فهرس الكتاب

 

 

 

 

الفصل الثاني: حياته في عهد الرسول (ص)

الهجــرة :

وبعد ما نُقضت الصحيفة الملعونة ولم تفتَّ في عضد الدعوة ، واضطرت قريش أن تسمح لبني هاشم بالدخول في رباع مكة ، والإختلاط مع الناس ، أصاب المرض عمَّه وكفيله أبا طالب ، كما أصاب زوجته الوفية خديجة عليهما السلام ، لما كانا قد لاقياه في الشعب من العنت ، فماتا في السنة التالية التي سميت بعام الحزن ، وفقد النبي (ص) أكبر معين وأشد ركن يعتمد عليه في الملمَّات .

وعزم النبي (ص) على الهجرة إلى المدينة المنورة ، وعزم الكفار أن يقتلوه غيلة قبل أن يهاجر إليها ، وانتخبوا من بينهم ثلاثين مقاتلاً مغامراً ، يهجمون على دار النبي (ص) ليلاً فيقتلونه ، وينتمي كل منهم إلى بطن من قريش فيضيع دمه بين قريش جميعاً . وجاء نبأ ذلك إلى النبي (ص) فرسم خطة مسيره إلى المدينة ، وذلك بان يتجه تحت جنح الظلام إلى غار ثور ، ثم يتخذ طريقاً منحرفاً عن الجادة إلى المدينة ، بيد أن الخطة كان يعوزها شيء واحد ، وهو أن هؤلاء الفتية من قريش إذا عرفوا خروج الرسول أول الليل ، فإنهم سوف ينتشرون حول مكة بحثاً عنه ، ولا محالة سوف يجدونه ، وإن وجدوه قتلوه ، فقرر الرسول (ص) أن يموِّه عليهم بأن ينام مكانه شخص ، ليخيَّل إليهم أنه النبي ، وسوف لايكتشفون الحقيقة إلاّ بعد أن يكون النبي مبتعداً عن مكة أميالاً أو يستقر في غار ثور فعلاً .

ولكن من هو ذلك الذي يُقدم على الموت على الفراش ؟. وليس في ساحة الحرب ، حيث الثورة والهياج وحيث يُقاتِل فَيَقتل ويُقتل ، بل الموت على الفراش لايدافع عن نفسه ، ولا تثور أعصابه ، ولا يقوم بحركة !

إن لهذه المهمة رجلاً واحداً فقط ، هو ابن أبي طالب !! إنه لا يتهيَّب أبداً وَقَع الموت عليه ، أو وقع هو على الموت .

وجاء إليه النبيُّ (ص) يعرض عليه أمر الهجرة ، ويأمره بالمهمة ، فإذا بعليٍّ (ع) وكأنه قد بُشر بملك الدنيا ، يرحب بها بعد أن يطمئن إلى سلامة الرسول (ص) . وينجو الرسول من أيدي المتآمرين ، ويتقلب الإمام على فراشه ، وتلمع حول البيت سيوف تنتظر الفجر لتهجم على المستلقي على الفراش فتقطعه إرباً إرباً ، وعندما اقترب الصبح ، رمَوا حجراً إليه ، فلم يتحرك ، ثم رمَوا الثاني . وعندما رمَوا الثالث قام من مكانه ، فقال قائلهم من هذا ؟. إنه ابن أبي طالب ، يا عليّ ، اين محمد ؟ فأجال عليٌّ طرفــــه بينهم وقال : وهل أودعتموني محمــــداً ؟.. فأراد بعضهـــم أن يفتك به ، ولكن منعه الآخرون ، وأنجــــاه اللـه من شرّهم .

وكان على الإمام (ع) مهمة كبيرة أخرى ، تلك مسؤولية حمل أهل بيت النبي (ص) وضعفاء المسلمين المتخلفين في مكة إلى المدينة . وكانت مهمة شاقة حيث إن أهل مكة حينما عرفوا بغياب النبي تمـيَّزوا غيضاً ، لما علموا بأن تخلص النبي عن أيديهم سوف يكلِّفهم كثيراً . فعزموا على أن يمنعوا بقية أصحابه عن الالتحاق به بكل وسيلة ، وراحوا يراقبونهم ، مراقبة شديدة ، ألاّ يفلتوا من أيديهم ، وعلى رأس هؤلاء أهل النبي (ص) وعياله .

