ص 276
فلا مال بذلتموه [للذي رزقه] (1) ولا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة
عاديتموها في ذات الله. ثم أنتم تمنون على الله جنته ومجاورة رسله والبراءة والفرار
من أعدائه، والاستئثار بالكرامة من الله عند ملاقاة الملائكة. لقد خشيت عليكم أيها
المتمنون على الله أن تحل بكم نقمة من نقماته لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة
فضلتم بها، ومن يعرف بالله لا تكرمون وأنتم بالله في عباده تكرمون (2). وقد ترون
عهود الله منقوضة فلا تفزعون وأنتم لنقض دمم آبائكم تفزعون، وذمة رسوله مخفرة
والعمي والبكم والزمني (3) في المدائن مهملون لا ترحمون وأنتم [لا] في منزلتكم
تعملون، ولا من عمل فيها تعينون (4) وبالإدهان والمصانعة أراكم عند الظلمة تأمنون
(5) كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون. فأنتم أعظم
الناس مصيبة لما غلبتم عليله من منازل العلماء لو كنتم تشعرون، وذلك بأن مجاري
الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله في كتابه يكون هم الأمناء على حلاله وحرامه
(6) فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بنفوركم عن الحق واختلافكم في
السنة بعد البينة الواضحة. ولو صبرتم على الأذى، وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت
أمور الله عليكم ترد
(هامش)
(1) ما بين المعقوفين مأخوذ من المختار: (117) من نهج البلاغة. (2) وفي المختار:
(103) من نهج البلاغة: وقد بلغتم من كرامة الله لكم منزلة تكرم بها إماؤكم وتوصل
بها جيرانكم، ويعظمكم من لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده ويهابكم من لا يخاف لكم
سطوة ولا لكم عليه إمرة... . (3) وفي المختار الأول من كلام الإمام الحسين عليه
السلام من تحف العقول: وذمة رسول الله صلى الله عليه وآله مخفورة، والعمي والبكم
والزمن في المدائن مهملة... . وفي المختار: (103) من نهج البلاغة: وقد ترون عهود
الله منقوضة فلا تغضبون وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون.. . (4) ما بين المعقوفين
كان قد سقط من الأصل. (5) لفظة: أراكم غير موجودة في طبع بيروت من تحف العقول.
(6) وفي تحف العقول: ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله
الأمناء على حلاله وحرامه... . (*)
ص 277
وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من أزمتكم (1) وأسلمتم أمور الله في
أيديهم يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلطهم على ذلك (2) فراركم من الموت،
وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم (3) فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد
ومقهور، ومن بين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون
الخزي بأهوائهم اقتداء بالأشرار، وجرأة على الجبار (4). في كل بلد منهم على منبره
خطيب مصقع والأرض لهم شاغرة (5) وأيديهم فيها مبسوطة وأيدي القادة عنهم مكفوفة،
وسيوفهم عليهم مسلطة، وسيوفكم عنهم مسنمة (6) [و] [و] الناس لهم خول لا يدفعون يد
لامس فمن / 81 / بين جبار عنيد وذي سطوة على الضعفة، شديد مطاع لا يعرف المبدئ
المعيد (7). فيا عجبا وما لي لا أعجب والأرض مشحونة من غاش غشوم، ومتصدق ظلوم،
وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه
فيما شجر بيننا. اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان [منا] تنافسا في سلطان ولا
التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الاصلاح في بلادك،
ويأمن
(هامش)
(1) كذا في أصلي، وفي تحف العقول: ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم.. . وفي
المختار: (103) من نهج البلاغة: وكانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم
ترجع، فمكنتم الظلمة من منزلتكم، وألقيتم إليهم أزمتكم، وأسلمتم أمور الله في
أيديهم يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات... . (3) هذا هو الظاهر الموافق
لتحف العقول، وفي أصلي: سلكتم على ذلك . (4) كذا في الأصل، غير أن حرف الباء في
قوله: بالحياة كان قد سقط عنه. (4) ومثله في طبع بيروت من تحف العقول. (5) وفي
تحف العقول: فالأرض لهم شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة والناس لهم خول لا يدفعون يد
لامس... (6) كذا في الأصل، وفي المختار: (105) من نهج البلاغة: فالأرض لكم
شاغرة، وأيديكم فيها مبسوطة، وأيدي القادة عنكم مكفوفة، وسيوفكم عليهم مسلطة،
وسيوفهم عنكم مقبوضة.. . (7) هذا هو الظاهر الموافق لكتاب تحف العقول، وفي أصلي:
وذو سطوة لا يعرف المبدئ بالمعيد... . (*)
ص 278
المظلوم من عبادك (1) ويعمل بفرائضك وسنتك وأحكامك (2). ألا إن لكل دم ثائرا يوما،
وإن الثائر في دمائنا والحاكم في حق نفسه وحق ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن
السبيل الله الذي لا يعجزه ما طلب، ولا يفوته من هرب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون (3). فنضر الله وجه عبد سمع حكما فوعى ودعي إلى رشاد فدنا، وأخذ بحجزة هاد
فنجا (4). ألا إن أبصر الأبصار ما بعد في الخير مذهبه، وأسمع الأسماع ما وعى
