اللمعة البيضاء

التبريزي الأنصاري


[ 1 ]

اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء (عليها السلام) تأليف المولى محمد علي بن أحمد القراچه داغي التبريزي الأنصاري توفي 1310 ه‍. ق تحقيق دار فاطمة عليها السلام للتحقيق - السيد هاشم الميلاني


[ 2 ]

بمساعدة معاونية شئون التعليم والارشاد الاسلامي اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء التأليف: المولى محمد علي بن أحمد القراچه داغي التبريزي الأنصاري التحقيق: السيد هاشم الميلاني الناشر: دفتر نشر الهادي مطبعة: مؤسسة الهادي طبعة الاولى 1000 نسخة 21 رمضان 1418 ه‍ ق شابك ISBN 469 - 004 - 710 - X ايران - قم، شارع صفائيه، پلاك 759، تليفون 737001


[ 3 ]

بسم الله الرحمن الرحيم


[ 5 ]

لمحة عن حياة المؤلف إسمه ونسبه: هو المولى محمد علي بن أحمد الاونساري القراچة داغي التبريزي الأنصاري (1)، فقيه متبحر، وعالم بارع، وله مقام منيع ويد طولى في شتى العلوم الدينية، والأونسار - بالواو والنون والسين - من قرى قراچة داغ في تبريز. حياته العلمية: خرج المولف (رحمه الله) إلى العراق، وأخذ في النجف عن الشيخ مرتضى الأنصاري أصولا، وعن الشيخ مهدي الجعفري فقها ويروي عنه بالإجازة (2). ثم رجع إلى إيران وذهب إلى زيارة مولانا علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بعد سنة 1300 ه‍ ق، فطلب منه الميرزا عبد الوهاب آصف الدولة حاكم خراسان البقاء هناك لترويج الشريعة ونظم أمور الامة، فلبى المترجم له ذلك الطلب وقطن بها زمانا.


(1) وجدنا هذا اللقب في مقدمة كتاب اللمعة البيضاء حيث قال المؤلف (رحمه الله): (فيقول المحتاج إلى لطف ربه الباري ابن أحمد محمد علي الحافظ الأنصاري) ووجدناه أيضا في بعض المعاجم، لكن اعتقد صاحب مفاخر آذربايجان ان هذا اللقب تصحيف (الاونساري)، والله العالم. (2) أعيان الشيعة 10: 5، معجم المؤلفين 11: 35، مفاخر آذربايجان 1: 176. (*)

[ 6 ]

ثم هبط طهران وتصدر للتدريس في مدرسة سپهسالار مدة، تلمذ عليه خلالها كثيرون، ثم طلبه أهل تبريز فرجع إليهم وظل قائما بالوظائف الشرعية من تدريس وإمامة ووعظ وتأليف. ومن تلاميذه في تبريز العلامة السيد ميرزا باقر القاضي الطباطبائي، كما ذكره ولده السيد محمد علي (الطباطبائي) في كتابه حديقة الصالحين (1). أقوال أصحاب التراجم في حقه: قال في نقباء البشر: هو الشيخ محمد علي بن أحمد الأونساري القراچه داغي التبريزي فقيه متبحر، وعالم بارع (2). وقال محمد حسن خان إعتماد السلطنة في المآثر والآثار: الحاج ميرزا محمد على القراچه داغي من أجلة المجتهدين ومروجي الشريعة والدين، له مقام منيع ورتبة رفيعة في الفقه، والاصول، والأخبار، والعلوم العربية، والفنون الأدبية، وله تصانيف فيها غالبا (3). وقال صاحب معجم المؤلفين: آية الله الشيخ محمد علي القراجه داغي فقيه، أصولي، متكلم، مفسر، عروضي، عارف باللغة العربية (4). وقال صاحب ريحانة الأدب: من علماء آذربايجان، وله باع في الفقه، والأصول، والحديث، والرجال، والعلوم العربية، والفنون الأدبية، وتأليفاته خير دليل على مرتبته العلمية (5). وقال السيد محمد مهدي الإصفهاني الكاظمي في أحسن الوديعة (تتميم روضات الجنات): كان (رحمه الله) عالما، فاضلا، ثقة، عارفا، عابدا، زاهدا،


(1) نقباء البشر 4: 1341 رقم 1870، المآثر والآثار: 175، العلماء المعاصرين للخياباني: 343. (2) نقباء البشر 4: 1341 رقم 1870. (3) المآثر والآثار: 175، العلماء المعاصرين: 343. (4) معجم المؤلفين 11: 35، مفاخر آذربايجان 1: 176. (5) ريحانة الأدب 3: 438، مفاخر آذربايجان 1: 177. (*)

[ 7 ]

رئيسا مشارا إليه، نافذ الكلمة، وكان للعلوم جامعا، وفي فنونها بارعا، وكانت له اليد الطولى في معرفة الأدب، والباع الممتد في حفظ لغات العرب، وكان عارفا بالتفسير والحديث والرجال، وبالجملة كان أحد الأئمة الأعلام المجتهدين، وركن العلماء العاملين، بل إمام دهره بلا مدافعة، وفقيه عصره بلا منازعة، اشتهر اسمه السامي فملأ الأقطار والأصقاع، وشاع ذكره في جميع الديار والبقاع، رحلت الطلبة من قرى تبريز إليه وحضروا عليه (1). أولاده وذراريه: خلف المؤلف (رحمه الله) ولدين فاضلين هما الميرزا أحمد، والميرزا محمود (2). قال الملا علي الواعظ الخياباني التبريزي في العلماء المعاصرين: كان [ الميرزا أحمد ] من أعاظم علماء عصره، وأفاخم مجتهدي وقته، جامع المآثر الفاضلة، وصاحب المفاخر العالية، وكان له حظ كامل في المعقول والمنقول، واطلاع واسع في الحديث والتفسير والفنون الأدبية، وقل نظيره في قوة العقل، وسعة الخلق، وصفاء النظر، ولطف القريحة. وكان له في تبريز مدة طويلة منصب القضاء والمحاكمة والأمور الشرعية، ولم يعترض عليه ولم يرده في أمر أحد من العلماء المعاصرين، ولي إجازة منه ذكرتها في كتاب وقايع الأيام (3). آثاره وتأليفاته: للمؤلف (رحمه الله) آثار وتأليفات كثيرة تكشف عن مدى تسلطه واطلاعه بالنسبة إلى العلوم المختلفة، وقل علم من العلوم لم يألف فيه كتابا، فانه كتب كتبا


(1) أحسن الوديعة 2: 72، مفاخر آذربايجان 1: 175. (2) نقباء البشر 4: 1341 رقم 1870. (3) العلماء المعاصرين: 345. (*)

[ 8 ]

ورسائل وشروحا في الفقه، والأصول، والمنطق، والتفسير، والحديث، واصول الدين، وغيرها، فنحن نذكر ما عثرنا عليه في كتب التراجم: 1 - اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء (عليها السلام): ولقد فرغ منه في سنة (1286) ه‍ ق، وطبع بايران عام (1297) ه‍ ق، وهو هذا الكتاب الذي بين يديك، كتاب فريد في نوعه يعرب عن سعة اطلاع المؤلف باللغة العربية والفنون الأدبية، وهو كتاب جامع لكثير من فضائلها (عليها السلام) معتمدا على المصادر الخاصة والعامة، وقد شرح الخطبة الشريفة شرحا لغويا، ثم أورد بعده بحثا مفصلا حول غصب فدك، ورد فيه شبه وشكوك المبطلين. قال صاحب الذريعة: وصدر الكتاب بشطر واف من مناقبها وفضائلها وأحوالها وما يتعلق بها من ذكر أدعيتها وأحرازها وعدد أولادها (1). وقال هو (رحمه الله) في مقدمة الكتاب: اعلم ان هذه الخطبة الغراء، والدرة البيضاء، خطبة في نهاية الفصاحة، وغاية البلاغة من حيث عذوبة ألفاظها الكافية، ومضامينها الشافية، وجزالة معانيها الوافية، مع ما عليها من البهاء والجلالة، والرواء والديباجة، بحيث لو خوطب بها الجبال الشامخة لرأيتها خاشعة متصدعة، وإن لم تؤثر في تلك القلوب القاسية التي كانت كالحجارة أو أشد قسوة، وهي كلام دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق....، ونسبتها إلى سائر الكلمات الفصيحة نسبة الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الأرضية، وعليها مسحة من نور النبوة، وعبقة من أرج الرسالة، وحق لها أن تكون بهذه المثابة فإن متاع البيت يشبه صاحبه، والأثر يشبه مؤثره، فإنها صادرة من بضعة الرسول، سلالة النبوة، وعصارة الفتوة، الصديقة الكبرى، والإنسية الحوراء، مشكاة الضياء، ام الأئمة النقباء النجباء، سيدة النساء فاطمة الزهراء صلوات الله عليها. 2 - تفسير القراچه داغي (2).


(1) الذريعة 18: 350. (2) الذريعة 4: 301. (*)

[ 9 ]

3 - تفسير سورة (يس): قال صاحب الذريعة: رأيته ضمن مجموعة في مكتبة السيد عبد الحسين الحجة بكر بلاء، ذكر في أوله انه كان مولعا بعلم التفسير، وعزم على تصنيف كتاب في التفسير، فبدأ بتفسير سورة (يس) لأنها كانت قلب القرآن، وجعله في جزء مستقل، وعزم على انه إن سهل الله له تأليف التفسير أن يجعله من أجزائه (1). 4 - شرح صيغ العقود: فارسي مع بيان وتحقيق، فرغ منه في ثامن ذي القعدة 1288، وهو مطبوع متداول مع متنه الفارسي (2). 5 - الصراط المستقيم في شرح الأربعين حديثا في فضائل أمير المؤمنين، (عليه السلام) طبع عام (1300) وهو شرح فارسي (3). 6 - رسالة في العروض والقافية، قال صاحب الذريعة: فارسية رأيتها في مكتبة الخوانساري (4). 7 - الفتوحات الرضوية في الأحكام الفقهية الإستدلالية (5). 8 - فضائل قم. 9 - رسالة في فضل المساجد مطلقا وخصوص مسجد إستاد شاگرد في تبريز. 10 - رسالة في الطينة وشرح أخبارها: قال صاحب الذريعة: أولها (الحمد الله على آلائه ونواله، والشكر على نعمه وإفضاله) رأيت نسخة كتابتها 2 شعبان 1287 في مجموعة وفيها تفسير سورة يس أيضا (6). 11 - التحفة المحمدية في علم العربية، تقرب من ثمانين ألف بيت (7).


(1) الذريعة 4: 344، أحسن الوديعة 2: 73. (2) الذريعة 13: 363، أحسن الوديعة 2: 73. (3) الذريعة 15: 36. (4) الذريعة 15: 259. (5) الذريعة 16: 116. (6) الذريعة 15: 197. (7) الذريعة 3: 467. (*)

[ 10 ]

12 - حاشية على شرح اللمعة (1). 13 - حاشية على القوانين (2). 14 - حواشي على الرسائل للشيخ الأنصاري (رحمه الله) (3). 15 - حواشي على الرياض للسيد علي الطباطبائي (4). 16 - حواشي على الفصول في علم الأصول (5). 17 - رسالة في أسرار الحج (6). 18 - رسالة في الأمر بين الأمرين (7). 19 - رسالة في مناسك الحج (8). 20 - الرسالة التمرينية في المنطق. 21 - الأصول المهمة في أصول الدين. 22 - زين المعابد (9). 23 - كتاب الأربعين المشتمل على المدائح والنصائح. شعره وأدبه: كان المؤلف (رحمه الله) متسلطا على اللغة العربية والفنون الأدبية، وله قصيدة طويلة لطيفة حينما هاجر النجف الأشرف قاصدا الروضة الرضوية، ذكرت في آخر كتاب اللمعة البيضاء، نوردها هنا تتميما للفائدة، قال (رحمه الله): يا نجفا هجرت عنه بالجفا * خرجت منك مكرها لا بالرضا يا حبذا أيامنا التي مضت * فيك وهل يرجع يوم قد مضى سموت يا خير البقاع مسكنا * من الثرى إلى السماوات العلى يغبطك السبع الشداد دائما * لأن فيك الحق بالعرش استوى أتى إليك المجد طرا إذ أتى * إليك من أتى عليه هل أتى


(1 و 2) أعيان الشيعة 10: 5، العلماء المعاصرين: 344. (3 - 8) العلماء المعاصرين: 344، مفاخر آذربايجان 1: 175. (9) نقباء البشر 4: 1341. (*)

[ 11 ]

شرفت بالكنز الذي قد خلق * الخلق لكي يعرف بعدما اختفى فيك انجلى نور الإله زاهرا * طوبى فطوبى لك يا وادي طوى يا أيها الوادي المقدس الذي * أتاك موسى راجيا منك الهدى ثم انثنى في يده البيضا عصا * كأنه الثعبان حيثما رمى يا أيها الفلك الذي لجا إلى * سكان بابك المنيع والتجى نوح النبي إذا ارتمى الماء حوله * لما طما (1) حذار طوفان البلا فيك انزوى يا كهف كل عاجز * ضيغم آجام القضاء والمضا لا يرتقى العقل إليك حيثما * أنت من العقول أعلى مرتقى يا منبع الجود لكل مجتد * يا معدن الخير لكل مهتدى منك بدئنا واليك ننتهي * يا خير كل مبدء ومنتهى إن ذكر الخير ففيك كله * يا مبدأ الفيض لكل ما سوى سأركب البيد وأطوي متنها * بيعمل يعمل سيرا وسرى إلى جنابك الذي علا إلى * ذروة عرش الله مجدا وعلى ما عاقني اليوم سوى قصدي إلى * تربة مولاي معين الضعفا علي الرضا الذي استشهد في * طوس بسم منقع على الحشا وجهت وجهي لكم يا وجهة * الحق ويا قبلة أرباب النهى أوجه الوجه إليكم أبدا * فالحق منكم وإليكم انتهى لقد برى شوقي إليك أعظمي * يا طوس يا مشهد مولاي الرضا وكلما أومض برق ومضى * مضى بقلبي المبتلى إذ ومضا نحو سنابد إذا ما قد سنى * شعلة نار منه في جو الفضا ذاب فؤادي من جوى شوقك إذ * إشتعلت منه به نار الغضا لقد حويت جوهر المجد وقد * فقت على جملة أطباق السما وإن حرمت زمنا يا أملي * من أملي فيك بتقبيل الذرى


(1) طما الماء يطمو: إرتفع وعلا وملأ النهر / لسان العرب. (*)

[ 12 ]

فجار لي صرف زمان قلب * جرى على خلاف قصدي واعتدى فقادني مكبلا بما بدت * من الخطوب الحادثات في النوى بقيت في أسوء حال ولقد * جرى علي ما جرى من العدى لكنني أخال اني لم يفت * مني ما أدركه ذووا التقى لحسرة بات بقلبي نارها * ولوعة تسعر في نفسي اللظى يا رب حسرة حوت ما لم يحط * به العقول من فيوضات الهدى لابد يا مولاي من تفضل * حتى أجوب جوز تيار الفلا به إلى فنائكم فإنني * معتقل بقيد خطب عرضا فليس في نفسي إليكم أبدا * من فترة في السير توجب الونى لعلني أسعى بنور فيضكم * إليكم أيا ينابيع الندى فإن ربي لا يضيع سعي من * سعى إليه دائبا طول المدى وقد أتى على لسان جدكم * أن ليس للإنسان إلا ما سعى دارت بكم دوائر الإمكان يا * مراكز المجد وأقطاب العلى أنتم عتادي في معادي حيثما * إليكم الأياب في يوم الجزا كذا إليكم استنادي أينما * عشت فلا ابالي نأي من نأى يا خير عدة لشر كربة * أعددته لكل خطب قد دهى يا سبط ختم الرسل يا نتيجة * الأطهار يا قرة عين المرتضى عليك أزكى الصلوات كلما كر الجديدان ظلاما وضيا وقال (رحمه الله) أيضا: لقد بات ليلي ساهرا فيه مقلتي * إلى الصبح من طوفان أمواج عبرتي تلهب وجدي وارتمى موجها به * فوا غرقي إن لم تكن فيه حرقتي فيصعد نار القلب كالبرق لامعا * ويرعد صدري من شهيق وزفرة فتقطر من عيني الدموع كهاطل * من السحب في أقطار تلك البسيطة فجسمي غريق في الدموع وانه * حريق بنار تلتظي حول مهجتي


[ 13 ]

فواعجبا من حال نفسي فإنني * غريق حريق كل آن ولحظة يذوب فؤادي من جوى الحب والهوى * ويذرف دمعي قطرة بعد قطرة أذاب سويدا مهجتي فتحولت * دموعا ترى اسكوبها فوق وجنتي إذا ما تجلى وانجلى ضوء وجهه * تحول يومي مظلما مثل ليلتي وبالي في البلبال بال وانني * قتيل بسيف الحب في كل حالة فطوبى لحالي حيثما هدني الهوى * وأهوى ببالي ذرة بعد ذرة فوا أسفا إن لم أكن منه في الجوى * ووا حسرتا إن لم يكن فيه حسرتي أرى وجهه من كل شئ كأنما * تمثل لي محياه في كل صورة أراه بعيني كل حين ولا أرى * سوى وجهه في كل مطمح رؤيتي أرى كل ما في الكون مرآة وجهه * فلم أر شيئا غيره في الخليقة نسيت هواه في الهوى حيث انه * حجاب عظيم عند أهل المحبة ولابد من رفع الحواجب كلها * ليبصر مرآه بعين البصيرة وقد عميت عين ترى غيره ولا * ترى وجهه الوضاح في كل وجهة أراه بعين الحب في كل مشهد * عيانا فيا طوبى لعين الأحبة تعالى عن التشبيه والوصف جل من * براه فأبدى فضله للبرية علي بن موسى فائض الجود والندى * على كل موجود بفاضل طينة سرى فيضه الجاري إلى جملة الورى * ولم يخل منه ذرة تحت درة أحاط بما في الكون حيطة مالك * له بسطة في ملكه كل بسطة يدور رحى الأكوان من فيض كونه * وحاشاه عن إمكان شوب النقيصة وليس قضاء غير ما قد قضى به * قضاء فيا طوبى لتلك الفضيلة يطيع له الأقدار في كل ما يشاء * إذا شاء إمضاء لحكم المشية ترى جملة الأكوان طوع يمينه * يدبر فيها الأمر في كل لمحة ولو شاء طي العرش والفرش والثرى * طواها كطي السجل في لمح طرفة ولو قال للأشياء كوني تكونت * ولو قال لا عادت كما هي كانت تجلى به النور القديم وانه * لنور قديم حادث بالإرادة


[ 14 ]

وليس سواه في الوجود ولو ترى * وجودا سواه لا بعين الحقيقة هو الدرة البيضاء والجوهر الذي * تجوهر منه نور كل خليقة ألا كل شئ الك غير وجهه * تراه بعين الحق في كل طرفة هو الملأ الأعلى تعالى جلاله * عن الوهم أو إدراكه بالمظنة يصور في الأرحام ما شاء خلقه * فيحدثه فيها بمحض المشية إليه إياب الخلق ثم حسابهم * فيصدر فيهم حكم كل قضية على طبق ما شاء الإله فإنه * يد الله في إجراء كل حكومة يجل عن الإمكان كنه جلاله * ويكبر عن تشبيهه بالصنيعة صنيعة باري الخلق والخلق صنعه * فيا خير مصنوع ويا خير صنعة له المثل الأعلى له المجد والعلى * فيا شرفا أوفى لكل مزية تطائر أملاك السماء بأمره * لإنفاذ أمر الله في كل بقعة هو الجوهر القدسي يلمع نوره * كمشكاة زيت نير في الزجاجة يكاد ولو لم يمسس النار فتلها * يضئ سناها مثل نجم الدجية بدا نوره من كل شئ فلا ترى * سوى نوره في كل كور ودورة إذا نظرت عين إلى غير نوره * رأته كآل أو سراب بقيعة وقد ملأ الأكوان آثار فيضه * وفاضت عليها دفعة بعد دفعة وليس جميع الكون من سحب جوده * سوى قطرة أو ديمة بل كرشحة ولو جاد بالأضعاف منه لما طرى * له النقص حتى مثل مثقال ذرة إليه انتهاء الكون مثل ابتدائه * فيا خير بدء مثل خير نهاية إمام هدى تسري بنور ولائه * البرية في بيداء غي الضلالة سفينة نوح قد نجا كل من أتى * إليها فيا طوبى لأهل السفينة إمام بأرض الطوس مثواه انه * شهيد بها في دار ذل وغربة أيا قبر طوس كيف بالله حاله * بأرضك هذا اليوم ما دار كربة وأحشاؤه مسمومة يلتوي بها * على كبد حراء قد نضيجة ويرعم فوق الترب أطراف بطنه * فيا خير بطن مسه خير تربة


[ 15 ]

يضج ويشكو من جوى كان في الحشا * محيطا به أنواع ذل ومحنة فواعجبا من صانع قد أباده * صنيع له يا سوء تلك الصنيعة تطاول للمولى الرعية واعتلى * عليه بما أتاه من سوء فطرة رماه بسهم قد براه بصنعه * فأهدف باريه لقبح السريرة وما ذاك إلا أن للحق دولة * يدال إليها كل باطل دولة كما قد قضى بالظلم والجور قبله * حسين شهيدا في هوان وذلة تجول عليه الصافنات فياله * مصابا عظيما فاق كل مصيبة وتلقي عليه السافيات رداءة * لها من رمال الطف طاقات لحمة وقد كان مسلوب العمامة والرداء * طريحا بأرض الطف في سوء صرعة مقطعة الأوداج مذبوحة القفا * مجرحة الأعضاء تحت الأسنة تنوح عليه الطير والوحش في الفلا * وتبكي عليه سكانات البرية وتذري عيون الأنجم الزهر دمعها * على جسمه في كل يوم وليلة تجود عليه وهي تنظر حاله * صباح مساء من سواكب عبرة تقاطر نحو الأرض من كل جانب * بدمع يضاهي الوبل حال إنصبابة ترى أهله يقتادهم كل مشرك * اسارى سبايا مثل روم ونوبة فيا لهف نفسي للحسين وقد غدا * صريعا على وجه الثرى نحو رمية أحاط به الأخلاط من كل جانب * تقوم إليه زمرة بعد زمرة يريدونه بالقتل وهو مجدل * ينادي ألا يا قوم هل من حمية لقد وقعت في الدين من أمر قتله * بأيدي عداه ثلمة بعد ثلمة مصاب جليل هدم العرش والثرى * وخطب عظيم فوق كل عظيمة بكته جلاميد الصخور وما بكت * قلوب أعاديه لشدة قسوة وإني لأبكي حسرة بعد حسرة * وأذري دموعي قطرة بعد قطرة لأجل مصاب صب آل محمد * خصوصا حسينا دفعة بعد دفعة وما أنس لا أنس الحسين وقد غدا * وحيدا بأرض الطف طف بلية طريحا جديلا في العرى لا ترى له * أنيسا سوى رمي وطعن وضربة


[ 16 ]

ولم يبق فيها ناصر عنده سوى * حواسر يلطمن الوجوه بندبة يصحن وللأعداء حول خبائه * ضجيج يريدون الخيام لغادة بنات رسول الله يضرعن للعدى * ويدعون ويلا في ثبور وكربة كذلك حال الدهر يا ويل حاله * تراه بهذي الحال في كل حالة لقد حال من تصريفه حال مالك * يدبر فيه الأمر تدبير حكمة يصرفه طبق الإرادة ياله * مليكا عزيزا قادرا كل قدرة علي أمير المؤمنين الذي علا * على كل ذي علياء تحت المشية فلما أراد الله قرب لقائه * رماه شقي القوم من قوس قسوة بضربة سيف شق رأس العلى بها * فزلزل منها العرش زلزال رعشة وكيف وقد خرت معاقد عزه * فحلت عرى أركانه المشمخرة تزلزل عرش الحق لما تقطعت * قوائمه من سيف عاقر ناقة حسام سقاه السم من نسل ملجم * شقيق قدار في رضاعة شقوة فجدل مغشيا عليه وقد أتى * إليه رسول الموت في سوء حالة وخضب في المحراب بيضاء شيبه * بأحمر قان سائل فوق وجنة فصار عمود الدين منشقة العصا * وعاد صلاة الصبح في جوف ظلمة بكته طوير الدار قبل خروجه * صوائح تتلوها نوائح نسوة بل الدار والأبواب والحلق التي * انيطت عليها بل جميع الخليقة فقد ضجت الأكوان واسود جوها * كليلة ديجور بتلك الصبيحة تصايح أملاك السماء وأصبحت * صبيحتهم ظلماء مثل الدجية تنوح بأعلى الصوت في ملكوتها * وتدعو ثبورا في عويل وكربة وصاح أمين الوحي جبريل صيحة * تزلزلت الأكوان منها بجملة فصاحوا جميعا واعلياه والتوى * على الدهر هذا الصوت من كل وجهة فأقبل أهل البيت يبكون حوله * كهاطل غيم ممطر يوم ظلة فيادهر لا سقيا لربعك إنه * لمنزل سوء عند أهل البصيرة


[ 17 ]

ولا ضحكت سن الزمان فانه * بدا كاشرا عنها بشر وفتنة لآل رسول الله من بدء أمره * فتعسا له من دار ذل ومحنة عليهم سلام الحق مادام حقهم * عليه بما نالتهم من مصيبة وصلى عليهم كلما فاض جودهم * على كل موجود بقبض وبسطة وفاته: لقد قضى المؤلف (رحمه الله) عمره الشريف في نشر أحكام الدين، وترويج المذهب الحق، فألف وكتب ونشر ودرس كل ذلك لأجل إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، ونشر فضائلهم ومناقبهم، إلى أن أجاب داعي ربه في يوم الجمعة ثاني ربيع الثاني سنة (1310 ه‍ ق) (1)، ولم أعثر في كتب التراجم على مدفنه، والظاهر انه دفن في آذربايجان لأنه كان مقيما فيها في آخر عمره، والله العالم. منهج التحقيق: إعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب الشريف على نسخة حجرية طبعت في تبريز بتصحيح المؤلف (رحمه الله) وكتابة محمد هاشم في عام (1298). وحاولنا تخريج الأحاديث من مصادر الخاصة والعامة حسب الإمكان، وبذلنا الجهد في ضبط إعراب الخطبة الشريفة، وشرحنا بعض الكلمات المبهمة، ولا يفوتني في الختام أن أقدم شكري الجزيل لسماحة العلامة المحقق الاستاذ السيد محمد رضا الحسيني الجلالي حيث ساعدنا كثيرا في ضبط الكلمات المغلوطة أو غير المقروءة، فله سهم كبير وجهد مشكور في إنجاز هذا العمل، فتقبل الله منا ومنه ووفقنا جميعا لما يحب ويرضى. السيد هاشم الميلاني 1418 ه‍ ق صفر


(1) نقباء البشر 4: 1341 رقم 1870. (*)

[ 19 ]

الحمد لله الذي أقام أعلام الهدى، ونصب رايات التقى، ولم يترك عباده هملا وسدى، الذي فطرهم على معرفته، وألهمهم بعبادته، وندبهم الى طاعته، خلق الانسان علمه البيان، وأودع فيه سر العلم والعرفان، ونور الحكمة والايقان. الفرد البديع، الملك المنيع، ذو العرش الرفيع، والكرسي الوسيع، الذي خلق من كل شئ زوجين اثنين، وأدرج سر الوحدانية في البين، فمشج بين هذين (1)، ومزج الأمرين، ومرج البحرين مع برزخ بينهما لا يبغيان، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان. والصلاة والسلام على مظهر الايمان، وسيد الانس والجان، الذي نزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا، فجعله مشكاة علمه، وزجاجة هدايته، ومصباح رحمته. وهو أصل الاصول، وقطب الأقطاب، ومبدأ النزول، ومنتهى الأياب، اس الوجود، وفص خاتم الموجود، ساحب أذيال الكرم والجود، وصاحب لواء الحمد والمقام المحمود، ثم على آية قدرته، وباب علمه، ومفتاح حكمته، ام الكتاب، وباب الأبواب، وفصل الخطاب، وميزان الحساب، تمام الفيض والجود، وجهة العابد وجهة المعبود، ومفتاح الغيب ومصباح الشهود، على رغم العدو الكنود.


(1) المشج والمشج والمشج والمشيج: كل لونين اختلطا....، وقيل: هو كل شيئين مختلطين / لسان العرب. (*)

[ 20 ]

وعلى سائر خزنة الوحي وحفظته، وأمنة الذكر وتراجمته، والأئمة الدعاة الى جنته، والقادة الهداة الى رحمته، الأطياب الأنجاب الذين إليهم الاياب وعليهم الحساب، حبهم الايمان، ومعرفتهم الأمان، وموالاتهم الجنان، ومعاداتهم النيران، من والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم فقد عادى الله، ومن أحبهم فقد أحب الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله، صلى الله عليهم ما دام الفلك الدوار، والليل والنهار، والظلم والأنوار. وبعد: فيقول المحتاج الى لطف ربه الباري، ابن احمد محمد علي الحافظ الأنصاري، اوتي كتابه بيمناه، وجعل عقباه خيرا من اولاه: ان حضرة الجناب العالي الشأن، والنواب الوثيق الأركان، والحصن المنيع البنيان، زينة الزمان وحلية الدوران، وفجر النور إذا استبان، باسط العدل والاحسان، ماهد الأمن والأمان، حامي حوزة الاسلام، ودافع معرة الأيام، ملجأ الأنام، ومرجع الخواص والعوام، ذو القوة القاهرة، والهيبة الباهرة، قوام الدولة العلية العالية، ونظام الملة البهية الباهية، كعبة الأماني والآمال، كريم الأقوال والأعمال والأحوال، الفيض الجاري في عالم الطين، وسلالة طين السلاطين، وقد قلت فيه: مؤيد الملة البيضاء والدين * ذا ماء فيض جرى في عالم الطين مهذب طيب طابت ارومته * سلالة الطين من طين السلاطين المؤيد بالتأييدات الربانية، والمسدد بالتسديدات السبحانية، الجناب الأعظم المعلى، والنواب الأشرف الأعلى، مؤيد الدولة والملة، أدام الله تأييده وامداده، وأوصله بما أحبه وأراده، وختم له بالخير والسعادة، وأصلح معاشه ومعاده، رحم الله من قال آمين فان في ذلك صلاح الدنيا والدين. قد أمر داعيه بالاخلاص والارادة أن يكتب شرحا للخطبة الشريفة المنيفة، الصادرة من المصدر الأعلى تبارك وتعالى، أعني الدرة البيضاء، والانسية الحوراء، صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وزوجها وبنيها، في مقام التظلم


[ 21 ]

والشكاية عن الخلفاء، وغصبهم لفدك والعوالي عنها بعد وفاة أبيها، شرحا يوضح مغلقاتها، ويكشف معضلاتها، مبينا لمبهماتها، مفصلا لمجملاتها، موضحا لبعض ما يحتاج الى الايضاح من ألفاظها، ومبينا لبعض ما يقتضيه الحال من باطنها وتأويلها، بيانا مشتملا على نوع من التحقيق، وشرحا على طور التعمق والتدقيق بقدر ما يقتضيه المقام والحال، ويساعد عليه المجال. واني وإن لم أكن من فرسان هذا الميدان وأهل هذا الشأن، لتراكم أمواج الفتن والحدثان، حتى كنت مدة مديدة من الزمان نسج علي عناكب (1) النسيان، ولم يكن لي وجدان من جهة اختلال حال الزمان والاخوان، الا أن توجهه العالي رفع الموانع والأستار، ودفع عني واردات الهموم والأكدار. فقمت على ساق الامتثال مع ما علي من دواعي الأشغال والاشتغال، فأتيت على سبيل العجالة بما تيسر لي من تلك المقالة مع قلة البضاعة في هذه الحالة، وكثرة الاضاعة، وقلت: أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مزجاة، فألحظها بعين الرضا، وتلقها بيد القبول والارتضاء، فان الهدايا على قدر مهديها، وأسأل الله أن يعصمنا من الزلل والخطل (2) في القول والعمل. أقول وبالله التوفيق وهو الهادي الى سواء الطريق: اعلم ان هذه الخطبة الغراء، والدرة البيضاء، خطبة في نهاية الفصاحة وغاية البلاغة، من حيث عذوبة ألفاظها الكافية، وغرابة مضامينها الشافية، وجزالة معانيها الوافية مع ما عليها من البهاء والجلالة، والرواء والديباجة، بحيث لو خوطب بها الجبال الشامخة لرأيتها خاشعة متصدعة، وإن لم تؤثر في تلك القلوب القاسية التي كانت كالحجارة أو أشد قسوة. وهي كلام دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، وهي موضع المثل: (في كل


(1) عناكب: جمع العنكبوت / لسان العرب. (2) الخطل: خفة وسرعة، خطل خطلا فهو خطل وأخطل. والخاطل: الأحمق العجل / لسان العرب. (*)

[ 22 ]

شجرة نار، واستمجد المرخ والعفار (1)، ونسبتها الى سائر الكلمات الفصيحة نسبة الكواكب المنيرة الفلكية الى الحجارة المظلمة الأرضية، وعليها مسحة من نور النبوة، وعبقة من أرج الرسالة. وحق لها أن تكون بهذه المثابة، فان متاع البيت يشبه صاحبه، والأثر يشابه مؤثره، فانها صادرة من بضعة الرسول...، سلالة النبوة، وعصارة الفتوة، الصديقة الكبرى، والانسية الحوراء، مشكاة الضياء، ام الأئمة النقباء النجباء، سيدة النساء فاطمة الزهراء صلوات الله عليها. ولابد أولا من الاشارة الى بعض فضائلها، والتنبيه على نبذة يسيرة من مآثرها، حتى يتبين لأرباب البصر والبصيرة ان تلك الخطبة الشريفة من عين صافية غير كدرة، لا يشوبها شبهة عيب، ولا يعتريها وصمة ريب، هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب. [ بعض فضائل خديجة الكبرى ] فنقول: لا يخفى ان مصدر هذه الخطبة الغراء هي سيدة النساء، بضعة خير الأنبياء، وزوجة خاتم الأولياء، ومشكاة أنوار أئمة الهدى، البتول العذراء فاطمة الزهراء، وامها هي خديجة الكبرى التي هي أشرف أزواج النبي وأفضلها، وفضائلها مشهورة بين أهل الأرض والسماء. وكفى في فضلها انها سيدة النساء، كما ورد في الأخبار الكثيرة التي تأتي إليها الاشارة ان أربعة من النساء سيدة النساء، إحداهن خديجة وهي في مرتبة مريم وآسية، وزاد على كونها سيدة النساء كونها ام سيدة النساء في الدنيا والاخرة والاولى. ويدل على جلالة شأنها عند الله تعالى ما روي عن الصادق (عليه السلام) ان


(1) المرخ: شجر كثير الوري سريعه، وفي المثل: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار، أي دهنا بكثرة دلك. واستمجد: استفضل / لسان العرب. (*)

[ 23 ]

خديجة لما توفت جعلت فاطمة تلوذ برسول الله (صلى الله عليه وآله) وتدور حوله وتسأله وتقول: يارسول الله أين امي ؟ فجعل النبي (صلى الله عليه وآله) لا يجيبها، فجعلت تدور على من تسأله ء ورسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يدري ما يقول. فنزل جبرئيل (عليه السلام) يقول: ان ربك يأمرك أن تقرأ على فاطمة السلام وتقول لها: امك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وعمده من ياقوت أحمر، بين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، فقالت فاطمة: ان الله هو السلام ومنه السلام واليه السلام (1). وعن النبي (صلى الله عليه وآله) لفاطمة حين كانت منزعجة لافتخار عائشة على امها خديجة، بانها لم تعرف رجلا قبل النبي (صلى الله عليه وآله) بخلاف خديجة: يا فاطمة ان بطن امك كان وعاء للأئمة (2). وكان جبرئيل قد أتى من الله تعالى بالسلام الى خديجة مرارا متعددة، وان الله يقرئها السلام، وكانت خديجة تقول في الجواب: ان الله هو السلام، ومنه السلام، واليه السلام، وعلى جبرئيل السلام (3)، علما منها بان العلام لا يصح بالنسبة الى الله السلام، فكانت تجيب بما ذكر من الكلام، فانظر الى أدبها التام، وفضلها التمام. [ بعض فضائل الزهراء (عليها السلام) ] واما فضائل أبيها وبعلها وبنيها فأجل من أن يحيط بها الأفكار، ويصل إليها الأنظار، وقد امتلأت منها صحائف الأدوار، وصفحات الأكوار، وملأت منها الطوامير والصحف والأساطير، ولهم شرف ظاهر على صحائف الدهور والأعوام، وفضائل سارية على ألسن الخاص والعام، ومناقب يرويها كابر عن كابر، وسجايا


(1) الخرائج 2: 529 ح 4، عنه البحار 43: 27 ح 31، وفي أمالي الطوسي: 175 ح 294، عنه البحار 16: 1 ح 1. (2) المناقب لابن شهرآشوب 3: 335، عنه البحار 43: 43 ضمن حديث 42. (3) راجع ينابيع المودة: 199، في فضائل خديجة (عليها السلام). (*)

[ 24 ]

يهديها أول الى آخر. مفاخرهم مشهودة مأثورة، ومآثرهم في صحائف الأيام مسطورة، وبألسنة الكتاب والسنة مشكورة، قضى لهم القدر والقضاء بعلو القدر في كل القضاء، ولهم العز الأعلى على أهل الدنيا والاخرة والاولى. لا يحيط بوصفهم ألسنة الأوائل والأواخر، وكل منهم مصداق قول الشاعر: صفاتك لا تحصى ونطقي عاجز * ويقصر ألفاظي كما قال شاعر وان لباسا خيط من نسج تسعة * وعشرين حرفا عن معاليك قاصر وبالجملة فمن تتبع الأخبار، وجاس خلال تلك الديار، علم ان سيدتنا الزهراء قد حازت من الكمالات النفسانية، والفضائل العقلانية ما لم يحزها أحد من نوع النسوة من الأولين والآخرين، وأنها ولية الله تعالى في السماوات والأرضين، وأنها أشرف من جميع الأنبياء والمرسلين عدا أبيها خاتم النبيين. ولم يبق لأحد شبهة في شرف محلها وعلو رتبتها، وسمو مكانتها ونبلها وفضلها، وما أعد الله لها من المزية التي ليست لأحد قبلها ولا بعدها، وان الشرف قد اكتنفها من جميع أقطارها، وان المجد قد أوصلها الى غاية يعجز المجارون عن خوض غمارها، ومهما ذكره ذاكر فهو في الحقيقة دون مقدارها. وإن شئت فانظر الى نفسها الكريمة وأطرافها وجوانبها حتى تجدها قد استولت على موجبات الفضل والشرف كلها، وحازت قصبات السبق، وفازت بخصلها. وان لها فضائل أصلية ذاتية من جهة نفسها، وفضائل خارجية من جهة امها وأبيها وزوجها وبنيها، فلها إذا نور على نور من ربها، وزاد على طيب فرعها طيب أصلها، وهي غصن الشجرة الطيبة التي ثابت أصلها وفي السماء فرعها، تؤتي اكلها كل حين باذن ربها، بل هي تلك الشجرة بنفسها، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) أصلها، وأمير المؤمنين (عليه السلام) ساقتها، والأئمة المعصومون أغصانها،


[ 25 ]

والشيعة أوراقها، وعلوم الأئمة (عليهم السلام) أثمارها، وهي أصل ماهية الشجرة وهويتها. روى العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: * (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة - الى قوله تعالى - ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة) * (1) الاية، أنها مثل ضرب الله لأهل بيت العصمة والطهارة، ولمن عاداهم من أهل البغي والخسارة (2). وفي الكافي عنه (عليه السلام) حين سئل عن تلك الشجرة الطيبة، انه قال: هي شجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصلها، وأمير المؤمنين (عليه السلام) فرعها، والأئمة (عليهم السلام) من ذريتهما أغصانها، وعلم الأئمة (عليهم السلام) أثمارها، وشيعتهم المؤمنون أوراقها، ثم قال (عليه السلام): والله ان المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها، وان المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها،... الخ (3). وفي الاكمال: ان الحسن والحسين (عليهما السلام) ثمرها، والتسعة من ولد الحسين أغصانها (4).


(1) ابراهيم: 24 و 26. (2) تفسير العياشي 2: 225 ح 15، عنه البحار 24: 142 ح 9، وفي تفسير البرهان 2: 311، وتفسير الصافي 3: 85. (3) الكافي 1: 428 ح 80، عنه البحار 24: 142 ح 12، بصائر الدرجات 78، وفيه عدة أحايث، وتفسير القمي 1: 369، وتفسير الصافي 3: 85، والوافي 3: 899 ح 1563. وأورد نحوه في بشارة المصطفى ص 41، ثم قال: وقد نظم هذا الخبر أبو يعقوب البصرائي، فقال: يا حبذا دوحة في الخلد نابتة * ما مثلها أبدا في الخلد من شجر المصطفى أصلها والفرع فاطمة * ثم اللقاح علي سيد البشر والهاشميان سبطاه لها ثمر * والشيعة الورق الملتف بالثمر هذا مقال رسول الله جاء به * أهل الرواية في العالي من الخبر اني بحبهم أرجو النجاة غدا * والفوز في زمرة من أفضل الزمر. (4) كمال الدين: 345 ح 30، عنه البحار 67: 38، تفسير الصافي 3: 85، وتفسير كنز الدقائق 7: 52. (*)

[ 26 ]

وفي المعاني: غصن الشجرة فاطمة (عليها السلام)، وثمرها أولادها، وورقها شيعتها (1). وزاد في الاكمال: * (تؤتي اكلها كل حين) * ما يخرج من علم الامام (عليه السلام) اليكم في كل سنة من كل فج عميق (2). ولا منافاة بين هذه الأخبار لصحة كل منهما بنوع من الاعتبار، وأعداؤهم الأشرار هي الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار، وهم الشجرة الملعونة في القرآن، * (ونخوفهم فما يزيدهم الا طغيانا كبيرا) * (3) أي يزيدهم الطغيان الكبير الذي كان شره مستطيرا، في تفسير ظاهر ظاهرها، فأبوبكر أصل هذه الشجرة، وعمر ساقتها، وخلفاء بني امية وبني العباس أغصانها، وشيعتهم المنافقون أوراقها، وآثارهم وأفعالهم أثمارها. وبالجملة ففاطمة الزهراء (عليها السلام) ام الأئمة النقباء النجباء، الذين هم فروع تلك الشجرة الطيبة وأغصانها، وكفى في حقها انتساب أولادها الأطهار بوساطتها الى النبي المختار (صلى الله عليه وآله). وقد ورد في الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: من فصل بيني وبين آلي بعلي فليس من امتي، على قراءة (علي) على وزن فعيل، مراد به أمير المؤمنين (عليه السلام)، لا قراءته بلفظ (على) حرف جر، اشارة الى رد ما هو معروف بين العامة عند الصلاة على نبي الامة من قولهم: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد " زعما منهم ان الآل ليسوا في تلك المرتبة، فأوهموا باقحام على ايقاع الفصل بينه وبين الذرية الطاهرة.


(1) معاني الأخبار: 400 ح 61، باب نوادر المعاني، عنه البحار 16: 363 ح 65، وتفسير كنز الدقائق 7: 53. (2) كمال الدين: 345 ح 30، عنه البحار 67: 38، تفسير الصافي 3: 85. (3) الاسراء: 60. (*)

[ 27 ]

وصل في توضيح الحال في عدم جواز الفصل بعلى بين النبي (صلى الله عليه وآله) والآل قد ثبت من الأخبار والآثار، واستفاض في كلمات الأئمة الأطهار بحيث لا يعتريه شبهة الانكار، ان أنوار هؤلاء الأبرار من جنس نور النبي المختار، كما قال (صلى الله عليه وآله): كنت أنا وعلي من نور واحد (1). وفي خبر آخر: أنا من علي وعلي مني (2). وقال أيضا: أنا من حسين وحسين مني (3). وقال (صلى الله عليه وآله): أولنا محمد وأوسطنا محمد وآخرنا محمد وكلنا محمد (4)، الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة بل المتواترة. وقد روي في العلل عن النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي ان الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على الملائكة المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك، فان الملائكة لخدامنا وخدام محبينا. يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حواء، ولا الجنة ولا النار، ولا السماء ولا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم الى معرفة ربنا وتسبيحه وتقديسه وتهليله، لان اول ما خلق الله عزوجل أرواحنا فأنطقها بتوحيده وتحميده، ثم خلق الملائكة فلما شاهدوا أرواحنا نورا واحدا استعظموا أمرنا،


(1) الخصال: 31 ح 108 باب الواحد، عنه البحار 35: 34 ح 33، وفيه: خلقت أنا و.... (2) فردوس الأخبار 3: 61 ح 4171، وفي البحار 38: 149 ح 118، عن جامع الاصول لابن الأثير، وفي سنن ابن ماجة 1: 44 ح 119، وسنن الترمذي 5: 401 ح 3740. (3) سنن الترمذي 5: 429 ح 3800، سنن ابن ماجة 1: 51 ح 144، كشف الغمة 2: 216، مناقب ابن شهرآشوب 4: 71، عنه البحار 43: 295 ح 56، والصواعق المحرقة: 291. (4) راجع البحار 26: 3 ضمن حديث 1، ومشارق أنوار اليقين: 160. (*)

[ 28 ]

فسبحنا لتعلم الملائكة انا خلق مخلوقين، فسبحت الملائكة بتسبيحنا... الخ (1). والأخبار في هذا المعنى اكثر من أن تحصى، الا ان بعض هؤلاء الأنوار مقدم على بعض كما نطق به الأخبار، مثل ما ورد عن علي (عليه السلام): أنا من محمد (صلى الله عليه وآله) كالضوء من الضوء، أو كالسراج من السراج (2). ولكن كلهم أهل دائرة واحدة ليس في رتبتهم ملك مقرب ولا نبي مرسل، كما قال (صلى الله عليه وآله): لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل (3). وقالوا (عليهم السلام) أيضا: لنا مع الله حالات هو فيها نحن ونحن هو، وهو هو ونحن نحن (4).


(1) علل الشرائع: 5 ح 1، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 498 ح 215، عنهما البحار 18: 345 ح 56. (2) نحوه البحار 26: 6 ح 1، وأيضا 38: 78 ح 1. (3) راجع البحار 18: 36 ح 66. (4) راجع الكلمات المكنونة للفيض الكاشاني: 114 / في معنى الفنآء في الله، وأورده أيضا الامام الخميني (قدس سره) في كتاب مصباح الهداية صفحة 67، وقال بعده: وكلمات أهل المعرفة - خصوصا الشيخ الكبير، محيي الدين - مشحونة بأمثال ذلك، مثل قوله: " الحق خلق، والخلق حق، والحق حق، والخلق خلق ". وقال في فصوصه: " ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين ثبتها، علم ان الحق المنزه هو الخلق المشبه وإن كان قد تميز الخلق من الخالق، فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق " الى أن قال: فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا * وليس خلقا بذلك الوجه فادكروا من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته * وليس يدريه الا من له البصر جمع وفرق فان العين واحدة * وهي الكثيرة تبقي ولا تذر أقول: وورد في الزيارة الرجبية: "... فجعلتهم معادنا لكلماتك، وأركانا لتوحيدك وآياتك ومقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان، يعرفك بها من عرفك، لا فرق بينك وبينها الا انهم عبادك وخلقك... ". وفي ذلك يقول الشاعر: رق الزجاج ورقت الخمر * فتشابها وتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح * وكأنما قدح ولا خمر (*)

[ 29 ]

وورد أيضا في الأخبار المستفيضة ان الأنبياء خلقوا من شعاع نورهم، وظهروا من آثار ظهورهم، وفي بعضها انهم خلقوا من شعاع أجسامهم (1). فيكون الأنبياء من جملة شيعتهم وأشعتهم. ولا شك ان اول ما يخلق من الانسان هو عقله، كما ورد ان اول ما خلق الله العقل (2)، فان هذا المعنى كما انه منطبق على العالم الكبير بالنسبة الى العقل الكلي، كذلك على العالم الصغير بالنسبة الى العقل الجزئي، فيكون حينئذ عقول الأنبياء مخلوقة من أشعة أجسامهم الشريفة، لا أن عقولهم من أشعة عقولهم مثلا، وأجسامهم من أشعة أجسامهم مع كون أجسامهم من سنخ الأجسام البشرية لا من غير هذا السنخ كما هو مبنى الوجه الأول، فان ذلك يستلزم وجودهم في عالم الأجسام قبل أجسام الأنبياء (عليهم السلام)، وهذا خلاف الظاهر في الأنظار، وإن أمكن فرضه بنوع من الاعتبار. وبالجملة ولما كان المنافقون يزعمون جهلا أو تجاهلا في حق آل الله وآل رسول الله (صلى الله عليه وآله) انهم ليسوا من جنس طينة رسول الله


(1) ورد في البحار عن جابر بن عبد الله قال: قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله): أول شئ خلق الله تعالى ما هو ؟ فقال: نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل خير، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله ثم جعله أقساما، فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم... وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله، ثم نظر إليه بعين الهيبة، فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة، فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسها أرواح الأولياء والشهداء والصالحين. [ البحار 25: 22 ح 37 ]. قال العلامة الطباطبائي (قدس سره) في الميزان عند تفسير آية 33 من سورة البقرة بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه: أقول والأخبار في هذه المعاني كثيرة... واياك أن ترمي أمثال هذه الأحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم ومنابع الحكمة بانها من اختلاقات المتصوفة وأوهامهم فللخلقة أسرار، وهو ذا العلماء من طبقات أقوام الانسان لا يألون جهدا في البحث عن أسرار الطبيعة منذ أخذ البشر في الانتشار، وكلما لاح لهم معلوم واحد بان لهم مجاهيل كثيرة، وهي عالم الطبيعة أضيق العوالم وأخسها، فما ظنك بما ورائها وهي عوالم النور والسعة. (2) الفردوس 1: 13 ح 4، البحار 1: 97 ح 8. (*)

[ 30 ]

(صلى الله عليه وآله)، بل جعلوهم من جنس سائر الرعية، والتزموا أمرين في المرحلة، أحدهما الفصل بلفظ (على) عند الصلاة على النبي وآله، اشارة الى حط رتبتهم عن تلك المرتبة المحمدية، وعدم كونهم من أهل هذه السلسلة النورية. والثاني انهم ليسوا من آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لانهم أولاد البنت، وولد البنت ليس بولد بل هم أولاد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو من الأجانبة، وتمسكوا في ذلك بنحو قول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد وغيره من الكلمات السخيفة والاستدلالات الضعيفة، فورد الخبر في التنبيه على ردهم والاشارة الى ردعهم، ان من فصل بيني وبين آلي بعلى فليس من امتي. فنسب الآل الى نفسه وجعل الآل آل نفسه، لا آل علي (عليه السلام) الذي هو أيضا في الحقيقة نفسه أو كنفسه، ومنع من فصلهم عنه بلفظ (على) اسما على فعيل، أو حرف جر اشارة الى الوصل أي اتصالهم (عليهم السلام) به (صلى الله عليه وآله)، وكونهم من نوره وجنس طينته. ويدل على ذلك على انهم من أهل تلك المرتبة فلا يجوز الفصل بين أجزاء السلسلة، كما انه اشارة الى انهم آل الرسول المنتسبون إليه من جهة البتول، والدلالة على كلا الأمرين حاصلة على كل من القراءتين. ويدل على ذلك أيضا أخبار كثيرة، كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: كل بني آدم ينتمون الى عصبتهم الا ولد فاطمة، فاني أنا أبوهم وعصبتهم (1). وفي خبر آخر: لكل نبي عصبة ينتمون إليه، وفاطمة عصبتي التي تنتمي


(1) ذخائر العقبي: 121، الفردوس 3: 264 ح 4787، الصواعق المحرقة: 284، كنز العمال 12: 98 ح 34168، والبحار 43: 228 ح 1، فرائد السمطين 2: 77 ح 398. (*)

[ 31 ]

الي (1). وروى في البحار انه خرج زيد ابن موسع أخو أبي الحسن الرضا (عليه السلام) بالمدينة في عهد المأمون، وأحرق وقتل خلقا كثيرا من تبعته - وكان يسمى زيد النار - فبعث إليه المأمون فاسر وحمل الى المأمون، فقال المأمون: اذهبوا به الى أبي الحسن الرضا. قال ياسر: فلما دخل إليه قال أبو الحسن (عليه السلام): يا زيد أغرك قول سفلة أهل الكوفة - وفي رواية اخرى: قول بقالي أهل الكوفة - ان فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار، ذاك الحسن والحسين خاصة - وفي خبر آخر مع زيادة زينب وام كلثوم - إن كنت ترى انك تعصى الله وتدخل الجنة، وموسى بن جعفر أطاع الله ودخل الجنة، فأنت إذا أكرم على الله عزوجل من موسى بن جعفر. والله ما ينال أحد ما عند الله عزوجل الا بطاعته، وزعمت انك تناله بمعصيته، فلبئس ما زعمت، فقال له زيد: أنا أخوك وابن ابيك، فقال له أبو الحسن (عليه السلام): أنت أخي ما أطعت الله عزوجل، ان نوحا (عليه السلام) قال: * (رب ان ابني من أهلي وان وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) * (2). فقال الله عزوجل: * (يا نوح انه ليس من أهلك انه عمل غير صالح) * (3) فأخرجه الله عزوجل من أن يكون من أهله بمعصيته (4). وفي خبر آخر: كلا لقد كان ابنه ولكن لما عصى الله عزوجل نفاه الله عن أبيه، كذا من كان منا لم يطع الله فليس منا ولا من أولاد رسول الله، وأنت إذا أطعت الله فأنت منا أهل البيت (5).


(1) دلائل الامامة: 76 ح 16، عنه البحار 43: 230، ونحوه في بشارة المصطفى: 40. (2) هود: 45. (3) هود: 46. (4) البحار 43: 231 ح 6، عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام). (5) معاني الأخبار: 106 ح 1، عنه البحار 43: 230 ح 2. (*)

[ 32 ]

فصل في بيان الفرق بين ذرية فاطمة (عليها السلام) غير الأئمة وبين سائر الرعية روي في البحار عن الحسن بن راشد قال: ذكرت زيد بن علي بن الحسين عند الصادق (عليه السلام) - وهو الذي خرج على عبد الملك بن مروان، فقتل بالكوفة وقد نهاه الباقر (عليه السلام) عن الخروج فلم ينته ولم يقبل قوله - فتنقصت فيه من هذه الجهة. فقال الصادق (عليه السلام): لا تفعل - أو لا تقل كذا - رحم الله عمي زيدا، أتى أبي فقال: اني اريد الخروج على هذه الطاغية، فقال: لا تفعل اني أخاف أن تقتل وتصلب على ظهر الكوفة، أما علمت يا زيد انه لا يخرج أحد من ولد فاطمة على أحد من السلاطين قبل خروج السفياني الا قتل، فلم يقبل وفعل ما فعل. ثم قال أيضا: يا حسن ان فاطمة (عليها السلام) أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار، وفيهم نزلت الآية: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات باذن الله ذلك هو الفضل الكبير) * (1). والظالم لنفسه الذي لا يعرف الامام، والمقتصد هو العارف بحق الامام، والسابق بالخيرات هو الامام، ثم قال: يا حسن انا أهل بيت لا يخرج منا أحد من الدنيا حتى يقر لذي فضل بفضله (2). وبين هذا الخبر والرواية السابقة منافرة في الجملة، وتحقيق الحال هنا بحيث ترتفع المنافرة بينهما، ان المؤمن مشرف على محل الخطر والهلاكة في مقامين،


(1) فاطر: 32. (2) الخرائج 1: 281 ح 13، عنه البحار 46: 185 ح 51، وكشف الغمة 2: 357، في فضائل الامام الباقر (عليه السلام). (*)

[ 33 ]

أحدهما مقام المعرفة في مرتبة اصول الدين إذ الشيطان عدو مبين، فهو في مرصاد عباد الله المؤمنين ليوقعهم في الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، فهو في جميع حالات الحياة الدنيوية يريد إغواء الانسان بالوساوس النفسانية، والهواجس الشيطانية، ليوقعه في الحيرة والضلالة في أمر المعرفة وتحصيل اصول الدين الذي هو مبنى الشريعة، فان فات ذلك منه ويئس انتظر لذلك الى أن يتراكم على الانسان شدائد سكرات الموت، والأهوال الطارئة له عند الفوت، فينتهز الفرصة ليوقعه حينئذ في الشبهة، ويخرجه من الدنيا كافرا مستحقا للعذاب الأبدي في البرزخ والاخرة. فرب عابد زاهد في مدة عمره لم يتسلط عليه الشيطان بالمرة، تسلط عليه عند الموت فأوبقه وأهلكه، كالعابد برصيصا (1) وغيره، ولهذا ورد ان الايمان قسمان: ايمان مستقر وايمان مستودع (2)، والثاني هو الذي يسلب عند الموت من جهة اغواء الشيطان وتلبيسه في تلك الحالة. وورد دعاء العديلة دفعا لتلك الرزية، والعديلة اسم شيطانة موكلة من جانب ابليس ليعدل الانسان حين الموت من الاعتقاد الحق الى الباطل، فعيلة بمعنى


(1) روى في البحار 14: 486، عن ابن عباس قال: كان في بني اسرائيل عابد اسمه برصيصا، عبد الله زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرؤون على يده، وانه أتى بامرأة في شرف قد جنت، وكان لها اخوة فأتوه بها وكانت عنده، فلم يزل الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت، فلما استبان حملها قتلها ودفنها، فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقى أحد اخوتها، فأخبره بالذي فعل الراهب وانه دفنها في مكان كذا، ثم أتى بقية اخوتها رجلا رجلا فذكر ذلك له، فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول: والله لقد أتاني آت ذكر لي شيئا يكبر علي ذكره، فذكره بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقر لهم بالذي فعل، فأمر به فصلب، فلما رفع على خشبته تمثل له الشيطان فقال: أنا الذي ألقيتك في هذا، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك، اخلصك مما أنت فيه ؟ قال: نعم، قال: اسجد لي سجدة واحدة، فقال: كيف اسجد لك وأنا على هذه الحالة ؟ فقال: أكتفي منك بالايماء، فأومأ له بالسجود، فكفر بالله وقتل الرجل. (2) عقد العلامة المجلسي بابا مستقلا في البحار ج 69 ص 212، تحت هذا العنوان، فراجع. (*)

[ 34 ]

مفعلة، والمراد دفع العديلة، أو بمعنى المصدر أي دعاء دفع العدول المذكور، وذكر في زبدة المعارف الوجه الأول وحده في وجه التسمية. والثاني مقام العمل بالشريعة، فيريد الشيطان أبدا أن يضل الانسان ويغويه، ويوقعه في المعصية ويوبقه، وهذا هو الهلاك العارضي والعذاب المنقرض، فهناك هلاكة كبرى وهلاكة صغرى، وأولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما سوى الأئمة المعصومين وإن كانوا مأمونين من الهلاكة الكبرى من جهة الانتساب الى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والانتماء الى فاطمة الزهراء (عليها السلام) من جهة كونها أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار أي الخلود في العذاب، حيث انه لا يخرج أحد منهم من الدنيا الا مؤمنا خالص الايمان والايقان، ولا يجئ فيهم شبهة الكفر عند عروض سكرة الموت وطرو حسرة الفوت، لكنهم على خطر عظيم من الهلاكة الصغرى. كما قال السجاد (عليه السلام) للأصمعي: يا أصمعي خلقت النار لمن عصى الله ولو كان سيدا قرشيا، وخلقت الجنة لمن أطاع الله ولو كان عبدا حبشيا، على ما ذكر عن كتاب المناقب انه روى الأصمعي فقال: كنت ليلة في الطواف بعد موهن من الليلة، فرأيت شابا متعلقا بأستار الكعبة يناجي ربه ويقول: " الهي ومولاي نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت ملك حي قيوم، وقد أغلقت الملوك عليها أبوابها، وطاف عليها حراسها، وأنت يا مولاي بابك مفتوح للداخلين، ورفدك مبذول للسائلين، يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم، يا كاشف الضر والبلوى مع السقم، قد نام وفدك حول البيت قاطبة، وأنت يا حي يا قيوم لم تنم، أدعوك يا رب حزنا دائما قلقا، فارحم بكائي بحق البيت والحرم، وهب لي بجودك فضل العفو عن جرمي، يامن أشار إليه الخلق في الحرم، إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف، فمن يجود على العاصين بالنعم ". ثم قال: ألا يا رجائي أنت كاشف كربتي * فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي


[ 35 ]

فزادي قليل لا أراه مبلغي * على الزاد أبكي أم لبعد مسافتي أتيت بأعمال قباح ردية * وما في الورى عبد جنى كجنايتي أتحرقني بالنار يا غاية المنى * فأين رجائي ثم أين مخافتي فكرر البيت الى أن غشي عليه، فقلت: من هذا ؟ قيل: هو السجاد زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام). فذهبت إليه فرفعت رأسه ووضعته على حجري، وبكيت عليه رحمة له، فوقع من قطرات دمعي على وجنتيه، ففتح عينيه وقال: من هذا الذي أشغلني عن ذكر مولاي ؟ فقلت: عبدك الأصمعي، ثم قلت: يا مولاي مم هذا الحزن والعويل والبكاء الطويل، وأنتم أهل بيت العصمة والطهارة، وفيكم نزلت آية التطهير ؟ !. فقال: يا أصمعي هيهات هيهات، خلقت النار لمن عصى الله - الى آخر ما مر - ثم قال (عليه السلام): أما سمعت قوله تعالى: * (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * (1)، انتهى (2). وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) انه: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: لمحسننا كفلان من الأجر، ولمسيئنا ضعفان من العذاب (3). وكذا الحكم في أزواج النبي (صلى الله عليه وآله)، قال تعالى: * (يا نساء النبي


(1) المؤمنون: 101. (2) المناقب لابن شهراشوب 4: 150، باختلاف كثير. قال المقرم (رحمه الله) في كتاب (الامام زين العابدين (عليه السلام) ص 259: وهذا لا يصح عن الأصمعي، لأن السجاد (عليه السلام) - كما في ارشاد الشيخ المفيد - توفي بالمدينة سنة (95)، والأصمعي - كما في تاريخ بغداد ج 10 ص 419 - توفي سنة (216) عن ثمان وثمانين سنة، فتكون ولادته سنة (128) تقريبا بعد شهادة السجاد (عليه السلام) بثلاث وثلاثين سنة، نعم يمكن أن تصح القصة مع الامام الكاظم (عليه السلام)، فانه ولد سنة (128) واستشهد سنة (183)، أو الرضا (عليه السلام) المولود سنة (148) والمستشهد سنة (203). (3) معاني الأخبار: 106 ح 1، عنه البحار 43: 230 ح 2. (*)

[ 36 ]

من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما) * (1). وذلك لزيادة العلم والمعرفة، وتفاوت القرب والمنزلة، فصار الذنب منهن أقبح، والطاعة منهن أحسن، وكذلك الحكم في العلماء للعلة المذكورة، حتى ورد انه يغفر من الجاهل سبعون سيئة، وقد لا يغفر من العالم سيئة واحدة (2). واما سائر الرعية فهم في محل الخطر في كل مرحلة، قال (صلى الله عليه وآله): هلك العالمون الا العالمون، وهلك العالمون الا العاملون، وهلك العاملون الا الموحدون، وهلك الموحدون الا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم. " تتميم ": [ الكلام في ان ولد البنت ولد ] عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): يا أبا الجارود ما يقولون في الحسن والحسين (عليهما السلام) ؟ قلت: ينكرون علينا انهما ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال (عليه السلام): فبأي شئ احتججتم عليهم ؟ قلت: بقول الله تعالى في عيسى بن مريم: * (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) * (3). فجعل عيسى (عليه السلام) من ذرية ابراهيم (عليه السلام). واحتججنا عليهم بقوله تعالى: * (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم...) * (4) الآية، قال (عليه السلام): فأي شئ قالوا ؟ قلت: قالوا: قد يكون ولد البنت من الولد ولا


(1) الاحزاب: 30 و 31. (2) البحار 2: 27 ح 5. (3) الأنعام: 84 - 85. (4) آل عمران: 61. (*)

[ 37 ]

يكون من الصلب. قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): والله يا أبا الجارود لأعطينك من كتاب الله آية لا يردها الا كافر، قال: قلت: جعلت فداك وأين ؟ قال: حيث قال الله تعالى: * (حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم وأخواتكم - الى قوله تعالى - وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) * (1) وسلهم يا أبا الجارود هل يحل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) نكاح حليلتهما، فان قالوا نعم فكذبوا، وان قالوا لا فهما والله ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما حرمت عليه الا للصلب (2). وفي احتجاجات الكاظم (عليه السلام) مع الرشيد على ما روى الطبرسي (رحمه الله) من جملة حديث طويل الذيل، انه سأل الرشيد في جملة ما سأل في هذا المجلس مخاطبا له (عليه السلام): لم جوزتم للخاصة والعامة أن ينسبوكم الى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويقولوا لكم: يا بني رسول الله، وأنتم بنو علي، وانما ينسب المرء الى أبيه، وفاطمة هي وعاء والنبي جدكم من قبل امكم ؟ !. فقال (عليه السلام): يا أمير المؤمنين لو ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نشر فخطب اليك كريمتك هل كنت تجيبه ؟ فقال: سبحان الله ولم لا اجيبه ؟ بل افتخر على العرب والعجم وقريش بذلك، فقال له: لكنه (صلى الله عليه وآله) لا يخطب الي ولا ازوجه، قال الرشيد: ولم ؟ قال (عليه السلام): لانه ولدني ولم يلدك، فقال: أحسنت يا موسى. ثم قال: كيف قلتم انا ذرية النبي والنبي (صلى الله عليه وآله) لم يعقب، وانما العقب للذكر لا للانثى، وأنتم ولد للبنت ولا يكون لها عقب ؟. فقال (عليه السلام) له (عليهم السلام): أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه الا أعفيتني عن هذه المسألة، فقال: لا أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا


(1) النساء: 23. (2) الاحتجاج 2: 175 ح 204، عنه البحار 43: 232 ح 8، وفي الكافي 8: 317 ح 501، وتفسير القمي 1: 209. (*)

[ 38 ]

موسى يعسو بهم وامام زمانهم، كذا انهى الي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، وأنتم تدعون معشر ولد علي انه لا يسقط عنك منه شئ ألف ولا واو الا تأويله عندكم، واحتججتم بقوله تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * (1) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم. فقال (عليه السلام): تأذن لي في الجواب ؟ قال: هات، فقال (عليه السلام): أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، * (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين) * (2) من أب عيسى يا أمير المؤمنين ؟ فقال: ليس لعيسى أب. فقال (عليه السلام): انما ألحقناه بذراري الأنبياء من طريق مريم (عليها السلام)، وكذلك الحقنا بذراري النبي (صلى الله عليه وآله) من قبل امنا فاطمة (عليها السلام)، وازيدك يا أمير المؤمنين، قال: هات، قال (عليه السلام): قول الله تعالى: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم...) * (3) الاية، ولم يدع أحد أنه أدخل النبي (صلى الله عليه وآله) تحت الكساء عند مباهلة النصارى الا علي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام)، أبناءنا: الحسن والحسين، ونساءنا: فاطمة، وأنفسنا: علي بن أبي طالب (عليه السلام)... الحديث (4). وعن يحيى بن يعمر العامري قال: بعث الي الحجاج فقال: يا يحيى أنت الذي تزعم ان ولدي علي من فاطمة ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قلت له: إن


(1) الانعام: 38. (2) الانعام: 84 و 85. (3) آل عمران: 61. (4) الاحتجاج 2: 338 ح 271، وفي البحار 48: 125 ح 2 عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 225 ح 91. (*)

[ 39 ]

أمنتني تكلمت، قال: أنت آمن. قلت: نعم، أقرأ عليك كتاب الله، ان الله تعالى يقول: * (ووهبنا له اسحاق ويعقوب كلا هدينا - الى أن قال - وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين) * (1) وعيسى كلمة الله وروحه ألقاها الى العذراء البتول، وقد نسبه الله تعالى الى أبراهيم (عليه السلام). قال: ما دعاك الى نشر هذا وذكره ؟ قلت: ما استوجب لأهل العلم في علمهم ليبينوه للناس ولا يكتموه، قال: صدقت ولا تعودن لذكر هذا ونشره (2). وفي خبر آخر مرسل عن عامر الشعبي قال: بعث الي الحجاج ذات ليلة، فخشيت فقمت وتوضأت وأوصيت ثم دخلت عليه، فنظرت فإذا نطع (3) منشور وسيف مسلول، فسلمت عليه فرد علي السلام. فقال: لا تخف فقد أمنتك الليلة وغدا الى الظهر، وأجلسني عنده، ثم أشار فأتى برجل مقيد مكبول بالأغلال والكبول، فوضعوه بين يديه فقال: ان هذا الشيخ يقول: ان الحسن والحسين كانا ابني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ليأتيني بحجة من القرآن والا لأضربن عنقه. فقلت: يجب أن تحل قيوده فانه إذا احتج فانه لا محالة ذاهب، وإن لم يحتج فان السيف لا يقطع هذا الحديد، فحلوا قيوده وكبوله فنظرت فإذا هو سعيد بن جبير، فحزنت بذلك وقلت في نفسي: كيف يجد حجة على ذلك من القرآن. فقال له الحجاج: ايتني بحجة من القرآن على ما ادعيت والا أضرب عنقك، فقال له: انتظر، فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك، فقال: انتظر، فسكت ساعة، ثم قال مثل ذلك، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم * (ووهبنا له اسحاق ويعقوب


(1) الانعام: 84 و 85. (2) البحار 43: 228 ضمن حديث 1، عن بعض كتب المناقب، وفي فرائد السمطين 2: 75 ح 397 ونحوه في الدر المنثور 3: 311 / سورة الانعام. (3) النطع - بالكسر وبالفتح وبالتحريك -: بساط من الأديم. (*)

[ 40 ]

- الى قوله - وكذلك نجزي المحسنين) *. ثم سكت وقال للحجاج اقرأ ما بعده، فقرأ: * (وزكريا ويحيى وعيسى) * (1) فقال سعيد: كيف يليق هاهنا عيسى، قال: انه كان من ذريته، قال: إن كان عيسى من ذرية ابراهيم (عليه السلام) ولم يكن له أب، بل كان ابن بنته فنسب إليه مع بعده، فالحسن والحسين (عليهما السلام) أولى أن ينسبا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع قربهما منه، فأمر له بعشرة آلاف دينار، وأمر بأن يحملوا ما معه الى داره، وأذن له في الرجوع. قال الشعبي: فلما أصبحت قلت في نفسي: قد وجب علي أن آتي هذا الشيخ فأتعلم منه معاني القرآن، لاني كنت أظن اني أعرفها فإذا أنا لا أعرفها، فأتيته فإذا هو في المسجد وتلك الدنانير بين يديه يفرقها عشرا عشرا ويتصدق بها، ثم قال: هذا كله ببركة الحسن والحسين (عليهما السلام)، لئن كنا أغممنا واحدا لقد أفرحنا ألفا وأرضينا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) (2). ويدل على ذلك أيضا ما في الخبر النبوي (صلى الله عليه وآله) للحسنين (عليهما السلام): ابناي هذان امامان قاما أو قعدا (3). وقوله (صلى الله عليه وآله) للحسن (عليه السلام): ابني هذا سيد (4). وقوله (صلى الله عليه وآله) أيضا في الحسين (عليه السلام): لا تزرموا ابني، أي لا تقطعوا عليه بوله (5) لما بال في حجره وأراد بعض نسائه - وهي ام سلمة كما في بعض الأخبار - أن ترفعه من حجره.


