فهرس الكتاب

 

 

 

 

الفصل الرابع: عهد امامته عليه السلام

هكذا سعت الخلافة نحو الإمام (ع) :

وحملت أمواج الإضطراب سفينة الأمة بعيداً عن شواطئ الأمان ، واجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير ، وأجمعوا على بيعة الإمام (ع) فجاؤوا إليه مسرعين وقالوا : لابد للناس من إمام .

قال : لا حاجة لي في أمركم ، فَمَنِ اخترتم رضيت به .

قالوا : ما نختار غيرك ؛ وأضافوا : إنا لا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك .

قال : لاتفعلوا ، فإني أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً .

فقالوا : لا واللـه ، ما نحن بفاعلين حتى نبايعك .

قال : ففي المسجد ، فإن بيعتي لاتكون خفيّةً ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين .

فخشي الناس عليّاً ، فقالوا نبايعك ، فقد ترى ما نزل بالإسلام .

فقال : “ دعوني والتمسوا غيري ، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان . لاتقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول “ .

فقالوا ننشدك اللـه ، ألاَ ترى ما نحن فيه ؟ ألاَ ترى الإسلام ؟ ألاَ ترى الفتنة ؟

فقال : “ قد أجبتكم وإني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم “ (1).

أجل ، إن الإمام (ع) يرفض الخلافة لأن أمواج الفتنة قد بلغت أعلى مد ، ويود لو يكون وزيراً يساهم من موقع حُرٍّ في إخماد نيران الفتنة ، ولكن لا أحد رشح نفسه للخلافة ، ولا أحد كان يقبل بغير الإمام (ع) .

والإمام يرفض بيعة أهل الحل والعقد من دون رضا الناس ، ويرى ذلك حق عامة الناس ، فيجعلها في المسجد على الملأ العام .

ويشترط عليهم بأن يقودهم على علمه ، لا بجهلهم ، ووفق سنّة الرسول ، لا مصالح أصحابه وضغوط القوى السياسية .

واستقبل الإمام عهده ، بالثورة ضد الوضع الفاسد ، وقد عقد عزمات قلبه جميعاً على مواجهة كل تلك العقبات التي خضع لها أو توقف عندها من كان قبله ، وأعظمها القوة السياسية المتنامية عند بني أميـــة ،

ومن تحالف معهم من بقايا العهد الجاهلي .

والواقع أن تصفية هذه القوة ، كانت من أعظم المهام الرسالية التي بدأها الرسول ، وتابع أصحابه من بعده نهجه بفتور ، حتى إذا جاء الإمام (ع) وكانت الظروف مؤاتية ، نهض بها بعزم راسخ .

أو ليسوا هم الشجرة الملعونة في القرآن ، أوليس الرسول (ص) قد حذَّر منهم ، وقال : “ إذا رأيتم معاوية هذا على منبري فاقتلوه ، ولن تفعلوا “ .

إنهم كانوا أكبر قوة سياسية في الجزيرة ، وكان الرسول قد احتواهم ، لعلهم يؤوبون إلى رشدهم ، ويكيِّفون أنفسهم مع الواقع الجديد ، أو تقوى شوكة الإسلام فتقضي عليهم في الوقت المناسب . وها قد حان ذلك الوقت ، فإنهم ليس فقط لم يذوِّبوا أنفسهم في بوتقة المجتمع الإسلامي . بل ما فتئوا يدبِّرون المؤامرات ضد القوى الرسالية ، ويتحيَّنون الفرص للانقضاض على السلطة .

ومن هنا نجد الإمام عليَّاً (ع) يبدأ عهده بالهجوم على بني أمية وامتيازاتهم التي ابتزُّوها من الخليفة السابق .

يروي ابن أبي الحديد : عن ابن عباس أن عليّاً خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال :

“ إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال اللـه فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوّج به النساء وفُرِّق في البلدان لرددته إلى حاله ، فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عنه الحق فالجور أضيق “ (2).

وعزل الإمام عمال الخليفة السابق وهم حكام الولايات الإسلامية ، وأصرَّ على عزل معاوية ، قائد الحزب الأموي السياسي والعسكري ، والذي كان يرضى من الإمام إبقاءه على الشام كما فعل السابقون ، لعله يجد فرصة أخرى لتحقيق هدف حزبه في السلطة .

لقد كانت تلك أعظم مسؤوليات الإمام (ع) إذ عهد إليه رسول اللـه (ص) تكميل ما بدأه من تصفية القوى الجاهلية وبقاياها ، وقال له مرة :

“ تقاتلهم على تأويله ، كما قاتلناهم على تنزيله “ .

وإن أهل البصائر من أصحاب رسول اللـه (ص) واعون تماماً لهذه الرسالة الإلهية التي يجب عليهم تنفيذها ، وإن الإمام إنما قبل بالإمارة لتحقيق هذا الهدف . وبذل قصارى جهده لتحقيق واحد من هدفين متدرجين :

1- فإما سحق بقايا النظام الجاهلي وإقامة نظام العدل الإسلامي .

2- وإما تعرية هذه القوة الجاهلية وفضحها وإيجاد حركة رسالية تهدف إلى القضاء عليها وتمنعها من تحقيق كل أهدافها .

ولأن الظروف لم تسمح لتحقيق الهدف الأول ، فلقد حقق الهدف الثاني ، وأنشأ في الأمة طليعة رسالية ناضلت ضد بني أمية حتى تمت تصفيتهم كاملاً دون أن يحققوا هدفهم الرئيسي ، وهو إعادة الناس إلى الجاهلية . والقصة التالية تكشف جانبا من أهداف معاوية .

كان معاوية - بعد أن تم له الأمر ظاهرا - يستمع إلى الأذان ، وإلى جانبه بعض خواصه ، وإذا به يتميز من الغيظ عندما يسمع المنادي يهتف “ أشهد أن محمداً رسول اللـه “ فيسأله صاحبه عن ذلك فيقول :

إن أخا تيم حكم وذهب ، فقال الناس رحم اللـه أبا بكر .

وكذلك أخو عدي ، لم يزد الناس بعد حكمه أن قالوا : رحم اللـه عمر .

ولكن هذا ابن أبي كبشة ( أي رسول (ص) لم يَرْضَ حتى قُرن اسمه باسم اللـه ، لا واللـه إلاّ دفناً دفنــاً .

أمّا يزيد ابنه الماجن فقد أنشد قائلاً :

لعـــبت هـــــــاشـم بـالـــملــك * فـلا خبـــرٌ جاء ولا وحـيٌ نزل

من هنا وضع أمير المؤمنين (ع) استراتيجيته على أساس محاربة الباطل وتصفية الحزب الأموي مهما كلفه الأمر .

 

الإمام (ع) يجاهد أعداء الدين :

وكأية ثورة أصيلة ؛ واجهت ثورةُ أنصار الحق ، ثلاثة محاور معادية :

1- بقايا العهد البائد .

2- الإنتهازيين .

3- المتطرفين .

أمّا الإنتهازيون فهم الذين يسايرون الثورة أيام تصاعد مدها يبغون ركوبها لتحقيق مطامعهم السياسية باسم المساهمة فيها . فإذا رأوا قيادة الثورة واعية ، قلبوا ظهر المجنّ وحاربوها وهم عادة ما ينهزمون أمامها . إن قوة هذا الفريق كامنة في مكرهم وتلوُّنهم ، فإذا افتضحوا فشلوا وانهزموا .

وكان طلحة والزبير وأقرانهما من هذا الفريق حيث عارضوا الخليفة الثالث ، وكانوا يمنّون أنفسهم بالسلطة أو بنصيب منها على الأقل . فلما رأوا ميل الناس إلى أمير المؤمنين ، انحنوا للعاصفة مؤقتاً ، وبايعوه ، بل كانوا أول من بادر إلى بيعته طمعاً في تقاسم السلطة معه . ولكنهم وجدوا الإمام لايطلب الحق بالجور ، ولم يحقق طلب طلحة والزبير بإمارة الكوفة والبصرة ، وكان لهما فيهما شيعة وهواة ، فتمردوا عليه ونكثوا بيعته ، وطالبوه بدم من قتلوهم ، وأدَّعوا بأنهم أولياء الخليفة الثالث ، وتحملوا وزراً عظيماً ، لأنهم بادروا إلى إشعال نار الفتنة بين المسلمين ، وكانت الحرب التي أعلنوها أول حرب دامية بين المسلمين .

 

حرب الجمل :

كان أبو بردة عوف الأزدي ممن تخلف عن نصرة الإمام في الكوفة ، فلما عاد الإمام فاتحاً من البصرة ، عاتب المتخلّفين ، وقال :

“ أَلاَ إنه قد قعد عن نصرتي منكم رجال ، فأنا علَيهم عاتبٌ زارٍ ، فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا ، لِيُعرفَ حزبُ اللـه عند الفرقة “ .

فقام إليه أبو بردة ، وقال : يا أمير المؤمنين أرأيت القتلى حول عائشة والزبير وطلحة بِمَا قُتلوا ؟

قال (ع) : قَتلوا شيعتي وعمالي وقَتلوا أخا ربيعة العبدي رحمة اللـه عليه في عصابة من المسلمين ، قالوا : لا ننكث كما نكثتم ، ولا نغرر كما غررتم ، فوثبوا عليهم فقتلوهم ، فسألتهم أن يدفعوا إليَّ قتلة إخواني أقتلهم بهم ، ثم كتاب اللـه حكم بيني وبينهم ، فَأَبوا عَليَّ ذلك وقاتلوني ، وفي أعناقهم بيعتي ودماء قريب من ألف رجل من شيعتي فقتلتهم بهم .

ثم خاطبه قائلاً : أفي شك أنت من ذلك ؟

قال : “ قد كنت في شك ، فأما الآن فقد عرفت واستبان لي خطأ القوم ، وإنك أنت المهديّ المهدي المصيب “(3) . هكذا اختصر الإمام جرائم الناكثين .

ومرة أخرى حينما تواجه الفريقان بالبصرة ، دعا الإمام طلحة والزبير وحاججهما فقال :

“ لعمري لقد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً ، إن كنتما أعددتما عند اللـه عذراً فاتَّقيا اللـه سبحانه ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً . ألم أكن أخاكم في دينكما ، تحرمان دمي وأحرم دماءكما ؟ فهل من حدث ما أحل لكما دمي “ .

قال طلحة : أَلَّبت الناس على عثمان .

فقال علي : “ يومئذ يوفيهم اللـه دينهم الحق ويعلمون أن اللـه هو الحق المبين . يا طلحة تطلب بدم عثمان ؟ فلعن اللـه قتلة عثمان ، يا طلحة جئت بعرس رسول اللـه (ص) تقاتل بها ، وخبَّأت عرسك ، أما بايعتني ؟ “ (4).

ثم ذكَّر الإمام (ع) الزبير ببعض المواقف مع رسول اللـه (ص) ، فاعتزل المعركة ، ولما اعتزل الزبير الحرب وتوجه تلقاء المدينة ، تبعه ابن جرموز فغدر به ، وعاد بسيفه ولامة حربه إلى الإمام (ع) فأخذ الإمام يقلِّب السيف ويقول :

“ سيف طالما كشف به الكرب عن وجه رسول اللـه (ص) “ ! .

