى هنا رواه السيد الرضي رحمه الله في المختار (104) من نهج البلاغة. (*)

ص 261

فبالإيمان يستدل على الصالحات، وبالصالحات يعمر الفقه، وبالفقه يرهب الموت، وبالموت تختم الدنيا، وبالدنيا تحرز القيامة (1) وبالقيامة تزلف الجنة للمتقين، وتبرز الجحيم للغاوين. والإيمان على أربع شعب: على الشوق والشفق والزهادة والترقب. فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات. واليقين على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وعبرة وسنة وآية وموعظة (2). فمن تبصر في الفطنة تبين الحكمة، ومن تبين الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين. والعدل على أربع شعب: على غائص الفهم، وغمرة العلم (3) وزهرة الحكم، وروضة الحلم.

(هامش)

(1) الظاهر أن هذا هو الصواب، أي تحاز وتدخر فوز القيامة والنجاح فيها، أي بالأعمال الخيرية في الدنيا وصرف الإمكانيات الدنيوية في سبيل الله يجعل العامل فوز القيامة والدار الآخرة في حرزه وحيازته. وفي أصلي المخطوط: تحذر القيامة . وفي المختار: (162) من نهج السعادة: ج 2 ص 18: وبالدنيا تجوز [تحوز خ ] القيامة . وفي المختار: (154) من نهج البلاغة: وبالدنيا تحرز الآخرة.. ومثله في المختار: (118) من نهج السعادة: ج 1، ص 368. ومثلهما في المختار: (106) من القسم الثاني من باب خطب نهج السعادة ج 3 ص 398 ط 1، ولكن كان في الأصل المنقول عنه: وبالدنيا تحدر الآخرة . (2) كذا في الأصل وفي المختار: (118) من القسم الأول، والمختار: (106) من القسم الثاني من باب خطب نهج السعادة: وموعظة العبرة وسنة الأولين . (3) هذا هو الظاهر الموافق لما في المختار: (118) من نهج السعادة: ج 1، ص 371 ط 1. وفي أصلي: وعبارة العلم . (*)

ص 262

فمن فهم فسر جمل العلم، ومن علم صدر عن شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرط في أمره، وعاش في الناس حميدا. والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين. فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف الكافر، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له. فذلك الإيمان وشعبه ودعائمه. قال: فقام السائل إليه فقبل رأسه (1). فهذا العلم بالتوحيد قد بان به، وهو أشرف العلوم منزلة وأعلاها مرتبة، سبق فيه العلماء، وتقدم فيه على الخطباء، وجعله رسما للمتعلمين وحجة على المنكرين. فهذه صفته للإيمان مجملة ومفسرة [فهل] ترون أحدا جمعها وبلغها؟! ثم فكروا في صفته للزهد، وترغيبه فيه، وذكره الدنيا وما ذكر من عبرها ومواعظها لتعلموا أنه قد جمع العلم بالزهد والعمل، وأنه استنبط هذه العلوم بالبحث الثاقب، والنظر النافذ، والاعتبار الشافي [و] اجتهد في ذلك طريق الأنبياء.

(هامش)

(1) وللكلام مصادر وأسانيد كثيرة تجد كثيرا منها في المختار: (118) من القسم الأول من باب الخطب من نهج السعادة: ج 1، ص 366، ط 1، وفي المختار: (110) وتواليه من القسم الثاني من باب الخطب: ج 3 ص 373 وما يليها من ط 1. (*)

ص 263

[كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مع نوف البكالي في تقريض الزهاد، والترغيب في اتباعهم واقتفاء آثارهم].

 وذكروا عن نوف [البكالي] أنه قال: بايت عليا ليلة فأكثر (1) الدخول والخروج والنظر إلى السماء، ثم قال لي: أنائم أنت يا نوف أم رامق؟ قال: قلت: بل رامق أرمقك بعيني منذ الليلة يا أمير المؤمنين. قال: [ثم] قال لي: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة أولئك قوم / 77 / اتخذوا أرض الله بساطا وترابها فراشا وماؤها طيبا والقرآن شعارا (2) والدعاء دثارا، ثم قرضوا الدنيا قرضا على منهاج المسيح. يا نوف إن الله أوحى إلى عبده المسيح أن قل لبني إسرائيل أن لا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة وأبصار خاشعة، وأكف نقية، وأعلمهم أني لا أجيب لأحد منهم دعوة ولأحد من خلقي قبله مظلمة. يا نوف إن داود نبي الله عليه السلام خرج في [مثل] هذه الساعة من الليل فقال: إن هذه ساعة لا يدعو فيها داع إلا استجاب الله له إلا أن يكون شاعرا أو عاشرا أو شرطيا أو عريفا أو بريدا، أو صاحب كوبة - وهي الطبل - أو صاحب عرطبة وهي الطنبور (3).