(1) الانعام: 84 و 85. (2) البحار 43: 229 ضمن حديث 1، عن بعض كتب المناقب. (3) البحار 37: 7، مناقب ابن شهرآشوب 3: 367. (4) صحيح البخاري 5: 92 ح 257، عنه العمدة: 396 ح 796، مناقب ابن شهرآشوب 4: 20، عنه البحار 43: 298 ح 61، كنز العمال 12: 115 ح 34263. (5) مناقب ابن شهرآشوب 4: 71، عنه البحار 43: 296 ح 57، ومستدرك الوسائل 2: 556 ح 2712، نحوه. (*)

[ 41 ]

وقوله (صلى الله عليه وآله): ارموا بني اسماعيل فان أباكم كان راميا (1). وقوله تعالى: يا بني آدم يا بني اسرائيل، وقوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم) * (2). وانه كان يقال للصادق (عليه السلام) كثيرا: أنت ابن الصديق، لان امه ام فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وزوجة القاسم كانت بنت عبد الرحمان بن أبي بكر، وكان (عليه السلام) يقول: ولدني أبو بكر مرتين (3). وانه ورد في الأخبار انه ينادي يوم القيامة مناديا: أهل الجمع غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة (عليها السلام) (4)، فلا يغض من كان هو من نسلها مطلقا، وان الولد انما يخلق من نطفة الأب والام معا، وان أهل العرف مجتمعون على اطلاق الولد والعقب والذرية ونحو ذلك على ولد البنت بلا شبهة. وقد حكى ان الرشيد أمر وزيره علي بن يقطين أن يخيط لأولاده ثيابا جديدة ليوم العيد، وكان له بنت مزوجة مات زوجها فرجعت الى دار أبيها الرشيد، وعندها أولاد صغار هم أحفاد الرشيد، وكان ابن يقطين (رحمه الله) شيعيا مشهورا، وكان يسمع من الرشيد وتبعته كثيرا في مقام رد اطلاق أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ذرية فاطمة (عليها السلام) ان أولاد، البنت ليسوا بأولاد استدلالا بقول الشاعر: بنونا بنوا أبنائنا.... فأحضر ليوم العيد ثيابا جديدة لجميع أولاده سوى هؤلاء الصغار، فجاؤوا يوم العيد الى الرشيد باكين محزونين، فغضب الرشيد على علي بن يقطين وقال: لم تركت هؤلاء الصغار، ولم تحضر لهم ثيابا جديدة مثل سائر أولادي ؟ قال: ما أمرتني بذلك، قال: ألم آمرك بتجديد ثياب أولادي ؟ قال: نعم ولكن


(1) مستدرك الحاكم 2: 103 ح 2465، جامع الأحاديث 1: 416 ح 2843. (2) النساء: 11. (3) كشف الغمة 2: 374. (4) راجع البحار 43: 220 ح 4، مستدرك الحاكم 3: 166 ح 4728. (*)

[ 42 ]

أنتم تقولون أولاد البنت ليسوا بأولاد، فتنبه الرشيد. والبيت المذكور قيل من مجعولات العامة في ترويج هذه الشبهة، وعلى فرض عدم الجعل فهو محمول على المبالغة، أو على النظر العرفي، أو على المجازية بملاحظة طرف قوة الابن، أو بلحاظ ان أولاد البنت تكون في دار رجل آخر غالبا، أي عند أبيهم وخيرهم وشرهم معه، ولا يكون للجد انس كثير بهم بخلاف أولاد الابن في ذلك غالبا. [ كلام ابن أبي الحديد في ان الحسنين (عليهما السلام) ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ] وقال ابن أبي الحديد في شرح قول علي (عليه السلام) في بعض أيام صفين حين رأى ابنه الحسن (عليه السلام) يتسرع الى الحرب: املكوا عني هذا الغلام لا يهدني، فاني انفس بهذين، أعني الحسن والحسين، لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله). فان قلت: أيجوز أن يقال للحسن والحسين (عليهما السلام) وولدهما أبناء رسول الله، وولد رسول الله، وذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قلت: نعم لأن الله سماهم أبناءه في قوله تعالى: * (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) * (1). وانما عنى الحسن والحسين (عليهما السلام)، ولو أوصى لولد فلان بمال دخل فيه أولاد البنات، وسمى الله عيسى ذرية ابراهيم (عليه السلام)، ولم يختلف أهل اللغة في ان ولد البنات من نسل الرجل. فان قلت: فما تصنع بقوله تعالى: * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) * (2) ؟ فقلت: أسألك من ابوته لابراهيم بن مارية، فكلما تجيب به عن ذلك فهو جوابي عن


(1) آل عمران: 61. (2) الاحزاب: 40. (*)

[ 43 ]

الحسن والحسين. والجواب الشامل للجميع انه عنى زيد بن حارثة، لأن العرب كانت تقول زيد ابن محمد (صلى الله عليه وآله) على عادتهم في تبني العبد، فأبطل الله ذلك ونهى عن سنة الجاهلية وقال: ان محمدا (صلى الله عليه وآله) ليس أبا لواحد من الرجال البالغين المعروفين بينكم، وذلك لا ينفي (1) كونه أبا الأطفال الذين لم يطلق عليهم لفظة الرجال كابراهيم والحسن والحسين (2)، الى آخر ما ذكره، وفي هذا المقام تفصيلات مذكورة في الأخبار وكلمات العلماء الأخيار، ولا حاجة الى ذكرها والتعرض لها في المضمار. [ الكلام في بعض فضائل الزهراء (عليها السلام) ] وقد ورد في فضل الزهراء (عليها السلام) من أخبار الخاصة والعامة مالا يدفعها يد الانكار، حتى صار فضلها في الاشتهار مثل الشمس في رابعة النهار، فأقر بفضلها الأخيار والأشرار، والأبرار والفجار، واعترف بنبلها الأولياء والأعداء، والأجانبة والأقرباء: والفضل ما شهدت به الأعداء * والحسن ما اعترفت به الضراء وقد قال ابن أبي طلحة الشافعي (3) وهو من أعاظم العامة العمياء: ان كل واحد من الأئمة الأحد عشر عليهم صلوات الله الملك المتعال في أعلى درجة الكمال، ولهم من جهة انتسابهم الى فاطمة الزهراء (عليها السلام) شرف فوق الشرف، وكمال فوق الكمال، فزادهم الله فضل شرف وشرف فضل، ونيل قدر وقدر نيل، ومحل علو وعلو محل، وأصل تطهر وتطهر أصل.


(1) أثبتناه من المصدر، وفي النسخة: لا يخفى. (2) شرح نهج البلاغة 11: 26 باب 200، عنه البحار 43: 234 ح 10. (3) مطالب السؤول: 6. (*)

[ 44 ]

فان فاطمة (عليها السلام) قد خصت بفضل سجايا منصوص عليها بانفرادها، وفضلت بخصائص مزايا صرح اللفظ النبوي بايرادها، وميزت قرة عين الرسول بصفات شرف يتنافس الأنفس النفيسة في آحادها. وروى أبو داود الترمذي ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما يؤذيها ويسرني ما يسرها (1). وفي حديث آخر انه قيل لعائشة: من أحب النساء الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قالت: فاطمة، قيل: من الرجال ؟ قالت: زوجها (2). وعن عمر بن الخطاب، عن النبي (صلى الله عليه وآله): ان عليا وفاطمة والحسن والحسين يكونون في حظيرة القدس في قبة بيضاء، سقفها عشر الرحمان عزوجل (3). وعن أنس انه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بينا أهل الجنة في الجنة يتنعمون، وأهل النار في النار يعذبون، إذا لأهل الجنة نور ساطع، فيقول بعضهم لبعض: ما هذا النور ؟ لعل رب العزة اطلع علينا فنظر الينا ؟ ! فيقول لهم رضوان: لا ولكن علي مازح فاطمة فتبسمت، فأضاء ذلك النور من ثناياها (4). وفي فضائل أبي السعادات، وكشف الثعلبي في تفسير قوله تعالى: * (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) * (5) انه قال ابن عباس: بينا أهل الجنة في الجنة بعد ما سكنوا، رأوا نورا أضاء به الجنان، فيقول أهل الجنة: يا رب انك قلت في كتابك المنزل على نبيك المرسل: * (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) *.


(1) سنن الترمذي 5: 465 ح 3895، صحيح البخاري 5: 83 ح 232، كنز العمال 12: 108 ح 34223، مستدرك الحاكم 3: 172 ح 4747. (2) سنن الترمذي 5: 467 ح 3900، جامع الاصول 9: 125 ح 6671، ينابيع المودة: 203، الطرائف: 157 ح 244، عنه البحار 38: 313 ح 15، ذخائر العقبى: 35. (3) كنز العمال 12: 98 ح 34167، وفي البحار 43: 76 عن الفردوس. (4) البحار 43: 75 ح 62 مقتل الحسين للخوارزمي: 70، والعوالم 11: 1164 ح 4. (5) الانسان: 13. (*)

[ 45 ]

فينادي مناد: ليس هذا نور الشمس والقمر، وان عليا وفاطمة تعجبا من شئ فضحكا، فأشرقت الجنان من نورهما (1). وروى العامة عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: إذا كان يوم القيامة قيل: يا أهل الجمع غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد، فتمر الى الجنة وعليها ريطتان خضراوان (2). وفي رواية: فتمر على الصراط ومعها سبعون ألف جارية من الحور العين (3). وعن نافع بن أبي الحمراء: شهدت النبي (صلى الله عليه وآله) ثمانية أشهر إذا خرج الى صلاة الغداة مر بباب فاطمة (عليها السلام) فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته * (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (4). وعن أبي هريرة قال: نظر النبي (صلى الله عليه وآله) الى علي والحسن والحسين وفاطمة وقال: أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم (5). وروى الترمذي والبخاري ان عائشة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله) قالت: ما رأيت أحدا أشبه برسول الله (صلى الله عليه وآله) من فاطمة، وكانت إذا دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله) قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه (6).


(1) مناقب ابن شهرآشوب 3: 329 في منزلتها عند الله، البحار 43: 45 ح 44 والعوالم 11: 1165 ح 7، عن الفضائل والكشف، ونحوه أمالي الصدوق: 216 مجلس 44 ضمن ح 11، وتأويل الايات: 727. (2) المناقب لابن المغازلي: 356 ح 405، كفاية الطالب: 364، كشف الغمة 2: 87، مستدرك الحاكم 3: 175 ح 4757، الخصائص الكبرى للسيوطي 2: 225. (3) كشف الغمة 2: 84، عنه البحار 43: 53 ح 48، كنز العمال 12: 105 ح 34209، ذخائر العقبى: 48، مقتل الحسين: 55، الصواعق المحرقة: 289. (4) كفاية الطالب: 376، نور الأبصار: 225، كشف الغمة 2: 84، عنه البحار 43: 53 ح 48. (5) المناقب لابن المغازلي: 63 ح 90، مسند احمد 3: 187 ح 9405، كنز العمال 12: 97 ح 34164، كشف الغمة 2: 79، وفي سنن الترمذي 5: 465 ح 3896، وينابيع المودة: 202 عن زيد بن أرقم، وفي مستدرك الحاكم 3: 161 ح 4713، الصواعق المحرقة: 284. (6) سنن الترمذي 5: 466 ح 3898، ينابيع المودة: 203، كشف الغمة 2: 80، عنه البحار 37: 71 ح 38، مستدرك الحاكم 3: 167 ح 4732. (*)

[ 46 ]

وعن عائشة أيضا انه: كن أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) عنده في مرض موته لم يغادر منهن هناك واحدة، فأقبلت فاطمة (عليها السلام) تمشي ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما رآها رحب بها وقال: مرحبا يا بنتي، ثم أجلسها عن يمينه ثم سارها، فبكت بكاء شديدا، فلما رآى جزعها سارها الثانية فضحكت. قلت: قد خصك رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بين نسائه بالسرار، فلماذا بكيت ثم ضحكت ؟ فقالت: اني إذا البذرة، وما كنت لأفشي سر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما مات النبي (صلى الله عليه وآله) قلت: عزمت عليك بحق النبي (صلى الله عليه وآله) لما حدثتيني ما قال رسول الله لك عند وفاته. قالت: اما المرة الاولى فأخبرني ان جبرئيل كان يعرضني القرآن في كل سنة مرة، وانه عرضني في هذه السنة - أو هذا الآن - مرتين، واني لأرى الأجل قد اقترب فاتقي الله واصبري، فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: يا فاطمة أنت أول أهلي لحوقا بي، وأما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، فضحكت ضحكي الذي رأيت (1). الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة. وبالجملة فلا ريب انها كانت سيدة نساء العالمين، وأحب الى النبي (صلى الله عليه وآله) من جميع نساء المؤمنين، وانها كانت بضعة الرسول، والعذرآء البتول، ومشكاة النبوة، ومصباح الفتوة، الى غير ذلك من صفاتها الباهرة، وكمالاتها الظاهرة مما هو من أعظم المناقب وأعلاها، وأقوم المذاهب الى ذروة الشرف وأسناها، بحيث تود نفوس المفاخرين لو سمعت بواحدة منها وتتمناها.


(1) صحيح مسلم 16: 5 في فضائل فاطمة (عليها السلام)، عنه العمدة: 386 ح 764، والبحار 37: 66 ح 38، وجامع الاصول 9: 129 ح 6677، ونحوه في مسند احمد 7: 401 ح 25874، في أحاديث فاطمة (عليها السلام)، صحيح البخاري 5: 53 ح 149، سنن الترمذي 5: 466 ح 3898، ينابيع المودة: 203، كشف الغمة 2: 80، ذخائر العقبي: 39. (*)

[ 47 ]

[ ما نقل من كتاب كشف الغمة في فضل الزهراء (عليها السلام) ] قال في كشف الغمة: (1) ولقد أشرق عوالم الغيب والشهود باشراق أنوارها، وأضاء لآلائها بتشعشع ضيائها، وسحت (2) سحب العز بسح أنوائها، واعتلى نورها على كل موجود بعلو منارها، متعالية عن أعين النظار، سابقة من يجاريها الى المضمار، الكريمة الكريمة الأنساب، الشريفة الشريفة الأحساب، الطاهرة الطاهرة الميلاد، الزهراء الزاهرة الأولاد، السيدة الجليلة باجماع أهل السداد، الخيرة من أهل الخير والرشاد، ثالثة الشمس والقمر، بنت خير البشر، ام الأئمة الغرر، الصافية من الشوب والكدر، الصفوة على رغم من جحد أو كفر، الحالية بجواهر الجلال، الحالة في أعلى رتب الكمال، المختارة على النساء والرجال، صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها السادة الأنجاب، وراث النبوة والحكمة والكتاب. قال: وحكى لي السيد تاج الدين محمد بن نصر العلوي الحسيني ان بعض الوعاظ ذكر فاطمة (عليها السلام) ومزاياها، وكون الله تعالى وهبها من كل فضيلة مرباعها وصفاياها، وذكر بعلها وأباها وأبناءها، فاستخفه الطرب وأنشد: خجلا من نور بهجتها * تتوارى الشمس في الشفق وحياء من شمائلها * يتغطى الغصن بالورق فشق كثير من الناس ثيابهم، وأوجب وصفها بكاءهم وانتحابهم (3). وفاطمة أحد الأسماء الخمسة التي هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه إياها،


(1) كشف الغمة 2: 76. (2) السح: الصب، والسيلان من فوق / القاموس. (3) كشف الغمة 2: 92. وقال في حلية الأولياء 2: 39: قال الشيخ: ومن ناسكات الأصفياء، وصفيات الأتقياء فاطمة، السيدة البتول، البضعة الشبيهة بالرسول، ألوط أولاده بقلبه لصوقا، وأولهم بعد وفاته لحوقا، كانت عن الدنيا ومتعتها عازفة، وبغوامض عيوب الدنيا وآفاتها عارفة. (*)

[ 48 ]

كما في الأخبار الكثيرة، وهي مكتوبة على ساق العرش قبل أن يخلق الله آدم بسبعة آلاف سنة، وهي أكرم الخلق على الله، وما سأل الله عبد بحقهم الا استجاب له، قال النبي (صلى الله عليه وآله): والله لو أقسم أهل الأرض بهذه الأسماء لأجابهم الله (1). وذكر أيضا في الكتاب المسطور الحديث السابق المذكور في بكاء فاطمة عند وفاة أبيها، ثم ضحكها وسرورها وبيان وجه البكاء، وهو خبر وفاة أبيها، وسر الضحك والسرور، وهو اخباره (صلى الله عليه وآله) بعدم طول حياتها بعده ولحوقها به بعد ايام قليلة، واستبشارها بتلك البشارة، ثم قال: فدل مضمون هذا الخبر على ان فاطمة (عليها السلام) سليلة النبوة، ورضيعة در الكرم والفتوة، ودرة صدف الفخار، وغرة شمس النهار، وذبالة مشكاة الأنوار، وصفوة الشرف والجود، وواسطة قلادة الوجود، ونقطة دائرة المفاخر، وقمر هالة المآثر، الزهرة الزهراء، والغرة الغراء، العالية في المحل الأعلى، الحالة في المرتبة العلياء، السامية بالمكانة المكينة في عالم السماء. المضيئة بالأنوار المنيرة، المستغنية باسمها عن عدها ورسمها، قرة عين أبيها، وقرار قلب امها، الحالية بجواهر علاها، العاطلة من زخرف دنياها، سيدة النساء، جمال الآباء وشرف الأنبياء، يفخر آدم بمكانها، ويفرح نوح بعلو شأنها، ويسمو ابراهيم بكونها من نسله، ويتبجح (2) اسماعيل بها على إخوته إذ هي فرع أصله. وكانت ريحانة النبي (صلى الله عليه وآله) من بين أهله بل روحه وقلبه، فما يجاريها في مفخر الا مغلب، ولا يباريها في مجد الا مؤنب، ولا يجحد حقها الا مأفون (3)، ولا يصرف عنها وجه إخلاصه الا مغبون (4).


(1) الخصال: 639 ح 13 باب ما بعد الألف، كشف الغمة 2: 94، عنه البحار 94: 20 ح 15. (2) البجح: الفرح، وتبحح به: فخر / لسان العرب. (3) رجل أفين ومأفون أي ناقص العقل / لسان العرب. (4) كشف الغمة 2: 81. (*)

[ 49 ]

ثم ذكر كلاما طويلا حاصله ان مضمون هذا الخبر يدل على كونها (عليها السلام) أشرف من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ما خلا خاتم النبيين وسيد المرسلين، وزوجها أمير المؤمنين وأولاده المعصومين (عليهم السلام). وذلك لانها قد ضحكت بوعد لقاء ربها، وتبشرت بقرب زمان موتها، ولم يظهر هذا الشأن من أحد من الأنبياء العظام، فان آدم (عليه السلام) أبا البشر بعد ملاحظة أعمار الأنبياء من أولاده حين أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، رأى ان عمر داود (عليه السلام) قليل في الغاية، فترحم ووهب له من مدة عمره المقرر له ثلاثين سنة - أو أربعين سنة -. فلما آن وفاته مع ما كان عليه من طول عمره وامتداد حياته، حضر ملك الموت عنده ليقبض روحه، وكان عمره المقرر له معينا عنده بتعيين الله له، فقال: قد بقي من عمري مدة ثلاثين سنة، قال ملك الموت (عليه السلام): قد وهبتها في الذر لابنك داود، فهل ترجع في هبتك في هذه النشأة ؟ فقال آدم (عليه السلام): أنا لا أتذكر ما ذكرته. وفي خبر عن النبي (صلى الله عليه وآله): انه جحد فجحدت ذريته (1). وورد في الأخبار ان بعد هذه المقدمة قرر الله تعالى على بني آدم الحكم بكتابة الكتابة في المعاملات الواقعة بينهم حتى تكون حجة عند عدم المذاكرة، وان من وصل رحمه زاد في عمره ثلاثون سنة، ومن قطعه نقص منه بقدر تلك المدة (2). وان نوحا الذي كان شيخ الأنبياء، وأطولهم عمرا وأكثرهم سنا، حتى ورد ان عمره بلغ ألفين وخمسمائة سنة، ولبث من تلك المدة في قومه ألف سنة الا خمسين عاما يدعوهم الى الايمان فلا يجيبونه، قال في مرض موته استقلالا لما مر عليه من الحياة الدنيوية: ما رأيت الدنيا الا مثل دار لها بابان، دخلت من أحدهما


(1) تاريخ الطبري 1: 98 / في وفاة آدم (عليه السلام). (2) الانوار النعمانية 4: 202 عن الصدوق. (*)

[ 50 ]

وخرجت من الآخر، فاستقل العمر الطويل الذي به عمر (1). وان ابراهيم (عليه السلام) سأل ربه ألا يقبض روحه حتى يسأله، ولم يسأله ذلك حتى رأى يوما رجلا في غاية الكهولة على هيئة منكرة، يسيل لعاب فمه الى لحيته، ويتلطخ به سبلته، وقد حضر على ضيافة ابراهيم ومائدته، وكان كلما يضع لقمة في فيه ويزدردها سقطت من الجانب الأسفل من ساعته بلا تحليل في اللقمة، على غير اختيار من الرجل. فقال له (عليه السلام): يا شيخ ما حالك وما بالك حتى صرت كذلك ؟ فقال: اني ابتليت بغاية الهرم والكبر، فزال مني القوة الماسكة والهاضمة والقوى الاخر فصرت كما ترى، فقال: هذا آخر الهرم لكل من الورى ؟ قال: نعم، فاستنكر ابراهيم (عليه السلام) هذا الحال وسأل حينئذ من الله الموت والارتحال، وكان الرجل ملكا أتى إليه في تلك الصورة (2). وفي خبر آخر قال ابراهيم (عليه السلام) له: كم عمرك ؟ فأخبره بما يزيد على عمر ابراهيم (عليه السلام) سنة، فاسترجع وقال: أنا أصير بعد سنة الى هذه الحالة، فسأل الموت من الله سبحانه (3). وفي خبر آخر انه لم يرض بقبض ملك الموت لروحه في بادى الحالة، فقال ملك الموت: يا ابراهيم الخليل ألا يرضى الخليل بلقاء الخليل، فرضى بعده (4). وان موسى (عليه السلام) لما جاءه ملك الموت لقبض روحه لم يرض بذلك، ورجع ملك الموت فقال: رب انك أرسلتني الى عبد لا يحب الموت، فأوحى الله الى موسى أن ضع يدك على متن ثور، فلك بكل شعرة دارات يدك عليها عمر سنة، فقال (عليه السلام): ثم ماذا ؟ فقال: الموت، فقال لملك الموت: انته الى أمر


(1) كشف الغمة 2: 82 / في فضائل فاطمة (عليها السلام). (2) تاريخ الطبري 1: 187 / في وفاة ابراهيم (عليه السلام)، نحوه. (3) كشف الغمة 2: 82 / في فضائل فاطمة (عليها السلام). (4) الأنوار النعمانية 4: 204. (*)

[ 51 ]

ربك، فقبضه (1). وروى العامة في هذا الخبر ان موسى (عليه السلام) لطم ملك الموت في اول الحالة أو وكزه، فأعوره فأعطاه الله عينه، وأرجعه بالوحي المذكور إليه، الى آخر الرواية (2). وفي رواية اخرى ان موسى لما لم يطع ملك الموت في قبض روحه سار ذاهبا في الأرض، فرأى أحدا يحفر قبرا، فقال: لمن تحفر هذا القبر ؟ قال: لأحد من أولياء الله، قال موسى (عليه السلام) فأعينك على حفره. فلما تم الحفر قال موسى (عليه السلام): فأنا أرقد فيه فأنظر هل بقي منه نقصان لنتمه، فلما رقد في القبر مستلقيا نزل ملك الموت فقبضه هناك، وكان هذا الحافر واحدا من الملائكة (3). فانظر ما نسبه اولئك الأنعام الى الأنبياء العظام، امناء الملك العلام سيما اولو العزم منهم، وليس ذلك بعجيب ممن رأسهم الذنب. وبالجملة فليس نفس من النفوس الانسانية الا وهي كارهة للموت لا محالة، إذ هو هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وموتم البنين والبنات مع استيناس الأرواح الى الأبدان العنصرية، وميل الطباع البشرية الى الحياة الدنيوية، ولو مع صفة النبوة والرسالة كطباع الأنبياء والكرام (عليهم السلام) حيث انهم على شرف مقاديرهم، وعظم أخطارهم ومكانتهم من الله تعالى، ومنازلهم من محال قدسه، وعلمهم بما يؤول إليه أحوالهم، وتنتهي إليه امورهم، أحبوا الحياة ومالوا إليها، وكرهوا الموت ونفروا منه لما اشير إليه من الاستيناس، إذ انقطاع الانس خطب جسيم وعذاب أليم، بل جميع الآلام الدنيوية والاخروية راجعة الى انقطاع الانس البتة.


(1) كشف الغمة 2: 82 / في فضائل فاطمة (عليما السلام). الأنوار النعمانية 4: 205. (2) راجع تاريخ الطبري 1: 256 / في وفاة موسى (عليه السلام). (3) نحوه الأنوار النعمانية 4: 204. (*)

[ 52 ]

وفاطمة (عليها السلام) كانت فتاة فتية في عنفوان الشباب والفتوة، ولها زوج كريم، وأولاد صغار أطياب أطهار مع تعلق قلبها بهم في الغاية، وميلها إليهم في النهاية، ولم تقض من الدنيا اربا، ولا من لذائذها وطرا، ومع ذلك كله فإذا بشرت بسرعة اللحاق الى دار القرار، والمفارقة من الدنيا وزوجها وأطفالها الصغار تبشرت، ومن غاية السرور الطارئ لها ضحكت. فلاحظ حالها مع حال اولئك الأنبياء العظام، والرسل الكرام، وامناء الملك العلام، فهم في أي واد وهي (عليها السلام) في أي واد (1)، وان هذا والله أمر عظيم لا يحيط الانس بصفته، ولا يهتدي القلوب الى معرفته، وما ذلك الا لأمر جعله الله في أهل هذا البيت الكريم، وسر أوجب لهم مزية التقديم، فخصهم بباهر معجزاته، وأظهر فيهم آثار بيناته، وأيدهم ببراهينه الصادعة، ودلالاته الساطعة، والله أعلم حيث يجعل رسالته. تتميم الكلام في بعض فضائل الزهراء (عليها السلام): قد اتفق المخالف والمؤالف على انه كلما جاءت فاطمة (عليها السلام) الى مجلس أبيها قام إليها وقبلها وأجلسها في مكانه وعظمها، وهي أيضا كانت تفعل كذلك بأبيها كلما جاء إليها، ولكن العجب من الأمر السابق لا اللاحق، وما ذلك الا من جهة ان لها عند الله فضلا عظيما ومقاما كريما، والا فقد أمر الله بتعظيم الولد للوالد لا بعكس القضية، وهو بضد ما أمر به امته. قال علي بن عيسى الأربلي في هذا المقام: ولولا ان فاطمة (عليها السلام) سرا الهيا ومعنى لاهوتيا لكان لها اسوة بسائر أولاده (صلى الله عليه وآله)، ولقاربوا منزلتها عنده، ولكن الله يصطفي من يشاء (2). قال: وفضل فاطمة (عليها السلام) مشهور، ومحلها من الشرف من أظهر


(1) ولنعم ما قيل بالفارسية: ميان ماه من تا ماه گردون * تفاوت از زمين تاآسمان است (2) كشف الغمة 2: 90 / في فضائل فاطمة (عليها السلام). (*)

[ 53 ]

الامور، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يعظم شأنها، ويرفع مكانها، وكان يكنيها بام أبيها، ويحلها من محبته محلا لا يقاربها فيه أحد ولا يوازيها (1). وعن عائشة انه قال علي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لما جلس بين علي وفاطمة وهما مضطجعان: أينا أحب اليك أنا أو هي ؟ فقال (صلى الله عليه وآله): هي أحب الي منك، وأنت أعز لي منها (2). وفي خبر آخر لفاطمة (عليها السلام): لك حلاوة الولد وله ثمر الرجال، وهو أحب الي منك (3). وعن عائشة أيضا: ما كان أحد أصدق لهجة من فاطمة الا الذي ولدها (4). وعنها أيضا: ما كان أحد أشبه برسول الله (صلى الله عليه وآله) كلاما وحديثا منها (5). وعن ام سلمة: كانت فاطمة (عليها السلام) أشبه الناس شبها ووجها برسول الله (صلى الله عليه وآله) (6). وعن حذيفة بن اليمان قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله) لا ينام حتى يعرض وجهه الى فاطمة، أو يجعل وجهه بين ثدييها (7). وعن الصادق (عليه السلام) مثله، وكان (صلى الله عليه وآله) يقول كثيرا:


(1) المصدر نفسه. (2) مقتل الحسين للخوارزمي: 69، مناقب ابن شهرآشوب 3: 331، عنه البحار 43: 38 ح 40، كشف الغمة 2: 90. كفاية الطالب: 309، كنز العمال 6: 393، ذخائر العقبي 29، الصواعق: 290. (3) مناقب ابن شهرآشوب 3: 331، عنه البحار 43: 38 ح 40. (4) مستدرك الحاكم 3: 175 ح 4756، ذخائر العقبى: 44، مقتل الحسين للخوارزمي: 56، الاستيعاب 4: 377، حلية الاولياء 2: 41، كشف الغمة 2: 100. (5) الذرية الطاهرة: 140 ح 175، ذخائر العقبى: 41، أمالي الطوسي: 400 ح 892، عنه البحار 43: 25 ح 22. (6) كشف الغمة 2: 100، عنه البحار 43: 55 ح 48. (7) مقتل الحسين للخوارزمي: 66، كشف الغمة 1: 95، عنه البحار 43: 55 ح 48. (*

[ 54 ]

فداها أبوها ثلاثا أو أكثر (1). وعن طرق أصحابنا، عن ابن عباس انه (صلى الله عليه وآله) قال: لن يركب يوم القيامة الا أربعة، أنا وعلي وفاطمة وصالح نبي الله، فأنا على البراق، وعلي على الدلدل، وفاطمة ابنتي على ناقتي العضباء، وصالح نبي الله على ناقته (2). وعن ابن عمر وغيره: ان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا أراد سفرا كان آخر الناس عهدا بفاطمة، وإذا قدم كان اول الناس عهدا لفاطمة (عليها السلام) (3). وعن ثوبان مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا سافر كان آخر عهده بانسان من أهله فاطمة، واول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة (عليها السلام)، قال: فقدم من غزاة فأتاها فإذا هو بمسح على بابها، ورأى على الحسن والحسين (عليهما السلام) قلبين من فضة، فرجع ولم يدخل عليها. فلما رأت ذلك فاطمة (عليها السلام) ظنت انه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر، ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما، فبكى الصبيان فقسمته بينهما فانطلقا الى النبي (صلى الله عليه وآله) وهما يبكيان، فأخذه النبي (صلى الله عليه وآله) منهما وقال: يا ثوبان اذهب بهذا الى بني فلان - أهل بيت في المدينة - واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج، وفرق الباقي على بني فلان - أهل بيت فقراء بالمدينة - فان هؤلاء أهل بيتي ولا احب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا (4).


(1) راجع البحار 43: 20 ضمن حديث 7. (2) الخصال: 204 ح 20 باب الاربعة، عنه البحار 11: 380 ح 6. (3) مناقب ابن شهرآشوب 3: 333، عنه البحار 43: 40 ح 41، السنن الكبرى 1: 26 ح 3 باب المنع من الادهان في عظام الفيلة، ذخائر العقبى: 37، نظم درر السمطين: 177. (4) مسند احمد 6: 370 ح 21858، عنه كشف الغمة 2: 78، عنه البحار 43: 89 ح 10، مناقب ابن شهرآشوب 3: 343 / في سيرتها (عليها السلام)، الصواعق المحرفة: 277، المحجة البيضاء 4: 208. (*)

[ 55 ]

وعن طرق العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله): اول شخص يدخل الجنة فاطمة (1). وعنه (صلى الله عليه وآله) أيضا عن جبرئيل: ان الله تعالى لما زوج فاطمة عليا (عليهما السلام) أمر رضوان فأمر شجرة طوبى، فحملت رقاعا لمحبي آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ثم أمطرها ملائكة من نور بعدد تلك الرقاع، فأخذ تلك الملائكة الرقاع، فإذا كان يوم القيامة واستوت بأهلها أهبط الله الملائكة بتلك الرقاع، فإذا لقى ملك من هؤلاء الملائكة رجلا من محبي آل محمد (صلى الله عليه وآله) دفع إليه رقعة براءة من النار (2). وفي خبر الأعرابي عن النبي (صلى الله عليه وآله) بعد دعاء الأعرابي لفاطمة حين أعطته عقدها، وأخذه منه عمار بقدر كفاف الأعرابي من الذهب والفضة والزاد والراحلة، وأمره النبي (صلى الله عليه وآله) بدعائه لفاطمة (عليها السلام)، فقال: " اللهم انك إله ما استحدثناك، ولا إله لنا نعبده سواك، وأنت رازقنا على كل الجهات، اللهم اعط فاطمة مالا عين رأت، ولا أذن سمعت ". فأمن النبي (صلى الله عليه وآله) على دعائه، ثم أقبل الى أصحابه فقال: ان الله تعالى قد أعطى فاطمة في الدنيا ذلك، أنا أبوها وما أحد من العالمين مثلي، وعلي بعلها ولولا علي ما كان لفاطمة كفو أبدا، وأعطاها الحسن والحسين وما للعالمين مثلهما، سيدا أسباط الأنبياء، وسيدا شباب أهل الجنة (3). وعن الصادق (عليه السلام): إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش:


(1) مقتل الحسين للخوارزمي: 56، الفردوس 1: 38 ح 81، نظم درر السمطين: 180، الخصائص الكبرى للسيوطي 2: 225، مسند فاطمة الزهراء (عليها السلام): 52 ح 114، مناقب ابن شهرآشوب 3: 329، عنه البحار 43: 44 ح 44. (2) مقتل الحسين للخوارزمي: 60، ينابيع المودة: 208 في تزويج فاطمة، مناقب ابن شهرآشوب 3: 328، عنه البحار 43: 45 ح 44. (3) البحار 43: 57 ح 50، عن بشارة المصطفى: 138 - 139. (*)

[ 56 ]

يا معشر الخلائق غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) حبيب الله الى قصرها، فتمر امي فاطمة وعليها ريطتان خضراوان، حواليها سبعون ألف حوراء، فإذا بلغت الى باب قصرها - وفي خبر آخر: الى باب الجنة - رأت جدي الحسين (عليه السلام) قائما عنده مقطوع الرأس ومعه الحسن (عليه السلام)، فتقول للحسن (عليه السلام): من هذا ؟ فيقول: هذا أخي، ان امة أبيك قتلوه وقطعوا رأسه. فيأتيها النداء من عند الله سبحانه: يا بنت حبيب الله اني انما أريتك ما فعلت به امة أبيك لأني ادخرت لك عندي تعزية بمصيبتك فيه، اني جعلت تعزيتك اليوم اني لا أنظر في محاسبة العباد حتى تدخلي الجنة أنت وذريتك وشيعتك، ومن أولاكم معروفا ممن ليس هو من شيعتك، قبل أن أنظر في محاسبة العباد. فتدخل فاطمة (عليها السلام) امي الجنة وذريتها وشيعتها، ومن أولاهم معروفا ممن ليس هو من شيعتها، وهو قول الله تعالى: * (لا يحزنهم الفزع الاكبر - أي هول يوم القيامة - وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون) * (1) هي والله فاطمة وذريتها وشيعتها، ومن أولاهم معروفا ممن ليس من شيعتها (2). وعن جابر قال: قلت للباقر (عليه السلام): جعلت فداك حدثني بحديث في فضل جدتك فاطمة (عليها السلام) إذا أنا حدثت الشيعة فرحوا بذلك. قال (عليه السلام): حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه إذا كان يوم القيامة نصب للأنبياء والرسل منابر من نور، فيكون منبري أعلى منابرهم يوم القيامة، ثم يقول الله: يا محمد اخطب، فأخطب بخطبة لم يسمع أحد من الأنبياء والرسل بمثلها. ثم ينصب للأوصياء منابر من نور، وينصب لوصيي علي بن أبي طالب في أوساطهم منبر من نور، فيكون منبره أعلى منابرهم، ثم يقول الله تعالى: يا علي


(1) الأنبياء: 102 و 103. (2) تفسير الفرات: 269 ح 362 عنه البحار 43: 62 ح 54. (*)

[ 57 ]

اخطب فيخطب بخطبة لم يسمع أحد من الأوصياء والرسل بمثلها. ثم ينصب لأولاد الأنبياء والمرسلين مثلها، ثم ينادي المنادي وهو جبرئيل: أين فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) ؟ أين خديجة بنت خويلد ؟ أين مريم بنت عمران ؟ أين آسية بنت مزاحم ؟ أين كلثوم ام يحيى بن زكريا ؟ فيقمن، فيقول الله تعالى: يا أهل الجمع لمن الكرم اليوم ؟ فيقول محمد وعلي والحسن والحسين: لله الواحد القهار. فيقول الله تعالى: يا أهل الجمع اني قد جعلت الكرم لمحمد وعلي والحسن والحسين وفاطمة، يا أهل الجمع طأطئوا الرؤوس وغضوا الأبصار، فان هذه فاطمة تسير الى الجنة. فيأتها جبرئيل بناقة من نوق الجنة، مدبجة الجنبين، خطامها من اللؤلؤ المخفق الرطب، عليها رحل من المرجان، فتناخ بين يديها فتركبها، فيبعث إليها مائة ألف ملك فيسيرون عن يمينها، ويبعث إليها مائة ألف ملك أيضا فيسيرون على يسارها، ويرسل إليها مائة ألف ملك يحملونها على أجنحتهم حتى يصيرونها على باب الجنة. فإذا صارت عند باب الجنة تلتفت، فيقول الله تعالى: يا بنت حبيبي ما التفاتك وقد أمرت بك الى الجنة ؟ فتقول: يا رب أحببت أن يعرف قدري في مثل هذا اليوم، فيقول الله تعالى: يا بنت حبيبي ارجعي فانظري من كان في قلبه حب لك ولأحد من ذريتك خذي بيده فأدخليه الجنة. قال أبو جعفر (عليه السلام): والله يا جابر انها ذلك اليوم لتلقط شيعتها ومحبيها كما تلتقط الطير الحب الجيد من الردي، فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة يلقى الله في قلوبهم أن يلتفتوا، فإذا التفتوا فيقول الله تعالى: يا أحبائي ما التفاتكم وقد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي ؟ فيقولون: يا رب أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم، فيقول الله: يا أحبائي ارجعوا وانظروا من أحبكم لحب فاطمة، انظروا من أعطاكم شيئا لحب


[ 58 ]

فاطمة، انظروا من سقاكم شربة في حب فاطمة، انظروا من رد عنكم غيبة في حب فاطمة، خذوا بيده وأدخلوه الجنة. قال أبو جعفر (عليه السلام): والله لا يبقى في الناس الا مشرك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى: * (فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم) * (1) (2). وحديث اتحاف فاطمة (عليها السلام) لسلمان من تحف الجنة مشهور، حيث أتت إليها ثلاث من الحور العين: مقدودة لمقداد، وذرة لأبي ذر، وسلمى لسلمان، مع رطب من الجنة، فأعطت شيئا منه لسلمان وقالت: افطر عليه عشيتك وجئني غدا بنواه - وكان يفور منه رائحة المسك -. فلما أفطر به الليل فلم يجد له نواة، فمضى إليها من الغدو وأخبرها بذلك قالت: يا سلمان ولن يكون له عجم ولا نوى، وانما هو نخل غرسه الله في دار السلام بكلام علمنيه أبي محمد (صلى الله عليه وآله)، كنت أقوله غدوة وعشية. قال سلمان: قلت: علميني الكلام يا سيدتي، فقالت: إن سرك أن لا يمسك أذى الحمى ما عشت في دار الدنيا فواظب عليه، ثم قال سلمان: علميني هذا الحرز، فقالت: " بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله النور... " الى آخر ما يأتي في جملة أدعيتها (عليها السلام) (3). وروي عن علي (عليه السلام) في خبر طويل ما حاصله انه قال: كنا جلوسا عند النبي (صلى الله عليه وآله) فقال لنا: أي شئ خير للنساء ؟ فعجز الحاضرون عن الجواب، فرجعت أنا الى فاطمة (عليها السلام) وقصصت لها الواقعة، فقالت: ان أولى الأشياء بالمرأة أن لا يراها أحد ولا ترى أحدا، فرجعت الى النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبرته ذلك، فقال: يا علي من أخبرك بذلك ؟ فقلت: فاطمة،


(1) الشعراء:، 100 و 101. (2) تفسير فرات: 298 ح 403، عنه البحار 43: 64 ح 57. (3) مهج الدعوات: 5 / حرز فاطمة (عليها السلام)، عنه البحار 43: 67 ح 59. (*

[ 59 ]

فقال (صلى الله عليه وآله): فاطمة بضعة مني... (1). توضيح: ولا يذهب عليك ان عليا (عليه السلام) لم يكن جاهلا بجواب المسألة البتة، بل انما فعل كذلك ليظهر للناس مرتبة فاطمة (عليها السلام) في الفضيلة، ويظهر النبي (صلى الله عليه وآله) بعض فضلها على الناس ليكون ذلك حجة فيما بعده لمن بعده. قيل: وفي قوله (صلى الله عليه وآله): (فاطمة بضعة مني)، اشارة لطيفة الى ان فاطمة (عليها السلام) مرتبة من مراتب ظهوره (صلى الله عليه وآله)، ومقام من مقامات نوره، فهي (عليها السلام) كانت تتكلم من علومه، وتخبر عن مكنونات ضميره الذي هو البحر المستدير على نفسه. آب از دريا به دريا مى رود * از همانجا كآمد آنجا مى رود وقد قال (صلى الله عليه وآله) في الخبر المروي عن مجاهد ان النبي (صلى الله عليه وآله) خرج يوما وبيده يد فاطمة (عليها السلام)، قال: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني... (2). والحال انه (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): يا علي أنت نفسي التي بين جنبي، فجعل عليا (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) روحه. وقد اطلق النفس على علي كثيرا في الايات والأخبار، تارة بالنسبة الى النبي المختار كالخبر السابق، وقوله تعالى: * (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) * (3) فان المراد هنا من النفس المنسوب الى النبي (صلى الله عليه وآله) هو علي (عليه السلام)، كما ورد في الأخبار من طرق


(1) كشف الغمة 2: 94، عنه البحار 43: 54 ح 48، شرح الأخبار 3: 30 ح 970، مناقب ابن شهرآشوب 3: 332. (2) كشف الغمة 2: 94، عنه البحار 43: 54 ح 48. (3) آل عمران: 61. (*)

[ 60 ]

الخاصة والعامة، وسيأتي بيانه فيما بعد في توجيه الحديث المشهور المنسوب الى الرضا (عليه السلام) مع المأمون، حيث قال المأمون: ما الدليل على ولاية جدك ؟ قال (عليه السلام): آية أنفسنا. وتارة بالنسبة الى الله تعالى، مثل قوله (عليه السلام) في الزيارة السابعة من كتاب تحفة الزائرين للمجلسي (رحمه الله): " السلام على نفس الله القائمة فيه بالسنن " (1). وفي الزيارة الاخرى: " السلام على نفس الله العليا، وشجرة طوبى، وسدرة المنتهى، والمثل الأعلى "، ومثل قوله تعالى: * (ويحذركم الله نفسه) * (2) أي يحذركم أن تعتدوا عن طاعة علي (عليه السلام)، أو أن تغصبوا خلافته، أو أن تنكروا ولايته. وفسر نفس الله بالنبي (صلى الله عليه وآله) أيضا ولا منافاة بينهما ولا مغايرة، سيما مع ما اشير إليه ان عليا (عليه السلام) هو نفس النبي (صلى الله عليه وآله) في الخبر والآية، وعلى هذا النحو قوله تعالى حكاية عن عيسى (عليه السلام): * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) * (3). وبالجملة فالغرض ان عليا (عليه السلام) اطلق عليه لفظ النفس، وفاطمة (عليها السلام) اطلق عليها لفظ الروح، والروح وإن كان في الظاهر أعلى مرتبة من النفس الا انها أمر اعتباري في البين، وبرزخ حاجز بين البحرين، بخلاف النفس فان لها تأصلا في عالمها، واستقلالا في مقامها، وهي مظهر تفاصيل الآثار، وبحر الفيض الذي منه تنشعب الأنهار، في مقام قول علي (عليه السلام): " ينحدر عني السيل، ولا يرقى الي الطير " (4) فلا يلزم أن تكون فاطمة (عليها السلام) أشرف من


(1) تحفة الزائر: 106، البحار 100: 330 ح 29. (2) آل عمران: 28. (3) المائدة: 116. (4) نهج البلاغة، الخطبة: 3. (*)

[ 61 ]

علي (عليه السلام). وكذا الكلام في اطلاق روح الله على عيسى (عليه السلام)، ونفس الله على علي (عليه السلام)، وهذا المعنى جار في المقام سواء جعل الاضافة للاعظام، أو لنحو التشبيه في المقام، كما ان اطلاق روح الله على عيسى (عليه السلام)، وروح النبي (صلى الله عليه وآله) على فاطمة لا يدل على كون عيسى أفضل منها، فان هذه امور اعتبارية نظير الذكورة والانوثة، فان الإتسام بصفة الانوثية انما هو من جهة ترتيبها (عليها السلام) (1) بالنسبة الى العوالم الكونية من حيث كونها آخر الأنوار الأربعة عشر، ومنها تظهر وتنشأ الفيوضات الالهية. فهي مظهر التفاصيل الجارية، ومنشأ الاثار السارية، فهذه الانوثية أشرف من ألف ذكورية، والا ففي عالم الأرواح والعقول والنفوس لا ذكورية ولا انوثية، سيما بالنسبة الى تلك الأشباح النورية، ولذا قيل: وانكه از تأنيث جانرا باك نيست * روح را با مرد وزن اشراك نيست از مؤنث وز مذكر برتر است * اين نه آن جان است كز خشك وتراست فليس في مطلق الذكورية شرف بالنسبة الى الانوثية، كما ترى ان الشمس مؤنث بالنسبة الى الأحكام الظاهرة، والقمر مذكر، فهل ترى فيها جهة نقص من هذه الجهة. وما ورد في نهج البلاغة ان النساء نواقص الايمان، نواقص العقول، نواقص الحظوظ، فأما نقصان ايمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن، واما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين منهن تعدل شهادة الرجل الواحد، واما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الانصاف من مواريث الرجال، فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر (2). فهذا ونحوه انما هو بالنظر الى ما سواها (عليها السلام) من سائر الرعية، فان


(1) كذا الظاهر، وفي الأصل: تربيتها. (2) نهج البلاغة، الخطبة: 80، عنه البحار 32: 247 ح 195. (*)

[ 62 ]

جهات النقص لا تلحق ذراها ولا تبلغ مرقاها، فان شهادتها تعدل شهادة العالمين حتى الأنبياء، ولا حيض لها (عليها السلام)، ولا قعود عن الصلاة والصيام، وجميع مواريث أبيها لها في الاولى والاخرى. وعروض جهات النقص للنساء ليس الا لما ورد في الآثار المروية من ان المرأة فيها ثلثان من القوة النفسانية، وثلث واحد من القوة العقلانية، والمرء بالعكس، وجميع جهات الفيض من الارث وغيره تابعة للقوة العقلانية. واما هذه المعصومة المطهرة فليس فيها جهة نفسانية بالمرة حتى توجب النقائص المذكورة، بل هي صرف عقل وعقل صرف، ليس فيها شائبة الكدورة النفسية، ونور محض بلا شوب ظلمة بالمرة ولو مثقال ذرة: فلو كان النساء كمثل هذي * لفضلت النساء على الرجال [ ذكر المقامات الأربعة للمعصومين ] وذكر بعضهم في بيان كون علي (عليه السلام) بمنزلة نفس النبي (صلى الله عليه وآله)، بل كونه (عليه السلام) نفس الحقيقة المحمدية في كونه مظهر تفاصيل الفيوضات الالهية، ان للنبي (صلى الله عليه وآله) مقامات أربعة - كما ورد في بعض الأخبار المأثورة - وهي مقام البيان، والمعاني، والأبواب، والامامة. فالأول مقامه اللاهوتي في مرتبة الفؤاد، أي الجهة العالية من العقل الكلي، وهو مقام " لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل " واليه الاشارة في قولهم (عليهم السلام): " لنا مع الله حالات هو فيها نحن ونحن هو، وهو هو ونحن نحن "، ومن هذا المقام تنحدر سيول الفيوضات الالهية، ولا ترقى إليه طيور العقولات الكلية والجزئية. والثاني مقامه الجبروتي، وهو مرتبة العقل الكلي بنفسه من حيث هو مقام الحقيقة المحمدية، ومقام اول ما خلق الله العقل (1)، وأول ما خلق الله روحي (2)،


(1) الفردوس 1: 13 ح 4، والبحار 1: 97 ح 8. (2) البحار 57: 309، الانوار النعمانية 1: 13، كلمات مكنونة للفيض: 70. (*)

[ 63 ]

واول ما خلق الله نوري أو نور نبيك يا جابر (1)، ولا منافاة بين تلك الأخبار لصحة كل منها بوجه من الاعتبار. عباراتنا شتى وحسنك واحد * وكل الى ذاك الجمال يشير وهو محل اجتماع الفيوضات السارية والسيول الجارية، وجبرئيل وسائر الملائكة الأربعة حملة العرش دون هذه المرتبة، وبالنسبة إليها قال جبرئيل: " لو دنوت انملة لاحترقت " (2). اگر يك سر موى برتر برم * فروغ تجلى بسوزد پرم وهو اول موجود من الموجودات، واليه ينتهي الكائنات، وفيه قيل ما قيل: احمد ار بگشايد آن پر جليل * تا آبد مدهوش ماند جبرئيل والثالث مقامه الملكوتي، وهو مرتبة النفس الكلية، ومن هذا المقام تنشعب الفيوضات الالهية الى محل قرارها كالطيور الى أوكارها، وجبرئيل من أهل هذه المرتبة وخدام تلك الرتبة. والرابع مقامه الناسوتي، وهو مرتبة الجسم الكلي في عالم البشرية، فالنبوة وتبليغ الأحكام الالهية من صفات هذه المرتبة، وهي مقام * (انما أنا بشر مثلكم يوحى الي أنما إلهكم واحد) * (3). گربه ظاهر مثلكم باشد بشر * با دل يوصى الي ديده ور وبشريته هذه أعلى رتبة وصفاء ونورية بمراتب كثيرة من هذه العقول البشرية في الأنبياء والرعية. وهذه المراتب الأربعة تجري في بواقي الأنوار الأربعة عشر أيضا، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، وهم من أجزاء هذه الدائرة العالية، وسكان تلك الرتبة السامية، وإن كان بعضهم مقدما على بعض في المرتبة مع اتحاد الذوات في


(1) البحار 15: 24 ح 43 و 44، عن رياض الجنان. (2) البحار 18: 382 ح 86، عن مناقب ابن شهرآشوب 1: 179 / في معراجه (صلى الله عليه وآله). (3) فصلت: 6. (*)

[ 64 ]

الحقيقة، تقدم السراج المشتعل اولا على السراج المشتعل منه ثانيا. كما قال علي (عليه السلام): أنا من محمد كالضوء من الضوء (1)، والا فهم من نور واحد وحقيقة واحدة، كما قال (صلى الله عليه وآله): أنا وعلي من نور واحد (2). وفي حديث آخر نقله المقدس الأردبيلي (رحمه الله) قال (صلى الله عليه وآله): كنت أنا وعلي نورا بين يدي الرحمان قبل أن يخلق عرشه بأربعة عشر ألف عام - وفي رواية العوالم: قبل آدم بأربعين ألف عام - فلم نزل نتمحض في النور حتى إذا وصلنا الى حضرة العظمة في ثمانين ألف سنة، ثم خلق الله الخلائق من نورنا، فنحن صنائع الله والخلق كلهم صنائع لنا. وفي حديث آخر: والخلق بعد صنائعنا (3)، وفي خبر آخر: أنا من علي وعلي مني (4)، كما ورد: أنا من حسين وحسين مني (5)، وغير ذلك. فهم (عليهم السلام) من صنف البشر في الصورة، واما في الباطن فيعجز عن درك معناهم العقول والأفهام، ولا يبلغ إليهم طامحات الأوهام، كما قال علي (عليه السلام): ظاهري ولاية ووصاية، وباطني غيب لا يدرك (6). وقال (عليه السلام) أيضا - كما حكي عن معاني الأخبار للعلامة (رحمه الله) -: يا سلمان نزلونا عن الربوبية، وادفعوا عنا حظوظ البشرية، فانا


(1) أمالي الصدوق: 511 ح 10 مجلس 77، عنه البحار 21: 26 ح 25، وفي علل الشرائع: 172 ح 1. (2) الفردوس 2: 191 ح 2952، عنه البحار 38: 150 ح 120. (3) البحار 53: 178 ح 9 عن الاحتجاج 2: 536 ح 342، والغيبة للطوسي: 285 ح 245. (4) شرح الأخبار 1: 93 ح 8، كفاية الطالب: 274، المناقب للمغازلي 223 ح 268، كنز العمال 6: 399. الصواعق المحرقة: 188، الباب التاسع. (5) سنن الترمذي 5: 429 ح 3800، سنن ابن ماجه 1: 51 ح 144، الصواعق المحرقة: 291، كشف الغمة 2: 216، البحار 43: 295 ح 56. (6) مشارق أنوار اليقين: 70. (*)

[ 65 ]

عنها مبعدون، وعما يجوز عليكم منزهون، ثم قولوا فينا ما شئتم، فان البحر لا ينزف، وسر الغيب لا يعرف، وكلمة الله لا توصف، ومن قال هناك: لم ومم، فقد كفر. كار پاكان را قياس از خود مگير * گر چه ماند در نوشتن شير شير آن يكى شير است كآدم مى خورد * وآن يكى شيراست كآدم مى خورد جمله عالم زين سبب گمراه شد * كم كسى ز ابدال حق آگاه شد هم سرى با أنبيا برداشتند * جسم ديدند آدمى انگاشتند والمرتبة الأخيرة من الأربعة تشريعية، والثلاث الاول تكوينية، وعلي (عليه السلام) حامل المرتبة الثانية، أي مظهر آثار تلك المرتبة، وواسطة الفيوض الى جميع الموجودات ممن هو دونه، وهو مقام النفس الكلي المظهر لآثار العقل الكلي. ولا يخفى ان اطلاق نفس الله على علي (عليه السلام) في معنى اطلاق نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واطلاق نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليه في معنى ترتيب احكامها وآثارها عليه، والا فنفس علي (عليه السلام) غير نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) البتة. ولا نفس بالنسبة الى الله تعالى، فان الله تعالى أجل عن أن يكون له عقل أو نفس أو غير ذلك، وانما هي اطلاقات واقعة في عالم الامكان على معان خاصة منتسبة الى الله تعالى، واقعة في ملك الله هي مظاهر أمر الله، ولهذا نسبت الى الله تعالى، فلا يذهب بك المذاهب الباطلة، والاعتقادات الفاسدة، فان الأمر أوضح من أن يشتبه على أرباب العقول الكاملة، والأفهام الفاضلة. فصل: في تحقيق الحديث المشهور الدائر في الألسنة، المستدل به على كون علي أمير المؤمنين (عليه السلام) هو نفس النبي (صلى الله عليه وآله)، وانه المراد من أنفسنا في الاية. وهو ما نقل انه سأل المأمون الرضا (عليه السلام)، فقال: ما الدليل على ولاية


[ 66 ]

جدك ؟ قال (عليه السلام): آية أنفسنا، فقال المأمون: لولا نساءنا، فقال الرضا (عليه السلام): لولا أبناءنا، فسكت المأمون (1). وفي نقل آخر بالعكس في الفقرتين الاخيرتين، أي انه قال المأمون: لولا أبناءنا، فقال الرضا (عليه السلام): لولا نساءنا. وهذا الخبر وإن لم يذكر في شئ من الكتب المعتمدة المعروفة، وانما اسند الى حاشية نسخة من كتاب عيون أخبار الرضا في الخزانة الرضوية في المشهد الرضوي. وذكر لي بعض العلماء في المشهد الحسيني: انه رآه في بعض كتب السيد الجزائري (رحمه الله)، ونقل والدي (طاب ثراه) انه وجده في حاشية نسخة من كتاب مصباح الكفعمي، كانت عند بعض الأعيان في بلدة تبريز. وسمعت من بعض علماء تلك البلدة: انه موجود في بعض مصنفات الشيخ الحر العاملي (رحمه الله)، وبالجملة لم أظفر أنا بهذا الخبر في شئ من الكتب المعروفة أو غير المعروفة، وكلما ذكر مجرد سماع وحكاية، الا انه لابد من التأمل في معنى الخبر وتوجيهه بناء على وروده وصحته. فنقول: لا اشكال في وجه الاستدلال بآية أنفسنا، وهي قوله تعالى: * (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * (2)، والآية نازلة في مقام مباهلة النبي (صلى الله عليه وآله) مع نصارى نجران من مضافات اليمن حين جاؤوا إليه للمعارضة، والقصة مشهورة. ووجه عدم الاشكال في وجه الاستدلال: انه قد قام الاجماع من الامة على ان المدعوين في هذا اليوم للمباهلة لم يكونوا الا أربعة نفر، وهم علي والحسنان وفاطمة، لا غيرهم من الامة، وظاهر الدعوة أيضا أن يكون الداعي غير المدعو،


(1) راجع أسرار الشهادة: 148. (2) آل عمران: 61. (*)

[ 67 ]

فلابد أن لا يراد من أنفسنا الا علي وحده، كما ادعي الاجماع على ذلك منا ومن العامة أيضا. كما ان المراد من (أبناءنا) الحسنان وحدهما، كما اعترف به ابن أبي الحديد أيضا في شرح نهج البلاغة، مدعيا عليه الاجماع (1)، ويكون المراد من (نساءنا) هو فاطمة (عليها السلام)، وهو الظاهر من سياق الاية أيضا في المرحلة، فيكون حينئذ علي (عليه السلام) نفس الرسول حقيقة بنوع من التوجيه، كما هو ظاهر الاطلاق، أو مجازا من باب الاستعارة. فعلى الأول فالدلالة على ولايته (عليه السلام) واضحة، وعلى الثاني كذلك بملاحظة انه جعل علي مشبها بنفس الرسول، فاطلق عليه النفس، فيثبت عليه جميع أوصاف الرسول (صلى الله عليه وآله) الا ما خرج بالدليل، أو الأوصاف الظاهرة التي من جملتها الولاية، فان عموم التشبيه في الجملة أمر ثابت بالأدلة كعموم المنزلة في قوله (صلى الله عليه وآله): يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي (2). وذلك كما لو قيل: زيد أسد، فيقال: قد شبه زيد بالأسد، ولابد أن يثبت للمشبه جميع الأوصاف الظاهرة في المشبه به كالشجاعة وغيرها، وهي وجه الشبه، فان لم تكن هناك أوصاف ظاهرة مشهورة، فيحمل على كون وجه الشبه جميع الأوصاف الثابتة من باب عموم الحكمة. ومن هذا الباب قوله (عليه السلام): الطواف بالبيت صلاة (3). ولهذا استدلوا به على كون الطواف مشروطا بالطهارة أيضا كالصلاة، وكذلك الحال في الاستعارة،


(1) شرح نهج البلاغة 11: 26 باب 200. (2) لهذا الحديث مصادر كثيرة، منها: صحيح مسلم 4: 108، صحيح البخاري 5: 3 و 24، مسند احمد 1: 170 و 173 صحيح الترمذي 2: 30، ذخائر العقبى: 120، كنز العمال 6: 402، نهج الحق: 216، الفردوس 5: 327 ح 8331. (3) التهذيب للطوسي 5: 116 ح 51، والاستبصار 2: 241 ح 2، والوسائل 9: 445 ح 6. (*)

[ 68 ]

وهي ما لم يذكر فيه المشبه، وانما اطلق المشبه به واريد به المشبه، كما في نحو: (رأيت أسدا) مرادا به زيد، وإن كان نحو زيد أسد استعارة على وجه ضعيف، وبالجملة فالاستعارة أيضا كالتشبيه لكونها مبتنية عليه أيضا كما قرر في محله. واما اعتراض المأمون على النقل الأول المشهور الظاهر بملاحظة سوق الاية، فوجهه ان مراده ان (نساءنا) ظاهر في نفسه في معنى الطائفة الاناثية، فيكون المراد من (أنفسنا) هي الذكور بقرينة المقابلة، فيكون المراد دعوة الذكور والاناث بلا خصوصية صفة النفسية مجازا أو حقيقة. فقال الامام (عليه السلام) عند اعتراضه هذا: لولا أبناءنا، يعني لو كان المراد من النساء الاناث مطلقا، ومن أنفسنا الذكور لدخل الحسنان (عليهما السلام) في أنفسنا أيضا، فلم يبق وجه لذكرهما على حدة بلفظ (أبناءنا)، فليس لفظ (نساءنا) مستعملا في معنى اناثنا مطلقا ليكون (أنفسنا) في مقابله مستعملا في معنى ذكورنا، فبقى الاستدلال السابق في محله، ولم يقدح فيه الاحتمال اللاحق. ويجوز أن يكون مراد الرضا (عليه السلام) دخول علي (عليه السلام) في (أنفسنا) مع النبي (صلى الله عليه وآله)، ويكون مراد المأمون بقوله: لولا (نساءنا) ان لفظ نساء جمع اطلق على الواحد للتعظيم أو لمطابقة المضاف إليه، فليكن (أنفسنا) كذلك، ويراد به نفس النبي (صلى الله عليه وآله) وحده بلا دخول علي (عليه السلام) فيه، ويكون الدعوة حينئذ مبتنية على المسامحة، فيكون مراد الرضا (عليه السلام) من قوله: لولا (أبناءنا) ان لفظ الأبناء اطلق على الاثنين، فليكن (أنفسنا) أيضا كذلك، لكونه أنسب لمعنى الجمعية المناسبة للتعدد، مع كون الدعوة حينئذ بعيدا عن المسامحة في الجملة. أو يكون مراد الرضا (عليه السلام) ان ظاهر الاطلاق في (أنفسنا) الذي اريد به علي (عليه السلام) البتة، هو الحقيقة ولو بالادعاء لا الحقيقة، فيترتب عليه الأحكام التي منها الولاية، ويكون مراد المأمون ان (نساءنا) في البنت مجاز، فليكن الأنفس مجازا في علي (عليه السلام)، فلا يترتب عليه أحكام الحقيقة، إذ الاطلاق


[ 69 ]

المجازي مبناه على المسامحة، ويكون مراد الرضا (عليه السلام) ان (أبناءنا) حقيقة في الحسنين، فكذلك (أنفسنا) في علي (عليه السلام) لتقدم الحقيقة. أو يكون مراد الرضا (عليه السلام) ان المراد من (أنفسنا) في ابتداء الحالة عند عدم استعمال اللفظة هو علي (عليه السلام)، فيثبت له الولاية باعتبار الحقيقة، أو مجازا أيضا على ما مرت إليه الاشارة. ويكون مراد المأمون انه يحتمل في لفظ النساء ارادة نساء الامة، وإن لم يتفق الا مجئ فاطمة (عليها السلام)، فيسري هذا الاحتمال على لفظ (أنفسنا) أيضا، فيكون المراد به ذكور الامة مطلقا، وان لم يتفق الا مجئ علي (عليه السلام) وحده، ويكون مراد الرضا (عليه السلام) ان (أبناءنا) لم يرد به ابتداء الا الحسنان لا أبناء الامة باجماع المسلمين حتى العامة، فليكن المراد من (أنفسنا) أيضا في ابتداء الحالة هو عليا (عليه السلام) وحده مع ظهور كون المدعو هو الحاضر لا غير. وذكر الفاضل الدربندي (رحمه الله) في أسرار الشهادة ما حاصله يرجع الى الوجه الأخير أو يغايره في الجملة، ولفظه بعد ايراد السؤال في حل معنى الخبر بقوله: فان قلت...، قلت: ان الجواب الأول من الامام (عليه السلام) مبني على جملة من المقدمات، وذلك من ان الحاضر عند النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن في يوم المباهلة الا أصحاب الكساء، وذلك مما عليه الاجماع من الامة، ومن انه لا يجوز تقديم المفضول على الأفضل، وهذا مما يقول به العدلية، وكان المأمون يعد نفسه منهم، ومن انه لا يجوز حمل (أنفسنا) على نفس النبي (صلى الله عليه وآله)، وذلك لوجوه عديدة. واما الاعتراض من المأمون، فالمقصود انه لم لا يجوز أن يكون المدعو جماعة من الأصحاب الا انه لم يحضر الا أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإذا احتمل هذا الاحتمال يكون من اطلق عليه (أنفسنا) جمعا من الصحابة، فحينئذ إذا قدم واحد منهم على أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يتمشى قاعدة عدم جواز


[ 70 ]

تقديم المفضول على الأفضل. فهذا الاحتمال يسده (نساءنا)، فان المدعوات كانت جماعة لولا انه لم يحضر الا فاطمة الزهراء، فإذا كانت في فقرة (نساءنا) المدعوات أعم، والحاضرة أخص لزم حمل فقرة (أنفسنا) أيضا على هذا النمط، لئلا يلزم التفكيك بين فقرات الاية. فأجاب الامام (عليه السلام) ان فقرة (أبناءنا) توجب حمل الفقرتين على كون المدعو عين الحاضر، والحاضر عين المدعو، وهكذا المدعوة عين الحاضرة، والحاضرة عين المدعوة، لأن في فقرة (أبناءنا) المدعوين عين الحاضرين، والحاضرين عين المدعوين، فخذ الكلام بمجامعه ولا تغفل (1). انتهى ما ذكره في المقام أعلى الله مقامه في دار المقام. وعلى النقل الثاني يكون مراد الرضا (عليه السلام) جعل علي نفس الرسول حقيقة لظاهر الاطلاق، وقول المأمون: لولا أبناءنا، بمعنى ان الأبناء في الحسنين مجاز، لأنهما إبنا البنت، فكذا كون علي (عليه السلام) نفسه مجاز، لا يترتب عليه حكم الحقيقة وهو الولاية، لابتناء المجاز على المسامحة. أو انه يدخل علي (عليه السلام) حينئذ في الأبناء مجازا، فقال (عليه السلام): لولا نساءنا، أي ان (نساءنا) حقيقة فكذلك (أنفسنا)، لان الأصل الحقيقة فكذلك (أبناءنا)، أو أنه يتعارض قرينتا المجاز في الأبناء والحقيقة في النساء، فيتساقطان فيبقى (أنفسنا) محتملا للأمرين ويرجح الحقيقة. أو أنه لو كان الأبناء مجازا، لكان دخول فاطمة فيها أولى من دخول علي (عليه السلام)، لكون البنت ولدا كالابن بخلاف ابن العم، ولا أقل من المناسبة الواضحة في دخولها في (أبناءنا)، فلم يبق وجه في ذكر (نساءنا) على حدة، ويمكن ابداء بعض الاحتمالات الاخر هنا بسبب التأمل في الوجوه المذكورة، ولكن فيما ذكر كفاية لأرباب البصر والبصيرة.


(1) أسرار الشهادة: 148. (*)

[ 71 ]

" تمهيد مقال لبيان حال " اعلم أن إطلاق نفس الله على علي (عليه السلام)، ومثله إطلاق روح الله على عيسى (عليه السلام)، وإن كان له وجه ظاهر يفهمه الخواص والعوام، وهو كون النسبة لمحض الإعظام والإكرام، كما يقال لبيت الله، وناقة الله، ونحو ذلك أي بيت عظيم مثلا، لأن الله تعالى عظيم، والمنسوب الى العظيم عظيم. لكن قيل ان هناك معنى على حدة لتصحيح هذه النسبة وتوجيهها، وهو ان للعالم الصغير - وهو الانسان الذي هو انموذج العالم الكبير - عوالم متدرجة مرتبة بعضها فوق بعض في الرتبة. عالم الجسم الناسوتي، ثم عالم النفس الملكوتي، ثم العقل الجبروتي، والروح غير معدود من المراتب، بل هو برزخ بين العالمين وحاجز بين البحرين، ثم الفؤاد اللاهوتي، وهو مقام مظهريته للاثار الالهية بالنسبة الى ما دونه بالتدبير والتربية، وهو عنوان لفظ الجلالة، وهو الذات المستجمع لصفات الالوهية والربوبية، أي الذات الظاهرة في عالم العنوانية، وهو عالم توجه الفؤاد الى العقل الذي هو أول مخلوقات الباري سبحانه. ثم الفؤاد اللاهوتي، أي هاهو باعتبار وجهه العالي بلا اعتبار شئ من الصفات معه، وانما يشار إليه بهو، ثم المعنى الأزلي الذي لا اسم له ولا رسم له، واطلاق المعنى عليه من جهة ضيق العبارة، والا فهو منقطع الاشارات، ومنتهى الاعتبارات. آن مگو كاندر عبارت نايدت * وين مگو كاندر اشارت نايدت وهو عالم الذات البحت البات في أزل الآزال بالنسبة الى هذا الذات، وهي الذات الحقيقية الباطنية لا الظاهرة الصورية. وهذه المراتب الستة ملحوظة في العالم الكبير أيضا، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه، على الوجه الذي مر إليه الاشارة، وهو وجه من الوجوه المنتهية الى العشرين بل الى السبعين، كما أشرنا إليها في معنى الرواية في كتابنا المسمى


[ 72 ]

ب‍ (الأصول المهمة في المعارف الدينية). فعالم الناسوت في العالم الكبير هو ما تحت الجسم الكلي الذي يدخل فيه السماوات والأرضون وما بينهما، وعالم الملكوت وهو عالم النفس الكلي بالنسبة الى هذا العالم، وعالم الجبروت، أي عالم العقل الكلي والحقيقة المحمدية. وعالم اللاهوت، أي عالم اتصاف تلك الحقيقة بصفات الربوبية والالوهية، وعالم الهاهوت، وهو عالم " لنا مع الله حالات هو فيها نحن... "، وهو عالم الوجه الأعلى من الفؤاد الذي هو الطرف الأعلى من الحقيقة المحمدية، مع قطع النظر عن النظر الى ما تحته، وهو الأزل الأسفل، والعنوان الأعلى. ثم عالم الأزل الأصلي، أي عالم الذات البحت البات الذي لا اسم له ولا رسم له، وهو في العالم وليس في العالم، ليس في مكان ولا يخلو منه مكان، لا يجري عليه الزمان ولا يخلو منه زمان. قال السيد أبو القاسم الفندرسكي: نيست حدى ونشانى كرد گار پاك را * نى برون از ماونه با ما ونه بى ماستى صورت عقلي وبى پايان وجاويدان بود * با همه وبى همه مجموعه ويكتاستى مى توانى گر ز خورشيد اين صفتها كسب كرد * روشن است وبر همه تابان وخود تنهاستى جان عالم گويمش گر ربط جان دانى به تن * در دل هر ذره هم پنهان وهم پيداستى ومقام النفس الكلي هو مقام ظهور آثار الربوبية، ومنه يجري الفيوضات الالهية الى العوالم الروحانية والجسمانية، وهذا مقام علي (عليه السلام) في العوالم التكوينية، لكونه (عليه السلام) مظهر صفات الربوبية، كما ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجمعها في مقام الاجمال، وهو مقام البطن المفصل فيه السعادة والشقاوة. وباعتبار هذه المرتبة يطلق على علي (عليه السلام) نفس الله العليا، وشجرة طوبى، وسدرة المنتهى، وباعتبارها قال علي (عليه السلام): أنا وجه الله، وعين


[ 73 ]

الله، ويد الله، وقلب الله (1)، وغير ذلك، ويكون النبي (صلى الله عليه وآله) بهذا الاعتبار عقل الله كما قيل على نحو ما اعتبر كون علي (عليه السلام) نفس الله، وإن كان اطلاق العقل هنا غير مأنوس ولا معهود ولا مأثور، فتأمل. والعقل أب والنفس ام، فهو (صلى الله عليه وآله) في مقام الاجمال أبو الامة، وعلي (عليه السلام) في مقام التفصيل امها، وجميع ما في الكون امة لهما في عالم التكوين، كهذه الامة في عالم التشريع أيضا في هذه النشأة، فهما (عليهما السلام) أبوا هذه الامة تشريعا، وأبوا جميع الامم تكوينا. فإذا كان علي (عليه السلام) نفس الله سبحانه، ظهر وجه قول عيسى (عليه السلام): * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) * (2) لأن عيسى (عليه السلام) أسفل مرتبة من علي (عليه السلام)، فلا يحيط هو بعلوم علي (عليه السلام)، وهو يحيط بعلومه، وكذا قوله تعالى: * (ويحذركم الله نفسه) * (3) أي يحذركم الله أن تولوا بغير علي، أو تتبعوا غيره. وفي الزيارة: " السلام على نفس الله العليا، وشجرة طوبى، وسدرة المنتهى، والمثل الأعلى ". قيل: وأما قول علي (عليه السلام): " أنا الذي أتقلب في الصور كيف أشاء " (4) فانما هو باعتبار مقام الامامة في عالم البشرية لا غيره، فان أجسامهم (عليهم السلام) كما اشير إليه فيما سبق أنوار لطيفة في غاية اللطافة - كما اشير إليه في الجملة - فيتصورون من جهة غاية اللطافة في أي صورة ما شاؤوا، ويكون لهم تصرف وحيطة في الكون كيفما أرادوا، ولكن لا يريدون الا أن يريد الله، ولا يشاؤون الا أن يشاء الله.


(1) التوحيد للصدوق: 164 ح 1 باب 22، عنه البحار 24: 198 ح 25. (2) المائدة: 116. (3) آل عمران: 28. (4) مشارق أنوار اليقين: 171. (*)

[ 74 ]

واستبعاد كونه (عليه السلام) متصورا كما شاء مردود بما قيل في الملك: انه جوهر مجرد نوراني يتشكل بأشكال مختلفة الا الكلب والخنزير، وفي الجن انه جوهر مجرد ناري يتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب والخنزير. ونقل في مجمع البحرين في مادة (خضر) ما حاصله: ان الله تعالى أعطى خضرا (عليه السلام) من القوة مالو شاء أن يتصور بأي صورة شاء لتصور من جهة شدة اللطافة. قيل: ومن ذلك تصور علي (عليه السلام) في كربلاء بصورة الأسد، فعانق جسد الحسين (عليه السلام) (1). ولا يلزم من ذلك عيب ولا قدح كما توهمه بعض من لا تحصيل له، إذ لو عمل الدر، أو الياقوت، أو الذهب، أو الفضة مثلا على صورة الأسد لم يضر الصورة في حقيقة شئ منها ولو مثقال ذرة، وكذا لو عمل من السكر الأبيض بهذه الصورة، وكذا النور المحض لو انقلب صورا مختلفة. نعم يلزم العيب والقدح لو تبدل الحقيقة أيضا كالصورة، وانقلبت الطبيعة بتنزل الماهية الانسانية مثلا الى الحيوانية، ولا كلام في عدم جواز القول بذلك، وما نحن فيه ليس من هذا الباب كما ظهر من الأمثلة، فلا حاجة لنا بناء على ما مر من التوجيه الى تأويل تصوره. اولا: بأن عليا (عليه السلام) ظهر متلبسا بصورة الأسد في ظاهر الصورة بظهور صورة أسدية فوق سطح الصورة الانسانية. وثانيا: بانه (عليه السلام) تصرف في جليدية البصر، أي بصر المبصرين الناظرين، فصور فيها الصورة الأسدية، وهو في الخارج في غير هذه الصورة. وثالثا: ان هذا الأسد المرئي لم يكن عليا (عليه السلام)، وانما كان من جنس الأسد المعروف، وله قصة مشهورة حاصلها: ان عليا (عليه السلام) وصاه بأن


(1) راجع أسرار الشهادة: 439، مجلس 17. (*)

[ 75 ]

يكون في حوالي الطف الى عاشوراء، ويكون حافظا لجسد الحسين (عليه السلام) عما تخيله المنافقون في خصوص تلك الجثة الشريفة. والى هذه اللطافة المستلزمة لسرعة السير، يستند معراج النبي (صلى الله عليه وآله) الى السماوات والأرضين مع التفاصيل المشهورة، بل الى النار والجنة والدنيا والاخرة، ولا يلزم الخرق والإلتئام أيضا ولو قلنا بعدم جوازهما، كما ذهب إليه جماعة، ولهذا أيضا يكون لهم شهود وحضور عند كل درة وذرة من جهة شروق آثار نورهم، وطلوع أنوار ظهورهم، شهود شعلة السراج عند ذرات الأشعة المنتشرة. جهان را سر بسر آئينه ائى دان * به هر يك ذره صد خورشيد تابان اگر يك ذره را دل بر شكافى * برون آيد از أو صد بحر صافى به زير پرده ء هر ذره پنهان * جمال جان فزاى روى جانان ولسرعتهم الحاصلة من جهة اللطافة لا يشغلهم شأن عن شأن، ولا مكان عن مكان، لارتفاع عوالمهم عن عالم التدريج والزمان، ولذا كان لسان علي (عليه السلام) يختم القرآن في دقيقة واحدة، بل لو شاء لختم ألف ألف قرآن في دقيقة، إذ لسانه الشريف الملكوتي كان من جهة اللطافة لا يمنعه حرف عن حرف لا محالة. وهو الوجه لحضورهم في جميع الأزمنة والأمكنة، بل في جميع الذرات الوجودية، كحضور عقولنا في بلاد بعيدة متعددة من السرعة المسندة الى اللطافة، والشئ كلما كان ألطف كان أسرع، كما ترى ان سرعة الماء أكثر من سرعة التراب، والهواء من الماء، والنار كضوء الشمس مثلا من الهواء، وأجسامهم الشريفة ألطف من جميع ذلك بمراتب كثيرة، كما اشير إليه غير مرة. ألا ترى ان الحرف الملقاة من طرف التلكراف تكتسب اللطافة من قوته الباطنية، فتسير في جميع أجزاء التلكراف في دقيقة واحدة، فتصل الى الطرف الاخر أسرع من رجع الطرف ومد البصر، بل تحركه في هذا الطرف عين تحركه


[ 76 ]

في الطرف الاخر ولو كان بين الطرفين ألف فرسخ البتة، فاجعله عنوانا لحضور الامام (عليه السلام) وشهوده عند كل درة وذرة. وبالجملة فنفس الله العلياء هو العلي الأعلى، وقد يعبر عنه ب‍ (عند ربه) الذي ذكر في قوله تعالى: * (قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) * (1) وهو الامام المبين الذي أحصى الله فيه كل شئ، والكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر من كل نور وفئ. وروح الله هو عيسى (عليه السلام)، وهو مظهر الروح الكلي، ولذا كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، لكن الروح ليس فيها تفصيل الفيوضات الالهية، ولا هي مجمع آثار الربوبية، بل هي ناظرة الى العقل والنفس بالتبعية، ولذا لا يسند إليها الأثر البتة الا أن تؤول بالنفس أو العقل مثلا. فلم يلزم حينئذ من هذا الاطلاق أن يكون عيسى (عليه السلام) أفضل من علي (عليه السلام)، لأن مرتبة النفس وإن كانت سافلة عن الروح في الصورة الا أن الروح ليست بنفسها مرتبة من المراتب الأصلية، ولذا كانت ناقصة، كما أن ذكورية عيسى (عليه السلام) لا توجب كونه أفضل من فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وإن كان ماهية المؤنث من حيث هي تقتضي المفضولية بالنسبة الى ماهية الذكر من حيث هي، بمقتضى قوله تعالى: * (الرجال قوامون على النساء) * (2) لوضوح كون بعض النساء أعقل من بعض الرجال وأفضل، فليس المدار على الرجولية الظاهرية، والانوثية الصورية. صورتش ديدى ز معنى غافلى * از صدف دري گزين گر عاقلي اين صدفهاى قوالب در جهان * گر چه جمله زنده اند از بهر جان ليك اندر هر صدف نبود گهر * چشم بگشا در دل هر يك نگر كأن چه دارد وين چه دارد واگزين * زانكه كم يابست اين در ثمين


(1) طه: 52. (2) النساء:، 34. (*)

[ 77 ]

" تتميم كلام في توضيح مرام " [ صور الوضع اللفظي ] اعلم ان المؤنث تطلق عرفا على ماهية يكون لها ما هي معروفة به عرفا، بالوضع العام للموضوع له العام بالنسبة الى هذا المعنى الكلي بملاحظة افراده الواقعة تحته، وبالوضع الخاص للموضوع له الخاص بملاحظة كونها ماهية متميزة عما سواها من الماهيات وغيرها. وأرباب القواعد العربية اللفظية ذكروا ان للوضع صورا أربعة، لأن اللفظ الذي اريد وضعه اما ان يلاحظ في مقابله معنى كلي أو جزئي في ابتداء وضع اللفظة، فان كان المعنى المتصور كليا فإن وضع اللفظ بازاء هذا المتصور الكلي كان الوضع عاما والموضوع له عاما أيضا، كالانسان والحيوان وسائر أسماء الأجناس، والتسمية بعموم الوضع انما هي باعتبار المعنى المتصور عنده، نظير الوصف بحال المتعلق، واما عموم الموضوع له فوجهه واضح بملاحظة الكلية الموجودة فيه. وإن وضع بازاء أفراد هذا الكلي الملحوظ بجعله عنوانا للأفراد ومرآة لملاحظتها، فالوضع عام لما ذكر والموضوع له خاص، كوضع المبهمات الثلاثة أي المضمرات، والموصولات، وأسماء الاشارة، فيكون كل من الأفراد هنا بخصوصه موضوعا له لا نفس الكلي، غاية الأمر انه لما كانت الأفراد غير محصورة جعل الكلي مرآة لها عند الملاحظة. وإن كان المعنى المتصور جزئيا كذات زيد المشخصة، ووضع اللفظ بازائه، فالوضع خاص والموضوع له خاص، وإن جعل الجزئي الخاص مرآة لملاحظة كلية كالانسان وعنوانا له، وضع اللفظ بازائه، كان الوضع خاصا والموضوع له عاما. وهذه هي الشقوق المتصورة في المرحلة، وكان مذهب القدماء صحة شقين منها، وهما الوضع العام والموضوع له العام، والوضع الخاص والموضوع له الخاص، حتى جعلوا المبهمات أيضا من باب الوضع العام والموضوع له العام، وجعلوا استعمالها في الأفراد من باب استعمال الكلي في الفرد كالانسان في زيد


[ 78 ]

مثلا، زعما منهم ان كل معنى لوحظ في حال الوضع لابد أن يكون هو الموضوع له، ولا معنى بل لا وجه في تصور معنى هناك، وجعله عنوانا لمعنى آخر ووضع اللفظ بازائه. فبقى الأمر كذلك الى زمان السيد الشريف، الملقب باستاذ البشر، والعقل الحادي عشر، فجوز هو الوضع العام والموضوع له الخاص، بملاحظة صحة جعل الكلي عنوانا لأفراده الغير المحصورة، وجعل منه المبهمات الثلاثة. واشتهر هذا بعده في كلمات المتأخرين، فأجمعوا على صحة الأقسام الثلاثة، وعلى عدم صحة القسم الرابع، أي الوضع الخاص والموضوع له العام، بملاحظة ان الخاص أمر جزئي لا يمكن أن يكون آلة لملاحظة الكلي بخلاف عكس القضية، فان الكلي لكونه أمرا عاما شاملا لأفراده يجوز جعله آلة لملاحظة جزئياته، وتفصيل الحال محقق في الاصول. ولكن الحكماء بنوا على صحة القسم الرابع أيضا، بأنه يجوز أن يجعل الجزئي عنوانا للكلي أيضا، مثلا بأن يجعل قطرة من الماء أو كوز منه عنوانا لملاحظة كلي الماء، فان الجزئي بعد طرح مشخصاته اعتبارا يكون هو الكلي لا محالة، فان زيدا بعد عدم اعتبار خصوصيته بلا اعتبار عدمها يرجع الى كلي الماهية الانسانية. ولذا ذكر في مقدمات التفسير الصافي ان الألفاظ موضوعة للمعاني الكلية، فقال: ان لكل معنى من المعاني حقيقة وروحا، وله صورة وقالب، وقد يتعدد الصور والقوالب لحقيقة واحدة، وانما وضعت الألفاظ للحقائق والأرواح، ولوجودهما في القوالب تستعمل الألفاظ فيهما على الحقيقة لا تحاد ما بينهما. مثلا لفظ القلم انما وضع لالة نقش الصور في الألواح، من دون أن يعتبر فيها كونها من قصب أو حديد أو غير ذلك، بل ولا أن يكون جسما، ولا كون النقش محسوسا أو معقولا، ولا كون اللوح من قرطاس أو خشب، بل مجرد كونه منقوشا فيه وهذا حقيقة اللوح وحده وروحه، وإن كان في الوجود شئ يتسطر بواسطته نقش العلوم في ألواح القلوب فأخلق به أن يكون هو القلم، فان الله تعالى علم


[ 79 ]

بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم، بل هو القلم الحقيقي حيث وجد فيه روح القلم وحقيقته وحده من دون أن يكون معه ما هو خارج عنه. وكذلك الميزان مثلا فانه موضوع لمعيار يعرف به المقادير وهكذا، وله معنى واحد هو حقيقته وروحه، وله قوالب مختلفة وصور شتى بعضها جسماني وبعضها روحاني، كما يوزن به الأجرام والأثقال مثل ذي الكفتين والقبان وما يجري مجراهما، وما يوزن به الشعر كالعروض، وما يوزن به الفلسفة كالمنطق، وما يوزن به بعض المدركات كالحس والخيال، وما يوزن به العلوم والأعمال كما يوضع ليوم القيامة، وما يوزن به الكل كالعقل الكامل، الى غير ذلك من الموازين. وبالجملة ميزان كل شئ يكون من جنسه، ولفظة الميزان حقيقة في كل منها باعتبار حد وحقيقة فيه، وعلى هذا القياس كل لفظ ومعنى. انتهى ما ذكره (1). وأنا أقول: يمكن أن يقال ان جميع الصور الثلاثة التي صححها القوم كلها باطلة، وليس وضع الألفاظ مطلقا الا من باب الوضع الخاص والموضوع له العام الذي أبطلوه بالمرة، مثلا لوحظ في وضع الانسان أولا فرد من أفراده أو أكثر، وجعل الملحوظ عنوانا لكلية فوضع لفظ الانسان بازاء هذا الكلي، إذ بدون رؤية شئ من أفراده لا يتصور الصورة النوعية الكلية. وعند وضع لفظ (هذا) مثلا لوحظ فرد مشار إليه، ووضع اللفظ بازاء كليه، ولو بملاحظة اعتبار تحقق الكلي في ضمن كل فرد منه بعد ذلك، ولوحظ في وضع لفظ (زيد) مثلا هذا الشخص الخاص، ووضع اللفظ بازاء كلي هذا الشخص باعتبار تعدد حالاته في الأزمنة والأمكنة وغير ذلك، ولذا يصدق لفظ (زيد) حقيقة عليه في كل من الحالات المختلفة. وصدق القرآن حقيقة على جميع هذه الأفراد الملفوظة أو المكتوبة انما هو مبتن على المقدمة المذكورة، إذ القرآن النازل أولا من القلم الى اللوح لوحظ على هيئة الخاصة، ووضع لفظ القرآن لكل ذلك الفرد الملحوظ، ولو باعتبار وجوده في


(1) تفسير الصافي 1: 31، المقدمة الرابعة. (*)

[ 80 ]

ضمن الأفراد الجزئية، فيكون حقيقة في كل من الأفراد الموجودة الى يوم القيامة. فلا يبقى الاشكال حينئذ في ترتيب الآثار الشرعية من الثواب المقرر، أو الأمر بقراءته، أو العقاب على مسه بلا طهارة ونحو ذلك عليه، والا فيحتاج الى ادعاء الحقيقة العرفية في المراتب المتأخرة، أو جعله مجازا مشهورا من باب الاستعارة، إذ الكلام الصادر من زيد مثلا الذي هو صورته، لا يصدق عليه الكلام المنزل على سبيل الاعجاز حقيقة، الا أن يجعل المراد الكلام المنزل فرد منه ونحو ذلك، وذلك تكلف البتة، وليس وضعه مثل وضع (زيد) الصادق في حالات مختلفة، فان الفرد الشخصي المنزل منه أولا ليس هو الدائر في الألسنة. وبالجملة فإذا عرفت هذه المقدمة، فاعلم انه قد وقع في عبارات بعض أهل الحكمة اطلاق لفظ المؤنث أو المرأة بالنسبة الى الأئمة (عليهم السلام)، فاستنكر ذلك أهل الشريعة، واستوحشوا منه، ونسبوا صاحب العبارة الى الكفر والزندقة، ورموه بشئ لعله برئ منه في الحقيقة. قال بعض من يدعي كونه من أهل الباطن، الذين قطعوا أنظارهم عن الظاهر: ان ظاهر هذا الاطلاق وإن كان مستهجنا في الأنظار الجلية، الا ان ايجابه الكفر والزندقة لا وجه له، وذلك لأن لفظة (المرأة) أو ما في معناها انما وضعت لهذا المعنى الظاهري باعتبار معنى التأثر والانفعال الموجود فيها بالنسبة الى الرجل، لا من جهة كونه بهذه الخصوصية. فاطلاق لفظ (المرأة) على النوع المعروف باعتبار وجود هذا المعنى الكلي، أي معنى المنفعل والمتأثر في هذا النوع، وكذلك اطلاق الرجل على هذا النوع باعتبار معنى التأثير والفعل فيما تحته لا لكونه ذا خصوصية معروفة مثلا، فكل مؤثر في العالم مذكر، وكل متأثر مؤنث. وقد يكون الشئ متأثرا بالنسبة الى ما فوقه، ومؤثرا بالنسبة الى ما تحته، فمعنى الرجل والمرأة هو المؤثر والمتأثر، ففي نحو " كسرت الكوز فانكسر " الكاسر مذكر والمكسور مؤنث وهكذا، ولهذا يطلق على الأفلاك الآباء العلوية،


[ 81 ]

وعلى الاسطقسات الامهات السفلية. وورد قوله (صلى الله عليه وآله): " أنا وعلي أبوا هذه الامة " (1) أي أنا أبو الامة وعلي امها. وعلى هذا يحمل الخبر المشهور " الشقي شقي في بطن امه " (2) أي يظهر شقاوة الشقي بالولاية مثلا على وجه من الوجوه، إذ هناك وجوه اخر أيضا، مثل أن يكون المراد من الام هو الامكان، أو الماهية، أو الطبيعة، أو ام الكتاب، أو الام الانسانية، أو الدنيا، أو الأرض وبطنها هو القبر، بل الامهات كثيرة، وكل مرتبة سابقة ام بالنسبة الى اللاحقة لتولدها من السابقة تولد النتيجة من المقدمة، بل كل قشر ام بالنسبة الى اللب، وكل ظاهر ام بالنسبة الى الباطن، وهكذا. ولذا قيل: تن چو مادر طفل جان را حامله * مرگ درد زادن است وزلزله وبالجملة، فكذا على الاصطلاح السابق ما روي " ان المؤمن أخو المؤمن، أبوه النور وامه الرحمة " (3)، وما ذكروا في الحكمة من ان الوجود مذكر، والماهية مؤنث، الى غير ذلك. وقد فسر بعضهم بيتي المثنوى المعنوي، وهما قوله في ديباجة النسخة: بشنو از نى چون حكايت مى كند * وز جدائيها شكايت مى كند كز نيستان تا مرا ببريده اند * از نفيرم مرد وزن ناليده اند بقوله: كيست مرد اسماء خلاق ودود * كأن فاعل در اطوار وجود


(1) مفردات راغب: 7 / مادة: (أبا)، عنه مناقب ابن شهرآشوب 3: 105 / في انه المعني بالوالد، عنه البحار 36: 11 ح 12 وفي معاني الأخبار: 52 ح 3، علل الشرائع: 127 ح 2 باب 106. (2) البحار 5: 153 ح 1، عن أمالي الصدوق. (3) المحاسن 1: 223 ح 396، عنه البحار 67: 75 ح 6، ونحوه بصائر الدرجات: 99 ح 1 و 2. (*)

[ 82 ]

چيست زن أعيان جمله كائنات * منفعل گشته ز أسماء وصفات چون همه أسماء وأعيان بى قصور * وارد اندر رتبه ء انسان ظهور جمله را در ضمن انسان ناله هاست * كه چرا هريك ز أصل خود جداست شد گريبان گيرشان حب الوطن * اين بود سر نفير مرد وزن فعلى هذا إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) أعلى مرتبة من علي (عليه السلام) ومؤثرا فيه بكونه مخلوقا بوساطته، وكذا سائر الأئمة بالنسبة الى علي، وفاطمة (عليها السلام) بالنسبة الى الأئمة - بناء على تدرج المراتب في الفضيلة - أمكن الاطلاق المذكور بحسب الاصطلاح المسطور، ولا يلزم من ذلك قدح ولا كفر البتة، إذ لا مشاحة في الاصطلاح، ولكن نعم ما قيل: " رب اصطلاح ليس بصلاح ". هر كسى را سيرتي بنهاده ام * هر كسى را اصطلاحي داده ام هنديان را اصطلاح هند مدح * سنديان را اصطلاح سند مدح ولا يناسب أن يتفوه العاقل بما يتسارع العقول الى انكاره وإن أمكنه اعتذاره، وقال (صلى الله عليه وآله): " نحن معاشر الأنبياء لا نكلم الناس على قدر عقولنا بل على قدر عقولهم " (1) وفي خبر آخر: " كلموا الناس على قدر عقولهم "، وعلى أي حال فمعلوم ان الجاهل بل المجنون لا يطلق على من هو مذكر بالمعنى العرفي انه مؤنث كذلك فضلا عن العالم العاقل. فعلى ما ذكر هذا القائل تكون فاطمة (عليها السلام) مع تأنيثها بالمعنى العرفي في ظاهر الصورة مذكر بالمعنى السابق في الحقيقة، أي بمعنى المؤثر بالنسبة الى الموجودات السافلة، لما مر من كون الأنبياء مخلوقين من نورها (عليها السلام)، أي من نور جسدها الشريف وجسمها اللطيف.


(1) نحوه الكافي 1: 23 ح 15، عنه البحار 16: 280 ح 122، وفي المحاسن 1: 310 ح 615، عنه مستدرك الوسائل 11: 208 ح 12759. (*)

[ 83 ]

فهم (عليهم السلام) من جملة أشعة ظهورها، وموادهم العالية من بعض ذرات نورها، لكونها آخر جزء من السلسلة النورية في الدائرة العالية التي لا دائرة فوقها من الدوائر الكونية، وان أجزاء تلك الدائرة وقسيها متدرجة في التقدم والتأخر الموجب للتدرج في الفضيلة. فهي (عليها السلام) مذكر مؤثر بالنسبة الى ما تحت تلك الدائرة من المراتب السافلة، وهي النور المتأخر في تلك المرتبة المتقدمة، والجزء الأخير من العلة التامة، ومؤنث متأثر بالنسبة الى سائر الأنوار العالية أي متأثرة منها في تلك المرتبة، ولذا ظهرت في صورة المؤنث في هذه النشأة السافلة الصورية. فإذا كان أنوار المعصومين (عليهم السلام) بهذه المثابة، وكان أشعة أجسامهم الشريفة مواد خلقة الأنبياء العظام والرسل الكرام، ويدخل في جملة أجسامهم لحومهم ودماؤهم وجلودهم وعظامهم، فكل هذه الأجزاء منهم أنوار طيبة صافية تصورت بتلك الصور الصورية البشرية، وليس من شأن الأنوار أن يعرض عليها الظلمة والأكدار، أو الخباثة والكثافة، أو ما ينافي اللطافة، ولذا لم يكن يقع للنبي (صلى الله عليه وآله) ظل بالمرة، بل لسائر المعصومين (عليهم السلام) أيضا، وإن كان يقع لهم في بعض الأحيان ظل في الجملة للفرق بين النبي والأئمة. فهذه الأنوار الشعشعانية من اشراقات شمس الأزل، طلعت في العالم الكونية دون أن يعرض عليها الكدورات النفسانية، والخباثات البشرية الجسمانية، وإن نزلوا في هذه النشأة. نور خورشيدار بيفتد بر حدث * آن همايون نپذيرد زو خبث ارجعي بشنود نور آفتاب * سوى أصل خويش باز آمد شتاب نى ز گلخنها بر أو ننگى بماند * نى ز گلشنها بر أو رنگى بماند بل الحق ان للنور مقاما شامخا، ومحلا باذخا لا يتنزل منه الى المراتب السافلة، وإن تروئي في النظر انه وقع على الحجر والمدر، فتدبر وتبصر. اين سخن را در نيابد هيچ فهم ظاهري * گر أبو نصر استى وگر بوعلى سينا ستى


[ 84 ]

در ثمين في تحقيق طهارة دم المعصومين وفي حكمة بولهم ونجوهم اعلم انه قد وقع النزاع في ان دم المعصوم (عليه السلام) طاهر أو لا، وهذه المسألة وإن كان العلماء غير محتاجين الى البحث عنها لعدم حصول الابتلاء بها في هذه الأزمنة، فلو اتفق حضور المعصوم، واتفق الملاقاة بدمه المطهر، فهو حاضر يسأل عن حكم المسألة. بل يمكن أن يقال بعدم جواز البحث عنها في حال الغيبة، لأن المعصوم (عليه السلام) غير حاضر حتى يؤخذ منه الأحكام الشرعية، فباب العلم بها مسدود في حال الغيبة، وانما يلزم استنباط الأحكام بالظنون المطلقة أو الخاصة من باب أكل الميتة والعمل بحكم الضرورة، حيث انا نعلم بعدم ارتفاع التكليف حينئذ، وانه لابد من العمل بالأحكام الشرعية، وباب العلم بها مسدود، والأدلة لا تفيد الا الظن، والأخذ بالموهوم ترجيح للمرجوح، والأخذ بالمشكوك ترجيح بلا مرجح. فلابد من العمل بالظن حينئذ بحكم القواعد العقلية التي لا تفرق بين الظنون المطلقة والخاصة، أو تعين الظنون الخاصة على الخلاف في المسألة، وفي مسألة حكم دم الامام (عليه السلام) لا ضرورة داعية الى تحقيقها واستنباط حكمها، وان الضرورات تتقدر بقدرها. ولكن لما كانت تلك المسألة مشتملة على بعض المطالب الاصولية، والمعارف الدينية مع اشتهار البحث عنها في هذه الأزمنة، لا بأس في الاشارة الى بعض ما قيل فيها دفعا للشبهة عن الأذهان الضعيفة. فنقول: قيل ان الحكم في مسألة الدماء بقول مطلق بحسب ظواهر الأدلة هو النجاسة، حيث انها دالة على ان الدم مطلقا نجس، أو ان الدم يجب غسله ونحو ذلك، وقد عمل بها العامة والخاصة، ودم المعصوم (عليه السلام) داخل في جملة الدماء، فيكون من جزئيات تلك المسألة. وغاية الدليل لمن قال في دم المعصوم (عليه السلام) بعدم الطهارة، هو


[ 85 ]

إطلاقات تلك الأدلة، ولكن هذه المسألة ليست باجماعية بل خلافية بين الامة، ولمن قال بالطهارة أيضا أدلة يأتي إليها الاشارة. وقد سئل الاقا محمد علي البهبهاني في كتاب المقامع (1) عن طهارة دم النبي (صلى الله عليه وآله)، فأفتى بعدم الطهارة، وادعى عليه الشهرة بين الخاصة مع بعض العامة، وانه قال أكثر العامة مع بعض الخاصة بالطهارة، ومن أعاظم العامة المفتين بالطهارة هو الشافعي (2). وذكر العلامة (رحمه الله) في التذكرة (3) في جملة فضائل النبي (صلى الله عليه وآله) انه يتبرك بدمه وبوله، وظاهره الطهارة أيضا. وادعى الفاضل الدربندي (رحمه الله) الاجماع - بل الضرورة - على طهارة دم المعصوم (عليه السلام)، وقال: ان المخالف كان ضعيفا نادرا، مع انه انقرض الخلاف في هذه الأزمنة أيضا، بل سرى حكم الطهارة الى دماء المستشهدين بين يدي سيد الشهداء (عليه السلام) أيضا، ولكن دماؤهم التي سفكت في كربلاء، ثم حول بسط المسألة الى كتابه شرح المنظومة في فقه الامامية (4). ولسنا هنا بصدد بيان تفصيل هذه المسألة، واستدلالات الطرفين، والترجيح بين الأدلة الموهونة وغير الموهونة الصادرة من الفريقين، وذكر أسماء القائلين من الطائفتين، ولكن نبين هنا دقيقة لطيفة يتبين بها حقيقة المسألة. فنقول: ان الأحكام الشرعية جعليات صادرة من الشارع، طارئة بجعله (عليه السلام) على الموضوعات الخارجية التي هي أفعال المكلفين، فان فعل المكلف هو محل تعلق الأحكام الشرعية الجعلية، ولو اسند الحكم الى الأعيان في بعض الأحيان.


(1) مقامع الفضل: 98 / رعه، باختلاف. (2) فتح العزيز 1: 179، الوجيز 1: 7، على ما في هامش التذكرة 1: 57. (3) التذكرة (الحجرية) 2: 568، كتاب النكاح، في بيان خصائص النبي (صلى الله عليه وآله). (4) أسرار الشهادة: 147. (*)

[ 86 ]

مثلا نقول تارة: ان شرب الخمر حرام، وتارة اخرى: ان الخمر حرام، والثاني أيضا راجع الى الأول، إذ لا معنى لحرمة ذات الخمر، فان الحرام ما يترتب عليه العقاب، ولا يترتب العقاب على ذات الخمر بل على شربه، وهو الفعل المتعلق به، وكذا قولنا: المغصوب حرام معناه ان التصرف فيه حرام، والام والاخت حرام أي نكاحهما وهكذا، فكلما تعلق الحكم على العين يراد بها الفعل الذي اشتهر تعلقه بها. مثلا في قوله تعالى: * (حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم...) * (1) يراد نكاحها لا النظر إليها ونحو ذلك، ولا أكلها ولا غير ذلك، و * (حرمت عليكم الميتة والدم...) * (2) أي أكلها وهكذا. ولما كانت الأحكام جعلية حاصلة بانشاء الشارع، فقد أنشأ الشارع حكم الحرمة في أكل لحم الخنزير، وحكم الحلية في أكل لحم الغنم، فلو عكس كان الأمر بعكس القضية، لكن هذا التخصيص من الشارع ليس بمحض الهوى، بل هو وحي يوحى تابع للمصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء فعلا أو تركا. مثلا إذا كان في الفعل مصلحة ملزمة كالصلاة التي هي مطهرة للباطن، وجاعلة للطينة الانسانية نورانية قابلة لدخول الجنة دار قرب الجبار، ومحل مصاحبة الأخيار، وكان تركها جاعلا للطينة الظلمانية مستحقة لدخول النار، والانتظام في سلك الأشرار، جعلها واجبة لاشتمالها على المصالح الباطنية مما ذكر وغيره من المصالح الكثيرة، والخمر بالعكس فعلا وتركا، فجعلها محرمة للاشتمال على المفاسد الباطنية، وكونها ام كل خبيثة ورذيلة. وإن كانت المصلحة جزئية غير ملزمة جعل الفعل مندوبا، أو المفسدة كذلك جعله مكروها، أو تساوى الطرفين جعله مباحا، وكذا الكلام في الطهارة والنجاسة وغير ذلك، فمباشرة الماء مثلا لا توجب الخباثة الباطنية، ولا تبطل الصلاة، ولا تمنعها عن الصحة المطلوبة اللازمة، فحكم فيه بالطهارة بخلاف الدم والخمر


(1) النساء: 23. (2) المائدة: 3. (*)

[ 87 ]

والميتة وهكذا. ثم اختلفوا في ان تلك المصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء الموجبة لترتب الأحكام المخصوصة، هل هي ذاتية أو عارضية من جهة الصفات اللازمة، أو بالوجوه والاعتبارات الخارجية أو لا كلية في المرحلة، وتفصيل المسألة موكول الى محله. والقول الرابع الذي اختاره المحققون من المتأخرين هو التفصيل، وان الأشياء في أنفسها مختلفة، فالمصالح والمفاسد في بعضها ذاتية كالايمان والشرك مثلا، وحب آل محمد (عليهم السلام) وبغضهم، والذاتي لا يختلف ولا يتخلف، ولا يتبدل ما بالذات في حال من الحالات، وفي بعضها باعتبار الأوصاف اللازمة كالكذب النافع المنجي للنبي (صلى الله عليه وآله) من الهلاك، والكذب الذي ليس كذلك سيما إذا كان مضرا. وبعضها بالوجوه والاعتبارات كالخبز الأبيض الجيد في غاية الجودة، والعسل الشافي، والسكر الصافي في غاية الحلاوة واللطافة، إذا كان شئ من ذلك مغصوبا فان الحرمة في نحو ذلك ليست لخباثة ذاتية فيه ولا لصفة لازمة، بل هي من جهة الوجوه والاعتبارات الخارجية، وذلك بملاحظة ان الرخصة في نحو ذلك توجب المفسدة الخارجية الطارئة من جهة اختلال نظام العالم مثلا، فيختل به امور معاش بني آدم، ويؤدي الى اختلال امور معادهم. ثم ان معنى النجاسة في الشئ ليس الا وجوب الاحتراز عنه في الصلاة مثلا، أو الأكل والشرب ونحو ذلك، ووجوب الاحتراز فيه اما من جهة خباثة في نفسه ذاتا أو صفة، أو من جهة المصالح الخارجية، فدم المعصوم (عليه السلام) يجب غسله البتة بحسب القواعد الشرعية من جهة المصالح الخارجية، إذ لو بني على عدم غسله مثلا بالحكم بالطهارة لزم الهرج والمرج في الشريعة، فكان يقول بعض الناس بطهارة دم سلمان، وبعضهم بطهارة دم أبي ذر، ومريد العالم الفلاني بطهارة دمه، ومريد العارف الفلاني كذلك، وكذا في البول والغائط من الخاصة


[ 88 ]

أو من العامة. وهذا باب عظيم يدخل منه الشيطان، فيفسد على الناس أحكام الدين والملة، كما ترى ان مع استقرار الحكم ظاهرا بنجاسة الدماء مطلقا، يحكم بعض السفهاء في عصرنا بطهارة دم العارف الفلاني وبوله وغائطه، فكيف إذا كان هناك روزنة للدخول في هذه المسألة، فسدوا هذا الباب من صدر الشريعة، وحكموا باطلاقات كلامهم بوجوب غسل الدماء بالمرة، وكانوا (عليهم السلام) يغسلون الدم ونحوه من أنفسهم أو من غيرهم. واما من حيث الحقيقة فليس في دم المعصوم (عليه السلام) خباثة بالمرة لا ظاهرية ولا باطنية، بل هو طهر طاهر مطهر من طهر طاهر مطهر في غاية الطهارة، وآية التطهير أيضا تدل على حكم المسألة، كما ان السكر المغصوب ليس فيه خباثة ذاتية بل هو في غاية اللطافة، لكن عرض عليه حكم الاجتناب عنه من جهة المصالح الخارجية، فيقال: ان وجوب الاجتناب فيه انما هو من الأحكام التعبدية لا انه من جهة الخباثة والنجاسة. وأي خبيث يتجاسر أن يقول بخباثة دم المعصوم (عليه السلام) في عرض الخمر ودم الخنزير ولحم الميتة مثلا - نعوذ بالله من سماع تلك المقالة - فدماؤهم (عليهم السلام) أطهر وألطف من كل لطيف ونظيف بمراتب كثيرة. وقد مر ان الأنبياء (عليهم السلام) خلقوا من نور أجسامهم اللطيفة، وأجسادهم الشريفة، ودماؤهم من جملة أجزائهم في عالم الجسمية، ولا معنى لطروء النجاسة بالنسبة الى العقول الصافية، فكيف بما هو أعلى منها مرتبة ؟ ! فالأنوار اللطيفة في غاية اللطافة لا تعرضها الخباثة والكثافة، وكذا الحكم في البول والغائط، ولذا كان رائحتهما من المعصوم (عليه السلام) كالمسك الأذفر. وكذا النطفة منهم (عليهم السلام)، وإن كان مادة هذه الامور من الأغذية الدنيوية الكثيفة، الا انها بمجاورة جسم المعصوم (عليه السلام) ومخالطته ومصاحبته تكتسب اللطافة الكاملة بالتبعية، ولذا كان اللباس والعباء على جسم


[ 89 ]

النبي (صلى الله عليه وآله) لا يقع منهما أيضا ظل تبعا له. هيزم تيره حريف نار شد * تيرگى رفت وهمه أنوار شد فكل شئ منهم نور حتى الدم والبول والغائط والنطفة، فأجسامهم البشرية المرئية مظاهر الصفات اللاهوتية، والصورة لا تضر في الحقيقة، وإذا كان جبرئيل (عليه السلام) يتصور بصورة دحية الكلبي، كان له لحم ودم وعظام بمقتضى الصورة الجسمية، لكن المتبدل لم يكن الا الصورة والا كان كل جزء منه نورا محضا البتة. وما ورد ان المعصوم (عليه السلام) لا يغفل ولا ينام، ويرى من خلف كما يرى من أمام، فهل يجوز ذلك الا بأن يكون كل أعضائه نورا بالتمام، فلا يذهب بك الصورة عن الحقيقة الى الصورة. گر به ظاهر مثلكم باشد بشر * با دل يوحى الى ديده ور أي بسا كس را كه صورت راه زد * قصد صورت كرد وبر الله زد كل شئ من المليح مليح * كل شئ من القبيح قبيح ووجه الطهارة في جميع ما ذكر منهم (عليهم السلام) من حيث الحكمة، ان أصل منشأ النجاسة ونحوها انما هو جهة النفسانية، ولذا كان فضلة الحيوان المأكول اللحم كالغنم مثلا طاهرة دون الانسان، وليس في تلك الأنوار الأسفهيدية جهة النفسانية بالمرة ولو مثقال ذرة، وما ورد في طهارة أجسادهم الشريفة انما هو محمول على أجزائها الظاهرية والباطنية من كل حيثية، والا فظواهر الأجساد طاهرة من كل مسلم أيضا، فلا يكون لهم (عليهم السلام) حينئذ فضل من هذه الجهة. واما الاستدلال على طهارة دمائهم (عليهم السلام) بالخبر الذي ورد، انه ما من مسجد بني الا على قبر نبي أو وصي نبي، فأصابت تلك البقعة رشة من دمه فأحب الله أن يذكر فيها (1)، بتقريب ان الله لا يحب الرجس فلابد أن يكون الدم


(1) الكافي 3: 370 ح 14، عنه البحار 14: 463 ح 31، التهذيب 3: 258 ح 43، الوسائل 3: 501 ح 1. (*)

[ 90 ]

منهم طاهرا حتى يحب الله محل ملاقاته لحبه، فضعيف كما لا يخفى، لجواز أن يكون هذه المحبة من جهة كون هذا الدم مصبوبا مراقا في سبيل الله من أجساد هؤلاء الأنبياء العظام والأوصياء الكرام، لا لذات تلك القطرة. والى هذا الخبر أشار بحر العلوم في الدرة النجفية بقوله: والسر في فضل صلاة المسجد * قبر لمعصوم به مستشهد بقطرة من دمه مطهرة * طهره الله لعبد ذكره وهي بيوت أذن الله بأن * ترفع حتى يذكر اسمه الحسن (1) [ الأخبار الدالة على طهارة دم المعصوم ] نعم يشير إليها، أي الى طهارة دم المعصوم (عليه السلام)، بل يدل عليها ما رواه المجلسي (رحمه الله) في البحار عن الراوندي في قصص الأنبياء، والحسين بن بسطام في طب الأئمة، عن أبي طيبة الحجام، قال: حجمت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأعطاني دينارا وشربت دمه، فلما اطلع على ذلك قال: ما حملك على ذلك ؟ قلت: أتبرك به، قال: أخذت أمانا من الأوجاع، والأسقام، والفقر، والفاقة، ولا يمسك النار أبدا (2). وقد علل حرمة الدم في الأخبار بكثرة مضاره، مثل انه يمرض البدن، ويغير اللون، ويورث البخر، والصفراء، والجنون، وسوء الخلق، والقسوة ونحو ذلك، وإذ ليس في دم المعصوم (عليه السلام) هذه المفاسد، بل صرح باشتماله على المصالح المقابلة لها، فلا حرمة. وفي مرسل المناقب عن عبد الله بن الزبير قال: احتجم النبي (صلى الله عليه وآله) فأخذت الدم لاهريقه، فلما برزت حسوته، فلما رجعت قال (صلى الله عليه وآله): ما صنعت ؟ قلت: جعلته في أخفى مكان - وفي رواية اخرى: جعلته في وعاء


(1) الدرة النجفية: 100 / المشاهد. (2) طب الأئمة: 56، عنه البحار 62: 119 ح 39 ومستدرك الوسائل 13: 74 ح 14791، ولم نعثر عليه في قصص الأنبياء للراوندي. (*)

[ 91 ]

حريز (1) - قال (صلى الله عليه وآله): ألفيك - أي أجدك - شربت الدم، وفي خبر آخر: لا تعد الى مثله (2). وابن شهرآشوب في كتاب المناقب عن ام أيمن - وهي كانت جارية ورثها النبي (صلى الله عليه وآله) من أبيه، فأعتقها وجعلها حاضنة أولاده، وقد حلف (صلى الله عليه وآله) بأنها من أهل الجنة - قالت: أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا ام أيمن قومي واهرقي ما في الفخارة - يعني البول - قلت: والله شربت ما فيها وكنت عطشى، قالت: فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى بدت نواجذه، ثم قال: أما انك لا يجع (3) بطنك، وفي خبر آخر بعد هذا: فلا تعودي (4). فيستفاد تقريره (صلى الله عليه وآله) لشرب دمه وبوله، وتقرير المعصوم (عليه السلام) حجة كفعله وقوله، فالظاهر من سكوت النبي (صلى الله عليه وآله) وعدم نهيه سيما مع ذكر منافعه الرضا به المستلزم للطهارة لحرمة شرب النجس وأكله. واما ان الأخبار الدالة على الأمر بغسل الدم والبول مطلقة أو عامة، فيشمل دم المعصوم أيضا وبوله مع انهم (عليهم السلام) كانوا يغسلون دماءهم وأبوالهم أيضا - كما ورد في الأخبار المستفيضة - ففيه انه لا كلام في لزوم اجراء هذه الأحكام الشرعية في ظاهر المرحلة، لما مر من المصالح الخارجية بلا فرق بين دم المعصوم وغيره، ولكن وجوب الغسل أعم من النجاسة المعروفة، أي المستلزمة للخباثة لما مر، ولجواز كونه تعبديا كالأمر بالاحتراز عن استصحاب مالا يؤكل لحمه في الصلاة مع كونه طاهرا أيضا. وانما الكلام في هذه النجاسة، واما النجاسة بمعنى وجوب الغسل ولزوم


(1) راجع البحار 16: 409، عن مناقب ابن شهرآشوب 1: 220 / في اللطائف. (2) وجدناه في الخرائج 1: 67 ح 122، عنه البحار 22: 113 ح 80. (3) في المناقب: لا ينجع. (4) مناقب ابن شهرآشوب 1: 125 / في معجزاته في ذاته، عنه البحار 16: 178 ح 19. (*)

[ 92 ]

الاحتراز للمصالح الخارجية مع كونه بالذات طاهرا في غاية النظافة فلا كلام فيها، وإن كان اطلاق النجاسة مستهجنا حينئذ أيضا لانصراف الأنظار من النجاسة الى الخباثة من جهة الغلبة، فلعل المنازعة حينئذ لفظية، فلا خلاف في المسألة. واطلاق الدم المسفوح الذي استشكل به العلامة في المنتهى (1) لا ينصرف الى الأفراد النادرة، ودعوى العموم ممنوعة، ولو سلم فمخصص بالأدلة، وانكار النبي (صلى الله عليه وآله) لام أيمن بقوله: " ولا تعودي " ونحو ذلك غير معلوم المأخذ، ولو سلم فيمكن أن يحمل على المنع من التكرار، كما يشعر به الأخبار وسنشير إليه. ومن الزيارة الجامعة التي رواها ابن طاووس: (ان الله طهركم من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ومن كل ريبة ورجاسة ودنية ونجاسة) (2). وورد في الأخبار الكثيرة كون بولهم ونجوهم في رائحة المسك الأذفر، وأمر الأرض بابتلاعهما مطلقا، وان ذلك احدى خواص المعصوم (3). وفي زيارة الحسين (عليه السلام): وأشهد ان دمك سكن في الجنة (4)، وورد في الأخبار: تخضب فاطمة (عليها السلام) في الجنة بدم ولدها الحسين (عليه السلام). وفي تفسير الامام (عليه السلام) - وهو من الكتب المعروفة بين الطائفة، وفي أوائل البحار انه اعتمد عليه الصدوق، وروى عنه أكثر العلماء من غير غمض


(1) المنتهى 1: 164، الفرع الخامس في نجاسة الدم المسفوح. قال (رحمه الله): الخامس: في نجاسة دم رسول الله (صلى الله عليه وآله) اشكال ينشأ من انه دم مسفوح، ومن ان أبا طيبة الحجام شربه ولم ينكر عليه، وكذا في بوله (عليه السلام) من حيث انه بول، ومن ان ام أيمن شربته. (2) مصباح الزائر: 462 فصل 18، عنه البحار 102: 164 ح 6. (3) راجع من لا يحضره الفقيه 4: 418 ح 5914، الأنوار النعمانية 1: 34. (4) كامل الزيارات: 197، عنه البحار 101: 152 ح 3، ونحوه في الكافي 4: 576 ح 2، ومن لا يحضره الفقيه 2: 594 ح 3199، وتهذيب الأحكام 6: 55 ح 1، والوسائل 10: 382 ح 1. (*)

[ 93 ]

فيه (1) - ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) احتجم مرة فدفع الدم الخارج منه الى أبي سعيد الخدري، وقال له: غيبه، فذهب فشربه ورجع. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ماذا صنعت به ؟ قال: شربته يا رسول الله، قال: أولم أقل لك غيبه ؟ فقال: فقد غيبته في وعاء حريز، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اياك وأن تعود لمثل هذا، ثم اعلم ان الله قد حرم على النار لحمك ودمك لما اختلط بدمي ولحمي. فجعل أربعون من المنافقين يهزأون برسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقولون: زعم انه قد أعتق الخدري من النار لاختلاط دمه بدمه، وما هو الا كذاب مفتر، اما نحن فنستقذر دمه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما ان الله يعذبهم بالدم ويميتهم به، وإن كان لم يمت القبط به، فلم يلبثوا الا يسيرا حتى لحقهم الرعاف الدائم، وسيلان دماء من أضراسهم، فكان طعامهم وشرابهم يختلط بذلك فيأكلونه، فبقوا كذلك أربعين صباحا معذبين ثم هلكوا (2). وفيه أيضا من التقرير مالا يخفى حيث لم يصرح بكونه حراما ولو في اول مرة مع التنبيه على ان الاستقذار من أثر النفاق لا الاخلاص والوفاق. واما النهي فيه عن العود إليه، وكذا في خبر المناقب على ما روى ان أبا طيبة الحجام شرب دم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: لا تعد ان الدم حرام أكله، فهذا تحذير محمول على جعله عادة، فيكون مرة واحدة للاستشفاء جائزا والزائد حراما لا للنجاسة، لعدم الملازمة بين الحرمة أو وجوب الغسل أيضا وبين النجاسة، كما صرح به في الرياض، وفي بحث الاجماع من القوانين، لما مر ولجواز التعبدية. كما ورد النهي عن أكل التربة الحسينية زائدا على قدر الاستشفاء، وورد ان


(1) البحار 1: 28. (2) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): 419 ح 286، عنه البحار 17: 270 ح 6، وتفسير البرهان 2: 32 ح 4، ونحوه مناقب ابن شهرآشوب 1: 220 / في اللطائف. (*)

[ 94 ]

من اكل أزيد من قدر الحمصة فكأنما أكل لحومنا ودماءنا (1)، مع انها طاهرة البتة بلا شبهة. وكما ورد في المكاتبة عن الصادق (عليه السلام) انه سئل هل اغتسل أمير المؤمنين (عليه السلام) حين غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ فقال (عليه السلام): كان طاهرا مطهرا، ولكن فعل أمير المؤمنين ذلك وجرت به السنة (2)، مع ان علة الحكم في حكم مطلق غسل الميت النجاسة. وأورد جمال المحققين في حاشية الروضة على ما ادعاه الشهيد (رحمه الله) في الذكرى من استلزام غسل الميت لنجاسته بوجوب غسل المعصوم (عليه السلام) بدونها (3)، وأشار إليه في الدرة بقوله: والنص في المعصوم بالغسل ورد * تعبدا بالغسل مع طهر الجسد (4) فإذا ثبت في أحد المعصومين (عليهم السلام) حكم ثبت في الاخر أيضا لعدم القول بالفصل في المسألة، بل لا معنى له لكونهم من طينة واحدة، وعدم تصريح العلماء بالطهارة في المسألة اما لعدم الابتلاء بها، أو لكونها معلومة الحالة مما بين في محله من أحوال أبدانهم الطاهرة، وهذه الجملة تكفي في المرحلة لمن كان له أدنى بصيرة، والعاقل تكفيه الاشارة، والجاهل لا تنفعه ألف عبارة.


(1) كامل الزيارات: 286، عنه البحار 60: 154 ح 12، وفي تهذيب الأحكام 6: 74 ح 14 والوسائل 10: 414 ح 1، مستدرك الوسائل 16: 204 ح 19596. (2) التهذيب 1: 107 ح 13، والاستبصار 1: 99 ح 3، والوسائل 2: 928 ح 7، والبحار 22: 540 ح 50. (3) التعليقات على شرح اللمعة الدمشقية للآقا جمال الخوانساري: 79 / مس الميت. (4) الدرة النجفية: 41 / مس الأموات. (*)

[ 95 ]

فصل [ في ذكر جملة من أسماء فاطمة الزهراء (عليها السلام) ] ثم ان لسيدتنا الزهراء أسماء نزلت من السماء، وتحت كل اسم أسرار كما نطق به الأخبار، ولكل منها جهة تسمية - بل جهاتها - سميت به بذلك الاعتبار، ونحن نذكر معدودة منها تيمنا وتبركا بذكرها مع جملة من الأخبار الواردة فيها، ومرادنا من الأسماء هنا أعم من الاسم واللقب والكنية على نحو ما ورد في الاخبار المروية. [ الأخبار في تسميتها بفاطمة ] فمنها فاطمة (عليها السلام)، قد ورد في التسمية بذلك أخبار متكثرة من طرق الخاصة والعامة، في انها سميت بذلك لأن الله تعالى قد فطم من أحبها من النار (1). ومن طرق أصحابنا عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) انه قال: سميت فاطمة فاطمة لأن الله تبارك وتعالى علم ما كان قبل كونه، فعلم ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتزوج في الأحياء، وانهم يطمعون في وراثة هذا الأمر من قبله، فلما ولدت فاطمة سماها الله تعالى فاطمة لما أخرج منها من ولدها، فجعل الوراثة في أولادها، فقطع غير أولادها عما طمعوا، فبهذا سميت فاطمة أي فطمت


(1) لهذا الحديث مصادر كثيرة، منها: الفردوس 1: 426 ح 1395، والصواعق المحرقة: 235، وينابيع المودة: 240، ومقتل الحسين: 51، والمناقب لابن المغازلي: 65 ح 62، وكنز العمال 13: 94 ح 534، ونور الأبصار: 52، وفرائد السمطين 2: 57 ح 384. (*)

[ 96 ]

طمعهم وقطعت (1). وفي العلل عن الصادق (عليه السلام) انه قال: لفاطمة (عليها السلام) تسعة أسماء عند الله عزوجل: فاطمة، والصديقة، والمباركة، والطاهرة، والزاكية، والراضية، والمرضية، والمحدثة، والزهراء. ثم قال (عليه السلام) للراوي: أتدري أي شئ تفسير فاطمة ؟ قال الراوي: قلت: أخبرني يا سيدي، قال (عليه السلام): فطمت من الشر، قال: ثم قال: لولا ان أمير المؤمنين تزوجها ما كان لها كفو الى يوم القيامة على وجه الأرض، آدم فمن دونه (2). قال الفاضل المجلسي (رحمه الله): يمكن أن يستدل به على كون فاطمة وعلي (عليهما السلام) أشرف من سائر اولى العزم سوى نبينا (صلى الله عليه وآله)، واما احتمال أن يكون عدم كفوية نوح وابراهيم لها من جهة كونهما من أجدادها، ففيه ان ذكر آدم (عليه السلام) يدل على ان المراد عدم كونهم أكفائها مع قطع النظر عن الموانع الاخر، على انه يمكن أن يتشبث بعدم القول بالفصل، انتهى (3). واما ان الرجل أفضل من المرأة لا محالة مع حصول الكفوية المعلومة، فلا يتعين فضل فاطمة (عليها السلام) عليهم، ففيه ان المفضولية في المرأة انما هي من جهة ما فيها من قوة جهة النفسانية بخلاف الرجل، ولا نفسانية في فاطمة (عليها السلام) كما مرت إليه الاشارة، وسيأتي أيضا بعض ما يتعلق بالمسألة. وروى يزيد بن عبد الملك عن الباقر (عليه السلام) قال: لما ولدت فاطمة (عليها السلام) أوحى الله عزوجل الى ملك، فأنطق به لسان محمد (صلى الله عليه وآله) فسماها فاطمة، وقال: اني قد فطمتك بالعلم، وفطمتك عن


(1) علل الشرائع 178 ح 2، عنه البحار 43: 13 ح 7، والعوالم 11: 72 ح 12. (2) علل الشرائع: 178 ح 3، أمالي الصدوق: 474 ح 18 مجلس 86، والخصال: 414 ح 3، عنها البحار 43: 10 ح 1، والعوالم 11: 66 ح 1، وفي دلائل الامامة: 79 ح 19، وروضة الواعظين: 148، وكشف الغمة 2: 91، والمحجة البيضاء 4: 212. (3) البحار 43: 10، ذيل حديث 1. (*)

[ 97 ]

الطمث، ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): والله لقد فطمها الله تعالى بالعلم وعن الطمث في الميثاق (1). وفي العلل انه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة أتدرين لم سميت فاطمة ؟ فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله لم سميت فاطمة ؟ قال: لأنها فطمت هي وشيعتها من النار (2). وعن محمد بن مسلم الثقفي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) انه إذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل (مؤمن) أو (كافر)، فتقف فاطمة (عليها السلام) على باب جهنم، فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه الى النار، فتقرأ فاطمة (عليها السلام) بين عينيه انه محب مؤمن، فتقول: الهي وسيدي سميتني فاطمة، وفطمت بي من تولاني وتولى ذريتي من النار، ووعدك الحق، وأنت لا تخلف الميعاد. فيقول الله عزوجل: صدقت يا فاطمة، اني سميتك فاطمة وفطمت بك من أحبك وتولاك، وأحب ذريتك وتولاهم من النار، ووعدي الحق، وأنا لا اخلف الميعاد، وأنا أمرت بعبدي هذا الى النار لتشفعي له فاشفعك، ليتبين لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف موقفك مني، ومكانك عندي، فمن قرأت بين عينيه مؤمنا فخذي بيده وأدخليه الجنة (3). وفي خبر آخر انها سميت فاطمة لأنها فطمت شيعتها من النار، وفطمت أعداءها عن حبها (4). وفي البحار، عن الصادق (عليه السلام) انه قال: * (انا أنزلناه في ليلة القدر) *


(1) علل الشرائع 179 ح 4، عنه البحار 43: 13 ح 9، وانظر الكافي 1: 460 ح 6، وكشف الغمة 2: 91، والعوالم 11: 70 ح 6، والمحجة البيضاء 4: 212. (2) علل الشرائع 179 ح 5، عنه البحار 43: 14 ح 10، وكشف الغمة 2: 91، والمحجة البيضاء 4: 212، ومناقب ابن شهرآشوب 3: 329 / في منزلتها عند الله. (3) علل الشرائع: 179 ح 6، عنه البحار 43: 14 ح 11، والعوالم 11: 69 ح 5، وكشف الغمة 2: 91. (4) تفسير فرات: 322 ضمن حديث 435، عنه البحار 43: 18 ضمن حديث 17. (*)

[ 98 ]

الليلة: فاطمة، والقدر: الله، فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، وانما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها (1). وفي الحديث القدسي: اني خلقت فاطمة وشققت لها اسما من أسمائي، فهي فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض (2). وفي الأدعية المشهورة: " الهي بحق محمد وأنت المحمود، وبحق علي وأنت الأعلى، بحق فاطمة وأنت فاطر السماوات والأرض، وبحق الحسن وأنت المحسن، وبحق الحسين وأنت قديم الاحسان ". وفي الأخبار الكثيرة انه قال النبي (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام): ان الله شق لك يا فاطمة اسما من أسمائه، وهو الفاطر وأنت فاطمة (3). بيان: هذه جملة من الأخبار الواردة في المقام، وقد تلخص منها وجوه متعددة لتسميتها (عليها السلام) بتلك التسمية، مثل فطم نفسها بالعلم، وفطمها عن الشر، وفطمها عن الطمث، وفطم ذريتها وشيعتها من النار، وكذلك فطم من تولاها وأحبها منها، وفطم الأعداء عن طمع الوراثة في الملك وعن حبها ونحو ذلك. ولا منافات بين الأخبار لأن الفطم معنى يصدق مع كل من الوجوه المذكورة، واختلاف الأخبار من جهة اختلاف حال الرواة والحضار من حيث الاستعدادات الذاتية، واختلاف المصالح في الأزمنة والأمكنة، وكل هذه المعاني مرادة من اللفظ عند التسمية. ولا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، الذي هو مخالف


(1) تفسير فرات: 581 ح 747، عنه البحار 43: 65 ح 58 والعوالم 11: 99 ح 7. جاء في المقتطفات الولائية ص 94:... لاحظوا هنا ان كلمة الخلق أوسع نطاقا من الناس، وهي فضلا عن كونها تشمل الانس والجن، فان افق الحديث يبلغ حد ملائكة أسكنتهم سماواتك، ورفعتهم عن أرضك، فهؤلاء فطموا عن معرفتها أيضا، ما الأمر ؟ ومن تكون هذه المرأة ؟ وأي حقيقة استترت فيها حتى كانت على هذا الحد من الرفعة والسمو عن متناول العقول وافق الأفكار. (2) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): 220 ح 102، عنه البحار 11: 150 ح 25. (3) معاني الأخبار: 55 ح 3، عنه البحار 37: 47 ح 23. (*)

[ 99 ]

للقواعد الظاهرية اللفظية، لأن فاطمة مشتق من الفطم بمعنى الفصل، ومنه الفطام في الطفل بمعنى فصله عن اللبن والارتضاع، يقال: فطمت المرضع الرضيع فطما - من باب ضرب - فصلته عن الرضاع، فهي فاطمة والصغير فطم بمعنى المفطوم. وأفطم الرجل: دخل في وقت الفطام، مثل أحصد الزرع إذا حان حصاده، وفطمت الحبل: قطعته، وفطمت الرجل عن عادته: إذا منعته عنها. وليس الفطم مخصوصا بالفصل عن اللبن وإن كثر استعماله فيه، بل هو مطلق الفصل عن الشئ، ومعنى القطع والمنع راجع إليه أو متفرع منه، فيكون معنى فاطمة فاصلة أو قاطعة أو مانعة، وكل منها معنى كلي وماهية مطلقة تصدق مع القيود الكثيرة، فسميت من عند الله بها. ويلزم في تحقيق معنى الفصل أن يكون هناك فاصل ومفصول ومفصول عنه ومفصول به، مثلا إذا كانت الام فاطمة لطفلها فهي فاصلة، والطفل مفصول، واللبن مفصول عنه، والغذاء مفصول به، فيكون معنى فاطمة انها تفطم نفسها ولو بسبب قابليتها الذاتية عن الجهل بالعلم، وعن الشر بالخير، وعن الطمث بالطهارة عن الحمرة، وتفطم ذريتها وشيعتها ومن تولاها وأحبها عن النار بالجنة، وتفطم أعداءها عن طمع الوراثة باليأس عنها وعن حبها ببغضها. فلوحظ في وجه تسميتها بهذا الاسم وجوه متعددة، وهي غير داخلة في مفهوم الاسم حتى توجب تعدد معاني اللفظة، بل هي لحاظات خارجية باعتبارها وقعت التسمية، مثلا لو كان مجئ زيد من جهة أغراض مختلفة، وأسباب متعددة، فقيل: جاء زيد، لم يوجب ذلك كون لفظ المجئ مستعملا في المعاني المتعددة. نعم لو جعل فاطمة بالنسبة الى فطم الأعداء أو الأحباء بمعنى كونها ذات فطم - من المبني للفاعل، كما هو كذلك - أي ذات فاطمية، وفي فطمها عن الشر بمعنى ذات فطم - من المبني للمفعول - أي ذات مفطومية لزم المحذور المذكور، ولكن على التقرير المسطور لا يلزم ذلك المحذور. ويمكن جعلها بمعنى ذات الفطم مطلقا من باب النسبة، فيكون جامدا يستوي فيه المذكر والمؤنث، ويجعل التاء حينئذ للمبالغة كما في نحو اللابن، والدارع،


[ 100 ]

والتاجر، والعاشق، والضامر، والحائض، والطالق وغيرها. وإن قيل: في نحو الحائض وجهان آخران أيضا، مثل ان اختصاصه بصفة النساء يؤدي معنى التاء، لأن التاء انما هي للفرق بين المذكر والمؤنث، والفرق حاصل فيه بنفس اللفظة من جهة ما في معناها من الاختصاص والخصوصية، أو انه بتقدير موصوف مذكر، أي انسان حائض مثلا. ويرد على الأول منهما طردا وعكسا الأسماء المشتركة السابقة ونحو المستحاضة، وعلى الثاني جواز نحو هذا في كل مادة، فلا وجه لتخصيص أسماء معدودة، ويمكن جعل فاطمة بالنسبة الى المعاني المذكورة من باب عدم المجاز الجائز من حيث القواعد اللفظية. والتحقيق هو ما فصلناه من ان فاطمة بمعنى الفاصلة مطلقا على التقريب الذي أسلفناه، والمعنى بالنسبة الى نحو الفطم عن الشر مثلا انها فطمت نفسها عنه بالاقتضاء الذاتي، والاستعداد الأصلي، فصارت مفطومة من حيث المآل والحقيقة، فلا حاجة الى جعل الفاعل بملاحظة هذا المعنى بمعنى المفعول، نظير سر كاتم، ومكان عامر، وماء دافق، وعيشة راضية، على بعض الوجوه الجارية. أو جعل فاطمة لازمة مشتقة من أفطم الطفل إذا حان زمان فطمه عن الرضاع، كما ذكر الفاضل المجلسي (رحمه الله) حيث قال في بيان معنى قوله (صلى الله عليه وآله) " فطمتك بالعلم " الوارد في الخبر: ان معناه أرضعتك بالعلم حتى استغنيت وفطمت، أو قطعتك عن الجهل بسبب العلم، أو جعلت فطامك من اللبن مقرونا بالعلم كناية عن كونها في بدو فطرتها عالمة بالعلوم الربانية. وعلى التقادير يكون الفاعل بمعنى المفعول أو يقرأ: (فطمتك) على بناء التفعيل، أي جعلتك قاطعة الناس من الجهل، أو المعنى انه لما فطمها عن الجهل فهي تفطم الناس عنه، والوجهان الاخيران يشكل إجرائهما في قوله: " فطمتك عن الطمث " الا بتكلف، بأن يجعل الطمث كناية عن الأخلاق والأفعال الذميمة، أو يقال على الثالث فطمتك عن الأدناس الروحانية والجسمانية، فأنت تفطمي الناس


[ 101 ]

عن الأدناس المعنوية (1). وقد جعل الفاضل المذكور فاطمة في بعض الأخبار الاخر لازمة على نحو ما مر، وكل ما ذكره في توجيه اللفظ والمعنى في المرحلة تكلف مستغنى عنه بالنسبة الى ما أسلفناه كما لا يخفى، مع انه يرد عليه المحذور الذي ذكرنا أي استعمال اللفظ في أكثر من معنى، نعم يمكن جعل فاطمة في جميع الوجوه بمعنى المفعول أي المفطومة من باب الصفة بحال المتعلق بلحاظ المآل والحقيقة، أو جعله بمعنى ذات الفطم من المصدر المبني للفاعل أو المفعول، لكن على سبيل القضية الكلية لا الجزئية، كما لا يخفى. وبالجملة فاختلاف الأخبار في بيان وجه التسمية اشارة الى عدم انحصاره في شئ، أو كون معناها معنى كليا يشمل على وجوه كثيرة، فيحتمل احتمالا ظاهرا أن يكون ملحوظا في وجه التسمية امور على حدة أيضا، كفطمها عن الأخلاق الرذيلة بالأخلاق الفاضلة، وعن الأحوال الخبيثة بالأحوال الطيبة الزكية، وعن الأفعال القبيحة بالأفعال الحسنة، وعن الظلمانية بالنورانية، وعن السهو والغفلة بالذكر والمعرفة، وعن عدم العصمة بالمعصومية، وبالجملة عن جميع جهات النقيصة بالكمالات العقلانية والروحانية والنفسانية والجسمانية ولوازمها الظاهرية والباطنية. فيلزم حينئذ أن تكون لها العصمة الكبرى في الدنيا والاخرة والاولى، فتكون حينئذ معصومة، تقية، نقية ولية، صديقة، مباركة، طاهرة الى آخر الأسماء المذكورة في الرواية وغير الرواية. وتخصيص أسمائها بالتسعة في الخبر الصادقي اما من جهة اشتمالها من حيث المعنى على سائر الأسماء أيضا، أو من جهة صدور التسمية بها من جانب الله سبحانه بلا واسطة، كما يشعر به قوله (عليه السلام): " لفاطمة تسعة أسماء عند الله تعالى " مع ان تخصيص الشئ بالذكر لا ينفي الغير ولا يفيد الحصر، ويمكن اثبات


(1) البحار 43: 13، ذيل حديث: 9. (*)

[ 102 ]

معصوميتها (عليها السلام) بملاحظة خصوص معنى فطمها عن الشر أيضا، إذ لا خير في المعصية كما لا معصية في الخير، كما لا خير في الخباثة الحالية والرذالة الخلقية بل كلها شر لا محالة. تنبيه: بقي هنا شئ وهو ان معنى الفطم يستلزم ثبوت المفطوم عنه في المفطوم، بل رسوخه حتى يفطم عنه بشئ آخر يجعل بدله، واعتبار هذا المعنى يستلزم عدم المعصومية في الحالة السابقة. ووجه دفع الاشكال على نحو الاجمال، ان معنى الفطم وإن كان كذلك في أصل اللغة الا انه يستعمل كثيرا - ولو من جهة القرائن الخارجية - فيما كان ثبوت هذا المعنى فيه بالشأن والقوة لا بالفعل، ولما كانت فاطمة (عليها السلام) من جملة أفراد الممكنات، وماهية الممكن من حيث هي من شأنها الظلمة وصدور المعصية مثلا، كما قيل: سيه روئى ز ممكن در دو عالم * جدا هرگز نشد والله اعلم فصح اطلاق الفطم حينئذ بالنظر الى هذه الصفة اللازمة الامكانية، فبعد ملاحظة ثبوت الفطم في المرتبة الثانية يثبت معصوميتها الأصلية وطهارتها الجبلية، فينتفي عنها الكدورات الامكانية، والشوائب الكونية، فتكون كما قيل: چو ممكن گرد امكان بر فشاند * بجز واجب دگر چيزى نماند ومن جهة ما اشير إليه كانت معصومية المعصومين اختيارية، يستحقون بها الحمد والفضيلة لا جبرية وقهرية، والا لم يبق لهم الفضيلة في العصمة، ولكانت مستندة على الجبر، ولا فضيلة في العصمة القهرية. ويمكن أن يكون ذلك بملاحظة ما كان الناس يتصورونه من جواز صدور المعصية عنهم (عليهم السلام) مثلا، كما هو شأن البشرية ولو من جهة الشبهة، حيث انهم رأوهم في صورة البشر فتوهموا كونهم متصفين بلوازم البشرية، ولهذا: هم سرى با انبيا برداشتند * جسم ديدند آدمى انگاشتند اين ندانستند ايشان از عمى * هست فرقى در ميان بى منتهى اين زمين پاك وآن شوراست وبد * اين فرشته پاك وآن ديواست ودد


[ 103 ]

هر دو صورت گر بهم ماند رواست * آب تلخ وآب شيرين را رواست رحمة الله اين عمل را در قفا * لعنة الله آن عمل را در جزا ونظير ذلك دلالة آية التطهير على الطهارة الخلقية الأصلية كما استدلوا بها على ذلك، أي اثبات طهارتهم الذاتية ونظافتهم الجبلية، مع ان ظاهر التطهير أيضا هو طروا الطهارة بعد الخباثة، سيما بملاحظة قوله تعالى: * (يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (1) بذكر الارادة والاذهاب بصيغة المضارع. ويشعر بل يدل على نظافتها الأصلية ان تسميتها بفاطمة انما وقعت في زمان الولادة، وفي هذه الحالة لا تكليف ولا معصية البتة حتى ترد الشبهة، لانه إذا حصل الطهارة بالفطم عن الشر في أيام الطفولية، فلا يبقى معنى لطروا الطهارة المستلزم لسبق الخباثة. واما وجه كون اشتقاق فاطمة من فاطر مع مغايرة المادة، فهو اما من باب الاشتقاق الكبير، مثل نعق من النهق، وثبت من الثلم، بقلب بعض الحروف بعضا والمعنى على حاله، أو بتفاوت في الجملة، فان الفطر اما بمعنى الشق، أو الابتداء، أو نحوهما، ومعنى الفطم - وهو الفصل - مستلزم لهما ولا يخلو منهما أيضا، ويكون هذا اشارة الى كونها (عليها السلام) مظهر صفات الربوبية كسائر الأنوار المطهرة. أو هو مثل اشتقاق بكة اسم مكة من البكاء لبكاء آدم (عليه السلام) فيها، واشتقاق مكة من المكاء، كما قال تعالى: * (وما كان صلاتهم عند البيت الا مكاء وتصدية) * (2)، والشيعة من الشعاع لكونهم خلقوا من شعاع أنوارهم، وهو المراد من " فاضل طينتهم "، والطبيب من الطيب. كما روي في العلل ان الداء من الله، والدواء أيضا من الله، وانما سمي الطبيب طبيبا لأنه يطيب به نفوس الناس (3)، وهذا قسم من الاشتقاق ثابت شرعا بملاحظة مناسبة اللفظ في الجملة، وهو غير الاشتقاق الشائع بين أهل الظاهر.


(1) الأحزاب: 33. (2) الانفال: 35. (3) علل الشرائع: 525 ح 1 باب 304، عنه البحار 62: 62 ح 1، والكافي 8: 88 ح 52. (*)

[ 104 ]

ويمكن تطبيق كل ذلك على القواعد اللفظية أيضا، لأن المضاعف كما ذكروا يلحقه الابدال والحذف مثل المعتل، مثل: أحسيت وأحست في أحسست، وأمليت في أمللت، وتقضى البازي وأصله تقضض لثقل الفعل بالتضعيف، فاعطي حكم حرف العلة، والحرفان المتقاربان مخرجا يقلب أحدهما الى الآخر كالراء والميم مثلا، ونحو ذلك. [ الأخبار في تسميتها بالزهراء ] ومنها الزهراء سميت بذلك لما ورد في الأخبار. منها ما روى الصدوق (رحمه الله) في العلل، عن أبان بن تغلب، عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: يا ابن رسول الله لم سميت الزهراء زهراء ؟ فقال: لأنها كانت تزهر لأمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاث مرات بالنور، في كل يوم يزهر نور وجهها وقت صلاة الغداة والناس على فرشهم، فيدخل بياض ذلك النور الى حجراتهم بالمدينة، فتبيض حيطانهم فيعجبون من ذلك، فيأتون النبي (صلى الله عليه وآله) فيسألونه عما رأوا، فيرسلهم الى منزل فاطمة، فيأتون منزلها فيرونها قاعدة في محرابها تصلي والنور يسطع في محرابها من وجهها، فيعلمون ان الذي رأوه كان من نور فاطمة (عليها السلام). فإذا نصف النهار وتزينت للصلاة - وفي بعض النسخ تربت أي ثبتت، أو تهيأت للصلاة - زهر نور وجهها بالصفرة، فيدخل الصفرة حجرات الناس، فتصفر ثيابهم وألوانهم، فيأتون النبي (صلى الله عليه وآله) فيسألونه عما رأوه، فيرسلهم الى منزل فاطمة فيرونها قائمة في محرابها وقد زهر نور وجهها بالصفرة، فيعلمون ان الذي رأوا كان من نور وجهها. فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس احمر وجه فاطمة (عليها السلام)، فأشرق وجهها بالحمرة فرحا وشكرا لله تعالى، فكان يدخل حمرة وجهها حجرات القوم وتحمر حيطانهم، فيعجبون من ذلك ويأتون النبي ويسألونه عن ذلك، فيرسلهم الى منزل فاطمة، فيرونها جالسة تسبح الله وتمجده ونور وجهها يزهر بالحمرة، فيعلمون ان الذي رأوا كان من نور فاطمة (عليها السلام).


[ 105 ]

ولم يزل ذلك النور في وجهها حتى ولد الحسن، فهو يتقلب في وجوهنا الى يوم القيامة في الأئمة منا أهل البيت، امام بعد امام (1). وفي رواية اخرى عن محمد بن عمارة، عن أبيه، قال: سألت الصادق (عليه السلام) عن فاطمة (عليها السلام) لم سميت زهراء ؟ فقال (عليه السلام): لأنها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض (2). وعن العسكري (عليه السلام): سميت فاطمة زهراء لأنه كان نور وجهها يزهر لأمير المؤمنين (عليه السلام) من أول النهار كالشمس الضاحية، وعند الزوال كالقمر المنير، وعند غروب الشمس كالكوكب الدري (3). وفي خبر آخر في بيان كيفية ولادتها (عليها السلام) انه حدث عند ولادتها في السماء نور ظاهر لم تره الملائكة قبل ذلك، بل في مكة وجميع الأرض، كما في الخبر الآخر (4). وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) اني رأيت ليلة الاسراء امرأة في الجنة في غاية البهاء والجلالة قد بهر نورها جميع الموجودات، وهي جالسة على سرير من أسرة الجنة، وعلى رأسها تاج مكلل، وفي أذنيها قرطان يزهران لأهل الأرض والسماء، أحدهما من الزمردة الخضراء والاخر من الياقوتة الحمراء، فسألت جبرئيل عنها فقال: هذه بنتك فاطمة الزهراء، والتاج على رأسها هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) زوجها، والقرطان في اذنيها الحسن والحسين (عليهما السلام) ولداها (5).


(1) علل الشرائع: 180 ح 2، عنه البحار 43: 11 ح 2، والعوالم 11: 76 ح 6، والانوار النعمانية 1: 72. (2) معاني الأخبار 64 ح 15، علل الشرائع 181 ح 3، عنهما البحار 43: 12 ح 6، والعوالم 11: 77 ح 7، ودلائل الامامة: 149 ح 59، ودلائل الزهراء: 111 ح 59. (3) مناقب ابن شهرآشوب 3: 330 / في منزلتها عند الله، عنه البحار 43: 16 ضمن حديث 14، والعوالم 11: 78 ح 10. (4) أمالي الصدوق: 476 ح 1 مجلس 87، عنه البحار 43: 3 ح 1، والعوالم 11: 56 ح 1. (5) لم نعثر على هذا النص لكن هناك عدة أحاديث في ان الله تعالى لما خلق آدم وحواء تبخترا = (*)

[ 106 ]

وروى جابر عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: لم سميت الزهراء زهراء ؟ فقال (عليه السلام): لأن الله تعالى خلقها من نور عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماوات والأرضين، وغشيت أبصار الملائكة، وخرت الملائكة لله تعالى ساجدين، وقالوا: إلهنا وسيدنا ما هذا النور ؟ فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري، أسكنته في سمائي، خلقته من عظمتي، أخرجته من صلب نبي من أنبيائي، افضله على جميع الأنبياء، واخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري، ويهدون الى حقي، وأجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وصي نبيي (1). وعن الصادق (عليه السلام): سميت فاطمة الزهراء لأن لها في الجنة قبة من ياقوتة حمراء ارتفاعها في الهواء مسيرة سنة متعلقة بقدرة الجبار، لا علاقة لها من فوقها فتمسكها، ولا دعامة لها من تحتها فتلزمها، لها مائة ألف باب، وعلى كل باب ألف من الملائكة يراها أهل الجنة كما يرى أحدكم الكوكب الدري الزاهر في افق السماء، فيقولون: هذه الزهراء لفاطمة. انتهى (2). أقول: وعلى هذا الخبر يجوز إضافة فاطمة الى الزهراء بمعنى فاطمة القبة الزهراء، سوى الوجه المشهور في اجتماع الاسم واللقب المشار إليه في ألفية ابن مالك بقوله: وإن يكونا مفردين فأضف * حتما والا اتبع الذي ردف وعن سلمان في حديث طويل سأل فيه العباس عم النبي (صلى الله عليه وآله) وقال له: ما سبب فضل علي على ما سواك يا رسول الله مع ان المعادن واحدة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ان الله خلقني وعليا إذ لا سماء ولا أرض ولا غير


= فرءيا جارية... الى اخر الحديث، راجع مقتل الحسين للخوارزمي: 65، وميزان الاعتدال للذهبي 2: 73 ومودة القربى: 100، وينابيع المودة: 309، احقاق الحق 9: 259. (1) علل الشرائع: 179 ح 1، عنه البحار 43: 12 ح 5، والعوالم 11: 76 ح 5، والمحجة البيضاء 4: 213، كشف الغمة 2: 92. (2) مناقب ابن شهرآشوب 3: 330 / في منزلتها عند الله، عنه البحار 43: 16 ضمن حديث 14، والعوالم 11: 78 ح 8. (*)

[ 107 ]

ذلك - الى أن قال: - فلما أراد الله بدء خلقتنا تكلم بكلمة فكانت نورا، ثم تكلم بكلمة ثانية فكانت روحا، فمزج بينهما وخلقني وعليا منهما. ثم فتق من نوري نور العرش، فأنا أجل من العرش، ومن نور علي نور السماوات، فعلي أجل من السماوات، ومن نور الحسن نور الشمس فالحسن أجل من الشمس، ومن نور الحسين نور القمر، فالحسين أجل من القمر، فكانت الملائكة تسبح الله بقولهم: " سبوح قدوس من أنوار ما أكرمها على الله ". فلما أراد الله أن يبلو الملائكة أرسل عليهم سحابا من ظلمة، وكانت الملائكة لا تنظر أولها من آخرها وبالعكس، فقالت الملائكة: إلهنا نسألك بحق هذه الأنوار الا ما كشفت عنا، فقال تعالى: لأفعلن، فخلق نور فاطمة الزهراء يومئذ كالقنديل، وعلقه في قرطي العرش، فزهرت السماوات والأرضون، وكانت الملائكة تسبح الله وتقدسه، فقال الله تعالى: لأجعلن ثواب تسبيحكم وتقديسكم الى يوم القيامة لمحبي هذه المرأة وأبيها وبعلها وبنيها (1). وروى عبد الله بن مسعود قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقلت: يا رسول الله أرني الحق لأصل إليه، فقال: يا عبد الله لج المخدع، فولجت المخدع فإذا علي بن أبي طالب (عليه السلام) يصلي ويقول في ركوعه وسجوده: " اللهم بحق محمد عبدك ورسولك اغفر للخاطئين من شيعتي ". فخرجت حتى اخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فسمعته يقول: " اللهم بحق علي بن أبي طالب عبدك الا ما غفرت للخاطئين من امتي ". فقال: فأخذني من ذلك الهلع العظيم، فأوجز النبي (صلى الله عليه وآله) في صلاته وقال: يا ابن مسعود أكفر بعد الايمان ؟ فقلت: حاشا وكلا يا رسول الله، ولكن رأيت عليا يسأل بك ورأيتك تسأل الله به، ولا أعلم أيكما أفضل عند الله، فقال (صلى الله عليه وآله): اجلس يا ابن مسعود، فجلست بين يديه فقال: اعلم ان الله تعالى خلقني وعليا من نور عظمته قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، إذ لا تسبيح ولا تقديس ولا تهليل.


(1) ارشاد القلوب: 403، عنه البحار 43: 17 ح 16، والعوالم 11: 17 ح 1. (*)

[ 108 ]

ففتق نوري فخلق منه السماوات والأرض، وأنا والله أجل من السماوات والأرض، وفتق نور علي بن أبي طالب فخلق منه العرش والكرسي، وعلي والله أجل من العرش والكرسي، وفتق نور الحسن فخلق منه اللوح والقلم، والحسن والله أجل من اللوح والقلم، وفتق نور الحسين وخلق منه الجنان والحور العين، والحسين والله أجل من الجنان والحور العين. ثم أظلمت المشارق والمغارب، فشكت الملائكة الى الله عزوجل أن يكشف عنهم تلك الظلمة، فتكلم الله جل جلاله بكلمة فخلق منها روحا، ثم تكلم بكلمة فخلق من تلك الكلمة الاخرى نورا، فأضاف النور الى تلك الروح وأقامها أمام العرش، فأزهرت المشارق والمغارب، فهي فاطمة الزهراء، فلذلك سميت الزهراء، يا ابن مسعود إذا كان يوم القيامة يقول الله عزوجل لي ولعلي: أدخلا الجنة من شئتما وأدخلا النار من شئتما. وذلك قوله تعالى: * (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد) * (1) فالكافر من جحد نبوتي، والعنيد من جحد ولاية علي بن أبي طالب (2)، وهذه جملة من الأخبار المذكورة في المقام. بيان: قال السيد الجزائري (رحمه الله) بعد ذكر الخبر الأول: ولعلك تطلب وجه اختصاص هذه الأنوار بهذه الأوقات، فنقول: يجوز أن يكون وجهه ان النور الأبيض يدخل إليهم وقت الصبح وهم نيام، ليكشف عنهم بقية ظلام الليل فيقوموا الى الصلاة، وأيضا ينبغي أن يكون مخالفا لأول نور الشمس عند طلوعها حتى لا يشتبه على الناس أحد اللونين بالآخر، فان نور الشمس أصفر في ذلك الوقت. واما عن انتصاف النهار فنور الشمس أبيض، فيكون نورها أصفر خلافا له لتلك العلة ولأنه نور الخوف، لأن وقت الزوال يفتح أبواب السماء، وتنظر الملائكة


(1) ق: 24. (2) الفضائل لابن شاذان: 128، عنه البحار 40: 43 ح 81، وتأويل الآيات: 591، وتفسير كنز الدقائق 12: 386 / سورة ق، وأورده الجزائري في الأنوار النعمانية 1: 17. (*)

[ 109 ]

الى الأرض، ونور الخوف أصفر، وأما آخر النهار فهو نور المحبة والشكر على أداء الفرائض، كما يظهر من قوله (عليه السلام): " فرحا وشكرا لله عزوجل " ونور المحبة أحمر كما هو المتعارف، انتهى (1). ويجوز أن يذكر هنا وجه آخر أمتن وأقوى وأولى وأتقن، وهو يحتاج الى تمهيد مقدمة، وهي ان العرش في الأخبار جاء على معان كثيرة، حتى جعلوها منتهية الى ستين أو سبعين معنى، كما نقل عن تفسير نور الثقلين، منها الثمانية المشهورة، أولها: الفلك التاسع المحيط بالمخلوقات، ولذا سموه محدد الجهات، ومنتهى الاشارات، والمشهور في اصطلاح الحكماء هو هذا. والثاني: علم الله المحيط بجميع الأشياء المراد في قوله تعالى: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (2)، وروي ان أربعة منهم من الأولين: نوح، وابراهيم، وموسى، وعيسى، وأربعة من الآخرين: محمد، وعلي والحسنان (3)، كما ان في عالم الظاهر نور الشرائع الظاهرة مستند الى هذه الثمانية. والثالث: ملك الله المراد في قوله تعالى: * (لا اله الا هو رب العرش العظيم) * (4). والرابع: عالم الامكان المراد في قوله تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) * (5). والخامس: صفات الجلال والاكرام. والسادس: قلوب العباد المؤمنين، كما في الحديث القدسي: " ما وسعني عرشي ولا سمائي، بل وسعني قلب عبدي المؤمن " (6)، كذا قيل.


(1) الأنوار النعمانية 1: 72. (2) الحاقة: 17. (3) الكافي 4: 585 ح 4، عنه البحار 100: 123 ح 29، والتهذيب 6: 84 ح 3، والاعتقادات للصدوق: 24 / الاعتقاد في العرش، وكامل الزيارات: 307، تفسير القمي 2: 384. (4) النمل: 26. (5) طه: 5. (6) راجع البحار 58: 39 ح 61. (*)

[ 110 ]

والسابع: عالم الأمر أي التصرف الايجادي. والثامن: مجموع مخلوقات الباري تعالى. وهذا الأخير هو الشائع الكثير، فلعالم الخلق الذي هو المعنى الأخير، وهو العرش الحقيقي أربعة أركان: الخلق، والرزق، والحيات، والممات، ولكل ركن منها نور من الأنوار الأربعة: النور الأبيض والأصفر والأحمر والأخضر، وهذه الأركان الأربعة على كاهل الملائكة الأربعة. وباطن هذه الأربعة العقل الكلي، والروح الكلي، والنفس الكلي، والطبيعة الكلية، وأول الألوان هو البياض لبساطته وعدم تراكم الطوارئ عليه، والثاني الصفرة الحاصلة بتراكم البياض واشتداده، ثم الحمرة باشتداد الصفرة، ثم الخضرة باشتداد الحمرة، ومن هذه الألوان تلونت كلما في الكون من المكونات، اما بالنور الأصلي أو بأشعته العكسية، فالألوان البيض التي بها تزينت الجنة من عكوس النور الأبيض، وهكذا البواقي، وألوان عالم البرزخ من عكوس ألوان الجنة الاخروية، وألوان الدنيا من عكوس الجنة البرزخية. باغها وسبزه ها در عين جان * بر برون عكسش چو بر آب روان باغها وسبزه ها اندر دل است * عكس لطف آن بر اين آب وگل است گر نبودى عكس آن سرو سرور * كى بخواندى ايزدش دار الغرور اين غرور آن است يعنى اين خيال * هست از عكس دل وجان رجال كل ما في الكون وهم أو خيال * أو عكوس في المرايا أو ظلال جمله مغروران بر اين عكس آمده * بر خيالي كاين بود جنتكده مى گريزند از اصول باغها * بر خيالي مى كنند اين لاغها تا كه خواب غفلتشان شد بسر * راست بينند وچه سود آنگه نظر وبالجملة فنور العقل أبيض، ونور الروح أصفر، ونور النفس أحمر، ونور الطبيعة أخضر، وفي الرواية عن الباقر، عن علي بن الحسين (عليه السلام): ان الله عزوجل خلق العرش من أنوار مختلفة، فمن ذلك النور نور أخضر اخضرت منه


[ 111 ]

الخضرة، ونور أحمر احمرت منه الحمرة، ونور أصفر اصفرت منه الصفرة، ونور أبيض وهو نور الأنوار، ومنه ضوء النهار (1). ثم ان اليوم من ابتداء طلوع الشمس ثم سيرها الى الغروب مثال حال للقوس النزولي، وهو القوس المفروض من تنزلات العقل من عالم العقول الى عالم الطبائع المتجسدة بالأجسام، والغروب الى الطلوع مثال حال للقوس الصعودي من عالم الأجسام الى عالم العقول، فان زمان نزول العقل الى عالم الأجسام يعد خمسين ألف سنة، والرجوع الى عالم الاخرة بنحو الصعود أيضا خمسون ألف سنة، فينزل الأمر من السماء الى الأرض - أي من سماء عالم العقول الى أرض الأجسام - ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وقد ورد أيضا ان عمر الدنيا مائة ألف سنة بمقدار اليوم والليلة من أيام السنة الالهية، فان كل يوم منها خمسون ألف سنة كالليلة التي هي بدلها، بل هي أيضا يوم بالاعتبار الآخر، ويدل عليه الآية السابقة، كما ان كل يوم من الأيام الربانية ألف سنة، لقوله تعالى: * (وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * (2). وفاطمة الزهراء لكونها من جنس العقل الكلي، فإن أنوار المعصومين (عليهم السلام) جميعا من طينة واحدة لكن بالتقدم والتأخر كالضوء من الضوء، على ما مرت إليه الإشارة. فمن جهة حكاية عالم الباطن والحقيقة، كان نورها (عليها السلام) في ابتداء طلوع الشمس الحاكي لطلوع شمس فيض الوجود بوساطة العقل الكلي أبيض، وفي وسط النهار الذي هو برزخ بين المشرق والمغرب الحاكي لتنزل العقل إلى مقام الروح كان نورها أصفر، وفي زمان الغروب الذي هو مقام ظهور النفس لغروب شمس العقل في عالم الطبائع بتعلق النفس بها كان نورها أحمر، وفي وسط الليل الذي هو مقام تحقق الطبيعة يكون نورها (عليها السلام) أخضر.


(1) تفسير القمي 2: 24 / سورة بني اسرائيل، عنه البحار 24: 375 ح 103. (2) الحج: 47. (*)

[ 112 ]

وقد يطلق النور الأخضر على نور النفس أيضا، وهذا أيضا صحيح باعتبار طرفها الأسفل الناظر إلى الطبيعة التي هي جبل القاف المحيط بالدنيا، وهو من زمردة خضراء منه اخضرت سماوات النفوس الكلية، وانتقال نور فاطمة (عليها السلام) إلى الحسن والحسين (عليهما السلام)، ثم الأئمة من ولد الحسين، إنما هو عبارة عن ظهور آثاره فيهم (عليهم السلام) من حيث المضهرية، فزال عنها (عليها السلام) صفة المظهرية لهذه الأنوار الفائضة، وليس المراد انها صارت خالية من هذا النور بالمرة. وأما تنور أهل السماء بنورها، فلأن الكدورات الدنيوية قد غلبت على أهل الأرض بالكلية، فلا يستضيئون بنورها بل هم منها عمون، بخلاف أهل السماوات فإنهم عن الكدورات الدنيوية منزهون، فبنورها (عليها السلام) يستضيئون سواء كانوا أهل السماوات الظاهرية أو السماوات الباطنية، أي سماوات العوالم العالية الغير الجسمانية، فإن للباطن أيضا سماوات كما للظاهر. وهذا التنوير على نحو الكمال إنما هو من حيث باطن المعصومين، فوجههم بالحقيقة إلى العوالم الباطنية، وهي السماوات الأصلية، وظاهرهم إلى أعلى هذا العالم بمنزلة الظهر، كما ورد أن ظهر الشمس إلى أهل الأرضين، ووجهها إلى فوق (1). فإذا كان يوم القيامة جعل وجه الشمس إلى الناس بعكس هذه الحالة، وذلك بترقي الناس إلى السماوات الأصلية أي إلى العوالم (2) العالية التي منها نزلوا وإليها يصعدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، إذ ما من أمر إلا وله أصل وفصل، وكل شئ يرجح إلى أصله وينصرف إلى محله وفصله. فرقتي لو لم تكن في ذا السكون * لم يقل إنا إليه راجعون راجع آن باشد كه باز آيد به شهر * سوى وحدت آيداز تفريق دهر


(1) راجع البحار 58: 141 ح 1، وفيه: " إن وجهها لأهل السماء وقفاها لأهل الأرض ". (2) كذا الظاهر، وفي الأصل بياض. (*)

[ 113 ]

ولما كان توجه النبي (صلى الله عليه وآله) غالبا إلى إرشاد الامة والهداية المتحققة منه (صلى الله عليه وآله) بالنسبة إليهم بعد البعثة، لم يفد إلا تنوير ظاهر المكلفين في هذه النشأة، فبظهور نور ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) زادت النورية، فصارت سارية إلى البواطن أيضا لكن إلى نهاية محدودة. ثم تعمق إلى عالم الباطن بتوجه فاطمة (عليها السلام)، ومعرفة الناس إياها، ثم بتوجه الحسن (عليه السلام) إليهم، ثم بتوجه الحسين (عليه السلام) مجدا في إنقاذ الامة، فيصح أن يقع ذكر خلق السماوات والأرض وما فوقهما إلى منتهى العوالم العالية بعكس التدريج الأصلي، كما وقع في الخبر الأخير المروي عن عبد الله بن مسعود. وبعبارة اخرى ان هذا الترتيب المذكور في هذه الرواية إنما هو باعتبار القوس الصعودي في مقام (أقبل فأقبل) لا النزولي في مقام (أدبر فأدبر) فتبصر وتدبر. [ الأخبار في تسميتها بالانسية الحوراء ] ومنها الإنسية الحوراء، وقد ورد في التسمية بها أخبار مستفيضة. منها الخبر عن ابن عباس قال: دخلت عائشة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقبل فاطمة (عليها السلام)، فقالت له: أتحبها يا رسول الله ؟ قال (صلى الله عليه وآله): أما والله لو علمت حبي لها لازددت لها حبا، انه لما عرج بي إلى السماء الرابعة أذن جبرئيل وأقام ميكائيل، ثم قال لي: ادن يا محمد، فقلت: أتقدم وأنت بحضرتي يا جبرئيل. قال: نعم، إن الله عزوجل فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلك أنت خاصة عليهم، فدنوت وصليت بأهل السماء الرابعة، ثم التفت عن يميني فإذا أنا بإبراهيم في روضة من رياض الجنة، وقد اكتنفها جماعة من الملائكة. ثم إني سرت إلى السماء الخامسة، ومنها إلى السادسة، فنوديت: يا محمد، نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي، فلما صرت إلى الحجب أخذ جبرئيل


[ 114 ]

بيدي فأدخلني الجنة، فإذا أنا بشجرة من نور في أصلها ملكان يطويان له الحلل والحلي، فقلت: حبيبي جبرئيل لمن هذه الشجرة ؟ فقال: هذه لأخيك علي بن أبي طالب، وهذان الملكان يطويان له الحلي والحلل إلى يوم القيامة. ثم تقدمت أمامي فإذا أنا برطب ألين من الزبد، وأطيب رائحة من المسك، وأحلى من العسل، فأخذت برطبة فأكلتها فتحولت الرطبة نطفة في صلبي، فلما أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة، فحملت بفاطمة، ففاطمة (عليها السلام) حوراء انسية، فإذا اشتقت إلى الجنة شممت رائحة فاطمة (1). وفي خبر آخر انه قال (صلى الله عليه وآله): دخلت الجنة في ليلة الاسراء، فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها، فأكلته فحول الله ذلك ماء في ظهري خلق منه فاطمة، فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها (2). وعن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خلق الله نور فاطمة قبل أن يخلق الأرض والسماء، فقال بعض الناس: يا نبي الله فليست هي انسية ؟ فقال (صلى الله عليه وآله): فاطمة حوراء انسية، قالوا: يا نبي الله وكيف هي حوراء انسية ؟. قال (صلى الله عليه وآله): خلق الله عزوجل إياها من نوره قبل أن يخلق آدم (عليه السلام)، إذ كانت الأرواح، فلما خلق الله آدم عرضت على آدم، قيل: يا نبي الله وأين كانت فاطمة ؟ قال: كانت في حقة تحت ساق العرش، قالوا: يا نبي الله فما كان طعامها ؟. قال (صلى الله عليه وآله): التسبيح والتهليل والتمجيد، فلما خلق الله عزوجل آدم (عليه السلام) وأخرجني من صلبه، وأراد الله عزوجل أن يخرجها من صلبي جعلها تفاحة في الجنة، وأتاني بها جبرئيل فقال لي: السلام عليك ورحمة الله


(1) علل الشرائع: 183 ح 2 باب 147، عنه البحار 43: 5 ح 5، والعوالم 11: 34 ح 1، ونحوه في تفسير فرات الكوفي: 75 ح 49، وكشف الغمة 2: 86. (2) راجع تفسير القمي 1: 365 / سورة الرعد، عنه البحار 43: 6 ح 6، والعوالم 11: 40 ح 16. (*)

[ 115 ]

وبركاته يا محمد، قلت: وعليك السلام ورحمة الله حبيبي جبرئيل، فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، قلت: منه السلام وإليه يعود السلام، قال: يا محمد إن هذه تفاحة أهداها الله عزوجل إليك من الجنة. فأخذتها وضممتها إلى صدري، قال: يا محمد يقول الله جل جلاله: كلها، ففلقتها فرأيت نورا ساطعا وفزعت منه، فقال: يا محمد مالك لا تأكلها ؟ كلها ولا تخف فإن ذلك النور للمنصورة في السماء، وهي في الأرض فاطمة. قلت: حبيبي جبرئيل ولم سميت في السماء المنصورة وفي الأرض فاطمة ؟ قال: لأنها تفطم شيعتها من النار وأعداءها عن حبها، وهي في السماء المنصورة، وذلك قوله تعالى: * (ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء) * (1) يعني نصر فاطمة لمحبيها (2). وفي حديث طويل في البحار عن عمار، قال: شهدت علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد ولج فاطمة - وساق الحديث في مكالمة علي معها إلى أن قال: - فقالت فاطمة لعلي: إعلم يا أبا الحسن ان الله خلق نوري وكان يسبح الله جل جلاله، ثم أودعه بشجرة من شجرة الجنة فأضاءت، فلما دخل أبي الجنة أومأ الله إليه إلهاما أن اقتطف الثمرة من تلك الشجرة، وأدرها في لهواتك ففعل، فأودعني الله سبحانه صلب أبي، ثم أودعني خديجة بنت خويلد، فوضعتني وأنا من ذلك النور، أعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، يا أبا الحسن المؤمن ينظر بنور الله تعالى (3). وعن الصادق (عليه السلام)، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): معاشر الناس خلقت فاطمة حوراء انسية لا انسية، خلقت


(1) الروم: 4 و 5. (2) معاني الأخبار: 396 ح 53، عنه البحار 43: 4 ح 3، والعوالم 11: 39 ح 15، وتفسير البرهان 3: 258 ح 6. (3) البحار 43: 8 ح 11، والعوالم 11: 18 ح 1 عن عيون المعجزات: 57. (*)

[ 116 ]

من عرق جبرئيل ومن زغبه، قالوا: يا رسول الله إستشكل ذلك علينا، تقول حوراء انسية لا انسية، ثم تقول من عرق جبرئيل ومن زغبه ؟ ! قال (صلى الله عليه وآله): إذا انبئكم، أهدى إلي ربي تفاحة من الجنة أتاني بها جبرئيل، فضمها إلى صدره فعرق جبرئيل وعرقت التفاحة، فصار عرقهما شيئا واحدا، فأمرني بأكلها، ففلقتها فرأيت منها نورا ساطعا فزعت من ذلك النور، قال: كل فإن ذلك النور نور المنصورة فاطمة. قلت: يا جبرئيل ومن المنصورة ؟ قال: جارية تخرج من صلبك، واسمها في السماء منصورة وفي الأرض فاطمة، فقلت: يا جبرئيل ولم سميت في السماء بمنصورة وفي الأرض فاطمة ؟ قال: لأنها تفطم شيعتها من النار، إلى آخر ما مر (1). بيان: قال الفاضل المجلسي (رحمه الله): والزغب الشعيرات الصفر على ريش الفرخ، وكونها من زغب جبرئيل اما لكون التفاحة فيها وعرقت من بينها، أو لأنه التصق بها بعض الزغب فأكله النبي (صلى الله عليه وآله)، إنتهى (2). ويمكن أن يكون المراد أن التفاحة المهداة من الجنة إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، هو نور فاطمة (عليها السلام) أهدي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في عالم البشرية ليظهر من صلبه في صورة البشر في هذه النشأة، كما كان ذلك مقتضى طبعها في أصل الخلقة، وهذه التفاحة يعبر عنها في بعض الأخبار برطب شجرة رآها النبي (صلى الله عليه وآله) في الجنة، أو بثمرة شجرة طوبى، أو غير ذلك. والمراد في الجميع واحد، وإنما اختلفت العبارات للإشارة إلى خواصها الباطنية والظاهرية، كتقوية قلوب الشيعة، ودفع رطوبات عالم الطبيعة وغير ذلك، وجبرئيل ملك الخلقة، وهو في الباطن مرتبة من مراتب عقل النبي (صلى الله عليه وآله) أي الحقيقة المحمدية، والزغب هو الريش الصغار، والريش


(1) تفسير فرات الكوفي: 321 ح 435، عنه البحار 43: 18 ح 17، والعوالم 11: 86 ح 1. (2) البحار 43: 18، ذيل حديث 17. (*)

[ 117 ]

سبب قوة الطائر في الطيران، واختلاط زغب جبرئيل للتفاحة مع عرقه الذي هو العصارة إشارة إلى تعلق الخلقة بها خلقة كاملة، يظهر بها في فاطمة (عليها السلام) آثار نور الحقيقة المحمدية، فتكون حوراء من جنس الحور التي هي من مكان الجنة، ولكن ظهرت في الصورة الإنسانية بمقتضى البشرية، فتكون حوراء إنسية لا إنسية حقيقة. والمراد من كونها حوراء أنها ليست بانسية، وإن كانت انسية في الصورة لا أنها من جنس حور الجنة، فإن الحور من جنس الملائكة أي من تلك الطينة، وفاطمة (عليها السلام) ليست من هذه الطبيعة، فكونها حوراء بين الحور العين من أهل الجنة نظير كونها بشرا بين الأفراد البشرية، فهي منها في الصورة لا الحقيقة، وإن كان الملك أيضا جوهرا مجردا نورانيا، يتشكل بأشكال مختلفة حسنة لقوة الروحانية، لكن: فرق دارد آن سكون با اين سكون * گرچه نام هر دو باشد يك سخن اشتباهي هست لفظي در ميان * ليك خود كو ز آسمان تا ريسمان وأصل الحور العين من طبيعة الملك في كونها نورية محضة، إلا أن الملائكة ليست بحالة الذكورية والأنوثية، بخلاف الحور المراد بها في أغلب الموارد من هي في صورة النسوة، فإنها مؤنثة مثل مؤنث الطائفة البشرية. ولا يخفى أن الحور جمع الأحور والحوراء، والعين جمع الأعين والعيناء، والمراد بالحور العين في أغلب الموارد هو جمع المؤنث، وقد يستشكل في قولهم (عليهم السلام) في الأدعية: " وزوجني من الحور العين " أنه لو قرأ هذا الدعاء طائفة الاناث فما معناه ؟ فيقال: إن المرأة الداعية بذلك تقصد الحور العين جمع المذكر، وغفل بعضهم عن ذلك فقال: إن هذا الدعاء مخصوص بقراءة المذكر، توهما أن الحور العين مخصوص بالمؤنث، وليس كذلك فتأمل. [ الفرق بين الملك والجن والشيطان ] وأما الجن والشياطين فلهما مذكر ومؤنث البتة، وهل توالدهما وتناسلهما


[ 118 ]

على نحو ما تقرر في نوع البشر، أو انهما تبيضان وتفرخان كالطيور، أو بسحق الأرجل بعضها ببعض، أو بنحو آخر ؟ وجوه محتملة ليس في تحقيقها كثير فائدة، لكن اللازم هنا هو بيان الفرق في الجملة بين البشر والملك، والجن والشيطان من حيث الجنس والطبيعة. وهو أن البشرية مستلزمة للكثافة الجسمية بخلاف البواقي، فإنها إما أجسام لطيفة، أو أرواح لطيفة متعلقة بالقوالب المثالية، والملك من بينها نوري صرف، كما أن الشيطان ناري محض، والجن مركب من القوتين النورية والنارية، فلا يكون الملائكة إلا كراما بررة، ولا الشياطين إلا لئاما، والجن يكون منه أبرار ومنه أشرار كما في نوع الإنسان. فباطن الإنسان كالجن مركب من القوتين النورية الملكية العقلانية والنارية الشيطانية الوهمية، مع زيادة قوتين هما من لوازم القوة الشيطانية، وهما: الشهوية البهيمية والغضبية السبعية. والجن إذا غلب ناريته كان من الشيطان، وإذا غلب نوريته كان من الملائكة، نظير الإنسان لكن مع حصول فضيلة كاملة من جهة تغليب القوة العاقلة على الوهمية وبالعكس، فيكون أفضل من الملائكة أو أشر من الشيطان. وإبليس كان من الجن، كما في صريح الآية: * (فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) * (1) ومن جهة شرارته سمى بالشيطان فيسمى أولاده أيضا شياطين، ويطلق على شرير الإنسان أيضا أنه شيطان، قال تعالى: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * (2). وأما قوله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس) * (3) فالاستثناء منقطع كما قيل، أو متصل باعتبار لحوق إبليس بالملائكة ودخوله فيهم في


(1) الكهف: 50. (2) الأنعام: 112. (3) الحجر: 30 - 31. (*)

[ 119 ]

الصورة، وقيل: ليس الشيطان نوعا على حدة وإنما هم أشرار الجن، وعلى الوجهين يكون بين الملك والجن مباينة من حيث الطبيعة. وقيل: الجن هم الروحانيون المستترون من الحواس مطلقا في مقابل الإنس، فيدخل فيه الملائكة والشياطين، فيكون بينهما العموم المطلق، وينقسم إلى أقسام ثلاثة: الأخيار وهم الملائكة، والأشرار وهم الشياطين، والمختلط الذي منه أشرار ومنه أخيار وهم الجن بالمعنى الأخص، وهذا قول الجاحظ على ما نقل في بعض شروح قصيدة البردة. أو ينقسم إلى قسمين: الملائكة والشياطين، وعلى المباينة أيضا قد يطلق الجن على الملائكة لاستتارهم عن الحواس الظاهرية، والجني منسوب إلى أجن والمراد واحد من هذا النوع، فيكون ياء النسبة لافادة معنى الوحدة، كما في نحو روم وزنج وزنجي على ما ذكر. وإن الفرق بين إسم الجنس ومفرده يكون بأحد وجوه ثلاثة، إما بادخال ياء النسبة على الجنس كما ذكر، أو تاء الوحدة كما في نحو تمر وتمرة، أو حذف التاء كما إذا كان إسم الجنس إسما له مع التاء، نحو كمأة وكمؤ. والجنة طائفة الجن أيضا فالتاء للوحدة الجنسية، والجان إسم جمع للجن، وقال الزمخشري وغيره: إن الجان أبو الجن كآدم أبو البشر، والمراد من أبي الجن حينئذ قيل إبليس، وقيل غيره وإنما إبليس أبو الشياطين، وقيل: إن الجان قوم مخصوص من الإنسان خلقوا قبل آدم (عليه السلام)، وأصل الجن بمعنى الإستتار أو المستتر. ووضع هذه المادة مطلقا - أي الجيم مع النون المشددة - بمعنى الإستتار، ومنه الجن لاستتاره من العيون، والجنة للجن لاستتار الإنسان به في الحرب، والجنون لاستتار العقل بسببه، ويقال للجن بالفارسية: " پري " كما يقال للشيطان بها: " ديو "، وهذا أيضا يدل على المغايرة بين الجن والشيطان وعدم كونهما من واد واحد. وأصل الشيطان من شطن أي بعد، أو من الشطو بمعنى البعد أيضا لبعده عن


[ 120 ]

الحق والرحمة، أو من الشيط بمعنى الإحتراق لكونه مخلوقا من القوة النارية، أو من الشيط بمعنى الهلاك لهلاكه في نفسه أو إهلاكه الإنسان، والتسمية أيضا دليل المغايرة. والملك أصله (ملأك) بالإتفاق لقولهم في جمعه: ملائك وملائكة، واستعمل أصله أيضا في قوله: فلست بانسي ولكن بملاك * تنزل من جو السماء يصوب (1) ثم قيل أصله مألك من الألوكة بمعنى الرسالة، فقلب قلبا مكانيا ورجح هذا القول، لقوله تعالى: * (جاعل الملائكة رسلا...) * (2) وغير ذلك، وقيل: فعال من الملك، وأورد عليه بانا لا نعرف فيه معنى الملك، وفيه نظر، وقيل: مفعل من الاك أي أرسل، وأورد عليه بانه مرسل (بالفتح) لا مرسل (بالكسر)، واجيب بجواز جعله بمعنى موضع الرسالة، أو مصدرا بمعنى المفعول. والسعلاء والسعلاة (بكسر السين فيهما) قيل: ساحرة الجن ويقال لها: الجادو، والمهول، والمهيب، والجمع: السعالي، وفي إطلاق لفظ الساحرة دلالة على ان من يسحر من الجن لا يكون إلا من طائفة النسوان، كما في الإنسان كذلك غالبا. ويقال للسعلاة الغول أيضا، فتتصور تلك الساحرة في البوادي، وتتراءى للناس فتقول للقافلة: ها هو الطريق فتضل الناس وتوقعهم في الهلكة، وباتصافها بهذه الصفة تسمى غولا من الغيلة بمعنى الهلكة، وذكر بعضهم أنها تظهر بصورة سوداء طويلة كالنخلة، وقد رأوها غالبا في شطوط البحار وأطراف الجزائر، وانها تخاف من سمك الجري، والظاهر أن هذا نوع من أنواع الساحرة المذكورة لا أنها هي مطلقا. وبالجملة قال المولوي:


(1) راجع لسان العرب 13: 186 / ملك. (2) فاطر: 1. (*)

[ 121 ]

بانك غولان هست بانك آشنا * آشنائى كه كشد سوى فنا چون بود آن بانك غول آخر بگو * مال خواهم جاه خواهم آبرو ازدرون خويش اين آوازها * قطع كن تاكشف گردد رازها ذكر حق كن بانك غولان را بسوز * چشم نرگس را از اين كركس بدوز وقال (صلى الله عليه وآله): إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان (1)، فقوله (صلى الله عليه وآله): (لا غول ولكن السعالى) (2) إشارة إلى رد ما هو مشهور بين العامة من كون الغول من حيوانات البوادي ويتراءى، حتى قيل: إنه قد يأكله الذئاب، ونقلوا ان تأبط شرا قد قتل واحدا منه (3)، ونحو ذلك. وقيل: إن الغول هي التوهمات والخيالات الحاصلة من فعل الواهمة في حال الوحشة إلى غير ذلك، بل أنكر الفلاسفة الجن والشياطين بالمرة وقالوا: كل ما يتوهم من ذلك فإنما هي خيالات وهمية مستندة إلى السوداء والصفراء، أي إلى غالبتهما. وقال بعض الفلاسفة: إن المراد من الملائكة السماوية القوى السمائية، ومن الملائكة الأرضية القوى (4) الأرضية، وملائكة الإنسان: العقل، والفكر، والقوى الروحانية العلمية والعملية، وشيطانه: النفس الأمارة والوهم المسمى بالوسواس الخناس، والقوى النفسانية العلمية والعملية أيضا، كما قال إمام الحرمين في كتابه الشامل: " إعلموا رحمكم الله ان بعض العقلاء أنكروا الملائكة وأولوها بالقوى الروحانية، وان كثيرا من الفلاسفة وجماهير القدرية وكافة الزنادقة أنكروا الشياطين والجن أصلا ورأسا، ولا يبعد ذلك ممن لا يتشبث بالشريعة، وإنما


(1) النهاية 3: 396 / غول، عنه البحار 63: 268. (2) النهاية 3: 396 / غول، وفي البحار 84: 162. (3) راجع القاموس المحيط: 1344 / غول. (4) كذا الظاهر، وفي الأصل: الملائكة الأرضية. (*)

[ 122 ]

العجب من إنكار القدرية ومعظم أهل الإعتزال ذلك مع تمسكهم بنصوص القرآن والأخبار، إنتهى ". وبالجملة إن الغول هي السعالى، وهي سواحر الجن، والجن موجود محقق على ما دل عليه الشرع وأجمع عليه جميع المليين، ولكنهم ممنوعون عن الاضرار بالناس إلا الغول منهم، فإنه قد يتلاعب بالإنسان وينادي في البادية لاضلال القافلة، لكنه لا يفعل كذلك إلا لأرباب الأرواح الخبيثة أو الطبائع الكثيفة، وفي خصوص الجان والشياطين مباحث مفصلة، وهذه جملة تكفي في المرحلة. [ في كونها (عليها السلام) ام أبيها ] ومنها ام أبيها كما ذكره الفاضل المجلسي (رحمه الله)، وقال: إن لها (عليها السلام) خمس كنى هي: ام الحسن، وام المحسن، وام الحسين، وام الأئمة، وام أبيها (1)، ومرادنا في تعداد بعض أسمائها هنا أعم من الإسم واللقب والكنية، كما مرت إليه الإشارة. وقد روي في مقاتل الطالبيين بإسناده إلى جعفر بن محمد (عليه السلام)، عن أبيه: إن فاطمة كانت تكنى ام أبيها (2)، وذكر في كشف الغمة ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان يحبها ويكنيها بام أبيها (3). وذكر بعضهم ان من جملة كناها: ام الخيرة، وام المؤمنين، وام الأخيار، وام الفضائل، وام الأزهار، وام العلوم، وام الكتاب، وعليه أول بعضهم قوله تعالى في


(1) البحار 43: 61 ح 15، والعوالم 11: 89 ح 2، عن مناقب ابن شهرآشوب 3: 357 / في حليتها وتواريخها. (2) مقاتل الطالبيين: 57 / ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام)، عنه البحار 43: 19 ح 19، والعوالم 11: 89 ح 1، ونحوه في المناقب لابن المغازلي: 340 ح 392، والاستيعاب 40: 380 والمعجم الكبير للطبراني 22: 397 ح 985 والإصابة 4: 377. (3) كشف الغمة 2: 90. (*)

[ 123 ]

كتابه الكريم: * (وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم) * (1). ولا إشكال في الكنى الأخيرة، وإنما الكلام في بيان معنى الكنية الأولى، وهي أدق كناها من حيث المعنى، والأظهر في توجيهها ما اختاره النواب الأشرف الأعلى، والجناب الأرفع الأسنى، المقتعد على غارب المعالي، والمؤسس لهذا الأساس العالي، مؤيد الدولة والملة - أدام الله تأييده - وهو ان النكتة في هذه التكنية انما هي محض إظهار المحبة، فإن الإنسان إذا أحب ولده أو غيره وأراد أن يظهر في حقه غاية المحبة، قال: يا أماه في خطاب المؤنث، ويا أباه في خطاب المذكر، تنزيلا لهما بمنزلة الام والأب في المحبة والحرمة، على ما هو معروف في العرف والعادة. ويؤيد ما اختاره المؤيد الكاشف للغمة ما ذكر في كشف الغمة في فضل فاطمة (عليها السلام): إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يحبها ويكنيها بام أبيها (2)، ولا إشكال في صحة هذا التوجيه، وانه الوجيه الخالي عن ارتكاب التكلف في المقام، وكلام الملوك ملوك الكلام. لكن ذكر الصدوق (رحمه الله) في العلل عن الحسن بن فضال انه قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت له: لم كنى النبي (صلى الله عليه وآله) بأبي القاسم ؟ فقال: لأنه كان له ابن يقال له (قاسم) فكنى به، قال: قلت: يا ابن رسول الله فهل تراني أهلا للزيادة، أو لا تراني أهلا لما فوق ذلك ؟ فقال (عليه السلام): نعم، أما علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أنا وعلي أبوا هذه الامة - بصيغة التثنية في الأب على النسخ المشهورة، وبصيغة المفرد على بعض النسخ - قلت: بلى، قل: أما علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أب لجميع الامة ؟ قلت: بلى، قال: أولم يكن علي (عليه السلام) من جملة امته ؟ قلت: بلى، قال (عليه السلام): أو ليس علي (عليه السلام) قاسم


(1) الزخرف: 4. (2) كشف الغمة 2: 90. (*)

[ 124 ]

الجنة والنار ؟ قلت: بلى، قال: فقيل له أبو القاسم، لانه أبو قاسم الجنة والنار (1)، إنتهى. فعلي (عليه السلام) قاسم الجنة والنار من جهة تميز المؤمن وغيره بحبه وبغضه، وإيجاب حبه دخول الجنة وبغضه دخول النار، وكونه بابا باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وكونه نعمة للأبرار ونقمة على الفجار، قسيم الجنة والنار، بل كون رضوان ومالك خازنهما صادرين عن أمره (عليه السلام) بأمر القادر المختار فيما يأمره علي (عليه السلام) في خصوص الأبرار والفجار، كما نطق به الأخبار، فهو (عليه السلام) قاسم والنبي (صلى الله عليه وآله) أبوه في التربية والتقوية، فيكون (صلى الله عليه وآله) أبا القاسم بهذا المعنى لتلك النكتة. فإذا كان نحو هذا الإعتبار واردا في الأخبار، فيمكن إعتبار مثله أيضا في المرحلة، بأن يقال: إن الام في اصطلاح أهل الحكمة يطلق على ما يكون مظهر للشئ ومنشأ له، أو له جهة تقوية وتربية ولو بالنسبة، أو يكون محل تفاصيل الامور في الجملة، ولذا كان علي (عليه السلام) ام الامة على تقدير التثنية في (أبوا هذه الامة) مع البناء على التغليب كما هو الظاهر على معنى أنا أبو الامة وعلي ام الامة. والاسطقسات أي العناصر الأربعة امهات المواليد الثلاثة، فهي امهات سفلية كما ان الأفلاك آباء علوية، وكذا كان الماهية ام الوجود لكونها مظهره ومتعلقه، إلى غير ذلك. ولما كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الدائرة العليا مظهر آثار تلك الأنوار العالية، ومحل تفاصيل الآثار العلوية، صارت اما بالنسبة إليها في هذه الدورة، لأن أول ما خلق الله هو الحقيقة المحمدية، كما تقرر في الأخبار المروية، وهي مظهر الفيوضات الإلهية بالذات لا بالواسطة، ثم علي (عليه السلام) بوساطة الحقيقة المحمدية، ثم الأئمة (عليهم السلام) بوساطة الحقيقة العلوية،


(1) علل الشرائع: 127 ح 2 باب 106، ومعاني الأخبار: 52 ح 3، عنه البحار 16: 95 ح 29. (*)

[ 125 ]

ثم فاطمة (عليها السلام) بوساطة الأئمة. فهم كالحديدة المحماة بنار أمر الله الموقدة التي تطلع على أفئدة هؤلاء الكرام البررة، وتفيض تلك الفيوض الربانية، والآثار الإلهية بوساطتهم إلى سائر الوجودات الكونية، والواسطة بينهم وبين من دونهم من النبيين والآدميين والملائكة والجن أجمعين، والحيوان والنبات والجماد، هو فاطمة الزهراء لوقوعها في آخر تلك السلسلة، وكونها الجزء الأخير من العلة التامة، فلها مظهرية كاملة بالنسبة إلى آثار تلك الأنوار العالية، وجهة تربية وتقوية لها بالنسبة إليهم من حيث كونها مظهر آثارهم، ومطرح أطوارهم، كما أن لها تربية وتقوية وامية كاملة إلى من دون تلك السلسلة العالية، آدم ومن دونه ومن فوقه في العوالم الباطنية والظاهرية. فهي (عليها السلام) بهذا الإعتبار ام بالنسبة إلى الحقيقة المحمدية والحقيقة العلوية أيضا، كما بالنسبة إلى الأئمة (عليهم السلام)، وكذا بالنسبة إلى آدم أبي البشر ومن بعده ممن تقدم وتأخر، وهي ام أبيها أي محمد (صلى الله عليه وآله)، ولو جعل المراد كونها ام آدم (عليه السلام) فالوجه ظاهر، ولكن الظاهر هو الأول كما يظهر من البيت المنسوب إلى علي أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: ولدت امي أباها إن ذا من عجبات * وأبي طفل صغير في حجور المرضعات فجعلها اما لنفسه ولأبيها، فالظاهر إرادة كونها امهما، لكن يمكن أن يراد انها ام لآدم من حيث خلقة آدم (عليه السلام) وكذا حواء من نورها، كما اشير إليه سابقا من جهة فيضان الفيوض الإلهية إليهما بوساطتها، وقد تولد منهما أبوها وزوجها، وهي تكون ام أبيها وزوجها أيضا بالواسطة. وهذا وجه آخر غير ما مر، ومراده من قوله: " وأبي طفل صغير " هو أبو طالب، أي ولدت فاطمة الزهراء أباها، والحال ان أبا طالب كان طفلا صغيرا ولم يولدني بل لم يتزوج، وإن اريد آدم (عليه السلام) ومن بعده فيجوز ظاهرا أيضا بلا إشكال، كما مر وجهه. ويجوز أن يكون اميتها من جهة كونها من بين تلك الأنوار في مرتبة الماهية،


[ 126 ]

وتلك الأنوار في مرتبة الوجود والماهية ام له، وهذا أيضا يرجع إلى الأول بنوع من الإعتبار وإن كان غيره في الحقيقة. ففاطمة الزهراء هي الماهية الكلية، وهي الخزانة التي فيها الصور العلمية الإلهية الكونية والإمكانية، فهي بهذا الإعتبار ام لجميع الموجودات السرمدية والدهرية والزمانية، فهي سيدة نساء العالمين، ولا مذكر في عالم الخلق إلا وهو مضمن في بطن ام بالنسبة إليه تربية وتقوية، وتظهره إلى عالم الوجود وتؤديه إلى عالم الشهود، وسيدة الجميع هي سيدة النساء، ولهذا ظهرت في هذا العالم في الصورة الاناثية اشارة إلى جهتها الماهوية. فهذه الانوثية أشرف من الذكورية، بل كل مذكر مؤنث بالنسبة إليها في قبول التأثرات والإنفعالات الكونية والإمكانية. أو المراد ان كل ثمر ام بالنسبة إلى الشجر، لأن المقصود من الشجر هو الثمر، وأول الفكر آخر العمل، كما قالوا: إن أول فكر الرجال آخر الأعمال. گرنبودى ميل اميد ثمر * كى نشاندى باغبان بيخ شجر پس بمعنى آن شجر از ميوه زاد * گر بصورت از شجر بودش ولاد ومثل الام في التأويل الأب، فقد يطلق الأب أيضا للثمر بالنسبة إلى الشجر، وفي بعض الروايات: " أنا وعلي أبو هذه الامة " بصيغة المفرد أيضا لا التثنية، كما يظهر من رواية العلل، أي علي (عليه السلام) أيضا أبو الامة كما أن النبي (صلى الله عليه وآله) أبوها. وقال (صلى الله عليه وآله): كل مؤمن تقي نقي فهو إلي إلى يوم القيامة. وقال (صلى الله عليه وآله) أيضا: آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر (1). وقال (صلى الله عليه وآله) أيضا: نحن الآخرون السابقون (2).


(1) مناقب ابن شهرآشوب 1: 214 في اللطائف، عنه البحار 16: 402 ح 1. (2) البحار 61: 232 ح 75، عن صحيح مسلم والبخاري، وانظرشرح دعاء الصباح للسبزواري: 66. (*)

[ 127 ]

وقال (صلى الله عليه وآله) أيضا: أنا الأول والآخر والباطن والظاهر (1). گربصورت من زآدم زاده ام * پس بمعنى جدجد افتاده ام زين سبب فرموده است آن ذو فنون * رمز نحن الآخرون السابقون پس زمن زائيد در معنى پدر * پس زميوه زاد در معنى شجر قال ابن الفارض: واني وإن كنت ابن آدم صورة * فلي فيه معنى شاهد بابوتي (2). [ في وجه تكنية الحسين (عليه السلام) بأبي عبد الله ] قد ورد في وجه تكنية الحسين (عليه السلام) بأبي عبد الله سوى وجهه الظاهر المعروف من أنه كان له ابن صغير مسمى بعبد الله استشهد بالطف، ان المراد من عبد الله باطنا هو النبي (صلى الله عليه وآله)، كما قال تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله) * (3) وورد في التشهد: " وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ". وعبد الله أشرف ألقاب النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا عبد لله تعالى في جميع الموجودات أكمل منه في العبودية، وفيه أصل العبودية التي هي جوهرة كنهها الربوبية، ولا شئ من صفات الربوبية وآثار الألوهية إلا ويوجد في العبودية الكاملة التي هي مقام الحديدة المحماة بنيران الأنوار الإلهية، وهذه العبودية هي جعل النفسانية مضمحلة بالمرة في مقام الفناء في الله والبقاء بالله الذي هو مقام: " لنامع الله حالات هو فيها نحن ونحن هو " (4). رق الزجاج وراقت الخمر * فتشابها وتشاكل الأمر


(1) الإختصاص: 163، عنه البحار 42: 189 ح 8، ونحوه في مناقب ابن شهرآشوب 2: 385 / في قضاياه، ومشارق الأنوار: 168 / خطبة التطنجية. (2) ديوان ابن الفارض: 120 / القصيدة التائبة الكبرى المسماة بنظم السلوك. (3) الأسراء: 1. (4) الكلمات المكنونة للفيض: 114 / في معنى الفناء، ومصباح الهداية للإمام الخميني: 67. (*)

[ 128 ]

فكأنما خمر ولا قدح * وكأنما قدح ولا خمر (1) وهو في عالم الأمر والكلمة الإلهية التي اشير إليها في حديث كميل، وجعل لها خمس قوى منها البقاء في الفناء والنعيم في الشقاء، بل هو أعلى من هذه المرتبة أيضا، وهذه المرتبة أقدم وأشرف بالنسبة إلى النبوة والرسالة بل فوقها بمراتب كثيرة. ولهذا ذكر في آية الإسراء بلفظ العبد دون أن يقال: بنبيه ورسوله، إذ لولا هذا النحو من العبودية لم يكن له أن يعرج بالمعراج الجسماني، ويسير في جميع ذرات الموجودات من الدرة إلى الذرة، والدنيا والآخرة، والعوالم الزمانية والدهرية والسرمدية كلها في دقيقة واحدة، وفي بعض الأخبار في ساعة واحدة. وليس المراد الساعة المعهودة، بل المراد تقليل المدة، وبلحاظ هذا المقام قال عليه الصلاة والسلام: " من رآني فقد رأى الحق " (2) أي من حيث الحكاية لا الحلول ولا العينية، كما لو قال المرآة المقابلة للشمس المواجهة لها: من رآني فقد رأى الشمس، فإنه صحيح بالوجه الأول دون الأخيرين لعدم صحتهما البتة. وكل من زكى نفسه وأطاع ربه، فيكون له في رسول الله (صلى الله عليه وآله) اسوة حسنة بقدر ما حصل من التزكية وما فيه من القابلية، فيحصل له نوع مظهرية


(1) راجع تفسير صدر المتألهين 3: 190، ثم قال (قدس سره): وهذا الدعوى - أي فناء العبد عن نفسه وبقائه بنور الحق على ما هو مشهود العارفين بالعيان - مما اقيم عليه البرهان، وهو معلوم من علم النفس وكيفية تطوراتها في الأطوار واتحادها في مدارج الإستكمال بالعقل الفعال... ومثاله حال الفراش مع الشمع واشتعاله بشعلة الشمع، فلما بذل الفراش للشمع وجوده نال من وجود الشمع مقصوده... ومثال آخر: الحديدة الحامية بالنار حيث انها لا يزال تتقرب وتتشبه بالنار حتى تزول عنها الهوية الحديدية، وتصير فانية في هوية النارية، وتفعل فعلها من الإحراق والإضاءة. فلا تتعجب من النفس إذا استشرقت بنور الله، واتصلت بعالم الربوبية وتخلقت بأخلاق الله ففعلت ما فعلت بقدرة الله لا بقدرتها، وسمعت بسمع الله، وبصرت ببصره... (2) النهاية 1: 413 / حقق، عنه البحار 61: 235، وتفسير صدر المتألهين 2: 201، وشرح دعاء الصباح للسبزواري: 31، وأورده البخاري في صحيحه 9: 653 ح 1830 كتاب التعبير. (*)

[ 129 ]

للأوصاف العالية، ونحو ترق إلى المدارج السامية، فيشاهد الآيات الكبرى الإلهية، ويكون منشأ للأثار الربانية، وذلك كما يشاهد في الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء، بل من دونهم أيضا في الجملة. برو اندرپى خواجه بأسرى * تفرج كن همه آيات كبرى برون آاز سراى ام هاني * بگو مطلق حديث من رأني والمراد من الخروج من دار ام هاني في الباطن هو الخروج والتخلص عن سجن الطبيعة، والخلاص من القيود النفسية حتى يغلب القوة العقلية على القوة الوهمية والشهوية والغضبية، وإلى هذا يستند إحياء عيسى (عليه السلام) الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص، ومعجزات جميع الأنبياء وكرامات جميع الأولياء، فإن ذلك كله خارج عن طوق البشر، مستند إلى أمر رب القضاء والقدر، إذ عند ذلك يكون العبد مظهر الأوامر الإلهية، ومجمع الآثار الربانية، فيجوز أن يقول: " من رآني فقد رأى الحق " أي من حيث الحكاية، ولكن: اين همه آواز ها از شه بود * گرچه از حلقوم عبد الله بود وإلى هذا المقام أشار بعض الأعلام بقوله: رواباشد أنا الله از در ختى * چرا نبود روا از نيك بختى وبالجملة فلما ذكر أيضا (قدم في التشهد العبودية على الرسالة) إشارة إلى أن مرتبة الرسالة مؤخرة عن العبودية، ولما كان الحسين (عليه السلام) في هذه النشأة بل في النشآت السابقة أيضا - بناءا على أن الخاتمة على طبق الفاتحة - أبا رسول الله (صلى الله عليه وآله) من جهة كونه مقوما لما قرره من الشريعة، ومربيا له وموجبا لاستمراره إلى يوم القيامة، ولولاه لاضمحلت الشريعة، وبطل الدين بالمرة، بل هذا الكلام يجري في التكوين أيضا لا التشريع وحده سمى أبا عبد الله، وقد أطلقوا على السماوات الآباء العلوية كما للعناصر، والأرضين الامهات السفلية. وقالوا أيضا: إن الآباء أربعة، أب ولدك، وأب زوجك، وأب علمك، وأب رباك، حتى سروا حرمة عقوق الوالدين إلى هذه الآباء كما قرر تفصيله في المقام


[ 130 ]

الآخر، ويشعر به ما نزل في قصة إبراهيم (عليه السلام) مع آزر عمه بنحو قوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم لأبيه أزر) * (1). و: * (ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) * (2). * (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) * (3). * (يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك) * (4) إلى غير ذلك. وبالجملة فكلها راجعة إلى جهة التربية والتقوية، فهو (صلى الله عليه وآله) كان أبا لجميع الموجودات حتى آدم (عليه السلام) الذي هو أب له في عالم البشرية، كما أن عليا (عليه السلام) هو الام أو الأب أيضا للجميع، وجميع الموجودات امة بالنسبة إليهما، قال (صلى الله عليه وآله): " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " (5). وقد قال عيسى (عليه السلام) كما في الانجيل -: إني أروح إلى أبي، وفي رواية اخرى بزيادة " وأبيكم " ومراده على تقدير صحة الرواية هو المربي - أي الله رب العالمين - كما قال تعالى: * (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) * (6) فتوهم قومه من جهة الجهالة ان عيسى ابن الله، فوقعوا في الضلالة. وقال عبد الباقي الأفندي المشهور، الذي كان بغدادي المسكن، موصلي الموطن، في ديوانه المسمى بالباقيات الصالحات الذي جمع فيه أشعاره التي أنشأها في مدائح آل الرسول ومراثيهم، في جملة ما قاله في مدح علي (عليه السلام): يا أبا الأوصياء أنت لطه * صهره وابن عمه وأخوه إن لله في معانيك سرا * أكثر العالمين ما علموه


(1) الأنعام: 74. (2) التوبة: 114. (3) مريم: 45. (4) مريم: 43. (5) مناقب ابن شهرآشوب 1: 214 / في اللطائف، عنه البحار 16: 402 ح 1. (6) آل عمران: 55. (*)

[ 131 ]

أنت ثاني الآباء في منتهى الدو * ر وآباؤه تعد بنوه خلق الله آدما من تراب * وهو ابن له وأنت أبوه (1). ونحو هذا كثير في الكلام، صحيح عند اولى الأفهام، وهذا الإطلاق والإستعمال مبني على ما بيناه سابقا من إعتبار الوضع الخاص والموضوع له العام، فالمأخوذ في أصل معنى الأب والام هو التربية على نحو الإجمال والتفصيل، فجميع ما فيه من لوازم الام الظاهرية ام، ولذا أيضا يفسر الام في الخبر: " السعيد سعيد في بطن امه.. الخ " بام الكتاب، أو بعالم الذر، أو بالماهية، أو المادة، أو الطبيعة، أو الام الظاهرية، أو الدنيا، أو القبر، أو البرزخ، أو الولاية إلى غير ذلك، هذا، وليس المراد هنا إثبات هذا المطلب بالآيات والأخبار، وإنما الغرض مجرد دفع سورة الإنكار. [ سائر ألقابها وكناها (عليها السلام) ] وأما الكنى الأخيرة للزهراء مما اضيف فيها الام إلى لفظ الخيرة، والمؤمنين، والأخيار، ونحو ذلك حيث جعلت فاطمة اما لهم، فهم في الظاهر المؤمنون من هذه الامة، وأما في الحقيقة فعام شامل لجميع الأنبياء، والأولياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين، ومن دونهم من المؤمنين من الأولين والآخرين، بل الملائكة أجمعين. وام الفضائل أي مجمعها، وام الأزهار أي مبدأها ومنشأها، وام العلوم أي مأخذها، وام الكتاب أي الكتاب التدويني والتكويني حيث انها مشتملة على ما فيهما، وتفاصيل هذه الأمور قد مرت إليها الإشارة في الجملة، وبسطها لا يليق بالمرحلة. [ في تسميتها ببضعة الرسول ] وقد ورد في ذلك أخبار كثيرة، مثل ما روي عن ابن أبي وقاص قال: سمعت


(1) الباقيات الصالحات: 47. (*)

[ 132 ]

رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: فاطمة بضعة مني، من سرها فقد سرني، ومن ساءها فقد ساءني، فاطمة أعز الناس إلي (1). وعن النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي إن فاطمة بضعة مني، وهي نور عيني، وثمرة فؤادي، يسوءني ما ساءها، ويسرني ما سرها، وانها أول من يلحقني من أهل بيتي، فأحسن إليها بعدي (2). وعنه (صلى الله عليه وآله): إن فاطمة شجنة مني، يؤذيني ما آذاها، ويسرني ما سرها، وإن الله يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها (3). وروى البخاري عن الصادق (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني (4). وعن حباب في هذا الخبر: ومن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله (5). وفي رواية اخرى عنه (صلى الله عليه وآله): يريبني ما أرا بها ويؤذيني ما آذاها (6)، وفسروا قوله (صلى الله عليه وآله) يريبني بمعنى يسوءني ويزعجني.


(1) أمالي المفيد: 259 ح 2 مجلس 31، وأمالي الطوسي: 24 ح 30 مجلس 1، عنه البحار 43: 23 ح 17، وبشارة المصطفى: 85، والعوالم 11: 144 ح 2، ومناقب ابن شهر أشوب 3: 332. (2) أمالي الصدوق: 394 ح 18 مجلس 73، عنه البحار 43: 24 ح 20، والعوالم 11: 148 ح 18، وروضة الواعظين: 150، بشارة المصطفى: 178. (3) معاني الأخبار: 303 ح 2 عنه البحار 43: 26 ح 26، والعوالم 11: 148 ح 19. (4) صحيح البخاري 5: 83 ح 232، خصائص النسائي: 122 ح 133، نظم درر السمطين: 176، ينابيع المودة 2: 52 ح 18، مصابيح السنة للبغوي 4: 185 ح 4799، صفة الصفوة 2: 13 كنزل العمال 12: 112 ح 34244، المعجم الكبير للطبراني 22: 404 ح 1012، مسند فاطمة للسيوطي: 50 ط - الهند، الفردوس 3: 145 ح 4389، ذخائر العقبى: 37، مناقب ابن شهرآشوب 3: 332، وإسعاف الراغبين: 173. (5) الفصول المهمة لابن الصباغ: 144، نور الأبصار: 96، إحقاق الحق 10: 212، كشف الغمة 2: 94، عنه البحار 43: 54. (6) صحيح مسلم 7: 140، سنن الترمذي 5: 359 ح 3959، صفة الصفوة 2: 13، الخصائص للنسائي: 121 ح 130، حلية الأولياء 2: 40 تذكرة الخواص: 310، مسند فاطمة للسيوطي: 53 ط الهند، مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي: 52، الصواعق المحرقة: 289، = (*)

[ 133 ]

وفي رواية اخرى: يؤلمني ما يؤلمها (1). وعن طرق العامة، عنه (صلى الله عليه وآله): فاطمة شجنة مني، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها (2). وفي رواية اخرى: يرضيني ما يرضيها ويسخطني ما يسخطها (3). وعن جابر بن عبد الله، عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: فاطمة شعرة مني، فمن آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله لعنه الله مل ء السماوات والأرض (4). وعن أبي حمزة الثمالي، عن الباقر (عليه السلام)، عن جده انه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها (5). وعن الصادق (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لفاطمة: إن الله عزوجل يغضب لغضبك ويرضى لرضاك، واستنكر بعض الرواة ذلك عن الصادق (عليه السلام) واستعظمه، فقال الصادق (عليه السلام) تقريبا لأفهام السامعين: ألستم تروون فيما تروون ان الله ليغضب لغضب عبده المومن، ويرضى لرضاه ؟


= ينابيع المودة 2: 478 ح 340، كفاية الطالب: 365، كنز العمال 12: 112 ح 34243، مصابيح السنة للبغوي 4: 185 ح 4799، المعجم الكبير للطبراني 22: 404 ح 1010، إحقاق الحق 10: 190. (1) المناقب للخوارزمي: 353 ح 364، كشف الغمة 1: 373، البحار 43: 133. (2) مستدرك الحاكم 3: 168 ح 473، حلية الأولياء 3: 206، مسند فاطمة للسيوطي: 53، المعجم الكبير للطبراني 22: 405 ح 1014، كنز العمال 12: 111 ح 34240، فرائد السمطين 2: 45 ح 377، الصواعق المحرقة: 285، ذخائر العقبى: 38، مناقب ابن شهر آشوب 3: 332، البحار 43: 39 ح 41. (3) مناقب ابن شهرآشوب 3: 332، كشف الغمة 2: 95، البحار 43: 54 ح 48. (4) كشف الغمة 2: 95، عنه البحار 43: 54، ح 48، والعوالم 11: 149 ح 21. (5) أمالي المفيد: 94 ح 4 مجلس 11، عنه البحار 43: 19 ح 2، ونحوه المعجم الكبير للطبراني 22: 401 ح 1001. (*)

[ 134 ]

قال الراوي: بلى، قال: فما تنكرون أن تكون فاطمة مؤمنة يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها ؟ فقال الراوي: الله أعلم حيث يجعل رسالته (1). وقد ورد ان قوله تعالى: * (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) * (2) إنما نزل فيمن غصب حق أمير المؤمنين، وأخذ حق فاطمة وآذاها، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): من آذاها في موتي كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، وهو قوله تعالى: * (إن الذين يؤذون الله ورسوله) * الآية (3). وفي بعض الروايات انه جاء النبي (صلى الله عليه وآله) يوما إلى منزل فاطمة (عليها السلام)، فأخذ بيدها فهزها إليه هزا شديدا، ثم قال: يا فاطمة إياك وغضب علي، فإن الله يغضب لغضبه ويرضى لرضاه، ثم جاء علي (عليه السلام) فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بيده، ثم هزه إليه هزا خفيفا، ثم قال: يا أبا الحسن إياك وغضب فاطمة، فإن الله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها (4). وعن صحيح الدارقطني ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر بقطع لص، فقال اللص: يا رسول الله قدمتها في الإسلام وتأمرها بالقطع ؟ فقال: لو كانت إبنتي


(1) أمالي الصدوق: 313 ح 1 مجلس 61، وأمالي الطوسي: 427 ح 954 مجلس 15 عنهما البحار 43: 21 ح 12 والعوالم 11: 153 ح 34، والمناقب لابن المغازلي: 352 ح 401، والإحتجاج 2: 254 ح 226، روضة الواعظين: 149، ومناقب ابن شهر آشوب 3: 325. (2) الأحزاب: 57. (3) تفسير القمي 2: 196، عنه البحار 43: 25 ح 23، والعوالم 11: 143 ح 1، وتفسير الصافي 4: 202، وتفسير كنز الدقائق 10: 439. (4) مناقب ابن شهرآشوب 3: 334، عنه البحار 43: 42 ح 42، والعوالم 11: 492 ح 3. وفي ذلك يقول علي (عليه السلام): " والله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عزوجل، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمرا، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان "، البحار 43: 134. (*)

[ 135 ]

فاطمة، فسمعت فاطمة فحزنت، فنزل جبرئيل بقوله تعالى: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (1) فحزن رسول الله، فنزل: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (2) فتعجب النبي (صلى الله عليه وآله) من ذلك، فنزل جبرئيل وقال: كانت فاطمة حزنت من قولك فهذه الآيات لموافقتها لترضى (3). قال بعضهم: لعل المعنى ان هذه الآيات نزلت لتعلم فاطمة ان مثل هذا الكلام المشروط لا ينافي جلالة المخاطب والمسند إليه وبراءته، لوقوع ذلك بالنسبة إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)، وإلى الله تعالى أيضا، أو لبيان ان قطع يد فاطمة بمنزلة الشرك، أو ان هذا النوع من الخطاب المراد به الامة إنما صدر لصدور هذا النوع من الكلام بالنسبة إلى فاطمة (عليها السلام) (4). وعن علي (عليه السلام): كنا جلوسا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أخبروني أي شئ خير للنساء ؟ فعيينا بذلك كلنا حتى تفرقنا، فرجعت إلى فاطمة فاخبرتها الذي قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانه ليس أحد منا علمه ولا عرفه، فقالت: أنا أعرفه، خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال. فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله سألتنا أي شئ خير للنساء ؟ خير لهن أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال، قال: من أخبرك ؟ قلت: فاطمة، فأعجب ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: إن فاطمة بضعة مني (5).


(1) الزمر: 65. (2) الأنبياء: 22. (3) مناقب ابن شهرآشوب 3: 324، عنه البحار 43: 43 ح 43، والعوالم: 11: 97 ح 1 عن صحيح الدار قطني. (4) راجع البحار 43: 43 ذيل حديث 43. (5) كشف الغمة 2: 94، عنه البحار 43: 54 ح 48، ونحوه حلية الأولياء 2: 40 باختصار، والمناقب لابن المغازلي: 381 ح 429. (*)

[ 136 ]

وروى عن مجاهد قال: خرج النبي (صلى الله عليه وآله) يوما وهو آخذ بيد فاطمة، فقال: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله (1). إلى غير ذلك من الأخبار المستفيضة بل المتواترة لفظا أو معنى من الخاصة والعامة. وقد روى مسلم في صحيحه في الجزء الرابع، والحميدي في الجمع بين الصحيحين، وصاحب كتاب الجمع بين الصحاح الستة في الجزء الثالث، رووا كلهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني (2). وإنه قال: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة (3). قال في الأنوار: ويعجبني نقل مباحثة جرت بين شيخنا البهائي (رحمه الله) وبين عالم من علماء مصر، وهو أعلمهم وأفضلهم، وقد كان شيخنا البهائي (رحمه الله) يظهر لذلك العالم انه على دينه، فقال له: ما تقول الرافضة الذين قبلكم في الشيخين ؟ فقال له البهائي (رحمه الله): قد ذكروا لي حديثين فعجزت عن جوابهم، فقال: ما يقولون ؟ قلت: يقولون: إن مسلما روى في صحيحه ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من آذى فاطمة فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فقد كفر.


(1) كشف الغمة 2: 94، عنه البحار 43: 54، والعوالم 11: 148 ح 20، ونحوه الفصول المهمة: 144، ونور الأبصار: 96، واحقاق الحق 10: 212. (2) صحيح مسلم 7: 141، محاضرات الادباء 4: 479، ذخائر العقبى: 37، العمدة: 384 ح 757، الطرائف: 262 ح 364، إحقاق الحق 10: 116، البحار 43: 39. (3) مستدرك الحاكم 3: 164 ح 4721، الصواعق المحرقة: 290، ينابيع المودة 2: 53 ح 24، الطرائف 263 ح 366، العمدة: 384 ح 756، مناقب ابن شهرآشوب 3: 323. (*)

[ 137 ]

وروى أيضا مسلم بعد هذا الحديث بخمسة أوراق ان فاطمة خرجت من الدنيا وهي غاضبة على أبي بكر وعمر، فما أدري ما التوفيق بين هذين الحديثين. فقال له العالم: دعني الليلة أنظر، فلما صار الصبح جاء ذلك العالم وقال للبهائي (رحمه الله): ألم أقل لك ان الرافضة تكذب في نقل الأحاديث، البارحة طالعت الكتاب فوجدت بين الخبرين أكثر من خمسة أوراق، هذا اعتذاره من معارضة الحديثين (1). بيان: إعلم ان البضعة - بفتح الباء وقد يكسر - الجزء من الشئ وقطعة منه، والبضع - بكسر الباء وقد يفتح - هو العدد من الواحد أو الثلاثة إلى التسعة مطلقا، أو الافراد منه لا الأزواج بمناسبة كون كل من هذه المراتب قطعة من العدد، قال تعالى في يوسف (عليه السلام): * (فلبث في السجن بضع سنين) * (2) أي تسعا أو سبعا أو أقل، قيل: والأصح سبع سنين بعدد حروف الكلمتين. والشجنة - بالكسر ويضم أيضا - الشعبة والغصن من الشجر أو العروق الملتفة منه، والحديث ذو شجون أي ذو شعب وامتساك بعضه ببعض، وحاصل المرام فيه ان الكلام يجر الكلام، وشجر مشجن إذا التف بعضه ببعض، ونقل عن القاسم بن سلام في معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله): إن الرحم شجنة من الله عزوجل أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، إنتهى. وحاصل معنى الشجنة في الأخبار يرجع إلى معنى البضعة أيضا، فيكون المراد من الأخبار المذكورة ان فاطمة (عليها السلام) قطعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعض أجزائه، ومن آلم وآذى بعض أجزاء الإنسان أي عضوا من أعضائه فقد آلمه، بل ليس إيلامه إلا إيلامه. ولا يقدح في ذلك كون الجزء غير الكل لما تقرر في محله من ان المعنى


(1) الأنوار النعمانية 1: 93. (2) يوسف: 42. (*)

[ 138 ]

التركيبي غير الافرادي بحسب العرف واللغة، فإن زيدا مثلا إسم لمجموع هذا الشخص المعين، وإذا قيل: ضربت زيدا، كان معناه إيقاع الضرب إلى بعض جزء منه كالرأس أو اليد مثلا لا استيعاب تمام بدنه بالضرب. وكذلك مسحت الجدار، وسكنت الديار، وجلست في المسجد والدار، فإن كل ذلك حقيقة لا مجاز، بخلاف غسلت الثوب، وأكلت الخبز وما شاكل هذا الباب، فإن ظاهر الإسناد في نحوه الاستيعاب، فالبعض وإن كان من حيث هو غير الكل من حيث هو إلا ان إيلام الكل يصدق حقيقة بايلام البعض لا محالة. مضافا إلى ان الروح لا تركيب فيها، وان كل جزء من أجزاء البدن واسطة في إيلامها، فحينئذ يكون قوله (صلى الله عليه وآله) ل‍: " من آذاها فقد آذاني " بعد أن بين كونها بضعة منه كالتفسير له، كما قيل في قوله تعالى: * (إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا) * (1) إن جملة " إذا مسه الشر " تفسير للهلوع، بناء على ان الهلوع هو الذي إذا مسه الشر كان جزوعا إلى آخر، لا انه حيوان معروف مخصوص خلف جبل قاف، يأكل كل يوم علف سبع جزائر، ويشرب مياه سبعة أبحر، ومع ذلك يقول كل يوم في نفسه: ما آكل غدا، وما أشرب غدا ؟ فإذا صار غدا رأى الجزائر والبحار كما كانت، ولا غير ذلك. وكما ورد الخبر عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: * (الله الصمد * لم يلد ولم يولد) * (2) ان الصمد هو الذي لا يخرج منه شئ ولا يخرج هو من شئ، أولا يخرج منه شئ ولا يدخل فيه شئ، فيكون لم يلد ولم يولد تفسيرا للصمد على أحد الوجوه، لا أن الصمد بمعنى المعتمد أو المقصد للحوائج أو غير ذلك. وكما قيل في قول الشاعر: الألمعي الذي يظن بك الظن * كان قد رأى وقد سمعا إن الألمعي هو الذي يكون كذلك، مما ورد من هذا الباب، ويكون حينئذ في


(1) المعارج: 19 - 21. (2) الإخلاص: 2 - 3. (*)

[ 139 ]

الأخبار دلالة على ان فاطمة (عليها السلام) من جنس طينة النبي المختار (صلى الله عليه وآله) ومن سنخه وأصله، وان نورها شعبة وجزء من نوره، فيثبت لها المعصومية أيضا كسائر الصفات الفاضلة الثابتة للنبي (صلى الله عليه وآله) إلا ما خرج بالأدلة. شه چو حوضى وآن خدم چون لولها * آب از لوله روان در كولها خوى شاهان در رعيت جاكند * چرخ أخضر خاك را خضرا كند الناس على دين ملوكهم * يتبعونه في سيرهم وسلوكهم فيكون حينئذ إيذاء فاطمة إيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإيلامها إيلامه لما بينهما من الإتحاد المشار إليه بلفظ البضعة والشجنة، مع الإشارة إلى ما أشار إليه أهل الإشارة. مؤمنان معدود ليك إيمان يكى * جسمشان معدود لكن جان يكى غير آن فهمي كه درگاو وخراست * آدمى را عقل وجان ديگراست جان شيران وسگان از هم جداست * متحد جانهاى شيران خداست وأما كون إيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) إيذاء الله، فلأن قلبه عرش الله، وهو الكعبة والبيت الحقيقي لله سبحانه، قال تعالى: (ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن) (1) فإذا تأذى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إضطرب عرش الله، وتراكم الهموم والأحزان في بيت الله، فيكون كما قيل: هست از ملال گرچه برى ذات ذو الجلال * أو در دل است وهيچ دلى نيست بى ملال أو لأن ذلك من جهة ما روى انه سئل (عليه السلام): إن الله تعالى هل يأسف كأسفنا ؟ قال: لا، قال السائل: فقول الله تعالى: * (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين) * (2) ؟ قال (عليه السلام):


(1) البحار 58: 39. (2) الزخرف: 55 - 56. (*)

[ 140 ]

إن الله تعالى خلق قلوبا اختارها لنفسه، وهي قلوب عباده المؤمنين المخلصين، وجعل أسفها أسفه، أو كأسفه (1). أو ان النبي (صلى الله عليه وآله) هو مظهر الصفات الإلهية، والآثار الربانية كالحديدة المحماة بالنار الحامية، فهو من حيث الحكاية في مقام الذات الظاهرة، وإن كان غيره في الحقيقة في مقام الذات الباطنة، بل لا مناسبة بينهما بالمرة. وهذه الأخبار الواردة في المقام كلها من باب المقدمة والتمهيد والتوطئة لما كان (صلى الله عليه وآله) يعلم من أمر الشيخين وأتباعهما في غصب فدك عن فاطمة (عليها السلام)، وإيذائهم لها في ذلك وغيره، فقد تم عليهم الحجة والإنحراف عن المحجة بصدور هذه الأخبار المستفيضة بحيث لم يبق في ذلك شبهة وريبة عند الخاصة والعامة. تنبيه: قد ورد صدور قوله (صلى الله عليه وآله): " فاطمة بضعة مني " في بعض الأخبار بنحو آخر طويل لا بأس بذكره ملخصا، من جهة الإشارة إلى بعض المطالب اللازمة، وهو انه لما رأى المخالفون كثرة ما ورد على الخلفاء من القدح والطعن والنقيصة أراد بعضهم أن يثبت لعلي (عليه السلام) طعنا فيشارك الثلاثة، فلم يجد بعد الفحص إلا ان عليا أغار فاطمة بأن أراد أن يتزوج عليها بنت أبي جهل أو غيرها، فشكته إلى أبيها فقال النبي (صلى الله عليه وآله) في رد علي (عليه السلام) خطابا له: إن فاطمة بضعة مني، إلى آخر الرواية. وقد روى الصدوق (رحمه الله) انه ذكر تلك المقالة عند الصادق (عليه السلام)، فاستوى جالسا ثم قال: إنه جاء شقي من الأشقياء إلى فاطمة (عليها السلام) ثلاث مرات بهذا الخبر حتى دخلها من الغيرة مالا تملك نفسها، وذلك ان الله تعالى كتب الغيرة على النساء، وجعل على الرجال جهادا، وجعل للمحتسبة الصابرة منهن من الأجر ما جعل للمرابط المجاهد في سبيل الله.


(1) نحوه الكافي 1: 144 ح 6، التوحيد للصدوق: 168 ح 2، تفسير الصافي 4: 396، وتفسير كنز الدقائق 12: 77. (*)

[ 141 ]

فاشتد غم فاطمة لذلك وبقيت متفكرة حتى جاء الليل، فحملت الحسن والحسين (عليهما السلام) وأخذت بيد ام كلثوم، ثم تحولت إلى حجرة أبيها، فجاء علي (عليه السلام) فلم يجدهم في الحجرة، فاطلع على الحالة واستحيى أن يدعوها من منزل أبيها، فخرج إلى المسجد فصلى فيه ما شاء الله، ثم جمع شيئا من كثيب المسجد واتكأ عليه. فلما رأى النبي (صلى الله عليه وآله) غم فاطمة ففهم كيفية الواقعة فقال: قومي يا بنتي، فقامت فحمل النبي (صلى الله عليه وآله) الحسن وفاطمة الحسين، وأخذ بيد ام كلثوم فانتهى إلى علي (عليه السلام) وهو نائم في المسجد، فوضع رجله على رجل علي (عليه السلام) فغمزه وقال له: قم يا أبا تراب، فكم ساكن أزعجته، ادع لي أبا بكر وعمر وطلحة وجماعة اخرى من الأصحاب، فاستخرجهم من منزلهم حتى اجتمعوا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال (صلى الله عليه وآله): يا علي أما علمت ان فاطمة بضعة مني وأنا منها، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاها بعد موتي كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي. قال: فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله بلى، قال: فما دعاك إلى ما صنعت ؟ فقال علي (عليه السلام): والذي بعثك بالحق نبيا ما كان ما بلغها، ولا حدثت به نفسي. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): صدقت وصدقت فاطمة، فعند ذلك تبسمت حتى بدى ثغرها، فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بيد علي (عليه السلام) فشبك أصابعه بأصابعه، فحمل النبي (صلى الله عليه وآله) الحسن وعلي (عليه السلام) الحسين وفاطمة (عليها السلام) ام كلثوم، فأدخلهم النبي (صلى الله عليه وآله) بيتهم، ووضع عليهم قطيفة واستودعهم الله ثم خرج. ولما كان مرض فاطمة (عليها السلام) وجاء الشيخان مع الصحابة إلى عيادتها احتجت عليهم فاطمة بهذه الواقعة، فاستشهدتهم أولا على ذلك فشهدوا


[ 142 ]

حتى أبو بكر وعمر، فقالت (عليها السلام): هل سمعتما النبي (صلى الله عليه وآله) في ليلة كذا جمعكم كذا وقال كذا ؟ فقالا: اللهم نعم، قالت: الحمد لله، ثم قالت: اللهم إني اشهدك فاشهدوا يا من حضرني انهما قد آذياني في حياتي وعند مماتي، واني والله لا اكلمكما من رأسي كلمة واحدة حتى ألقى ربي فأشكو إليه بما صنعتما لي. فدعى أبو بكر بالويل والثبور وقال: ياليت امي لم تلدني، فقال عمر: عجبا للناس كيف ولوك امورهم وأنت شيخ قد خرفت، تجزع لغضب فاطمة امرأة وترضى برضاها، وما يبلغ من غضب امرأة ؟ ! فقاما وخرجا (1)، وسيجئ تفصيل الحالة عند بيان حالة وفاة فاطمة (عليها السلام). وذكر بعض العامة الخبر بوجه آخر، هو انه لما سمعت فاطمة (عليها السلام) ان عليا يريد أن يتزوج عليها ابنة أبي جهل وشكته إلى أبيها، صعد النبي (صلى الله عليه وآله) المنبر في حضور جماعة الأصحاب وقال: سمعت عليا يريد أن يتزوج عليها ابنة عدو الله على ابنة ولي الله، وما كان هذا يجوز له، فاطمة بضعة مني.. الخ (2). ولا يخفى ان نحو ذلك الخصام لا يجوز بمرتبة النبي (صلى الله عليه وآله)، وكيف يخاصم لابنته من جهة الزوجية وهو الذي أباح هذه المسألة، والعادة جرت بقبح نحو هذه المخاصمة، حتى ان المأمون لما شكت إليه ابنته ام الفضل ان الجواد (عليه السلام) تسرى عليها كتب إليها: (انا ما زوجناه إياك لنحرم عليه حلالا) (3).


(1) علل الشرائع: 185 ح 2 باب 149، عنه البحار 43: 201 ح 31، والعوالم 11: 1075 ح 12، والأنوار النعمانية 1: 73، ملخصا. (2) كنز العمال 12: 106 ح 34213، وأورده السيد المرتضى (قدس سره) في تنزيه الأنبياء صفحة: 167، ثم قال: " فوالله إن الطعن على النبي (صلى الله عليه وآله) بما تضمنه هذا الخبر الخبيث أعظم من الطعن على أمير المؤمنين (عليه السلام)، وما صنع هذا الخبر الا ملحد قاصد للطعن عليهما، أو ناصب معاند لا يبالي أن يشفي غيظه بما يرجع على أصوله بالقدح والهدم... ". (3) الإرشاد للمفيد: 323، عنه البحار 50: 79 ح 5. (*)

[ 143 ]

وروى ان عثمان لما ضرب رقية زوجته وهي بنت النبي (صلى الله عليه وآله) ضربا مبرحا حتى أثر السياط في بدنها على غير جناية تستحقها، فأتت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) شاكية قال: لا يليق بالمرأة أن تشكو من زوجها (1). وهكذا كان يفعل أبدا، مع أن فاطمة (عليها السلام) كانت مطهرة معصومة من أدناس نساء الدنيا، فكيف جاز منها اعمال هذه الغيرة البشرية من غير أن تتفحص عن حقيقة الحال ؟ !. ثم نقول: إن وقوع الواقعة على ما نقل لا يقدح أيضا بأحد الطرفين، اما علي (عليه السلام) فلأن هذا أمر مباح أباحه الشريعة وإن كتب الغيرة على الزوجة أيضا، فللرجل أن يتزوج على المرأة وللمرأة أن تأخذها الغيرة، وأما فاطمة (عليها السلام) فأولا: بأن الغيرة من الصفات الفاضلة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يتمدح بها ويقول: (إن سعد الغيور وأنا أغير من سعد). والتمدح بالغيورية ونفس صفة الغيورية من الامور المباحة، وإلا فلا يتمدح النبي بالأمور المحرمة على الصحابة (2).


(1) الخرائج 1: 96 ضمن حديث 156، عنه البحار 22: 159 ضمن حديث 19. (2) أقول: هذا الإستدلال مخدوش من عدة جهات: أولا: إن الغيرة الممدوحة مختصة بالرجال لا النساء فإن غيرتهن كفر، كما جاء في نهج البلاغة في قصار الحكم: " غيرة المرأة كفر وغيرة الرجل إيمان " وقال (عليه السلام) أيضا في الغرر: " غيرة المرأة عدوان " وقال الباقر (عليه السلام): " غيرة النساء الحسد، والحسد هو أصل الكفر، إن النساء إذا غرن غضبن، وإذا غضبن كفرن إلا المسلمات منهن ". وثانيا: لو كانت الغيرة - حتى في النساء - من الصفات الفاضلة، لكانت عائشة أكثر فضلا من الزهراء (عليها السلام) لشدة غيرتها وحسدها على خديجة وفاطمة (عليها السلام)، والشاهد على ذلك قول علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: " وأما فلانة فأدركها رأي النساء، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين " ثم قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في ذيل الحديث: قوله (عليه السلام): " وضغن " أي حقد، وكان من أسباب حقدها لأمير المؤمنين (عليه السلام) سد النبي (صلى الله عليه وآله) باب أبيها من المسجد وفتح بابه، وبعثه بسورة براءة بعد أخذها من أبي بكر، وإكرام رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام) = (*)

[ 144 ]

فلعله لاحظ النبي (صلى الله عليه وآله) وفاطمة ما في فلك من كون فاطمة ضرة لغيرها أو غيرها ضرة لها، فيحصل لها تحمل المشقة حينئذ فأخذتهما الغيرة، وقد صدر من بنات الأنبياء ما هو أشد من ذلك، فإن سارة ألزمت إبراهيم (عليه السلام) أن يخرج عنها هاجر وابنها إسماعيل إلى واد غير ذي زرع، ولا ينزل معهما بل يضعهما فيه وهو راكب ويرجع إليها، وقد أمر الله إبراهيم أن يمتثل أمر سارة (1). وثانيا: إن المعصومين (عليهم السلام) قد يتنزلون عن مراتبهم إلى مراتب البشرية، ويقع منهم الرضا والغضب والمحاورات المتعارفة لحكم ومصالح ملحوظة، مثل أن لا يظن بهم الربوبية، كما وقع من الغلاة والمفوضة، ومثل أن يتعقبه المحبة القويمة والخلة المستقيمة. وثالثها: إن هذا كان كما يظهر من سياق الرواية إتماما للحجة بنحو أبلغ وآكد على الصحابة عند غصب فدك والعوالي، حيث انه غصب بعضهم ورضى الآخرون، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يعلم بوقوع تلك القضية، وكذا فاطمة وعلي (عليهما السلام)، ففعلوا كذلك من باب المقدمة والتمهيد والتوطئة، فلم تكن المقدمة قادحة بوجه من الوجوه، وذلك واضح عند أهل البصيرة. [ في تسميتها بمشكاة الضياء وفي تفسير آية النور ] ومنها مشكاة الضياء، وهذا إشارة إلى كونها (عليها السلام) مصداق آية النور،


= وحسدها عليها... [ راجع البحار 32: 242 ]. وثالثا: إن الزهراء التي هي الحجة على الأئمة (عليهم السلام) - كما ورد ذلك عن الإمام العسكري (عليه السلام) - والتي قال الإمام الحجة فيها: " في إبنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي أسوة حسنة " والتي " فطم الخلق عن معرفتها " والتي " دارت القرون الأولى على معرفتها " والتي قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي في حقها: " يا علي وأنفذ لما أمرتك به فاطمة " كيف تصدر منها هذه الأمور ؟ !. (1) راجع الأنوار النعمانية 1: 78. (*)

[ 145 ]

وهو كذلك على أحد الوجوه إذ للآية المذكورة تفسيرات كثيرة منقولة ومحتملة، كما سنشير إليها في الجملة، والآية هي قوله تعالى في سورة النور: * (الله نور السماوات والأرض) * (1). قيل: هو بتقدير المضاف في المبتدأ أو في الخبر، أي نور الله نور السماوات والأرض، أو الله ذو نور السماوات والأرض، وهذا مثل قولهم زيد كرم وجود ينعش الناس بكرمه وجوده، أي ذو كرم وجود، أو الحمل للمبالغة بجعل الإسناد مجازيا، أو النور هنا بمعنى المنور أي منورهما بالنجوم مثلا نظير الوجوهات الأربعة المشهورة في نحو زيد عدل. أو أن النور هنا إستعارة في الله سبحانه على أحد الوجهين في نحو زيد أسد، لتشبيهه تعالى بالنور في الوضوح والظهور، وإلا فليس هو تعالى من جنس الظلمة أو النور، أو المراد على سبيل الكناية معنى من لوازم النور، مثل معنى المضئ أو الهادي، أو المزين، أو النافع، أو المعطي، أو المفيض، أو المحسن، أو المنور أو نحو ذلك. والإضافة إلى السماوات والأرض اما للدلالة على سعة إشراقهما وفشو ضيائهما ونحو ذلك، أو المراد أهلهما أي ما فيهما وما بينهما وما تحتهما وما فوقهما مجازا مع استلزام تنورهما تنور سائر الموجودات الموجودة فيهما، والمراد من السماوات ما يعم الكرسي والعرش أيضا وكذلك الأفلاك الكلية والجزئية. وخص السماوات والأرض بالذكر دون الملائكة والجن والشياطين والإنس وسائر الحيوانات بل النباتات والجمادات، لأنها مطارح الأنوار، وخزائن الأسباب، وعلل الأشياء، ويجوز أن يراد سماوات العقول، أي منورها بما فيها من أنوار المعرفة، وأراضي النفوس أي منورها بما فيها من أنوار العبادة والطاعة. والحاصل ان الله تعالى مضئ السماوات والأرضين الظاهرية أو الباطنية أيضا أو أهلهما، أي الموجودات المتكونة فيهما بالكواكب النورانية الظاهرية أو


(1) النور: 35. (*)

[ 146 ]

الباطنية أيضا، أو هاديهم إلى مصالحهم، أو مزينهم بالملائكة، والأنبياء، والصديقين، والشهداء، وسائر الأولياء، والعلماء، والمؤمنين، والصلحاء، أو نافعهم، أو معطيهم بما ينفعهم من الانعام، أو المفيض عليهم، أو المحسن إليهم بافاضته الكاملة وإحسانه العام، أو منورهم بنور الوجود التام ونحو ذلك. والحق عدم الحاجة إلى شئ من هذه التوجيهات في المقام لصحة حمل النور وإطلاقه على الله تعالى بلا كلام، فإن النور لغة هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره، والله تعالى كذلك، غاية الأمر انه تعالى نور لا كالأنوار، كما أنه شئ لا كالأشياء، وجوهر لا كالجواهر، ووجه الكل ظاهر. فهو تعالى نور حقيقة بالنسبة إلى جميع الموجودات، وليس شئ من هذه الأنوار الظاهرة الزاهرة إلا وهو من آثار هذا النور الحقيقي، فهو مبدء جميع الأنوار، ومنشأ جميع الآثار. وقد ورد في الأدعية انه تعالى نور الأنوار، ونور النور، ومنور النور، ونور على نور، فالله تعالى نور السماوات والأرض بالحقيقة بلا حاجة إلى التأويل بالمرة، وكونه تعالى مظهرا لغيره ظاهر، وأما كونه ظاهرا في نفسه فهو أيضا ظاهر، بل أظهر عند أهل النظر، فإن كل ظاهر سواه فإنما ظهر بفضل ظهوره تعالى، فهو تعالى أظهر في ظهوره من ظهور كل ما سواه بنوره. أيكون لغيره من الظهور ما ليس له حتى يكون هو المظهر له، متى غاب حتى يحتاج إلى دليل يدل عليه ؟ ! ومتى بعد حتى تكون الإشارة هي التي توصل إليه ؟ ! وإن الذي لا يجوز إطلاقه عليه تعالى حقيقة هو النور بالمعنى العرفي الذي هو من الكيفيات العارضة، لا النور بالمعنى الأصلي الحقيقي، وسيجئ بعض ما يتعلق بالمقام من كلام القاضي البيضاوي، وحسام الدين الحلبي، وغيرهما. " ومثل نوره " أي صفة نوره العجيب الشأن في الإضاءة، أو هيكله، أو نفسه، أو حالته " كمشكاة " أي كصفة مشكاة كذلك، والمشكاة قيل: إنها لغة رومية معربة، وقال الزجاج: يجوز أن تكون عربية لأن في الكلام مثل لفظها، وهي شكوة بمعنى


[ 147 ]

القربة الصغيرة، فعلى هذا تكون المشكاة مفعلة منها. وأصلها " مشكوة " وهي الكوة في الحائط والجدار الغير النافذة، يوضع عليها الزجاجة، ويجعل المصباح خلف الزجاجة، ويكون للكوة باب آخر يوضع المصباح منه، وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة المشتعلة، وهو انبوبته وهو مثل الكوة، وقيل: المشكاة هي نفس القنديل، والظاهر هو المعنى الأول. " فيها مصباح " والمراد من المصباح آلة الضياء، وهي الشعلة الحاصلة من استحالة الأجزاء الدهنية المخالطة للفتيلة بمجاورة النار، أو هي الشعلة مع الفتيلة ويقال لها السراج أيضا. وإذا كان السراج قد يطلق على ظرف الفتيلة باعتبار علاقة الحالية والمحلية، أو المصباح هو السراج الضخم الثاقب، ولو كان معناه مطلق السراج فالمراد هنا هو المقيد بالوصف المذكور بمعونة تنوين التعظيم، وأصل المصباح من الصباح بمعنى البياض، ولذا يطلق على بياض النهار أيضا فيقال: الصباح يغني عن المصباح، والأصبح: الأبيض، وهذا كله بملاحظة اللون الظاهري. وقد يراد بالبياض والصباحة كثرة الافضال والإحسان والنفع والإهتداء، ونورية الطينة، قال أبو طالب (عليه السلام) في مدح النبي (صلى الله عليه وآله): وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل ويجوز أن يكون مراده من الأبيض كونه نوراني الوجه كالشمس المشرقة بالأنوار الصورية والمعنوية، والوجاهة الظاهرية والباطنية. " المصباح في زجاجة " الزجاجة معروفة، والضم فيه أشهر من التثليث وبه قرأ السبعة، ويقال لبائعها: الزجاجي - بياء النسبة - ولصانعها: الزجاج، مثل النجار والعطار، والتنوين في (زجاجة) للتعظيم، كما ان تعريفها وإعادتها مرة ثانية لذلك. والمراد من الزجاجة هنا كاسة القنديل من البلور التي يجعل فيها الفتيلة مع الزيت، وهي غير زجاجة المشكاة المجعولة في باب الكوة، ولذا قال تعالى:


[ 148 ]

* (الزجاجة كأنها كوكب دري) * قرئ الدري بضم الدال وتشديد الراء والياء، نسبة إلى الدر في الصفاء والضياء، والكوكب الدري هو أحد الدراري من الكواكب، وهي المشاهير منها كالمشتري والزهرة والمريخ وسهيل ونحوها. وقرئ الدري على وزن السكيت، والدري على فعيل كالنبي، من الدرء بمعنى الدفع بقلب الهمزة ياء فيهما أو إبقائها على أصلها، أي الدافع للظلام بكمال ضوئه، أو المندفع السريع الوقع في الإنقضاض، ويكون ذلك أقوى لضوئه. قيل في نكتة جعل النور على هذا الوجه: إن وجهه المبالغة حيث انه ينبعث نور المصباح حينئذ من الزجاجة، ويقع على حائط الكوة، وينعكس منه إلى الزجاجة، فيكون نور المصباح ونور الزجاجة ونور الحائط ينعكس بعضها على بعض مع كونه في مكان ضيق، فيكون أضوء وأجمع للنور من جهة ضيق المكان، إذ الضوء ينبث في المكان الواسع وينتشر، والقنديل أعون شئ على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفائه، فيتضاعف النور، كما يشير إليه قوله تعالى: * (نور على نور) * على نحو ما يأتي. أقول: ونظير المشكاة مع زجاجة فيها، في الزجاجة مصباح - على ما وصف في الآية - ما هو المعمول في هذه الأزمنة من المردنجي وما يجعل فيه من قنديل بلوري على رأسه كأسة صغيرة مدورة بلورية يجعل فيها الزيت مع الفتيلة. وأشد ما يكون الضوء في هذه الحالة لصفاء الزيت والزجاجة المدورة البراقة، كالكوكب الدري التي فيها الفتيلة المشتعلة، فينتشر الأضواء في تلك الزجاجة وفي أطراف المردنجي البلوري، ويتراءى في حافاته الصور المتعددة من شعلة الفتيلة، كأنها فتائل وشعلات في قناديل متعددة، فيحصل لها مضافا إلى شدة النورية حالة صفاء وبهاء وجلالة تبهر العقول والأنظار، يكاد سنا ضوئها تخطف الأبصار. والحاصل من إعتبار المعنى على السبك المستفاد من الآية، كون شئ براق نوراني كالفتيلة المشتعلة الضخمة في جوف شئ كالزجاجة، وهو في جوف شئ


[ 149 ]

صاف آخر كالمشكاة، فيكون هناك مظروف نوراني في أشد مراتب النورية، وظرفان متداخلان صافيان براقان بأنفسهما وبنورية المظروف الموجود فيهما أي في جوفهما. " يوقد " قرئ بالياء، مخفف القاف ومشددها، مجهولا فيهما، ويتوقد من باب التفعل معلوما، ويوقد بالياء من الباب المذكور مع حذف التاء لاجتماع حرفين زائدين وهو غريب، وضمير الفاعل مطلقا يراجع إلى المصباح، والمعنى على جميع القراءات المذكورة انه يشعل ذلك المصباح أي السراج الضخم الثاقب للظلام، " من شجرة مباركة زيتونة " وإبهام الشجرة ووصفها بالمباركة ثم بيانها بالزيتونة، أو استبدالها بها تفخيم لشأنها. والمراد انه زويت زبالة هذا المصباح بزيت شجر الزيتون الذي يكون دهنه أصفى من سائر الأدهان وأضوء، لا سيما في السراج مع كونه متكاثر المنفعة، فإن فيه أنواع المنافع حيث ان الزيت يسرج به، وهو أدام ودهان ودباغ، ويوقد بحطبه، ويدبغ بثفله، ويغسل برماده الابريسم، ولا يحتاج في استخراج دهنه إلى عصار. وهي أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان، ومنبتها منزل الأنبياء غالبا أي الشامات، وبارك فيها ستون نبيا أو سبعون، منهم إبراهيم (عليه السلام)، ولذا سميت مباركة، أو لأنها تنبت في الأرض المباركة التي بارك الله فيها للعالمين، وعن النبي (صلى الله عليه وآله): " عليكم بزيت هذه الشجرة الزيتونة، فتداولوها فإنها مصححة من الناسور " ولها منافع كثيرة في الأدواء المختلفة. " لا شرقية ولا غربية " أي لا يفئ عليها ظل شرق ولا غرب، فهي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا كهف، فثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى، فالمعنى أنها ليست بشرقية لا يصيبها الشمس إذا غربت، ولا بغربية لا يصيبها الشمس إذا طلعت، بل هي شرقية غربية، وذلك بأنها وقعت في رأس جبل، أو في صحراء واسعة بلا اختصاص بأحد الطرفين، فأخذت بحظها من الأمرين. أو المراد انها ليست من جنس شجر الدنيا فتكون شرقية أو غربية، بل هي من


[ 150 ]

أشجار البرزخ أو الآخرة فتكون في غاية الصفاء والجودة، أو أنها ليست في مقناة لا يصيبها الشمس، ولا هي في مضحاة بارزة للشمس لا يصيبها الظل، بل يصيبها الشمس والظل فيتعاقبان عليها، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها، قال (صلى الله عليه وآله): " لا خير في شجرة في مقناة ولا نبات في مقناة، ولا خير فيهما في مضحاة " (1). أو انها ليست من شجر الشرق أي الشرق المعمورة، ولا من شجر الغرب أي غرب المعمورة، لأن ما اختص بإحدى الجهتين كان أقل زيتا وأضعف ضوء، لكنها من شجر الشام، ونقل ان أجود الزيتون زيتون الشامات، وهي ما بين شرق المعمورة وغربها. أو المراد انها على سواء الجبل (2) لا شرق لها ولا غرب، بل إذا طلعت الشمس طلعت عليها، وإذا غربت غربت عنها، وحاصل هذا المعنى من حيث المراد يرجع إلى الأول وإن كان مغايرا له في الطريق، أو المراد ان هذه الشجرة خضراء ناعمة التف بها الأشجار، فلا يصيبها الشمس على أي حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت. " يكاد يضئ " من صفائه، وفرط ضيائه في نفسه " ولو لم تمسسه نار " بالتاء وقرئ بالياء أيضا لكون المؤنث غير حقيقي، والمراد قبل أن تمسسه وتشتعل فيه، وذلك من جهة كمال الإستعداد والقابلية. " نور على نور " أي هذا المصباح في جوف الزيت الصافي في الزجاجة البراقة المجعولة في المشكاة النورية، نور على نور، والتثنية لافادة الكثرة لكونه على ما اشير إليه أنوارا متعددة متداخلة، نورا على نور على نور، ونورا في نور في نور، ونورا على نور في نور، ونورا في نور على نور.


(1) راجع شرح توحيد الصدوق للقاضي سعيد القمي 2: 597، ونحوه تفسير البيضاوي 3: 199، والبحار 4: 21. (2) سواء الشئ وسواه وسواه: وسطه، قال الله تعالى: " في سواء الجحيم " / لسان العرب. (*)

[ 151 ]

والحاصل ان النور متضاعف، فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت، وزهرة القنديل الزجاجي، والمشكاة النورية، وضبطها للأشعة مع اجتماع الأنوار وعدم حصول الإنتشار، على ما اشير إليه سابقا. " يهدي الله لنوره من يشاء " أي يهدي الله لهذا النور الثاقب الباهر - بأي معنى اريد - من يشاء من عباده بإعطاء الإستعداد، أو التوفيق واللطف، أو إزالة الخذلان. " ويضرب الله الأمثال للناس " تقريبا إلى الأفهام، وتسهيلا لدرك المرام، بإدناء المعقول إلى المحسوس إيضاحا وبيانا وتوضيحا وتبيانا " والله بكل شئ " معقولا كان أو محسوسا، ظاهرا كان أو باطنا " عليم " فيضع الأشياء مواضعها، أو يعلم قابلية العباد فيهدي بعضهم إلى نوره بإفاضة الإستعداد، وبعضهم بإعانة التوفيق واللطف، وبعضهم بعدم الخذلان، وهو الكريم المنان ذو اللطف والإحسان. تفصيل في بيان التمثيل: إعلم ان المشكاة الموصوفة بما مر هو الممثل به ونور الله تعالى هو الممثل، وتطبيق الممثل على الممثل به يتصور هنا على وجوه كثيرة منقولة وغير منقولة، بأن يجعل المراد من الممثل أي نور الله هو خاتم الأوصياء، أي القائم (عليه السلام) الثاني عشر من الأئمة الكرام، وهو نور الله في السماوات والأرضين، كما ورد في تفسير قوله تعالى: * (وأشرقت الأرض بنور ربها) * (1) بأن المراد من نور الرب هو القائم (عليه السلام) (2). وهو النور الظاهر والباطن يظهر فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، فهو (عليه السلام) هو المصباح، والزجاجة هو الحسين (عليه السلام)، والمشكاة هي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وهذا المصباح يوقد من شجرة الحقيقة المحمدية، وهي الزيتونة المباركة لبركة آثارها وعدم تناهي أطوارها،


(1) الزمر: 69. (2) الإرشاد للمفيد: 363، عنه البحار 52: 337 ح 77، وتفسير كنز الدقائق 11: 338. (*)

[ 152 ]

وفي الزيارة الجامعة: " السلام على محال معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله... الخ ". فهي مباركة لافاضة جميع الفيوضات التشريعية والتكوينية منها، وهي الشجرة الكلية النابتة في مقام (أو أدنى)، وبيداء الإبداع والإختراع، وصحراء المشيئة والإرادة، لتشعب وجوه تعلقاتها بذرات الوجود التي لا تتناهى في مراتب الإمكان شعوبا وقبائل وهي أصل البركة وفرعها: " إن ذكر الخير كنتم أوله وآخره وأصله وفرعه... الخ ". وهي لا شرقية ولا غربية أي لا يهودية ولا نصرانية، لأن اليهود تصلي إلى المغرب والنصارى الى المشرق، أو ليس من شرق عالم الوجوب والقدم، ولا من غرب عالم الإمكان الخاص والحدوث، بل أمر بين الأمرين، أي ليس بخالق ولا مخلوق بل هو من عالم الأمر وإن كان مخلوقا أيضا. قال (عليه السلام): " نحن صنائع الله والخلق بعد صنائع لنا، أو صنائعنا " (1)، وهو كائن بالكينونة لا بالتكوين مع قولهم (عليهم السلام) حق وخلق ولا ثالث بينهما. أو ليست من الإمكان الصرف ولا الكون الخالص، بل الإمكان الراجح " يكاد زيتها يضئ " أي يكاد نور محمد (صلى الله عليه وآله) يتبين للناس ولو لم يتكلم أي نور نبوته أو نور ظهوره، أو نور علمه وحكمته، أو نور وجوده لغاية استعداده، " ولو لم تمسسه نار " الأمر الإلهي تشريعا أو تكوينا. أو المراد من نور الله هو نور محمد (صلى الله عليه وآله) أي نور علمه وولايته ونحوهما ظهر في فاطمة (عليها السلام)، ومنها ظهر في الأئمة (عليهم السلام)، ففاطمة (عليها السلام) هي الزجاجة والأئمة (عليهم السلام) المشكاة. قال الرضا (عليه السلام): نحن المشكاة فيها المصباح محمد (صلى الله عليه وآله) يهدي الله لولايتنا من أحب (2)، فيوقد هذا المصباح من


(1) مشارق الأنوار: 39، البحار 33: 58 ح 398. (2) مجمع البيان / الجزء الثامن عشر / سورة النور، عنه البحار 4: 23. (*)

[ 153 ]

الشجرة المباركة أي شجرة القدرة الإلهية لا جبر فيها ولا تفويض، وبركتها لكثرة مقدورات الباري سبحانه، يكاد آثار تلك القدرة تظهر في صفحة الإمكان بالتكوين ولو لم تمسسها نار أمر الله. أو الشجرة المباركة هي سلسلة إبراهيم (عليه السلام)، وبركتها لكونها مشتملة على الأنبياء الكثيرة، يكاد آثار نور محمد (صلى الله عليه وآله) تسطع ولو لم يأن وقت ظهوره، فنور محمد (صلى الله عليه وآله) نور على نور، أي نور طرء آثاره على نور آخر هي فاطمة (عليها السلام)، أو المراد هو نفس محمد (صلى الله عليه وآله) فإنه نور الله في السماوات والأرضين. قال تعالى: * (يا أيها النبي انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) * (1) وهو في صلب عبد الله وهو في صلب عبد المطلب، أو محمد (صلى الله عليه وآله) في صلب إسماعيل وهو في صلب إبراهيم (عليه السلام). " يوقد من شجرة مباركة " أي الشجرة النبوة أي سلسلة إبراهيم (عليه السلام) لكون أكثر الأنبياء من صلبه، وذلك من آثار البركة، ولأن من صلبه نبينا (صلى الله عليه وآله) الذي هو أصل البركة وفرعها، " لا شرقية ولا غربية " أي ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا فيكون شرقيا أو غربيا، أو شجرة الملة الإبراهيمية التي ليست يهودية ولا نصرانية. يكاد آثار النبوة تطلع من تلك الشجرة والسلسلة، أو آثار الهدى من تلك الملة، " ولو لم تمسسه نار " الأمر الإلهي بإبداء آثار النبوة " نور على نور " نبي من نسل نبي أو ولي، أو لامتياز ملة إبراهيم (عليه السلام) عن الملل الشرعية الاخر بمزايا كثيرة، أو المراد هو نور العلم في صدر النبي (صلى الله عليه وآله). و " المصباح في زجاجة " قال الباقر (عليه السلام): الزجاجة صدر علي (عليه السلام) (2)، أي صار علم النبي (صلى الله عليه وآله) صدر علي (عليه السلام)،


(1) الأحزاب: 45 - 46. (2) البحار 23: 311 ح 17، عن تفسير فرات الكوفي: 281 ح 381، ونحوه مجمع البيان سورة النور. (*)

[ 154 ]

قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي أنت نفسي التي بين جنبي، وفسر العلم هنا بالنبوة أيضا، فيكون المراد العلوم الحاصلة بها لا نفسها. قال الباقر (عليه السلام): " يوقد من شجرة مباركة " هي نور العلم الإلهي، " لا شرقية ولا غربية " لا يهودية ولا نصرانية، يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل، " نور على نور " أي إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في أثر الإمام من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وذلك من لدن آدم (عليه السلام) إلى أن تقوم الساعة، فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله خلفاء في أرضه وحججه على خلقه، لا تخلو الأرض في كل عصر من كل واحد منهم. قيل: ويدل عليه قول أبي طالب سلام الله عليه: أنت الأمير محمد * قرم (1) أغر (2) مسود (3) لمسودين أطاهر * كرموا وطاب المولد أنت السعيد من السعود * تكنفتك الأسعد من لدن آدم لم يزل * فينا وصي مرشد ولقد عرفتك صادقا * والقول لا يتفند ما زلت تنطق بالصواب * وأنت طفل أمرد (4). أو من شجرة النقي والرضوان، أو دوحة الهدى والإيمان، شجرة أصلها النبوة وفرعها الإمامة، وأغصانها التنزيل، وأوراقها التأويل، وخدمها جبرئيل وميكائيل، أو من شجرة علي (عليه السلام) كما في بعض الأخبار، أي يظهر العلم من علي، وهو الشجرة المباركة التي ليست بشرقية ولا غربية، أي ليس هو بيهود ولا نصارى... الخ.


(1) القرم من الرجال: السيد المعظم / لسان العرب. (2) الغرة - بالضم -: بياض في الجبهة، ورجل أغر: كريم الأفعال واضحها / لسان العرب. (3) المسود: السيد / لسان العرب. (4) راجع توحيد الصدوق: 158 ح 4، ونحوه مجمع البيان، الجزء الثامن عشر، في سورة النور. (*)

[ 155 ]

وفي خبر آخر عن الباقر (عليه السلام) ان معنى الآية: أنا هادي من في السماوات والأرض مثل العلم الذي أعطيته، وهو نوري الذي يهتدى به مثل المشكاة فيها المصباح، فالمشكاة قلب محمد (صلى الله عليه وآله)، والمصباح نوره الذي فيه العلم. وقوله: " المصباح في زجاجة " يقول: إني اريد أن أقبضك فاجعل الذي عندك عند الوصي كما يجعل المصباح في الزجاجة، " كأنها كوكب دري " فأعلمهم فضل الوصي، " يوقد من شجرة مباركة " هي إبراهيم (عليه السلام) وهو قوله تعالى: * (رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) * (1). وهو قوله تعالى: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) * (2). " لا شرقية ولا غربية " يقول: لستم بيهود فتصلوا قبل المغرب، ولا بنصارى فتصلوا قبل المشرق، وأنتم على ملة إبراهيم (عليه السلام)، وقد قال تعالى: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) * (3). وقوله: " يكاد زيتها يضئ " مثل أولادكم الذين يولدون منكم مثل الزيت الذي يعصر من الزيتون، يكادون أن يتكلموا بالنبوة ولو لم ينزل عليهم ملك (4). أو المراد من نوره تعالى هو محمد (صلى الله عليه وآله)، " كمشكاة " هو صدر علي (عليه السلام)، " فيها مصباح " نور العلم من محمد (صلى الله عليه وآله) في صدر علي (عليه السلام)، " المصباح في زجاجة " هو الحسن بن علي (عليه السلام)، " الزجاجة " هو الحسين (عليه السلام)، " كأنها كوكب دري "


(1) هود: 73. (2) آل عمران: 33 - 34. (3) آل عمران: 67. (4) الكافي 8: 380 ح 574، عنه البحار 4: 19 ح 7، وتفسير الصافي 3: 435، وتفسير كنز الدقائق 9: 306. (*)

[ 156 ]

فاطمة (عليها السلام) تزهر لأهل السماء، " يوقد من شجرة " علي بن الحسين (عليه السلام)، " مباركة " محمد بن علي (عليه السلام)، " زيتونة " جعفر بن محمد (عليه السلام)، " لا شرقية " موسى بن جعفر (عليه السلام)، " ولا غربية " علي بن موسى (عليه السلام)، " يكاد زيتها يضئ " محمد بن علي الجواد (عليه السلام)، " ولو لم تمسسه نار " علي بن محمد الهادي (عليه السلام)، " نور على نور " الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)، " يهدي الله لنوره من يشآء " القائم المهدي (عليه السلام)، هكذا ورد في بعض الروايات (1). وروى أخبار اخر في تفسير هذه الآية، أي تأويلها بالأئمة (عليهم السلام) بغير ترتيب هذه الرواية، وتطبيق الآية على معنى يستفاد منه هذا الترتيب يحتاج إلى بسط وتفصيل لا يليق بالمرحلة. أو المراد من النور نور محمد في روح محمد في نفس محمد (صلى الله عليه وآله)، يوقد من شجرة العقل الكلي المجرد عن التعلق بالبدن وعن الإرتباط، أو نور محمد في نفس محمد (صلى الله عليه وآله) في جسم محمد، يوقد من شجرة الروح الكلية التي هي لا شرقية مجردة عن الإرتباط وتعلق الإنحطاط، ولا غربية منكرة لمبدئها لغلبة طبيعتها وغلظ مادتها كالأجسام. أو نور محمد (صلى الله عليه وآله) في مادة محمد في جسم محمد، يوقد من شجرة النفس المطمئنة، لا أمارة في عالمه، ولا لوامة تلوم على الخير والشر بل مطمئنة، أو لا شرقية عالية ولا غربية غالية، أو لا شرقية مسرفة ولا غربية مقترة، أو لا شرقية متعززة على من يأهل له الذلة، ولا غربية متذللة لمن يأهل عليه العزة، بل أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. أولا شرقية ناصبة للدين، ولا غربية تابعة للمجاهدين (2)، أو لا شرقية تثبت الألوهية والمعبودية لشئ من المخلوقين، ولا غربية تجحد ولاية


(1) راجع شرح توحيد الصدوق للقاضي سعيد القمي 2: 666، نحوه. (2) كذا في المتن، ولعل الأنسب: تابعة للجاهلين. (*)

[ 157 ]

أمير المؤمنين (عليه السلام)، أولا مدعية ما ليس لها ولا منكرة لما لها، أو لا قانطة من رحمة الله ولا آمنة من مكر الله، والحاصل في الجميع انها متوسطة بين طرفي الإفراط والتفريط ومعتدلة. أو يوقد ذلك النور في الجميع من شجرة الأرض الجرز، والأرض الميتة التي هي مغرس أغصان الحكمة ومنشأ هياكل التوحيد، وهي أرض الماهيات والقابليات والإستعدادات، أو من شجرة الإمكان والصلوح المجرد التي لها فروع متكثرة. يكاد زيتها يضئ أي يكاد قابلية عقله أو روحه أو نفسه ونحو ذلك تظهر في الكون لشدة تأهلها للوجود قبل أن تنفعل من نار الجود، أو تكاد تفنى ظلمتها قبل أن يستولي عليها نور الحق، أو تكاد تنوجد الماهية لقرب رتبتها من المبدأ قبل أن توجد بتبعية الوجود، أو تكاد أن تنبت أرض الماهية تلك الأشجار المباركات، أو تكاد شجرة الإمكان تثمر بثمار الموجودات. أو المراد من النور هو النبوة، والزجاجة قلب النبي (صلى الله عليه وآله)، والمشكاة صدره، وهذا النور يوقد من شجرة الوحي المباركة بإفاضة الأحكام الشرعية، وهذه الشجرة حادثة في عالم الأمر لا عالم الخالق أو المخلوق، كما ورد ان القرآن لا خالق ولا مخلوق بل هو من عالم الأمر (1). يكاد زيت هذه الشجرة وهو الحجج القرآنية تتضح وإن لم تقرأ، أوان حجج الله تضئ وإن لم ينزل القرآن ولم يتدبر، وهذا المصباح نور على نور أي مع سائر الأدلة قبله في الآفاق والأنفس، أو مع سائر الكتب الإلهية. أو المراد من النور هو القرآن في قلب النبي (صلى الله عليه وآله) في صدره الشريف، قال تعالى: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين) * (2) وقال تعالى أيضا: * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * (3) والأنوار


(1) تفسير العياشي 1: 6، ح 14، عنه البحار 92: 120 ح 8. (2) الشعراء: 193 - 195. (3) النساء: 174. (*)

[ 158 ]

الحقيقية ترجع كلها إلى القرآن الظاهري والباطني، والبواقي كما مر. أو المراد من النور هو الأدلة الدالة على توحيده، وهي في القرآن في قلب النبي (صلى الله عليه وآله)، والشجرة هو الوحي، ومعنى لا شرقية ولا غربية كما مر، أو بمعنى انه ليس بمجمل بالكلية ولا بمفصل بالكلية. أو المراد من النور الهدى، أو العلم والمعرفة في القلوب في صدور الذين اوتوا العلم، يوقد من شجرة الطينة الصافية، كما ورد انه ليس العلم في السماء فينزل إليكم، ولا في تخوم الأرض فيصعد إليكم، وإنما جبل في جبلتكم فتخلقوا بأخلاق الله يظهر لكم. لا (شرقية ولا غربية): لا يهودية ولا نصرانية، أو لا عالمة بالضرورة والبداهة ولا جاهلة بليدة، أو لا نورانية صرفة ولا ظلمة محضة، ونحو ذلك، أو لا مشتبهة صرفة لا تفيق من جهلها، ولا مستقيمة أصيلة غير محفوفة بظلمات الأوهام والحجب والخيالات، يكاد من قابليتها تعلم العلوم بداهة، ولو لم تمسسه نار الإكتساب بالنظر. أو المراد من النور هو القرآن في لسان المؤمن في فمه، يوقد هذا النور من شجرة الوحي المباركة بكونها منشأ الأحكام الشرعية الموجبة للنجاة الاخروية، والبواقي على نحو ما مر. أو المراد عدله تعالى أو أمره الذي قامت به السماوات والأرض، أو وجهه الباقي بعد فناء كل شئ، أو صفته تعالى أي صفة كانت كل ذلك في قلب النبي (صلى الله عليه وآله) في صدره، أو سبحات جلاله وجماله الدالة على توحيده تعالى ذاتا ووصفا وفعلا وعبادة، أو الأدلة الآفاقية والأنفسية كذلك في قلب المؤمن في صدره، والشجرة هو الفيض الإلهي الجاري من عالم الأمر والمشية والإرادة، يكاد ذلك الفيض يجري في أودية العوالم الإمكانية، ولو لم تمسسه نار المشية والإرادة. أو المراد ميل الطاعة في قلب المؤمن في صدره، يوقد من شجرة الطينة


[ 159 ]

النورانية الإعتدالية، يكاد الإيمان يظهر منه من جهة كمال الإستعداد والقابلية. أو المراد النور الذي خلق منه المؤمن، فهو في طينته الكامنة في باطنه، يوقد من شجرة القدرة الإلهية، أو الرحمة الرحيمية التي لا إفراط فيها ولا تفريط، يكاد زيتها يضئ لأنه أرحم الراحمين وأقدر القادرين، ولو لم تمسسه نار تتقد من أشجار القابليات. أو المراد هو نور الإيمان في قلب المؤمن في صدره، ويؤيده قراءة ابي: مثل نور من آمن به، أو مثل نوره الذي أعطى المؤمن، قال محمد بن إبراهيم البوسيجي: من قال ان النور الذي في قلب المؤمن هو مخلوق فهو جهنمي. أو المراد من النور هو الحق، شبهه بالنور في ظهوره وبيانه كما في آية: * (يخرجهم من الظلمات إلى النور) * (1) أي من الباطل إلى الحق، يوقد هذا النور من شجرة مباركة هي المؤمن نفسه، كما في الخبر، أو هي نفس المؤمن فإن النفس كالشجرة في تطوراتها، وتشعب تعلقات أفعالها، وثمرتها الأحكام الوجودية والتشريعية، والمؤمن أو نفسه لا يهودي ولا نصراني، يكاد نوره الأصلي يظهر بالإيمان ولو لم تمسسه نار الدعوة. أو الشجرة هي شجرة الإخلاص لله وحده لا شريك له في مراتب التوحيد الأربع، وهذه الشجرة لا يصيبها الشمس على أي حال لا إذا طلعت ولا إذا غربت، وكذلك المؤمن يحترز من أن يصيبه شئ من الفترة، فهو بين خصال أربع: إن اعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، نور على نور أي ينقلب في خمسة من نور: علمه نور، وكلامه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره يوم القيامة إلى الجنة نور (2). أو ان إيمان المؤمن من نور، وقلبه نور، وصدره نور، بل ظله نور، وإلا لم يقبل الإيمان، وحاصل إخلاصه نور، ونظير الوجهين هنا في معنى (نور على نور)


(1) البقرة: 257. (2) مجمع البيان / الجزء الثامن عشر / سورة النور، عنه البحار 4: 23 ح 7. (*)

[ 160 ]

يجري في جميع الوجوه السابقة، أو ان إيمانه نور على نور أي فريضة على فريضة، وسنة على سنة، وشجرة الإخلاص مستقيمة في القلب لا تميل إلى أحد الطرفين، وهي مباركة إذ جميع الخير انما يحصل من هذه الشجرة، يكاد زيتها وهو النور الذي جعله الله في قلبه يضئ وإن لم يتكلم به. تتميم الكلام بكلام أربعة نفر من الأعلام: الأول: ما ذكره القاضي البيضاوي (1) بقوله: * (الله نور السماوات والأرض) * النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولا وبوساطتها سائر المبصرات، كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله إلا بتقدير مضاف أو ارتكاب تجوز، أي الله تعالى منور السماوات والأرض بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار، أو بالملائكة والأنبياء. أو مدبرها من قولهم للرئيس الفائق في التدبير: نور القوم، لأنهم يهتدون به في الأمور، أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره، وأصل الظهور هو الوجود كما ان أصل الخفاء هو العدم، والله سبحانه موجود بذاته موجد لما عداه، أو الذي به يدرك أو يدرك أهلهما من حيث انه يطلق على الباصرة لتعلقها به، أو لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه، ثم على البصيرة لأنها أقوى إدراكا، فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودات والمعدومات، ويغوص في بواطنها، ويتصرف فيها بالتركيب والتحليل. ثم إن هذه الإدراكات ليست لذاتها وإلا لما فارقتها، فهي إذن من سبب يفيضها عليها، وهو الله سبحانه وتعالى إبتداء أو بتوسط الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنوارا، ويقرب منه قول ابن عباس: معناه هادي من فيهما، فهم بنوره يهتدون. ثم ذكر في بيان التمثيل وجهين، أحدهما الهدى الذي دل عليه الآيات البينات، والثاني ما نور الله به قلب المؤمن من العلوم والمعارف، ثم قال: أو أنه


(1) تفسير البيضاوي 3: 198، عنه البحار 4: 20. (*)

[ 161 ]

تمثيل لما منح الله به عباده من القوة الدراكة الخمس المترتبة التي يناط بها المعاش والمعاد، وهي الحساسة التي تدرك المحسوسات بالحواس الخمس، والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت، والعقلية التي تدرك الحقائق الكلية، والمفكرة وهي التي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم يعلم، والقوة القدسية التي يتجلى فيها لوائح الغيب، وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء، والمعنية بقوله تعالى: * (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) * (1) بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية، وهي المشكاة، والزجاجة، والمصباح، والشجرة، والزيت. فإن الحساسة كالمشكاة لأن محلها كالكوى، ووجهها إلى الظاهر لا يدرك وراؤها، وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب، وضبطها للأنوار العقلية، وإنارتها بما يشتمل عليها من المعقولات، والعاقلة كالمصباح لاضاءتها بالإدراكات الكلية والمعارف الإلهية، والمفكرة كالشجرة المباركة لتأديها إلى ثمرات لا نهاية لها، والزيتونة المثمرة للزيت الذي هو مادة المصابيح التي لا تكون شرقية ولا غربية، لتجردها عن اللواحق الجسمية، أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلتين منتفعة من الجانبين، والقوة القدسية كالزيت فإنها لصفائها وشدة ذكائها تكاد بالمعارف من غير تفكر ولا تعليم. أو تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك، فإنها في بدء أمرها خالية عن العلوم، مستعدة لقبولها كالمشكاة، ثم ينتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات بحيث يتمكن من تحصيل النظريات، فيصير كالزجاجة متلألئة في نفسها قابلة للأنوار، وذلك التمكن إن كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة، وإن كان بالحدس فكالزيت، وإن كان بقوة قدسية فكالذي يكاد زيتها يضئ، لأنها


(1) الشورى: 52. (*)

[ 162 ]

تكاد تعلم ولو لم تتصل بملك الوحي والإلهام الذي مثله النار من حيث ان العقول تشتعل عنها، ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح، فإذا استحضرتها كانت نورا على نور على نور. الثاني: ما ذكره حسام الدين الحلبي تلميذ المولوي المعنوي، الذي ألف ونظم لأجله المثنوي، في تفسيره بقوله: * (الله نور السماوات والأرض) * أي وجود السماوات والأرض وظهورهما، فإن النور والوفور والظهور ألفاظ مترادفة، ومفهومها المطابقي الحقيقي ولازمها الذاتي - وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره - واحد. ويطابق هذا قوله تعالى: * (ولله المشرق والمغرب أينما تولوا فثم وجه الله) * (1) أي ذاته ووجوده، وكذا قوله: * (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) * (2). وهذا حكم صريح، وإدراك واضح، وعلم صحيح، فإن الله تعالى وجود السماوات والأرض وما فيهما من الموجودات الكائنات، فليس للأشياء وجود سوى الله، وان الله تعالى عين الأشياء الظاهرة والباطنة والأولية والآخرية، ووجودها إجمالا وتفصيلا، ووجود كل شئ من المجردات الإلهية والكونية، العقلية والنفسية، والجسمية والجوهرية، والعرضية البسيطة والمركبة، فإطلاق كلام الله تعالى على المعنى المجازي الغير الظاهري المطابقي وعلى غير مراده، خارج عن حسن الأدب والإنصاف. نعم ان هذا النوع من الأسرار الإلهية، والأطوار الغيبية الغير المتناهية طور وراء طور العقل، ولا يدركه العقل بالإستقلال من غير التأييد الإلهي، والتوفيق الرباني، والجهاد الصمداني، والرياض السبحاني، بل المؤثر في طور التحقيق ظاهرا وباطنا، صورة ومعنى، انما هو الحق الواجب بذاته، المؤثر في الممكنات بذاته وأسمائه وصفاته، والممكن بالذات بالمعنى الأخص ليس له من ذاته لا


(1) البقرة: 115. (2) الحديد: 3. (*)

[ 163 ]

ذات، ولا أثر، ولا صفات، ولا وجود، ولا عدم، ولا حدوث، ولا قدم، ولا يد، ولا رجل، ولا قدم، ولا عمل، ولا علم، بل كل من الله، هذا هو ما درسوا إليه المحققون من الأنبياء والأولياء والحكماء المتألهين. ثم ذكر في مقام بيان التمثيل الوجهين الأولين الذين ذكرهما القاضي أولا، ثم قال: الثالث: إنه تمثيل لما منح الله به عباده من القوى الخمسة: الحاسة الدراكة المباركة التي ينتظم بها أمور عالم المحسوس، وأحوال المعاش بالاصالة وبتبعيته أحوال المعاد، والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية التي تدرك الحقائق الكلية، وتقبل إشراقات الأنوار الإلهية والعلوم الربانية، والمفكرة وهي التي تؤلف المعاني الحاصلة والمحصلة لتستنتج منها علوما نظرية ونتائج فكرية، والقوة القدسية التي هي القوة العقلية، تقدست عن الصور الوهمية والهيئات الخيالية التي هي عقال العاقلة، ولذا سميت عقلا لأنه يعقل النفس الشيطانية عن التصرفات الباطلة، والتعطفات العاطلة. فالامور الخمسة المذكورة في الآية - وهي المشكاة، والمصباح، والزجاجة، والكوكب، والشجرة - إشارة إلى الأمور الخمسة المذكورة التي هي المشاعر العشرة، خمسة في الظاهر وخمسة في الباطن، والشجر إشارة إلى صورة جمعية الكل التي لا من شرق عالم المعقولات، ولا من غرب مشكاة عالم المحسوس، والزيتون هو كمال استعداد النفس الناطقة لقبول إشراقات أنوار المعارف الإلهية، ثم قال: وهذا مما قاله أهل التفسير والتنزيل. والظاهر أن هذا المعنى الذي ذكره هو الذي ذكره القاضي البيضاوي، وهما متقاربان عصرا، والقاضي مقدم ظاهرا، فيكون القاضي هو المتقدم في هذا المعنى، والفضل للمتقدم كما لا يخفى. الثالث: ما ذكره عبد الرزاق الكاشي بقوله: * (الله نور السماوات والأرض) * أي وجودهما وظهورهما، ووجود ما فيهما ظاهرا وباطنا. ثم ذكر ما يقرب لفظا ومعنى مما ذكره حسام الدين الحلبي، ثم قال: " مثل


[ 164 ]

نوره... " أي صفة وجوده وظهوره في العالمين بظهورهما به، كمثل مشكاة فيها مصباح، وهي إشارة إلى الجسد الظلماني في نفسه، وتنوره بنور الروح الذي اشير إليه بالمصباح، وتشبكه بشباك الحواس، وتلألؤ النور من خلالها كحال المشكاة من المصباح والمصباح في زجاجة، والزجاجة هي القلب المستنير بنور الروح والعقل. والفتيلة علقة الدم، والدهن الدم الأصفر القائم بالعلقة الذي يحمل الطبائع الأربع، والدخان ما اعتدل نضجه من أنجزة الدم الأصفر، وقد يكون بمشاركة العلقة، واستنارة الكون من الزجاجة بإشراق المصباح عليها كاستنارة الجسد بنور الحياة، وما يلزمها من القلب بإشراق الروح أو العقل عليه. وزجاجة القلب كأنها كوكب دري يشرق بجوهرية صفائه ونوريته وبما يشرق عليه من نور الروح، وذلك المصباح يوقد من شجرة مباركة زيتونة هي النفس وتطوراتها، وتشعب تعلقات أفعالها كل منها بما يليق له من الجسد والجسم أغصان لها، وما يترتب على ذلك من الأحكام الوجودية والتشريعية ثمرات لها، (لا شرقية ولا غربية) أي لا واجبة ولا ممتنعة. " يكاد زيتها يضئ " يكاد أن تتكون لقوة استعدادها، " ولو لم تمسسه نار " نور العقل أو الوجود، " نور على نور " من جهة تنور الجسم والجسد والقلب بنور الروح والعقل. هذا في العالم الصغير، وهو في العالم الكبير مثل لاستنارة العالم السفلي من محدد الأفلاك بما يفيض على الأفلاك، وما فيها من الأرواح والأشعة المنبسطة منها على العالم السفلي بإشراق العقل الأول عليه. فالعقل الأول كالمصباح، والمحدد كالزجاجة البراقة لأنه خزائن الأنوار الوجودية، ومنه تنبسط الأنوار إلى الأفلاك وما فيها من الكواكب المنيرة للعالم السفلي الذي هو كالمشكاة، والشجرة المباركة هي أمر الله التكويني، وهي كثيرة المنافع، لا شرقية ولا غربية لا واجبة ولا ممتنعة، يكاد يصدر من مبدئه لقوة


[ 165 ]

استعداده من حيث صلوح الإمكان، ولو لم تمسسه نار المشيئة، نور على نور لتنور العالم السفلية والعقلية به. الرابع: ما ذكره الإمام الغزالي في مشكاة الأنوار (1)، وقد نقله النواب الأعلى، والجناب المعلي، مؤيد الدولة العلياء، والملة البيضاء - أدام الله تأييده - بخطه الشريف ورسمه المنيف، في حاشية نسخة شريفة من تفسير الإمام أبي الفتوح الرازي (رحمه الله) كانت عنده، وأمرني بنقله في هذه النسخة. وهو من أحسن المعاني للآية الشريفة، ونقلته بلفظه على ما نقله، وهو قوله: لابد في المقام من بيان مراتب الأرواح البشرية النورانية، إذ بمعرفتها يعرف أمثلة قوله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض) * وهي خمسة. فالأول منها: الروح الحساس، وهو الذي يتلقى ما تورده الحواس الخمس، وكأنه أصل للروح الحيواني وأوله إذ به يصير الحيوان حيوانا، وهو موجود للصبي الرضيع أيضا. الثاني: الروح الخيالي، وهو الذي يستثبت ما أوردته الحواس الخمس، ويحفظه عنده مخزونا ليعرضه على الروح العقلي الذي فوقه عند الحاجة إليه، وهذا ما يوجد للصبي الرضيع في بداية نشوه. الثالث: الروح العقلي الذي به يدرك المعاني الخارجة عن الحس والخيال، وهو الجوهر الإنسي الخاص، ولا يكون للبهائم ولا للصبيان، ومدركاته المعارف الضرورية الكلية. الرابع: الروح الفكري، وهو الذي يأخذ العلوم العقلية المحضة فيوقع بينها تأليفات وإزدواجات، ويستنتج منها معارف شريفة، ثم إذا استفاد نتيجتين مثلا ألف بينهما مرة اخرى واستفاد نتيجة اخرى، ولا يزال يتزايد كذلك إلى غير نهاية. الخامس: الروح القدسي النبوي الذي يختص به الأنبياء وبعض الأولياء، وفيه يتجلى لوائح الغيب، وأحكام الآخرة، وجملة من ملكوت السماوات والأرض،


(1) مشكاة الأنوار 76 / القطب الثاني، وانظر شرح توحيد الصدوق للقاضي سعيد القمي 2: 612. (*)

[ 166 ]

بل من المعارف الربانية التي يقصر دونها الروح العقلي والفكري، وإليه الإشارة بقوله: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به) * (1) الآية. وإذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تطبيق ما ذكرناه على المذكور في الآية، فنقول: أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنواره من ثقب عدة كالعينين والاذنين والمنخرين وغيرها، وأوفق مثال له في عالم الشهادة المشكاة. وأما الروح الخيالي فتجد له خواص ثلاثة: إحداها: انه من طينة العالم السفلي الكثيف، لأن الشي المتخيل ذو مقدار وشكل وجهات محصورة مخصوصة، وهو على نسبة من المتخيل من قرب أو بعد، وشأن الكثيف الموصوف بأوصاف الأجسام أن يحجب عن الأنوار العقلية المحضة التي تتنزه عن الوصف بالجهات والمقادير والقرب والبعد. الثانية: ان هذا الخيال الكثيف إذا صفى ورقق وهذب وضبط صار موازيا للمعاني العقلية مؤديا لأنوارها، وغير حائل عن إشراق نورها منها. الثالثة: ان الخيال في بداية الأمر يحتاج إليه جدا ليضبط به المعارف العقلية، فلا تضطرب ولا تتزلزل ولا تنتشر إنتشارا يخرج عن الضبط، فنعم المعين الخيالات المثالية للمعارف العقلية. وهذه الخواص الثلاثة لا تجدها في عالم الشهادة بالإضافة إلى الأنوار المبصرة إلا الزجاجة، فإنها في الأصل من جوهر كثيف صفي ورقق حتى لا يحجب نور المصباح، بل يؤديه على وجهه ثم يحفظه عن الإنطفاء بالرياح العاصفة، فهو أولى مثال له. وأما الثالث وهو الروح العقلي الذي به يدرك المعارف الشريفة الإلهية، فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح، ولذلك سمى الأنبياء سرجا.


(1) الشورى: 52. (*)

[ 167 ]

وأما الرابع فهو الروح الفكري، ثم خاصيته أن يبتدئ من أصل واحد ثم يتشعب شعبتان ثم كل شعبة شعبتان، وهكذا إلى أن يكثر الشعب بالتقسيمات العقلية، ثم يفضي بالآخرة إلى نتائج هي ثمراتها، ثم تلك الثمرات تعول فتصير بذورا لأمثالها إذا أمكن تلقيح بعضها بالبعض حتى يتمادى إلى ثمرات ورائها، فبالحري أن يكون مثاله في هذا العالم الشجرة. وإذا كانت ثمراته مادة لتضاعف أنوار المعارف وثباتها وبقائها، فبالحري أن لا يمثل بشجرة السفرجل والتفاح والرمان وغيرها، بل من جملة سائر الأشجار بالزيتونة خاصة لأن لب ثمراتها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح، ويختص من سائر الأدهان بخاصية زيادة الإشراق مع قلة الدخان. وإذا كانت الماشية التي تكثر نسلها، والشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة، فالذي لا يتناهى ثمرته إلى حد محدود أولى أن يسمى شجرة مباركة، وإذا كانت الأفكار العقلية المحضة خارجة عن قبول الإضافة إلى الجهات والقرب والبعد فيه، فبالحري أن تكون لا شرقية ولا غربية. وأما الخامس فهو الروح القدسي النبوي المنسوب إلى الأولياء، وإذا كانت الروح المفكرة منقسمة إلى ما يحتاج إلى علم، وتنبيه، ومدد من خارج حتى يستمر في أنواع المعارف، وبعضها يكون من شدة الصفاء كأنه متنبه من نفسه من غير مدد من خارج، فبالحري أن يعبر عن الصافي البالغ الصافي الإستعداد بأنه يكاد يضئ ولو لم تمسسه نار، وفي الأولياء يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغني عن مدد الملائكة، فهذا المثال موافق لهذا القسم. وإن كانت هذه الأمور مترتبة بعضها على بعض، والحسي هو الأول وهو كالتوطئة والتمهيد للروح الخيالي، إذ لا يتصور الخيال إلا موضوعا بعده، والفكري والعقلي يكونان بعدهما، فبالحري أن يكون المشكاة كالمحل للزجاجة، فيكون المصباح في زجاجة والزجاجة في مشكاة، وإذا كانت هذه أنوارا بعضها فوق بعض، فبالحري أن يكون نورا على نور.


[ 168 ]

ثم اعلم ان هذا المثال انما يصلح لقلوب المؤمنين، ولقلوب الأنبياء والأولياء لا لقلوب الكفار، فإن النور سبب للهداية، فالمصروف عن طريق الهدى باطل وظلمة بل أشد من الظلمة، لأن الظلمة لا تهدي إلى الباطل كما لا تهدي إلى الحق، وعقول الكفار انتكست وكذا سائر إدراكاتهم، وتعاونت على الإضلال في حقهم، فمثاله كرجل في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض، والبحر اللجي هو الدنيا لما فيها من الأخطار المهلكة، والأشغال المردية، والكدورات المعمية. والموج الأول الشهوات الداعية إلى الصفات البهيمية، والإشتغال باللذات الحسية، وقضاء الأوطار الدنيوية حتى يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، وبالحري أن يكون هذا الموج مظلما لأن حب الشئ يعمي ويصم. والموج الثاني موج الصفات السبعية الباعثة إلى الغضب، والعداوة، والبغضاء، والحسد، والحقد، والمباهاة، والتفاخر، والتكاثر، وبالحري أن يكون مظلما لأن الغضب نحول (1) العقل، وبالحري أن يكون هذا هو الموج الأعلى، لأن الغضب في الأكثر مستول على الشهوات حتى إذا هاج أذهل عن الشهوات، وغفل عن اللذات المشتهيات. وأما الشهوة فلا تقاوم الغضب الهائج أصلا، وأما السحاب فهو الإعتقادات الخبيثة، والظنون الكاذبة، والخيالات الفاسدة التي صارت حجابا بين الكفر والإيمان ومعرفة الحق، والإستضاءة بنور شمس القرآن والعقل، فإن خاصية السحاب أن يحجب إشراق نور الشمس، وإن كانت هذه كلها مظلمة فبالحري أن تكون ظلمات بعضها فوق بعض. وإذا كانت هذه الكلمات تحجب عن معرفة الأشياء القريبة فضلا عن البعيدة، فكذلك حجب الكفار عن معرفة عجائب أحوال النبي (صلى الله عليه وآله)، مع


(1) كذا الظاهر، وفي المتن: غول العقل. (*)

[ 169 ]

قرب تناوله وظهوره بأدنى تأمل، فبالحري أن يعبر عنه بأنه لو أخرج يده لم يكد يراها، وإذا كانت منبع الأنوار كلها من النور الأول الحق، فبالحري أن يعتقد كل موحد أن من لم يجعل الله له نورا فماله من نور، إنتهى. [ تحقيق من المصنف ] وأقول في تحقيق الحال وتوضيح المقال في المجال بحيث يشمل جميع الأقوال، وكلما يمكن هنا من وجوه الإحتمال كلاما مشتملا على التفصيل وإن كان في صورة الإجمال، وهو: إن الله تعالى في عالم الذات الباطنة الذي هو عالم الذات البحت البات لا إسم له ولا رسم له، وليس بنور ولا ظلمة، عار عن جميع الحدود والكيفيات، عال عن تصور الأوهام والخيالات متعال عن التعينات والإشارات، مطلق عن جميع القيود والإعتبارات، السبيل إليه في هذا العالم مسدود، وطلبه في ذلك المقام الشامخ مردود، دليله آياته، ووجوده إثباته، كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مثلكم مردود اليكم. آن مگوكاندر عبارت نايدت * وين مگوكاندر اشارت نايدت وأما في عالم الذات الظاهرة فهو النور الحقيقي الظاهر بنفسه المظهر لغيره، وهو نور الأنوار، ومبدأ الأدوار، ومنتهى الأكوار، ومقام لم أعبد ربا لم أره، وما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه، وهو تعالى في هذا العالم نور السماوات والأرض، وكذا ما بينهما وما فوقهما وما تحتهما، وسبب نورهما ومنورهما وهاديهما ومزينهما، وغير ذلك من المعاني المذكورة هنا المشار إليها في جملة ما أسلفناه، فيصح اعتبار جميعها بلا اختصاص ببعضها. ويجوز في لفظ السماوات والأرض حينئذ إعتبار ظاهرهما وباطنهما، وظاهرهما حاو لباطنهما ومشتمل لجميع ما فيهما، فيشملان جميع الموجودات من العلويات والسفليات والباطنيات والظاهريات، ويجوز جعل السماوات بمعنى مطلق العلويات، والأرض بمعنى مطلق السفليات، ويرجع ذلك إلى الأول


[ 170 ]

بالإعتبار، فاعتبروا يا اولي الأبصار. وقوله تعالى: * (مثل نوره كمشكاة) * الضمير لله أو للنور، وحينئذ إن جعل إضافة النور بيانية، فالنور هو النور المذكور في الفقرة السابقة، وإن جعلت لامية أو ظرفية كان المقصود من نوره نور الله، ونور النور السابق المذكور، كما ورد في الدعاء: " يا نور النور، يا مدبر الأمور " (1)، وكما ورد أيضا: " يا نورا، يا من هو نور ". وهذا أدخل في المبالغة، وأنسب بالواقع والحقيقة، فيكون الممثل هو نور الله سبحانه، وأما الممثل به فهو نور محسوس بالخصوص، وهو نور السراج الضخم الثاقب النافذ في قنديل من الزجاجة الصافية، والزجاجة في جوف المشكاة النورية الزاهرة، فيكون المراد حينئذ نورا في شئ ذي نور، وهو في شئ آخر ذي نور، فيكون هناك أنوار بعضها فوق بعض، وأضواء بعضها تحت بعض مع شدة الضيآء وقوته على ما ظهر مما مر. والمراد من المثل الصفة، فيكون المراد أن صفة نوره تعالى صفة المشكاة المذكورة، والمراد تشبيه الجملة بالجملة أي المركب بالمركب، لا تشبيه المفرد والجزء كما في قوله تعالى: * (أو كصيب من السماء) * (2) أو * (كماء أنزلناه من السماء) * (3). ولما كان أصل النور هو الوجود إذ لا نور أكمل منه بالنسبة إلى كل موجود، كما ورد في الخبر: " إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نور الوجود " (4) والوجود هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره الذي هو معنى النور حقيقة،


(1) البحار 86: 175 ح 45. (2) البقرة: 19. (3) يونس: 24. (4) الفتوحات 2: 61 صدره فقط، تفسير صدر المتألهين 2: 313، وشرح الأسماء للحكيم السبزواري: 175. (*)

[ 171 ]

وهو نور الله الساري في جميع الموجودات، وهو جهة ظهور جميع المخلوقات، فكل شئ منور بنوره تعالى، وظاهر بظهوره. ثم إن كل شئ موجود من الدرة إلى الذرة مشتمل على ثلاث مراتب متداخلة، فالعالم الكبير مثلا مشتمل على الجبروت والملكوت والناسوت، فالجبروت هو المصباح، والملكوت هو الزجاجة، والناسوت هو المشكاة، وكذلك العالم الصغير والوسيط، وبوجه آخر كل شئ مركب من روح ونفس وجسد، فالروح هو المصباح، والنفس هو الزجاجة، والجسد هو المشكاة، وكذلك القلب مع الصدر والجسد، والروح مع القلب والصدر ونحو ذلك. وبوجه آخر كل شئ مركب من القشر واللب، وبرزخ بينهما لا يبغيان، وبوجه آخر كل ممكن زوج تركيبي، وفي المركبين أيضا برزخ بين الأمرين، وهكذا كل زوجين اثنين حتى نفس المصباح ونفس المشكاة أيضا كذلك، وكل ذرة من الذرات كذلك أي (مطلق كل) (1) أمور ثلاثة متداخلة كذلك، فصفة المشكاة موجودة في كل شئ لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، فجميع الأشياء مشكاة على الصفة السابقة، وفي كل منها صفة نوره وآثار ظهوره، وهو الذي اختفى لفرط نوره، والظاهر الباطن في ظهوره ظاهر عند كل من شهده، باطن عن منافق جحده، وإلى ذلك أشار من قال: فواعجبا كيف يعصى الإله * أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شئ له آية * تدل على أنه واحد وهذا المصباح الوجودي النوري يوقد من شجرة مباركة، هي القدرة الإلهية الكاملة المنشعبة من جهة اختلاف أنواع الموجودات الكونية، وبركتها من جهة صدور جميع الموجودات الخيرية منها، وهي زيتونة في كثرة منافعها، أو في كونها سببا للفيوضات النورية السارية الجارية من الدرة إلى الذرة، أو في كونها سببا


(1) كذا في الأصل، والظاهر أنها هكذا: " أي كل مطلق أمور ثلاثة متداخلة " بمعنى ان كل شئ مطلق له ثلاثة أمور، والله العالم. (*)

[ 172 ]

لوجود ذلك المصباح المنور، أو في كونها سببا للتضوء والتنور ونحو ذلك. " لا شرقية ولا غربية " أي لا جبر بالنسبة إليها ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين، يكاد زيت هذه الشجرة - وهو الوجود الثاني - يضئ أي يصير فعليا، " ولو لم تمسسه نار " الأمر أو المشيئة أو الإرادة في ضمن فتيلة الإستعداد والقابلية، أو الصور العلمية، أو الماهيات الثابتة والأعيان النابتة المشهورة بالمثل الافلاطونية. وهذا المصباح نور على نور أي في نور هو الزجاجة أو المشكاة، أو المشكاة نور على نور هو الزجاجة، أو الزجاجة نور على نور هو المصباح وفي نور هو المشكاة، أو المراد تعدد النور وتكرره، والمراد نور على نور على نور، أو نور في نور في نور. * (يهدي الله لنوره من يشاء) * أي يوجد الله في عالم ملكه من يشاء وما يشآء كيف يشآء، أو يهدي الله إلى جهة نوره وملاحظة آثار ظهوره من يشآء، أو يهدي الله إلى تدبر نوره وتصور آثار ظهوره من يشآء، * (والله بكل شئ عليم) * يضع الأشياء موضعها بحسب مقتضى الحكمة على طبق الإستعداد والقابلية. " في بيوت " أي هذا المصباح والمشكاة موضوعة في بيوت " أذن الله أن ترفع " وهذه بيوت مختلفة كالبيوت الإمكانية أي مراتب الإمكانات المختلفة، فإن إمكان كل شئ بنحو خاص مختص به لا يتعدى غيره، وكالبيوت الكونية العقلانية، والروحانية، والنفسانية، والجسمانية، وغير ذلك من البيوت الكلية والجزئية المتنوعة، وبيت كل ذرة وذرة محله ومستقره. وبيت المشكاة المركب من العقل والروح والنفس من البيوت الخارجية هو الطبيعة، وبيت المشكاة المركبة من الروح والنفس والطبيعة هو المادة، وبيت المشكاة المركبة من النفس والطبيعة والمادة هو المثال، وبيت المشكاة المركبة من الطبيعة والمادة والمثال هو الجسد وهكذا، وبيت المشكاة المركبة من القرآن والقلب والصدر هو بدن المؤمن وهكذا، فيشمل الممثل به جميع المعاني السابقة


[ 173 ]

وغيرها، وسيجئ ما ذكره القوم في تفسير البيوت عند تفسير الآية الثانية اللاحقة بهذه الآية السابقة النورية. وفي تفصيل معنى الآية كلام طويل للفاضل سعيد القمي (رحمه الله) أيضا في شرح توحيد ابن بابويه (1)، يقرب من ألف ومائة بيت تقريبا، من أراده فليطلبه من محله، وفيما ذكرناه كفاية لأهل الدراية، وعلى ما ذكرناه في معنى الآية يكون للآية من المعاني ما لا يعد ولا يحصى، وينطبق على ما ذكر هنا وما لم يذكر، وهو مجمل يفصل كل ما مر، فتأمل وتدبر. " في بيوت " قيل: والمراد بيوت الله أي المساجد التي تكون قناديلها أعظم، قال النبي (صلى الله عليه وآله): " المساجد بيوت الله في الأرض، وهي تضئ لأهل السماء كما تضئ النجوم لأهل الأرض " (2) ثم قيل: إنها أربع مساجد لم يبنها إلا نبي: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل، ومسجد بيت المقدس بناه داود وسليمان، ومسجد المدينة ومسجد قبا بناهما رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقيل: هي بيوت الأنبياء. وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام): هي بيوت النبي (صلى الله عليه وآله) (3). وفيه وفي الإكمال عن الباقر (عليه السلام): هي بيوتات الأنبياء (عليهم السلام) والرسل والحكماء وأئمة الهدى (4). والقمي عنه (صلى الله عليه وآله): هي بيوتات الأنبياء، وبيت علي (عليه السلام) منها (5).


(1) شرح توحيد الصدوق 2: 583، باب 15. (2) مجمع البيان / الجزء الثامن عشر / سورة النور، عنه البحار 23: 326، تفسير كنز الدقائق 9: 312. (3) الكافي 8: 331 ح 510، عنه البحار 23: 332 ح 18، تفسير الصافي 3: 436، وتفسير كنز الدقائق 9: 314. (4) الكافي 8: 119 ح 92، كمال الدين: 218 ح 2 باب 22، عنه البحار 11: 50 ح 49، وتفسير الصافي 3: 436، وتفسير كنز الدقائق 9: 314. (5) تفسير القمي 2: 104، عنه البحار 23: 327 ح 6، وتفسير الصافي 3: 436، ونحوه تفسير فرات: 282، وتفسير كنز الدقائق 9: 313. (*)

[ 174 ]

وروي انه قرأ النبي (صلى الله عليه وآله) الآية وقال: هذه البيوت بيوت الأنبياء، فقام أبو بكر وقال: يا رسول الله هذا البيت منها - أي بيت علي وفاطمة - ؟ قال (صلى الله عليه وآله): نعم من أفاضلها (1). قيل: ويعضده قوله تعالى: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (2) وقوله تعالى: * (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) * (3). وفي الكافي عنه (عليه السلام) ان قتادة قال له: والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدامهم، فما اضطرب قلبي قدام واحد منهم ما اضطرب قدامك، فقال له: أتدري أين أنت ؟ ! أنت بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع، فأنت ثمة ونحن أولئك، فقال له قتادة: صدقت والله جعلني الله فداك، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين (4). أو المراد من البيوت مطلق أجسام الأنبياء والأولياء والمؤمنين والصلحاء، أو بيوت عباداتهم فإن البيوت التي يعبد فيها تزهر لأهل السماء كما تزهر النجوم لأهل الأرض، وقوله تعالى: * (في بيوت) * أي كمشكاة في بيوت، كأنه قيل: مثل نوره كما ترى في المسجد مثلا نور المشكاة التي من صفتها كيت كيت. ولا ينافي جميع البيوت وحدة المشكاة، إذ المراد بعض البيوت أو مطلق مشكاة لها هذا الوصف بلا اعتبار الوحدة والكثرة، أو التقدير: يوقد في بيوت كذلك، أو هو متعلق بما بعده وهو يسبح أي يسبح له رجال في بيوت، وفيها تكرير كقولك: زيد في الدار جالس فيها، أو بمحذوف كقوله تعالى: * (في تسع آيات) * (5) أي سبحوا.


(1) مجمع البيان / الجزء الثامن عشر / سورة النور، عنه البحار 83: 3، تأويل الآيات: 359، تفسير فرات: 286 ح 386، وتفسير كنز الدقائق 9: 312. (2) الأحزاب: 33. (3) هود: 73. (4) الكافي 6: 256 ح 1، عنه البحار 10: 155 ح 4، وتفسير الصافي 3: 437، وتفسير كنز الدقائق 9: 316. (5) النمل: 12. (*)

[ 175 ]

* (في بيوت أذن الله أن ترفع) * والمراد من الإذن الأمر، ورفعها بناؤها وتعميرها كقوله تعالى: * (بناها * رفع سمكها فسواها) * (1) وقوله تعالى: * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) * (2)، أو المراد رفعها من حيث القدر بالتعظيم ونحوه أو بالذكر، ورفع الحوائج فيها إلى الله ونحو ذلك. " ويذكر فيها اسمه " هو عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه، أو المراد ذكره بذكر أسمائه الحسنى، أو بتلاوة كتابه. " يسبح له فيها بالغدو والآصال " ببناء المعلوم في يسبح أي يصلي فيها بالبكر والعشايا، أي أوقات الغدو والعشاء، وقال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن صلاة (3). وقيل: المراد بالتسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يجوز عليه، ووصفه بالصفات التي يستحقها لذاته وأفعاله التي كلها حكمة وصواب، وقرئ: الأيصال أي الدخول في الأصيل، يقال: آصل كأظهر وأعتم، وقرئ: يسبح (بفتح الباء) مجهولا، كأنه قيل: من يسبح ؟ فقال: * (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) * (4). والتجارة الشراء والبيع، والمراد بها هنا الشراء لذكر البيع بعدها، أو تخصيص بعد التعميم، أو المراد من التجارة الجلب، يقال: تجر في كذا إذا جلبه، والربح يتعلق بالبيع ويتوقع بالشراء، وأقام الصلاة أصله اقامة، والتاء عوض عن العين المحذوفة فلما اضيف جعل المضاف إليه بدل التاء، كما قيل: وأخلفوك وعد الأمر الذي وعدوا، وإيتاء الزكاة أي إخلاص الطاعة والزكاة المفروضة. في الفقيه عن الصادق (عليه السلام) في هذه الآية: كانوا أصحاب تجارة، فإذا حضرت الصلاة تركوا التجارة وانطلقوا إلى الصلاة، وهم أعظم أجرا ممن


(1) النازعات: 27 - 28. (2) البقرة: 127. (3) مجمع البيان / سورة النور، عنه البحار 83: 4. (4) النور: 37. (*)

[ 176 ]

لا يتجر (1). وفي الكافي قال: هم التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، إذا دخل مواقيت الصلاة أدوا إلى الله حقه فيها (2). وعن الصادق (عليه السلام) انه سأل عن تاجر ما فعل ؟ فقيل: صالح ولكنه قد ترك التجارة، فقال (عليه السلام): عمل الشيطان - ثلاثا - أما علم ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إشترى عيرا أتت من الشام، فاستفضل فيها ما قضى به دينه وقسم في قرابته، يقول الله عزوجل: * (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) * (3) الآية، يقول القصاص (4): إن القوم لم يكونوا يتجرون، كذبوا ولكنهم لم يكونوا يدعون الصلاة في مواقيتها، وهو أفضل ممن حضر الصلاة ولم يتجر (5). " يخافون يوما " مع ماهم عليه من الذكر والطاعة وعدم الغفلة، * (تتقلب فيه القلوب والأبصار) * أي تضطرب وتتغير من الهول، أو تزعج القلوب وتشخص الأبصار، أو تنقلب حالاتهما فلا يفهم القلب ولا تبصر العين، أو يفهم القلب ما لم يكن يفهم وتبصر العين ما لم تكن تبصر، أو تتقلب القلوب من توقع النجاة وخوف الهلاك، والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتابهم. أو تنقلب من حال إلى حال فتلفحها النار ثم تنضجها ثم تحرقها، أو تتقلب بين طمع النجاة وخوف الهلاك، وتتقلب الأبصار يمنة ويسرة، أو تتقلب القلوب ببلوغها الحناجر، والأبصار بالعمى بعد البصر، أو تتقلب القلوب من الشك إلى


(1) من لا يحضره الفقيه 3: 192 ح 3720، عنه البحار 83: 4، وتفسير الصافي 3: 437، وتفسير كنز الدقائق 9: 318، أورده صاحب مجمع البيان في سورة النور. (2) الكافي 5: 154 ح 21، عنه البحار 83: 4، وتفسير الصافي 3: 437. (3) النور: 37. (4) قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في مرآت العقول (19: 19) ما لفظه: القصاص رواة القصص والأكاذيب، عبر (عليه السلام) عن مفسري العامة وعلمائهم به لابتناء امورهم على الأكاذيب. (5) الكافي 5: 75 ح 8، عنه البحار 83: 4، وتفسير الصافي 3: 437، وتفسير كنز الدقائق 9: 316. (*)

[ 177 ]

اليقين والإيمان، والأبصار عما كانت تراه غيا فتراه رشدا، فمن كان شاكا في دنياه أبصر في آخرته، ومن كان عالما ازداد بصيرة وعلما، فهو مثل قوله تعالى: * (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم الحديد) * (1). " ليجزيهم الله " متعلق بيسبح، أو لا تلهيهم، أو يخافون، " أحسن ما عملوا " أي أحسن جزاء ما عملوا، " ويزيدهم من فضله " أشياء لم يعدهم على أعمالهم، ولا تخطر ببالهم، قال تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * (2). " والله يرزق من يشآء بغير حساب " وهو ما يتفضل به، وأما الثواب فله حساب لكونه على حسب الإستحقاق، وهذا تقرير للزيادة، وتنبيه على كمال القدرة، ونفاذ المشيئة، وسعة الإحسان. [ في تسميتها (عليها السلام) بسيدة النساء ] ومنها سيدة النساء، وقد ورد في أخبار كثيرة من طرق الخاصة والعامة، فعن العباس، عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: إبنتي فاطمة سيدة نساء العالمين (3). وعن الحسن بن زياد العطار قال: قلت للصادق (عليه السلام): قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ام سيدة نساء عالمها ؟ قال: ذاك مريم وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين، فقلت: قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ؟ قال (عليه السلام): والله سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين (4). وعن النبي (صلى الله عليه وآله) في رواية رواها في كشف الغمة انه قال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت


(1) ق: 22. (2) يونس: 26. (3) أمالي الصدوق: 245 ح 12 مجلس 49، عنه البحار 43: 22 ح 63، والعوالم 11: 126 ح 20، وإحقاق الحق 5: 41، والفردوس 3: 161 ح 4283. (4) أمالي الصدوق: 109 ح 7 مجلس 26، عنه البحار 43: 21 ح 10، ومناقب ابن شهرآشوب 3: 323. (*)

[ 178 ]

محمد (صلى الله عليه وآله)، وآسية امرأة فرعون (1). وفي الخبر عن عائشة انها قالت يوما لفاطمة (عليها السلام): ألا ابشرك ؟ اني سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: سيدات نساء أهل الجنة أربع: مريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)، وخديجة بنت خويلد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون (2). وعن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قرأ قوله تعالى: * (إن الله اصطفاك وطهرك) * (3) الآية فقال: يا علي خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)، وآسية بنت مزاحم. وفي الخبر الآخر: إن كلا من الأربعة سيدة نساء عالمها إلا فاطمة، فإنها سيدة النساء في الدنيا والآخرة من الأولين والآخرين. ومن كتاب مولد فاطمة لابن بابويه عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: إشتاقت الجنة إلى أربع من النساء: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وهي زوجة النبي (صلى الله عليه وآله) في الجنة، وخديجة بنت خويلد زوجة النبي (صلى الله عليه وآله) في الدنيا والآخرة، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) (4). وفي خبر آخر إن مريم وآسية وخديجة وكلثوم اخت موسى أو ام يحيى،


(1) كشف الغمة 2: 77، عنه البحار 43: 51 ح 48، والمناقب لابن المغازلي: 363 ح 409، المعجم الكبير 22: 402 ح 1003، الفصول المهمة: 143، ذخائر العقبى: 43، مستدرك الحاكم 3: 171 ح 4745، صحيح مسلم 5: 703، مناقب ابن شهرآشوب 3: 322، تهذيب التهذيب 12: 469 ح 2860، كفاية الطالب: 363، احقاق الحق 10: 58. (2) كشف الغمة 2: 77، عنه البحار 43: 51 ح 48، والعوالم 11: 119 ح 5، ونحوه في الفصول المهمة: 143، وشرح النهج لابن أبي الحديد 1: 266، وكنز العمال 12: 144 ح 34406. (3) آل عمران: 42. (4) كشف الغمة 2: 94، عنه البحار 43: 53 ح 48. (*)

[ 179 ]

هؤلاء الأربعة من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) في الجنة (1)، وليس في الجنة لعلي (عليه السلام) زوجة غير فاطمة (عليها السلام). وعن عائشة: ما كان من الرجال أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من علي، ولا من النساء أحب إليه من فاطمة، وان يوما أقبلت فاطمة تمشي لا والله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت فاطمة معه في شئ، فقال لها: أما ترضين أن تأتي يوم القيامة سيدة نساء العالمين. وفي خبر آخر: سيدة نساء هذه الامة (2). وعن ابن عباس انه قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان جالسا ذات يوم وعنده علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، فقال (صلى الله عليه وآله): اللهم إنك تعلم ان هؤلاء أهل بيتي، وأكرم الناس علي، فأحبب من أحبهم، وأبغض من أبغضهم، ووال من والاهم، وعاد من عاداهم، وأعن من أعانهم، واجعلهم مطهرين من كل دنس، معصومين من كل ذنب، وأيدهم بروح القدس منك. ثم قال: يا علي أنت إمام امتي - إلى أن قال: - وكأني أنظر إلى بنتي فاطمة قد أقبلت يوم القيامة على نجيب من نور، عن يمينها سبعون ألف ملك، وعن يسارها كذلك، وكذلك بين يديها وخلفها، تقود مؤمنات امتي إلى الجنة، وانها لسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وانها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف من الملائكة المقر بين، فيقولون لها ما قالوا لمريم: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (3). وعن النبي (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما، وامهما أفضل نساء أهل الأرض (4).


(1) راجع تفسير نور الثقلين 5: 377. (2) نحوه أمالي الطوسي: 333 ح 669، عنه البحار 43: 23 ح 19، والعوالم 11: 129 ح 24. (3) أمالي الصدوق: 393 ح 18 مجلس 73، عنه البحار 43: 24 ح 20 العوالم 11: 128 ح 23. (4) البحار 43: 19 ح 5، عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام). (*)

[ 180 ]

وعن أبي حمزة، عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: * (إنها لإحدى الكبر * نذيرا للبشر) * (1) قال: يعني فاطمة (2). وعن النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي إن الله عزوجل أشرف على الدنيا فاختارني منها على رجال العالمين، ثم اطلع الثانية فاختارك على رجال العالمين، ثم اطلع الثالثة فاختار الأئمة على رجال العالمين بعدك، ثم اطلع الرابعة فاختار فاطمة على نساء العالمين (3). وفي خبر طويل ذكر فيه نزول المائدة على فاطمة (عليها السلام)، فقال (صلى الله عليه وآله): الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى رأيت في إبنتي ما رأى زكريا في مريم بنت عمران، فقالت فاطمة: يا أبة أنا خير أم مريم ؟ فقال (صلى الله عليه وآله): أنت في قومك ومريم في قومها (4) أي كل منكما خير، فبقي الكلام بالنسبة إلى كون فاطمة خيرا من مريم في محل السكوت، وحكمه يستفاد من الأخبار السابقة العامة أو المطلقة. وروى حذيفة اليمان قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا ملك لم ينزل قط إلى الأرض قبل هذه الليلة، إستأذن ربه أن يسلم علي ويبشرني بان فاطمة سيدة نساء أهل الجنة (5). وعن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: * (وما خلق الذكر والانثى) * (6) انه


(1) المدثر: 35 - 36. (2) تفسير القمي 2: 396، البحار 43: 23 ح 16، العوالم 11: 98 ح 4، تفسير البرهان 4: 402 ح 1، تفسير كنز الدقائق 14: 27. (3) الخصال: 206 ح 25 باب الأربعة، عنه البحار 43: 26 ح 24. (4) سعد السعود: 91، عنه البحار 43: 76. (5) أمالي الطوسي: 84 ح 127، عنه البحار 37: 39 ح 10، ونحوه المعجم الكبير 22: 403 ح 1005، مستدرك الحاكم 3: 164 ح 4721، صحيح الترمذي 5: 660 ح 7381، كنز العمال 12: 96 ح 34158، حلية الأولياء 4: 190، كفاية الطالب: 422، فرائد السمطين 2: 20 ح 363، مقتل الحسين للخوارزمي: 55. مسند أحمد 5: 391. (6) الليل: 3. (*)

[ 181 ]

قال: الذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) والانثى فاطمة (عليها السلام) (1). وهذا أيضا يدل أيضا بالإستلزام أن فاطمة (عليها السلام) سيدة نساء العالمين، فإن تخصيص فاطمة (عليها السلام) بلفظ الانثى اما أن يكون لأنه ليس في العالم انثى غيرها وليس كذلك، أو لأنها أكمل الأفراد وأشرفها وأفضلها وهو المطلوب، وهذا الكلام يجري في الذكر أيضا بالنسبة إلى علي (عليه السلام). وروي عن ابن عباس، عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: فاطمة سيدة نساء العالمين ما خلا مريم بنت عمران (2). وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فاطمة خير نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران (3). وفي خبر آخر: إلا ما كان لمريم بنت عمران (4). وفي خبر آخر مشهور: إن فاطمة خير نساء العالمين إلا ما ولدته مريم (5). إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على كونها سيدة النساء، بالعبارات المختلفة، والمضامين المتقاربة. بيان: لا إشكال في كونها سيدة النساء في الدنيا والعقبى، وكونها سيدة نساء أهل الجنة كما ورد في الروايات يفيد ذلك أيضا، إذ جميع النساء المؤمنات نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين، فتكون سيدة نساء العالمين، وأما نساء أهل النار فهن ساقطات عن درجة الإعتبار، ويلزم من سيادتها على نساء أهل الجنة كونها سيدة نساء أهل النار أيضا بالأولوية، إذ المراد من ذلك كونها حاكمة عليهن،


(1) مناقب ابن شهرآشوب 3: 320، عنه البحار 43: 32، والعوالم 11: 98 ح 3، ونحوه تفسير الصافي 5: 336، وتفسير كنز الدقائق 14: 305. (2) الفردوس 3: 145 ح 4388، عنه البحار 43: 76، ومناقب ابن شهرآشوب 3: 323. (3) كشف الغمة 2: 78، ذخائر العقبى: 43، مستدرك الحاكم 3: 168 ح 4733، الاستيعاب 4: 375، الإصابة 4: 378، نظم درر السمطين: 178، تهذيب التهذيب 12: 469 ح 2860. (4) كشف الغمة 2: 83، العوالم 11: 136 ح 48، مسند فاطمة للسيوطي: 55 ح 130. (5) العوالم 11: 134 ح 42، عن مصباح الأنوار. (*)

[ 182 ]

نافذة الحكومة فيهن. وحقيقة السيادة كون المسود صادرا عن أمر السيد ونهيه، وهذا المعنى بإطلاقه شامل على الأوامر والنواهي التشريعية والتكوينية، فتكون خلقة جميع النساء أيضا بوساطة فاطمة (عليها السلام)، بل بناء على ما اشير إليه سابقا مما قرره أهل الحكمة أن جميع أنواع الذكور انثى بالنسبة إلى من هو مؤثر فيهم باعتبار صفة التأثر والإنفعال، فيعم سيادتها على جميع ذرات الموجودات من الأولين والآخرين سوى الأنوار المعصومين (عليهم السلام). ثم إن العالم إسم لما يعلم به الشئ مطلقا كالخاتم لما يختم به، والقالب لما يقلب به، وسمى ما سوى الله عالما من جهة انه يعلم به الباري سبحانه، ويسمى كل جماعة من شئ عالما فيقال: جاءني عالم من البقرة أو الإنسان مثلا، بل يسمى كل جزء من أجزاء العالم أيضا عالما، إذ كل درة وذرة من حيث انه أثر يدل على المؤثر، إذ الشئ ولو كان جزئيا لا يوجد نفسه لاستحالته، وكذا لو كان كليا لاستحالته، فلابد له من موجد يوجده، إذ كون الشئ مطلقا موجدا لنفسه يستلزم تقدم الشئ على نفسه، فكل شئ يدل بوجوده على موجده، ولذا قيل: فوا عجبا كيف يعصى الإله * أم كيف يجحده الجاحد ففي كل شئ له آية * تدل على أنه واحد فكل جزء وجزئي، وكل وكلي عالم، فيصير هذا الإسم شاملا لجميع ذرات الكائنات من الأجزاء والمركبات والجزئيات والكليات، وجميع الأصناف والأنواع، وكل جنس من الأجناس من الجواهر، والأعراض، والعقول، والأرواح، والنفوس، والأشباح. وإذا جمع العالم على العوالم فيعم العاقل وغير العاقل، وإذا جمع على العالمين - بالواو والنون (1) - اختص بذوي العقول، ويجوز التعميم لغيرهم أيضا من باب التغليب، وقول بعضهم: " إن العالمين إسم جمع مختص بالعقلاء ولا واحد له " لا


(1) أو الياء والنون في حالتي الجر والنصب. (*)

[ 183 ]

وجه له، كقول من قال: إن العالم أيضا مختص بمن يعقل، والظاهر من الآيات والأخبار تعدد العوالم الظاهرية والباطنية. لكن ذهب أكثر المتكلمين إلى ان العالم هو الجسماني المنحصر في الفلكي العلوي والعنصري السفلي. وعن بعض العارفين: إن المصنوع إثنان: عالم الماديات، وعالم المجردات، والكائن في الأول هو الجسم، والفلك والفلكيات، والعنصر والعنصريات، والعوارض اللازمة له، وفي الثاني الملائكة المسماة بالملأ الأعلى، والعقول والنفوس الكلية، والأرواح البشرية المسماة بالنفوس الناطقة، إنتهى، ويمكن تطبيق كل ذلك على ما هو الحق في الواقع والحقيقة. وقوله (صلى الله عليه وآله): " فاطمة سيدة نساء العالمين ما خلا مريم بنت عمران " ينافي أكثر الأخبار الواردة الظاهرة في أنها سيدة نساء العالمين بلا استثناء شئ، بل صرح به في بعضها كقوله (صلى الله عليه وآله): (من الأولين والآخرين). ويمكن توجيه الخبر المذكور بجعل (ما) نافية، وحينئذ اما أن يجعل مريم مفعولا أي ما تجاوز هذا التفضيل عن مريم، أو ما تجاوز بعضهن عنها، أو فاعلا أي لم تخل مريم أيضا من هذا التفضيل، فتكون هي أيضا داخلة في المفضل عليهن. والتذكير حينئذ في الفعل المسند إلى المؤنث الحقيقي اما بناء على جوازه عند الإسناد إلى الظاهر، أو جعلها للشرف بمنزلة المذكر، أو لأنها لم تتزوج فكأنها ليست بمؤنث، أو لأن " ما خلا " يستعمل غالبا في مقام الإستثناء، فلا يتبدل حاله كما قرر في الكتب النحوية، لئلا يتغير الصورة الإستثنائية، وإن كان يجعل (ما) حينئذ زائدة أو مصدرية لا نافية، إلا ان الصورة واحدة فأجرى عليه حكم الحالة الغالبة، أو ان (خلا) هنا من الأفعال الجامدة الصرفة. أو المراد إستثناء مريم من المفضولية الكاملة، ومن كونها مساوية لسائر


[ 184 ]

النساء، من جهة ان الله تعالى خصها أيضا بهذه الصفة في قوله: * (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) * (1). أو المراد إستثناء مريم حقيقة، وعدم تفضيل فاطمة (عليها السلام) عليها في هذه الرواية من باب المصلحة، حيث ارتكز في الأنظار لظاهر الآية ان مريم أيضا بهذه الصفة، فلعله (صلى الله عليه وآله) لو لم يستثنها وقع في التهمة بأن النبي إنما يفضل فاطمة كذلك من جهة المحبة، أو إرادة كونها سيدة مجازية لا حقيقية. أو كان ذلك موجبا لعداوة النصارى ونحو ذلك، فيكون مراده (صلى الله عليه وآله) اني أستثني في تفضيلي هذا مريم، وأحكم فيها بعدم المفضولية، أو أجعلها في محل السكوت في تلك الجملة، على الخلاف في ان الإستثناء من الإثبات نفي أو في محل السكوت وكذا الإستثناء من النفي. أو يكون قوله: " ما خلا مريم " من كلام الراوي، أي ما استثنى النبي (صلى الله عليه وآله) مريم أيضا، كما قيل بذلك في الخبر المشهور عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: " اسامة أحب الناس إلي ما حاشا فاطمة " حيث قيل: إن لفظ (ما حاشا) من الراوي بمعنى ان النبي (صلى الله عليه وآله) ما استثنى فاطمة، وذلك بقرينة ما في خبر الآخر: " ما حا شا فاطمة ولا غيرها " مع صحة جعله إستثناء أيضا، فيكون لفظه (ولا غيرها) بمعنى لا استثنى غير فاطمة. وأما قوله (صلى الله عليه وآله): " فاطمة خير نساء أهل الجنة إلا ما كان لمريم أو من مريم " فمعناه القريب ان فاطمة أفضل في جميع الصفات الكاملة للنساء إلا صفة كمال كانت لمريم وهو كونها سيدة النساء، ففاطمة (عليها السلام) في هذه الصفة ليست بأفضل منها، بل مساوية لها في ذلك ولو بحسب مجرد صدق الإسم بلا تفاوت في ظاهر الصورة، حيث ان مريم أيضا سيدة النساء كما ان فاطمة سيدة النساء، ويجوز بعض توجيهات اخر تظهر لمن تأمل وتدبر. وأما قوله (صلى الله عليه وآله): " فاطمة خير نساء العالمين إلا ما ولدته


(1) آل عمران: 42. (*)

[ 185 ]

مريم " فذكر فيه أيضا وجوه، مثل ان " إلا " هنا بمعنى لكن وما نافية أي لكن لم تلده مريم، وتذكير الضمير حينئذ بجعلها في الشرف كالمذكر، أو باعتبار الإنسان أو الشخص المذكر. أو ان إلا بمعنى الواو أي وما ولدته مريم، بجعل ما نافية أيضا على نحو ما مر، أو موصولة كناية عن عيسى (عليه السلام) أي أفضل من عيسى أيضا، أو بمعنى حتى وما موصولة أيضا على المعنى السابق. أو ان إلا للإستثناء المنقطع والمراد من الموصولة أيضا عيسى (عليه السلام)، أو للإستثناء المتصل مرادا من الموصولة البنت المفروضة لمريم، وتذكير الضمير حينئذ بإعتبار لفظ ما، أي إلا بنت مريم لو كان لها بنت، فيكون من باب التعليق بالمحال، وتأكيد المدح بما يشبه الذم، مثل قوله: ولا عيب فيهم غير ان سيوفهم * بهن فلول (1) من قراع (2) الكتائب [ في تسميتها (عليها السلام) بام الأئمة ] ومنها ام الأئمة النقباء النجباء، كما ورد في الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله): إن فاطمة أحصنت فرجها، فحرم الله ذريتها على النار، وتلك الذرية هم الأئمة (3). وعن عبد الله بن سليمان قال: قرأت في الإنجيل في وصف النبي (صلى الله عليه وآله): نكاح النساء، ذو النسل القليل، إنما نسله من مباركة، لها بيت في الجنة لاصخب فيه ولانصب، يكفلهاهو في آخر الزمان كما كفل زكريا امك، لها فرخان مستشهدان (4).


(1) الفل: الثلم في السيف / لسان العرب. (2) القراع: المضاربة بالسيوف، وقيل: مضاربة القوم في الحرب / لسان العرب. (3) مستدرك الحاكم 3: 152، حلية الأولياء 4: 188، مقتل الحسين للخوارزمي 55، تاريخ بغداد 3: 54 رقم 997، المناقب لابن المغازلي: 353 ح 403، الجامع الصغير للسيوطي 1: 352 ح 2309. (4) كمال الدين: 160 ح 18 باب 8، أمالي الصدوق: 224 ح 8 مجلس 46، عنهما البحار 16: 144 ح 1. (*)

[ 186 ]

وورد في قوله تعالى: * (مرج البحرين يلتقيان) * (1) انه قال: علي وفاطمة بحران عميقان لا يبغي أحدهما على الآخر (2). وفي رواية: * (بينهما برزخ) * (3) رسول الله (صلى الله عليه وآله)، * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * (4) الحسن والحسين (عليهما السلام). ذكرهما في الصافي وغيره (5). وعن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل) * (6) كلمات في محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، والأئمة من ذريتهم (عليهم السلام)، انه كذا نزلت على محمد (صلى الله عليه وآله) (7). وسئل الحسين بن روح - أحد النواب الأربعة للقائم (عليه السلام) -: كم بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أربع، فقيل: أيهن أفضل ؟ فقال: فاطمة، قيل: ولم صارت فاطمة أفضل وكانت أصغرهن سنا، وأقلهن صحبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قال: لخصلتين خصها الله بهما: انها ورثت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) منها، ولم يخصها بذلك إلا بفضل إخلاص عرفه من نيتها (8). وروى ابن خالويه عن كتاب الآل، عن أبي عبد الله الحنبلي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه لما خلق الله آدم وحواء تبخترا في الجنة، فقال آدم


(1) الرحمن: 19. (2) مناقب ابن شهرآشوب 3: 318، عنه البحار 43: 32 ح 39، ونحوه نور الأبصار: 226. (3) الرحمن: 20. (4) الرحمن: 22. (5) تفسير الصافي 5: 109، وتفسير القمي 2: 344، وتفسير البرهان 4: 266 ح 9، ومناقب ابن شهرآشوب 3: 318 عنه البحار 43: 32 ح 39، ونحوه روضة الواعظين: 148، وشواهد التنزيل 2: 285 ح 919. (6) طه: 115. (7) مناقب ابن شهرآشوب 3: 320، عنه البحار 43: 32 ح 39، ونحوه الكافي 1: 416 ح 23، وتفسير الصافي 3: 323، وتفسير كنز الدقائق 8: 361. (8) مناقب ابن شهرآشوب 3: 323، عنه البحار 43: 37، والعوالم 11: 141 ح 62. (*

[ 187 ]

(عليه السلام) لحواء: ما خلق الله خلقا هو أحسن منا، فأوحى الله إلى جبرئيل: إئت بعبدي الفردوس الأعلى. فلما دخلا الفردوس نظرا إلى جارية على درنوك من درانيك الجنة، وعلى رأسها تاج من نور قد أشرقت الجنان من حسن وجهها، فقال آدم (عليه السلام): حبيبي جبرئيل من هذه الجارية التي قد أشرقت الجنان من حسن وجهها ؟ فقال: هذه فاطمة بنت محمد نبي من ولدك يكون في آخر الزمان. قال: فما هذا التاج على رأسها ؟ قال: بعلها علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: فما القرطان اللذان في اذنيها ؟ قال: ولداها الحسن والحسين، قال آدم (عليه السلام): حبيبي جبرئيل أخلقوا قبلي ؟ قال: هم موجودون في غامض علم الله قبل أن تخلق بأربعة آلاف سنة (1). وروي في زبدة المعارف عن الصادق (عليه السلام) انه طلب أبي - محمد الباقر (عليه السلام) جابر بن عبد الله الأنصاري وقال له: إن لي اليك حاجة متى يكون لك أن تلاقيني في الخلوة حتى أسألك عن شئ اريده، قال جابر: جعلت فداك أنا حاضر كلما أردت. فطلبه أبي إلى الخلوة فقال: يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد امي فاطمة (عليها السلام)، وعما أخبرت به انه مكتوب في اللوح. قال جابر: أشهد بالله اني دخلت على امك فاطمة في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأهنيها بولادة الحسين (عليه السلام)، فرأيت في يدها لوحاأخضر ظننت انه من زمرد، ورأيت فيه كتابا أبيض شبه النور، فقلت لها: بأبي وامي أنت يا بنت رسول الله ما هذا اللوح ؟ فقالت: هذا اللوح أهداه الله إلى رسوله فيه إسم أبي وبعلي، وإسم ابني، وأسماء الأوصياء من ولدي، فأعطانيه


(1) راجع كشف الغمة 2: 83، عنه البحار 43: 52 ح 48، ونحوه في مقتل الحسين للخوارزمي: 65، ولسان الميزان 3: 403 رقم 4815 في ترجمة عبد الله بن محمد بن شاذان، ينابيع المودة 2: 319 ح 922، الصراط المستقيم 1: 209 فصل 87، العوالم 11: 41 ح 18. (*)

[ 188 ]

ليسرني بذلك. قال جابر: فأعطتنيه امك فاطمة فقرأته واستنسخته، فقال أبي (عليه السلام): هل لك يا جابر أن تعرضه علي ؟ قال: نعم، فمشى معه أبي (عليه السلام) حتى انتهى إلى منزل جابر، فأخرج إلى أبي صحيفة من رق، قال جابر: أشهد بالله اني هكذا رأيته في اللوح مكتوبا: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله العزيز العليم لمحمد نوره وسفيره وحجته ودليله، نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظم يا محمد أسمائي، واشكر نعمائي، ولا تجحد آلائي، اني أنا الله لا إله إلا أنا، قاصم الجبارين، مذل الظالمين، وديان يوم الدين، اني أنا الله لا إله إلا أنا فمن رجا غير فضلي، وخاف غير عدلي، عذبته عذابا لا اعذبه أحدا من العالمين، فاياي فاعبد وعلي فتوكل. إني لم أبعث نبيا فأكملت أيامه، وأنقضت مدته إلا جعلت له وصيا، واني فضلتك على الأنبياء، وفضلت وصيك على الأوصياء، وأكرمتك بشبابك بعده وبسبطيك الحسن والحسين، فجعلت حسنا معدن علمي بعد انقضاء مدة أبيه، وجعلت حسينا خازن وحيي، وأكرمته بالشهادة، وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد، وأرفع الشهداء درجة عندي، جعلت كلمتي التامة معه، وحجتي البالغة عنده، بعترته اثيب واعاقب. أولهم علي سيد العابدين، وزين الأولياء الماضين، وإبنه شبيه جده المحمود محمد الباقر لعلمي، والمعدن لحكمي، سيهلك المرتابون في جعفر، الراد عليه كالراد علي، حق القول مني لأكرمن مثوى جعفر، ولاسرنه في أشياعه وأنصاره وأوليائه. وانتجبت بعده موسى، ودفعت به فتنة عمياء حندس، لأن خيط فرضي لا ينقطع، وحجتي لا تخفى، وان أوليائي لا يشقون، ألا ومن جحد واحدا منهم فقد جحد نعمتي، ومن غير آية من كتابي فقد افترى علي، وويل للمفترين الجاحدين


[ 189 ]

عند انقضاء مدة عبدي موسى، وحبيبي وخيرتي. إن المكذب بالثامن مكذب بكل أوليائي، وعلي وليي وناصري، ومن أضع عليه أعباة النبوة، وأمتحنه بالإضطلاع، يقتله عفريت مستكبر، يدفن بالمدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي. حق القول مني لأقرن عينيه بمحمد إبنه، وخليفته من بعده، فهو وارث علمي، ومعدن حكمي، وموضع سري، وحجتي على خلقي، لا يؤمن به عبد إلا جعلت الجنة مثواه، وشفعته في سبعين من أهل بيته كلهم قد استوجبوا النار، وأختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري، والشاهد في خلقي، وأميني على وحيي، اخرج منه الداعي إلى سبيلي، والخازن لعلمي الحسن. ثم أكمل ذلك بإبنه رحمة للعالمين، عليه كمال موسى، وبهاء عيسى، وصبر أيوب، سيذل أوليائي في زمانه، ويتهادى رؤوسهم كما يتهادى رؤوس الترك والديلم، فيقتلون ويشردون، ويحرقون ويكذبون، خائفين مرعوبين وجلين، تصبغ الأرض بدمائهم، يفشو الويل والأنين في نسائهم، أولئك أوليائي حقا، بهم أدفع كل فتنة عميآء حندس، وبهم أكشف الزلازل، وأدفع الآصار والأغلال، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون " (1). وفي الكتاب المزبور، وفي توحيد ابن بابويه أيضا انه روى عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال: دخلت على مولاي وسيدي علي بن محمد (عليه السلام)، فلما نظر بي قال: مرحبا بك يا أبا القاسم، أنت ولينا حقا، قال: فقلت له: يا ابن رسول الله اني اريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضيا ثبت عليه حتى ألقى ربي عزوجل، قال: هات يا أبا القاسم. فقلت: إني أقول: إن الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شئ، خارج عن الحدين: حد الابطال وحد التشبيه، وانه ليس بجسم، ولا صورة، ولا جوهر، ولا


(1) زبدة المعارف: 486، وفي كمال الدين: 308 ح 1، الإختصاص: 210، أمالي الطوسي: 291 ح 566، البحار 36، 195 ح 3، العوالم 11: 848 ح 6، مشارق الأنوار: 103. (*)

[ 190 ]

عرض، بل هو مجسم الأجسام، ومصور الصور، وخالق الأعراض والجواهر، ورب كل شئ ومالكه وجاعله ومحدثه، وان محمدا (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله خاتم النبيين لا نبي بعده إلى يوم القيامة. وأقول: إن الإمام والخليفة وولي الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي الرضا، ثم محمد بن علي، ثم أنت يا مولاي. فقال (عليه السلام): ومن بعدي الحسن ابني، وكيف الناس بالخلف من بعده، قال: فقلت: وكيف ذلك يا مولاي ؟ قال: لأنه لا يرى شخصه، ولا يحل ذكره بإسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا. قال: قلت: أقررت وأقول: إن وليهم ولي الله، وإن عدوهم عدو الله، وطاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله، وأقول: إن المعراج حق، والمسألة في القبر حق، وإن الجنة حق، والنار حق، والصراط حق، والميزان حق، وإن الساعة آتية لا ريب فيها، وإن الله يبعث من في القبور، وأقول: إن الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فقال علي بن محمد (عليه السلام): يا أبا القاسم والله هذا دين الله الذي ارتضاه لعباده، فأثبت عليه ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة (1). وأيضا في الكتاب المذكور روى عن عبد الله بن أبي أوفى، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): لما خلق الله إبراهيم الخليل كشف الله عن بصره، فنظر إلى جانب العرش فرأى نورا فقال: إلهي وسيدي ما هذا النور ؟ قال: يا إبراهيم هذا محمد صفيي، فقال: إلهي وسيدي أرى إلى جانبه نورا آخر، فقال: يا إبراهيم هذا علي ناصري، فقال: إلهي وسيدي أرى إلى جانبهما نورا ثالثا، فقال: يا إبراهيم


(1) التوحيد للصدوق: 81 ح 37، عنه البحار 3: 268 ح 3، كمال الدين: 379 ح 1، عنه البحار 69: 1 ح 1، وأمالي الصدوق: 278 ح 24 مجلس 54. (*)

[ 191 ]

هذه فاطمة تلى أبيها وبعلها، فطمت محبيها عن النار. قال: إلهي وسيدي أرى نورين يليان الأنوار الثلاثة، قال الله: يا إبراهيم هذان الحسن والحسين يليان أباهما وجدهما وامهما، قال: إلهي وسيدي أرى تسعة أنوار أحدقوا بالخمسة الأنوار، قال: يا إبراهيم هؤلاء الأئمة من ولدهم، قال: إلهي وسيدي بمن يعرفون ؟ قال: يا إبراهيم أولهم علي بن الحسين، ومحمد ولد علي، وجعفر ولد محمد، وموسى ولد جعفر، وعلي ولد موسى، ومحمد ولد علي، وعلي ولد محمد، وحسن ولد علي، ومحمد ولد الحسن القائم المهدي. قال: إلهي وسيدي أرى أنوارا حولهم لا يحصى عدتهم إلا أنت، قال: يا إبراهيم هؤلاء شيعتهم ومحبوهم، قال: إلهي وبم يعرفون ؟ قال: بصلاة الاحدى والخمسين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، والقنوت قبل الركوع، وسجدة الشكر، والتختم باليمين، قال إبراهيم: اللهم اجعلني من شيعتهم ومحبيهم، قال: قد جعلتك. قال المفضل بن عمر: إن أبا حنيفة لما أحس بالموت روى هذا الخبر وسجد، فقبض في سجدة الشكر (1). وفي الكتاب المذكور أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه لما فتحت خيبر قالوا له (صلى الله عليه وآله): إن بها حبرا قد مضى له من العمر مائة سنة، وعنده علم التوراة، فأحضره بين يديه فقال له: أصدقني بصورة ذكري في التوراة وإلا ضربت عنقك. قال: فانهملت عيناه بالدموع وقال له: إن صدقتك قتلني قومي، وإن كذبتك تقتلني، قال له: قل وأنت في أمان الله وأماني، قال له الحبر: اريد الخلوة بك، قال له: لست اريد تقول إلا جهرا. قال: إن في سفر من أسفار توراة إسمك ونعتك وأتباعك، وانك تخرج من


(1) راجع الفضائل لابن شاذان: 158، عنه البحار 36: 213 ح 15. (*)

[ 192 ]

جبل فاران، وينادي بك وبإسمك على كل منبر، فرأيت في علامتك بين كتفيك خاتم يختم به النبوة ولا نبي بعدك، ومن ولدك أحد عشر سبطا يخرجون من ابن عمك واسمه علي، ويبلغ ملكك المشرق والمغرب، وتفتح خيبر وتقلع بابها، ثم تعبر الجيش على الكف والزند، فإن كان فيك هذه الصفات آمنت بك وأسلمت على يديك. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيها الحبر أما النشانة فهي لي، وأما العلامة فهي لناصري علي بن أبي طالب، قال: فالتفت إليه الحبر وإلى علي (عليه السلام) وقال: أنت قاتل مرحب الأعظم ؟ قال علي (عليه السلام): بلى قتلت مرحب الأحقر، أنا جدلته بقوة إلهية، أنا معبر الجيش على زندي وكفي، فعند ذلك قال: مد يديك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وانك معجزه، وانه يخرج منك أحد عشر نقيبا... الحديث (1). بيان: اعلم إن الأئمة جمع إمام على وزن فعال لما يفعل به، كاللباس ويجمع على الألبسة كالإمام على الأئمة، ومثل النظام والقوام والكتاب والعصام، فالإمام من يؤتم به، قال تعالى: * (إني جاعلك للناس إماما) * (2) أي يأتم بك الناس فيتبعونك، ويسمى كل من يتبع به إماما لأن الناس يأمون أفعاله أي يقصدونها ويتبعونها. ويقال للطريق أيضا إمام لأنه يؤم أي يقصد ويتبع، وفسر قوله تعالى: * (وإنهما لبإمام مبين) * (3) بالطريق الواضح. وقوله تعالى: * (يوم ندعو كل اناس بإمامهم) * (4)، قيل: أي بكتابهم، أو بدينهم لما فيهما من المقصودية والمتبوعية، ولذلك يطلق أيضا على كل نبي أو وصي وعلى إمام الجماعة والجمعة ونحو ذلك، وهو من امة يؤمه أما - من باب قتل - إذا


(1) راجع البحار 36: 212 ح 14. (2) البقرة: 124. (3) الحجر: 79. (4) الاسراء: 71. (*)

[ 193 ]

قصده، ومعنى التبعية لازم للقصد، ويقال للمقتدى: المؤتم، لكونه طالبا للإتباع. وأصل الأئمة أءممة، نقلت حركة الميم إلى الهمزة الثانية وادغمت فصار أئمة، فحينئذ فمنهم من يبقي الهمزة مخففة على الأصل، ومنهم من يسهلها أي يخففها بقلبها ياء لكونها حرف حركتها، ومنهم من يقلبها ألفا كما في آدم، وآخر بلحاظ الأصل، ومنهم من يسهلها ببين بين أي يجعلها بين نفسها وبين حرف حركتها. والمراد من الأئمة هم الإثنى عشر المعصومون (عليهم السلام)، وهذا معنى اللفظ بالحقيقة العرفية الثانوية، وهو المعنى الإصطلاحي المتشرعي، أو ان اللفظ ينصرف إليه لأنه الفرد الشايع في الإستعمالات العرفية إنصراف المطلق إلى الأفراد الشايعة أو الكاملة، بناء على جعل الكمال أيضا موجبا للإنصراف كالغلبة، أو ان اللفظ ينصرف إليه بمعونة القرينة الجاعلة لكون اللام للعهد الخارجي. والنقباء: جمع النقيب كالكرماء في الكريم، والشرفاء في الشريف، فعيل بمعنى الفاعل، من نقب الجدار ونحوه - من باب قتل - إذا خرقه، والمصدر النقب وكذلك النقابة - بالفتح -، والإسم النقابة - بالكسر - الكولاية والولاية. ونقب البيطار بطن الدابة كذلك ليعلم ما فيها من العيوب والأمراض، ومنه النقب في الجبل للطريق الواسع فيه كأنه خرق فيه، ولذا فسر قوله تعالى: * (فنقبوا في البلاد) * (1) بمعنى طافوا وتباعدوا، أو ساروا في نقوبها أي في طرقها طلبا للهرب. ونقيب القوم كالكفيل والضمين ينقب عن الأسرار، ومكنون الضمائر والأخبار، وهو كالعريف سمى به لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف الطريق إلى معرفة امورهم، قال تعالى: * (وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا) * (2) أي أمرنا موسى


(1) ق: 36. (2) المائدة: 12. (*)

[ 194 ]

بأن يبعث من الأسباط الإثنى عشر إثنى عشر رجلا كالطلائع، يتجسسون ويأتون بأخبار أرض الشام وأهلها للجبارين، واختار من كل سبط رجلا يكون لهم نقيبا. وفي الخبر ان النبي (صلى الله عليه وآله) قد جعل ليلة العقبة كل واحد من الجماعة الذين بايعوه بها نقيبا على قوم أي رئيسا متقدما عليهم، وكانوا إثنى عشر نقيبا كلهم من الأنصار (1). وكان سهل بن حنيف من النقباء الذين اختارهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان بدريا عقبيا احديا، وكان له خمس مناقب، وكان عبادة بن الصامت أيضا منهم، وقد تكرر ذكره في الخبر. والمنقبة: الفضيلة والمعجزة والكرامة ونحو ذلك، لأنها ينقب عنها أي يفتش عنها للعلم بها، وفي الخبر: لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، أي أفتش وأكشف (2). والنجباء: جمع النجيب نظير ما مر، وأصل النجيب هو الفاضل من كل شئ، وقد نجب - بالضم - نجابة إذا كان فاضلا نقيا في نوعه، والانثى نجيبة، وجمعها النجب والنجائب كالكرام في الكريم والكرم، والكرائم في الكريمة، وفي الخبر: الأنعام من نجائب القرآن (3)، أي من أفاضل سوره. ومنه المنتجب بمعنى المختار من إنتجبه إذا اختاره واصطفاه واستخلصه، وأصل النجب - بالتحريك - لحاء الشجر، وبالتسكين مصدر نجبت الشجرة إذا أخذت قشر ساقها وبقي خالصه، وهذا مستلزم للإخلاص والخلوص والخيرة والصفاء، فاستعمل في المعنى السابق. وهذا الذي ذكر في معنى النقيب والنجيب إنما هو المعنى اللغوي بالعرف العام، وباعتباره يطلقان على الأئمة (عليهم السلام)، واللام فيهما للعهد، ولكل


(1) النهاية 5: 101، لسان العرب 14: 252 / نقب. (2) المصدر نفسه. (3) النهاية 5: 17، لسان العرب 14: 41 / نجب. (*)

[ 195 ]

منهما معنى آخر بالعرف الخاص من باب الحقيقة العرفية الخاصة المتشرعية، وهو صنف من الأولياء وعباد الله الصالحين. كما ذكروا انه لابد أن لا يكون العالم خاليا عن القطب، والأركان الأربعة، والأوتاد السبعة، والأبدال الثلاثين، والنقباء الأربعين، والنجباء السبعين، والصلحاء الثلاث مائة والثلاثة عشر، واختلف في بعض الأصناف إسما ورسما، ووجودا وعدما، وتقدما وتأخرا، وقلة في العدد وكثرة. مثلا قيل في الأبدال انهم أربعون، إستنادا إلى ما روي عن أبي الدرداء، عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من امتي يقال لهم الأبدال، لم يفضلوا على الناس بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بحسن الخلق، وصدق النية، وسلامة القلوب لجميع المسلمين، والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله، أولئك خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه، واستخلصهم بعلمه، وهم أربعون صديقا منهم ثلاثون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن، بهم تقوم الأرض، وبهم يمطرون، وبهم يرزقون، وبهم ينصرون على الأعداء... الخبر. وهكذا، والتفصيل موكول إلى محله، وقد أشرنا إليه في الجملة في مبحث المعاد من كتابنا المسمى بالاصول المهمة، الذي ألفناه في أصول الدين والملة، عند الإشارة إلى بعض أحوال الرجعة، ومن أراده فليراجعه. [ في تسميتها (عليها السلام) بالمحدثة ] ومنها المحدثة، روي في العلل عن زيد بن علي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنما سميت فاطمة محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها،


[ 196 ]

وإن الله عزوجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها، وسيدة نساء الأولين والآخرين (1). وفيه عن سليمان قال: قال محمد بن أبي بكر: لما قرأ (عليه السلام): " وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث " قلت: وهل تحدث الملائكة إلا الأنبياء ؟ قال: مريم لم تكن نبية وكانت محدثة، وام موسى بن عمران كانت محدثة ولم تكن نبية، وسارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة، فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ولم تكن نبية، وفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت محدثة ولم تكن نبية (2). قال الصدوق (رحمه الله): فلما قرر الله عزوجل في كتابه انه ما أرسل من النساء أحدا إلى الناس في قوله: * (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) * (3) ولم يقل نساء، فالمحدثون ليسوا برسل ولا أنبياء (4). وقد روي ان سلمان الفارسي كان محدثا، فسئل الصادق (عليه السلام) عن ذلك وقيل له: من كان يحدثه ؟ فقال: رسول الله وأمير المؤمنين كانا يحدثانه بما لا يحتمله غيره من مخزون علم الله ومكنونه. وذكر حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: تظهر الزنادقة سنة ثمانية وعشرين ومائة، وذلك لأني نظرت في مصحف فاطمة، قال: فقلت: وما مصحف فاطمة ؟ فقال: إن الله تعالى لما قبض نبيه (صلى الله عليه وآله) دخل على فاطمة من


(1) علل الشرائع: 182 ح 1 باب 146، عنه البحار 43: 78 ح 65، والعوالم 11: 88 ح 1، وفي دلائل الإمامة: 80 ح 20. (2) علل الشرائع: 183 ح 2 باب 146، عنه البحار 43: 79 ح 66، والعوالم 11: 88 ح 2، وفي مناقب ابن شهرآشوب 3: 336 في معجزاتها. (3) يوسف: 109. (4) علل الشرائع: 183 ذيل حديث 2، عنه البحار 43: 79 ذيل حديث 66. (*)

[ 197 ]

وفاته من الحزن مالا يعلمه إلا الله عزوجل، فأرسل إليها ملكا يسلي عنها غمها ويحدثها، فحكت ذلك إلى أمير المؤمنين فقال لها: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته فجعل (عليه السلام) يكتب كلما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفا، قال: ثم قال: أما أنه ليس فيه من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون (1). وعن أبي عبيدة قال: سأل أبا عبد الله (عليه السلام) بعض أصحابنا عن الجفر، فقال: هو جلد ثور مملو علما، فقال له: ما الجامعة ؟ قال: تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا في عرض الأديم مثل فخذ الفالج، فيها كل ما يحتاج إليه الناس، وليس من قضية إلا وفيها حتى أرش الخدش. قال له: فما مصحف فاطمة ؟ فسكت طويلا ثم قال: انكم تبحثون عما تريدون وعما لا تريدون، إن فاطمة مكثت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) خمسة وسبعين يوما، وقد كان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة (2). وفي رواية اخرى عن الصادق (عليه السلام): مصحف فاطمة فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد (3)، وليس فيه من حلال ولا حرام، ولكن فيه علم ما يكون (4). من نمى گويم كه آن عالى جناب * هست پيغمبر ولي دارد كتاب وذكر بعض علماء الجفر في رسالة جمعها في القواعد الجفرية مسندا


(1) الكافي 1: 240 ح 2، وبصائر الدرجات: 177 ح 18، عنه البحار 43: 80 ح 68، والعوالم 11: 836 ح 4. (2) الكافي 1: 241 ح 5، وبصائر الدرجات: 173 ح 6، البحار 43: 79 ح 67، والعوالم 11: 835 ح 3. (3) الكافي 1: 239، بصائر الدرجات: 172، عنه البحار 26: 38 ح 70، والعوالم 11: 837 ح 6. (4) الكافي 1: 240 ح 2، عنه البحار 22: 545 ح 62. (*)

[ 198 ]

إلى الرواية: إن فاطمة الزهراء (عليها السلام) لما صارت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) محزونة بالأحزان الشديدة، كان جبرئيل يجئ إليها كل يوم للوعظ والتسلية من جانب الله سبحانه، وكان يحدثها بعض الأخبار، ويتلو عليها جملة من الأسرار بما لا عين رأت ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر أو أحد من الأنام حتى الأنبياء العظام والرسل الكرام. وكانت (عليها السلام) تكتب كل ما سمعت حتى اجتمعت عندها صحيفة مشتملة على أربعين ورقا، فلما تمت جعلتها في ظرف من الأديم، فختمته بخاتمها الكريم وسلمتها إلى سعد ملازمها وخادمها وقالت له: إذهب به إلى شرق المدينة في خارج البلدة، وسر حتى يظهر لك كثيب عظيم من الرملة، فاصعد على الكثيب ترى هناك رجلا جليلا نجيبا في الغاية، أبيض اللحية، معتدل القامة، فسلمها إليه وبلغ سلامي عليه وقل: يا سيدي هذه أمانة من سيدة النساء إليك، ووديعة أودعتها لديك لتوصلها وتؤديها إلى ولدي الأمجد حجة الله في الأرضين وخاتم الوصيين، فإذا سلمت الأمانة فاحفظ كلما يقوله لك حتى تأتيني بكل ما يقول. ففعل سعد ما أمرته به إلى أن أراد أن يصعد على الكثيب هبت هناك ريح عاصف، وزعزع (1) قاصف، وأخذ طرف الصحيفة من يده، وضربه على أطراف هذا الجبل وتلك الأرض حتى تخرق الظرف، وطارت الريح بكل ورق من الصحيفة إلى طرف غير طرف الآخر، وسعى سعد واجتهد ليأخذ بعض الأوراق ولو واحدا منها فلم يتمكن بذلك، فجعل يبكي ويتضرع فإذا هو بالشخص الموصوف الذي أمرته بايداع الصحيفة عنده، فسأل سعدا عن جهة بكائه، فحكى قصة الواقعة وما فعل بها الريح الشديدة العاصفة، فقال: يا سعد اصبر إلى الليل بالإتفاق لعلنا نظفر ببعض الأوراق في أثناء الليل لما يظهر حينئذ من نورها كالبدر.


(1) ريح زعزع وزعزاع وزعزوع: شديدة / لسان العرب. (*)

[ 199 ]

فلما جن عليهما الليل رأى سعد في البيداء أنوارا في مواضع متفرقة بعدد أوراق الصحيفة، كل منها كأنه شروق الشمس المشرقة، فقال ذلك الشيخ: قم يا سعد نطلب الأوراق، فقاما معا وتفحصا وجمعا من الأوراق تسعة وثلاثين، وكان نور الورق المتمم لأربعين يظهر لهما من مكان بعيد، فكلما طلباه لم يظفرا به إلى أن طلع الصبح. فقال ذلك الرجل: يا سعد قد فات منا هذا الورق البتة، وإنما يصل هو إلى شيعة الزهراء ممن كان أهلا له، فأخذ الرجل الأوراق التسعة والثلاثين، وسلم بعض ودائع إلى سعد ليوصلها إلى فاطمة (عليها السلام). فرجع سعد إليها فأخبرها الخبر، ثم انه وقع هذا الورق الفائت إلى سمت المغرب، وكان فيه أسرار وقعت في أيدي المغربيين، وذلك بأنهم أخذوا ذلك الورق فوجدوا فيه أربعين سطرا، في كل سطر علم معظم مما هو مجموع عند المغربيين، ومن جملة تلك العلوم: الطلسمات، والنيرنجات، والإخفاء، وطي الأرض، والكيمياء، والليمياء، والهيميا، والسيميا، والريميا، والنصب، والعزل، والقبض، والبسط، والعقد، والحل، والتصرف في الحياة والممات، والرزق، والرمل، والأعداد، والجفر. وهي أحد وعشرون علما متداولا بين غير المغربيين أيضا، ولكن تسعة عشر من هذه العلوم موجودة بين المغربيين وحدهم لم تصل إلى غيرهم، وقد جمع العلوم الأحد والعشرين السيد حسين الأغلاطي وغيره من أهل هذا الفن في كتبهم، إنتهى. بيان: لفظ المحدثة - بضم الميم، وفتح الحاء، وتشديد الدال المهملة - قرئ بفتح الدال إسم مفعول من حدثه تحديثا إذا أخبره، سميت بذلك لما ظهر من الأخبار المذكورة من أن الملائكة كانت تحدثها، وفي وصف فاطمة: " أيتها المحدثة العليمة " (1).


(1) البحار 100: 195 ح 12، وفي المتن: (العليلة) وما أثبتناه فمن البحار. (*)

[ 200 ]

وسلمان أيضا كان يسمى بالمحدث - كما مر - من جهة كون محمد وعلي صلوات الله عليهما يحدثانه بالعلوم المكنونة، وفي الخبر أن أوصياء محمد (صلى الله عليه وآله) محدثون، أي تحدثهم الملائكة وفيهم جبرئيل من غير معاينة، ومثله قوله: إن في كل امة محدثين من غير نبوة. وقرئ بكسر الدال أيضا بمعنى انها كانت تحدث امها في بطنها قبل الولادة، كما يظهر من الأخبار الواردة في حمل خديجة بها ووضعها لها، وسيجئ الإشارة إلى بعضها، أو انها أيضا كانت تحدث الملائكة كما كانت الملائكة يحدثونها، على ما مر في الأخبار السابقة. والمصحف - بضم الميم وكسرها، والضم أشهر، والحاء المفتوحة فيهما - وهو مجتمع الصحف أي مجمعها، ومنه سمى القرآن الذي صنفه عثمان مصحفا، لأن القرآن كان قبل ذلك سورا متفرقة، وآيات متقطعة، وأوراق منتشرة، وصحفا متشتتة، فإذا جمعوا الصحف وجعلوها مجتمعة في نسخة واحدة سموها مصحفا، فهو كان في الأصل إسما للقرآن الذي كتبه عثمان بخطه، وكان يقال له الإمام أيضا أي إمام المصاحف، لكون سائر المصاحف مستنسخة منها، ثم استعمل في تلك المصاحف أيضا، ولهذا المقام تفصيل آخر. فظاهر إطلاق مصحف فاطمة كون أصله صحفا متعددة اجتمعت في نسخة واحدة، كما يظهر مما ذكره بعض علماء الجفر انه كان أوراقا متعددة، ويسمى كل قطعة من جلد أو قرطاس كتب فيه شئ صحيفة. وفي النهاية (1) انه (صلى الله عليه وآله) كتب لعيينة بن حصين كتابا، فلما أخذه قال: يا محمد أتراني حاملاإلى قومي كتابا كصحيفة المتلمس، والصحيفة الكتاب، والمتلمس شاعر معروف واسمه عبد المسيح بن جرير، كان قدم هو وطرفة الشاعر على الملك عمرو بن هند، فنقم عليهما أمرا فكتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين يأمره بقتلهما وقال: إني قد كتبت لكما بجائزة.


(1) النهاية 3: 13 / صحف. (*)

[ 201 ]

فاجتازا بالحيرة فأعطى المتلمس صحيفته صبيا فقرأها فإذا فيها يأمر عامله بقتله، فألقاها في الماء ومضى إلى الشام وقال لطرفة: افعل مثل فعلي فإن صحيفتك مثل صحيفتي، فأبى عليه ومضى بها إلى العامل، فأمضى فيه حكمه وقتله، فضرب بهما المثل. [ في تسميتها (عليها السلام) بالبتول ] ومنها البتول، وكان ذلك يطلق على مريم أيضا، وفي العلل عن علي (عليه السلام) انه سئل النبي: ما البتول، فإنا سمعناك تقول: إن مريم بتول وفاطمة بتول ؟ فقال (صلى الله عليه وآله): البتول التي لم تر حمرة قط أي لم تحض، فإن الحيض مكروه في بنات الأنبياء (1). وعن أسماء بنت عميس قالت: قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله): قد كنت شهدت فاطمة وقد ولدت بعض ولدها فلم أر لها دما، فقال (صلى الله عليه وآله): إن فاطمة خلقت حورية في صورة إنسية (2). وقال (صلى الله عليه وآله) لعائشة: يا حميراء إن فاطمة ليست كنساء الآدميين، لا تعتل بما تعتل به (3). وإطلاق حميراء على عائشة لكونها بيضاء والعرب تقول للبيضاء حمراء، كما ذكر السيد أحمد العاصم، ويجوز كون اللفظ على أصل معناه، أو كناية عن مطلق الحسناء، والتصغير بحسب الظاهر تصغير المحبة كما في بني، وبحسب الباطن تصغير التحقير. وعن الصادق (عليه السلام) قال: حرم الله النساء على علي (عليه السلام) ما


(1) علل الشرائع: 181 ح 1 باب 144، عنه البحار 43: 15 ح 13، ومعاني الأخبار: 64 ح 17، ومناقب ابن شهر أشوب 3: 330، ودلائل الإمامة: 149 ح 61، كشف الغمة 2: 92 والعوالم 11: 80 ح 5. (2) المناقب لابن المغازلي: 369 ح 416، ذخائر العقبى: 44، دلائل الإمامة: 150 ح 62، كشف الغمة 2: 91، العوالم 11: 83 ح 1، ونحوه لسان الميزان 3: 291 ح 4464 في ترجمة العباس بن بكار الضبي. (3) مناقب ابن شهرآشوب 3: 330، والبحار 43: 6، والعوالم 11: 80 ح 5. (*)

[ 202 ]

دامت فاطمة حية، لأنها كانت طاهرة لا تحيض (1). وقال عبيد الهروي في الغريبين: سميت مريم بتولا لأنها بتلت عن الرجال، وسميت فاطمة بتولا لأنها بتلت عن النظير (2). وفي مصباح الأنوار عن الباقر (عليه السلام) قال: إنما سميت فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) الطاهرة لطهارتها من كل دنس، وطهارتها من كل رفث، وما رأت قط يوما حمرة ولا نفاسا (3). وعن أنس بن مالك، عن امه قالت: ما رأت فاطمة دما في حيض ولا في نفاس (4). وعن الباقر (عليه السلام): إن بنات الأنبياء لا يطمثن، إنما الطمث عقوبة، وأول من طمثت سارة (5). بيان: يمكن أن يراد من البتول معنى المنقطعة عن الضرة، إذ لا ضرة لها لا في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فلأن عليا (عليه السلام) لم يتزوج عليها ما دامت حية، سواء قلنا بجواز تزويجه عليها أم لا، وإن كان الأظهر هو الأخير، وأما في الآخرة فقد رووا انه لا يكون لعلي في الجنة زوجة إلا فاطمة (عليها السلام) (6). ويجري هذا الإحتمال في معنى فاطمة أيضا، وقد بينا ان اختلاف الأخبار


(1) مناقب ابن شهرآشوب 3: 330، عنه البحار 43: 16، والعوالم 11: 82 ح 4، ونحوه تهذيب الأحكام 7: 475 ح 1908، وأمالي الطوسي 43 ح 48 مجلس 2. (2) راجع المناقب لابن شهرآشوب 3: 330، عنه البحار 43: 16، والعوالم 11: 80 ح 7، عن الغريبين. (3) البحار 43: 19 ح 20، والعوالم 11: 82 ح 7، عن مصباح الأنوار. (4) أمالي الصدوق: 153 ح 9 مجلس 34، عنه البحار 43: 21 ح 9، والعوالم 11: 84 ح 3، واحقاق الحق 10: 309. (5) علل الشرائع: 290 ح 1 باب 215، عنه البحار 43: 25 ح 21، والعوالم 11: 85 ح 8، ومستدرك الوسائل 2: 38 ح 7. (6) راجع مناقب ابن شهرآشوب 3: 324، عنه البحار 43: 154 ح 13. (*)

[ 203 ]

في وجه التسمية يكشف عن اعتبار معنى كلي يصدق مع كل من الوجوه المحتملة، على ما مر في بيان معنى لفظ فاطمة. وأصل البتل القطع أي انها منقطعة عما ذكر، وعن نساء زمانها بعدم رؤية الدم حيضا ولا نفاسا ولا استحاضة، ومن هنا أيضا سميت إنسية حوراء. وفي النهاية (1): امرأة بتول: منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم، وبها سميت مريم ام عيسى (عليه السلام)، وسميت [ فاطمة ] بالبتول أيضا لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا، أو لانقطاعها عن الثيوبة لكونها بكرا دائما، أو لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى، من قوله تعالى: * (وتبتل إليه تبتيلا) * (2). تكميل: [ في باقي أسمائها (عليها السلام) ] ولها (عليها السلام) أسماء غير ذلك كما ذكره الصدوق وغيره، مثل: الحصان، الحرة، العذراء، المباركة، الطاهرة، الزكية، الراضية، المرضية، الصديقة الكبرى، ومريم العذراء، إلى غير ذلك. والحصان - بفتح الحاء - بمعنى المرأة العفيفة، وقد حصنت المرأة - مثلت الصاد - أي عفت، وهي بينة الحصانة - بالفتح - أي العفة، أصله من الحصن - بالكسر - وهو المكان الذي لا يقدر عليه لارتفاعه، ولهذا أيضا سمى الفرس الكريم العتيق بالحصان - بالكسر - لكون ظهره كالحصن لراكبه. وجعل الحصان - بالفتح - للمرأة الكريمة، وبالكسر للفرس بملاحظة مناسبة كون الفرس مركوبا والإنسان راكبا، فالفتح للفوق والكسر للتحت، كما قيل في الجنازة والجنازة بالنسبة إلى الميت والسرير على وجه، وإن قيل بالعكس أيضا وباستعمال كل في كل. وأحصن الرجل إذا تزوج فهو محصن - بالكسر - على القياس، والهمزة


(1) النهاية 1: 94، لسان العرب 1: 312 / بتل، العوالم 11: 81 ح 9. (2) المزمل: 8. (*)

[ 204 ]

حينئذ للصيرورة أي صار ذاحصن، مثل أغد البعير أي صارذاغدة، وأثمر الرجل أي صار ذا ثمر، ومحصن - بالفتح - على غير القياس على ما قيل. ويجوز أن يجعل الهمزة للتعدية فيكون الفتح أيضا قياسا، قال تعالى: * (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة) * (1) بصيغة المجهول وقرئ بالمعلوم أيضا، والتي أحصنت فرجها بمعنى في فرجها على الصيرورة، وبمعنى منعته على التعدية، والمراد انها عفت فهي محصنة ومحصنة - بالكسر والفتح -. والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي النساء الحرائر، وحصن - بالضم - حصانة فهو حصين أي منيع، ويتعدى بالهمزة والتضعيف. وفي الدعاء: " أسألك بدرعك الحصينة " (2) أي التي يتحصن بها ويستدفع بها المكاره، وفي دعاء الإستنجاء: " اللهم حصن فرجي " (3) المراد من تحصينه ستره وعفته وصونه عن المحارم، ومنه الخبر: " حصنوا أموالكم بالزكاة " (4)، وتحصن العدو إذا دخل الحصن واحتمى به. والحرة - بضم الحاء - انثى الحر، وهي الشئ الخالص الصافي من كل شوب وريبة، ومنه الحر خلاف العبد لاستخلاصه عن تصرف الغير وتعلقه، واستخلاصه من الرقية، والحر من الطين والرمل ما خلص من الإختلاط بغيره، ومنه الحديث: " الطين الحر يجعل على دم الميت الذي لا ينقطع ". والحرة خلاف الامة، وجمعها على حرائر على غير قياس، مثل شجرة مرة وشجر مرائر، قال السهيلي: ولا نظير لهما لأن باب فعلة - بضم الفاء - يجمع على فعل مثل غرفة وغرف، وإنما جمعت حرة على حرائر لأنها بمعنى كريمة وعقيلة،


(1) النساء: 25. (2) البحار 98: 125 ح 3. (3) البحار 80: 180 ح 29. (4) قرب الاسناد: 117 ح 410، عنه البحار 93: 288 ح 3، وفي مكارم الأخلاق: 388. (

[ 205 ]

ومرة بمعنى مريرة أو بمعنى خبيثة الطعم، فجمعت أيضا جمع فعلة. والعذراء بمعنى البكر، يقال: إمرأة عذراء أي بكر، لأن عذرتها - بضم العين - وهي جلدة البكارة باقية، ودم العذرة دم البكارة، وهي (عليها السلام) كانت بكرا دائما، فيكون بمعنى البتول على أحد الوجوه. والمباركة بمعنى كثير اليمن والبركة أي الزيادة، لكون الأئمة من نسلها، واستفاضة عالم الكون من ضوئها، وهي الشجرة المباركة الزيتونة التي هي لا شرقية ولا غربية. والطاهرة والزكية معناهما المطهرة عن الذنوب، وسوء الخلق، وجميع الأرجاس الظاهرية والباطنية، فالطاهرة عن الظاهرية، والزكية عن الباطنية، أو كل في كل، وفي إطلاق لفظ الطاهرة إشارة إلى طهارتها في الأصل، دون أن يعرض لها الطهارة بعد الخباثة. وإطلاق الرضية لرضاها عن الله ورسوله حين ذهبت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فطلبت منه خادمة وقالت: " لا اطيق على شدائد البيت " فعلمها النبي (صلى الله عليه وآله) تسبيح فاطمة، وبشر لها بثوابه، فقالت ثلاثا: " رضيت عن الله ورسوله " فرجعت إلى بيتها وقالت: " طلبت من أبي خير الدنيا فأعطاني خير الآخرة " (1). أو لرضاها عن الله تعالى فيما أعطاها من القرب، والمنزلة، وطهارة الطينة، وغير ذلك من المراتب العالية في الدنيا والبرزخ والآخرة من حيث الجاه، والمنزلة، والنعمة، والشرف، والفضيلة. أو لرضاها عنه تعالى في جعل الشفاعة الكبرى بيدها من الإنتقام من قتلة ولدها في الدنيا والآخرة، وإطلاق المرضية لأن الله تعالى يعطي لها في الآخرة من الكرامات الفاخرة حتى ترضى، كما قال لأبيها: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * (2)


(1) راجع المناقب لابن شهرآشوب 3: 342، عنه البحار 43: 85 ح 8. (2) الضحى: 5. (*)

[ 206 ]

أو لأن الله تعالى ورسوله وبعلها راضون عنها، أو لأن جميع الموجودات راضية عنها لاستفاضتها بفيوضها إلى غير ذلك. والصديقة الكبرى لأنها الصديقة ظاهرا وباطنا، لفظا كما قالت عائشة: " ما كان أصدق منها إلا الذي ولدها " (1)، ومعنى بتصديقها وعد ربها بما لا مزيد عليه قولا وفعلا. ومن أسمائها في السماء: المنصورة، النورية، السماوية، الحانية، لكونها منصورة في قتل ولدها بقيام القائم (عليه السلام)، " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله " " ينصر من يشآء ". والنورية ظاهرة، والسماوية لكونها من العوالم العالية على ما اشير إليه فيما مر، والحانية المشفقة على زوجها وأولادها، وقيل: الحانية التي تقيم على ولدها ولا تتزوج عطفا وشفقة لأولادها، ومن فضائل النساء كونهن أحنى على ولدها، وأرعى على زوجها، وهذه كناية عن غاية العطوفة وعدم القساوة. ولها (عليها السلام) أسماء اخر في الأرض والسماء ك‍: الميمونة، والمعصومة، والدرة البيضاء، والكوثر على أحد التفاسير في معنى الآية، مرادا من الكوثر معنى كثير الخير والبركة، من جهة كون الذرية الطاهرة النبوية من نسلها، مع أن السادات العلوية الفاطمية تختلط وتشتبك من جهة التكاثر والتزاوج، والتوالد والتناسل مع سائر الامة حتى تصير جميع الرعية من نسلها (عليها السلام) في آخر الأزمنة، وكلها محرمة لها بلا شبهة وريبة. [ في بيان الفواطم ] واعلم أن المسماة بفاطمة من الدوحة النبوية والسلسلة الهاشمية ثلاث


(1) مستدرك الحاكم 3: 175 ح 4756، ذخائر العقبى: 44، مقتل الحسين للخوارزمي: 56، الاستيعاب 4: 377، حلية الأولياء 2: 41، كشف الغمة 2: 100. (*)

[ 207 ]

مشهورات: فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) زوجة أمير المؤمنين (عليه السلام). وفاطمة بنت أسد بن هاشم امه (عليها السلام)، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وكانت هي أول امرأة هاجرت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى المدينة على قدميها، وكانت من أبر الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولما ماتت ألبسها رسول الله (صلى الله عليه وآله) قميصه، واضطجع في قبرها لتكسى من حلل الجنة، ويهون عليها القبر، وتزول عنها الوحشة. وفاطمة بنت عبد الله بن عمرو بن عمران بن مخزوم جدة النبي (صلى الله عليه وآله) لأبيه، ومنه قيل للحسن والحسين (عليهما السلام): ابنا الفواطم. وفي الحديث: قد ولدت محمد بن الحنفية ثلاث فواطم (1)، أراد فاطمة بنت عمران بن عائذ، وفاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت زائد بن الأصم، وفي الخبر انه (صلى الله عليه وآله) أعطى عليا (عليه السلام) حلة سيراء وقال: شققها خمرا بين الفواطم (2)، أراد فاطمة بنت رسول الله، وفاطمة بنت أسد الله، وفاطمة بنت حمزة عمه.


(1) راجع الكافي 1: 303 ضمن حديث 3، عنه البحار 44: 144 ضمن حديث 9. (2) الرياض النضرة 3: 194، إحقاق الحق 6: 557. (*)

[ 208 ]

فصل في بيان أفضلية بعض الأنوار الأربعة عشر على بعض آخر وبيان أفضليتهم مطلقا على من سواهم من الأنبياء والأولياء وغيرهم إعلم أن من تتبع الأخبار والآثار، وجاس خلال تلك الديار، ظهر عنده كالشمس في رابعة النهار أن أفضل جميع المخلوقات، وأشرف جميع الموجودات، هم الأنوار الأربعة عشر، وهم أهل دائرة واحدة هي أعلى الدوائر الكونية، لا دائرة فوقها في الشرف والفضيلة، وهم من طينة واحدة، ونور كل منهم من جنس نور الآخر، لكن بالتقدم والتأخر كالضوء من الضوء على ما في الخبر. والمبدأ في تلك الدورة العلية، والسلسلة الجلية هو ختم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، والمنتهى هي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وبعد ختم الأنبياء في درجة الفضيلة هو ختم الأولياء، وبعده أولاده المعصومون على نحو التدريج الوجودي، فالترتب الصوري إنما وقع على طبق الترتب المعنوي إلا في فاطمة (عليها السلام) فإنها متأخرة. وما دل على أفضلية الحسين (عليه السلام) على أخيه الحسن (عليه السلام)، أو أفضلية القائم (عليه السلام) على من سبقه فدلالته غير واضحة، إذ الأفضلية قسمان: ذاتية ووصفية، أي أصلية وعارضية، وكلامنا إنما هو في الأصلية، ودلالة الأدلة ليست على أزيد من العارضية، فكون الحسين (عليه السلام) مثلا منشأ


[ 209 ]

للآثار الظاهرية من قبول الشهادة والألام، والمصائب الجليلة لاحياء الشريعة وغير ذلك، يوجب له صفة فضيلة ليست للحسن (عليه السلام)، لكنه لا يوجب كون الحسين (عليه السلام) بالذات أشرف منه. وعلى هذا النحو كون القائم (عليه السلام) مظهر الآثار الجلالية والجمالية، ومنشأ القدرة الإلهية، فإن كل ذلك منوط بمصلحة الوقت والزمان، وغير ذلك خارج عن محل الكلام البتة. ففي درجات الجنة، ومراتب القرب والمنزلة، درجة الحسن أعلى من الحسين البتة، والحسين القرط الأيسر من العرش، والحسن هو القرط الأيمن، فلو فرض مجلس واحد للأخيار وجلس فيه هؤلاء الأنوار، كما في مقعد صدق عند مليك مقتدر، لا يجلس الحسين (عليه السلام) إلا تحت يد الحسن (عليه السلام)، وكذا القائم (عليه السلام) تحت يد أبيه الحسن (عليه السلام) لا فوق يد جده علي السجاد (عليه السلام)، ولا غيره ممن بعده. فلو كان للسلطان ولدان أصغر وأكبر، فالحشمة الظاهرية في الولد الأصغر بكونه مثلا قائد الجيوش، ومكابد الحروب من جهة مناسبته وقابليته لتلك المرتبة الظاهرية، لا توجب أفضليته على الولد الأكبر الذي فوقه في الفضيلة الذاتية من جهة التدبير والعلم والحكمة، وسائر الصفات الفاضلة الكمالية. مثلا إذا كان الولد الأصغر دون الأكبر في هذه الصفات الكاملة، وإن كان يحصل للولد الأصغر فضيلة اخرى من الجهة السابقة، ومع ذلك لا يقال عند الإطلاق ان الولد الأصغر للسلطان أفضل من الأكبر، فتأمل وتدبر فإن هذه الجملة تكفي لمن كان من أهل البصر والبصيرة. ثم إن المحقق من الروايات والأخبار ان مرتبة الأنبياء مطلقا تحت مرتبة هؤلاء الأنوار، فيكون كل من الأنوار الأربعة عشر أفضل من الأنبياء حتى اولى العزم منهم أيضا، لكون الأنبياء مطلقا مخلوقين من أنوار هؤلاء الأنوار، والنور أسفل من المنير من حيث المرتبة بمراتب كثيرة. وأنا لا اطيل الكلام في المرحلة لوضوح الحال عندي، بل عند كل من كان له


[ 210 ]

أدنى ممارسة للآثار والأخبار المأثورة، وأقول كما قال ابن أبي الحديد في السبعة العلوية: هذا اعتقادي قد كشفت غطاءه * سيضر معتقدا له أو ينفع (1) ولكني أذكر هنا ما ذكره في هذا المقام بعض العلماء الأعلام، ليكون الناظر في كتابنا هذا على بصيرة مما ذكره القوم، مع كونه من جهة بعض فقراته واستشهاداته مؤيدا لما ذكرنا، ومفصلا لما أجملنا. قال: قد تحقق ان النبي والأئمة (عليهم السلام) قد خلقوا من نور واحد، والنبي (صلى الله عليه وآله) له فضيلة على علي (عليه السلام)، وذكروا ان له الفضل على سائر الأئمة (عليهم السلام) ووجهه ظاهر، وأما الحسنان فالذي يظهر من أخبارهم ان لهما الفضيلة على باقيهم، ولعل وجهه القرب من النبي (صلى الله عليه وآله)، ومشاهدة الوحي، وهبوط الملائكة في منازلهم، والقرب من زمن الإسلام، وغير ذلك، وأما هما فلم نعرف الأفضلية بينهما، لأن الإمامة والخلافة قد أتتهما معا، وقد كانا في الكمالات كفرسي رهان، مع ما خص به الحسين (عليه السلام) عوض الشهادة، بأن جعل الشفاء في تربته والأئمة من ذريته، واستجابة الدعاء تحت قبته، ونحو ذلك. وفي الروايات الخاصية ان فاطمة (عليها السلام) أتت بهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت: يا رسول الله ورث ولديك، فقال (صلى الله عليه وآله): أما الحسن فله سؤددي وعلائي، وأما الحسين فله سخاوتي وشجاعتي (2). ومن هذا كان الحسين (عليه السلام) في الدرجة القصوى من الكرم والشجاعة، أما الكرم فقد كان الحسن (عليه السلام) يكتب إليه بأنك تعطي الشعراء ونحوهم كثيرا من الأموال، فأجابه الحسين (عليه السلام): بانك تعلم يا


(1) الروضة المختارة: 143. (2) انظر الإرشاد للمفيد: 187، والخصال: 77: 123 باب 2، عنه البحار 43: 263 ح 11، والمناقب لابن شهرآشوب 3: 396، ومسند فاطمة: 55، وكنز العمال 12: 113 ح 34250، ومختصر تاريخ دمشق 7: 21 رقم 1، والمعجم الكبير 22: 423 ح 1041، والأنوار النعمانية 1: 19. (*)

[ 211 ]

أخي ان خير المال ما وقى به العرض (1). وفيه دلالة على ان الإعطاء بقصد صون العرض حسنة ولو لم يكن من أهل الإستحقاق، وروى مصرحا به في بعض الأخبار ان العطاء لصون العرض يكتب فيه ثواب الصدقة (2). وأما الشجاعة فناهيك بواقعة الطفوف، وقدومه على الجهاد مع ستين ألفا، وانه (عليه السلام) قتل منهم الجماعات، ولم يتسلطوا عليه حتى احتالوا عليه بأن زاحموا عليه كلهم، وقد كانت العادة بينهم قديما أن يبرزوا واحد لواحد، مع ما لحقه من العطش والأذي بقتل أهل بيته واخوته، ولكن قد سبق الكتاب أجله. وفي الروايات ان الحسنين (عليهما السلام) قد تكاتبا فجاءا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ليميز بين كتابتيهما، وقد كانا طفلين من حيث ظاهر الحالة، فقال (صلى الله عليه وآله) لهما: إني امي ولكن إمضيا إلى أبيكما، فجاءا إليه فقال أبوهما: إمضيا إلى امكما لتميز بينكما، فلما أتيا إليها قالت: يا ولدي عندي عقد فيه سبع من اللئالي، فأنا أقطعه فكل من يحوز الأربع فسطره الأحسن، فلما ألقتها تبادرا إلى الإلتقاط، فالتقط كل واحد منهما ثلاثا، وأتى جبرئيل فضرب بجناحه اللؤلؤة وقدها نصفين، فأخذ كل منهما نصفا (3). فانظر إلى رعاية حرمتهما حيث لم يرد الله ورسوله وأبوهما إدخال غم الترجيح عليهما، وأمثال هذه الروايات الدالة على المساوات بينهما لا تكاد تحصى، مع أنه (صلى الله عليه وآله) ورثهما من إرثه الشريف، فكان الحسن يشبهه من السرة إلى فوق، والحسين يشبهه في النصف الباقي (4). وفي الروايات الكثيرة ان الجنة قالت: يا رب أسكنتني الضعفاء والمساكين،


(1) العدد القوية: 292 ح 18، عنه البحار 78: 352 ح 9، الأنوار النعمانية 1: 19. (2) راجع الأنوار النعمانية 1: 19. (3) راجع البحار 45: 190 ضمن حديث 36، والأنوار النعمانية 1: 19. (4) راجع الأنوار النعمانية 1: 20 وانظر أيضا إرشاد المفيد: 198، كشف الغمة 2: 145، مسند علي بن أبي طالب (عليه السلام) للسيوطي 1: 174 رقم 544، مختصر تاريخ دمشق 7: 117 رقم 126، حياة الإمام الحسن من تاريخ دمشق: 33 ح 61، إحقاق الحق 19: 286. (*)

[ 212 ]

قال لها الله تعالى: ألا ترضين اني زينت أركانك بالحسن والحسين ؟ ! قال: فماست كما تميس العروس فرحا (1)، إلى غير ذلك. وأما باقي الأئمة فالأخبار قد اختلفت في أحوالهم في المساوات والأشرفية، فروى الصدوق مسندا إلى مولانا أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) قال: دخلت أنا وأخي على جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأجلس أخي على فخذه الأيمن وأجلسني على فخذه الآخر، ثم قبلنا وقال: بأبي أنتما من إمامين صالحين إختاركما الله مني ومن أبيكما وامكما، واختار من صلبك يا حسين تسعة أئمة تاسعهم قائمهم، كلهم في الفضل والمنزلة عند الله سواء (2). وفي الروايات الاخر (إن أفضلهم قائمهم) (3)، ولعل أفضليته باعتبار تشييد أركان الدين، وكثرة جهاده، وإعزاز المؤمنين به ونحو ذلك. ثم قال: إعلم أنه لا خلاف بين أصحابنا (رحمهم الله) في أشرفية نبينا على سائر الأنبياء للأخبار المتواترة، وإنما الخلاف بينهم في أفضلية أمير المؤمنين والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) على الأنبياء ما عدا جدهم، فذهب جماعة إلى انهم أفضل من باقي الأنبياء ما خلا اولي العزم، فهم أفضل من الأئمة، وبعضهم إلى مساواتهم، وأكثر المتأخرين إلى أفضلية الأئمة على اولي العزم وغيرهم وهو الصواب، والدليل عليه وجوه: الأول: قول النبي (صلى الله عليه وآله): " لولا علي لم يكن لفاطمة كفو آدم ومن دونه " (4)، وقد اعترض الرازي (5) على هذا بأن إبراهيم وإسماعيل أبواها فلا يدخلان في هذا العموم، والجواب ظاهر وهو ان المراد النظر إلى الكفوية مع قطع


(1) إرشاد المفيد: 249، ومناقب ابن شهرآشوب 3: 395، عنه البحار 43: 293 ح 54، وكشف الغمة 2: 149، والمقتل للخوارزمي: 103، تاريخ بغداد 2: 238، والأنوار النعمانية 1: 20. (2) كمال الدين: 262 ح 9، عنه البحار 25: 356 ح 4، والأنوار النعمانية 1: 20. (3) راجع البحار 36: 372، والأنوار النعمانية 1: 20. (4) الخصال: 414 ح 3 باب التسعة، علل الشرائع: 178 ح 3، أمالي الصدوق: 474 ح 18 مجلس 86، روضة الواعظين: 148، أمالي الطوسي: 43 ح 46، دلائل الإمامة: 79 ح 19، كشف الغمة 2: 91، البحار 43: 10 ح 1، مقتل الحسين للخوارزمي: 65، الفردوس 3: 373 ح 5130، ينابيع المودة 2: 244 ح 686، والأنوار النعمانية 1: 21. (5) راجع الأنوار النعمانية 1: 21. (*)

[ 213 ]

النظر عن الأبوة، مع أن غيرهما كاف في باب التفضيل، إذ لا قائل بالفرق بين موسى وإبراهيم (عليه السلام). الثاني: ما رواه المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فجعل أعلاها وأشرفها أرواح محمد وعلي والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) فعرضها على السماوات والأرض والجبال فغشيها نورهم، فقال الله تبارك وتعالى للسماوات والأرض والجبال: هؤلاء أحبائي وأوليائي، وحججي على خلقي، وأئمة بريتي، ما خلقت خلقا هو أحب إلي منهم، ولمن تولاهم خلقت جنتي، ولمن خالفهم وعاداهم خلقت ناري. قال: فلما أسكن آدم وحواء الجنة نظرا إلى منزلة النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) فوجداها أشرف منازل أهل الجنة، فقال لهما سبحانه: لولاهم ما خلقتكما (1). الثالث: ما روي مستفيضا من قوله (صلى الله عليه وآله): إذا كان يوم القيامة أقام الله عزوجل جبرئيل ومحمدا (صلى الله عليه وآله) على الصراط، لا يجوز أحد إلا من كان معه براة من علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإلا هلك وأنزله الله الدرك الأسفل (2). وكذا روي أنه لا يدخل الجنة أحد إلا من كان معه براة من علي بن أبي طالب (عليه السلام) (3) ولفظ (أحد) في الموضعين نكرة في سياق النفي يفيد العموم. وروي أن يوم القيامة يبعث الله رضوان بمفاتيح الجنة، ومالكا بمفاتيح النار


(1) معاني الأخبار 108 ح 1، عنه البحار 11: 173 ح 19، والأنوار النعمانية 1: 21. (2) بشارة المصطفى: 122، عنه البحار 39: 208 ح 27، وانظر فرائد السمطين 1: 289 ح 228، المناقب للخوارزمي: 319 ح 324، المقتل للخوارزمي: 390، المناقب لابن المغازلي: 131 ح 172، ينابيع المودة 1: 335 ح 14، والأنوار النعمانية 1: 21. (3) نحوه المناقب لابن المغازلي: 242 ح 289، وذخائر العقبى: 71، الرياض النضرة 3: 137، المناقب للخوارزمي: 319 ح 324، فرائد السمطين 1: 289، والأنوار النعمانية 1: 21. (*)

[ 214 ]

فيدفعهما إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويأتي إلى شفير جهنم فيقف والملائكة تسوق الناس إلى الصراط وهو واقف عنده، فيقول: يا نار هذا لي وهذا لك (1)، وهذا معنى كونه قسيم الجنة والنار على ما تواترت به الأخبار. وفي أحاديث عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ان النبي (صلى الله عليه وآله) سمى أبا القاسم لأنه ربى عليا (عليه السلام) في حجره لما أخذه من أبي طالب عام قحط، وعلي قاسم الجنة والنبي (صلى الله عليه وآله) أبوه، فهو أبو القاسم (2). الرابع: ما رواه ابن عباس في تفسير قوله تعالى: * (وانا لنحن الصافون * وانا لنحن المسبحون) * (3) قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأقبل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله) تبسم في وجهه وقال: مرحبا بمن خلقه الله قبل أبيه آدم (عليه السلام) بأربعين ألف عام، فقلت: يا رسول الله كان الإبن قبل الأب ؟ فقال: نعم، إن الله سبحانه خلقني وخلق عليا قبل أن يخلق آدم بهذه المدة، خلق نورا فقسمه نصفين، فخلقني من نصفه وخلق عليا من النصف الآخر قبل الأشياء، فنورها من نوري ونور علي، ثم جعلنا من يمين العرش، ثم خلق الملائكة فسبحنا فسبحت الملائكة، وهللنا فهللت الملائكة، وكان ذلك في علم الله السابق ان الملائكة تتعلم منا التسبيح والتهليل والتكبير، وكل شئ يسبح الله ويكبره ويهلله بتعليمي وتعليم علي. وكان في علم الله السابق أن لا يدخل النار محب لي ولعلي، وكذا كان في علمه أن لا يدخل الجنة مبغض لي ولعلي.. الحديث (4). وتسبيح الأنبياء وتهليلهم وتكبيرهم مطلقا بتعليم الملائكة المتعلمين من


(1) الأنوار النعمانية 1: 22، نحوه المناقب لابن شهرآشوب 2: 158، عنه البحار 39: 204 ضمن حديث 23. (2) راجع البحار 16: 95 ح 29، الأنوار النعمانية 1: 22. (3) الصافات: 165 - 166. (4) إرشاد القلوب: 404، عنه البحار 26: 345 ح 18، وتأويل الآيات: 487، وتفسير كنز الدقائق 11: 193، والأنوار النعمانية 1: 22. (*)

[ 215 ]

محمد (صلى الله عليه وآله) ومن علي (عليه السلام)، وظهر ان مرتبة الاستاد المعلم أعلى درجة من التلميذ، سيما إذا كان تلميذ التلميذ. الخامس: ما استفاض في الأخبار من أن علم الأئمة أكمل من علوم كل الأنبياء، وذلك ان من جملته علم الاسم الأعظم وهو ثلاثة وسبعون حرفا، حرف منها استأثر به الله تعالى نفسه وإثنان وسبعون علمها لرسوله وأمره أن يعلمها لأهل بيته، وأما باقي الأنبياء (عليهم السلام) فقال الصادق (عليه السلام): " إن عيسى بن مريم اعطي حرفين كان يعمل بهما، واعطي موسى أربعة أحرف، وإبراهيم ثمانية أحرف، ونوح خمسة عشر حرفا، وآدم خمسة وعشرون حرفا، وقد جمع كل ذلك لمحمد (صلى الله عليه وآله) " (1). وروى صاحب كتاب الأربعين عن عبد الملك بن سليمان قال: وجد في ذخيرة حواري عيسى (عليه السلام) في رق مكتوب أنه: لما تشاجر موسى وخضر في قصة السفينة والغلام والجدار ورجع موسى إلى قومه، فسأله أخاه هارون مما شاهده من عجائب البحر. قال موسى: بينما أنا والخضر على شاطئ البحر إذ سقط بين أيدينا طائر، فأخذ في منقاره قطرة من ماء البحر ورمى بها نحو المشرق، وأخذ ثانية ورمى بها نحو المغرب، وأخذ ثالثة ورمى بها نحو السماء، وأخذ رابعة ورمى بها نحو الأرض، ثم أخذ خامسة فألقاها في البحر. فبهت أنا والخضر من ذلك وسألته منه فقال: لا أعلم، فبينما نحن كذلك وإذا بصياد يصيد في البحر، فنظر إلينا فقال: مالي أراكما في فكرة من أمر الطائر ؟ فقلنا: هو كذلك، فقال: أنا رجل صياد وقد علمت إشارته، وأنتما نبيان لا تعلمان ؟ ! فقلنا: لا نعلم إلا ما علمنا الله عزوجل. فقال: هذا الطائر في البحر يسمى (مسلما) لأنه إذا صاح يقول في صياحه:


(1) بصائر الدرجات: 228 ح 2، عنه البحار 27: 25 ح 2، ونحوه الكافي 1: 230 ح 2، والأنوار النعمانية 1: 23. (*)

[ 216 ]

(مسلم)، وإشارته برمي الماء يقول: يأتي في آخر الزمان نبي يكون علم أهل السماوات والأرض والمشرق والمغرب عند علمه مثل هذه القطرة الملقاة في هذا البحر، ويرث علمه ابن عمه ووصيه علي بن أبي طالب، فعند ذلك سكن ما كنا فيه نتشاجر، واستقل كل منا علمه (1). وأما حوادث العلوم المتجددة بحوادث الأيام في أعصار الأئمة، فقد روي ان علمها يعرض على روح النبي (صلى الله عليه وآله) ومن بعده من الأئمة (عليهم السلام)، ثم يعرض على الإمام الحي، حتى لا يكون لآخرهم فضل على أولهم بالعلم، ومن كان أعلم فهو أفضل، قال تعالى: * (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * (2) (3). السادس: قد روي في عدة أخبار أنه قد اجتمع في علي بن أبي طالب (عليه السلام) من الصفات ما وجد في غيره متفرقا من الأنبياء السابقين. روى الصدوق طاب ثراه باسناده إلى سليم (4) بن قيس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): علي في السماء السابعة كالشمس بالنهار في الأرض، وفي السماء الدنيا كالقمر بالليل في الأرض، أعطى الله عليا من الفضل جزء لو قسم على أهل الأرض لوسعهم، وأعطاه الله من الفهم جزء لو قسم على أهل الأرض لوسعهم، شبه لينه بلين لوط، وخلقه بخلق يحيى، وزهده بزهد أيوب، وسخاؤه بسخآء إبراهيم، وبهجته ببهجة سليمان بن داود، وقوته بقوة داود، وله إسم مكتوب على كل حجاب في الجنة بشرني ربي (5)..... الحديث. السابع: في صفة منبر الوسيلة من النبي (صلى الله عليه وآله) انه منبر يؤتى به في يوم القيامة فيوضع عن يمين العرش، فيرقى النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم


(1) راجع البحار 13: 312 ح 52، والأنوار النعمانية 1: 23. (2) الزمر: 9. (3) راجع الأنوار النعمانية 1: 23. (4) في أمالي الصدوق: سلمة. (5) أمالي الصدوق: 17 ح 7 مجلس 2، عنه البحار 39: 37 ح 7، والأنوار النعمانية 1: 24. (*)

[ 217 ]

يرقى من بعده أمير المؤمنين (عليه السلام) فيجلس في مرقاة دونه، ثم الحسن (عليه السلام) في مرقاة دونه إلى آخرهم، ثم يؤتى بإبراهيم وموسى وعيسى والأنبياء، فيجلس كل واحد على مرقاته من دون المراقي.. الحديث (1). الثامن: ما رواه أبو حمزة الثمالي قال: دخل عبد الله بن عمر على زين العابدين (عليه السلام) وقال له: يا ابن الحسين أنت الذي تقول ان يونس بن متى انما لقى من الحوت مالقى لأنه عرض عليه ولاية جدي فتوقف عندها ؟ فقال: بلى ثكلتك امك، قال: فأرني آية ذلك إن كنت من الصادقين. فأمر بشد عينيه بعصابة وعيني بعصابة، ثم أمر بعد ساعة بفتح أعيننا، فإذا نحن على شاطئ بحر تضطرب أمواجه، فقال ابن عمر: يا سيدي دمي في رقبتك، الله الله في نفسي، ثم قال (عليه السلام): يا أيها الحوت، فأطلع حوت رأسه من البحر مثل الجبل العظيم وهو يقول: لبيك لبيك يا ولي الله، فقال: من أنت ؟ فقال: أنا حوت يونس يا سيدي، إن الله لم يبعث نبيا من آدم إلى أن صار جدك محمد (صلى الله عليه وآله) إلا وقد عرض عليه ولايتكم أهل البيت، فمن قبلها من الأنبياء سلم وتخلص، ومن توقف عنها وتتعتع في حملها لقي ما لقى آدم من المصيبة، وما لقى نوح من الغرق، وما لقى إبراهيم من النار، وما لقى يوسف من الجب، وما لقى أيوب من البلاء، وما لقى داود من الخطيئة، ألا ان الله بعث يونس فأوحى إليه أن يا يونس تول أمير المؤمنين عليا والأئمة الراشدين من صلبه، فقال: كيف أتولى من لم أره ومن لم أعرفه ؟ فذهب مغاضبا، فأوحى الله تعالى لي: أن التقم يونس ولا توهنن عظمه. فمكث في بطني أربعين صباحا يطوف معي البحار في ظلمات ثلاث، ينادي: " أن لا إله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين، قد قبلت ولاية علي بن أبي طالب والأئمة الراشيدين من ولده " فلما أن آمن بولايتكم أمرني ربي فقذفته على ساحل البحر، فقال زين العابدين (عليه السلام): ارجع أيها الحوت إلى وكرك، فرجع


(1) راجع الأنوار النعمانية 1: 24. (*)

[ 218 ]

الحوت واستوى الماء (1). التاسع: ما أورده الصدوق (رحمه الله) نقلا عن جماعة ثقات قال: لما وردت حرة بنت حليمة السعدية على الحجاج بن يوسف الثقفي وجلست بين يديه، فقال لها: أنت حرة بنت حليمة، قد قيل عنك انك تفضلين عليا على أبي بكر وعمر وعثمان ؟ ! قالت: لقد كذب الذين قالوا اني افضله على هؤلاء خاصة. قال: وعلى من غير هؤلاء ؟ قالت: افضله على آدم، ونوح، ولوط، وإبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى بن مريم (عليهم السلام)، فقال لها: ويلك أقول لك انك تفضلينه على الصحابة، فتزيدين عليهم سبعة من الأنبياء من أولي العزم، فإن لم تأتي ببيان ما قلت ضربت عنقك. فقالت: ما أنا فضلته على هؤلاء الأنبياء، بل الله تعالى فضله في القرآن العظيم عليهم في قوله في حق آدم: * (وعصى آدم ربه فغوى) * (2) وقال في حق علي (عليه السلام): * (كان سعيهم مشكورا) * (3). فقال: أحسنت يا حرة فبم تفضيله على نوح ولوط ؟ قالت: الله تعالى فضله عليهما بقوله: * (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما) * (4) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) كان زوجته بنت محمد (صلى الله عليه وآله) فاطمة الزهراء، التي يرضى الله لرضاها، ويسخط بسخطها. فقال الحجاج: أحسنت يا حرة، فبم تفضيله على أبي الأنبياء إبراهيم خليل الله ؟ فقالت: الله فضله عليه بقوله: * (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * (5) وأمير المؤمنين (عليه السلام) قال


(1) المناقب لابن شهرآشوب 4: 138، عنه البحار 46: 39 ح 34، ومدينة المعاجز 2: 28 ح 371، وتفسير البرهان 4: 37 ح 8، ونحوه دلائل الإمامة: 210 ح 134، والأنوار النعمانية 1: 24. (2) طه: 121. (3) الاسراء: 19. (4) التحريم: 10. (5) البقرة: 260. (*)

[ 219 ]

قولا لم يختلف فيه أحد من المسلمين: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، وهذه كلمة لم يقلها قبله ولا بعده أحد. قال: أحسنت يا حرة، قال: فبم تفضيله على موسى نجي الله ؟ قالت: يقول الله تعالى فيه: * (فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين) * (1) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) بات على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يخف حتى أنزل الله في حقه: * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) * (2). قال: أحسنت يا حرة، فبم تفضيله على داود ؟ فقالت: الله فضله عليه بقوله: * (يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى) * (3)، قال لها: فأي شئ كانت حكومته ؟ قالت: في رجلين أحدهما كان له الكرم وللآخر غنم، فنفشت الغنم في الكرم فرعته، فاحتكما إلى داود فقال: تباع الغنم وينفق ثمنها على الكرم حتى يعود على ما كان عليه، فقال له ولده: يا أبة بل يؤخذ من صوفها ولبنها، فقال الله عزوجل: * (ففهمناها سليمان) * (4)، وإن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إسألوني عما فوق السماء، واسألوني عما تحت الأرض، واسألوني قبل أن تفقدوني. فقال لها: أحسنت يا حرة، فبم تفضيله على سليمان ؟ فقالت: الله فضله عليه بقوله: * (وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * (5) ومولانا قال: يا دنيا طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعند ذلك أنزل الله عليه: * (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) * (6). فقال لها: أحسنت يا حرة، فبم تفضيله على عيسى بن مريم ؟ قالت: الله فضله


(1) القصص: 21. (2) البقرة: 207. (3) ص: 26. (4) الأنبياء: 79. (5) ص: 35. (6) القصص: 83. (*)

[ 220 ]

عليه بقوله: * (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وامي الهين من دون الله) * (1)، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) لما ادعوا النصيرية فيه ما ادعوا لم يعاتبه الله سبحانه، فقال: أحسنت يا حرة خرجت من جوابك، وأعطاها وسرحها سراحا حسنا (2). أقول: هذا الجواب منها قد ورد في الأخبار ولكن لم يجتمع في خبر. وفي كتاب المناقب مسندا إلى صعصعة بن صوحان، أنه دخل على أمير المؤمنين لما ضرب فقال: يا أمير المؤمنين أنت أفضل أم آدم أبو البشر ؟ قال علي (عليه السلام): تزكية المرء نفسه قبيح، قال الله تعالى لآدم: * (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة...) * (3) وإن أكثر الأشياء أباحنيها الله تعالى وتركتها وما قاربتها. ثم قال: أنت أفضل أم نوح ؟ فقال علي (عليه السلام): إن نوحا دعا على قومه وأنا ما دعوت على ظالمي حقي، وابن نوح كان كافرا وابناي سيدا شباب أهل الجنة. قال: أنت أفضل أم موسى ؟ قال: إن الله تعالى أرسل موسى إلى فرعون فقال: * (إني أخاف أن يكذبون) * (4) حتى قال الله تعالى: * (لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون) * (5)، وقال: * (رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون) * (6) وأنا ما خفت حين أرسلني رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتبليغ سورة براءة أن أقرأها على قريش في الموسم، مع اني كنت قتلت كثيرا من صناديدهم، فذهبت بها إليهم وقرأتها عليهم وما خفتهم. قال: أنت أفضل أم عيسى بن مريم ؟ فقال: عيسى كانت امه في بيت المقدس،


(1) المائدة: 116. (2) راجع الأنوار النعمانية 1: 25، والفضائل لشاذان بن جبرئيل: 136، عنه البحار 46: 134 ح 25، واحقاق الحق 5: 47. (3) البقرة: 35. (4) الشعراء: 12. (5) النمل: 10. (6) القصص: 33. (*)

[ 221 ]

فلما جاء وقت ولادتها سمعت قائلا يقول: اخرجي، هذا بيت العبادة لا بيت الولادة، وأنا امي فاطمة بنت أسد لما قرب وضع حملها كانت في الحرم، فانشق حائط الكعبة وسمعت قائلا يقول لها: ادخلي، فدخلت في وسط البيت وأنا ولدت به، وليس لأحد هذه الفضيلة لا قبلي ولا بعدي (1). العاشر: ما رواه الصدوق بإسناده إلى عمار بن ياسر قال: لما سار علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى صفين، وقف بالفرات وقال لأصحابه: أين المخاض ؟ فقالوا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين، فقال (عليه السلام) لرجل من أصحابه: إمض الى هذا التل وناد: يا جلندا فأين المخاض ؟ قال: فسار حتى وصل التل ونادى: يا جلندا، فأجابه من تحت الأرض خلق عظيم، قال: فبهت ولم يعلم ماذا يصنع، فأتى الى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: جاوبني خلق كثير، فقال الامام (عليه السلام): يا قنبر امض وقل: يا جلندا بن كركر أين المخاض ؟ قال: فمضى وقال: يا جلندا بن كركر أين المخاض ؟ فكلمه واحد وقال لهم: ويلكم من عرف إسمي وإسم أبي عرف أين المخاض، وأنا في هذا المكان وقد بقيت ترابا وقدمت من ثلاثة ألاف سنة، وقد عرفكم بإسمي واسم أبي وهو لا يعلم أين المخاض ؟ ! فوالله هو أعلم بالمخاض مني، يا ويلكم ما أعمى قلوبكم، وأضعف يقينكم، امضوا إليه واتبعوه فإنه المخاض، فخوضوا فيه فإنه أشرف الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2). أقول: وجه الإستدلال بهذا الخبر: ان أخص أوصاف عيسى (عليه السلام) ومعجزاته هو إحياء الموتى، وهنا قد أحيى الله تعالى الأموات لرسول علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأين هذا من ذاك. الحادي عشر: ما رواه صاحب كتاب القدسيات، وهو من أعظم محققي الجمهور، عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال لعلي (عليه السلام): أنت مني


(1) راجع الأنوار النعمانية 1: 27. (2) راجع الأنوار النعمانية 1: 29، وفي الفضائل لشاذان بن جبرئيل: 140، عنه البحار 33: 45 ح 14. (*)

[ 222 ]

بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، ليعلموا أن باب النبوة قد ضم، وباب الولاية قد فتح، وهو إشارة إلى بعث علي (عليه السلام) مع الأنبياء باطنا، وإلى سر الولاية التي ظهرت بعد محمد (صلى الله عليه وآله)، ليكون علماء امته الذين هم الأولياء وأعين الناس في سوادية دائرة الولاية وبياضيتها بالنسبة إلى الحق (1). أقول: هذا الذي رواه من بعثة علي باطنا قد روى مضمونه في أخبار أهل البيت عن علي (عليه السلام)، وهو إشارة إلى سر إلهي في الغاية القصوى من التحقيق، وهو انه قد روي عنه (عليه السلام) أنه قال في جواب من ذكر فضائل الأنبياء الذين ذكرهم الله في القرآن، وخص كلا منهم بنوع من التأييدات الإلهية، كنجات إبراهيم (عليه السلام) من نار نمرود وجعلها عليه بردا وسلاما... الخ، فقال (عليه السلام): والله كنت مع إبراهيم في النار، وأنا الذي جعلتها عليه بردا وسلاما، وكنت مع نوح في السفينة فأنجيته من الغرق، وكنت مع موسى فعلمته التوراة، وأنطقت عيسى في المهد وعلمته الانجيل، وكنت مع يوسف في الجب فأنجيته من كيد إخوته، وكنت مع سليمان على البساط وسخرت له الرياح (2). وفي الروايات الخاصية ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان جالسا يوما معه رجل من الجن يسأله عن أشياء من أحكام الدين، فدخل علي (عليه السلام) فتصاغر ذلك الجني خوفا حتى صار مثل العصفور، فقال: يا رسول الله أجرني من هذا الشاب، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ولم تخافه ؟ فقال: " اني تمردت على سليمان بن داود وسلكت البحار، فأرسل إلي جماعة من الجن والشياطين فلم يقدروا علي، وأتاني هذا الشاب وبيده حربة، فضربني بها على كتفي وإلى الآن أثر جراحته، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ادن من علي حتى تطيب جراحتك، وتؤمن به، وتكون من شيعته، ففعل (3).


(1) راجع الأنوار النعمانية 1: 30. (2) راجع الأنوار النعمانية 1: 31. (3) المصدر نفسه. (*)

[ 223 ]

وخطبة البيان (1) المنقولة منه تبين هذا كله، وهي مشتملة على الأسرار التي لا يعرف معناها إلا العلماء الراسخون. الثاني عشر: استفاض من الروايات من أن إبراهيم (عليه السلام) طلب في مدة عمره من الله سبحانه مرة واحدة تطلعه على الملكوت ليشاهده عيانا، فقال: يا رب أرني ملكوت السماوات والأرض، فرفع الحجاب عن وجهه حتى نظر بهذه العين الباصرة إلى ما خلق الله في الأرض والسماء (2)، وأما مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد كانت له هذه الحالة طول عمره. كما روي أنه (عليه السلام) كان يخطب يوما على المنبر فقال: أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، واسألوني عن طرق السماوات فإني أعرف بها مني بطرق الأرض، فقام رجل من القوم فقال: يا أمير المؤمنين أين جبرئيل في هذا الوقت ؟ فقال (عليه السلام): دعني أنظر. فنظر إلى فوق، وإلى الأرض، وإلى يمينه ويساره، فقال: أنت جبرئيل، فطار من بين القوم وشق سقف المسجد بجناحه، فكبر الناس وقالوا: الله أكبر يا أمير المؤمنين من أين علمت أن هذا جبرئيل ؟ فقال: إني لما نظرت إلى السماء بلغ نظري إلى ما فوق العرش والحجاب، ولما نظرت إلى الأرض خرق بصري طبقات الأرض إلى الثرى، ولما نظرت يمنة ويسرة رأيت ما خلق الله ولم أر جبرئيل في هذه المخلوقات، فعلمت أنه هو (3). وروى الشيخ الطوسي (رحمه الله) عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أعطاني الله تعالى خمسا وأعطى عليا خمسا، أعطاني جوامع الكلم وأعطى عليا جوامع العلم، وجعلني نبيا وجعله وصيا، وأعطاني


(1) راجع الأنوار النعمانية 1: 31. (2) المصدر نفسه. (3) راجع الأنوار النعمانية 1: 32، ونحوه الفضائل لشاذان بن جبرئيل: 98، عنه البحار 39: 108 ح 13، ومدينة المعاجز 1: 112 ح 64. (*)

[ 224 ]

الكوثر وأعطاه السلسبيل، وأعطاني الوحي وأعطاه الإلهام، وأسرى بي إليه [ وفتح له أبواب السماء والحجب حتى نظر إلي فنظرت إليه ] (1) كان أول ما كلمني به أن قال: يا محمد انظر تحتك، فنظرت [ إلى ] الحجب قد انخرقت، وإلى أبواب السماء قد فتحت، ونظرت إلى علي (عليه السلام) وهو رافع رأسه إلي يكلمني وكلمته. وكلمني ربي عزوجل وقال لي: يا محمد اني جعلت عليا وصيك ووزيرك وخليفتك من بعدك فأعلمه فها هو يسمع كلامك، فأعلمته وأنا بين يدي ربي عزوجل، فقال لي: قد قبلت وأطعت، فأمر الله الملائكة أن تسلم عليه، ففعلت فرد (عليه السلام)، ورأيت الملائكة يتباشرون به، وما مررت بملائكة من ملائكة السماء إلا هنوني. ورأيت حملة العرش قد نكسوا رؤوسهم إلى الأرض فقلت: يا جبرئيل لم يكس حملة العرش رؤوسهم إلى الأرض ؟ فقال: يا محمد ما من ملك من الملائكة إلا وقد نظر إلى وجه علي بن أبي طالب استبشارا به ما خلا حملة العرش، فإنهم استأذنوا الله عزوجل في هذه الساعة فأذن لهم أن ينظروا إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فنظروا إليه، فلما هبطت جعلت أخبره بذلك وهو يخبرني به، فعلمت أني لم أطأ موطأ إلا وقد كشف لعلي عنه حتى نظر إليه (2). أقول: هذا الحديث يدلك على أن عليا (عليه السلام) عرج إلى ملكوت السماء وهو جالس في بيته. هذي المناقب لا قعبان من لبن * شيبا بماء فصارا بعد أبوالا هذى المآثر لا ثوبان من يمن * خيطا قميصا فعادا بعد اسمالا وهذه الحالة قد كانت للأئمة أعني مشاهدات الملكوت، وبها فضلوا على


(1) أثبتناه من المصدر. (2) أمالي الطوسي: 104 ح 161 مجلس 4، عنه البحار 16: 317 ح 7، ومدينة المعاجز 2: 6 ح 353، ونحوه الفضائل لشاذان بن جبرئيل: 168، وأورد ابن بابويه صدر الحديث في الخصال: 293 ح 57 باب الخمسة، وابن شهرآشوب في المناقب 3: 261، والأنوار النعمانية 1: 32. (*)

[ 225 ]

سائر الأنبياء. وروى صاحب مشارق الأنوار باسناده إلى مفضل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإمام كيف يعلم ما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخى عليه ستره، ثم قال: يا مفضل ان الله جعل فيه أرواحا: روح الحياة وبها يذب ويدرج، وروح القوة وبها ينهض، وروح الشهوة وبها يأكل ويشرب، وروح الإيمان وبها يأمر ويعدل، وروح القدس وبها حمل النبوة. فإذا قبض النبي انتقل روح القدس إلى الإمام، فلا يغفل ولا يلهو، وبها يرى ما في الأقطار، وان الإمام لا يخفى عليه شئ مما في الأرض ولا ما في السماء، وانه ينظر إلى ملكوت السماوات فلا يخفى عليه شئ، ولا همهمة، ولا شئ فيه روح، ومن لم يكن بهذه الصفات فليس بإمام (1). والدلائل والأخبار الدالة على هذا المطلب كثيرة جدا، والذي اطلعت عليه منها زهاء ألف حديث. وروى الصدوق (رحمه الله) في الفقيه عن الرضا (عليه السلام) قال: للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأعبد الناس، وأسخى الناس، ويلد مختونا، ويكون مطهرا، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ولا يكون له ظل. وإذا وقع على الأرض من بطن امه وقع على راحتيه رافعا صوته بالشهادتين، ولا يحتلم، وتنام عيناه ولا ينام قلبه، ويكون محدثا، ويستوي عليه درع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا يرى له بول ولا غائط، لأن الله عزوجل قد وكل الأرض بابتلاع ما خرج منه، ويكون رائحته أطيب من رائحة المسك. ويكون أولى الناس منهم بأنفسهم، وأشفق عليهم من آبائهم وامهاتهم، ويكون أشد الناس تواضعا لله جل ذكره، ويكون آخذ الناس بما يأمر به، وأكف الناس


(1) راجع الأنوار النعمانية 1: 33، ونحوه بصائر الدرجات: 474 ح 13، عنه البحار 25: 57 ح 25، والكافي 1: 272 ح 3، ومختصر بصائر الدرجات: 2. (*)

[ 226 ]

عما نهى عنه، ويكون دعاؤه مستجابا حتى أنه لو دعى على صخرة لانشقت بنصفين، ويكون عنده سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيفه ذو الفقار. ويكون عنده صحيفة فيها أسماء شيعته إلى يوم القيامة، وصحيفة فيها أسماء أعدائه إلى يوم القيامة، ويكون عنده الجامعة - وهي صحيفة طولها سبعون ذراعا فيها جميع ما يحتاج إليه ولد آدم -، ويكون عنده الجفر الأكبر والأصغر اهاب ماعز واهاب كبش، فيها جميع العلوم حتى أرش الخدش، وحتى الجلدة، ونصف الجلدة، وثلث الجلدة، ويكون عنده مصحف فاطمة (عليها السلام) (1)، إنتهى.


