فهرس الكتاب

 

 

 

 

الفصل الخامس: فضائلــه ومناقبــه

وكأشعَّة الشمس ملأت فضائل الإمام (ع) الآفاق ، وأعطتنا ضياءً ودفئاً روحيّاً . ولقد تنافس كبار علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم في سرد فضائله ، حتى ليكاد السذَّج من القراء يقولون : فعلي - اذاً - أفضل الناس جميعاً جاهلين بأنه آيةُ صدقٍ لرسالة محمد (ص) ومرآة صافية تتجلى فيها صورة مربيه وسيده محمد (ص) حتى قال سلام اللـه عليه :

“ أنا عبد من عبيد محمد (ص) “ .

بلى ، إن إصرار أصحاب الرسول (ص) وأولي البصائر من التابعين والصدِّيقين من المسلمين على نشــــر فضائل الإمام (ع) كان تحدياً لخط الضلال الذي تسلط على المسلمين ، واجتهد لمحو معالم الحق .. وهكذا خرجت فضائله عن إطار الإحصاء .

بيد أن علينا أَلاَّ ننظر إلى فضائله بصورة منفصلة عن بعضها .. أرأيت كيف لو مزقت زهرة وبدأت تنظر إلى كل ورقة فيها وحدها ؟.

إنَّنا حين نتحدث عن الزهد يخيَّل إلينا انطواء المرتاضين ورهبنة الهاربين عن الحياة ..

وإذا تحدثنا عن العلم قفزت إلى أذهاننا صورة أولئك المنكبين على أوراقهم في المكتبات ، أو على أدواتهم في المختبرات ، دون ان يتحملوا المسؤولية أو يخوضوا صراعاً .

وإذا ذكرنا الجود تذكرنا الملوك حين يوزعون الهدايا على الملأ من قومهم ، ليستدرجوهم إلى مؤازرتهم وليضمنوا ولاءهم .

وإذا بيَّنا الشجاعة ، ارتسمت أمامنا صورة أبطال الحروب ، الذين دأبهم القتل ومهمتهم إراقة الدماء ، وهكذا ..

بيد أن عليّاً (ع) غير كل أولئك . لأنَّ صفاته تجليات لروحه الإيمانية ، كالنور الواحد ينعكس على الأشياء فيتجلى عليها ألواناً مختلفة ، وهكذا نور التوحيد في ضمير الإمام (ع) ينبعث في واقعه صفةً مُثلى وآيةً عُظمى للحق .

فحين يتجلى الرب سبحانه للقلب السليم فيثبِّته بالقول الثابت ، ويُفيض عليه من نور عزه ، يصبح صاحبــــه الجواد العدل ، والشجاع الحنــــون ، والعالم المســؤول ، والزاهـــــد المتصدي ، والبكَّاء في ظـلام الليل ، والقتَّال حين يرتفع النهار ..

ويقول قائلهــم :

جمعـــت فــي صفـــــاتـك الأضــدادُ * ولهـــذا عـــــــزت لـــــــك الأنـــدادُ

ونقول إنها الصفات الحسنى يتبع بعضها بعضاً .. إنها الحب والصدق والأمانة ، تجمعها معرفة اللـه ، وتنساب منها سائر فضائل الخير ..

لقد عاش لله سبحانه ، لأنه عرف اللـه وتنمَّر في ذات اللـه ، لأنه أوتي اليقين بعظمة ربِّه . أو لم يقل (ع) عن المؤمنين وهو أميرهم :

“ عَظُمَ الخالقُ في أنفسهم ، فَصَغُرَ ما دونَهُ في أعينهم “ .

واستهان بالموت لأنه أحب لقاء ربه ..

وعدل في الرعية لأنه تجاوز حواجز المادة إلى حقائق الجوهر ، فأسقط كل الميزات الظاهرية ، وتحدَّى الضغط الذي يدعو إليها .

وزهد في الدنيا ، لأنه أبصر حقيقتها فصامت نفسه عنها قبــــل أن تصوم جوارحه ، وطلَّقها ثلاثاً وقال لهــا :

“ يا دنيا يا دنيا !! إليك عنّي ، قد طلَّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها “ (1).

وأنهكته العبادة لأنه يلتقي هناك بحبيبه الكريم . فلم يزل ذاكراً ربه ، يعيش قلبه بمناجاته . وهكذا كانت سائر فضائله روافد من نبع الإيمان والمعرفة واليقين .