(هامش)

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في ترجمة جعفر بن مبشر تحت الرقم: (3608) من تاريخ بغداد: ج 7 ص 62، وفي أصلي: رأيت عليا ليلة فأكثر الدخول والخروج.. . (2) هذا هو الصواب الموافق لما رويناه في المختار: (135) من نهج السعادة: ج 1، ص 437 ط 1، ومثله في المختار: (104) من الباب الثالث من نهج البلاغة. وفي أصلي: والكتاب شعارا ولكن كتب في الأصل فوق كلمة: والكتاب لفظة: والقرآن (3) ومثله رواه أيضا السيد الرضي في المختار: (104) من الباب الثالث من نهج البلاغة. ورويناه أيضا بأسانيد جمة في المختار: (135) وتاليه من القسم الأول من باب الخطب من نهج السعادة: ج 1، ص 436 ط 1، وفي المختار: (65) من القسم الثاني في ج 3 ص 353. (*)

ص 264

[كلامه عليه السلام في التحذير عن الدنيا وعدم الاغترار بإقبالها وعدم الأسف على إدبارها].

ثم قال [عليه السلام]: أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات وتحببت بالعاجلة وعمرت بالآمال وتزينت بالغرور فلا تدوم حبرتها ولا تؤمن فجعتها، غرارة ضرارة زائلة نافذة نابذة (1) أكالة غوالة لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا بها أن تكون كما قال الله: كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا [45 / الكهف: 18]. مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة ولم يلق من سرائها بطنا إلا محته من ضرائها] ظهرا (2) ولم تطله فيها ديمة رخاء إلا وهتنت عليه مزنة بلاء (3) وحري إذا هي أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمر عليه منها جانب فأوبى (4) وإن لبس امرؤ من غضارتها رغبا أرهقته من

(هامش)

(1) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: تحببت بالعاجلة وراقت بالقليل، وتحلت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها، غررة ضرارة حائلة زائلة نافدة بائدة . (2) ما بين المعقوفين أخذناه من المختار: (109) من نهج البلاغة، وفيه: لم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة.. . (3) كذا في نهج البلاغة، وفي أصلي: إلا هتفت عليه مزنة بلاء . (4) هذا هو الظاهر الموافق لنهج البلاغة، وفي الأصل: وإن جانب منها اعذوذبت إلا مرت واحلولا أمر عليه منها جانب فأوبى.. . (*)

ص 265

نوائبها تعبا ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح في أخوف مخوف (1). غرارة غرور ما فيها، فانية فان من عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى (2). من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها لم يدم له (3) وزال عما قليل عنه. كم من واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، وذي خدع قد خدعته وذي أبهة فيها قد صيرته حقيرا، وذي نخوة فيها قد ردته جائعا فقيرا (4) وذي تاج قد كبته لليدين وللفم (5). سلطانها دول وعيشها رنق، وعذبها أجاج وحلوها صبر وغذاؤها سمام وأسبابها رمام وقطافها سلع (6) وحيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام، وملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وآمنها منكوب، وجارها محروب. ثم من وراء ذلك سكرات الموت وزفراته، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [31 / النجم: 53]. أولستم في مساكن من كان [قبلكم ممن كان] أطول منكم أعمارا، وأعز آثارا وأعد

(هامش)

(1) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا إلا أرهقته من نوائبها تعبا، ولا يمسي منها في جناج أمن إلا أصبح على قوادم خوف . (2) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: لا خير في شيء من أزوادها.. (3) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه.. . (4) الجملة التالية غير موجودة في نهج البلاغة كما لا توجد فيها جملة: وذي خدع قد خدعته . وأيضا في نهج البلاغة: وذي أبهة قد جعلته حقيرا، وذي نخوة قد ردته ذليلا... . (5) وقريب منه في المختار: (76) من القسم الثاني من باب الخطب من نهج السعادة: ج 3 ص 286. (6) كذا في أصلي، وهذه الجملة غير موجودة في نهج البلاغة. ولعل سلع بمعنى مر، لأنه نوع من الصبر. (*)