وبعد مدة جمع علي (ع) أمره ، وخرج - خفية - بالفواطم : فاطمة بنت ( رسول اللـه ) ، وفاطمة بنت أسد ( والدة الإمام ) وفاطمة بنت الزبير ( عمته ) وبعض الضعفاء من المسلمين يريدون المدينة ، وكانوا قد ابتعدوا عن مكة أميالاً ، عندما علم أهل مكة بالأمر ، فجهزوا سرية سريعة إلى الركب لإعادته قسراً إلى مكة ، وكانت السرية بقيادة جناح ، مولى حارث بن أمية .

فجاءت حتى إذا بلغت الركب ، التفت إليهم علي (ع) فحمل عليه جناح بسيفه فأسرع علي (ع) وأخذ السيف من يده ، وضربه ضربة فأرداه قتيلاً ، واستسلم سائر الافراد لما رأوا من شجاعة علي (ع) وقوة بأسه ، فتركهم الإمام ، وحث راحلته إلى المدينة .

 

غزوة بدر :

وحشدت قريش قواها ، لتحارب النبي (ص) الذي أخذ يكوِّن في مهجره مجتمعاً إسلاميّا يهدد الظالمين ، فإذا بها ترسل إلى المدينة الف مسلح شجاع ، وجنَّد النبي (ص) لها ما كان يملك من قوة عسكرية فالتقى الجمعان في منطقة ( بدر ) .

وفي يوم السابع عشر من شهر رمضان في السنة الأولى من الهجرة ، ابتدأ الفريقان بالمبارزة . وكان من بينهم ثلاثة من الشجعان يدعون شيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن ربيعة ، فبرزوا للحرب وطالبوا بأقرانهم من قريش، فأَنهضَ رسول اللـه عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب . وعليّاَ (ع) فراح الإمام حتى قتل الوليد وشيبة ، وشارك في قتل الآخر .. وبذلك فقدت قريش أشجع أبطالها ، وبعد مبارزة أخرى قتل فيها علي (ع) حنظلة بن ابي سفيان ، والعاص بن سعيد بن العاص ورجالاً آخرين من شجعان مكة ، فانهزموا وانتصر المسلمون بإذن اللـه تعالى .

 

غزوة أُحد :

ورجع جيش مكة منهزماً وقد قتل شجعانه وأبطاله . فأخذت سلطة الأشراف تستعد لشن حملة أخرى ، تغسل بها ما أصابها في بدر من عارٍ وذلٍّ ، وتبيد بها دعوة النبي (ص) ورسالته .

ويصف علي (ع) هذه الغزوة ، فيقول : وأقبل إلينا أهل مكة على بكرة أبيهم - قد استحاسوا ( أي حرضوا وجمعوا ) من يليهم من قبائل قريش ، طالبين بثأر مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرائيل على النبي (ص) فأنبأه بذلك ، فذهب النبي (ص) وعسكر بأصحابه في سد أُحد ، وأقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجل واحد ، واستشهد من المسلمين من استشهد ، وكان ممن بقي ما كان من الهزيمة وبقيتُ مع رسول اللـه (ص) . ومضى المهاجرون والأنصار إلى منازلهم من المدينة كلٌّ يقول قُتل النبي (ص) وقُتل أصحابه - ثم ضرب اللـه عزّ وجلّ وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول اللـه (ص) نيفاً وسبعين جرحةً ، منها هذه وهذه ، ثم القى عليٌّ (ع) رداءه وأمرَّ بيده على جراحاته .

 

غزوة الأحزاب :

ثم كانت الأحزاب ، حيث تجمعت قريش والأعراب لمحاربة الإسلام من جديد ويصف ذلك الإمام ويقول : وعقدت بينها عقداً وميثاقاً ، لايرجع من وجهها حتى تقتل رسول اللـه ، وتقتلنا معه - معاشر بني عبد المطلب - ثم أقبلت بحدِّها وحديدها ، حتى أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها ، حينما توجهت له فهبط جبرائيل على النبي (ص) ، فأنبأه بذلك فخندَّق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار ، فقدمت قريش فأقامت علىالخندق محاصرةً لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، تُرعد وتُبرق ، ورسول اللـه (ص) يدعوها إلى اللـه عزَّ وجلَّ ، ويناشدها بالقرابة والرحم ، فتأبى ولا يزيدها ذلك إلاّ عتوّاً . وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود يهدر كالبعير المغتلم ، يدعو إلى البراز ويرتجز ، ويخطر برمحـــه مرة وبسيفه مرة ، ولا يقدم عليه مُقدم ، ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تُهيجه ، ولا بصيرة تُشجعه ، فأنهضني إليه رسول اللـه (ص) وعمَّمني بيده ، وأعطاني سيفه هذا ( وضرب بيده إلى ذي الفقار ) فخرجت إليه ، ونساء أهل المدينة بواكٍ إشفاقاً عليَّ من ابن عبد ود ، فقتله اللـه عزَّ وجلَّ بيدي ، والعرب لاتعد لها فارساً غيره ، وضربني هذه الضربة - وأومأ بيده إلى هامته - فهزم اللـه قريشاً والعرب بذلك ، وبما كان مني من النكاية .

