ص 264
[كلامه عليه السلام في التحذير عن الدنيا وعدم الاغترار بإقبالها وعدم الأسف على
إدبارها].

ثم قال [عليه السلام]: أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت
بالشهوات وتحببت بالعاجلة وعمرت بالآمال وتزينت بالغرور فلا تدوم حبرتها ولا تؤمن
فجعتها، غرارة ضرارة زائلة نافذة نابذة (1) أكالة غوالة لا تعدو إذا هي تناهت إلى
أمنية أهل الرغبة فيها والرضا بها أن تكون كما قال الله: كماء أنزلناه من السماء
فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا [45
/ الكهف: 18]. مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة ولم يلق من
سرائها بطنا إلا محته من ضرائها] ظهرا (2) ولم تطله فيها ديمة رخاء إلا وهتنت عليه
مزنة بلاء (3) وحري إذا هي أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكرة، وإن جانب منها
اعذوذب واحلولى أمر عليه منها جانب فأوبى (4) وإن لبس امرؤ من غضارتها رغبا أرهقته
من
(هامش)
(1) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: تحببت بالعاجلة وراقت بالقليل، وتحلت بالآمال،
وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها، غررة ضرارة حائلة زائلة نافدة
بائدة . (2) ما بين المعقوفين أخذناه من المختار: (109) من نهج البلاغة، وفيه:
لم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة.. . (3) كذا في نهج البلاغة، وفي
أصلي: إلا هتفت عليه مزنة بلاء . (4) هذا هو الظاهر الموافق لنهج البلاغة، وفي
الأصل: وإن جانب منها اعذوذبت إلا مرت واحلولا أمر عليه منها جانب فأوبى.. . (*)
ص 265
نوائبها تعبا ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح في أخوف مخوف (1). غرارة غرور
ما فيها، فانية فان من عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى (2). من أقل منها
استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها لم يدم له (3) وزال عما قليل عنه. كم من واثق
بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، وذي خدع قد خدعته وذي أبهة فيها قد
صيرته حقيرا، وذي نخوة فيها قد ردته جائعا فقيرا (4) وذي تاج قد كبته لليدين وللفم
(5). سلطانها دول وعيشها رنق، وعذبها أجاج وحلوها صبر وغذاؤها سمام وأسبابها رمام
وقطافها سلع (6) وحيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام، وملكها
مسلوب، وعزيزها مغلوب، وآمنها منكوب، وجارها محروب. ثم من وراء ذلك سكرات الموت
وزفراته، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل ليجزي الذين أساؤا بما عملوا
ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [31 / النجم: 53]. أولستم في مساكن من كان [قبلكم ممن
كان] أطول منكم أعمارا، وأعز آثارا وأعد
(هامش)
(1) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا إلا أرهقته من
نوائبها تعبا، ولا يمسي منها في جناج أمن إلا أصبح على قوادم خوف . (2) كذا في
أصلي، وفي نهج البلاغة: لا خير في شيء من أزوادها.. (3) كذا في أصلي، وفي نهج
البلاغة: ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه.. . (4) الجملة التالية غير موجودة
في نهج البلاغة كما لا توجد فيها جملة: وذي خدع قد خدعته . وأيضا في نهج
البلاغة: وذي أبهة قد جعلته حقيرا، وذي نخوة قد ردته ذليلا... . (5) وقريب منه
في المختار: (76) من القسم الثاني من باب الخطب من نهج السعادة: ج 3 ص 286. (6) كذا
في أصلي، وهذه الجملة غير موجودة في نهج البلاغة. ولعل سلع بمعنى مر، لأنه نوع من
الصبر. (*)
ص 266
منكم عديدا، وأكثف منكم جنودا، وأشد منكم عنودا (1). تعبدوا للدنيا أي تعبد (2)
وآثروها أي إيثار ثم ظعنوا عنها بالصغار (3). فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا
بفدية (4) أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم به بخطب، بل أوهنتهم بالقوارع، وضعضعتهم
بالنوائب، وعفرتهم للمناخر (5) وأعانت عليهم ريب المنون. فقد رأيتم تنكرها لمن دان
لها وآثرها وأخلد إليها حتى ظعنوا عنها لفراق الأبد (6) وإلى آخر المسند (7) هل