فقال ابن جرموز : الجائزة يا أمير المؤمنين ، فقال : إني سمعت رسول اللـه (ص) يقول : “ بشر قاتل ابن صفيه ( الزبير ) بالنار “ ! .

ثم خرج ابن جرموز على عليِّ مع أهل النهروان فقتله معهم فيمن قتل (5).

ومن خلال أسطر التاريخ نكتشف أن الزبير وطلحة وعائشة كانوا جميعاً ، مترددين في مسيرهم ، وكم قرر الواحد منهم العودة . إلاّ أن هناك يداً خفية كانت تثبط عزمهم وتعيدهم إلى قلب الفتنة من جديد .

فهذا طلحة يأتي إلى البصرة فيخطب الناس ، ويدعوهم إلى خلع الإمام (ع) فيقولون له : يأ ابا محمد قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا ، فسكت ولا يجد جواباً ، ويقدم الزبير للخطاب .

وهـذه عائشة تمر في مسيرها إلى البصرة بماء يسمَّى ( الحوأب ) فتنبح بها كلابه . قالت : أي ماء هذا ؟ قيل هذا ماء حوأب . فإذا بها تصرخ بأعلى صوتها ثم تضرب عضد بعيرها فتنيخه ثم تقول :

أنا واللـه صاحبة كلاب الحوأب طروقاً رُدُّوني ، رُدُّوني ، رُدُّوني ..

هكذا ظلت هنالك ومعها قومها يوماً وليلة ، فخدعها عبد اللـه بن الزبير ، وجاؤوا لها بأربعين رجلاً وقيل بخمسين من الأعراب رشَوهم فشهدوا أن هذا ليس بماء الحوأب (6).

ويظهر عبد اللـه بن الزبير ، في الصورة مرة أخرى حينما أراد والده الاعتزال ، فأنحاه ، وغرَّر به .. مثله مثل محمد بن طلحة .

كماأن مروان بن الحكم ، يظهر في الصورة في بعض الأحيان وهو يحرض على الإستمرار في القتال ..

هكذا نكتشف الأصابع التي كانت وراء الشخصيات الظاهرة في حرب الجمل ، وهم تحالف بني أمية مع بعض الطامعين في السلطة ، من غيرهم ، تستَّروا بهم ، وقالوا لأنفسهم : لو ظفروا كان لنا معهم مثلما كان أيام الخليفة الثالث . أما إذا فشلوا ، فقد ضربنا عصفورين بحجر واحد : فمن جهة تخلصنا من المهاجرين والأنصار الطامعين في الخلافة ، حيث يصفي بعضهم بعضاً . ومن جهة ثانية سقطت هيبتهم بين المسلمين وظهروا في أعين الناس بمظهر الباحث عن مصالح شخصية .

وهكذا نستطيع أن نفسر وقوف الحزب الأموي إلى جانب طلحة والزبير وعائشة وهم من أشد المحرضين ضد عثمان ، وضد استئثار بني أمية بالسلطة والثروة في عهده .

وكان الناس يتساءلون أنهم يريدون البصرة يطالبون أهلها بدم عثمان وقاتِلوا عثمان معهم . فقد روى الطبري بسنده عن المغيرة بن الأخنس قال : لقي سعيد بن العاص ، مروان بن الحكم وأصحابه بذات عرق فقال : أين تذهبون وثأركم على أعجاز الإبل ؟ (قال ابن الأثير يعني عائشة وطلحة والزبير) . أُقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم ، لا تقتلوا أنفسكم . قالوا : بل نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً (7).

ولعلهم أشاروا في نهاية حديثهم إلى أن هدفهم ضرب الناس ببعضهم للتخلص منهم جميعاً ، وهذا يفسر أيضاً ما ذكره ابن الأثير من أن مروان بن الحكم هو الذي رمى سهماً نحو طلحة فأصابه في رجله وقتله(8). لقد أبلغ أمير المؤمنين (ع) حينما بيَّن في أكثر من خطاب طبيعة هذه الحرب وأن وراءها قريش التي حاربها لأجل الرسالة وهم كافرون ، ويحاربها اليوم لذات الهدف ، وهم مفتونون .

يقول الشيخ المفيد : لما نزل أمير المؤمنين (ع) الربذة لقي بها آخر الحاج فاجتمعوا إليه ليسمعوا من كلامه - وهو في خبائه - قال ابن عباس فأتيته فوجدته يخصف نعلاً ، فقلت له : نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تَصلح . فلم يكلمني حتى فرغ من نعله ، ثم ضمها إلى صاحبها وقال لي : قوِّمها . فقلت : ليس لهما قيمة ، قال : على ذاك ، قلت : كسر درهم قال :

“ واللـه لَهُمَا أحَبُّ إلَيَّ من أمركم هذا ، إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً “ .

قلت إن الحاجَّ قد اجتمعوا ليسمعوا من كلامك ، فتأذن لي أن أتكلم ، فإن كان حسناً كان منك ، وإن كان غير ذلك كان مني ؟ قال : لا ، أنا أتكلم . ثم وضع يده على صدري ، وكان شثن الكفين فآلمني ثم قام ، فأخذت بثوبه ، وقلت نشدتك اللـه والرحم ( وكأنه خاف أن يتكلم بما ينفرِّ الحاجّ ) قال : لا تنشدني ، ثم خرج ، فاجتمعوا عليه ، فحمد اللـه وأثنى عليه ثم قال :

“ أما بعد فإن اللـه بعث محمداً وليس في العرب أحد يقرأ كتاباً ولا يدَّعي نُبَّوة ، فساق حتى بوأهم محلتهم ، وبلغهم الناس الى منجاتهم . أما واللـه ما زلت في ساقتها . ما غيّرت ولا بدّلت ولا خُنت حتى قولت بحذافيرها ، مالي ولقريش ؟. أما واللـه لقد قاتلتهم كافرين ، ولأُقاتلنهم مفتونين ، وإن مسيري هذا عن عهدٍ إليّ فيه . واللـه لأبقرن بالباطل حتى يخرج الحق من خاصرته . ما تنقم منّا قريش إلاّ أن اللـه اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حَيْزِنا “ .

وأنشد :

أَدَمْـتَ - لَعمري - شُريك المحضَ خالصاً * وأكــلــك بالزُّبـد المقــــشـرة البُــــــــحُـرَا

ونحـن وهبناك العـلاء ولــم تكـن عــليّــاً * وحُطــــــنــا دونــك الْجـرد والسُّمــرا (9)

وهكذا نجد قريشاً - التي لاتزال أحلام السلطة على العرب تراودها - تتظاهر بالدين ، وتقود حرباً ضده وقد استعادت قواها المنهارة ، مستغلة ضعف الخليفة الثالث ، وغررت ببعض أصحاب الرسالة ، وطمعتها في الخلافة وذلك لعدم وضوح الرؤية عندهم . فهذا طلحة الذي كان يطمع في الخلافة بعد الخليفة الثاني فيؤلب أهل البصرة ضد الخليفة الثالث ، ويحرضهم على قتله ، يأتي بنفسه إلى البصرة وينادي مناديه : من كان فيهم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا به فجيء بهم فقتلوا ولم ينج منهم إلاّ قليل (10) بالأمس كان يقودهم ، واليوم ينقلب عليهم ويقتلهم . أوليس هذا غريباً ؟ بَلَى ، ولكن طلحة كان بالأمس قائداً ، وأصبح اليوم رقماً في حسابات بني أمية ، وأضحى يصفِّي حزبه بنفسه . ولم يكن يشك أمير المؤمنين في وجوب قتالهم لأنه كان يعرف طبيعتهم وأهدافهم الخبيثة ولأن رسول اللـه (ص) كان قد أخبره بمسيره إليهم ، وأنه سوف يقتل الناكثين .. نعم ، إنه لاقى صعوبة حقيقية في توعية الناس ، ولولا أهل البصائر من المهاجرين والأنصار الذين نهضوا معه ضد الفئة الناكثة ، وآزروه ونصروه بذات القوة التي آزروا بها رسول اللـه (ص) لكانت قريش بمكائدها وقوتها وعصبياتها تشكِّل خطراً حقيقياً ضد بقاء الإسلام .

ولقد استنهض الإمام (ع) جيش الكوفة الذين فتحوا بلاد فارس ، ثم استقروا هناك يحمون ثغور الإسلام ويبعثون بالسرايا لفتح المزيد من البلاد ، وإنما اختارهم لعلمه بوجود أهل البصائر من أصحاب النبي (ص) والفقهاء والقرّاء بينهم . ولقد قال لهم حين التقى بهم في منطقة ذي قار : “ يا أهل الكوفة ، إنكم من أكرم المسلمين وأقصدهم تقويماً ، وأعدلهم سنّة وأفضلهم سهماً في الإسلام ، وأجودهم في العرب مركباً ونصاباً ، أنتم أشد العرب وُدّاً للنبي (ص) وأهل بيته ، وإنما جئتكم ثقة - بعد اللـه - بكم للذي بذلتم من أنفسكم عند نقض طلحة والزبير ، وخلعهما طاعتي وإقبالهما بعائشة للفتنة “ (11).

ولقد استمرت عرب الكوفة ، في ولائها لآل البيت ومحاربتها للخط الأموي حتى أزال اللـه دولة بني أمية في عهد العباسيين .

وحينما عَبَّأ الإمام (ع) جيشه ، سار بهم إلى البصرة حتى وردها ، وألقى خطاباً هامّاً بيَّن فيه مشروعية قتاله للناكثين ، كما أوضح استراتيجية حربه هذه ، فقال فيما قال :

“ عباد اللـه ! . انهدوا إلى هؤلاء القوم ، منشرحةً صدوركم بقتالهم ، فإنهم نكثوا بيعتي ، وأخرجوا “ ابن حنيف “ عاملي ، بعد الضـــرب المبرِّح والعقوبة الشديدة ، وقتلوا السبابجة ، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي ، وقتلوا رجالاً صالحين ، ثم تتبَّعوا منهم من يحبني يأخذونهم في كل حائط ، وتحت كل رابية ، ثم يأتون بهم يضربون رقابهم صبراً . مالهم ، قاتلهم اللـه أنَّى يؤفكون !. انهدوا إليهم وكونوا أشداء عليهم والْقَوهم صابرين محتسبين ، تعلمون أنكم منازلوهم ومقاتلوهم وقد وطنتم أنفسكم على الطعن والضرب ومبارزة الأقران .

وأيُّ امرئ منكم أحسَّ من نفسه رباطة جأش عند اللقاء ، ورأى من إخوانه فشلاً ، فليذبَّ عن أخيه الذي فضل عليه ، كما يذب عن نفسه ، فلو شاء اللـه لجعله مثله “ (12).

وكان الإمام (ع) يرفض معاملة الناكثين كما لو كانوا كفاراً ، بل منع أصحابه من المبادرة بالقتال ، ولم يأذن لهم به إلاّ بعد أن رمى اصحاب الجمل عسكره بالنبل رمياً شديداً متتابعاً ، فضج إليــه أصحابه وقالوا : عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين ، فلم يأذن لهم حتى بعث إلى عسكر البصرة رجلاً يحمل مصحفاً ويدعوهم إلى التحاكم إليه فقتلوه فأصدر أمره بقتالهم .