التذكير وانتفع به، وأسلم القلوب ما طهر من الشبهات (5). أيها الناس استصبحوا من
شعلة مصباح واعظ ناصح، وامتاحوا من مهيأ عين قد روقت من الكدر، وامتاروا من طرف
الياقوت الأحمر (6). عباد الله لا تركنوا إلى جهالكم، ولا تنقادوا لأهوائكم، والله
الله أن تشكوا إلى من لا يبكي شجوكم (7) ومن ينقض برأيه ما قد أبرم لكم، ويصدع
بجهله ما شعب لكم
(هامش)
(1) من قوله: اللهم إنك تعلم... إلى قوله: عبادك رواه في المختار: (129) من
نهج البلاغة وفيه: منافسة في سلطان.. فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من
حدودك . (2) كذا في الأصل. (3) وفي المختار: (105) من نهج البلاغة: ألا إن لكل
دم ثائرا، ولكل حق طالبا، وإن الثائر في دمائنا كالحاكم في حق نفسه وهو الذي لا
يعجزه من طلب ولا يفوته من هرب . وقريبا منه رويناه عن مصدر آخر في المختار: (64)
من نهج السعادة: ج 1، ص 220. (4) وفي المختار: (75) من نهج البلاغة: رحم الله
امرأ سمع حكما فوعى ودعى إلى رشاد... . (5) هذا هو الصواب، وفي الأصل: من طهر من
الشبهات.. . وفي المختار: (105) من نهج البلاغة: ألا وإن أبصر الأبصار ما نفذ في
الخير طرفه، ألا إن أسمع الأسماع ما وعى التذكير وقبله . (6) الظاهر أن هذا هو
الصواب، وفي أصلي: وامتاحوا من مهيأ عين قد روق من الكذب... . وفي المختار:
(105) من نهج البلاغة: وأعظ متعظ، وامتاحوا من صفو عين قد روقت من الكدر . (7)
كذا في أصلي، في المختار: (105) من نهج البلاغة: عباد الله لا تركنوا إلى جهالتكم
ولا تنقادوا لأهوائكم فإن النازل بهذا المنزل نازل بشفا جرف هار ينقل الردى على
ظهره من موضع إلى موضع لرأي يحدثه = (*)
ص 279
ويهدم بحمقه ما قد بني لكم. اللهم فأيما عبد من عبيدك سمع مقالتنا هذه العادلة غير
الجائرة، والمصلحة في الدين والدنيا غير المفسدة فأبى بعد سمعه لها إلا الابطاء عن
نصرتك وترك الإعزاز لدينك (1) فإنا نشهدك عليه يا أكبر الشاهدين شهادة (2) فإنكم إن
لا تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة علينا، وعملوا في إطفاء نور الله بيننا، وحسبنا
الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير. فتدبروا هذا الكلام في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وهذا البيان والتحريص والحجة البينة لتعلموا أن كل من دعا إلى
هذا السبيل ونحا هذا الطريق فبكلام أمير المؤمنين اهتدى وبسيرته اقتدى ومن عمله
اقتبس، ومن معرفته أبصر، وبقوله أنطق.
(هامش)
= بعد رأي يريد أن يلصق ما لا يلتصق، ويقرب ما لا يتقارب. فالله الله أن تشكوا إلى
من لا يشكي شجوكم ولا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم. إنه ليس على الإمام إلا ما حمل من
أمر ربه... . (1) وفي المختار: (209) من نهج البلاغة: فأبى بعد سمعه لها إلا
النكوص عن نصرتك والإبطاء عن إعزاز دينك، فإنا نستشهد عليه بأكبر الشاهدين شهادة..
. (2) هذا هو الصواب، وفي أصلي: يا أكبر الشاهدين شاهدة... . (*)
ص 280
[كلامه عليه السلام في نعت الإمام العادل وبيان وظائفه الخاصة به، وما له وما عليه،
وأنه حجة على الرعية، وأن للرعية حجة على الإمام إذا مال عن الحق وضل عن محجة
العدالة].

ثم وصف [عليه السلام] ما على الإمام العادل وما له فقال: واعلموا عباد
الله إن لكل إمام عادل حجة على رعيته ولكل رعية حجة على إمامها إذا جار عليها. ألا
فتمسكوا من الإمام العادل بحجزته، وخذوا ممن يهديكم ولا يضلكم فإنه العروة الوثقى.
أيها الناس إنه ليس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه: إبلاغ في الموعظة، واجتهاد
في النصيحة وإحياء السنة، وإقامة الحدود، وإصدار السهمان على أهلها (1) وإظهار
الحجة في العهود والبر والرأفة بجميع المسلمين، فإذا فعل ذلك فقد شكر ما أبلاه الله
من الحسنى وبرأ إلى الله فيما كان من حدث عماله كما برأ رسول الله صلى الله عليه
وسلم من فعل خالد بن الوليد. يا قوم اقتبسوا ما بين لكم / 82 / من الحق وكفوا عما
لم يأتكم نبؤه، واستنجزوا
(هامش)
(1) من قوله: إنه ليس على الإمام إلى قوله: وإصدار السهمان إلى أهلها رواه
السيد الرضي في المختار: (105) من نهج البلاغة. (*)
ص 281
موعد الرب جل ثناؤه بالتفقه في دينه قبل أ [ن] لا تفقهوا ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم
عن مستثار العلم من عند أهله (1) ومن قبل أن يشتبه عليكم الباطل وإن كان قد أولى ثم
أولى واعتصموا بحبل الله جميعا فإنه لا سلطان لإبليس على من اعتصم بحبل الله
واهتدى بهديه واستمسك بالعروة الوثقى. وأنا أقسم بالله قسما حقا أن الله مع الذين
اتقوا والذين هم محسنون. أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن أفضل ما توسل إليه
المتوسلون (2) الإيمان بالله والجهاد في سبيله، وإقام الصلاة فإنها الملة وإيتاء
الزكاة فإنها فريضة من فرائضه، وصوم شهر رمضان فإنه جنة حصينة من عذابه، وحج البيت
فإنه منفاة للفقر مدحضة للذنب، وصلة الرحم فإنها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهول
(3) وصدقة السر فإنها تكفر الخطايا وتطفئ غضب الرب. أفيضوا في ذكر الله كثيرا فإنه