وها نحن نروي لك شيئاً قليلاً منها لعلنا نزداد معرفة بإمامنا سلام اللـه عليه ، ونزداد قرباً إلى ربنا بمعرفته .

فقد روى أبو الدرداء في جمع من أصحاب النبي قصته مع الإمام علي (ع) ، وكيف شاهد جانباً من عبادته الليلية :

عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال : كنا جلوساً في مجلس ، في مسجد رسول اللـه (ص) فتذاكرنا أعمال اهل بدر وبيعة الرضوان ، فقال أبو الدرداء : يا قوم أَلاَ أُخبركم بأقل القوم مالاً ، وأكثرهم ورعاً ، وأشدهم اجتهاداً في العبادة ؟. قالوا : مَن ؟ قال : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) . قال : فواللـه إن كان في جماعة أهل المجلس إِلاَّ مُعرض عنه بوجهه . ثم انتدَب له رجل من الأنصار فقال له : يا عويمر لقد تكلمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها ، فقال أبو الدرداء : يا قوم إني قائل ما رأيت وليقل كل قوم منكم ما رأوا شهدت علي بن أبي طالب (ع) بشويحطات النجار ، وقد اعتزل عن مواليه ، واختفى ممن يليه ، واستتر بمغيلات النخل ، فافتقدتُه وبَعُدَ عَلَيَّ مكانُه ، فقلت : لحق بمنزله . فـــإذا أنـــا بصوت حزين ونغمة شجىً وهو يقول :

“ إلهي كم من موبقة حلمتَ عن مقابلتها بنقمتك ، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك ! إلهي إن طال في عصيانك عمري ، وعظم في الصحف ذنبي ، فما أنا مؤمل غير غفرانك ، ولا أنا بِرَاجٍ غيــــر رضوانـك “ .

فشغلني الصوت واقتفيت الأثر ، فإذا هو علي بن أبي طالب (ع) بعينه ، فاستترت له واخملت الحركة ، فركع ركعات في جوف الليل الغابر ، ثم فرغ إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى ؛ فكان مما ناجى اللـه به أن قال :

“ إلهي أُفكِّر في عفوك فتهون عَلَيَّ خطيئتي ، ثم أَذكر العظيم من أخذِك فتعظم عَلَيَّ بليَّتي “ .

ثم قال : “ آه ، إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها ، فتقول : خذوه !. فيا له من مأخوذ لا تُنجيه عشيرته ، ولا تَنفعه قبيلته ؛ ولا يرحمه الملأ إذا أُذن فيه بالنداء “ .

ثم قال : “ آه من نار تنضج الأكباد والكلى ، آه من نار نزاعة للشوى ، آه من غمرة من ملهبات لظى ! “.

قال : ثم أنعم في البكاء ، فلم أسمع له حسّاً ولا حركة ، فقلت ، غلب عليه النوم لطول السهر ، أُوقظه لصلاة الفجر . قال أبو الدرداء : فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة ، فحرَّكته فلم يتحرك وزويته فلم ينزوِ ، فقلـــت : “ إنا لله وإنا إليه راجعون “ مات واللـه علي بن أبي طالب (ع) قال : فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم ، فقالت فاطمة (ع) : يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قصته ؟. فأخبرتها الخبر ، فقالت :

“ هي واللـه يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية اللـه “ .

ثــــم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ، ونظر إليَّ وأنا أبكي ، فقال : مما بكاؤك يا أبا الـدرداء ؟. فقلــــت : مما أراه تُنزله بنفسك . فقال :

“ يا أبا الدرداء فكيف ولو رأتني ودُعِيَ بي إلى الحساب ، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب ، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ ، فوقفت بين يدي الملك الجبار ، قد أسلمني الأحبّاء ، ورحمني أهل الدنيا ، لَكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية “ .

فقال أبو الدرداء : فواللـه ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول اللـه (ص) (2).

ولأن إمامنا (ع) كان أشد حبّاً لربِّه وأكثر أنساً به وشوقاً إليه ، كان يحب لقاء ربه ، ولا يبالي بالموت . فقد جاء في حديث أنه كان يطوف بين الصفين بصفّين في غلالة،(3) فقال الحسن (ع) : ما هذا زي الحرب ، فقال : يا بني إن أباك لا يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه .

وحينما علاه أشقى الآخرين بالسيف هتف عالياً : فُزْتُ وربِّ الكعبة .

وقد كان (ع) يتمنى الشهادة ، ويكرر هذه الكلمة باستمرار .

ما ينتظر أشقاها أن يخضبها من فوقه بدم !. لقد كان يعتبر الشهادة أسمى الطرق إلى اللـه ولقائه . فإذا وفق اللـه لها عبداً فتلك نعمة كبرى لابدّ أن يشكره عليها . يقول الإمام (ع) :

لما أنزل اللـه سبحانه قوله :

{ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } (العنكبوت/1-2) .

علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول اللـه (ص) بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول اللـه ما هذه الفتنة التي أخبرك اللـه تعالى بها ؟ . فقال :

“ يا علي ، إن أمتي سيفتنون من بعدي “ .

فقلت : يا رسول اللـه أوليس قد قلت لي يوم أحد حين استشهد مَن استشهد من المسلمين واخرت عني الشهادة فشق ذلك عليّ فقلت لي : “ أبشر فان الشهادة من ورائك ؟ “ .

فقال لي : “ إن ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذاً ؟ “.

فقلت : “ يا رسول اللـه ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر “ (4).

 

حُبُّ اللـه تعالى فــوق كل وشيجــة :

وكان حبه الشديد لربه سبحانه يجعله فوق كل وشيجة مادية ، وكل ضغط اجتماعي ، وكل مصلحة دنيوية زائلة .

فقد حدثنا (ع) بنفسه عن أسباب نصر اللـه للمسلمين . وجعل أعظمها التعالي عن علاقاتهم النسبية والتمسك بقيم الحق ، فقال :

“ فلقد كنا مع رسول اللـه (ص) وإنّ القتل ليدور على الآباء والأبناء والأخوان والقرابات ، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلاّ إيماناً ومضيّاً على الحق “ (5).

ويروي التاريخ أن الإمام علي (ع) رأى يوم بدر عقيلاً أخاه وكان في معسكر الأعداء يومئذ ، رآه مقيداً فصدَّ عنه ، وصاح به عقيل : يا علي ، أما واللـه لقد رأيت مكاني ، ولكن عمداً تصدُّ عني .

فأتـى علي (ع) إلى النبي (ص) وقال :

“ يا رسول اللـه هل لك في أبي يزيد ، مشدودة يده في عنقه بنسعه (6) فقال انطلق بنا إليه “ (7).

وهكذا كان موقفه من أخته أم هاني يوم فتح مكة حيث أوت رجالاً من قريش كما يروي التاريخ فلم يجرهم حتى أجارهم النبي (ص) (8).

ومن هنا كان الإمام (ع) يعيش أبداً فوق الضغوط وكان الناس يعرفون منه ذلك ، ولذلك تعاونت ضده أصحاب المصالح ، وقوى الضغط الإجتماعية ، كما تخبرنا عن ذلك زوجته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع) :

“ وما الذي نقموا من أبي الحسن ، نقموا منه واللـه نكير سيفه ، وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمُّره في ذات اللـه “ (9).

لقد عرفوا أنه لايبالي ، ولا يداهن فيما يرتبط بربه . وهكذا شهدت حوادث التاريخ . فحينما مد إليه عبد الرحمن ليبايعه علــــى كتاب اللـه وسنّة رسوله وسيرة الشيخين رفض الإستجابة إلاّ لكتاب اللـه وسنّة رسوله ، ولم يبال أن الخلافة بكل ما فيها من عظمة وجلال تزوى عنه .

بل إن نظراته إلى الحكم كانت أبداً من خلال ما يمكن أن ينفع دينه . فهو الذي قال مرة لابن عباس وقد استعجله لاستقبال الوفود وكان مشغولاً باصلاح نعله ، قال له : يابن عباس ، كم تسوى هذه النعل عندكم ؟ قال : درهماً أو بعض درهمٍ .

قال : “ لأمْرَتُكم هذه أزهدُ عندي منها ، إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أَدفع باطلاً “ .

أولم يرفض إبقاء معاوية على إمارة الشام مدة من الزمن يستقر فيها الأمر له ثم يعزله كما أشار عليه البعض ، لانه كان يرفض الغدر ؟.

وقد قال مرة :

“ وما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس “ (10).