وظل القتال ثلاثة أيام وأبدى أصحاب النبي (ص) من المهاجرين والأنصار البطولات التي اشتهروا بها أيام رسول اللـه (ص) ، وقد اجتمعوا في كتيبة واحدة سميت بالكتيبة الخضراء ، يقودهم سيدهم وأميرهم الإمام علي (ع) وقد هجمت في اليوم الأخير على الجمل الذي كان يعتبر راية الناكثين ، فعقروه . فلما سقط انهزم جميعهم ، وانتهت المعركة بانتصار الإمام (ع) الذي نادى مناديه : ألاَّ تتبعوا مُدبراً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تدخلوا الدور ، ولا ترزأوا سلاحاً ولا ثياباً ولا متاعاً . ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن .

ثم مشى الإمام (ع) إلى عائشة وهي الباقية من قيادات المعارضة فاستقبلته صفية بنت الحارث وقد ثكلت بابنها فقالت له :

يا علي !. يا قاتل الأحبة ، يا مفرق الجمع ، أيتم اللـه منك بنيك كما أيتمت ولد عبد اللـه منه . فمشى عنها ولم يرد عليها . ثم دخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها ، فأخذت تعتذر إليه وتقول : إني لم افعل . فلما خرج الإمام أعادت صفية قولها المنكر للإمام فكفَّ عنها ولكنه قال : وهو يشير إلى بعض غرف الدار : أَما لَهممتُ أن أفتح هذا الباب وأقتل مَن فيه . ثم هذا فأقتل مَن فيه ، ثم هذا فأقتل من فيه . وكان أناس من مجرمي الحرب قد لجأوا إلى عائشة ، منهم مروان بن الحكم وعبد اللـه بن الزبير ، فتغافل الإمام (ع) عنهم . فقال رجل من الأزد وهو يشير إلى صفية ، واللـه لاتغلبنا هذه المرأة فغضب الإمام ، وقال :

“ صه ، لا تهتكنّ ستراً ، ولا تدخلنّ داراً ، ولا تهيجنّ امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم ، وسفهن أمراءكم وصلحاءكم ، فإنهن ضعاف . ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن ، وإنهن لَمُشركات “ (13).

وهكذا أدب الإمام أصحابه كيف يتعاملون مع أعدائهم بالرفق ، بالرغم من أن أنهراً من الدم قد جرت بينهم . ثم مضى الإمام إلى بيت المال وقسم ما فيه على الجند بالسوية ، فأعطى كل واحد خمسمائة ، وأخذ ايضاً خمسمائة ، وجهَّز عائشة بما تحتاج من مركب وزاد ، وأرسلها إلى المدينة واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات ، وأرسل معها أخاها محمداً ، وكان من أقرب أصحاب الإمام إليه . واستخلف على البصرة ابن عباس وكتب إليه عهداً قال فيه .. فارغب راغبهم بالعدل عليه والانصاف له والاحسان إليه ، وحل عقدة الخوف عن قلوبهم .

وكتب إلى أمراء الجيش وهو يحدد معالم حكمه :

“ لكم عندي ألاَّ أحتجز دونكم سرّاً إلاّ في حرب ، ولا أطوي عنكم أمراً إلاّ في حكم ، ولا أؤخر حقّاً لكم عن محله ، ولا أرزأكم شيئاً وإن تكونوا عندي في الحق سواء “ .

وعاد أدراجه إلى الكوفة ورايات النصر ترفرف عليه ، وأبى أن يدخل قصر الإمارة بل اختار بيت جعدة بــن

أبي هبيرة المخزومي ، وكان ابن أخته أم هاني ، وقال عن قصر الإمارة : إنه قصر خبال لا تُنزلونيه .

 

صفّين : المنعطف الخطير :

وكانت لاتزال أمام الإمام عقبة كأداء لابد من تجاوزها حتى يقيم العدالة ويجري أحكام اللـه ، فهذا معاوية ابن أبي سفيان قائد الردة الجاهلية يعبئ إليه كل الحاقدين على الإسلام ، والموتورين وبقايا العهد البائد ، ويجمع إليهم الطامعين والأثرياء المترفين . وقد أركز نفسه في الشام منذ أن ولاه عليها الخليفة الثاني بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان ، قائد جيوش الشام . وقد حاول الخليفة الثاني جلب رضا بني أمية - القوة السياسية والعسكرية الأكثر تماسكاً والأبعد عن الدين - وقد زعم الحزب الأموي أن الشام قد أضحت إقطاعة خالصة لهم وإلى الأبد ، فركز قواه العسكرية هناك ولم يتصور أنَّ حاكماً في البلاد يجرؤ على مطالبتهم بها ، مادام الخليفة الثاني الأقوى بين الخلفاء غض طرفه عما يجري في الشام من تدعيم وجود الحزب المنافس للإسلام ، وكان يستثني الشام من قوانينه المشددة ، كقانون من أين لك هذا الذي اخترعه لمقاومة الترف الذي هبط إليه الحكام الجدد ، حتى أبو هريرة الراوية المعروف ، لم ينج من هذا القانون الصارم ، ففقد الكثير مما جمعه في البحرين تبعاً له ، بينما معاوية وحزبه الأموي ، الذي كان يرسي قواعـد ملكه العضوض في الشام ، ويجمع الثروات الطائلة ، ويغدق الهبات السخية على المنتفعين ، كان يُستثنى منهم . وحينما قيل له في ذلك برر سكوته عنه بأنه يمثل عز الإسلام ، ولا تظن أنه كان قادراً على ضبط معاوية دون أن يدفع ثمناً باهضاً . وفعلاً قد دفع حياته ثمناً لبعض الضغط على الحزب الأموي في العاصمة وليس في الشام .

هكذا زعم معاوية أن بإمكانه أن يبقى حاكماً على الشام في عهد الإمام (ع) وما راعه إلاّ حكم علي (ع) بفصله وتولية غيره !!

وكان الإمام (ع) أعلم من غيره بواقع معاوية ، وأن مسيره إليه لايعني النصر عليه بالتأكيد ، إذ أن جيش معاوية المتماسك ذي الولاء الجاهلي ، يختلف عن جيشه الذي تتضارب أهواؤهم ولم يخلص ولاؤهم ، بالرغم من وجود قلة مؤمنة فيهم .

وقد صرح بذلك في أكثر من مناسبة فقال لجيشه مرة :

“ يا ليت معاوية يبادلني جيشه صَرْفَ الدينار بالدرهم ، يعطي واحداً ويأخذ عشرة ! “ .

وقبل المسير إلى الشام قال أحد قادة جيش الإمام للثاني وهو يسمعهما ، إن يومنا ويومهم ليوم عصيب لا يصبر عليه إلاّ كل مشبع القلب ، صادق النية . رابط الجأش . وأضاف القائل وهو زياد بن النضر الحارثي لعبد اللـه بن بديل قال : وأيم اللـه ما أظن ذلك اليوم يبقي منا ومنهم إلاّ الأرذال . فقال له صاحبه : وأنا واللـه أظن ذلك . فنظر إليهما الإمام (ع) وكأنه يؤيدهما ، ولكنه يطالبهما بمراعاة ظروف الحرب ، وقال :

“ ليكن هـــذا الكلام مخزوناً في صدوركما لاتظهراه ولا يسمعه منكما سامع . إن اللـه كتب القتل على قوم

والموت على آخرين ، وكل آتيه منيته كما كتب اللـه له ، فطوبى للمجاهدين في سبيل اللـه . والمقتولين في طاعته “ (14).

هكذا كان يجري الحوار بين قيادات الجيش وهكذا كان الإمام (ع) يحدد الهدف من القتال وهو ابتغاء رضوان اللـه . ومقاومة المفسدين مهما كانت العواقب .

 

معاوية يعترف ويعاند :

ومعاوية - بدوره - كان يعترف بفضائل الإمام (ع) وأنه الأفضل بعد رسول اللـه (ص) إلاّ أنه كان يتمسك بقميص عثمان ، ويرى أنه أحق الناس به . وإذا كانت حجة معاوية واهية فإن دهاءه ومكره وأسباب القوة التي اجتمعت عنده كان يغنيه عن قوة الحجة . وكان يعترف بذلك مما يكشف عن طبيعة الصراع بينه وبين الإمام (ع) .

وقد حفظ التاريخ سجلاً كبيراً من اعترافات معاوية بفضل الإمام (ع) وبالذات في الرسائل الخاصة المتبادلة بينه وبين كبار الأصحاب ، ولكن الرسالة الأبلغ كانت التي بعثها إلى محمد بن أبي بكر ، وكان محمد من أشد المدافعين عن نهج الإمام علي (ع) . لقد بعث معاوية إلى محمد ابن ابي بكر كتاباً جاء فيه من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر : سلام على أهل طاعة اللـه .

أما بعد ، فقد أتاني كتابك ، لرأيك فيه تضعيف ، ولأبيك فيه تعنيف . ذكرت حق ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه وقرابته واحتجاجك بفضل غيرك لا بفضلك . فأحمد إلهاً صرَف الفضل عنك وجعله لغيرك . وقد كنا - وأبوك معنا - في حياة نبيِّنا نرى حق ابن أبي طالب لازماً لنا ، وفضله مبرزاً علينا ، فلما اختار اللـه لنبيّه ( صلىا لله عليه وآله ) ما عنده كان أبوك وفاروقُه أول من ابتزَّه وخالفه ، ثم قام عثمان يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما إلخ (15).

وهكذا يعترف معاوية بفضل الإمام عليه وعلى كل أصحاب الرسول محاولاً إثارة عصبية محمد بن أبي بكر .

وفي حوار جرى بين معاوية وعمر بن العاص الذي كان من قادة العرب في الجاهلية ، وكان حليفاً تاريخياً لبني أمية ، قال له معاوية : يا أبا عبد اللـه ، إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربه ، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرق الجماعة وقطع الرحم .

قال عمرو : إلى من ؟

قال : إلى جهاد علي .

فقــال له عمرو : ما أنت وعلي بِعِكْمَي(16) بعير ، مالك هُجرتُــه ، ولا سابقتُه ، ولا صحبته ، ولا جهـــاده ،

ولا فقهه ، ولا علمه . واللـه إن له - مع ذلك - حّداً وحدوداً ، وحظاً وحظوة وبلاء من اللـه حسناً .

فما تجعل لي إن شايعتك على حربه ، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر ؟

قال : حكمك .

قال : مصرَ طُعمة .

فتلكأ عليه معاوية .

قال له : إني أكره لك أن يتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لعرض الدنيا . قال : دعني عنك .

هكذا تم التحالف بين معاوية وبين قائد جاهلي جمع خبرة العرب في الحرب .

وبعد إجراء هذه الصفقة التي تعكس طبيعة التجمع الأموي غضب مروان - وهو أحد القيادات الأموية - وقال : ما لي لا أُشْتَرَى كما اشْتُرِي عمرو ؟. فقال له معاوية : إنما تُباع الرجال لك (17).

وكان يشير معاوية بذلك إلى أن مروان جزء من الحزب الأموي وأنه إنما يسعى لإعادة أمجاده الجاهلية .