أحسن الذكر، وارعبوا فيما وعد المتقون فإن وعد الله أصدق الوعد، واهتدوا بهدي محمد
عليه السلام فإنه أحسن الهدي واستنوا بسنته فإنها أعظم السنن، وتعلموا القرآن فإنه
أحسن الحديث واستشفوا بنوره فإنه أشفى لما في الصدور وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن
القصص وإذا تلي فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون. عباد الله! إن العالم العامل
بغير علمه كالجاهل الذي لا يستفيق عن جهله بل الحجة أعظم والحسرة أدوم على هذا
العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحير
(هامش)
(1) هذا هو الصواب الموافق لما في المختار: (105) من نهج البلاغة، وفي أصلي: عن
مشتراة العلم... . ومستثار العلم: محل ظهوة وسطوعه. (2) كذا في الأصل، وفي
المختار: (109) من نهج البلاغة: إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه
وتعالى الإيمان به وبرسوله.. . ولهذا الكلام مصادر جمة ذكرناها في ختام المختار:
(274) من نهج السعادة: ج 2 ص 433. وذكرناها أيضا في المختار: (56) من القسم الثاني
من باب الخطب: ج 3 ص 209. (3) كذا في الأصل، وفي المختار: (274) من باب الخطب من
نهج السعادة: ج 2 ص 8425: يقي مصارع الهوان (*)
ص 282
في جهله، وكلاهما حائر ثائر مضلل مثبور (1) ألا لا ترخصوا لأنفسكم في ترك الحق
فتدهنوا ولا تدهنوا في الحق فتخسروا. وإن من الحزم أن تتفقهوا، وإن من الفقه أن لا
تغتروا وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه، وإن أغشكم لنفسه أعصاكم لربه. من يطع الله
يأمن ويستبشر، ومن يعصه يخف ويندم. سلوا الله اليقين وارغبوا إليه في العافية. ألا
إن أفضل الأمور عوازمها (2)، وإن شرها محدثاتها، وكل محدثة بدعة وما أحدث محدث بدعة
إلا ترك بها سنة المغبون [من غبن] دينه والمغبوط من حسن نفسه. (3) إياكم ومجالسة
اللهو فإن اللهو ينسي القرآن ويحضره الشيطان ويدعوا إلى كل غي وعدوان. ومحادثة
النساء تزيغ القلوب وهي من مصائد الشيطان. ألا فاصدقوا فإن الله مع من صدق، وجانبوا
الكذب فإنه مجانب للإيمان فإن
(هامش)
(1) كذا في الأصل، وفي تحف العقول: وكلاهما حائر بايئر، مضل مفتون مبتور ما هم
فيه وباطل ما كانوا يعملون . (2) عوازمه: ما قدم عهده ويكون متصلا بعصر رسول الله
ثابتا في عهده. وفي المختار: (142) من نهج البلاغة: إن عوازم الأمور أفضلها، وإن
محدثاتها شرارها . ومثله في المختار: (274) من نهج السعادة: ج 2 ص 427. وفي
المختار: (56) من القسم الثاني من باب الخطب: من نهج السعادة: ج 3 ص 214 : وأفضل
أمور الحق عزائمها، وشرها محدثاتها . (3) هذا هو الصواب، وفي أصلي: المغبون عن
دينه.. . ويحتمل في الجملة الثانية أنها مصحفة عن قوله: والمغبوط من حسن يقينه
كما في المختار: (56) من القسم الثاني من باب الخطب من نهج السعادة: ج 3 ص 214
ويحتمل ضعيفا أيضا أن تكون مصحفة عن المغبون من حسر نفسه كما في المختار: (274)
من نهج السعادة: ج 2 ص 428. وفي المختار: (82) من نهج البلاغة: المغبون من غبن
نفسه، والمغبوط من سلم له دينه . (*)
ص 283
الصادق على شفا منجاة وكرامة، وإن الكاذب على شرف هوان وهلكة. قولوا الحق تعرفوا
به، واعملوا به تكونوا من أهله. أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من
قطعكم، وعودوا بالفضل على من حرمكم. وإذا عاهدتم ففوا، وإذا حكمتم فاعدلوا، ولا
تفاخروا بالآباء، ولا تنابزوا بالألقاب ألا ولا تمادحوا ولا تمازحوا ولا تباغضوا.
وأفشوا السلام بينكم، وردوا التحية على أهلها بأحسن منها، وارحموا الأرملة واليتيم،
وأعينوا الضعيف والمظلوم وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم
والعدوان، واتقوا / 83 / الله إن الله شديد العقاب. ألا وإن الدنيا قد أدبرت وأذنت
بوداع، ألا وإن الآخرة قد أقبلت وأذنت باطلاع. ألا وإن المضمار اليوم والسباق غدا.
ألا وإن السبقة الجنة والغاية النار. ألا وإنكم في أيام مهل من ورائه أجل يحثه عجل
(1) فمن عمل في أيام مهله قبل حضور أجله نفعه عمله ولم يضره أمله، ومن لم يعمل في
أيام مهله قبل حضور أجله ضره أمله ولم ينفعه عمله (2).
(هامش)
(1) كذا في المختار: (274 و56) من القسم الأول والثاني من باب الخطب من نهج
السعادة: ج 2 ص 431 و: ج 3 ص 220. ورسم الخط من أصلي هاهنا في قوله: يحثه غير
واضح وكأنه يقرأ: تحته بالمثناتين الفوقانيتين (2) من قوله: ألا وإن الدنيا..
. إلى قوله: لم ينفعه عمله.. . رواه السيد الرضي رحمه الله في المختار: (28) من
نهج البلاغة، وله مصادر كثيرة أخر. (*)
ص 284
ألا وإن الأمل يسهي العقل ويورث الغفلة ويأتي بالحسرة. ألا فاعزبوا عن الأمل كأشد
ما أنتم عن شيء عازبون، فإنه غرور وصاحبه مغرور. وافزعوا إلى قوام دينكم بالجد في
أموركم فإني لم أر كالجنة نام طالبها ولا كالنار نام هاربها. وتزودوا في الدنيا من
الدنيا ما تحرزون به أنفسكم (1) واعملوا خيرا ليوم يفوز بالخير من قدمه، وانتفعوا
بما وعظكم الله به، واذكروا بلاه عندكم. فسبحان الرحيم بخلقه، الرؤوف بعباده على
غناه عنهم وفقرهم إليه قريب الرحمة واسع المغفرة قوة كل ضعيف ومفزع كل ملهوف.