بل كانت تلك هي الضربة التي عدلها النبي (ص) بعبادة الثقلين ، فرجحت وقال :

“ ضربة عليٍّ يوم الخندق تَعْدِلُ عبادة الثقلين “ (1).

ومضى أصحاب الرسول (ص) يمجِّدون تلك الضربة التي أنقذت المسلمين من اخطر هجوم عسكري قام به كلُّ مستكبري قريش والقبائل المشركة ، بالتعاون مع اليهود والمنافقين .

يروي الشيخ المفيد في إرشاده ، عن قيس بن الربيع عن أبي هارون السعدي ، أنه قال : أتيت حذيفة اليمان فقلت له : يا أبا عبد اللـه ، إنا نتحدث عن عليٍّ ومناقبه ، فيقول لنا أهل البصرة : إنكم تُفرطون في علي ، فهل أنت محدثي بحديث فيه ؟

فقال حذيفة يا أبا هارون !. وما تسألني عن علي ؟ فوالذي نفسي بيده لو وُضعت جميع أعمال أصحاب محمد في كفة الميزان ، منذ بعث محمد (ص) إلى يوم القيامة ، وَ وُضع عمل علي في الكفة الأخرى ، لَرجــح عمل علي على جميع أعمالهم . فقال : هذا الذي لايقام له ولا يُقعد ولا يُحمل ، فقال حذيفة : يا لكع !. وكيف لا يُحمل ، وأين كان فلان وفلان ، وجميع أصحاب محمد (ص) يوم عمرو بن عبد ود العامري ، وقد دعا إلى البراز ، فأحجم الناس كلهم ما خلا عليّاً فإنه برز إليه وقتله اللـه على يده ؟ والذي نفسي بيده ، لَعَمَلُه ذاك أعظم أجراً من أعمال أصحاب محمد إلى يوم القيامة (2).

وبعد وقعة الخندق ، سار النبي إلى مكة ، وكان يحب أن يدخل مكة معتمراً ، ومعه عدد كبير من المسلمين .

فأعطى اللواء لعلي عليه السلام ، فلما وصل مشارف مكة منعته قريش منها ، واجتمع أصحاب الرسول تحت شجرة هناك وبايعوه على الموت بما سمي بعدئذ ببيعة الرضوان ، وقال بعض المفسرين : نزلت الآية الكريمة فيها :

{ لَقَدْ رَضِيَ اللـه عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَاَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } ( الفتح / 18 )

فلما رأت قريش مدى استعداد المسلمين للقتال طلبوا الصلح ، والهدنة ، وكان من بين بنود الصلح التي أصرت قريش عليه ورفضه النبي صلى اللـه عليه وآله أنهم قالوا :

يا محمد !. خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقَّائنا ، وليس لهم فقه في الدين ، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا فردُّوهم إلينا .

فقال : “ إذا لم يكن لهم فقه في الدين - كما يزعمون - سنفقِّههم فيه “ .

ثم أضاف : “ يا معشر قريش لَتنتهنَّ أو لَيبعثنَّ اللـه عليكم من يضرب رقابكم بالسيف قد امتحن اللـه قلبه بالإيمان “ .

فقالوا : من هو ذلك الرجل يا رسول اللـه ؟

فقال : “ هو خاصف النعل “ .

وكان قد أعطى نعله لعليٍّ يخصفها له (3).

هكذا نعرف مدى خشية قريش ، وسائر المشركين من بأس الإمام (ع) ، وأنه كان سيف اللـه الذي لاينبو ، وسهم الإسلام الذي لا يُخطئ ، يبعثه النبي (ص) متى أحس بالخطر على الدِّين ، ويُنذر به الأعداء متى ما تمادوا في الغي .