ومرة أخرى اعترف معاوية لقراء الشام ، وهم الطائفة المؤمنة فيهم ، اعترف بفضل الإمام (ع) فحين قالوا له : علام تقاتل عليّاً وليس لك مثل صحبته ولا قرابته ولا سابقته ؟. قال لهم : ما أقاتل عليّاً ، وأنا أدعي أن لي في الإسلام مثل صحبته ، ولا هجرته ، ولا قرابته ، ولا سابقته .

ولكنه تشبث عندهم بقميص عثمان فقال لهم : ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً ؟

قالوا : بلى .

قال : فليدفع إلينا قتلته فنقتلهم به ، ولا قتال بيننا وبينه (18).

ولكن الإمام (ع) أجاب عن هذا الطلب الماكر ، فقال : في رسالته إلى معاوية نقلها المبرد في الكامل هذا نصها :

من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) إلى معاوية بن صخر بن حرب .

أما بعد :

“ فإنه أتاني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه ، ولا قائد يرشده . دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتَّبعه . زعمتَ أنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان ، ولعمري ما كنتُ إلاّ رجلاً من المهاجرين ، أوردتُ كما وردوا ، وأصدرتُ كما صدروا ، وما كان اللـه ليجمعهم على الضلال ولا يضربهم بالعمى .

وبعد : فما أنت وعثمان ؟. إنما أنت رجل من بني أمية ، وبنو عثمان أولى بذلك منك .

فإن زعمت أنك أقوى من دم أبيهم منهـم ، فادخل في طاعتـي ثم حاكِمِ القومَ إليّ أحملـك وإياهـم على المحجة “ (19).

هكذا أتم الإمام (ع) الحجة على معاوية بما يلي :

أولاً : بأن شرعية عمله منبثقة من أنه إجماع المهاجرين الذين لايجمعهم اللـه على الضلال .

ثانياً : بأن بني عثمان هم أولياء الدم ، وليس معاوية .

ثالثاً : بأن طريقة المطالبة بالدم ، هي التحاكم إلى السلطة الشرعية وليست التمرد عليها باسم المطالبة بالدم .

إلاّ أن معاوية لم يكن يأبه بهذه الحجج ، لأنه كان يسعى لإعادة أمجاد بني أمية الجاهلية . وقد اجتمع إليه الموتورون الحاقدون على الإسلام ، من بقايا العهد البائد . وقد أقام لهم نظام مصالح ، وحوَّل السلطة الى شركة مساهمة ، بين الطلقاء والأدعياء والمترفين .

وهكذا جرى تبادل رسائل بين الإمام (ع) ومعاوية ردحاً من الزمن ، وقد قام أهل الإصلاح بمحاولات شتى لردع معاوية عن سفك دماء المسلمين ، فلم يفلحوا . وفي آخر رسالة بعثها الإمام (ع) قبل قراره بالمواجهة العسكرية كتب يقول ( بعد حديث طويل ) :

“ وإني أدعوكم إلى كتاب اللـه وسنَّة نبيِّه ، وحقن دماء هذه الأمة . فإن قبلتم أصبتم رشدكم ، وإن أبيتم إلاّ الفرقة وشق عصا هذه الأمة ، لن تزدادوا من اللـه إلاّ بُعْداً ، والسلام “ .

فكتب إليه معاوية :

ليـــس بيني و بيـن قيـس عتــابٌ غيـــر * طعـــن الكــلى وضـــرب الرقـاب(20)

وكان الجواب بمثابة إعلان حالة الحرب . فكتب الإمام (ع) إلى عماله في الآفاق يحرضهم للقتال ، كما عبَّأ قدرات جيش الكوفة العسكرية ، بخطب حماسية لاهبة . وقد ساهم نجلاه الإمامان الحسن والحسين (ع) وأصحاب رسول اللـه ، وبالذات البدريون وأصحاب بيعة الرضوان منهم ساهموا - بما كان لديهم من مكانة مرموقة بين المسلمين - في تعبئة الطاقات الإيمانية في الأمة .

ولقد كان مع الإمام (ع) من أصحاب بدر سبعة وثمانون رجلاً ، منهم سبعة عشر من المهاجرين ، وسبعون من الأنصار . وشهد معه من الأنصار ممن بايع تحت الشجرة ( بيعة الرضوان ) تسعمائة ، وكان مجمل عدد أصحاب رسول اللـه ، في ركب الإمام (ع) ألفين وثمانمائة رجل (21).

وكان الإمام (ع) يعطيهم مكانتهم المناسبة لهم ، وهم - بدورهم - كانوا متفانين في الدفاع عن حق الإمام في الخلافة ، لمعرفتهم بفضله ، وعلمهم بواقع بني أمية ، أعدائه وأعداء الإسلام .

وهكذا نجد الإمام (ع) لا يبت في أمر ، إلاّ بعد أن يستشيرهم ، ولم يعقد العزم على الحرب إلاّ بعد أن سألهم وقال وهو يخاطبهم :

“ أما بعد !. فإنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر . وقد أردنا المسير إلى عدونا وعدوكم ، فأشيروا علينا برأيكم “ (22).

فبادروا بالتأييد ، واستشهد كل منهم بحجة بالغة في شرعية قتال بني أمية .

فقال عمار بن ياسر : يا أمير المؤمنين ، إن استطعت أن لاتقيم يوماً واحداً فأشخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادعهم إلى رشدهم وحظهم . فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلاّ حربنا ، فواللـه إن سفك دمائهم ، والجد في جهادهم ، لقربة عند اللـه ، وهو كرامة منه (23).

أما عدي بني حاتم ، فقد أوضح خلفية بني أمية في القتال ضد الإمام (ع) وقال :

إن القوم لو كانوا لله يريدون ، أو لله يعملون ما خالفونا . ولكن القوم إنما يقاتلون فراراً من الأسوة وحبّاً للأثرة ، وضنّاً بسلطانهم ، وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحنٍ في أنفسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها - يا أمير المؤمنين - بهم قديمة ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم .

ثم التفت إلى الناس فقال :

كيف يبايع معاوية عليّاً ، وقد قتل أخاه حنظلة ، وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد (24).

لقد لخص هذا الصحابي الجليل طبيعة الموقف في كلمات . فإن الحزب الأموي يطلب الدنيا ويحاول الحفاظ على مكاسبه في السلطة ، ويريد الإنتقام من الإمام (ع) والتابعين له ، لما أنزلوا به هزائم نكراء في صدر الإسلام . وإنها بالتالي الردة الجاهلية بكل معنى الكلمة .

هكذا نجد أصحاب النبي محمد (ص) يجتهدون في الدفاع عن الخلافة الراشدة ، وقد استشهد الإمام (ع) في أكثر من مناسبة بموقف الأصحاب منه ومن بني أمية .

وفي المعركة شكل الإمام كتيبة خاصة بهم يقودها شخصيّاً ، سميت بالكتيبة الخضراء .

وقد أبلت هذه الكتيبة في الدفاع عن الإسلام وحرماته بلاءً حسناً .

والواقع أن حضور هذه الكتيبة في معركة صفّين كان دليلاً على عافية الأمة ويقظة ضميرها ، فبعد وفاة الرسول (ص) بربع قرن حفل بالأحداث السياسية العظيمة ، ولاتزال الفئة التي نصرت الرسالة وتعرضت للآلام وقدمت التضحيات ، لاتزال تخوض غمار معركة الحق ضد الباطل ، دون أن تميل مع رياح الشهوات وعواصف السياسة .

ومن المعروف أن كثيراً من هؤلاء الصحابة الكرام كان قد تقدم بهم العمر ، حتى بلغوا من الكبر عتيّاً ، ولكنهم لايزالون في مقدمة المجاهدين ، وفيهم عمار بن ياسر ، الذي فقد والديه شهيدين في صدر الإسلام ، وتعرض للضرب والإهانة منذ الأيام الأولى للبعثة ، وهو اليوم يناهز التسعين من عمره ويشد على وسطه حزاماً تنتصب قامته به ، ثم يدخل المعركة ، وهو ينادي الرواح الرواح إلى الجنة !. هكذا يصنع الإيمان بالقلوب الطاهرة والنفوس الزكية .

 

هكذا وقعت الواقعة :

في البلاد الإسلامية جيشان جيش الشام وجيش الكوفة ، وها هما يلتقيان لا ليحاربا عدوّاً مشتركاً ، وإنما ليتحاربا . فكم كانت الصدمة عنيفة في نفوس المسلمين ، وكم مشى رجال طيبون ، وكم سعى الإمام (ع) لردع معاوية عن هذا الغي والفساد العريض .

فمنذ أن التقى الجيشان بعث الأمام كبار قادته ، إلى معاوية وقال لهم : ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى اللـه عزَّ وجلَّ وإلى الطاعة والجماعة .

ولكنه يرفض إلاّ المطالبة بدم عثمان - كما يزعم - ويحاول أن يستخدم الوسائل الحربية التي كانت شائعة في الجاهلية . فلقد كتب في سهم أن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات ، فيغرقكم فخذوا حذركم ، ويرمي به إلى معسكر الإسلام فيقع السهم بيد رجل فينقل الخبر إلى الآخرين ، وكالعادة تنتشر الشائعة في المعسكرات سريعاً ، ويرتحل الجيش عن الشريعة ويهجم معاوية عليها . ولكن أصحاب الإمام لايلبثون أن يزحزحوه عنها .

وعندما منع معاوية الماء - بعد سيطرته على الشريعة - عن أصحاب الإمام ، وأمر الإمام بكسر الحصار عنها ، وقال كلمته المشهورة :

“ الحياة في موتكم مقهورين ، والموت في حياتكم قاهرين “ .

وزحف أصحاب الإمام (ع) نحو الماء وهزموا أعداءَهم ، واستولوا عليه . وزعم البعض أن الإمام سوف يقابل أعداءه بالمثل لأن الحرمات قصاص .

ولكنه رفض ذلك بقوة ، وأرسل إلى معاوية رسولاً وأخبره بأن السبيل إلى الشريعة سالك وبإمكان جيشه الورود إليها متى ما شاؤوا .

 

صور من معارك صفّين :

وبدأت المعارك وكانت في صورة مناوشات على الأطراف ، وكانت القوى متكافئة في الأغلب . بيد أن دوافع الحرب كانت مختلفة ، فبينما نجد العصبية الجاهلية توقد نار الحرب عند جيش الشام ، نجد الروح الإيمانية في أصحاب علي (ع) تحثهم على الجهاد والشهادة . فهذا قائد أموي كان يعدُّه معاويةُ وَلَدَهُ ، واسمه عبد الرحمن بن خالد ، يبارز قيادة جيش الإمام المتمثلة في تلك المعركة بعدي بن حاتم ويرتجز قائلاً :

قـــل لعدي ذهــب الـوعـــيـدُ * أنــا ابن سيــف الله لا مزيدُ

وخـــالد يــزينه الـــوليـــــــدُ * فـــمــا لنا ولا لهــم مَحــيــدُ

عن يومنا ويومكم فعـــودوا

إنك تراه كيف يفتخر بنسبه حتى تعود إلى أذهاننا ذكريات الجاهلية حيث كان الشخص يفتخر بآبائه وعشيرته .