فنحمده على ما أخذ وأعطى، وعلى ما أبلى وابتلى فسبحانك. خالقا ومعبودا (2) وسبحانك
بحسن بلائك عند خلقك محمودا. سبحانك خلقت دارا وجعلت [فيها] مأدبة مطعما ومشربا
وأزواجا وخدما وقصورا وعيونا، ثم أرسلت داعيا يدعو إليها، فلا الداعي أجابوا ولا
فيما رغبت رغبوا ولا إلى ما شوقت اشتاقوا، أقبلوا على حيفة يأكلون ولا يشبعون،
افتضحوا بأكلها واصطلحوا على حبها فأعمت أبصار صالحي زمانها، ففي قلوب فقهائهم من
عشقها مرض ومن عشق شيئا أغشى بصره وغطى على عورته ما في قلبه من حبه، فهو ينظر بعين
غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه فهو عبد لها
وعبد لمن في يديه شيء منها حيثما زالت الدنيا زال إليها، وحيثما أقبلت الدنيا أقبل
عليها، لا ينزجر من الله بزاجر، ولا يتعظ من الله بواعظ.
(هامش)
(1) كذا في المختار: (56) من القسم الثاني من باب الخطب من نهج السعادة: ج 3 ص 221،
وفي أصلي ها هنا: تحزون بإهمال الحروف الأولى. (2) وانظر المختار: (348) من نهج
السعادة: ج 2 ص 648 ط 1، والمختار: ( 109) من نهج البلاغة (*)
ص 285
فسبحان الله كيف فارقوا الدور ونزل بهم من الله المحذور، وصاروا إلى القبور
واحتبروا دواهي تلك الأمور (1) فعلم كل عبد منهم أنه كان مغرورا، فغير موصوف ما نزل
بقلوبهم (2) اجتمعت عليهم خلتان: سكرة الموت وحسرة الفوت، فاغبرت لها وجوههم وتغيرت
لها ألوانهم، وفترت لها أطرافهم، وحركوا لمخرج أرواحهم أيديهم وأرجلهم، وعرقت لها
جباههم. ثم ازداد الموت فيهم فحيل بين أحدهم ومنطقه وإنه ليدير بصره في أهله يبصر
ببصره ويسمع بسمعه، وإنه على صحة من عقله قد منع كلامه (3) يفكر بعقله فيما أفنى
عمره وفيما ذهبت أيامه ويتذكر أموالا جمعها (4) أغمض في مطالبها قد لزمه وبالها،
وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه فيكون المهنئ لغيره، والمرء قد علقت بها رهونه،
فهو يعض يده ندامة على ما أصحر له عند الموت وزهدا فيما كان يرغب فيه في حياته [و]
يتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها أنها كانت له دونه. ثم لم يزل الموت
يربده (5) ويبالغ في جسده حتى خالط الموت سمعه فصار / 84 / بين أهله لا ينطق بلسانه
ولا يسمع بسمعه، يردد طرفه في النظر في وجوههم يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع كلامهم
فما زال يزيده حتى خالط عقله فصار لا يعقل بعقله. ثم زاده الموت حتى خالط بصره
فذهبت من الدنيا معرفته وهتكت عند ذلك حجته (6).
(هامش)
(1) وفي نهج السعادة: قد منعوا من الكلام، وغابت منهم الأحلام، وقد أجالوا
الأفكار فيما أفنوه من الأعمار، وتحسروا على أموال جمعوها وحقوق منعوها [وقد]
أغمضوا في طلبها فلزمهم وبالها حين أشرفوا على فراقها.. . (2) كذا في أصلي، وانظر
المختار: (348) من نهج السعادة: ج 2 ص 649 ط 1. (3) وفي المختار: (109) من نهج
البلاغة: فغير موصوف ما نزل بهم . (4) هذا هو الظاهر الموافق لما في نهج
البلاغة، وفي أصلي، وتذكر أموالا.. . (5) كذا في أصلي، فإن صح فلعل معناه، يحبسه
ويركده. وهذه الكلمة غير موجودة في نهج البلاغة، وفي نهج السعادة: ثم لم يزل
الموت بالمرء يزيده ويبالغ في جسده.. . (6) كذا في الأصل. (*)
ص 286
فما زال الموت كذلك حتى بلغت النفس الحلقوم ثم زاده الموت حتى أخرج الروح من جسده
فصار [جيفة] بين أهله قد أوحشوا من جانبه [وتباعدوا من قربه] لا يسعد باكيا ولا
يجيب داعيا (1). ثم أخذوا في غسله فنزعوا عنه ثياب أهل الدنيا ثم كفنوه فلم يزروه
ولكن أدرجوه فيه إدراجا (2) ثم ألبسوه قميصا لم يكفؤا [عليه] أسفله (3) ثم حنطوه
وحملوه حتى أثوا به القبر [فأدخلوه] ثم انصرفوا عنه وخلوه (4). فخلا في ظلمة القبر
وضيقه ووحشته، فذلك مثواه حتى يبلى جسده ويصير رفاتا ورميما. حتى إذا بلغ [الكتاب
أجله] والأمر إلى مقاديره، ألحق آخر الخلق بأوله وجاء من أمر الله ما يريد [ه] من
تجديد خلقه أمر بصوت من سمواته أمار السماء (5) فشقها وفطرها وأفزع من فيها وبقي