ص 266

منكم عديدا، وأكثف منكم جنودا، وأشد منكم عنودا (1). تعبدوا للدنيا أي تعبد (2) وآثروها أي إيثار ثم ظعنوا عنها بالصغار (3). فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية (4) أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم به بخطب، بل أوهنتهم بالقوارع، وضعضعتهم بالنوائب، وعفرتهم للمناخر (5) وأعانت عليهم ريب المنون. فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها حتى ظعنوا عنها لفراق الأبد (6) وإلى آخر المسند (7) هل زودتهم إلا السغب أو أحلتهم إلا الضنك / 78 / أو نورت لهم إلا الظلمة أو أعقبتهم إلا النار (8)؟! أفهذه تؤثرون؟ أم على هذه تحرصون؟ أم إليها تطمئنون؟ قال الله: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [15

(هامش)

(1) وفي نهج البلاغة: ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول [منكم] أعمارا وأبقى آثارا وأبعد آمالا وأعد عديدا وأكثف جنودا . (2) تعبدوا للدنيا: خضعوا وانقادوا لها. (3) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ، ولا ظهر قاطع.. . (4) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا بفدية. . (5) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم صحبة؟ بل أرهقتهم بالقوادح، وأوهنتهم بالقوارع، وضعضعتهم بالنوائب، وعفرتهم للمناخر، ووطئتهم بالمناسم... . (6) هذا هو الظاهر، الموافق لما في نهج البلاغة، وفي أصلي: حين ظعنوا عنها لفراق الأبد . (7) هذه الفقرة: وإلى آخر المسند غير موجودة في نهج البلاغة. (8) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: أو أعقبتهم إلا الندامة. أفهذه تؤثرون؟ أم إليها تطمئنون؟ أم عليها تحرصون؟ فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها. فاعلموا - وأنتم تعلمون - بأنكم تاركوها وظاعنون عنها، واتعظوا فيها بالذين قالوا: من أشد منا قوة حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا، وجعل لهم من الصفيح أجنان... . (*)

ص 267

هود: 12]. فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها. واعلموا - وأنتم - تعلمون أنكم تاركوها لا بد فإنما هي كما نعت الله: لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد [20 / الحديد: 575]. فاتعظوا فيها باللذين كانوا يبنون بكل ريع آية يعبثون ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون (1) وبالذين قالوا من أشد منا قوة). واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حملوا إلى قبورهم ولا يدعون ركبانا وأنزلوا [الأجداث] ولا يدعون ضيفانا (2) وجعل لهم من الضريح أكنان (3) ومن التراب أكفان، ومن الرفات جيران. فهم جيرة لا يجيبون داعيا ولا يمنعون ضيما ولا يبالون مندبة (4) ولا يقترفون سيئا ولا حسنا، لا يزورون ولا يزارون. حلماء قد بادت أضغانهم، جهلاء قد ذهبت أحقادهم لا يخشى فجعهم ولا يرجى دفعهم، وهم كمن لم يكن وكما قال الله: فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين [58 / القصص: 28]. استبدلوا بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيقا وبالأهل غربة وبالنور ظلمة وجاؤها

(هامش)

(1) اقتباس من الآية. (128 - 129) من سورة الشعراء: 26. (2) ما بين المعقوفين مأخوذ من نهج البلاغة، والسياق أيضا يقتضيه أو ما هو بمعناه. (3) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: وجعل لهم من الصفيح أجنان.. . (4) وبعده في نهج البلاغة هكذا: إن جيدوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا جميع وهم آحاد، وجيرة وهم أبعاد، متدانون لا يتزاورون، وقريبون لا يتقاربون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم!! لا يخشى فجعهم ولا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة! فجاؤوها كما فارقوها حفاة عراة. قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة والدار الباقية كما قال سبحانه: كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين (*)

ص 268

كما فارقوها حفاة عراة، قد ظعنوا منها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، وإلى خلود الأبد يقول الله: كما بدانا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [104 / الأنبياء: 24]

[كلامه عليه السلام في نعت الدنيا عندما سمع من يذمها].