و لكن عدي بن حاتم - بالرغم من مفاخره العظيمة - يذكر في رجزه الحربي دافعه الإيماني ويقول :

أرجو إلهـــي وأخـــاف ذنبـي * وليس شيءٌ مثـــل عـفوِ ربِّـي

وقد أفصح عبيد اللـه بن عمر ، وكان في صف معاوية عن خلفيات الحرب ، وذلك حينما الْتَقى بالإمام الحسن المجتبى في أرض المعركة فقال :

إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً ، وقد شنأوه . فهل لك أن تخلعه ونوليك هذا الأمر ؟

وهكذا كشف عن الأحقاد الجاهلية التي طفحت بها قلوب قريش وهم قيادات ذلك الجيش .

ولكن الإمام الحسن (ع) رده بقوة وقال : كلا ، وأضاف :

“ لكأني أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك . اما إن الشيطان قد زين لك وخدعك حتى أخرجك خلقاً بالخلوق ، ترى نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك اللـه ، ويبطحك لوجهك قتيلاً “ .

هكذا قاتل عمار بن ياسر :

قام عمار بن ياسر فخطب في القوم يحرضهم على معاوية ويكشف حقيقة المعركة ، وخلفياتها فقال :

امضوا عباد اللـه ، إلى قوم يطلبون - فيما يزعمون - بدم عثمان ، واللـه ما أظنهم يطلبون دمه ، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبُّوها واستمرأوها ، وعلموا لو أن الحق لزمهم لحَالَ بينهم وبين ما يرغبون فيه منها . ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون لها الطاعة والولاية ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا : قُتل إمامنا مظلوماً ، ليكونوا بذلك جبابرة وملوكاً ، وتلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون . ولولا هي ، ما بايعهم من الناس رجلان .

ثم التقى بعمرو بن العاص فقال له : يا عمرو بعت دينك بمصر ؟. تبّاً لك ، وطالما بغيت الإسلام عوجاً .

ثم حمل على القوم ، وهو يرتجز بأبيات تفيض إيماناً ويقيناً ، وتعكس شخصية عمار الجهادية وهو يومئذ يناهز التسعين من عمره :

صـــدق اللـه وهو للصــدق اهــــلٌ * وتعــــالى ربِّـــي وكــــان جـــلــيلا

ربِّ عجّـِلْ شهــــــادة لـــي بقـــتــل * فــي الــــذي قـد أحُب قتـــلاً جميـلا

مقبـــلاً غـــير مدبـــرٍ ، إن لـلقـــتــ * ــلِ علـى كـل ميـــتـــة تـــفضــيــلا

إنهـم عنــد ربهـــم فـــي جـــــنـــان * يشربون الـــرحـــيـق والسـلسبيلا

مـن شـراب الأبرار، خالطه المـسـ * ـك وكأســـاً مزاجهـــــا زنجبـــيـلا

ثـــم قال : اللـهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أقذف بنفسي في هذا البحر لَفعلت . اللـهم إنك تعلــم أني لو أعلم أن أضع ظُبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى يخرج من ظهري لَفعلت ، ولو أعلم اليـوم

عملاً هو أرْضَى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين لَفعلته (25).

وبهذه الروح الإيمانية المتسامية ، حارب الصفوة من أصحاب الرسول (ص) معاوية والمنافقين معه . لقد كانت الشهادة غاية مناهم ، وكانوا على يقين أنهم على حق . وأن عدوهم طالب ملك وباغي دنيا ..

وهكذا تقدم عمار بين الصفين ونادى : أيها الناس ، الرواحَ إلى الجنــة ، فلما بصر راية عمرو بن العاص ، قال : واللـه إن هذه الراية قد قاتلتها ثلاث مرات ، وما هذه بأرشدهم. ثم قال :

نحــن ضـــربنــاكـم علــى تنــزيله * فـــاليـــوم نضربكــم علــى تأويلـه

ثم استسقى - وقد اشتد ظمأه - فأتته امرأة بضياح من اللبن ، فقال حين شرب الأجنة تحت الأسنة :

اليوم ألقـى الأحبّـة مــحمـــداً وحزبــه

واللـه لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا انا على الحق وهم على باطل (26).

هكذا تقدم الشيخ العظيم الذي التحق بمسيرة الرسالة منذ شبابه ، ولم يتخلف عن أية مهمة أوكلت إليه ، ودفعه النبي (ص) إلى مستوى الصديقين ، ولم تأخذه في اللـه لومة لائم . تقدم إلى الشهادة ببصيرة نافذة ، وخطى ثابتة ، وهو يحمل معه صحيفته المضيئة ، ذات التسعين صفحة مشرقة ، فلما توسط المعركة حمل عليه اثنان من المجرمين ( أبو العادية الفزاري ، وابن جون ) فقتلاه ، فألزم اللـه بقتله الحجة على أهل الشام ، إذ قال الرسول الأكرم (ص) يوماً :

“ آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن ، وتقتلك الفئة الباغية “ .

فلما انتشر خبر مقتله في معسكر أهل الشام ، وكاد يؤثِّر على معنوياتهم ، قال معاوية إن عليّاً هو الذي قتله ، لأنه هو الذي أخرجه لقتالنا . ولقد كان معاوية قد استخف قومه فأطاعوه ، وهكذا كان يتعامل مع سائر النصوص الدينية .

 

الدفاع بكل وسيلة :

لقد كانت معارك صفّين غريبة ، فمعاوية كان قد أعد جيشه إعداداً جيداً ، وكانت إلى جانبه القيادات العربية العريقة ، والقبائل التي دخلت الإسلام بعد الفتح حاملة معها رواسبها وتقاليدها وطاعتها لشيوخهــا . وقد استفاد من خبرة الروم بحكم احتكاكه بحضارتهم في الشام ، وجهّز جنوده بأفضل الأسلحة ، ومنَّاهم بالأموال التي تكدست عند الحزب الأموي ، منذ أيام الجاهلية وتضاعفت على عهد عثمان .

وفي الجانب الآخر كانت التعبئة الروحية عند أنصار الإمام (ع) في القمة ، فها هم أصحاب رسول اللـه (ص) وعددهم ألف وسبعمائة ، بينهم كبار المهاجرين وبقية البدريين ، والمشتركين في بيعة الرضوان ، يتبعهـم جيش من قراء القرآن والعُبَّاد وأصحاب البرانس ، وما نمى وتبارك من الجيل القرآني ، ومن ورائهم القبائل العربية التي اتَّبعت هذا الخط بدافع أو بآخر .

وحين التقى الفريقان ، كانت الكفة متعادلة تقريباً ، ولذلك قلما كانت المعارك حاسمة ، وأنقل إليكم صورة معبرة واحدة من هذا التعادل :

يقول زياد بن نصر الذي كان في مقدمة جيش الإمام (ع) :

شهدت مع علي بصفّين ، فاقتتلنا ثلاثة أيام وثلاث ليال ، حتى تكسرت الرماح ، ونفدت السهام ، ثم صارت إلى المسايفة ، فاجتلدنا بها إلى نصف الليل ، حتى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضاً . وقد قاتلت يومئد بجميع السلاح فلم يبق شيء من السلاح إلاّ قاتلت به ، حتى تحاثينا بالتراب وتكادمنا ، حتى صرنا قياماً ينظر بعضنا الى بعض ما يستطيع واحد من الفريقين أن ينهض إلى صاحبه ولا يقاتل .

فلما كان نصف الليل ، من الليلة الثالثة انحاز معاوية وخيله من الصف ، وغلب علي على القتلى ، وأقبل على أصحاب محمد وأصحابه فدفنهم ، وقد قتل كثير منهم ، وقتل من أصحاب معاوية أكثر (27).

 

الإمام (ع) يقــود المعــارك :

في صفّين تجلَّى علي بشجاعته وبطولاته وصدق مواقفه ، لقد ذرَّف الآن على الستين ، ولقد تواردت عليه مصائب لو نزل بعضها على الجبال لانهدَّت ، ولكنه سيد المتقين الذي يتعالى على قمم الجبال .

مواقفه في صفّين تعكس جانباً من تلك الروح العظيمة ، وذلك الإيمان الصادق .

لقد أرسل الإمام (ع) إلى معاوية أنِ ابْرُزْ إِلَيَّ واعفُ الفريقين من القتال ، فأيُّنا قتلَ صاحبه كان الأمر له .

فانظروا إلى هذه البطولة .. إنه يستعد لافتداء المسلمين بنفسه . ولكن معاوية قال في الجواب بالحرف الواحد : إني أكره أن أبارز الأهوج الشجاع ، ثم نظر إلى عمرو بن العاص الذي شجعه على قبول تحدي الإمام (ع) قائلاً : لقد انصفك الرجل ، نظر إليه وقال : لعلك طمعت فيها يا عمرو !

أما عمرو بن العاص الذي كان يعتبر من دهاة العرب ، ومن القيادات العربية العريقة في الجاهلية ، فقد أراد أن يأخذ الإمام (ع) على غرة ، فحمل عليه الإمام ، فلما كاد يخالطه رمى بنفسه عن فرسه ورفع ثوبه وشغر برجله فبدت عورته ، فصرف عليٌّ (ع) وجهه عنه ، وقام معفراً بالتراب هارباً على رجليه معتصماً بصفوفه فقال القوم : أفلت الرجل يا أمير المؤمنين .. قال : وهل تدرون من هو ؟. قالوا : لا ، قال : إنه عمرو بن العاص تلقاني بعورته فصرفت وجهي عنه (28).

وفي موقعة أخرى برز عروة بن داود الدمشقي إلى الإمام (ع) فضربه ضربة علوية فقدَّه نصفين وقع نصفه يمنة ونصفه يسرة ، فارتج العسكر ، وخاطبه الإمام (ع) بعد مقتله قائلا :

“ يا عروة اذهب فأخبر قومك . أَمَا والذي بعث محمداً بالحق لقد عاينتَ النار وأصبحتَ من النادميــن “ (29).

فبرز إليه ابن عمه فألحقه الإمام (ع) بصاحبه . ومعاوية واقف على تل يبصر ويشاهد فقال : تبّاً لهذه الرجال وقبحاً . أَمَا فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع .

فقال الوليد بن عقبة : ابرز إليه أنت ، فإنك أولى الناس بمبارزته . فقال : واللـه لقد دعاني إلى البراز حتى استحيت من قريش . واللـه إني لا أبرز إليه (30).

وذات مرة قال معاوية لجلسائه وهو يذكر نكوله عن مبارزة علي وكشف صاحبه عمرو عن سوأته للفرار عنه :

“ إن الجبن والفرار من عليٍّ لا عار على أحد فيهما “ (31).

هكذا تجلى الإمام ببطولاته - التي صنعها في حروب الإسلام الأولى ضد قريش وبني أمية بالذات - تجلى في الوقت الذي كان أميراً للمؤمنين ، والقائد العام للجيش الإسلامي ..

وإننا لو أطَّلعنا على ساحة المعركة في صفّين ، ورأينا أصحاب محمد (ص) يلتفون حول قائدهم الإمام علي (ع) ، وقد تراوحت أعمارهم بين الخمسين والتسعين عاماً ، وهم الرواد الأوائل ، وطلائع الرسالة ، وحملة راية التوحيد في الأرض ، وهم قادة الأمة بلا منازع ، لاستبدَّ بنا العجب !. سبحان اللـه ، ما أروع هذا المشهد !. ماالذي جعل هؤلاء الشيوخ يشكلون كتيبة خاصة بهم باسم الكتيبة الخضراء ؟ وماالذي جعلهم يرخصون أنفسهم ؟ وما الذي أخرجهم إلى الحرب وهم كرام سواء خاضوا حرباً أم استقروا في بيوتهم ؟!.