 

كيف اقتحم الإمام (ع) حصون خيبر ؟

كـــان اليهـــــود يشكِّلون خطــــــراً كبيــراً في الجزيــــرة العربيـــة ، وكانوا يتحصنون بمــواقع جيدة ، ربمـــا تشبـــه مستعمراتهم اليوم في أرض فلسطين . وكانوا قد نقضوا عهدهم مع الرسول ، وشاركوا في حرب المشركين في الأحزاب ضد المسلمين ، فلما استراح المسلمون من شر قريش ، بسبب صلح الحديبية السابق ، انعطف النبي (ص) بأصحابه على أعظم قلاعهم في خيبر وحاصرها . وكان النبي (ص) يبعث كل يوم قائداً من المسلمين لاقتحامها فيعود خائباً . ويروي ابن إسحاق أن النبي (ص) بعث أبا بكر ثم عمر ، فما فتح اللـه على أيديهما شيئاً . وبعث غيرهما فعادوا جميعاً خائبين ، فقال كلمته المعروفة :

“ واللـه لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب اللـه ورسوله ويحبه اللـه ورسوله “ .

فتمنى كلٌّ أن يكون هو !. لعلمهم بأن عليّاً أرمد العينين ، ولكنه حين أصبح نادى أين علي ؟ فلما جيء به معصَّب العين من شدة الألم ، مسح عليها فأزال اللـه مرضها واندفع الإمام يحمل راية النصر ، واشتبك مع طلائع اليهود ، وقتل بطلهم المعروف ( مرحباً ) بضربة صاعقة قدَّت مغفرته ، ووصلت إلى أضراسه ، فولّى اليهود منهزمين إلى حصونهم التي اقتحمها الإمام (ع) وقلع باب خيبر العظيم وتترَّس به ، وكانت تلك من آيات النصر الإلهي التي تجلت على يد أمير المؤمنين علي (ع) .

وبعد عودة المسلمين إلى المدينة ، ونقض قريش لمعاهداتهم في صلح الحديبية الذي كتب الإمام بُنودَه ، استعدَّ الرسول (ص) لفتح مكة . وكان يريدها مفاجأة ، إلاّ أن بعض ضعفاء النفوس تجسس لقريش مجاناً ، فكتب رسالة إليهم ينبأهم بخبر التعبئة ، وسلَّمها لزوجته وسارت بها إلى مكة ، وأنبأ جبرائيل النبي (ص) بذلك فسيّر إليها عليّاً والزبير .

فلما أوقفاها ، أنكرت وعاد الزبير أدراجه ، إلاّ أن الإمام امتشط سيفه ، وأنكر على الزبير رقته لها ، وقال : إن رسول اللـه يخبرنا بأنها تحمل كتاباً إلى أهل مكة ، وتقول أنت بأنها لاتحمل شيئا ؟. ثم قال للمرأة : واللـه إن لم تخرجي الكتاب لأكشفنك . فأخرجت له الكتاب من عقيصتها .

وهكــذا حافظ الإمام - بأمر من الرسول - على سرِّية الحركة ، وسار الجيش البالغ اثنا عشر ألف مقاتل ، وأعطى الرسول الراية لعلي (ع) الذي دخل مكة وهو يقول : اليوم يوم المرحمة ، إيذاناً بالعفو العام الذي أصدره النبي (ص) بعدئذ ، وقال لهم اذهبوا فانتم الطلقاء .

وحطــــم الأصنام التي على الكعبة ، حيث حمل النبي (ص) الإمام وأمره بأن يحطم أصنام قريش ، ففعـل (ع) .

 

ويوم حنين :

لقد تم فتح مكة بيسر لم يحلم به المسلمون ، ودب إلى قلوبهم الغرور ، ولكنهم لم يهنأوا به طويلاً إذ استقبلهم خطر عظيم فها هي هوازن وثقيف وحلفاؤهم المشركون ، يُعَبِّأون كل طاقاتهم للهجوم على المسلمين ، فيجهزون جيشاً يبلغ ثلاثة أضعاف جيش الإسلام . وحين بادرهم الرسول (ص) بالخروج إليهم استفادوا من خبرتهم بأرضهم ، فكمنوا له في مضيق جبلي لابدّ من مرور جيش الإسلام به في وادي حنين ، وهي من أودية منطقة تهامة ، ويصف المعركة بعض مشاهديها قائلا :