زودتهم إلا السغب أو أحلتهم إلا الضنك / 78 / أو نورت لهم إلا الظلمة أو أعقبتهم
إلا النار (8)؟! أفهذه تؤثرون؟ أم على هذه تحرصون؟ أم إليها تطمئنون؟ قال الله:
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون،
أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون
[15
(هامش)
(1) وفي نهج البلاغة: ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول [منكم] أعمارا وأبقى
آثارا وأبعد آمالا وأعد عديدا وأكثف جنودا . (2) تعبدوا للدنيا: خضعوا وانقادوا
لها. (3) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ، ولا ظهر
قاطع.. . (4) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا
بفدية. . (5) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم
صحبة؟ بل أرهقتهم بالقوادح، وأوهنتهم بالقوارع، وضعضعتهم بالنوائب، وعفرتهم
للمناخر، ووطئتهم بالمناسم... . (6) هذا هو الظاهر، الموافق لما في نهج البلاغة،
وفي أصلي: حين ظعنوا عنها لفراق الأبد . (7) هذه الفقرة: وإلى آخر المسند
غير موجودة في نهج البلاغة. (8) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: أو أعقبتهم إلا
الندامة. أفهذه تؤثرون؟ أم إليها تطمئنون؟ أم عليها تحرصون؟ فبئست الدار لمن لم
يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها. فاعلموا - وأنتم تعلمون - بأنكم تاركوها وظاعنون
عنها، واتعظوا فيها بالذين قالوا: من أشد منا قوة حملوا إلى قبورهم فلا يدعون
ركبانا وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا، وجعل لهم من الصفيح أجنان... . (*)
ص 267
هود: 12]. فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها. واعلموا - وأنتم -
تعلمون أنكم تاركوها لا بد فإنما هي كما نعت الله: لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم،
وتكاثر في الأموال والأولاد [20 / الحديد: 575]. فاتعظوا فيها باللذين كانوا
يبنون بكل ريع آية يعبثون ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون (1) وبالذين قالوا من أشد منا
قوة). واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حملوا إلى قبورهم ولا يدعون ركبانا وأنزلوا
[الأجداث] ولا يدعون ضيفانا (2) وجعل لهم من الضريح أكنان (3) ومن التراب أكفان،
ومن الرفات جيران. فهم جيرة لا يجيبون داعيا ولا يمنعون ضيما ولا يبالون مندبة (4)
ولا يقترفون سيئا ولا حسنا، لا يزورون ولا يزارون. حلماء قد بادت أضغانهم، جهلاء قد
ذهبت أحقادهم لا يخشى فجعهم ولا يرجى دفعهم، وهم كمن لم يكن وكما قال الله: فتلك
مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين [58 / القصص: 28].
استبدلوا بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيقا وبالأهل غربة وبالنور ظلمة وجاؤها
(هامش)
(1) اقتباس من الآية. (128 - 129) من سورة الشعراء: 26. (2) ما بين المعقوفين مأخوذ
من نهج البلاغة، والسياق أيضا يقتضيه أو ما هو بمعناه. (3) كذا في أصلي، وفي نهج
البلاغة: وجعل لهم من الصفيح أجنان.. . (4) وبعده في نهج البلاغة هكذا: إن
جيدوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا جميع وهم آحاد، وجيرة وهم أبعاد، متدانون لا
يتزاورون، وقريبون لا يتقاربون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم!!
لا يخشى فجعهم ولا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيقا، وبالأهل
غربة، وبالنور ظلمة! فجاؤوها كما فارقوها حفاة عراة. قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى
الحياة الدائمة والدار الباقية كما قال سبحانه: كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا
علينا إنا كنا فاعلين (*)
ص 268
كما فارقوها حفاة عراة، قد ظعنوا منها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، وإلى خلود
الأبد يقول الله: كما بدانا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [104 /
الأنبياء: 24]
[كلامه عليه السلام في نعت الدنيا عندما سمع من يذمها].