إنه الإسلام ، وهم الجيل القرآني ، والقرآن يصوغ شخصية الإنسان بحيث تتحدى حاجز السنين ، وتتعالى على الماديات . لقد أحس القوم بالردة الجاهلية التي يقودها بنو أمية ، فلم يألوا جهداً في مقاومتها ، وأقروا عين حبيبهم ومربيهم وقائدهم ، النبي محمد (ص) بفعلهم .

 

ما فاته بالشجاعة أخذه بالمكر :

كانت التعبئة الروحية ، أعظم قوة اعتمد عليها جيش الرسالة ، وبالرغم من أنها صنعت بطولات نادرة ، إلاّ أن حجمها كان دون مستوى النصر النهائي . فلما استمرت الحرب طويلاً بدأ المتخاذلون يتنامون في صفوف الجيش الرسالي . أمَّا معاوية الذي لم يتورع عن التوسل بأية طريقة مهينة لنيل النصر ، فقد عرف كيف يستفيد من الصعوبات التي ازدادت في صفوف جيش الإمام . لم تكن أكثرية الجيش عند الإمام في مستوى فهم الصراع الرسالي - الجاهلي . وإن الذي يطلع على تاريخ صفّين يتمزق ألماً ، كيف كانت حيل معاوية تنطلي عليهم ، وكيف كان الإمام يستخدم براعته وبلاغته ، وقوة شخصيته ، وحضوره الدائم عند كل حادثة ، بل وجولاته الحربية المباشرة ، لكي يُفشل خطط معاوية الماكرة ..

لقد سأله - ذات مرة - بعض اصحابه كيف لم ننتصر حتى الآن على معاوية ؟. فأمره أن يدنو منه ثم ناجاه :

“ إن قوم معاوية يطيعونه ، ولا يطيعني قومي “ .

وكم كان يؤلم ذلك القلب الكريم الذي غمره حب الرسالة ، جهل المسلمين بها ، وتفرقهم عن الحق .

وكان معاوية يعرف ذلك ولا يكف عن محاولاته للتأثير على معنويات جيش الإمام ، وبث الفرقة فيهم . وحتى لو فشلت سائر حيله فإن نجاح واحدة منها كفيلة بإنقاذه من ورطته وإعطائه فرصة العودة إلى مؤامراته الخبيثة !

وهكذا خطط هذه المرة بطلب الصلح ، والتحاكم إلى القرآن الكريم .

في بداية الحرب ندب الإمام (ع) واحداً من فتيان الأنصار ليحمل القرآن إلى معسكر معاوية ، ويطالبهم بالتحاكم إليه ، وقد بشره بالشهادة في هذا السبيل ، وضمن له الجنة ، فأسرع الفتى إلى القوم ، وهو يحمل كتاب اللـه على يديه ، ويطالبهم بالنزول على حكمه ولكنهم أمطروه بوابل من السهام فسقط شهيـــداً ، وسقط إلى جنبه كتاب اللـه العزيز .

ولكن معاوية يجد نفسه مهزوماً لا محالة ، وقد بدأ جيشه يولي الدبر أمام صولات جيش الإمام وبالذات أمام هجمات القائد المغوار مالك الأشتر ، الذي أخذ يزيد من ضغطه على جيش الشام .

واستشار معاوية عمراً ( ذلك الداهية المعروف ) فأشار عليه بحمل المصاحف ، فإذا بهم يحملون على رماحهم ما يشبه المصاحف ويطالبون بحكم القرآن .

ولعل جواسيس معاوية في جيش الإمام كانوا وزعوا الأماني على أصحاب القلوب المريضة فوعدوا قيادات الجيش الكوفي ، الذين عصرهم الإمام بعدالته ومساواته عصراً ، المزيد من الأموال والمناصب .

فإذا بالحيلة تنطلي على الغوغاء ، ولا تقف دونها القيادات العميلة ، ولم تنفع شيئا محاولات الإمام (ع) والقيادات الرسالية الراشدة في توعية الغوغاء أو ردع العملاء .

فلنستمع إلى التاريخ وهو يروي قصة المؤامرة الكبرى ، لعلنا ننتفع بها عبرة لما يشبهها اليوم .

روى نصر بن مزاحم أن عليّاً (ع) غلس بالناس في صلاة الغداة يوم الثلاثاء عاشر ربيع الأول سنة 37 - وقيل عاشر صفر - ثم زحف إلى أهل الشام بعسكر القرآن ، والناس على راياتهم ، وزحف إليهم أهل الشام ، وقد كانت الحرب أكلت الفريقين ، ولكنها في أهل الشام أشد نكاية وأعظم وقعاً .

ثم تمضي الرواية تنقل كيف الْتَقى الجمعان في واقعة عظيمة كادت تُفني الطرفين ، مما سمي ليلة الهرير ، حيث استمر القتال من صلاة الغداة إلى نصف الليل ، ومرت مواقيت أربع صلوات لم يسجدوا لله فيهن سجدة ، ولم يصلوا لله صلاة إلاّ التكبير ، ثم استمر القتال من نصف الليل إلى ارتفاع الضحى ،

وافترقوا على سبعين ألف قتيل ، في ذلك اليوم وتلك الليلة (32).

والإمام علي (ع) في القلب ، بينما ابن عباس في الميسرة ، والأشتر في الميمنة .

والإمام يحرض القوم ، ويدعو الرب ، ويجالد بالسيف حتى يقول الراوي :

لا واللـه الذي بعث محمداً بالحق نبياً ، ما سمعنا برئيس قوم منذ خلق اللـه السماوات والأرض ، أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب ( أي الإمام عليه السلام ) يخرج بسيفه منحنياً فيقول : معذرة إلى اللـه وإليكم من هذا ، لقد آن أفلقه ، ولكن حجزني عنه أني سمعت رسول اللـه (ص) يقول كثيراً :

لا سيـــف إلاّ ذو الفقــا ر * ولا فـــتـى إلاّ عــلـــــــي

وأنا أقاتل به دونه (ص) .

قال ( الراوي ) فكنا نأخذه فنقوِّمه ، ثم يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصف ، فلا واللـه ما ليث بأشد نكاية منه في عدوه .

وخطب الإمام في الناس وقال :

“ أيها الناس قد بلغ بكم الأمر وبعدوكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلاّ آخر نفس . وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا . وأنا عادٍ عليهم بالغداة ، أحاكمهم إلى اللـه عزَّ وجلَّ “ (33).

فبلغ ذلك معاوية فاستشار عمرو بن العاص ، فقال له فيما قال : ألق إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردوه اختلفوا . أدعهم إلى كتاب اللـه .

فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح .

وبالرغم من أن القيادات الرسالية قد حذروا من مكر معاوية ، وقال عدي بن حاتم للإمام : ( وقدجزع القوم ، وليس بعد الجزع إلاّ ما تحب فناجز القوم ) ، وهكذا قال مالك الأشتر وعمرو بن الحمق وآخرون .

إلاّ أن أكثرية الناس كانوا قد ملّوا الحرب فقالوا : أكلتنا الحرب وقتلتِ الرجال ، فقال الإمام (ع) :

“ إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب ، وقد واللـه أخذت منكم الحرب وتركت ، وأخذت من عدوكم فلم تترك . وإنها فيهم أنكى وأنهك ، إلاّ أني كنت بالأمس أمير المؤمنين ، فأصبحت اليوم مأموراً ، وكنت ناهياً فأصبحت منهيّاً ، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون “ (34).

وبعد ان رضينا بالتحاكم ، وتقرر أن يختار كل فريق شخصاً يتفاوضان في شؤون الخلافة ، واختار معاوية عمرو بن العاص . ذلك الداهية المعروف والطامع في ولاية مصر بعدئذ وقع الإختلاف - مرة أخرى - في أصحاب الإمام . فبينما اختار لهم الإمام عبد اللـه بن العباس ، وقال :

“ إن عمراً لا يعقد عقدة إلاّ حلها عبد اللـه ، ولا يحلُّ عقدة إلاّ عقدها “ .

فقال الأشعث : لا واللـه لا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة .

فاختار لهم مالك الأشتر ، فرفضوا ، وقالوا له سعَّر الارض علينا ، غير الأشتر .

فاصروا على اختيار أبي موسى الأشعري ، والذي اعتزل الإمام وخذَّل الناس عنه .

وفي الواقع إن أصحاب الإمام (ع) كانوا طوائف شتى ، المخلصون ، والمنافقون ، والمتطرفون ، الذين اشتركوا في القيام ضد عثمان ، وكانوا يظنون أنهم أحق بالأمر من علي وأصحابه !! وهم الذين انتهى بهم المطاف إلى التمرد على الإمام وسُمُّوا بالخوارج.

 

قصة الخوارج :

بعد ان كتب الطرفان وثيقة الصلح ، ووقَّع عليها كل من الإمام ومعاوية ، دار بها أبو موسى الأشعري على عسكر الإمام ، فلما مرّ برايات بني راسب قالوا : لا نرضى ، لا حكم إلاّ لله ، فلما أخبر الإمام قال له : هل هي غير راية أو رايتين ونبذ من الناس ؟ قال : لا .

صحيح أن أهل الكوفة كانوا قد تعبوا من الحرب ، إلاّ أن أوارها كان لايزال يتقد في أفئدة الكثيرين . فلما بادر المتطرفون بإعلان التمرد ، انتشرت دعوتهم كالنار في الهشيم . فما راع الإمام إلاّ نداء الناس من كل جانب : لا حُكم إلاّ لله ، لا الحكم إلاّ لله ، لا الحكم إلاّ لله ، يا علي لا حُكم لك ، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين اللـه ، إن اللـه قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا في حكمنا عليهم .

وكلما نصحهم الإمام وذكَّرهم بان العهد لاينقض وقد جعلوا اللـه عليه وكيلاً ، أبوا إلا الحرب وقالوا للإمام بالحرف الواحد : تب إلى اللـه كما تبنا ، وإلاّ برئنا منك .

وعزز موقف الخوارج نتائج الحكمين حيث غرّر عمرو بن العاص بصاحبه أبي موسى الأشعري ، فاتفق معه على أن يخلعا كلاًّ من الإمام ومعاوية ، وقدم عمرو صاحبه فلما فعل أبو موسى قام عمرو وقال : إن هذا خلع صاحبه ، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية . وهكذا دعمت عاقبة التحكيم جانب المتطرفين فاجتمعوا في منطقة “ الحروراء “ وبعث إليهم الإمام ابن عباس فناقشهم بالقرآن فلم يستجيبوا له ، فذهب إليهم بنفسه وسأل عن الرجل المقدَّم فيهم فقيل : يزيد بن قيس الأرحبي ، فذهب إلى خبائه وصلَّى ركعتين ، ثم قام وقال : هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة .

ثم التفت إلى الناس وقال :

أنشدكم اللـه ، أعلمتم أحداً كان أكره للحكومة مني .؟ . قالوا : اللـهم لا ، قال : أتعلمون بأنكم أكرهتموني حتى قبلتها ؟. قالوا : اللـهم نعم .