فمـــا راعنــا - ونحن نسير إلى القوم لنأخذهم على غرة قبل أن يأخذوا حذرهم - ، إلاّ وكتائب هوازن ومن

معهم من العرب قد شدُّوا على المسلمين شدَّة رجل واحد من كل جانب ، فأمعنو فينا ضرباً وطعناً ، واختلط الناس بعضهم ، فاستولى الخوف على المسلمين ودب فيهم الذعر ، فانهزموا عن النبيِّ (ص) لا يلوون على شيء ، وثبت رسول اللـه (ص) في مكانه ، ومعه علي والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث ، واسامة بن زيد (4).

وثبت الرسول وحوله الفتية من بني هاشم يتقدمهم علي بن أبي طالب (ع) الذي أخذ يكشف الكرب عن وجه رسول اللـه ، ويضرب بالسيف يمنـةً ويسرةً ، فلم يقترب إلى الرسول أحد إلاّ وضربه بسيفه . ونادى العباس عم النبي برفيع صوته وبأمر الرسول : يا أهل بيعة الشجرة ، يا أهل بيعة الرضوان ، إلى اين تفرُّون عن اللـه ورسوله ، فعادت طائفة منهم بلغت زهاء مائة فبرز “ جرول “ حامل راية هوازن فتحاماه الناس لصولاته الشديدة ، فبرز إليه علي (ع) وقتله فدب الذعر في نفوس القوم ، وقتل الإمام منهم أربعين بطلاً وعاد المسلمون إلى المعركة ، والْتَحم الجيشان ، وأخذ النبي (ص) حفنة من التراب وأعطاها للإمام فألقاها في وجه المشركين وهو يقول : شاهت الوجوه ، وخلال ساعات دارت المعركة على الكفار وتركوا أرض المعركة ، وفيها نساؤهم وأطفالهم وأموالهم ، وحمل الإمام علي (ع) وسام النصر كعادته في كل الحروب .

 

وحين استخلفه الرسول على المدينة :

وعاد الرسول إلى المدينة ، فانتهى إليه ، في العام التاسع من الهجرة ، خبر مفاده أن الروم يُعِدُّون جيشاً لغزو البلاد الإسلامية . فعبأ قواته لمواجهتهم ، وكان ذلك أول مواجهة - لو تمت - بين المسلمين والكفار خارج الجزيرة ، وبالذات مع الأمبراطورية الرومانية العظيمة ، وكان من الحكمة أن يرتب الرسول أمور بلاد العرب بصورة تامة حتى إذا لم تقدّر له العودة ، تكون البلاد الإسلامية بأيد أمينة ، تأمن شر الإعتداءات الخارجية والمؤامرات الداخلية التي كانت قد أضحت في تلك الفترة متنامية بسبب دخول مجاميع من الناس في الإسلام ليحفظوا دماءهم ويحصلوا على مغانم ومكاسب .

وهكذا استخلف النبي عليّاً مكانه ، إلاّ أن المنافقين الذين كانوا ينتظرون فرصة كهذه ، ليقفزوا إلى السلطة أو ليعيثوا فساداً في أرض الجزيرة ، راحوا يبثون شائعات بأن النبيَّ (ص) إنما استخلف عليّاً لأنه لم يحب أن يكون معه ، فحمل الإمام سيفه وسلاحه ولحق بالرسول في منطقة “ الجرف “ فأخبره بمقالة المنافقين ، فقال له النبي (ص) :

“ إنما خلفتك لما ورائي ، إن المدينة لاتصلح إلاّ بي أو بك . فأنت خليفتي في أهل بيتي ، ودار هجرتي وقومي ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيَّ بعدي “ .

ولعــــل وراء استخلاف النبي (ص) للإمام (ع) وتسليمه شؤون البلاد الإسلامية أثناء غيابه عنها ، حكمــــة

بالغة ، إذ أن عليّاً وصيَّه الذي اختاره اللـه له وأعلن ذلك للناس منذ “ يوم الدار “ حين أنذر عشيرته الأقربين ، فلابد إذن من تمهيد الظروف لذلك . ويوحي بهذه الحكمة ما نجده في مسند أحمد من قوله (ص) بعدئذ حسب هذا المصدر .

“ لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي “ (5).