ويروي التاريخ أن كل الملتحقين بمعاوية ممن كان مع الإمام علي (ع) هربوا من عدالته ، واستراحوا إلى محاباة معاوية ومداراته . وكذلك فقل والذين أثروا على عهد الخليفة الثالث ومثلهم ثراء فاحشاً على حساب المحرومين ، وخشوا من محاسبة الإمام علي لهم . الذين كانت بأيديهم ثروات المسلمين ، مـــن بيت المال ، وأرادوا الاستئثار بها . وكذلك الذين كانوا يتصورون المجتمع الإسلامي كالجاهلية يأكل القويُّ العزيزُ فيه الضعيفَ الذليلَ ، ولم يُعجبهم شعار الإمام (ع) :

“ الذليلُ عندي عزيز حتى آخذ الحق له ، والقويُّ عندي ضعيفٌ حتى آخذ الحق منه “ (11).

وكذلك هرب من عدله الذين كانوا يرتكبون جرائم يستحقون عليها الحد . والذين كانوا يبحثون عن جو التسامح في دين اللـه ، يسمح لهم ارتكاب بعض الجرائم كإقامة الحفلات الماجنة ومعاقرة الخمور .

كل أولئك كانوا يتسللون إلى معاوية ويشفق عليهم الإمام (ع) ، لأنهم يهربون من النور إلى الظلام ، ومن العدالة الشاملة إلى مجتمع الظلم الزائل .

ولكنه لم يغير سياسته من أجل استمالتهم . والتاريخ يحفل بمئات الحوادث التي تروي لنا قصة ذلك الركن الشديد ، الذي تتراجع عنه عواصف الضغط الإجتماعية ، قصة ذلك الصلد الأصم الذي تتكسر عنده كل أمواج الإغراء والإرهاب .. فليجتمعوا حول معاوية ، ثم يزيد ثم من يأتي من سلاطين بني أمية ، وليرفعوا عقيرتهم ألف شهر ، بسب عليٍّ وذريته عليهم السلام ، ويتفاخرون بقتل أولاده وشيعته .. وليفعلوا ما شاؤوا أن يفعلوا .. فالحق أغلى .. واللـه أكبر ، وأمير المؤمنين (ع) يصبر محتسباً ثواب ربِّه عزَّ وجلَّ .

ولقد قال مرة : “ كنت أحسب الأمراء يظلمون الناس ، فإذا الناس يظلمون الأمراء “ (12).

أجل ، إن انعدام الوعي عند الناس وكثرة القوى المصلحية كانت وراء ظلمهم لأمير المؤمنين (ع) .

فقد كان يريد إقامة مجتمع القانون ، والناس يرغبون في الفوضى والمحاباة ، وأن ينفَّذ القانونُ أبداً على غيرهم . أما هم فالأفضل أن تمشي لهم الوساطات .

لقد أخذ الإمام علي (ع) رجلاً من بني أسد في حدٍّ ، فاجتمع قومه ليكلِّموا فيه ، وطلبوا إلى الحسن (ع) أن يصحبهم ، فقال : ائتوه فهو أعلى بكم عيناً ، فدخلوا عليه وسألوه ، فقال : لا تسألوني شيئاً أَملكه إلاّ أُعطيتم ، فخرجوا يرون أنهم قد نجحوا ؛ فسألهم الحسن (ع) فقالوا : أتينا خير مأتِيً ، وحكوا له قوله ، فقال : ما كنتم فاعلين إذا جلد صاحبكم فافعلوه .. فأخرجه علي (ع) فحدَّه ، ثم قال: “ هذا واللـه لستُ أَملكه “ (13).

وقد بيَّن فلسفة ذلك في قصة أخرى حيث بلغ معاوية أن شاعراً من أصحاب الإمام (ع) كان اسمه النجاشي قد هجاه . ولعل معاوية كان يعرف أنه يشرب الخمر ، فدسَّ قوماً شهدوا عليه عند الإمام أنه شرب الخمر ، فأخذه وحدّه .

فغضب جماعة على الإمام (ع) في ذلك - وكان بينهم طارق بن عبد اللـه الفهدي - فقال : يا أمير المؤمنين مالنا نرى أن أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العقل ومعادن الفضل سِيَّانِ في الـجـــزاء ، حتى ما كان من صنيعك بأخي الحارث - يعني النجاشي - فأوغرت صدورنا ، وشتت أمورنـــا ، وحملتنا على الجادة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار ( أي اتِّباع معاوية ) .

فقال علي (ع) : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } (البقرة/45) .

يا أخا بني فهد !. هل هو إلاّ رجل من المسلمين انتهك حُرمة من حُرم اللـه ، فأقمنا عليه حدها زكاة له وتطهيراً ؟.

يا أخا ابن فهد ، إنه من أتى حدّاً فأليم(14) كان كفارته .

يا أخا ابن فهد ، إن اللـه عزَّ وجلَّ يقول في كتابه العظيم :

{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى اَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (المائدة/8) (15).

لقد كانت نظرة الإمام (ع) إلى العدل والمساواة مستوحاة من لب الوحي وروح الرسالة ، وقد انعكست على مواقفه ، وفي تأديبه لِوُلاته ، فهنا يوصي عامله على مصر مالك الأشتر فيقول له :

“ أَنصف اللـه ، وأَنصف الناس من نفسك ، ومن خاصة أهلك ، ومن لك فيه هوى من رعيتك . فإنك إِلاَّ تفعل تَظلم ، ومن ظلم عباد اللـه كان اللـه خصمه دون عباده ، ومن خاصمه اللـه أَرخص حُجته ، وكان لله حرباً حتى يفزع ويتوب . وليس بشيء أدعى إلى تغيير نعمة اللـه ، وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلم ، فإن اللـه سميع دعوة المضطهدين ، وهو للظالمين بالمرصاد “ .

ثم يحذره من محاباة الخاصة ( وهم الأشراف وأولوا الوجاهات والوساطات ) فيقول :

“ وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق ، وأعمّها في العدل ، وأجمعها لرضا الرعية ، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة ، وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضى العامة “ (16).

 

مكرمات الإمام (ع) على لسان النبيِّ (ص) :

عشرات المجلدات لاتكفي وصف حياة الإمام (ع) الذي تجلَّى الوحي في حياته ، وكان آية صدقٍ لرسالات اللـه ، وشاهد حقٍّ لنبوَّة خاتم المرسلين محمد (ص) .

وإذا كان هذا الكتاب لايسع من فيض مكرماته سوى قطرات ، فإن تلك القطرات تكفينا ، لأنها بالنسبة إلينا رافد عظيم .

ولعل البعض تصيبه الدهشة إذا سمع فضائل الإمام (ع) على لسان النبي (ص) لأنه لم يستوعب حكمة الخلق ، ولا يفكر في إطار البصائر القرآنية .

أما إذا نظر إلى السموات والأرض وما فيها بصفتها مخلوقات لله ، وعلم أن اللـه سخرها للإنسان ، وفضَّل البشر على كثير مما خلق تفضيلاً ، وأنه إنما أكرم أبناء آدم لعبادتهم له ، وأن أكرمهم عنده أتقاهم ، استوعب آنئذ ما يذكر من كرامات أولياء اللـه .

أما إذا نظر إلى الانسان نظرة مادية ، فإنه لايمكنه أن يصدق بشيء ، حتى بالوحي الذي يعتبر عنوان كرامة اللـه للانسان ، ورمز تفضيله على سائر خلقه ، ومفتاح تسخير الأشياء له .

وها نحن نستعرض معاً بعض مكرمات الإمام (ع) على لسان النبيِّ (ص) ونتذكر أن الصعاب التي مرَّ بها في حياته كانت معراجاً إلى ربه سبحانه ، ووسيلةً وزلفى إلى رضوانه .

 

(1) قصار الحكم للإمام / نهج البلاغة .

(2) موسوعة بحار الأنوار : ( ج 41 ، ص 13 ) .

(3) الغلالة : ثوب رقيق يلبس تحت الثوب أو تحت الدرع .

(4) المصدر : ( ص 7 ) .

(5) نهج البلاغة الخطبة ( 122 ) .

(6) وهي عريض طويل يشد به الرحال .

(7) المصدر : ( ج 41 ، ص 10 ) .

(8) المصدر .

(9) سيرة الأئمة : ( ج 1 ، ص 124 ) .

(10) الخطبة ( 200 ) من نهج البلاغة .

(11) نهج البلاغة الخطبة ( 37 ) .

(12) المصدر .

(13) المصدر .

(14) أي ارتكب ما يوجب عليه الحد فلامه الناس أو آلمه إقامة الحد عليه .

(15) المصدر : ( ج 41 ، ص 10 ) .

(16) نهج البلاغة ( المعجم المفهرس ) : ص ( 98 ) .