 ثم قال في خلاف ذلك - من صفة الدنيا قولا عجيبا وصدق عليها في الحالين جميعا - بكلام غريب وقول بليغ، وحكمة بالغة ومعرفة راسخة، ويقين ثاقب وعلم بارع وذكر نافع [وإنما نبهتكم على ذلك] لتعلموا أنه في جميع العلوم بائن، وفي [كل] مناقب الخير مقدم. [فقال عليه السلام:] (1) وقد سمع بعض الناس يدم الدنيا تعسفا ويعيبها متعديا، فصرخ به ثم قال: أيها الذام للدنيا أنت المجترم عليها أم هي المجترمة عليك؟! (2) فقال: بل أنا يا أمير المؤمنين المجترم عليها!! قال: ويحك فبم تذمها؟! أليست منزل صدق لمن صدقها؟ ودار غنى لمن تزود منها؟ ودار عافية لمن فهم عنها؟ مسجد أحباء الله ومصلى أنبيائه ومليكته (3) ومهبط

(هامش)

(1) وفي أصلي كان هكذا: ثم قال في خلاف ذلك من صفة الدنيا قولا عجيبا - وصدق عليها في الحالين جميعا - بكلام غريب وقول بليغ، وحكمة بالغة ومعرفة راسخة، ويقين ثاقب وعلم بارع وذكر نافع، لتعلموا أنه في جميع العلوم بائن وفي مناقب الخير مقدم، وقد سمع بعض الناس يذم الدنيا... . (2) وفي المختار: (130) من قصار نهج البلاغة: أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها بم تذمها؟ أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟ أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟... . (3) كذا في أصلي، وفي المختار: 117) من نهج السعادة: مسجد أنبياء الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومسكن أحبائه ومتجرأ أوليائه.. . وفي نهج البلاغة: مسجد أحباء الله ومصلى ملائكته ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله . (*)

ص 269

وحيه ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة. فمن ذا يذمها وقد أذنت ببينها ونادت بانقطاعها، فمثلت لهم ببلائها البلاء [ظ] وشوقت بسرورها إلى السرور (1) راحت بفجيعة وابتكرت بعافية، فذمها رجال يوم الندامة، وحمدها آخرون (2) حدثتهم فصدقوا وذكرتهم فذكروا (3). فأيها الذام للدنيا، المعتل بغرورها متى استذمت إليك؟ بل متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلى؟ أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بيدك؟ وكم مرضت بكفك (4) تلتمس له الشفاء، وتستوصف له الأطباء لم تنتفع [فيه] بشفاعتك، ولم تسعف [فيه] بطلبتك (5) مثلت لك الدنيا - ويحك - مضجعك حين لا يغني عنك بكاؤك، ولا ينفع أحباؤك (6).

(هامش)

(1) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: وسوقت بالسين المهملة. وفي نهج البلاغة: وشوقتهم بسرورها.. . (2) كذا في أصلي، وفي نهج السعادة: فذمها قوم غداة الندامة . وفي نهج البلاغة: فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة . (3) وفي نهج البلاغة: ذكرتهم الدنيا فتذكروا، وحدثتهم فصدقوا ووعظتهم فاتعظوا . (4) وفي نهج البلاغة: كم عللت بكفيك، وكم مرضت بيديك تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنهم بقوتك... . (5) هذا هو الظاهر الموافق لما وجدناه في جميع ما رأيناه من المصادر، وفي أصلي: ولم تستغن بطلبتك... . وفي المختار: (117) من نهج السعادة: كم مرضت بيديك، وعللت بكفيك تستوصف لهم الدواء وتطلب لهم الأطباء، لم تدرك فيه طلبتك، ولم تسعف فيه بحاجتك.. (6) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي أصلي: حتى لا يغني عنك بكاؤك... . وفي الحديث: (1272) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 214 ط 1: كم مرضت بيديك وعللت بكفيك تطلب له الشفاء وتستوصف له الأطباء [ف‍] لا يغني عنك دواؤك ولا ينفعك بكاؤك . (*)

ص 270

[كلامه عليه السلام في سوق أولي الألباب إلى الله تعالى وتحضيضهم على اغتنام الفرصة من الأيام، وإكثارهم من صالحات الأعمال والادخار من متاع دار الفناء ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون].