ملائكتها على أرجائها. ثم وصل الأمر إلى الأرضين والخلق لا يشعرون فأرج أرضهم
وأرحفها بهم وزلزلها وقلع جبالها من أصولها ونسفها ودك بعضها بعضا من هيبة جلاله
(6) ثم كانت كالعهن المنفوش دكها هي وأرضها دكة واحدة فأخرج من فيها وجددهم بعد [إ]
بلائهم (7)
(هامش)
(1) ما بين المعقوفات مأخوذ من المختار: (109) من نهج البلاغة. (2) كلمة: يزروه
كانت في الأصل مهملة غير منقوطة. (3) كذا في أصلي، ولكن من غير همزة: لم يكفوا ،
وما بين المعقوفين مأخوذ من نهج السعادة: ج 2 ص 652، وانظر ما علقناه عليه. (4) ما
بين المعقوفات مأخوذ من نهج السعادة. وفي نهج البلاغة: ثم حملوه إلى مخط في الأرض
وأسلموه فيه إلى عمله وانقطعوا عن زورته . (5) كذا في أصلي بالراء المهملة، وفي
نهج البلاغة: أماد السماء.. بالدال المهملة. (6) وزاد بعده في نهج البلاغة:
ومخوف سطوته . (7) ومثله في نهج السعادة، وفي نهج البلاغة: فجددهم بعد إخلاقهم
. (*)
ص 287
وجمعهم بعد تفرقهم لما يريد من توقيفهم ومساءلتهم عن الأعمال فمن أحسن منهم يجزيه
بإحسانه [ومن أساء منهم يجزيه بإساءته]. (1) ثم ميزهم فجعلهم فريقين فريقا في ثوابه
وفريقا في عقابه. ثم خلدهم لا بد دائم خيره مع المطيعين، وشره مع العاصين. فأثاب
أهل الطاعة بجواره وبخلوده في داره وعيش رغد، وخلود أبد، ومجاورة رب كريم ومرافقة
محمد صلى الله عليه وآله حيث لا يطعن النزال ولا تغير بهم الحال ولا تصيبهم الأفزاع
ولا تنوبهم الفجائع ولا تصيبهم الأسقام ولا الأحزان (2)، قد أمنوا الموت فلا يخافون
الفوت صفا لهم العيش ودامت لهم النعمة والكرامة في أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من
لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل
الثمرات ومغفرة من ربهم. على فرش منضدة وأزواج مطهرة وحور عين كأنهن بيض مكنون،
وكأنهن الياقوت والمرجان. في فاكهة دائمة غير مقطوعة ولا ممنوعة، تدخل عليهم
الملائكة من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعمى عقبى الدار مع التحية من العزيز
الجبار سلام قولا من رب رحيم، وبرزت الجحيم للغاوين. ونزل بأهل معصيته سطوة مجتاحة
وعقوبة متاحة وقربت الجحيم بالسواطع من اللهب وتغيظ وزفير ووعيد، قد تأجج جحيمها
وغلا حميمها وتوقد سمومها وحمى زقومها لا يخبأ سعيرها ولا ينقطع زفيرها ولا يموت
خالدها ولا يظعن مقيمها ولا يفادى
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في نهج السعادة، وما بين المعقوفين أيضا مأخوذ منه،
وفي أصلي: جزي بإحسانه . (2) كذا في أصلي، وفي نهج السعادة: ولا يمسهم الأسقام
والأحزان.. . (*)
ص 288
أسيرها ولا يفصم كبولها. معهم ملائكة الرب يبشرونهم بنزل من حميم وتصلية [من] جحيم
وطعام من زقوم [وهم] عن الله عز وجل محجوبون، ومن رحمته آيسون، ولأوليائه مفارقون
حتى إذا أدركوا فيها جميعا - نعوذ بالله منها ومما قرب إليها من قول أو عمل / 85 /
أو هوى قالوا: ما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين
(1) وهي ترميهم بشرر كالقصر كأنه جمالة (2) صفر. ثمن يناديهم مالك: لكم الويل
الطويل والحسرة والندامة أما وعزة ربي وجلاله: لأذيقنكم أليم عذابه، والأيدي منهم
مغلولة إلى الأعناق وقد قرن النواصي بالأقدام وألبست الأبدان القطران وقطعت لهم
فيها مقطعات من نيران في عذاب أبد حديد يزيد ولا يبيد، لا مدة للدار فتفنى ولا أجل
للقوم فيقضى (3) فنعوذ بالله من النار وما قرب إليها من قول أو عمل (4).
(هامش)
(1) هذا مقتبس من الآية: (101 - 102) من سورة الشعراء: 26. (2) هذا هو الظاهر
المقتبس من الآية: (34) من سورة: والمرسلات: 77، وفي أصلي: (جمالات). (3) وكأنه
إشارة إلى قوله تعالى في الآية: (36) من سورة فاطر: 35: لا يقضي عليهم فيموتوا،
ولا يخفف عنهم من عذابها . (4) وبعد هذا في المختار: (109) من نهج البلاغة،
والمختار: (348) من نهج السعادة: ج 2 ص 656 زيادات. (*)
ص 289
[كلامه عليه السلام في قدح المتنسكين من الجهال والمواظبين على بعض العبادات
المستهينين بشأن العلماء الربانيين].