قال : فعلام خالفتموني ونابذتموني ؟. قالوا : إنا أتينا ذنباً عظيماً فتبنا إلى اللـه ، فتب إلى اللـه منه واستغفره نَعُدْ إليك .

فقـال الإمام (ع) : إني أستغفر اللـه من كل ذنب ، فاستجابوا إليه ورجعوا معه إلى الكوفة ، وكانوا أكثر من ستة آلاف مقاتل .

ولكن يبدو أنهم - عند عودتهم إلى الكوفة - التقوا بالمدافعين عن التحكيم ، وهم أكثرية الجند ممن اتَّبع الأشعث ، فأثارهم هذا الأخير الذي كانت مواقفه الخيانية مشهودة في كل مكان ، وهو الذي أكره الإمام على التحكيم أول مرة - فخرج القوم إلى منطقة تسمى بالنهروان فمر بهم مسلم ونصراني ، فقتلوا المسلم بعد أن عرفوا رأيه حول الإمام ، وتركوا الثاني قائلين لابد أن نحفظ ذمة نبيِّنا ، وكأنَّ الإسلام لم يحقن دماء المسلمين !

والواقع : أن تنامي التطرف وانحسار الوعي ، وتهافت أسس التفكير عند القوم ، كان السبب في جرائمهم ، كما كان سبب انقراضهم ..

لقد كان عبد اللـه بن خباب من أصحاب رسول اللـه (ص) وكذلك والده خباب بن الأرت كان من أعظم أصحاب الرسول ، فمرَّ بهم عبد اللـه وفي عنقه قرآن ، ومعه زوجته الحامل ، وكانت في شهرها الأخير ، فأخذوه وقالوا له : إن هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك ، فقال لهم أحيوا ما أحياه القرآن ، وأميتوا ما أماته.

وفيما هم يحاورونه كانت تسقط تمرة من نخلة فيتناولها أحدهم ، فيصيحون به حتى يلفظها . ويمر بهم خنزير فيقتله أحدهم ، فينهرونه ويقولون هذا فساد في الأرض .

وعادوا إلى عبد اللـه بن خباب وقالوا له : ما تقول في أبي بكر وعمر وعلي قبل التحكيم ، وعثمان في الســت السنين الأخيرة من خلافته ؟. فأثنى عليهم خيراً . فقالوا : ما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة ؟. فقال : إن عليّاً أعلم باللـه ، وأشد توقياً على دينه ، وأنفذ بصيرة .

فقالوا : إنك لا تتبع الهدى ، بل تتبع الهوى ، والرجال على أسمائهم ، ثم جروه إلى شاطئ النهر وذبحوه وجاؤوا بزوجته فبقروا بطنها ، وذبحوها مع ولدها إلى جانبه ! (35).

وهكذا عاث الخوارج فساداً في الأرض وكادت روح القتال المتمردة على القيم تنتشر فيهم وهم أبناء الجزيرة العربية التي لاتزال أرضها تغلي بالدم والثار والعصبيات الدفينة .

ولولا أن الإمام (ع) بادر وسار إليهم لَكان يُخشى أن تشمل الفتنة كل أطراف بلاده .. فقد قصدهم للـتوِّ ، ولمَّا بلغ مكاناً قريباً أرسل إليهم من يأمرهم بدفع قتلة الصحابي الجليل عبد اللـه بن خباب وزوجته وسائر من قتل من المسلمين على أيديهم . فقالوا له : كلّنا قتلة عبد اللـه . وأضافوا : ولو قدرنا على علي بن أبي طالب ومن معه لقتلناهم .

فمشى إليهم الإمام بنفسه ، وقال :

“ أيها العصابة ، إنِّي نذير لكم أن تصبحوا لعنة هذه الأمة غداً وأنتم صرعى في مكانكم هذا بغير برهان ولا سنَّة “ .

وحاجّهم - مرة أخرى - ونصحهم بأن ينظمّوا إليه لقتال معاويــة ، وهو هدفهم المعلـن ، فقالوا : كـلا لابد أن تعترف أولاً بالكفر ، ثم تتوب إلى اللـه كما تبنا حتى نطيع لك ، وإلاّ فنحن منابذوك على سواء .

فقال لهم : “ ويحكم ، بم استحللتم قتالنا والخروج عن جماعتنا “ .

فلم يجيبوه وتنادوا من كل جانب : الرواحَ إلى الجنة !. وشهروا السلاح على أصحابه وأثخنوهم بالجراح ، فاستقبلهم الرماة بالنبال والسهام ، وشد عليهم أمير المؤمنين وأصحابه ، فما هي إلاّ ساعات قلائل حتى صرعوا (36).

وفتش الإمـام بين قتلاهم عن شخص اسمه مخرج وكان معروفاً بذي الثديَّة ، فلما وجده بعد بحث كثير ، كبَّر وكبَّر أصحابه لأن النبي (ص) كان قد أخبر عن هذه الفئة المارقة ، وأنبأ عن علامتهم بوجود هذا الشخص بينهم .

فالرواية تقول : لما عاد الرسول (ص) من حنين ، وبدأ تقسيم الغنائم قام إليه رجل من بني تميم ، يقال له الخويعة فقال له : إعدل يا محمد ! فقال (ص) : لقد عدلت . وأعاد إليه التميمي قوله ثانية فقال (ص) له : ويلك ، إن لم أعدل أنا فمن يعدل ؟. وفي الثالثة رد عليه النبي (ص) بقوله :

“ سيخرج من ضضيء هذا قوم يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية ، يخرجون على حين فرقة من الناس ، تحقرون صلاتكم في جنب صلاتهم ، يقرأون القرآن فلا يتجاوز تراقيهم بينهم رجل أسود مخرج اليدين إحدى يديه كأنها ثدي امرأة ، وفي رواية عائشة : يقتله خير أمتي من بعدي “ (37).

لقد أشار النبي (ص) بكلمته الرشيدة تلك إلى وجود طوائف قشرية جاهلة في الأمة ، وأنها ستظهر عند أول فرصة تسنح لهم ، وذلك حين تقع الفتنة . فهذا الرجل الذي يأمر رسول العدالة بالعدل ، ويرى نفسه أحرص على القيم من ذلك الذي اختاره اللـه تعالى لرسالاته لا يشبه إلاّ الرجل الذي يأمر عليّاً (ع) بالتوبة والإيمان ، وهو ابن الإيمان ، وعلى أكتافه قامت قواعده وترسخت أسسه .

ولعل حرص الإمام (ع) على التفتيش عن جثمان ذي الثدية ، حيث بعث رجالا من أصحابه ليبحثوا عنه فلم يجدوه فاضطر للبحث عنه شخصياً .. أقول : لعل ذلك ، كان لإتمام الحجة على الناس ، وليعلموا أن هؤلاء مارقون عن الدِّين بشهادة رسول اللـه (ص) ، فلا يزايدون على الناس بدينهم الأجوف . ولمعرفة أن هذه الفئة المارقة الملعونة ، لم تنته بتصفية أفرادها جميعاً ، إذ أنها حالة اجتماعية مستمرة سوف تبرز بين الفينة والأخرى هنا أو هنالك ، تحت راية هذا أو ذاك ، حيث لم يخلُ عصرٌ منهم أو من أمثالهم ذوي الثفنات الغليظة ، والمظاهر الدينية والتطرف للقشور . وتكفير الناس بغير حجة من اللـه ، ولا دليل من العقل ..

والخوارج من هنا ، وأصحاب الأشعث المتخاذلون من هناك ، شكَّلوا أكبر خطر على النظـــام الإسلامي ، في عهد الإمام (ع) وهم يشكِّلون ذات الخطر على كل رسالة إصلاحية ..

وفعلاً برزت بُثور عفنة من تابعي نهج الخوارج بعدئذ في أطراف دولة الإسلام ، وشغلوا جانباً من اهتمام الإمام (ع) بما أتاح فرصة لمعاوية بتثبيت حكمه !

 

الأيام الأخيرة لعهد الإمام (ع) :

حين يمر شريط حياته سلام اللـه عليه أمام أعيننا تبدو نهاياتها أشد قتاماً حتى يكاد يتفطر القلب أسى . فهذا معاوية يقود رايات الجاهلية ضد رسالـــة اللـــه !. وهذا الأشعث وأهل الدنيا من قيادات الجيش الكوفي ، يميلون إلى باطل معاوية ، وتستهويهم وعوده الكاذبة أكثر من نصائح الإمام (ع) .. وهؤلاء أصحابه الكرام يَلقون مناياهم ويُصرعون بالحرب حيناً ، وبالغيلة أحياناً .. ولا يمر عليه يوم إلاّ وتتوارد عليه أنباء مؤسفة ..

فالمتطرفون يخرجون عليه ، ويزعجون جيشه ، والجيش قد تعب من الحرب ، ومعاوية يزداد قوة كل يوم ، ويبعث بسرايا خفيفة تغير على أطراف البلاد . يحيي بذلك سنن الجاهلية التي ينتمي إليها ، ويشجع القبائل العربية والقيادات الجاهلية على العودة إلى عاداتهم السابقة من سلب ونهب .. ثم يهاجم اليمن والحجاز بجيش يقوده بسر بن أرطأة ، ويأمره بإثارة الفوضى وإرهاب الموالين للإمام (ع) .. ويجهز جيشاً لمهاجمة مصر ، بقيادة عمرو بن العاص الذي اتَّبعه طمعاً في ولاية مصر ، فيعيث فساداً في مصر ، ويقتل والي الإمام عليها ( محمد بن أبي بكر ) ويمثل به ويحرقه ..

وحينما ندب الإمام لمصر السيف الصارم ( مالك الأشتر ) ، دبّر معاوية خطة لاغتياله بالسم في بعض الطريق .. وكان نبأ شهادته على الإمام عظيماً ، إذ فقد بطلاً راسخ الإيمان شديد الوطأة على أعداء اللـه .

كل ذلك ، وأهل الكوفة لايزالون مختلفين ، إذ كانوا متأخرين قروناً عديدة عن أفق الإمام (ع) ، حيث كان يستحثهم بكل ما أُوتي من بلاغة القول وحكمة الرأي وقوة الطرح ، على الجهاد في سبيل اللـه وعلى المحافظة على كرامتهم ومكاسب ثورتهم ، فلم يكن يستجيب له إلاّ طليعة القوم .

ولعل الهدف الأسمى للإمام (ع) كان ترسيخ أسس الإيمان عند هؤلاء الطليعة الذين هم شيعته المخلصون ، ليمتد الخط الرسالي حاملاً مشعل التوحيد ، عبر الأجيال .

وكان يؤلمه حقّاً تفرقُ أهل الكوفة عن حقهم ، واجتماع أهل الشام على باطلهم ، وكان يتمنى أن لَو بادَلَه معاويةُ بأصحابه على أن يدفع منهم عشرة ويأخذ واحداً من أصحاب معاوية ، وأخيراً رمى بآخر سهم من كنانته فقال :

“ أَمَا إني قد سئمت من عتابكم وخطابكم ، فبيّنوا لي ما أنتم فاعلون ، فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وما أحب ، وان كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن أمركم . فواللـه لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوه حتى يحكم اللـه بيننا وبينه وهو خير الحاكمين . لأدعون اللـه عليكم ولأسيرن إلى عدوكم . ولو لم يكن معي إلاّ عشرة .