ويا ليت شعري ، كيف لايترك الرسول المدينة إلاّ وعلي خليفته ، ثم يترك الدنيا دون أن يستخلف عليّاً (ع) ؟.

 

الغارة التي خلدها الكتاب :

أذعنت الجزيرة العربية لحكم اللـه ، بعد فتح مكة ومعركة حنين ، إلاّ أن الأعراب الذين كان دأبهم الغزو ، تجمَّعوا في منطقة قريبة من المدينة وأرادوا الإغارة عليها على حين غفلة من أهلها . فلما انتهى خبرهم إلى الرسول ، ندب لهم أبا بكر ثم عمراً ثم عمرو بن العاص ، ولكنهم كانوا يؤثرون الإنسحاب بسبب تحصن الأعراب بواد هناك يسمى وادي الرمل ، كان صعب المسالك كثير الأحجار ، وكان موقع المدافعين الحصين سبباً لكثرة إصابات المسلمين .

وكعادة الرسول في الإستعانة بعلي (ع) عند الشدائد ، أرسله وضم إليه القيادات السابقة ، فمضى إليهم الإمام يكمن بالنهار ويسير بالليل ، فلما اقترب منهم وحاصر مواقعهم في الليل ، انقض عليهم أول الفجر ، وأمعن فيهم قتلاً وأسراً حتى استسلموا .

وذات صباح صلَّى الرسول بالمسلمين صلاة الغداة وقرأ عليهم فيها سورة لم يسمعوها من قبل :

{ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } (العاديات/1-5)

فلما سألوه عنها قال :

“ إن عليّاً ظفر بأعداء اللـه ، وبشرني جبرائيل في هذه الليلة “ (6).

وحين عاد الإمام (ع) استقبله النبيّ (ص) والمسلمون معه ، فترجَّل الإمام عن فرسه احتراماً للرسول فقال له النبي اركب فإن اللـه ورسوله عنك راضيان . وأضاف :

“ لولا أني أشفق أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح ، لقلت فيك مقالة لا تمر على ملأ من الناس إلاّ أخذوا التراب من تحت قدمَيك “(7).

وهكذا كان الإمام (ع) سيف الإسلام الذي لا ينبو ، يوجهه الرســــول (ص) حيث يُحدق الخطر بالرسالــة ، وقد بعثه مرتين إلى اليمن - حسب الأخبار - حيث أسلمت على يَديه قبائلها ، وبالذات قبائل همدان .

^ بيعة غدير خم :

وفي السنة العاشرة بعد الهجرة - حين عزم النبي (ص) على المسير إلى مكة وأداء الحج الأخير الذي سمي “ بحجة الوداع “ - كان الإمام (ع) في اليمن أو نجران . فكتب إليه الرسول (ص) بأن يوافيه مكة حاجّاً ، وقد أُوحي إلى النبي (ص) أنه راحل عن أمته .

فلما قفلوا عن مكة راجعين ، أوقف الرسول الركب بمنطقة تسمى “ بغدير خم “ حيث نزلت عليه الآية الكريمة :

{ يَآ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللـه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (المائدة/67) .

فقام في الناس خطيباً وقال في مستهل حديثه : “ أيها الناس يوشك أن أُدعى فَأُجيب “ .

وأضاف : “ إني تارك فيكم الثقلَين : كتاب اللـه ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يَرِدا علَيَّ الحوض “ .

ثم قال بعد أن أخذ بيد علي ورفعها :

“ ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم “ ؟

قالوا : بلى يا رسول اللـه ، فقال :

“ من كنت مولاه فعليٌّ مولاه . اللـهم والِ من والاه وعادِ من عاداه “ .

ثم أفرد النبي لعلي خيمة وأمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل ذلك كلهم حتى من كان معه من أزواجه ونساء المسلمين .

فأنزل اللـه تعالى على رسوله ما يعتبر إعلاناً عن خاتمة الوحي :

{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } (المائدة/3) .

وانتشرت في الآفاق أنباء استخلاف النبي لوصيه الإمام علي !. ولكن النبي (ص) الذي كان أخبر قائدٍ بالناس من حوله ، كان يعلم أن الكثير من التمهيد يحتاج إليه المسلمون ، خصوصاً وقد تكاثر عدد الوصوليين بينهم بعد فتح مكة ، وإن الكثيرين منهم يطالبون عليّاً بأوتار الجاهلية ، فلا يقبلون بولاية الإمام (ع) بسهولة .