وقال [عليه السلام] في ذم الحشوية والجهال
وأصحاب الرواية [الفاقدين للدراية] والمستهينين بالعلماء بعد أن حمد الله وأثنى
عليه فقال: ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم أن من صرحت له العبر عما بين يديه من
المثلات حجزته التقوى عن تقحم الشبهات. وليس يهيج على التقوى نسج أصل (5) ولا يظمأ
على اليقين زرع قوم وإن الخير [كله] فيمن عرف قدره، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف
قدره. وإن من أبغض الرجال إلى الله لعبد وكله الله إلى نفسه جائزا عن قصد السبيل
سائرا بغير علم ولا دليل مشغوف بكلام فتنة (6) أو رجل [وضع] علما في غمار من الناس
أوباش عشوة غار مخدوع بأغباش فتنة قد لهج فيها بالصوم والصلاة، فهو فتنة لمن افتن
بعبادته صاد عن هدى من كان قبله مضل لمن اقتدى به من بعده. سماه أشباه الناس عالما
ولم يغن في العلم يوما سالما، بكر واستكثر مما قل منه خير مما
(هامش)
(5) كذا في الأصل، وفي المختار: (21) من نهج السعادة: ج 3 ص 91: لا يهيج على
التقوى زرع قوم ولا يظمأ عنه سنخ أصل.. . (6) وفي المختار: (21) من القسم الثاني
من باب الخطب من نهج السعادة: ج 3 ص 92: مشغوف بكلام بدعة.. . (*)
ص 290
كثر حتى إذا ارتوى من آجن واكتنز من غير طائل قعد بين الناس مفتيا قاضيا ضامنا
لتخليص ما ورد عليه إن قاس شيئا بشيء لم يكذب نفسه كبلا يقال لا يعلم وإن نزلت به
إحدى المبهمات هيأ حشوا من رأيه ثم قطع بالشبهات خياط عشوات (1) وركاب جهالات فهو
من رأيه على مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم
ولم يعض على العلم بضرس قاطع فيغنم يذروا الرواية ذرو الريح الهشيم، تصرخ منه
المواريث وتبكي عنه الدماء ويستحل بقضائه الفرج الحرام، غير ملئ والله بإصدار ما
ورد عليه، ولا أهل لما فرظ به (2) فأولئك الذين حلت عليهم النياحة أيام حياتهم (3).
(هامش)
(1) هذا هو الصواب، وفي أصلي: بخياط عشوات... . (2) هذا هو الصواب، وفي الأصل:
فرط به.. . (3) هذا الذيل غير موجود في المختار: (17) من نهج البلاغة، وكذا لا
يوجد في المختار: (1) من القسم الثاني من خطب نهج السعادة، ولكنه موجود في الحديث:
(9) من الجزء: (9) من أمالي الشيخ الطوسي رحمة الله عليه وفي الحديث: (1280) من
ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر: ج 3 ص 223. (*)
ص 291
[كلامه عليه السلام في مبدئ الفتن وأصل الانحراف عن الحق والحقيقة والشرع
والشريعة].

وقال [عليه السلام] في الفتن: [إن] بدء [وقوع] الفتن أن تقع أهواء تتبع
وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالا بغير دين الله، فلو أن
الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين و[لو أن] الحق خلص من لبس الباطل
انقطعت عنه [أ] لسن المعاندين (2) ولكن يؤخذ من كل ضغث فيمزجان [و] هنالك استولى
الشيطان على حزبه (3) ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى.
(هامش)
(1) وفي المختار: (65) من نهج السعادة: ج 1، ص 224: أيها الناس إن مبدأ وقوع
الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع.. . وفي المختار: (50) من نهج البلاغة: إنما بدء
وقوع الفتن أهواء تتبع.. . (2) هذا هو الظاهر الموافق لما في نهج البلاغة، وفي
أصلي،: أو الحق من يخلص من فلبس الباطل... . (3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل:
على حربه والعما؟ . وفي نهج البلاغة: فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، ووينجو
الذين سبقت.. . (*)
ص 292
[كلامه عليه السلام في أكثرية المبطلين من المحقين في أكثر الأزمان، وغلبة الأقلية
المحقة على المبطلين في بعض الأحيان].

حق وباطل ولكل أهل فلئن أمر الباطل لقديما ما
فعل، ولئن قل الحق لربما ولعل (1) ولقد خاب من افترى وهلك من ادعى إن الله أدب هذه
الأمة بالسيف والسوط فليس لأحد [عند الإمام] فيهما هوادة (2) فاستتروا ببيوتكم
وأصلحوا ذات بينكم والتوبة من ورائكم، من أبدى صفحته للحق هلك. فاعتبروا / 86 /
أيها الواقفون وتدبروا معاشر المقصرين ما ذكرنا من سوابق أمير المؤمنين وما نحن
ذاكرون من فضائله في كل مذكور من الخير، فوالله لو لم يكن إلا ما ذكرنا في كتابنا
هذا لكان بائنا من الخلق كلهم ولكان مقدما على جميعهم فكيف وما تركنا أكثر مما
ذكرنا. وكيف لا تتخلفون عن مناقبه وتقفون في أمره وقد ملتم إلى العصبية فحفظتم
فضائل غيره وأعرضتم عن فضائله، وإذا ذكرت أموره لم تصغوا إليها وتوليتم عنها ونبزتم
ذاكرها
(هامش)
(1) هذا هو الصواب الموافق للمختار: (16) من نهج البلاغة ومثله وفي المختار (51) من
نهج السعادة: ج 1، ص 177. (2) وفي أصلي: فلئن أمن الباطل لقديما ما فعل، ولئن مر
الحق لربما ولعل.. . (2) ما بين المعقوفين مأخوذ من المختار: (54) من نهج السعادة:
ج 1، ص 194، والهوادة بفتح الحاء: اللين. (*)
ص 293
بالألقاب (1). ولقد فعلت اليهود والنصارى دون هذا فلم يذكروا لمحمد صلى الله عليه
وسلم فضيلة ولا وقفوا من عجائب آياته على علامة ولا دلالة، لتركهم سبيل الإنصاف
وطريق النظر في معرفة محمد عليه السلام.