 وكان رضي الله عنه ينادي في كل ليلة بصوت رفيع له: تجهزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل وأقلوا العرجة على الدنيا (1) وانقلبوا بصالح ما يحضركم من / 79 / الزاد (2) فإن أمامكم عقبة كؤدا ومنازل مخوفة مهولة لا بد من الممر عليها والوقوف عندها (3) فإما برحمة من الله نجوتم من فظاعتها وشدة مخبرها وكراهة منظرها [ظ] وإما بهلكة ليس بعدها انجبار. فيا لها حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة أو تؤديه أيامه إلى شقوة (4).

(هامش)

(1) هذا هو الصواب الموافق للمختار: (202) من نهج البلاغة وغيره، وفي أصلي: وأقلوا الفرجة على الدنيا.. . (2) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد.. . (3) إلى هنا رواه السيد الرضي رحمه الله في المختار: (202) من نهج البلاغة، وفيه: لا بد من الورود عليها والوقوف عندها وهو أظهر مما ها هنا. (4) ومن قوله: فيا لها حسرة إلى قوله: إلى شقوة ذكره السيد الرضي في ذيل المختار: (62) من نهج البلاغة، وفيه بعده: نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية ولا تحل به بعد الموت ندامة ولا كآبة . (*)

ص 271

فاتركوا هذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تكونوا تحبون تركها والمبلية لكم وإن كنتم تحبون تجديدها فإنما مثلكم ومثلها كركب سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه، وأموا علما فكأنهم قد بلغوه (1). جعلنا الله وإياكم ممن لا تبطره نعمة ولا تقصر به عن طاعة ربه رغبة ولا تحل به بعد الموت شقوة [ولا] حسرة فإنما نحن له وبه.

(هامش)

(1) وقريبا منه رواه السيد الرضي رحمه الله في أوائل المختار: (97) من نهج البلاغة وهذا لفظه: عباد الله أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبوا تركها، والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبون تجديدها، فإنما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه، وأموا علما فكأنهم قد بلغوه . (*)

ص 272

[كلامه عليه السلام في تعليم الناس كيفية الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم].

وكان رضي الله عنه يعلم الناس الصلاة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: قولوا: اللهم داحي المدحوات وبارئ المسموكات وجبار القلوب على فطرتها (1) شقيها وسعيدها. اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحيتك، على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدامغ لجيشات الأباطيل (2) كما حمل فاضطلع (3) قائما بأمرك في طاعتك مستوفرا في مرضاتك غير ناكل في قدم ولا واه في عزم (4) واعيا لوحيك حافظا لعهدك، ماضيا على نفاذ أمرك حتى أورى كل قبس لقابس (5) آلاء الله يصل بأهله أسبابه (6) به هديت القلوب بعد

(هامش)

(1) كذا في الأصل، وفي المختار: (70) من نهج البلاغة: وجابل القلوب على فطرتها... . (2) وفي نهج البلاغة: والدافع جيشات الأباطيل والدامغ صولات الأضاليل... . (3) أي أعلن الحق بالحق وقمع الباطل وقهر الضالين كما حمل تلك الأعمال لم يغير ولم ينكص. فاضطلع أي قام بها قويا بلا ضعف وتوان. (4) و قدم على زنة قفل وعنق: المضي إلى الأمام وعدم الوقوف على شيء. (5) كذا في أصلي، وفي المختار: (106) من نهج البلاغة: حتى أورى قبسا لقابس، وأنار علما لحابس.. . وفي المختار: (18) من القسم الثاني من باب خطب نهج السعادة: ج 3 ص 83 ط 1: حتى أورى قبس القابس وأضاء الطريق للخابط، وهدي به.. . وفي المختار: (65) من باب الدعاء من نهج السعادة: ج 6 ص 283: حتى أورى قبسا لقابس آلاء الله تصل بأهله أسبابه، به هديت القلوب.. . (6) قال ابن أبي الحديد: وتقدير الكلام: حتى أورى قبسا لقابس تصل أسباب ذلك القبس آلاء الله ونعمه بأهله المؤمنين به. (*)

ص 273

خوضات الفتن والآثام بموضحات الأعلام ومنيرات الإسلام ونائرات الأحكام (7) فهو أمينك المأمون وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين وبعيثك نعمة ورسولك بالحق رحمة وخير البرية طفلا، وخيرها شابا وكهلا أطهر الطاهرين شيمة، وأجود المستمطرين ديمة (8) لا يبلغ المقرظون مدحته ولا يلامون على ما ذكروا من فضله. اللهم افسح له مفسحا في عدلك واجزه مضاعفات الخير من فضلك له مهنات غير مكدرات من فوز ثوابك المحلول وجزيل عطائك المعلول. اللهم أعل على بناء البانين بناءه وأكرم لديك مثواه ونزله وأتمم له نوره، واجزه من ابتغائك له مقبول الشهادة مرضي المقالة، ذا منطق عدل وخطة فصل وحجة وبرهان عظيم. (9)