ثم قال في
خلاف ذلك - من صفة الدنيا قولا عجيبا وصدق عليها في الحالين جميعا - بكلام غريب
وقول بليغ، وحكمة بالغة ومعرفة راسخة، ويقين ثاقب وعلم بارع وذكر نافع [وإنما
نبهتكم على ذلك] لتعلموا أنه في جميع العلوم بائن، وفي [كل] مناقب الخير مقدم.
[فقال عليه السلام:] (1) وقد سمع بعض الناس يدم الدنيا تعسفا ويعيبها متعديا، فصرخ
به ثم قال: أيها الذام للدنيا أنت المجترم عليها أم هي المجترمة عليك؟! (2) فقال:
بل أنا يا أمير المؤمنين المجترم عليها!! قال: ويحك فبم تذمها؟! أليست منزل صدق لمن
صدقها؟ ودار غنى لمن تزود منها؟ ودار عافية لمن فهم عنها؟ مسجد أحباء الله ومصلى
أنبيائه ومليكته (3) ومهبط
(هامش)
(1) وفي أصلي كان هكذا: ثم قال في خلاف ذلك من صفة الدنيا قولا عجيبا - وصدق
عليها في الحالين جميعا - بكلام غريب وقول بليغ، وحكمة بالغة ومعرفة راسخة، ويقين
ثاقب وعلم بارع وذكر نافع، لتعلموا أنه في جميع العلوم بائن وفي مناقب الخير مقدم،
وقد سمع بعض الناس يذم الدنيا... . (2) وفي المختار: (130) من قصار نهج البلاغة:
أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها بم تذمها؟ أتغتر بالدنيا ثم
تذمها؟ أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟... . (3) كذا في أصلي، وفي
المختار: 117) من نهج السعادة: مسجد أنبياء الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته
ومسكن أحبائه ومتجرأ أوليائه.. . وفي نهج البلاغة: مسجد أحباء الله ومصلى
ملائكته ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله . (*)
ص 269
وحيه ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة. فمن ذا يذمها وقد أذنت
ببينها ونادت بانقطاعها، فمثلت لهم ببلائها البلاء [ظ] وشوقت بسرورها إلى السرور
(1) راحت بفجيعة وابتكرت بعافية، فذمها رجال يوم الندامة، وحمدها آخرون (2) حدثتهم
فصدقوا وذكرتهم فذكروا (3). فأيها الذام للدنيا، المعتل بغرورها متى استذمت إليك؟
بل متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلى؟ أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بيدك؟
وكم مرضت بكفك (4) تلتمس له الشفاء، وتستوصف له الأطباء لم تنتفع [فيه] بشفاعتك،
ولم تسعف [فيه] بطلبتك (5) مثلت لك الدنيا - ويحك - مضجعك حين لا يغني عنك بكاؤك،
ولا ينفع أحباؤك (6).
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: وسوقت بالسين المهملة. وفي نهج البلاغة:
وشوقتهم بسرورها.. . (2) كذا في أصلي، وفي نهج السعادة: فذمها قوم غداة الندامة
. وفي نهج البلاغة: فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة . (3)
وفي نهج البلاغة: ذكرتهم الدنيا فتذكروا، وحدثتهم فصدقوا ووعظتهم فاتعظوا . (4)
وفي نهج البلاغة: كم عللت بكفيك، وكم مرضت بيديك تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم
الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنهم بقوتك... .
(5) هذا هو الظاهر الموافق لما وجدناه في جميع ما رأيناه من المصادر، وفي أصلي:
ولم تستغن بطلبتك... . وفي المختار: (117) من نهج السعادة: كم مرضت بيديك، وعللت
بكفيك تستوصف لهم الدواء وتطلب لهم الأطباء، لم تدرك فيه طلبتك، ولم تسعف فيه
بحاجتك.. (6) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي أصلي: حتى لا