(هامش)
(1) قال أبو جعفر: وقد صح أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي عليه السلام،
وعاقبوا ذلك الراوي له حتى إن الرجل إذ روى عنه حديثا لا يتعلق بفضله بل بشرائع
الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه فيقول: عن أبي زينب. وروى عطاء عن عبد الله بن شداد
بن الهاد، قال: وددت أن أترك فأحدث بفضائل علي بن أبي طالب يوما إلى الليل وأن عنقي
هذه ضربت بالسيف!! فالأحاديث الواردة في فضله لو لم تكن في الشهرة والاستفاضة وكثرة
النقل إلى غاية بعيدة لانقطع نقلها للخوف والتقية من بني مروان مع طول المدة وشدة
العداوة. ولولا أن لله تعالى في هذا الرجل سرا يعلمه من يعلمه لم يرو في فضله حديث
ولا عرفت له منقبة، ألا ترى أن رئيس قرية لو سخط على واحد من أهلها ومنع الناس أن
يذكروه بخير وصلاح لخمل ذكره ونسي اسمه، وصار وهو موجود معدوما، وهو حي ميتا. هكذا
رواه ابن أبي الحديد في شرح المختار: (57) من نهج البلاغة: ج 4 ص 73 عن المصنف في
كتاب التفضيل. (*)
ص 294
[في أن عامة كلم أمير المؤمنين عليه السلام قد حلى بها المتكلمون كتبهم وتزين بها
الوعاظ والقصاص مجالسهم ولكن انتحلوها ونسبوها إلى أنفسهم].

وأعجب من هذا! أن عامة
ما ذكرنا من كلامه - وما لم نذكره من خطبه في التوحيد والثناء على الله وتذكيره
ومواعظه - قد تحلى بها أكثر المتكلمين وتزين بها الواعظون وتكسب بها القصاص وتكثر
بها في مجالسهم أهل الذكر وأوهموكم أن ذلك من كلامهم فنسبتم ما سمع من ذلك إليهم
كمنصور بن عمار ومن أشبهه من القصاص، قلة عناية منكم بما صدر عنه، وجهلا بما يؤدى
إليكم من علمه وخطبه وقلة تمييز لما يرد عليكم من كلام غيره. وجميع ما ذكرنا وما لم
نذكره من كلامه فهو مشهور مذكور عند أهل الرواية، وبالأسانيد المذكورة عند أهل
المعرفة معروف (1). فأين التخلف عن فضله وقد بزغت مناقبه؟ وما العلة في تقصير ما
يجب من أداء حقه؟ بعد الذي شرحنا من أموره وذكرنا من فضائله [و] ليس بعد هذا علة
فيدعيها الواقف، ولا شبهة فيلجأ إليها المقصر، لأن كل الذي وصفنا إن لم يكن سببا
إلى الافراط والغلو لم يجد الناظر فيه سبيلا إلى منزلة التقصير والوقوف، فانظروا في
ذلك نظر من يلتمس الصواب ويقتديه ويكره الخطأ ويزهد فيه.
(هامش)
(1) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: والأسانيد المذكورة عند أهل المعرفة معروف . (*)
ص 295
فأبو بكر وإن كان فاضلا فقد كان في بدنه ضعيفا ولم يكن على أكناف أهل العداوة في
الحروب ثقيلا، ولا كان في ذلك مقدما، ولا لعلي مدانيا، وإن كان في منزلة السبق
سابقا فلم يكن في شدائد امحن السبق داخلا ولا كان بالحصار ممتحنا وبالفراش مخصوصا
وعلي في كل ذلك عليه مقدم. وأبو بكر وإن كان بالله عالما (1) فلم يبلغ من الرساخة
في العلم والذب عن الله بالمحاجة في العلم والدين والرد على الملحدين ما يقرب من
منزلة علي (2) في علم التوحيد، وأبو بكر وإن كان خطيبا بليغا (3) فلم يكن في خطبه
متسعا ولا في بلاغته مسحنفرا (4) ولا للمعاني الدالة على لطافة العلم بغائص الفهم
ولطافة الفكر مستخرجا. وإن كان أبو بكر هذا صبورا فلم يبلغ من زهده زهد من قاسى
الفقر في أوله، وقاسى عدم الكفاية في أيامه، وسعى في طلب قوته بمؤاجرة نفسه، وعف عن
مال الله عند إقبال الدنيا عليه وحين أفضت الخلافة إليه. ولم يمتحن أبو بكر
بالاستئثار عليه ولا امتحن في زمانه بحدوث / 87 / الفتن المتراكمة
(هامش)
(1) ولكن لم يكن يتجاوز علمه عما يعرفه كل بدوي بفطرته، أو عجوز بصنعتها، والدليل
عليه عدم ورود أثر ولو كان ضعيفا عنه مع شدة حاجة أوليائه إلى ذلك. ومع كون سلطة
بلاد المسلمين إلى الآن بيد أوليائه من غير انقطاع، فالصواب إنه لم يكن في علم
الإسلام بعالم، وإلا كان يبرز له علم في بعض مجالات الدين، وحيث لم يظهر منه شيء مع
شدة حاجة شيعته إليه إليه ومع تمكنهم في البلاد من عصره إلى عصرنا هذا - يتبين أنه
لم يكن عالما، وفي مثل المقام قطعيا وبديهيا يصح أن يقال: عدم الوجدان يدل على عدم
الوجود إذ لو كان لبان. (2) هذا هو الصواب، وفي أصلي: وما يقرب من منزلة علي.. .
(3) ولعله أراد بلاغته في خطبته التي ألقاها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله
وقوله فيها: ألا ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات؟!! . (4) رسم خط هذه
الكلمة لم يكن في الأصل واضحا. (*)
ص 296
والشبهات الحادثة من بغى من بغا عليه ونكث من نكث عليه وشبه الأمور ولبس، و[من]
تخلف من تخلف [عنه] ممن افتتن الناس بتخلفه واقتدى الجاهل بقعوده. ولقد امتحن أبو
بكر بالردة في زمانه وكان لعلي في تلك الحال الفضيلة لأنه هو المشير على أبي بكر
بالقيام بحرب الردة (5). ففي كل ما ذكرنا علي بن أبي طالب المخصوص به القائم بحق
الله فيه الفال لتلك العساكر بحده والمدبر للأمور بفضل رأيه والداعي في ذلك الساعات
إلى أوضح المحجة بأصدق نية وأبلغ مقالة وأنجح حجة وأهدى سبيل وأحسن هدى وأبلغ منطق
وأحد حد وأشد بأس، وأخمد لهب الفتنة، وهتك ستر الشبهة بعمود السنة، وبقر الباطل
فأخرج الحق من غضارته (1) وخلصه من لبس المعاندين له، مكدودا دوما في ذات الله لا
كليل الحد ولا وإن الضريبة، لم تصرفه عن طاعة ربه رغبة، ولم يفتر (2) عند الكريهة
والشديدة مضى على منهاج صاحبه وأخيه يقفوا أثره ويسير سيرته في عدوه ووليه، فباشر
من حقائق الصبر ما لم يباشره أحد فصبر على مر الحق ومحنة الفقر صبرا استلان [له] ما
صعب على المترفين، وأنس بما استوحش منه الجاهلون (3) وصحب الدنيا بعفاف
(هامش)
(5) إن أراد المصنف من حرب الردة حرب مسيلمة الكذاب والسجاح والأسود العنسي
وأتباعهم فصحيح، وإن أراد معنى أعم من ذلك بحيث يشمل وقعة قتل مالك بن نويرة
فمحكمات التاريخ تكذبه.. (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: من خاصرته . (2) هذا هو
الصواب، وفي أصلي: ولم يفتن.. . (3) هذا هو الصواب، وفي الأصل: وأنس بحيث ما
استوحش منه الجاهلون . وكلام المصنف هذا مقتبس من كلام أمير المؤمنين عليه السلام
في وصيته إلى كميل بن زياد المعروفة بين الخاص والعام. ومن قوله: وخطة فصل
الآتي بعد ثلاث فقرات إلى قوله: عطائك المعلول . أيضا مقتبس مما رواه المصنف عن
أمير المؤمنين عليه السلام المتقدم في ص 258. وقد رواه أيضا السيد الرضي في
المختار: (70 و106) من نهج البلاغة.. (*)
ص 297
صادق، وعدل ظاهر، ونزاهة نفس وخطة فصل ومنطق عدل، ففتح الله به ما أغلق، وأعلن به
ما كتم، ودمغ به الباطل في غير نكل في قدم ولا واه في عزم. اللهم فأكرم لديك مثواه
ونزله وتمم له نوره واجزه كما حمل، فاضطلع بأمرك مستوفزا في مرضاتك، حافظا لعهدك
ماضيا على نفاذ أمرك. اللهم فاجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة مرضي المقالة، شريف
المنزلة، من فوز ثوابك المحلول، وجزيل عطائل المعلول. (*)
ص 298
[أجوبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن أسئلة ابن الكواء عن آيات من القرآن
الكريم وعن أجلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي ذيل الكلام بيان
منزلته عليه السلام عند رسول الله، ثم قوله حول اختلاف الأحاديث المروية عن رسول
الله، وأن المعتمد منها هو ما اقتبسه عنه صلى الله عليه وآله وأما غيره فلا بد من
التثبت فيه]

وذكروا أن ابن الكواء لما سمع عليا يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني
فإن العلم يقبض قبضا، سلوني فإن بين الجوانح [مني] علما جما. فقام إليه ابن الكواء
فقال: [أنا] أسألك يا أمير المؤمنين؟ فقال: سل تفقها ولا تسل تعنتا، وسل عما يعنيك
ودع ما لا يعنيك. قال: يا أمير المؤمنين: ما الذاريات ذروا ؟ (1) قال: تلك
الرياح. قال: فما الحاملات وقرأ ؟ (2) قال: تلك السحاب. قال: فما الجاريات
يسرا (3) قال: تلك السفن. قال: فما المقسمات أمرا ؟ (4) قال: تلك الملائكة.
(هامش)
(1 - 4) الآيات من أول سورة والذاريات : 51، وما في هذه الرواية أخيرا أي قوله:
فالمقسمات أمرا هو الصواب، ومثلها في رواية أبي الفرج دون ما في رواية ابن
عساكر في ترجمة ذي القرنين من تاريخ دمشق كما نبهنا على ذلك في تعليق المختار:
(341) من نهج السعادة: ج 2 ص 628. (*)
ص 299
قال: فحدثني عن [قول الله: و] البيت المعمور والسقف المرفوع [4 - 5 / الطور:
52]. قال: ذلك الضراح بيت في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك. قال: فحدثني عن ذي
القرنين! أني أم ملك؟! قال: ليس واحد منهما ولكن كان عبدا نصح الله فنصح الله له،
وأحب الله فأحبه. قال: فأخبرني فيمن نزلت هذه الآية: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة
الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار [28 / إبراهيم: 14] قال: هم الأفجران من قريش:
بنو أمية وبنو المغيرة (1)، فأما بنو المغيرة فقطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو
أمية فمتعوا إلى حين. قال: فحدثني عن قوله: قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين
ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [103 / الكهف: 18]. قال:
هم أهل حروراء. قال: يا أمير المؤمنين فحدثني عن هذه المجرة ما هي؟ قال: هذه أسراج
السماء ومنها هبط من السماء / 88 / الماء المنهمر (2). قال: يا أمير المؤمنين
فحدثني عن قوس قزح؟ قال: لا تقل قوس قزح ولكنها قوس الله وأمان من الغرق. قال:
فحدثني عن هذا المحق الذي (3) في القمر ما هو؟ قال: قال الله: فمحونا
(هامش)
(1) أنظر كتاب فضائل الخمسة: ج 3 ص 306 ط 2. (2) كذا في أصلي، وفي المختار: (342)
من نهج السعادة: ج 2 ص 632: قال: فما المجرة؟ قال: شرج السماء، ومنها فتحت أبواب
السماء بماء منهمر زمن الغرق على قوم نوح . أقول: وذيل الكلام إشارة إلى قوله
تعالى في الآية: (11) من سورة القمر: (54): ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر .
(3) لفظة: المحق رسم خطها غير واضح في أصلي. (*)