واضاف قائلاً :

“ أجلاف أهل الشام أصبرُ على نُصرة الضلال ، وأشدُّ إجماعاً على الباطل منكم على هداكم وحقكم . ما بالكم وما دواؤكم ؟. إن القوم أمثالكم لايُنشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة “ (38).

فلما رأى أهل الكوفة منه العزم على أن يزحف بمن بقي معه من أصحابه المخلصين استجابوا له ، وتداعوا للجهاد وخرج المقاتلون إلى النخيلة حيث كان يعسكر فيه جيش الكوفـة . ولبث الإمام (ع) : هناك ، ووجَّه واحداً من قادة جيشه ( زياد بن حفصة ) باتجاه الشام ، يقود طلائع الجيش ، بينما انتظر انسلاخ شهر رمضان ليزحف ببقية الجيش إلى الشام ، لولا أن القدر كان في انتظاره في ليلة التاسع عشر من شهر اللـه المبارك ..

 

تهدمت أركان الهدى :

ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك ، تُعتبر من الليالي التي يُرجى فيها أن تكون ليلة القدر . وكان حديث الناس في تلك الليلة في كل مكان حول الحرب ، بعد أن بث الإمام (ع) فيهم روح الجهاد ، ودبّ إليهم النشاط والعزيمة .

وفي طرف مسجد الكوفة كان يصلي جماعة من المصريين ، كعادتهم في كل ليلة ، قريباً منهم عند السرة كان يصلي جماعة باجتهاد . وهناك في بيت متواضع على طرف تستضيف الإمام (ع) أبنته فتحمل إليه عند الإفطار ، رغيفاً من الخبز ولبناً وشيئاً من الملح ، فيأمرها برفع اللبن . ولما تناول لقمات نهض لصلواته ، وبين الفينة والأخرى كان يتطلع إلى السماء فيقول : هي هي الليلة التي وُعدت بها . لا كَذبت ولا كُذِّبت .. ثم يخرج إلى المسجد ، ويدخله من ذات الباب الذي اجتمع خلفه أولئك الرجال .

يقول الراوي : خرج عليهم علي بن أبي طالب (ع) عند الفجر ، فأقبل ينادي .. الصلاة الصلاة ، وبعدها رأيت بريق السيف ، وسمعت قائلاً يقول : الحكم لله لا لك يا علي ، ثم رأيت بريق سيف آخر ، وسمعت عليّاً يقول : لا يفوتنَّكُم الرجل . وكان الأشعث قال لابن ملجم النجاة لحاجتك قبل أن يفضحك الفجر (39).

فمن هو الذي اشترك في المؤامرة ضد حياة قائد المسلمين ؟

إنهم ثلاثة اجتمعوا في الحج وقرر كل واحد منهم اغتيال واحد من الثلاثة : معاوية ، وعمرو بن العاص ، والإمام (ع) فلم ينجح صاحب عمرو بن العاص ، إذ كان قد استناب عنه آخر ، للصلاة فقُتل ، بينما وقع سيف صاحب معاوية على فخذه وجرحه جرحاً بسيطاً ..

اما ابن ملجم الذي كان قد اشترى سيفه بألف وسمَّمه بألف فقد التقى - فيما يبدو - بالمعارضة التي تنامت في الكوفة ، وكان يقودها ابن الأشعث الذي بدأ يتباكى على مصرع الخوارج ، وكان قد دخل الإمــام (ع) قبل فترة فاغلظ عليه لمؤامرته المستمرة ضد الإسلام ، فتوعده وهدده بالفتك ، فقال له الإمـــام :

“ أَبِالموت تخوِّفني وتهدِّدني ؟. فواللـه ما أُبالي وقعتُ على الموت أو وقع الموتُ عَلَيَّ “ (40).

وهكذا تعاون معه في جريمته سبيب بن بجران ، ووردان بن مجالد ، ولعل رجالاً آخرين من جماعة ابن الأشعث كانوا مساهمين معهم .

ومن خلال الأشعث التقت مصلحة الخوارج ( الذين كانوا من أشد المعارضين لمعاوية ) بمصالح معاوية الذي كان يخشى هجوماً صاعقاً لجند الإسلام ضده .وكان لا يني من توزيع الوعود على الطامعين في الكوفة ، للفتك بالإمام (ع) . ومن هنا خاطب أبو الأسود الدؤلي معاوية بعد تنفيذ الجريمة قائلاً :

أَلاَ أَبـــلغْ معــاويـــــة ابـــــــنَ حـــربٍ * فـلا قـــرت عـــيــون الشــامتــيـــــنــــا

أفـــي شهــــر الصيــام فجعـــتمـــــونا * بـخـــــيـــر النـاس طــــرّاً أَجمعــــينـــــا

قتلتم خيـــر مــن ركـــب المطــايــــــــا * وذلَّلـهـــا ومَــن ركـــب السفــــيــــــنـــا

ومَــن لبـــــس النعــال ومـن حـــــذاها * ومـن قـــرأ المثــانـــي والمئينـا (41)

وبعد تنفيذ الجريمة ، حُمل الإمام (ع) إلى البيت ، وأُحضر عنده ابن ملجم فقال الإمام :

“ النفس بالنفس ، إن أنا متُّ فاقتلوه كما قتلني ، وإن سلمتُ رأيت فيه رأيي . وأضاف : يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قتل أمير المؤمنين . أَلاَ لا يَقتلنَّ إلاّ قاتلي “ .

ودخل على الإمام (ع) أكبر أطباء الكوفة واسمه : أثير بن عمر بن هاني ، فلما فحصه مليّاً قال : يا أمير المؤمنين اعهد عهدَك ، فإن عدو اللـه قد وصلت ضربتُه إلى أم رأسك (42).

ويقول الأصبغ بن نباتة : دخلتُ على أمير المؤمنين (ع) ، فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء قد نزف دمُه واصفرَّ وجهه . فما أدري وجهه أشد صفرة أم العمامة ، فاكببتُ عليه فقبلته وبكيت . فقال لي : لا تبكِ يا أصبغ فإنها - واللـه - الجنة .

فقلت له : جَعلتُ فداك ، إني أعلم - واللـه - أنك تصير إلى الجنة ، وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين (43).

وبكت عنده أم كلثوم بعد أن نعى إليها نفسه ، فقال لها :

“ لا تؤذيني يـــا أم كلثوم ، فإنـــك لو ترين مـــا أرى ، إن الملائكة مـــن السماوات السبـــع بعضهـم خلـف بعــض ، والنبيون يقولون : انطلق يا علي فما أمامك خير لك مما أنت فيه “ (44).

وبقي الإمام (ع) ثلاثاً تشتد حالته ، حتى كان ليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان ، في الثلث الأول منها ، وعهد عهده إلى الإمام الحسن وأوصاه وأخاه الإمام الحسين عليهما السلام ، بآخر وصاياه ، ثم ودع أهل بيته ، واستقبل ملائكة ربه بالسلام وفارقت روحه الزكية الحياة ، وصرخت بناته ونساؤه ، وارتفعت الصيحة في بيته ، فعلم أهل الكوفة أن أمير المؤمنين قد قُبض ، فأقبل الرجال والنساء أفواجاً ، وصاحوا صيحة عظيمة ، وارتجَّت الكوفة بأهلها ! وكان ذلك اليوم كيوم مات فيه رسول اللـه (ص) .

ثم غسله الإمام الحسن والإمام الحسين معاً سلام اللـه عليهم أجمعين ، بينما كان محمد بن الحنفية يصب الماء . وحُنِّط ببقية حنوط رسول اللـه ، ووضعوه على سريره ، وصلَّى عليه الإمام الحسن (ع) ، وحُمل في جوف الليل من تلك الليلة إلى ظهر الكوفة فدفن بالنوبة عند قائم الغرَّيين حيث مرقده الشريف الآن .

وكانت الحكمة في كتمان موضع قبره الذي ظل سريّاً عن العامة حتى عهد الإمام الرضا (ع) ، اتَّقاء شرِّ الخوارج وبني أمية .

ثم قتل ابن ملجم وأحرق بالنار .

وطويت صفحة ناصعة من حياة الإمام (ع) بشهادته ، لتنشر على مدى الدهر صفحات مجده وعزه ، وفضائله ، وتابعيه على الهدى والإستقامة . فسلام اللـه عليه حين ولد في الكعبة ، وحين وقع صريعاً في محراب الكوفة ، وحين مضى شهيداً وشاهداً على الظالمين ، وحين أضحى راية العدالة وعلم الهدى ، ومنار التقوى . وسلام اللـه عليه حين يبعث حيّاً ، ليجعله اللـه ميزاناً يفصل به بين عباده ، وقسيماً للجنة والنار .. وسلام على الصدِّيقين الذين اتَّبعوا خطاه ، وعلى شيعته الذين تحملوا في ولائه ما تعجز عنه الجبال الراسيات .

 

(1) المصدر : ج 2 ، ص 4 ، عن الطبري وابن الأثير .

(2) المصدر : ج 2 ، ص 11 .

(3) المصدر : ( ص 54 ) .

(4) المصدر : ( ص 38) .

(5) المصدر : ( ص 39) عن أبن أبي الحديد .

(6) المصدر : ( ص 25 ) .

(7) المصدر : ( ص 22 ) .

(8) المصدر : ( ص 42 ) .

(9) المصدر : ( ص 24 ) .

(10) المصدر : ( ص 31 ) .

(11) المصدر : ( ص 35 ) .

(12) المصدر : ( ص 37 ) .

(13) المصدر : ( ص 55 ) .

(14) المصدر : ( ص 91 ) .

(15) المصدر : ( ص 93 ) .

(16) العكم بالكسر : العدل والعكمان : العدلان .

(17) المصدر : ( ص 74 ) .

(18) المصدر : ( ص 84 ) .

(19) المصدر : ( ص 79 ) .

(20) المصدر : ( ص 90 ) .

(21) المصدر : ( ص 86 ) نقلا عن المسعودي .

(22) المصدر .

(23) المصدر : ( ص 86 ) .

(24) المصدر : ( ص 88 ) .

(25) المصدر : ( ص 153 ) .

(26) المصدر : ( ص 157 ) .

(27) المصدر : ( ص 159 ) .

(28) المصدر : ( ص 168 ) .

(29) المصدر : ( ص 170 ) .

(30) المصدر .

(31) المصدر : ( ص 173 ) .

(32) المصدر : ( ص 192 - 193 ) .

(33) المصدر : ( ص 194 ) .

(34) المصدر : ( ص 195 ) .

(35) سيرة الأئمة الأثنى عشر : ( ص 490 ) .

(36) المصدر : ( ص 491 ) .

(37) المصدر : ( ص 492 ) .

(38) المصدر : ( ص 499 ) .

(39) المصدر : ( ص 505 ) .

(40) المصدر : ( ص 501 ) .

(41) في المصدر ( والمبينا ) والظاهر ما ذكرناه انظر : ( 502 ) .

(42) في رحاب أئمة أهل البيت : ( ص 255 ، ج 2 ) .

(43) المصدر .

(44) المصدر .