كما أحيط علماً بالمؤامرات التي كانت تجري في البلاد للسيطرة على الحكم من بعده ، وكانت “قريش“ التي دخلت - الآن - في الإسلام تتخذ منه أداة جديدة لسلطتهم على الجزيرة العربية ، كانت مركز هذه المؤامرة . ومن هنا لم يدع الرسول (ص) مناسبة إلاّ وأعلن فيها عن أن وصيه الذي اختاره اللـه للولاية من بعده إنما هو الإمام علي (ع) ، لتبقى الأقلية المؤمنة وفية بعدها مع اللـه والرسول ، وملتفّة حول قيادة الإمام (ع) وتحافظ على الخط السليم للامة ، وتكون ميزاناً للحق والباطل ، ومقياساً سليماً لمتغيرات الحوادث .

من هنا نجد النبي (ص) يسعى حتى آخر لحظة من حياته في هذا السبيل ، فقد جاء في رواية البخاري - من كتاب المرض والطب - أنه اجتمع عند رسول اللـه رجال فيهم : عمر بن الخطاب ، فقال لهم النبي (ص) هلموا أكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعده أبداً . فقال عمر بن الخطاب : “ إن النبي غلبه الوجع ، وعندنا القرآن ، حسبنا كتاب اللـه “ فاختلف الحاضرون واختصموا فأمرهم النبي بالإنصراف (8).

وفي بعض روايات البخاري قال بعضهم ما شأنه أهجَرَ ؟! استفهموه فذهبوا يرددون عليه فقال : دعونـــي ، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ، وأوصاهم بثلاث : إخراج المشركين من جزيرة العرب ، وأن يجيزوا الوفود بمثل ما كان يجيزهم ، وسكت الراوي عن الثالثة أو قال : إني نسيتها (9).

وواضح أن المسلمين لم يكونوا لينسوا وصية نبيِّهم الأخيرة ، إلاّ أنها كانت متعلقة بالوضع السياسي بعد النبي مما يستدعي تناسيه رغَباً أو رَهَباً .

والواقع أن الخليفة الثاني بَرَّر ذات مرة اتِّهامه للنبي ( بأنه قد غلبه الوجع ) بأنه لم يكن يرى مصلحة في استخلاف النبي للإمام علي .. فقد جاء في شرح ابن أبي الحديد : روى أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد مسنداً عن ابن عباس قال : دخلت على عمر في أول خلافته وقد أُلقي له صاع من تمر على خصفة ، فدعاني إلى الأكل فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتى أتى عليه ، ثم شرب من جرٍّ كان عنده واستلقى على مرفقة له وطفق يحمد اللـه يكرر ذلك ، ثم قال : من أين جئت يا عبد اللـه ؟ قلت : من المسجد . قال : كيف خلفت ابن عمك - فظننته يعني عبد اللـه بن جعفر - قلت : خلفته يلعب مع أتراب له . قال : لم أعْن ذلك ، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت ، قلت : خلفته يمتح بالْقُرَب على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن . قال : يا عبد اللـه عَلَيَّ دماء البدن إنْ كتمتنيها ، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة ؟. قلت : نعم . قال : أيزعم أن رسول اللـه نص عليه ؟. قلت : نعم ، وأزيدك أني سألت أبي عمَّا يدَّعيه فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان من رسول اللـه في أمره ذروٌ من قولٍ لا يُثبت به حجة ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يرجع في أمره وقتاً ما ، ولقد اراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام . لا ورب هذه البنيَّة لاتجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وَلِيهَا لانتقضتْ عليه العرب من أقطارها . فعلم رسول اللـه أني علمت ما في نفسه فأمسك وأبى اللـه إلاّ إمضاء ما حتم (10).

 

(1) حديث مجمع عليه بين المسلمين .

(2) سيرة الأئمة : ص 229 .

(3) سيرة الأئمة الاثنى عشر ص 236 عن مجموعة النسائي في خصائصه . والحاكم في مستدركه وطائفة من العلماء .

(4) المصدر : ص 253 .

(5) المصدر : ص 259 نقلا عن فضائل الخمسة : ص 229 .

(6) المصدر : ص 263 - 264 نقلاً عن مجمع البيان عن الإمام الصادق (ع) .

(7) المصدر : ص 262 .

(8) المصدر : ص 276 .

(9) المصدر : ص 277 .

(10) راجع كتاب " قضاء أمير المؤمنين " : ص 320 .