(هامش)

(7) ومثله في رواية ابن قتيبة غير أن فيها: بعد خوضات الفتن والإثم موضحات الأعلام... . وفي الصحيفة العلوية للسماهيجي: وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام، وأقام موضحات الأعلام... . (8) وفي المختار: (102) من نهج البلاغة: خير البرية طفلا وأنجبها كهلا أطهر المطهرين شيمة وأجود المستمطرين ديمة... . (9) كذا في نهج البلاغة، وكأن في أصلي كان: وخطبة فصل ولكن نقطة الباء مشطوبة، ولا يحضرني الأصل الآن كي أراجعه. (*)

ص 274

[كلامه عليه السلام في تأكد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم جواز المداراة مع الفساق والمنافقين والطغاة].

 وقال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء إلى محاربة أهل البغي: أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحذركم الدنيا وما فيها من الغضارة والبهاء والكرامة والبهجة التي ليست بخلف مما زين الله به العلماء وبما أعطوا (1) من العقبى الدائمة والكرامة الباقية، ذلك بأن العاقبة للمتقين والحسرة والندامة والويل الطويل على الظالمين. فاعتبروا بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم [63 / المائدة]. وقال: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم (2) ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون [78 / 89 / المائدة]. وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم (3) الأمر المنكر من الفساد في بلادهم فلا ينهون عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم

(هامش)

(1) كذا في أصلي، ولعله مصحف عن قوله: ومما يعطوا من العقبى... . (2) وكان في الأصل ذكر الآية الكريمة إلى هذا الحد، ثم قال: إلى قوله: لبئس ما كانوا يفعلون . وبما أن الاختصار من عمل الرواة والكتاب أرجعنا الآية إلى أصلها وذكرناها كاملة. (3) هذا هو الظاهر الموافق لما في تحف العقول ص 171، وفي أصلي: من الظلمة الذي... . (*)

ص 275

ورهبة مما كانوا يحذرون (1) والله يقول: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها / 80 / النبيون الذين أسلموا [للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء] فلا تخشوا الناس واخشون (2). وقال: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [71 / التوبة: 9] فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه (3) لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها ذلك بأن الأمر بالمعروف والنهي [عن المنكر] دعاء إلى الإسلام مع رد المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفئ والغنائم وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها. ثم أنتم أيتها العصابة عصابة بالعلم مشهورة وبالخير مذكورة وبالنصيحة معروفة وبالله في أنفس الناس لكم مهابة، يهابكم الشريف ويكرمكم الضعيف ويؤثركم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده تشفعون بالحوائج إذا امتنعت من طلابها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر. أليس كل ذلك إنما نلتموه لما يرجى عندكم من قيام بحق الله (4) وإن كنتم عن أكثر حقه مقصرين واستخففتم بحق الأئمة. فأما حق الله وحق الضعفاء فضيعتم (5) وأما حقكم بزعمكم فطلبتم فكنتم كحراس مدينة أسلموها وأهلها للعدو [و] بمنزلة الأطباء الذين استوفوا ثمن الدواء وعطلوا المرضى (6).

(هامش)

(1) كذا. (2) الآية (44) من سورة المائدة وما وضعناه بين المعقوفين كان حذفه في الأصل اختصارا، وكان فيه هكذا: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا - إلى قوله - فلا تخشوا الناس واخشون . (3) أي فرضا منه تعالى وإيجابا منه على عباده. (4) كذا في أصلي، وفي ط بيروت من تحف العقول: من القيام.. . (5) كذا في أصلي، وفي طبع بيروت من تحف العقول: وإن كنتم عن أكثر حقه تقصرون واستخففتم بحق الأئمة، فأما حق الضعفاء فضيعتم وأما حقكم بزعمكم.. . (6) من قوله: فكنتم كحراس مدينة إلى قوله: وعطلوا المرضى غير موجود في ط بيروت من تحف العقول. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

المعيار والموازنة

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب