فهرس الكتاب

 

 

 

 

الفصل الأول : الأصل الكريم والميلاد المبارك

وليداً عظيماً :

كانت مكة تحتفل بالوافدين إلى زيارة بيت اللـه الحرام .. في الشهر الحرام ، رجب الأصب . وكانت الوفود الكريمة تؤدي مناسك البيت ، والناس يطوفون حوله ، وينادون ربهم حيناً ، والأصنام أحياناً . وكانت هنالك امرأة كريمة ، تطوف لا كما يطوفون ، إذ كانت تتجه إلى اللـه وحده لا شريك له ، فتغمر نفسَها ضراعةُ المتبتِّل ، وخشوع المحتاج ، ووقار المطمئن إلى فضل اللـه ، تدعو اللـه وحده ، وتسأله أن يخفف عنها وطأة ما تخافه وتحذره .

لقد كانت أُمّاً لثلاثة أبناء وبنت واحدة ، ولكن لم يشتد بها المخاض ولا عصر أعصابها كهذه المرة .

ودعت ، فألحت في الدعاء لعل اللـه يخفف عنها آلام الطلق ، وتضرعت فأبلغت في التضرع ، وفي الجانب الغربي من البيت ، إذ اجتمع طائفة من الحجاج ، حدث أمر عجيب :

لقد كانت في أُخريات أشواطها ، عند مقترب الركن اليماني ، إذ انشق لها جانب البيت ، وكأن نداءً خفيّاً يدعوها أن ادخُلي بيت ربك !

دخلت البيت ، والناس يشهــــدون في ذهول ويصيحون صيحة العجب !. فيتقاطر عليهم سائر الطائفيـــــن ، يسألون عن الحدث ؟ ومن هذه السيدة التي كانت الساعة تطوف ؟. إنها حفيدة هاشم بنت أسد ، زوجة أبي طالب والدة أم هاني وطالب وعقيل وجعفر . إنها فاطمة !.

ويجتمع الناس وبينهم الزعماء والأشراف .. وبعد مدة ، ينشق الجانب ذاته ، فتتهلَّل وجوه الحاضرين كما يتهلل وجه الوليد العظيم ، وهو يتقلب على أذرع الوالدة الكريمة .

إنه حادث فريد من نوعه ، أن ينشق طرف البيت ، فتدخل الحامل وتلد في مركز الإشعاع الروحي والبركة الإلهية ، بيت اللـه الحرام الذي يعتبر أقدس محل “ يحترمه العرب “ ..

وإنها لكرامة لبني هاشم على قريش ، ولقريش على العرب أن يوليّهم ربُّ البيت بهذه العناية ، فيسمح لامرأة منهم أن تضع حملها ببطن بيته ، مكرَّماً ومعظّماً .

وسرت البشرى في بيوت الهاشميين !. وانطلقت نساؤها تزف تهانيها إلى فاطمة معجبة مغرمة .. وجاء الزعماء يبشرون أبا طالب بالوليد العظيم ، ومن بين هؤلاء فتى يهمه أمر الوليد أكثر من غيره ، ينظر إليه لا كمــــــا ينظر الرجال الآخرون .. إنه محمد بن عبد اللـه (ص) الذي لم يزل يحسب من عائلة أبي طالـــب ، فإذا تناول الوليد تلا آياتِ اللـه فأعجب به وبارك بولادته .

وقالوا : إن الوليد لم يفتح عينيه إلاّ على محيَّا ابن عمه النبي العظيم وسُمِّيَ عليّاً ، واختارت أمه له اسم ( حيدر ) وإذا كان هذا الاسم يوحي باكتمال الجسم الذي يبشر بالبطولة ، فإن الاسم الآخر كان يوحي ببشائر السموِّ المعنوي .

 

الولادة المعجزة :

كانت لولادته - كما لمقتله - (ع) ، شهادة حق على صدق رسالات اللـه .. إنه آية اللـه العظمى في كل جوانب حياته ، من ولادته إلى شهادته .

فلماذا تحاط ولادة الرسل والأئمة بالآيات ؟ فموسى (ع) يقذف في التابوت ليلقيه اليم بالساحل .. وليُصنع على عين اللـه .

وعيسى (ع) يولد من غير أب ، ويكلِّم الناس في المهد صبيّاً .

وسيدنا محمد (ص) ترافق ولادته حوادث عظيمة ، تسقط شرفات قصر فارس ، وتخمد نيرانهم ، وتغيض بحيرة ساوة ، وتفيض الأخرى في سماوة و. و.

والإمام علي يولد في الكعبة بعد أن ينشق لأمه فاطمة بنت أسد ، جانب المستجار ، لماذا ؟.

هل لأنهم قد اصطفاهم اللـه لرسالاته قبل الولادة ، حيث بادروا بالتلبية في عالم الذر قبل غيرهم من الصالحين ، فاجتباهم على علم ، وأبان فضلهم بالولادة المعجزة (1).

أم لأن اللـه سبحانه اطَّلع على مستقبل حياتهم ، فأكرم مواقفهم المسؤولة التي يعلم أنهم سوف يختارونها بكل حرية فأكرم مثواهم ، وجزاهم بطيب الولادة ، وإعجازها ؟..

أم لأن الرب سبحانه أراد بذلك أن يكرم الأصلاب الشامخة والأرحام الطاهرة ممن ولدوهم ، كما فعل بمريم الصدِّيقة ، لمكانها عند ربها ، أو بزكريا وزوجته عليهم السلام جميعاً ؟.

أم لأسباب أخرى ؟

ولكن الولادة المعجزة بلاغ مبين للناس ، بشأن الوليد العظيم بدون أدنى شك .

بعد أن خرجت أم علي (ع) تحمله ، استقبله النبي محمد (ص) وهو يعلم أنه سيكون وصيَّه وخليفته ، فعمَّ السرور قلبه الكبير .

ولم يتفارقا منذ تلك اللحظة حتى ارتحل عنه النبيُّ (ص) إلى ربه ، فلزم الوصي سنَّته حتى الشهادة .

وحين يصف الإمام بفخر عظيم تلك العلاقة الحميمة بينه وبين النبي (ص) لايدع لنا إشكالاً في أنها كانت من تقدير اللـه عزَّ وجلَّ وأن لها آثارها في بلاغ رسالاته إلى الناس .. يقول :

“ أنــــا وضعت في الصغر بكلاكل العرب ، وكسوت نواجم قرون ربيعة ومضر ، وقد علمتم موضعــــي مــــن رسول اللـه (ص) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسُّني جسده ، ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثم يُلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قوله ، ولا غلطة في فعل ، ولقد قرن اللـه به (ص) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه اتِّباع الفصيل أثر أُمه ، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علَماً ويأمرني بالاقتداء به . ولقد كان يجاور كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللـه (ص) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة . واشم ريح النبوَّة “ (2).

 

الفتى المبارك :

ولم يزل يدرج ويترعرع متميزاً بين أترابه ، في أعماله ، وأقواله ، ففي ذات يوم ، وكان له آنذاك سنوات قلائل .. وكان يلعب مع أترابه ، إذ ينزلق أحد الأطفال بجانب بئر كانت هناك .. وقبل أن يسقط فيها يلحقه علي (ع) فيأخذ منه عضواً ، فيعلق رأس الطفل إلى الأسفل وتمسك عضوه الأعلى يد عليّ ، ويصيح الأطفال ، ويأتي أهل الطفل .. ويتعجبون للمنظر .. وكان يسمّى عليٌّ - مباركاً - فقالت والدة الطفل : أيها الناس أترون مباركاً ، كيف أنقذ ولدي من الهلاك .

وكانت الظروف صعبةً في مكة ، وقد أصاب البلد الحرام قحط شديد ، عمَّ بيت أبي طالب . فجاء النبي (ص) إلــــى بعض أعمامه الأثرياء ، يفاوضهم في الأمر . واقترح أن يتكفلوا أبناء عمه . فلما عرضوا عليه قــــال : أبقوا لي عقيلاً وخذوا من شئتم . فأخذ كل من العباس وحمزة عمّا النبيِّ وهاله بنت عبد المطلب عمتــــه ، واحداً من أبناء أبي طالب ، وبقي علي (ع) فإذا بالنبي يستدعيه ليكون له صاحباً ، فيغمره البشـر ، ويأوي إليه كما يأوي الفصيل إلى أُمه .

إن علــيّاً الذي فتح عينيه - أول ما فتحهما - على ملامح النبي (ص) ، وظل مغموراً ببركاته أيام صغره . إن عليّاً الذي رأى في محمد (ص) الحب والحنان ، وكل خصال الخير والجمال ، لابد أن يأوي إليه ويسارع إلى قبول كفالته له ، ويفيض فرحاً بذلك وابتهاجاً .

أخذ علي ، يتبع كفيله وحبيبه النبيَّ محمداً (ص) ويطمئن إليه بكل قلبه ، ويقلده في كل عمل !

وذهب النبي (ص) يغدق على ابن عمِّه كل ما أفاءت إليه رحمة اللـه ، من آداب حِسان وخُلق كريم !

.. ولم يزل عليٌّ يرى النبي (ص) دائم التفكير يقلّب وجهه في السماء يلتمس من ربه نوراً .

في تلك الأيام التي كان يتعبد النبي في غار حراء ، كان علي يتدبر في عبادته ، ويفكر فيها فيفهم معنى العبادة ومغزاها ، ويؤمن بمن يعبده ويهتدي إليه بفطرته النقية التي لم يتسرب إليها الشك أبداً !

إن علــــيّاً (ع) أوتي من النبوغ والذكاء ما يؤهله لكل ما كان النبي (ص) مؤهلاً له . ومن الخطأ أن نحدد أول وقت آمن فيه ، فلقد كان مؤمناً بفطرته ولا يصح لنا ان نقرن إيمانه بزمان دون زمان - هكذا عبر النبي - ذات مرة إذ سأله رجل من المسلمين عن أول وقت آمن فيه الإمام علي فقال : إنه لم يكن كافراً حتى يؤمن ، كما أنه نفسه بيّن ذلك حين أكد أنه لم يكن مسبوقاً بالشرك .

وعندما هبط الوحي على قلب محمد (ص) وجاء النبيُّ إلى الإمام يخبره ، ينفتح قلبه على أمر موعود ، وحقيقة منتظرة ، ذلك اليوم كان عمر الإمام عشر سنوات ، ولم يكن يعرف إنسانٌ طيب يمتاز عليه من الآخرين ، بل كانت فيه كل معاني الفضيلة والسمو ، صدقه ، أمانته ، بره بالخلق ، إحسانه ، صلته للرحم وغير ذلك .. أجل لم يكن هناك من يمتاز عليه غير محمد بن عبد اللـه (ص) البر الكريم ، فيكف لايصدقه وكيف لا يتبعه .

وذات يوم دعاه النبي إلى الصلاة ، فقام عليه السلام يتعلم قواعدها ويتوجّه إلى المسجد الأقصى حيث القبلة الأولى للمسلمين .. فيصلي بصلاة النبي ، وتصلي وراءهما خديجة زوجة الرسول . فهؤلاء ثلاثة ليس لهم الآن نظير على الأرض ، يبتهلون إلى اللـه بركعات ، يرتلون من آي الذكر الحكيم ، ما يزيدهم هدى ، ويملأ شعورهم إيماناً واطمئناناً .

لقد تشكلت الآن أول خلية حيّة ، بين ملايين الخلايا الميتة في المجتمع البشري . وإنها تسعى لكي تزيد نفسها حجما وقوة ، وتبعث الحياة - بإذن اللـه - إلى سائر الخلايا .

ومن هذا العقد من حياة علي (ع) يبتدئ عهده مع الجهاد والتضحية ، لقد انتقل من بيت كفيله إلى بيت والده من سنتين ، بيد أنه لايزال يقضي غالب أوقاته في بيت خديجة قريباً من الرسول (ص) ليرفع له كل يوم علماً في المعارف والآداب ، فيتَّبعه .

وظل الإسلام يتخذ من هذه الأنفس المباركة - أنفس محمد وعلي وخديجة - أولى قواعده وأزكاها .. حتى اجتمع إليه رجال ونساء يتحدون بالإسلام الوضع الفاسد .

وظل دعاة الإسلام يبذلون في سبيل الدعوة طاقاتهم ودمائهم ، حتى نمت شجرة الإسلام ، وجاء الوحي يأمر النبي بأن يصدع بما يؤمر وينذر عشيرته الأقربين وإظهارها للناس أجمعين .

فأمر النبي عليّاً (ع) أن يهيئ طعاماً ويدعو بني هاشم إلى بيته . واجتمعوا إليه يقودهم أبو طالب سيدهم ووالي أمورهم .

فلما طعموا ورأوا أن قصعة الثريد ، التي أكلوا منها لم ينقص منها شيء وعجبوا ، وجاء النبي يكلمهم بشأن الدعوة راح عمه أبو لهب ، يبعث كلماته الساخرة !!

إن أبا لهب كان من ألد أعداء الإسلام ، مع أنه كان من أقرب الناس رحماً بالنبي (ص) ولم ينزل في القرآن آية يذكر فرداً من معاصري النبي بالسوء غير ما نزل في حق أبي لهب ، وفي سورة كاملة تُبتدأ بقول شديد :

{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } (المسد/1)

وقد كان أول المستهزئين بالرسول ، ذلك النهار ، حيث قال بين فتيان بني هاشم الذين كانوا زهاء أربعين رجلاً ، قال : لشد ما سحركم صاحبكم ، أي ما أعجبه رجلاً قد سحركم . فتفرق القوم ولم يكلمهم الرسول (ص) .

فلما كان من غد استضافهم علي (ع) مرة أخرى فجاؤوا وأكلوا وشربوا ، وقبل أن يتكلم أبو لهب ، ابتدأهم الرسول قائلاً :

“ يا بني عبد المطلب ! إني - واللـه - ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا جئتكم به . إنِّي قَد جئتكم بخير الدنيا والآخرة . وقد أمرني اللـه تبارك وتعالى أن أدعوكم ، فأيكم يؤازرني على أمري ، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ “ .

فأحجم القوم جميعاً ، إلاّ علياً ، وكان ذلك اليوم - كما يصف نفسه - أحدثهم سنّاً ، وأرمضهم (3) عيناً وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم (4) ساقاً فقال :

“ أنا يا نبي اللـه أكون وزيرك عليه “ .

فأخذ برقبته ثم قال : “ فاسمعوا له وأطيعوا “

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لعليِّ وتطيع .

وظلت هذه الدعوة تتراوح بين علي (ع) وخديجة (ع) ثلاث سنوات ، وكان النبي يصلي بهم في خفاء ، ويؤدي بهم مناسك الحج على سنّة الإسلام ، حنيفاً بها عما كان يأتيه أهل الجاهلية .

فلقد أُثر عن عبد اللـه بن مسعود قوله : إن أول شيء علمته من أمر رسول اللـه (ص) قدمت مكة في عمومة لي ، فارشدونا إلى العباس بن عبد المطلب ، فانتهينا إليه وهو جالس إلى مَن ثَمَّ (5) فجلسنا إليه فبينما نحن عنده ، إذ أقبل رجل من باب الصفا تعلوه حمرة ، وله وفرة جعدة إلى أنصاف أذنيه ، أقنى الأنف ، برّاق الثنايا ، أدعج العينين (6) كث اللحية(7) رقيق المسربة(8) شثن الكفَّين(9) حسن الوجه ، معه مراهق أو محتلم تقفوه امرأة قد سترت محاسنها ، حتى قصدوا نحو الحجر ، فاستلمه ثم استلمه الغلام ، ثم استلمته المرأة ، ثم طاف بالبيت سبعاً ، والغلام والمرأة يطوفان معه . فقلنا : يا أبا الفضل !. إن هذا الدِّين لم نكن نعرفه فيكم . أوَ شيءٌ حدث ؟ قال : هذا ابن أخي محمد بن عبد اللـه والغلام علي بن أبي طالب ، والمرأة امرأته خديجة بنت خويلد ، ما على وجه الأرض أحد يعبد اللـه تعالى بهذا الدِّين إلاّ هؤلاء الثلاثة .

وقال عفيف الكندي : كنت امرءاً تاجراً ، فقدمت الحج فأتيت العباس بن عبد المطلب ، لابتاع منه بعض التجارة ، - وكان امرءاً تاجراً - فواللـه إني لعنده بمنى إذ خرج من خباء قريب منه فنظر إلى الشمس ، فلما رآها قد مالت ، قام يصلِّي ( قال ) ثم خرجت امرأة من الخباء الذي خرج ذلك الرجل منه فقامت خلفه فصلَّت ، ثم خرج غلام هيِّن راهق الْحُلم من ذلك الخباء فقام معه فصلَّى ( قال ) فقلت للعباس مَن هذا يا عباس ؟ قال : هذا محمد بن عبد اللـه بن عبد المطلب ابن أخي ( قال ) : فقلت : مَن هذه المرأة ؟. قال : امرأته خديجة بنت خويلد ( قال ) فقلت : من هذا الفتى ؟. قال : علي ابن أبي طالب ابن عمه (قال ) فقلت له : ما هذا الذي يصنع ؟ قال : يصلِّي ، وهو يزعم أنه نبي ولم يتَّبعه على أمره إلاّ امرأته وابن عمه هذا الفتى ، وهو يزعم أنه ستفتح عليه كنوز كسرى وقيصر .

ومضت على الدعوة مدة ، وعليُّ يستقيم على الصراط السوي ، ويقاوم الضغوط ، ويصوغ الوحي شخصيته الفذة . ثم التف حول الدعوة رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر ربهم . فلما أمرهم النبي بالهجرة إلى الحبشة وأمَّر عليهم جعفراً أخا عليٍّ عليهما السلام ، قامت قيامة قريش الذين رأوا من مناوئهم - العظيم - القوة وحسن التدبير ، فأخذوا يدرسون خطة أخرى أشد وأقسى مما سبق ، وذلك بفرض حصار إجتماعي على بني هاشم زاعمين أنهم شذُّوا عن النظام الإجتماعي السائد .

فدبروا أمر الصحيفة الملعونة ، حيث أَجمعوا على أن لايخالط النبيَّ (ص) ومن دار في أفقه من الهاشميين ، وعلى رأسهم سيدهم أبو طالب ، ولا يعاملهم أحدٌ أبداً .. فجمع أبو طالب أهله في شِعْبٍ له ، وذبَّ عنهم بما كان لديه من طاقة وسلطان .

وتلك كانت فرصــــة سانحة للإمام عليّ (ع) أن ينهل من نبع النبي الفيّاض ، كل مكرمة وفضيلة ومعرفـــــة ، كما استطاع أيضاً أن يمارس جهاده الشاق طيلة ثلاث سنوات . ولعل هذا كان أول ميادين الجهـــــاد التي خاضها ابن أبي طالب (ع) ولكن كان له من قبله جهاد آخر ، إلاّ أنه ليس في هذا المستــــوى ، وذلك أن النبي (ص) كان يمر بطرقات مكة فيرشقه أبناء مكة بالحجارة والحصى ، بأمرٍ من أوليائهم ، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يعبأ بذلك ، بيد أن علياً (ع) كان يصاحبه ، فإذا أساء أحدهم إلى النبي (ص) أخذه وجدع أذنه ، وكان عليّ (ع) قويّاً منذ صباه وشجاعاً ، وكان كذلك مهيباً في أعين أترابه ، فإذا رأوه يمشي مع النبي ، قالوا لبعضهم مهلاً فإن معه القضم ، أي الذي يقضم آنافهم وآذانهم .

 

(1) هكذا جاء في بعض النصوص المأثورة .

(2) نهج البلاغة الخطبة ( 192) .

(3) رمضت عينيه : حميت حتى كادت تحترق .

(4) حمشت الساق : دقت .

(5) لعل مراده انه كان جالساً عند جماعة هناك .

(6) أي شديد السواد مع سعتها .

(7) مجتمع الشعر : غير طويل .

(8) المسربة : الشعر وسط الصدر إلى البطن .

(9) غليظ الكفين .