(1) من لا يحضره الفقيه 4: 418 ح 5914 باب النوادر، ومعاني الأخبار: 102 ح 4، معنى الإمام المبين، والخصال: 527 ح 1، أبواب الثلاثين، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 422 ح 170، ونحوه في الإحتجاج 2: 448 ح 311، وكشف الغمة 3: 82، وفي البحار 25: 116 ح 1، والأنوار النعمانية 1: 34. (*)

[ 227 ]

فصل [ في ولادة الزهراء (عليها السلام) ] وكان مولد الزهراء (عليها السلام) بمكة بعد النبوة بخمس سنين، وقريش تبني البيت، فيكون بثلاث سنين بعد الاسراء على المشهور، وهي السنة الخامسة والأربعون من عام الفيل، وقيل: إنه كان بالحساب الواقعي بأربع سنين وعشرة شهور وخمسة وعشرين يوما بعد البعثة، أو ثلاثة أيام بدل الخمسة والعشرين، والقول الغير المشهور كونه بسنة أو بسنتين بعد المبعث. وفي مقاتل الطالبيين: إن ولادتها كانت قبل النبوة وقريش حينئذ تبني الكعبة (1). وبالجملة كان زمان ولادتها (عليها السلام) أيام حكومة يزد جرد بن شهريار من ملوك العجم، الذي كان دار سلطنته قلعة الجولاء قرب بغداد دار السلام، وكان أمر سلطنته مستقرا في تلك الأيام إلى أن انهزم في عصر عمر من جيش الإسلام، ففر بعد أن انهزم إلى بلاد العجم، وقتل بقلعة هرات أو بنيشابور أو غير ذلك على اختلاف الأقوال والروايات، وكان آخر ملوك العجم، (ونقص أمره إذا تم). وقد ولدت (عليها السلام) يوم الجمعة وقت الصبح أي في آخر جزء من ليلة الجمعة، وهي الساعة الأخيرة التي هي أفضل الساعات ومحل استجابة الدعوات،


(1) مقاتل الطالبيين: 59، عنه البحار 43: 9 ضمن حديث 12، والعوالم 11: 46 ح 2. (*)

[ 228 ]

ووجه اختصاص تولدها بتلك الساعة لعله أن تكون مستورة عن عيون الأجانبة، وبها (عليها السلام) فسر قوله تعالى: * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم) * (1) أي إنا أنزلنا نور فاطمة (عليها السلام) في ليلة الجمعة، أو أنزلنا نور الإمامة في فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وهي الليلة المباركة، فالضمير في " إنا أنزلناه " راجع إلى نور الإمامة، ولذا ورد استحباب قراءة سورة القدر عشر مرات في تلك الساعة من كل ليلة خصوصا ليلة الجمعة، وليلة القدر أيضا هي تلك الليلة المباركة. وروي أنه لما حان وقت حملها نزل جبرئيل بأمر الله تعالى، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يترك المخالطة مع الناس، ويختار الخلوة والعزلة، ويشتغل بعبادة الله سبحانه، ولا يأكل من طعام أهل الدنيا ولو لقمة، ولا يشرب من مياههم ولو جرعة، بل يكون صائما أبدا ويفطر برطب الجنة أو تينها أو تفاحها، إلى أن انعقد النطفة من طعام الجنة بعد أن تكون أصل تلك النطفة في ليلة الاسراء بأكل هذه الطيبات، على ما مر في تسميتها بالإنسية الحوراء. وفي الليلة المتممة للأربعة قارب (صلى الله عليه وآله) مع خديجة ام المؤمنين قبل عشاء الآخرة، فانعقد تلك النطفة الطيبة النورية، فولدتها بعد تسعة أشهر من الحمل في متمم العشرين من جمادي الآخرة، وكان حملها وولادتها بمكة في دار خديجة، وهي دار كريمة معروفة نزلت فيها حواء ومريم وآسية مع جمع كثير من الملائكة. كما ورد في الرواية المبينة لكيفية ولادتها التي رواها الصدوق في أماليه عن المفضل بن عمر حيث قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف كان ولادة فاطمة (عليها السلام) ؟ فقال: نعم، إن خديجة لما تزوج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) هجرتها نسوة مكة، فكن لا يدخلن عليها ولا يسلمن عليها، ولا يتركن امرأة تدخل عليها.


(1) الدخان: 3 و 4. (*)

[ 229 ]

فاستوحشت خديجة لذلك، وكان جزعها وغمها حذرا عليه، فلما حملت بفاطمة كانت فاطمة تحدثها من بطنها وتصبرها، وكانت تكتم ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما فسمع خديجة تحدث فاطمة فقال لها: يا خديجة من تحدثين ؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني. قال (صلى الله عليه وآله): يا خديجة هذا جبرئيل يخبرني - أو قال: يبشرني - انها انثى وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وان الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفائه في أرضه بعد انقضاء وحيه. فلم تزل خديجة على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم: أن تعالين لتلين مني ما تلى النساء من النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا، وتزوجت محمدا يتيم أبي طالب فقيرا لا مال له، فلسنا نجئ ولا نلي من أمرك شيئا. فاغتمت خديجة لذلك، فبينا هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأ نهن من نساء بني هاشم، ففزعت منهن لما رأتهن، فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة فانا رسل ربك إليك، ونحن أخواتك، أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثوم اخت موسى بن عمران - وفي رواية اخرى: صفوراء بنت شعيب زوجة موسى - بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء. فجلست واحدة عن يمينها، واخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة طاهرة مطهرة. فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة، ولم يبق في مشرق الأرض ولا في مغربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور، ودخل عشر من الحور العين مع كل واحدة منهن طست من الجنة وابريق من الجنة، وفي الابريق ماء من الكوثر، فتناولته المرأة التي كانت بين يديها فغسلتها بماء الكوثر،


[ 230 ]

وأخرجت خرقتين بيضاوتين أشد بياضا من اللبن، وأطيب ريحا من المسك والعنبر، فلفتها بواحدة وقنعتها بالثانية. ثم استنطقتها فنطقت فاطمة (عليها السلام) بالشهادتين وقالت: " أشهد ان لا إله إلا الله، وأن أبي رسول الله سيد الأنبياء، وأن بعلي سيد الأولياء، وولدي سادة الأسباط " ثم سلمت عليهن وسمت كل واحدة باسمها، وأقبلن يضحكن إليها، وتباشرت الحور العين، وبشر أهل السماء بعضهم بعضا بولادة فاطمة، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك، وقالت النسوة: خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة، زكية ميمونة، بورك فيها وفي نسلها. فتناولتها فرحة مستبشرة، وألقمتها ثديها فدر عليها، فكانت فاطمة تنمي في اليوم كما ينمي الصبي في الشهر، وتنمي في الشهر كما ينمي الصبي في السنة (1). وفي رواية اخرى: تنمي في اليوم كالجمعة، وفي الجمعة كالشهر (2)، إلى آخر الحديث، وكانت (عليها السلام) قبل أن تتولد بثلاثة أشهر تتكلم في بطن امها خديجة، وكانت تسليها مما كانت تلومها عليه نساء مكة من تزوجها بمحمد (صلى الله عليه وآله) يتيم أبي طالب ونحو ذلك، وقد كانت تتلو من القرآن سورا عديدة لها. ونقل عن خديجة أنها قالت: لما انعقد نطفة فاطمة (عليها السلام) في رحمي ظهر في نور وصفاء طوية وطينة ارتفع به حجب السماوات والأرضين عن نظري، ولم يبق شئ خفيا عني ومستورا عن بصري، فلما وضعتها زالت عني تلك الحالة. [ في فضائل خديجة سلام الله عليها ] وكانت خديجة امها معروفة بالنجابة والبهاء والجلالة، وأحب النساء عند


(1) أمالي الصدوق: 475 ح 1 مجلس 87، عنه البحار 43: 2 ح 1، والعوالم 11: 55 ح 1، وروضة الواعظين: 143 والخرائج 2: 524 ح 1، والثاقب في المناقب: 286 ح 245، والعدد القوية 222 ح 15، ودلائل الإمامة: 76 ح 17، وقطعة منه في المناقب لابن شهرآشوب 3: 340. (2) دلائل الإمامة: 81 ح 21، عنه البحار 43: 9 ح 16. (*)

[ 231 ]

رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكانت أنيسه ومونسه عند الشدائد والمحن، وبذلت أموالا كثيرة في مصارف ختم الأنبياء. وهي أول من آمن برسول الله (صلى الله عليه وآله) من النساء، وقد نزل جبرئيل إلى النبي عليه الصلاة والسلام مرارا عديدة بالسلام من الله السلام على خديجة (عليها السلام)، وكانت تقول في جواب كل سلام: إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه يعود السلام، وعلى جبرئيل السلام، وعليك يا رسول الله الصلاة والسلام (1). وهذا من كمال فضلها وفضل كمالها، حيث كانت هي عارفة فطنة عاقلة عالمة بأنه لا يصح السلام على الله سبحانه، وقد مرت الإشارة إلى جملة من فضائلها (عليها السلام)، وإلى أن سيدة نساء أهل الجنة أربعة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم. وروي أنهما رفيقتا خديجة في الجنة، وهما أيضا من جملة أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) فيها، وروى كلثوم اخت موسى بن عمران (عليها السلام) أيضا معهما. وكانت خديجة سلام الله عليها تزوجت قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بزوجين، أولهما عتيق بن العائد المخزومي، وولدت منه بنتا واحدة وهي ام محمد بن صفي المخزومي، ثم تزوجت هندبن زرارة التيمي وولدت منه هند بن هند، ولذا كانت كنيتها ام هند (2).


(1) نحوه في تفسير العياشي 2: 279 ح 12، عنه البحار 16: 7 ح 11، وفي تفسير البرهان 2: 401. (2) هناك من يذهب إلى أن خديجة سلام الله عليها كانت بكرا لم تتزوج بأحد قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، راجع لمزيد الإطلاع إلى كتاب (بنات النبي ام ربائبه) تأليف العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، ويؤيد ذلك ما روي في كتاب المناقب لابن شهرآشوب 1: 159 حيث قال: وروى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبو جعفر في التلخيص: ان النبي (صلى الله عليه وآله) تزوج بها [ أبي خديجة ] وكانت عذراء، ويؤكد ذلك ما ذكر في كتابي الأنوار والبدع: ان رقية وزينب كانتا ابنتي هالة اخت خديجة. (*)

[ 232 ]

ثم تزوجت برسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد مضى من عمرها الشريف أربعون سنة، أو ستة وعشرون، أو ثمانية وعشرون على الخلاف والإختلاف، والنبي (صلى الله عليه وآله) يومئذ ابن خمس وعشرين سنة. وكانت هي تحبه حبا شديدا، وكانت تنشئ الأشعار في اظهار المحبة للنبي المختار (صلى الله عليه وآله)، ومن أشعارها التي أنشأتها فيه على ما ذكره في المقامع، قولها سلام الله عليها: أيا ريح الجنوب لعل علما * من الأحباب يطفي بعض حري ولولا حملوك إلي منهم * سلاما أشتريه ولو بعمري وحق ودادكم اني كتوم * واني لا أبوح لكم بسري أراني الله وصلكم قريبا * فكم يسر أتى من بعد عسر فيوم من فراقكم كشهر * وشهر من وصالكم كدهر ومنها أيضا: يا سعد إن جزت بوادي الأراك * أنشد قلبا ضاع مني هناك واستفت غزلان النقاء سائلا * هل لأسير الحب منهم فكاك وإن ترى ركبا بوادي الحمى * سائلهم عني ومن لي بذاك نعم سروا واستصحبوا مهجتي * الآن عيني تشتهي أن تراك ما في من عضو ولا مفصل * إلا وقد ركب فيه هواك أوعدتني بالهجر بعد الوفاء * فأين الوفاء حتى تجازي بذاك فاحكم بما شئت وما ترتضي * فالقلب ما يرضيه إلا رضاك (1) وكانت هي أول من آمن برسول الله (صلى الله عليه وآله) من النساء، وصدقت بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) عن الله تعالى، ووازرته على أموره بعد البعثة بل في كل حالة، فخفف الله تعالى بذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله) كل شديدة.


(1) مقامع الفضل: 230 / غسه، وانظر أيضا أسرار الشهادة: 319. (*)

[ 233 ]

وكان (صلى الله عليه وآله) لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب وغير ذلك مما كان يصدر من جهال قومه من جهة الإيذاء له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه ذلك إذا رجع إليها، حيث كانت تثبته وتخفف عنه، وتهون عليه أمر الناس، وكانت على هذه الحالة حتى اختارت الدار الآخرة في السنة العاشرة من البعثة بعد ثلاثة أيام من فوت أبي طالب (عليه السلام). وتفاصيل هذه الأمور موكولة إلى محلها، والغرض هنا مجرد الإشارة إليها والتنبيه عليها، ليكون الناظر في هذا الكتاب على بصيرة في الجملة. [ في تاريخ ولادة الزهراء (عليها السلام) ومدة عمرها ] وبالجملة فالمشهور ان فاطمة (عليها السلام) تولدت بمكة ليلة الجمعة في الساعة الأخيرة منها بخمس سنين بعد البعثة، وأقامت مع أبيها ثماني سنين بمكة، ثم هاجرت (عليها السلام) - بعد الهجرة - إلى المدينة، وأقامت فيها مع أبيها عشر سنين، ومع علي (عليه السلام) بعد وفاة أبيها مدة قليلة اختلف في تعيين قدرها كما ستجئ إليه الإشارة، وزوجها علي (عليه السلام) بعد مقدمها المدينة بسنتين في اليوم الأول من ذي الحجة أو غيره على ما يأتي. وقبض النبي (صلى الله عليه وآله) ولها ثماني عشر سنة بلا زيادة ونقيصة، أو مع نقيصة سبعة عشر يوما، أو ثلاثة وثمانين يوما، أو مع زيادة سبعة أشهر، أو ما دونها. واختلف في مدة عمرها بعد النبي (صلى الله عليه وآله) أنها ثمانية أشهر، أو سبعة أشهر، أو أربعة أشهر، أو ثلاثة أشهر، أو مائة يوم، أو خمسة وسبعون يوما، أو إثنان وسبعون، أو شهران، أو خمسة وأربعون، أو أربعون. وقال جماعة: عمرها (عليها السلام) على التحقيق ثماني عشر سنة وأربعون يوما، منها ثماني سنة قبل الهجرة وعشرة بعد الهجرة، والباقي بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله). وقال آخرون: الأصح أن عمرها ثماني عشر سنة إلا سبعة عشر يوما، فسبع


[ 234 ]

سنين وتسعة أشهر في مكة قبل الهجرة، وعشر سنين إلا يومين بعد الهجرة، وخمسة وسبعون يوما بعد وفاة أبيها، وبالجملة عمرها (عليها السلام) ثمانية عشر سنة بزيادة في الجملة أو نقيصة كذلك. وروي أنه لما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى المدينة وابتنى بها مسجدا، وعلت كلمته، واعتلى علمه وحكمته، وتحدث به الملوك والشراف، وخاف نقمة سيفه الأكابر والأشراف، هاجرت فاطمة (عليها السلام) مع أمير المؤمنين ونساء المهاجرين إلى المدينة، وكانت عائشة فيمن هاجر مع فاطمة (عليها السلام)، فقدمت هي المدينة وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد تزوج في أول دخوله المدينة سودة بنت زمعة، ونقل فاطمة (عليها السلام) بعد الورود في المدينة إلى حجرة زمعة، ثم تزوج ام سلمة ونقل فاطمة (عليها السلام) من عند زمعة إلى حجرة ام سلمة لتربيها وتنظر إلى أمرها. قالت ام سلمة: تزوجني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفوض إلي أمر ابنته فاطمة (عليها السلام)، فكنت اءدبها، وكانت والله آدب مني وأعرف بالأشياء كلها (1). تتميم: [ في خصائصها وبعض معجزاتها ] وكان لها خصائص ومعجزات مفصلة في مواضعها، وقد أشرنا إلى بعضها فيما مر، وذلك مثل كونها بعد ولادتها تنشأ في اليوم كالجمعة، وفي الجمعة كالشهر، وفي الشهر كالسنة، ومثل تنور جمالها، وظهور نور وجهها كل يوم لعلي (عليه السلام) ثلاث مرات، على ما مر تفصيله في وجه تسميتها (عليها السلام) بالزهراء. وانها كانت أبدا بتولا عذراء، وكان ثدياها طويلين بحيث كانت تلقيهما من أعلى كتفيها على عقبها، وترضع أولادها من وراء ظهرها، على ما ذكر بعضهم ذلك مسندا إلى الرواية (2).


(1) دلائل الإمامة: 81 ح 21، عنه البحار 43: 9 ح 16، والعوالم 11: 61 ح 1. (2) أقول: هذا كلام غريب لا يقبله العقل السليم. (*)

[ 235 ]

وكانت تدعو في أدعية صلاة الليل أولا لجيرانها ثم لنفسها، فسألها الحسن (عليه السلام) في ذلك فقالت: يا بني الجار ثم الدار (1). وكانت (عليها السلام) معصومة مع عدم الإمامة، ذات معجزات وكرامات مع عدم النبوة والإمامة، وكانت من أهل العباء والكساء والمباهلة، وقد عقد عقد تزويجها في السماء على ما يأتي إليه الإشارة، وكانت تكلمها الملائكة وتحدثها. وهي ام الأئمة النقباء النجباء، وأنجب الورى من بين النساء، ساطعا عطر الجنة ورائحتها من بين ثدييها، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يمس وجهه لما بين ثدييها كل يوم وليلة يشمها ويلتذ من إستشمامها، ولذا كانت تسمى ريحانة نفس النبي (صلى الله عليه وآله) ومهجتها وبهجتها. ويختص بها التسبيح المشهور بتسبيح فاطمة الزهراء مع فضائله المشهورة على ما سنذكره، وهو مستحب مؤكد عند النوم، وبعد الصلاة المفروضة اليومية، وكانت تكلم مع امها في بطنها، وامتلأت الأرض حين ولادتها من الأزهار والرياحين وغيرها، وتنور جميع الموجودات من نورها حين ولادتها. وكانت إذا اشتغلت ببعض الأمور حين الحاجة إلى الرحى والإشتغال بها تحرك الرحى التي في دارها بلا محرك، والحنطة تطرح في الرحى بنفسها (2)، وقد كانت تدخل يدها في قدر الطعام حين الغليان وتقلبها كالمغرفة (3). وأتى إليها في محرابها المائدة من الجنة مرارا عديدة كمريم في موارد متعددة مفصلة في الأخبار المأثورة، وكانت تجعل رغيفين مع قطعة لحم في طرف، وتظهر منه طعاما معطرا يشبع الخلق الكثير مع بقائه على حالته. وظهرت لها (عليها السلام) أربع جوار من الجنة: سلمى لسلمان، وذرة لأبي ذر، ومقدودة لمقداد، وعمارة لعمار - كما ورد في الأخبار - أظهرت لسلمان من


(1) علل الشرائع: 181 ح 1، عنه البحار 43: 81 ج 3، والعوالم 11: 915 ح 182. (2) راجع الخرائج: 530 ح 6، عنه البحار 43: 28 ح 33، والعوالم 11: 191 ح 1. (3) الثاقب في المناقب: 293 ح 1، عنه العوالم 11: 197 ح 2. (*)

[ 236 ]

رطب الجنة ولم يكن له نواة، وعلمته دعاء الحمى الذي أوله " بسم الله النور " (1) كما سيذكر، وقد اشتفى به أكثر من ألف نفر بالمدينة. وكانت (عليها السلام) تغلي القدر بلا نار (2)، وتلألأ من كسائها النور لما رهنته عند اليهودي، حتى أشرق نوره على الحيطان والجدران، وأسلم جماعة كثيرة من هذه الجهة (3). وانها أتت إليها من جانب الله سبحانه بوساطة جبرئيل عشرة أنواع من حلل الجنة، وعشرة قطعة من حليها مع مسند وتاج وخدمة في مجلس سرور استدعاها إليه نساء المنافقين بقصد الإستهزاء في السخرية، فتحيرت الفرقة الحاضرة وآمنوا من جهة هذه الكرامة الزاهرة، إلى غير ذلك من العلامات الظاهرة، والإمارات الباهرة (4).


(1) مهج الدعوات: 5، عنه البحار 43: 66 ح 59، والخرائج 2: 533 ح 9، والثاقب في المناقب: 297 ح 253. (2) الثاقب في المناقب: 301 ح 1، عنه العوالم 11: 197 ح 1. (3) الثاقب في المناقب: 301 ح 2، وفي الخرائج 2: 537 ح 13، والعوالم 11: 228 ح 1. (4) الخارئج 2: 538 ح 14، عنه البحار 43: 30 ح 37، والعوالم 11: 229 ح 3. (*)

[ 237 ]

عقد مفصل بالشذور في عقد النور من النور: إعلم أن تزويج فاطمة من علي (عليهما السلام) كان في أول يوم من ذي الحجة، أو اليوم السادس منه لاختلاف الروايات، وزفافها في الليلة الحادية والعشرين من المحرم سنة ثلاث من الهجرة، وقيل: لأيام خلت من شوال بعد وفاة اختها رقية زوجة عثمان بستة عشر يوما حين رجع النبي (صلى الله عليه وآله) من غزوة بدر. وروي زواجها في رمضان وزفافها في ذي الحجة في السنة الثانية من الهجرة، وفي رواية اخرى أن زواجها في السماء كان في ليلة أربعة وعشرين من رمضان، وفي الأرض بأربعين يوما بعد ذلك وزفافها في ذي الحجة، أو أن زواجها في الأرض كان في النصف من رجب وزفافها في ذي الحجة، أو أن زواجها في السماء في رجب وفي الأرض في رمضان، وزفافها في ذي الحجة. فصل: [ في خطبتها (عليها السلام) ] وقد كان خطب فاطمة (عليها السلام) جماعة كثيرة من أعيان العرب ووجوهها، وسلاطين الأطراف وملوكها، فخابوا مما أملوا ولم يصلوا إلى ما طلبوا، كما خطبها أيضا أبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة. وكان (صلى الله عليه وآله) يجيب كل أحد ويرد كل خاطب بنوع من الرد، فكان يقول: إن أمر فاطمة إلى ربها، أو أنها صغيرة ليس أوان نكاحها، أو نحو ذلك


[ 238 ]

من الأعذار الشرعية والعرفية، فردهم في ذلك وجبههم بوجه حالك إلى أن زوجها من علي (عليه السلام) على نحو ما يأتي. وقد ورد في تفسير قوله تعالى: * (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا) * (1)، أن النسب ما يحرم نكاحه والصهر ما يحل نكاحه، ولم يجتمع النسبة والصهرية بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) لأحد من الصحابة إلا لعلي (عليه السلام)، حيث أنه كان ابن عمه وزوج ابنته دون سائر الصحابة (2). وتفصيل هذه الجملة على ما روي في الأخبار الكثيرة، بألفاظ مختلفة ومعان متفقة أنه لما بلغت فاطمة خطبها أكابر قريش من أهل الإسلام والسابقة والشرف والمنزلة، وأرباب الجاه والثروة والمال والدولة، فرد كلا منهم بنحو من الجواب ونوع من الفصل الخطاب. وكان من جملة الخطاب أبو بكر وعمر بن الخطاب وغيرهما من وجوه الأصحاب، ولقد أتى أولا أبو بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) لخطبة فاطمة (عليها السلام) وقال بعد السلام والجواب: يا رسول الله انك تعلم إسلامي وسابقة صحبتي، وأنا من كبار قريش، واني قد سمعت منك انك تقول: " كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي " واني لراغب في أن تزوجني فاطمة، وتخصني بهذه الكرامة. فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يجبه، فأعاد الكلام إلى ثلاث مرات وكان النبي (صلى الله عليه وآله) لا يجيبه كل مرة، فقال في المرة الثالثة: إن أمر فاطمة إلى ربها يزوجها ممن يشآء. فخرج أبو بكر بعد سماع الجواب فلقيه عمر بن الخطاب، فحكى له الحال وقال: إني أخاف أن يكون في قلب رسول الله كراهة مني أو ملال، وله علي سخط من جهة عارضة، وهذا الإعراض من تلك الجهة، فقال عمر: كن على حالك حتى أخطب أنا أيضا من رسول الله فاطمة، فإن أجاب لي بما أجاب لك فكن آمنا مما يخطر ببالك.


(1) الفرقان: 54. (2) نحوه المناقب لابن شهرآشوب 2: 181، والبحار 43: 106 ح 22، والعوالم 11: 370 ح 12. (*)

[ 239 ]

فأتى عمر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال مثل ما قاله أبو بكر، وخطب لنفسه فاطمة (عليها السلام)، فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله) بما أجاب به أبا بكر، فرجع عمر فذكر له القصة، ثم قال: وأنا أظن أن رسول الله أخرها لبعض رؤساء العرب ممن له قدر وشوكة حتى يعتضد به في أمره، ويصل له القدرة والقوة. وهما كانا في تلك الحالة إذ أتاهما عبد الرحمن بن عوف، فسمع المقال وعرف الحال فقال: أنا أروح إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وأخطبها لنفسي، وأنا أظن أن يزوجها مني لكثرة مالي ورفاه حالي، وان النبي (صلى الله عليه وآله) رجل فقير لا مال له يمكن أن يميل إلى المال ليصرفه في بعض المهمات والأشغال. فذهب إلى داره بدل ثيابه بألبسة فاخرة، وتزيا بهيئة رائقة، وطيب ثيابه، وعطر أثوابه، فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فخطبها لنفسه بنحو ما خطب غيره، فلم يجبه النبي (صلى الله عليه وآله) وسكت، فظن عبد الرحمن أن غرض النبي (صلى الله عليه وآله) أن يعين مهرها فقال: يا رسول الله واصدقها إبلا كذا، وغنما كذا، وعبدا كذا، ومن الذهب والفضة كذا. فغضب النبي (صلى الله عليه وآله) ومد يده الشريفة وأخذ قبضة من رمال المسجد وطرحها في حجر عبد الرحمن، فقال: خذها إليك حتى يكثر بذلك مالك، فسبح تلك الرمال والأحجار في كف النبي المختار، فلما استقرت الرمال في حجر عبد الرحمن فإذا هي در ومرجان، فقال (صلى الله عليه وآله): يا عبد الرحمن ألم أقل لكم مرة بعد اخرى أن أمرها إلى ربها، فوالله لو خطبها مني أحد بعد ذلك لدعوت الله تعالى عليه، فأنشأ حينئذ كعب بن مالك الأنصاري هذه الأبيات: فان يك موسى كلم الله جهرة * على جبل الطور المنيف المعظم فقد كلم الله النبي محمدا * على الموضع العالي الرفيع المسوم وإن يك نمل البر يوهم كلمت * سليمان ذا الملك الذي ليس بالعمى فهذا نبي الله أحمد سبحت * صغار الحصى في كفه بالترنم عليه سلام الله ما هبت الصبا * وما دارت الأفلاك طورا بأنجم (1)


(1) تفسير روض الجنان لأبي الفتوح الرازي 14: 248 / سورة الفرقان. (*)

[ 240 ]

فخرج عبد الرحمن وهو خجلان، وجاء إلى أبي بكر وعمر، وسعد بن معاذ الأنصاري أيضا معهما، وتكلموا في ذلك وقد أيسوا عن الطمع في زواج فاطمة (عليها السلام)، إلى أن قالوا: وإن عليا لم يخطبها إلى الآن من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولعل ذلك من جهة أنه فقير لا مال له، وما نرى أن الله ورسوله أخر فاطمة إلا له، فلنذهب إلى على ونسأله عما يمنعه عن تلك الخطبة. فجاؤوا في جمع كثير من أكابر قريش إلى علي (عليه السلام) وهو في بستان لبعض الأنصار يسقيه بالناضح للاجرة، فجاء علي (عليه السلام) بالرطب الذي أخذه اجرة فوضعه بين أيديهم فأكلوه. فلما فرغوا شرعوا في ذكر المقدمة السابقة، فقالوا له: يا علي لو أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فذكرت له فاطمة فما نراه أخرها إلا لك، فإن الله تعالى قد جمع فيك مجامع الفضل والشرف، وخصك بأنواع الكرامات، ولا نعلم شيئا من خصال الخير إلا وفيك موجود، ومكانك من رسول الله في القرابة والصحبة والسابقة مشهود، فما منعك من هذه الخطبة وفيها خير الدنيا والآخرة ؟ !. فتغرغرت عيناه (عليه السلام) بالدموع وقال: إن هذه لموضع رغبة لا محالة، ولكن يمنعني من ذلك أمران، أحدهما قلة ذات اليد وضيق المعاش، والآخر اني أستحيي من أن اواجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذه الخطبة. وبالجملة تكلموا في ذلك كثيرا ولم يتركوا شيئا في المرحلة إلى أن حرضوه على تلك المسألة، فأتى علي (عليه السلام) إلى منزله، فبدل ثيابه وأتى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو في حجرة ام سلمة، فقرع الباب فعرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كيفية قرعه أن القارع هو علي (عليه السلام)، فقبل أن يقول هو (عليه السلام) أنا علي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا ام سلمة قومي وافتحي الباب، فإن هذا رجل يحبه الله ورسوله وهو يحب الله ورسوله. قالت ام سلمة: يا رسول الله من ذا بهذه المنزلة وقد أمرنا الله تعالى بالحجاب ؟ فقال: يا ام سلمة من بالباب رجل ليس بالخرق ولا النزق، وهو أخي وابن عمي، وأحب الخلق إلي وأعزهم علي.


[ 241 ]

قالت ام سلمة: ففتحت الباب ورجعت بالسرعة، وهو (عليه السلام) آخذ بحلقتي الباب حتى عرف اني دخلت الحجاب، ثم فتح الباب ودخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال (صلى الله عليه وآله): وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فجلس علي (عليه السلام) بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) ساعة وهو مطرق رأسه، وكان كأنه يريد أن يقول شيئا لكن يتركه حياء، فضحك النبي (صلى الله عليه وآله) عند ذلك وقال: يا علي ألك حاجة ؟ فقال: نعم يا رسول الله، انك تعلم انك أخذتني من أبي طالب وجعلتني بمنزلة ولدك، وربيتني في حجرك، وأدبتني بأدبك، وكنت أرأف بي من أبي وامي، وأنت في الدنيا والآخرة حرزي وذخري. ثم ذكر علي (عليه السلام) قرابته منه وقدمه في الإسلام، ونصرته له في كل مقام، وجهاده معه في جنب الله، ومكابدته في سبيل الله، فقال: يا علي صدقت وأنت أفضل مما نطقت، وأكمل مما ذكرت. فقال: يا رسول الله اني قد سمعت منك أنك قلت: كل نسب وسبب منقطع إلا سببي ونسبي فقال (صلى الله عليه وآله): أما النسب فقد سبب الله، وأما السبب فقد قرب الله (1). فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله ففاطمة تزوجنيها ؟ فقال (صلى الله عليه وآله): يا علي انه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك، - قال المجلسي (رحمه الله): الرسل: التأني والرفق، إنتهى - (2). فدخل (صلى الله عليه وآله) عليها، فقامت إليه وأخذت رداءه عن عاتقيه، ونزعت نعليه، وأتته بالوضوء فغسلت رجليه، ثم قعدت بين يديه، فقال لها


(1) تفسير روض الجنان لأبي الفتوح 14: 249 / سورة الفرقان. (2) البحار 43: 93. (*)

[ 242 ]

رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة، فقالت: لبيك لبيك حاجتك يارسول الله. فقال: يا فاطمة ان علي ابن أبي طالب من قد عرفت قرابته، وفضله، وكرامته، ونبله، وسابقته، وإسلامه، ومنزلته عندي ومقامه، واني قد سألت ربي أن يزوجك خير خلقه وأحبهم إلى حضرته، وقد ذكر علي (عليه السلام) من أمرك شيئا في تلك الساعة، فما ترين في ذلك يا فاطمة ؟. فسكتت (عليها السلام) ولم تول وجهها، ولم يظهر كراهة منها، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) من عندها وهو يقول: الله أكبر سكوتها إقرارها، وفي رواية اخرى أنها قالت في الجواب: يا رسول الله أنت أولى بما ترى، غير أن نساء قريش تحدثني عنه أنه رجل دحداح البطن، طويل الذراعين، ضخم الكراديس، أنزع، عظيم العينين، ضاحك السن، فقير لا مال له. قال المجلسي (رحمه الله): الدحداح: القصير السمين، واندح بطنه اتسع، والكردوس: كل عظمين التقيا في مفصل كالركبتين والوركين والمنكبين، والأنزع: هو الذي انحسر الشعر عن جانبي جبهته (1). فبين النبي (صلى الله عليه وآله) جملة من فضائل علي (عليه السلام) في خبر طويل حاصله ان عليا أمير المؤمنين مختار الله بين الناس بعده، وأنه تعالى جعله وزيرا له، وكتب ذلك في صخرة بيت المقدس، وفي سدرة المنتهى، وفي قوائم العرش وشجرة طوبى التي يجري من أصلها نهر ينفجر منه الأنهار الأربعة، أي نهر ماء غير آسن، ونهر لبن لم يتغير طعمه، ونهر خمر لذة للشاربين، ونهر عسل مصفى، وهي الأنهار المذكورة في قوله تعالى: * (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات...) * (2) الآية.


(1) البحار 43: 101. (2) محمد: 15. (*)

[ 243 ]

وانه أول من ينشق الأرض عنه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأول من يقف معه على الصراط ويقول للنار: " خذي هذا وذري هذا " وأول من يكسى إذا اكتسى النبي (صلى الله عليه وآله)، وأول من يقرع معه باب الجنة، وأول من يسكن معه في عليين، وأول من يشرب معه من الرحيق المختوم، فلا يضره أنه فقير لا مال له. وأما أنه بطين فإنه مملوء من علم خصه الله به وأكرمه من بين الامة، وأما أنه أنزع عظيم العينين فإن الله تعالى خلقه بصفة آدم، وأما طول يديه فإن الله تعالى طولهما يقتل بهما أعداء الله وأعداء رسوله، وبه يظهر الله الدين، وهو يقاتل المشركين على تنزيل القرآن، والمنافقين من أهل البغي والنكث والفسوق على تأويل الفرقان. ويخرج الله من صلبه سيدي شباب أهل الجنة، ويزين بهما عرشه، وان الله جعل ذرية كل نبي من صلبه، وجعل ذرية خاتم الأنبياء من صلب علي، وانه لولا علي ما كانت له ذرية (1). ومن جملة ما ذكره (صلى الله عليه وآله) في فضل علي (عليه السلام) في هذه المرحلة أنه قال: لا يرد على الله تعالى ركبان أكرم منا أربعة: أخي صالح على ناقته، وعمي حمزة على ناقتي العضباء، وأنا على البراق، وعلي بن أبي طالب على ناقة من نوق الجنة هي من النور، وعيناها من الياقوت، وبطنها من الزبرجد الأخضر، وقوائمها من الذهب الأصفر، إلى غير ذلك، فقالت فاطمة (عليها السلام): يا رسول الله إذا ما أختار عليه أحدا من أهل الأرض. وبعض هذه الفضائل ذكره النبي (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام) تسلية لها بعد زواجها أيضا، حين ظهر منها كآبة وشكاية مما كانت تقوله نساء قريش لفاطمة (عليها السلام)، عند تعييرها بأن أباها زوجها عليا وهو فقير لا يملك شيئا.


(1) البحار 43: 99 ح 11، والعوالم 11: 376 ح 1. (*)

[ 244 ]

فصل: [ في تزويجها في السماء ] وروي أن عليا لما جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) لخطبة فاطمة على ما مرت إليه الإشارة، وحصل منها الرضا بتلك الخطبة، قال (صلى الله عليه وآله) لعلي: يا أمير المؤمنين إذا زوجتكها فما تصدقها ؟ قال: يا رسول الله إنك تعلم أنه ليس لي إلا سيفي وفرسي ودرعي وناضحي، ولا شئ لي غير ذلك، قال: أما ناضحك فهو وجه معيشتك، وأما سيفك وفرسك فلا غناء بك عنهما تقاتل المشركين بهما، وأما درعك فشأنك بها، فذهب علي من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى مصلاه وكان يصلي ويتضرع إلى مولاه. فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله) سلمان إليه وقال له: ادع لي عليا، فذهب سلمان وسلم عليه ثم قال: يا علي أجب رسول الله فإنه يدعوك إليه، فلما جاء علي (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) قال له رسول الله: أبشر يا علي فإن الله قد زوجك بفاطمة في السماء قبل أن ازوجكها في الأرض، فهذا ملك مسمى بنسطائيل له وجوه متعددة واجنحة مختلفة، وهو من جملة حملة قوائم العرش العظيم، ولم ينزل علي قبل ذلك، ويقول لي: أبشر يا محمد باجتماع الشمل وطهارة النسل، فإن الله العلي الأعلى زوج فاطمة من علي في السماوات العلى، وأمر شجرة طوبى أن تحمل الدر الأبيض والياقوت والمرجان، وتنثرها على أهل الجنان. ثم نزل ملك له أربعة وعشرون وجها ولم ينزل للنبي قبل ذلك، فقال (صلى الله عليه وآله): حبيبي جبرئيل لم أرك في مثل هذه الصورة قبل هذه الحالة، قال الملك: لست بجبرئيل أنا ملك إسمي محمود، بعثني الله عزوجل إليك أن ازوج النور من النور، أو لتزوج النور من النور، فقال (صلى الله عليه وآله): من ممن ؟ فقال: فاطمة من علي (1).


(1) المناقب لابن شهرآشوب 3: 349. (*)

[ 245 ]

وروى عبد الله بن ميمون عن أبي حنيفة خبرا كان ينقله بمكة في جماعة من الطالبيين، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه لما نزل هذا الملك قال له: السلام عليك يا أول، يا آخر، يا حاشر، يا ناشر، فقال (صلى الله عليه وآله) له: ما تعني بهذه الأسماء ؟ قال: أنت أول من يبعث من القبر، وآخر النبيين، وأنت صاحب الحشر والنشر، فقال (صلى الله عليه وآله): ما اسمك ؟ قال: إسمي محمود، قال: فلماذا جئت ؟ قال: نزلت إليك بأمر الله النور أن تزوج النور من النور، قال (صلى الله عليه وآله): من ممن ؟ قال: فاطمة من علي، فإن الله زوجها منه في السماء. قال: فلما ولى الملك فإذا مكتوب بين كتفيه: محمد رسول الله، وعلي وصيه - وفي رواية أبي حنيفة: أيدته بعلي ونصرته به - فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): منذ كم كتب ذلك بين كتفيك ؟ فقال: قبل أن يخلق الله آدم باثنين وعشرين ألف عام (1)، وفي خبر آخر: بأربعة وعشرين ألف عام (2). وفي خبر آخر: إنه كان له عشرون رأسا في كل رأس ألف لسان (3)، وكان يسبح الله تعالى ويقدسه في كل لسان بلغة لا تشبه لغة اخرى، وراحته أوسع من سبع سماوات وسبع أرضين، واسمه صرصائيل، ويمكن أن يكون هو غير الملك المسمى بمحمود. ثم نزل جبرئيل فقال: يا محمد زوج فاطمة من علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإن الله تعالى قد رضيها له ورضيه لها - وفي خبر آخر قال جبرئيل: إن الله يأمرك أن تزوج فاطمة من علي،.... فقال النبي (صلى الله عليه وآله) حينئذ لعلي: يا علي امرت تزويجك بالبيضاء من السماء (4).


(1) نحوه كشف الغمة 1: 361، عنه البحار 43: 123 ح 31، والمناقب للخوارزمي: 34 ح 360 وتفسير روض الجنان 14: 243 / سورة الفرقان. (2) المناقب لابن شهرآشوب 3: 349. (3) كشف الغمة 2: 361، عنه البحار 43: 123 ح 31. (4) المناقب لابن شهرآشوب 3: 350، عنه البحار 43: 111. (*)

[ 246 ]

وورد أيضا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن زوج عليا بفاطمة قال لعلي (عليه السلام): يا علي لقد عاتبني رجال من قريش في أمر فاطمة فقالوا: قد خطبناها إليك فمنعتنا وزوجت عليا ؟ ! فقلت لهم: والله ما أنا منعتكم وزوجته بل الله منعكم وزوجه، وهبط علي جبرئيل فقال: يا محمد إن الله جل جلاله يقول: لو لم أخلق عليا لما كان لفاطمة كفو على وجه الأرض آدم فمن دونه (1). وروي عن علي (عليه السلام) أنه قال: إني قد كنت هممت بتزويج فاطمة ولم أتجرأ أن أذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله)، وكان ذلك يختلج في صدري ليلي ونهاري، إلى أن قال لي النبي (صلى الله عليه وآله) يوما: يا علي هل لك في التزويج ؟ قلت: رسول الله أعلم، وإذا هو يريد أن يزوجني بعض نساء قريش، واني لخائف على فوت فاطمة. فما مر إذ أتاني رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما حضرت رأيته مستبشرا وهو في حجرة ام سلمة، فتهلل فرحا وتبسم فقال: أبشر يا علي فإن الله قد كفاني ما أهمني في أمر تزويجك، وهذا من سنبل الجنة وقرنفلها أتاني بهما جبرئيل، وان الله تعالى أمر سكان الجنة من الملائكة فزينوا الجنان، وأمروا الحور العين بقراءة طه، والطواسين، ويس، وحمعسق، وأمر الرياح فنشرت أنواع الطيب والعطر في حافات الجنة (2). واجتمعت الملائكة في السماء الأولى والثانية والثالثة والرابعة، ثم أمر الله رضوان فنصب منبر الكرامة على باب البيت المعمور - أو في البيت المعمور - وهو الذي خطب عليه آدم يوم عرض الأسماء على الملائكة وهو منبر من نور. ثم أمر الله ملكا يسمى راحيل - ولم يكن في الملائكة أبلغ منه وأفصح - فصعد المنبر فخطب بخطبة لم يسمع بمثلها أهل السماء ولا أهل الأرض في جمع


(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 439 ح 176، عنه البحار 43: 92 ح 3. (2) أمالي الصدوق: 448 ح 1 مجلس 83، عنه البحار 43: 101 ح 12. وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 436 ح 174، روضة الواعظين: 144. (*)

[ 247 ]

من أهل السماوات والأرضين، وحضور الملائكة العالين والسافلين، فقال في خطبته: " الحمد لله الأول قبل أولية الأولين، الباقي بعد فناء العالمين، نحمده إذ جعلنا ملائكة روحانيين، وبربوبيته مذعنين، وله على ما أنعم علينا شاكرين، حجبنا من الذنوب، وسترنا من العيوب، أسكننا في السماوات، وقربنا إلى السرادقات، وحجب عنا النهم للشهوات، وجعل نهمتنا وشهوتنا في تقديسه وتسبيحه، الباسط رحمته، الواهب نعمته، جل عن إلحاد أهل الأرض من المشركين، وتعالى بعظمته عن إفك الملحدين، أنذرنا بأسه، وعرفنا سلطانه، توحد فعلى في الملكوت الأعلى، واحتجب عن الأبصار، وأظلم نور عزته الأنوار، فكان من إسباغ نعمته، وإتمام فضيلته أن ركب الشهوات في بني آدم، إذ خصهم بالأمر اللازم لينشر لهم الأولاد، ويهيئ لهم البلاد، فجعل الحياة سبيل الفتهم، والموت غاية فرقتهم، وإلى الله المصير ". ثم قال بعد كلام له: " وقد اختار الملك الجبار، صفوة كرمه وعبد عظمته لأمته سيدة النساء، بنت خير النبيين، وسيد المرسلين، وإمام المتقين، صاحب المقام المحمود، واليوم المشهود، والحوض المورود، فوصل حبله بحبل رجل من أهله، صاحبه المصدق، وعونه المبادر إلى كلمته، علي الوصول بفاطمة البتول إبنة الرسول " (1). ثم نزل جبرئيل عقب الخطبة بالحديث القدسي من عند الله سبحانه، وهو قوله: " الحمد ردائي، والعظمة كبريائي، والخلق كلهم عبيدي وإمائي، زوجت فاطمة أمتي من علي صفوتي، فاشهدوا ملائكتي " فشهدت بذلك حملة العرش وسائر الملائكة (2).


(1) تفسير روض الجنان 14: 252 / سورة الفرقان، والمناقب لابن شهرآشوب 3: 347، عنه البحار 43: 110، والعوالم 11: 396 ح 27. (2) المناقب لابن شهرآشوب 3: 348، عنه البحار 43: 110، والعوالم 11: 397. (*)

[ 248 ]

وفي خبر آخر: إن الشهود كانوا أربعين ألفا من الملائكة (1)، وفي خبر آخر: ملائكة السماوات والأرضين (2). وروي أن العاقد في هذه المعاقدة كان هو الله سبحانه، والقابل جبرئيل كما أن الخاطب راحيل (3)، وفي خبر آخر: ان جبرئيل كان هو الخاطب خطب على صفوف الملائكة في السماء الرابعة، والعاقد والقابل هو الله سبحانه (4). وفي رواية اخرى: إن جبرئيل وميكائيل عقدا نكاح علي وفاطمة (عليهما السلام)، فكان جبرئيل هو المتكلم عن علي (عليه السلام)، وميكائيل عن فاطمة (5). وفي رواية اخرى: إن الله تعالى أوحى إلى جبرئيل أن زوج النور من النور، وكان الولي هو الله، والخطيب جبرئيل، والمنادي ميكائيل، والداعي إسرافيل، والناثر عزرائيل، والشهود ملائكة السماوات (6)، ويجوز اتحاد الخطيب والعاقد واتحادهما مع القابل. وبالجملة فلما تم العقد نادى المنادي تحت العرش من جانب الله سبحانه: ألا أن اليوم يوم وليمة علي بن أبي طالب، واني زوجته فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)، وأمر الله سبحانه سحابة بيضاء فقطرت عليهم من لولوئها وزبرجدها ويواقيتها، فقامت الملائكة فنثرت من سنبل الجنة وقرنفلها (7). وصاحب النثار هنا رضوان، وطبق النثار شجرة طوبى، وأوحى الله إلى سدرة المنتهى أن انثري ما عليك، فنثرت الدر والجوهر والمرجان، فابتدرت الحور


(1) المناقب لابن شهرآشوب 3: 347، عنه البحار 43: 109. (2) المصدر نفسه. (3) المناقب لابن شهرآشوب 2: 182، عنه البحار 3: 107. (4) كشف الغمة 1: 359، عنه البحار 43: 120 ح 30. (5) المناقب لابن شهرآشوب 3: 346، عنه البحار 43: 109. (6) المصدر نفسه. (7) أمالي الصدوق: 449 ح 1، مجلس 83، عنه البحار 43: 102 ح 12. (*)

[ 249 ]

العين فالتقطن منها، فهن يتفاخرن بما أخذن من ذلك ويقلن: هذا من نثار فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) (1). وفي الخبر انه دخلت ام أيمن يوما على النبي (صلى الله عليه وآله) وفي ملحفتها شئ، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما معك يا ام أيمن ؟ فقالت: إن فلانة أملكوها فنثروا عليها فأخذت من نثارها، ثم بكت ام أيمن وقالت: يا رسول الله زوجت فاطمة ولم تنثر عليها شيئا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لم تكذبين فإن الله تعالى لما زوج فاطمة عليا أمر أشجار الجنة أن تنثر عليهم من حليها وحللها وياقوتها ودرها وزمردها واستبرقها، فأخذوا منها ما لا يعلمون، ولقد نحل الله طوبى في مهر فاطمة (عليها السلام) فجعلها في منزل علي (عليه السلام) (2). وفي رواية اخرى ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما زوج فاطمة من علي أتاه اناس من قريش فقالوا: إنك زوجت فاطمة عليا بمهر خسيس، فقال (صلى الله عليه وآله): ما أنا زوجت عليا ولكن الله زوجه ليلة أسرى بي عند سدرة المنتهى، وأوحى الله إلى السدرة أن انثري ما عليك، فنثرت الدر والجوهر والمرجان، فابتدرت الحور العين فالتقطن وهن يتهادينه ويقلن: هذا من نثار فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) (3). وأمر شجرة طوبى فحملت رقاعا أي صكاكا بعدد محبي أهل البيت، وأنشأ من تحتها ملائكة من نور، ودفع إلى كل ملك صكا، فإذا استوت القيامة بأهلها نادت الملائكة في الخلائق فلا يبقى محب لأهل البيت إلا دفعت إليه صكا فيه


(1) أمالي الطوسي: 257 ح 464 المجلس العاشر، عنه البحار 103: 274 ح 31. (2) أمالي الصدوق: 236 ح 3 مجلس 48، عنه البحار 43: 98 ح 10، والعوالم 11: 433 ح 60، وروضة الواعظين: 146. (3) أمالي الطوسي: 257 ح 464 المجلس العاشر، عنه البحار 43: 104 ح 15، ونحوه من لا يحضره الفقيه 3: 401 ح 4402، ومكارم الأخلاق: 208 الفصل الثالث. (*)

[ 250 ]

فكاكه من النار، قال النبي (صلى الله عليه وآله): بأخي وابن عمي وابنتي فكاك رقاب رجال ونساء من امتي من النار (1). وفي تفسير أبي الفتوح الرازي أن الله سبحانه أمر أيضا بسحابة بيضاء فقطرت وأمطرت صكاكا مختومة بالمسك، فقالت الملائكة: يا رب ما هذه الصكاك المختومة ؟ قال تعالى: إنها ودائع شيعة علي وفاطمة عندكم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة فقوموا على الصراط فمن مر بكم وفي قلبه من محبتهما حبة أعطوه واحدا من هذه الصكاك المختومة، وأدخلوه الجنة، وهذا حكم حكمت به قبل أن انشئ الخلق. فإذا كان يوم القيامة وقف جبرئيل على الصراط ومعه هؤلاء الملائكة، وفي أيديهم تلك الصكاك المختومة، فإذا جاز أحد من شيعة علي وفاطمة إليهم يعطون صكة بيده، ومكتوب في عنوانه هذا المكتوب: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذه براءة من العلي الجبار لشيعة علي وفاطمة من النار ". ثم يؤتى بنجائب من نور، رحالها من الياقوت الأحمر، والفرش الحرير، والديباج العبقري الأخضر، فتركبهم الملائكة عليها ويمشون قدامهم في غاية الإجلال والإكرام والإعزاز والاعظام، إلى أن يصلوا إلى باب الجنة وفي أيديهم الصكاك، فينادون ملائكة الله هلموا واقرؤوا جوائز الله، فيقول الرضوان والملائكة الخزنة للجنة: يا أولياء الله ادخلوها بسلام آمنين، فيدخلون ويترقون درجة فدرجة. قال (عليه السلام): إلى أن يكونوا معنا في درجاتنا، فمن أراد أن يحيى حياتنا، ويموت موتنا، ويحشر حشرنا، ويكون معنا في درجاتنا فليتولانا، وليتبرأ من أعدائنا، ويوالي ولينا، ويعادي عدونا ويلعنهم، فإن الله لعنهم على لسان الأنبياء والملائكة (2).


(1) كشف الغمة 1: 362، عنه البحار 43: 123 ح 31، ونحوه الخرائج 2: 536 ح 11، والمناقب للخوارزمي: 341 ح 361. (2) تفسير روض الجنان 14: 254 / سورة الفرقان. (*)

[ 251 ]

فلما جرى العقد هزت السماوات من السرور والبهجة والحبور، وفرح أهل السماوات بهذه المعاقدة، وبارك الله وبارك الملائكة وسكان الجنة بأمر الله سبحانه على عقد علي وفاطمة، ومن بركة الله سبحانه أن جعل من نسلهما الذرية الطاهرة. وفي خبر آخر أنه لما جرى العقد نادى المنادي من جانب الله سبحانه: يا ملائكتي وسكان جنتي بركوا على تزويج علي وفاطمة فقد باركت عليهما، فقال راحيل: فأي بركة أعظم من كرامتك إياهما وشيعتهما بالجنة وهم في الحياة الدنيا ؟ قال تعالى: يا راحيل من بركتي عليهما اني جبلتهما على محبتي، وجعلت من نسلهما أئمة يدعون إلى ديني، وهم حجتي على خلقي إلى يوم القيامة (1). قال جبرئيل: ثم نسخت الكتابة في قطعة من حرير مختومة بخواتيم الملائكة، وها هي هذه نزلت بها إليك، وأمرني الله تعالى أن أعرضها عليك، ثم أختمها بالمسك الأذفر، وأجعلها وديعة عند رضوان خازن الجنة - وروي أنها كانت قطعة حرير مطوية من حرائر الجنة -. فوضعها جبرئيل في يد رسول الله، فنشرها النبي المحبور، فإذا فيها سطر مكتوب بالنور: " إن الله تعالى اطلع على الأرض فاختار منهم عليا وزوجه بنتك فاطمة، وهو أخوك في الدين وابن عمك في النسب ". ثم قال جبرئيل: وأمرني الله تعالى أن أقول لك أن تزوج فاطمة من علي، وتبشرهما بولدين زكيين طاهرين نجيبين خيرين فاضلين في الدنيا والآخرة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي فها أنا اريد أن أعمل بما أمر الله به في تزويج فاطمة، فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله قد بلغ أمري إلى أن يذكرني الله في الملأ الأعلى، ويجري حديثي في الجنة، ويزوجني فاطمة في حضور الملائكة. قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي إذا أكرم الله وليه أعطاه مالا عين


(1) تفسير روض الجنان 14: 255 / سورة الفرقان. (*)

[ 252 ]

رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فقال علي (عليه السلام): رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي (1). فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي قم إلى المسجد وأنا على عقبك حتى أحضر المهاجرين والأنصار، وأتمم هذا الأمر العظيم على رؤوس الأشهاد والأنظار، وابين لهم من فضلك ما تقر به القلوب والأبصار. فصل: [ في تزويجهما في الأرض ] روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: لما أمرني النبي (صلى الله عليه وآله) بالخروج إلى المسجد ليخرج هو أيضا على الأثر ويتمم هذا الأمر، فخرجت من عنده ولا أدري كيف أسير من غاية الحبور وشدة الفرح والسرور، فلقيني أبو بكر وعمر فقالا لي: ما الخبر ؟ فقلت: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) زوجني فاطمة وقال: إن الله تعالى عقدها لك في السماء، والنبي البشير يجئ على أثري إلى المسجد ليتمم هذا الأمر الخطير، ففرحا أيضا بذلك وأتيا معي إلى المسجد. فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الأثر أقرب من مد الطرف ورجع البصر، ووجهه يتهلل ويتبشر، فدعا (صلى الله عليه وآله) بلال وقال له: إذهب في الحال وناد المهاجرين والأنصار (2). وفي خبر آخر أنه بعد أن نزل محمود الملك وصرصائيل وجبرئيل بهذا الخبر، أرسل (صلى الله عليه وآله) أنس بن مالك - وكان حاضرا عنده حين نزول الوحي - بهذه المقدمة وقال: انطلق وادع لي أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا، وطلحة، والزبير، ومن حضر من الأصحاب، فلما اجتمعت الصحابة وأخذوا مجالسهم وهو (صلى الله عليه وآله) جالس حينئذ في المسجد عند المنبر،


(1) تفسير روض الجنان 14: 255 / سورة الفرقان، والبحار 43: 103 ح 12. (2) نحوه كشف الغمة 1: 367. (*)

[ 253 ]

فأخبرهم الخبر، وبلغ إليهم ما نزل في أمر علي وفاطمة. ثم صعد المنبر وخطب في حضور الصحابة وقال: " الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع لسلطانه، المرهوب من عذابه، المرغوب إليه فيما عنده، النافذ أمره في أرضه وسمائه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد. ثم ان الله تعالى جعل المصاهرة نسبا لاحقا، وأمرا مفترضا، وشج بها الأرحام، وألزمها الأنام، فقال تعالى: * (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا) * (1)، فأمر الله سبحانه يجري إلى قضائه، وقضائه يجري إلى قدره، فلكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب. ثم ان الله تعالى أمرني أن ازوج فاطمة من علي، وأنا أشهدكم أني قد زوجتها إياه على أربعمائة مثقال فضة إن رضي بذلك علي " (2)، ثم توجه (صلى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) وتبسم إليه وقال له: أرضيت يا علي ؟ قال علي (عليه السلام): رضيت يا رسول الله. ثم خر علي (عليه السلام) ساجدا لله شكرا له على هذه النعمة الجزيلة والكرامة الجميلة، وقال: الحمد لله الذي قرب من حامديه، ودنا من سائليه، ووعد الجنة من يتقيه، وأنذر بالنار من يعصيه، نحمده على قديم إحسانه وأياديه، حمد من يعلم أنه خالقه، وبارئه، ومميته، ومحييه، وسائله عن مساوئه، ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونستكفيه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغه وترضيه، وان محمدا عبده ورسوله، صلاة تزلفه، تحظيه وترفعه وتصطفيه، وان خير ما أفتتح به وأختم قول الله تعالى: * (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) * (3).


(1) الفرقان: 54. (2) تفسير روض الجنان 14: 256 / سورة الفرقان. (3) النور: 32. (*)

[ 254 ]

والنكاح مما أمر الله به ويرضيه، واجتماعنا لما قدر الله وأذن فيه، وهذا رسول الله زوجني ابنته فاطمة على أربعمائة مثقال فضة، وقد رضيت بذلك فاسألوه واشهدوا (1). وفي رواية اخرى: فقال النبي (صلى الله عليه وآله): نعم وقد زوجتك إبنتي فاطمة على ما زوجها الرحمن، وقد رضيت ما رضي الله لها، ثم قال (صلى الله عليه وآله): فنعم الأخ لي ونعم الختن، وهو السيد في الدنيا والآخرة وهو من الصالحين. فقال المسلمون: بارك الله فيكما وعليكما، وجمع شملكما، وأسعد جدكما، وأخرج منكما الكثير الصالح، ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بطبق بسر فقال للناس: إنتهبوا، فنهبوا وباركوا وتفرقوا، فانصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أزواجه (2). وفي رواية اخرى: إن النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن نزل جبرئيل عقب الملائكة الثلاثة، وأخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بتزويج الله سبحانه فاطمة من علي (عليه السلام) على نحو ما مر في السماء الرابعة، وأمره بتزويجها منه في الأرض أيضا، وأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) بذلك، أرسله إلى المسجد وأتى على أثره إليه، وأمر بلالا بجمع المهاجرين والأنصار، فاجتمع الأصحاب من الباب إلى المحراب، ثم ترقى (صلى الله عليه وآله) درجة المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: " معاشر المسلمين ان جبرئيل أتاني آنفا فأخبرني عن ربي عزوجل أنه جمع الملائكة عند البيت المعمور، وأشهدهم جميعا أنه زوج أمته فاطمة ابنة رسول الله من عبده علي بن أبي طالب، وأمرني أن ازوجه في الأرض واشهدكم على ذلك ".


(1) نحوه المناقب لابن شهرآشوب 3: 350، والمناقب للخوارزمي: 336 ح 357، عنه كشف الغمة 1: 358، والبحار 43: 119 ح 29، تفسير روض الجنان 14: 257 / سورة الفرقان. (2) راجع المناقب لابن شهرآشوب 3: 351، عنه البحار 43: 112 ح 24. (*)

[ 255 ]

ثم جلس وقال لعلي (عليه السلام): قم يا أبا الحسن فاخطب لنفسك، فخطب علي (عليه السلام) وقال: الحمد لله شكرا لأنعمه وأياديه، ولا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه، وصلى الله على محمد صلاة تزلفه وتحظيه، ومقامنا هذا مما أمر الله عزوجل ورضيه، ومجلسنا مما قضى الله به وأذن فيه، وقد زوجني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة، وجعل صداقها درعي هذه، وقد رضيت بذلك فاسألوه واشهدوا. فقال المسلمون لرسول الله (صلى الله عليه وآله): زوجته يا رسول الله ؟ فقال (صلى الله عليه وآله): نعم، فقالوا: بارك الله لهما وعليهما، وجمع شملهما... الخ (1)، وهذا مبتن على ما مر سابقا من خبر الدرع الذي مرت الإشارة عليه. وكيف كان فانصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أزواجه، فأمرهن أن يدففن لفاطمة كما في رواية، وفي رواية اخرى أن أمره (صلى الله عليه وآله) بالدف إنما كان في ليلة الزفاف لا في هذه الحالة. ثم ان الأخبار في قدر مهرها مختلفة، ففي بعضها أن صداقها كان أربعمائة مثقال فضة كما مر، وفي بعضها أنه كان درعا له باعها من عثمان بن عفان بأربعمائة درهم سود هجرية (2)، أو أنه باعها من شخص أعرابي في ظاهر الصورة وهو جبرئيل في الحقيقة بخمسمائة درهم كما يأتي (3)، وفي بعضها انه كان درعا باعها بأربعمائة وثمانين درهما قطرية، والقطر قرية ببحرين. وفي بعضها عن الصادق (عليه السلام): ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) زوج عليا فاطمة على درع له حطمية تسوي ثلاثين درهما (4)، وسميت بالحطمية


(1) المناقب للخوارزمي: 348، ضمن حديث 346، عنه كشف الغمة 1: 368، عنه البحار 43: 129 ح 32. (2) المناقب للخوارزمي: 349 ح 364، عنه كشف الغمة 1: 368، البحار 43: 130 ح 32. (3) تفسير روض الجنان 14: 258 / سورة الفرقان. (4) قرب الإسناد: 173 ح 634، عنه البحار 43: 105 ح 20، والعوالم 11: 458 ح 24، والتهذيب 7: 364 ح 40. (*)

[ 256 ]

لكونها تحطم السيوف أي تكسرها، أو انها كما قيل الدرع العريضة الثقيلة، وقيل: هي منسوبة إلى بطن من عبد القيس يقال له حطمة بن محارب، كانوا يعملون الدروع. وفي رواية اخرى أن صداقها كان درعا حطمية، واهاب كبش أو جدي، كانا يفرشانه وينامان عليه (1)، وفي بعضها ان مهرها كان برد جرد واهاب شاة (2)، وفي الرواية المشهورة أن صداقها كان خمسمائة درهم، وعليه ما ورد في خبر تزويج أبي جعفر الثاني أنه قال: إن محمد بن علي بن موسى يخطب ام الفضل بنت عبد الله المأمون، وبذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة (عليهما السلام)، وهو خمسمائة درهم جياد (3). وهو الأصح المشهور، وهو يومئذ خمسون دينارا من حيث القيمة، إذ كان كل درهم يومئذ عشر المثقال الشرعي الذي هو الدينار الشائع في هذه الأزمنة، ولعل هذا المبلغ كان قيمة الدرع المذكورة في أكثر الأخبار المأثورة، والظاهر دخول الدرع في الصداق على أي تقدير كان، سواء كانت وحدها أو مع شئ آخر، والإختلافات في القدر إنما هي بملاحظة حالة القيمة. هذا كله هو حال المهر بحسب الظاهر، وأما في الباطن فورد أنه لما زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا فاطمة دخل عليها وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك ؟ فوالله لو كان في أهل بيتي خير منه زوجتك إياه، وما أنا زوجتك ولكن الله زوجك وأصدق عنك الخمس ما دامت السماوات والأرض (4). وفي رواية اخرى: ان الله أصدقها طوبى وهي شجرة في بيت علي (عليه السلام) (5)، وفي خبر آخر: إن مهر فاطمة شجرة طوبى والخمس إلى يوم


(1) الكافي 5: 377 ح 4، عنه البحار 43: 144 ح 42، والوسائل 15: 10 ح 6. (2) نحوه المناقب لابن شهرآشوب 3: 351، عنه البحار 43: 113 ح 24. (3) إرشاد المفيد: 359، عنه البحار 50: 76، والعوالم 11: 460 ح 30. (4) الكافي 5: 378 ح 6، عنه البحار 43: 144 ح 43، والعوالم 11: 459 ح 29. (5) أمالي الصدوق: 236 ح 3 مجلس 48، عنه البحار 43: 98 ح 10، والعوالم 11: 433 ح 60. (*)

[ 257 ]

القيامة، وفي الخبر الآحر: ان مهرها في السماء خمس الأرض (1)، وفي رواية اخرى: تمام الأرض، فمن مشى عليها مغضبا لها ولولدها، مشى عليها حراما إلى أن تقوم الساعة (2). وفي رواية طويلة عن الباقر (عليه السلام): إن جبرئيل لما نزل بالوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في تزويج فاطمة، فقال في جملة ما أوحى به من قول الله تعالى: إني جعلت نحلتها من علي خمس الدنيا ما دامت السماوات والأرض، وثلث الجنة، وجعلت لها في الأرض أربعة أنهار: الفرات، ونيل مصر، ونهروان، ونهر بلخ، فزوجها أنت يا محمد بخمسمائة درهم تكون سنة لامتك (3). وفي خبر آخر أنه قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) عند تزويج فاطمة: يا علي زوجت فاطمة إبنتي منك بأمر الله تعالى على صداق خمس الأرض وأربعمائة وثمانين درهما، الآجل خمس الأرض، والعاجل أربعمائة وثمانون درهما (4). وفي بعض الروايات أن الله أمهرها ربع الدنيا فربعها لها، وأمهرها الجنة والنار تدخل أعداءها النار وأولياءها الجنة، وهي الصديقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى (5). وبالجملة فلما تفرق مجلس المعاقدة، وانصرف الطوائف المجتمعة، قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): يا أبا الحسن انطلق الآن فبع درعك وأتني بثمنها حتى اهيئ لك ولابنتي فاطمة ما يصلحكما.


(1) المناقب لابن شهرآشوب 3: 351، عنه البحار 43: 113 ح 24. (2) المناقب للخوارزمي: 328 ح 345، والمناقب لابن شهرآشوب 3: 351، والفردوس 5: 409 ح 8316، وفرائد السمطين 1: 94 ح 64، ينابيع المودة 2: 335 ح 975، والبحار 43: 141 ح 37. (3) المناقب لابن شهرآشوب 3: 351، عنه البحار 43: 113 ح 24، والعوالم 11: 460 ح 31. (4) المناقب لابن شهرآشوب 3: 352، عنه البحار 43: 113 ح 24، والعوالم 11: 461 ح 31. (5) أمالي الطوسي: 688 ح 1399، عنه البحار 43: 105 ح 19، نحوه المناقب لابن شهرآشوب 3: 352. (*)

[ 258 ]

فذهب علي (عليه السلام) إلى السوق ليبيعها، فلقيه عثمان بن عفان فاطلع على الحال، فساومه عليها فباعها علي (عليه السلام) منه بأربعمائة درهم سود هجرية، وأخذ الدراهم منه وأعطاه الدرع، فلما استقرت الدرع في يد عثمان وأراد علي (عليه السلام) أن يرجع قال عثمان: يا أبا الحسن لست أولى منك بالدرع وأنت أولى مني بالدراهم، فقال علي (عليه السلام): بلى يا عثمان، فقال عثمان لعلي (عليه السلام): الدراهم لك والدرع هدية مني إليك. فأخذ علي (عليه السلام) الدرع والدراهم ورجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فطرح الدرع والدراهم بين يديه، وأخبره بما كان من عثمان في بيع الدرع وردها عليه (1). وفي رواية اخرى: إن عليا (عليه السلام) لما أخذ الدرع إلى السوق ليبيعها على ما أمر به النبي (صلى الله عليه وآله) لقيه شخص أعرابي، فقال: يا علي تبيع الدرع ؟ فقال: نعم، قال: هذه درع ثمينة ؟ فقال: نعم، قال: بكم ؟ قال: بخمسمائة درهم، فأخرج الأعرابي من كمه خمسمائة درهم وأعطاها عليا (عليه السلام) وأخذ الدرع وذهب. فلما جاء علي بالدراهم وطرحها بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا علي ممن بعت الدرع ؟ قال: لأعرابي لم أعرفه، قال (صلى الله عليه وآله): لم يكن هو أعرابيا وإنما كان هو جبرئيل، وقد أتى بالدرع إلي قبلك فها هي درعك، وهذا من فضل الله عليك (2). وبالجمة فلما سبك (3) الدراهم بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) - وعلى الرواية الاخرى: في حجره - قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) منها قبضة وأعطاها بلالا وقال: إبتع بها لفاطمة طيبا، وروي أنه (صلى الله عليه وآله) أعطى


(1) المناقب للخوارزمي: 349 ح 364، عنه كشف الغمة 1: 368، البحار 43: 129 ح 32. (2) تفسير روض الجنان 14: 258 / سورة الفرقان. (3) أي أفرغها. (*)

[ 259 ]

هذه القبضة لام أيمن أو لأسماء بنت عميس، وأعطى قبضة اخرى لأم سلمة لتشتري بعض ما يصلح للمرأة، وقبض قبضتين أعطاهما أبا بكر وقال: إبتع لفاطمة ما يصلحها من الثياب وأثاث البيت وغيرها، وأردفه بسلمان وعمار بن ياسر وبعدة من أصحابه، قال أبو بكر: وكان الدراهم التي أعطانيها النبي (صلى الله عليه وآله) في هذه المصلحة ثلاثة وستين درهما، أو تسعة وستين. فحضروا السوق واشتروا ما امروا به، فكان مما اشتروه قميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبرية، وسرير مزمل بشريط، وفراشين من خيش مصر حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من جز (1) الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها إذخر (2)، وستر من صوف، وحصير هجري، ورحاء لليد، ومخضب من نحاس، وسقاء من أدم، وقعب للبن، وشن للماء، ومطهرة مزفتة، وجرة خضراء، وكيزان خزف، ونطع من أدم، وعباء قطواني (3). فحمل أبو بكر بعض المتاع وسائر الأصحاب البعض الآخر، فجاؤوا بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو في حجرة ام سلمة، فلما وضع الأمتعة عنده فجعل يقلب المتاع بيده ويقول: بارك الله لأهل البيت فيه، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم بارك لأقوام جل آنيتهم الخزف، اللهم بارك لآل محمد في جهازهم، وسلم (صلى الله عليه وآله) ما بقي من الدراهم لام سلمة وقال: احفظيها لأمر زفاف علي وفاطمة (4). قال علي (عليه السلام): فأقمت بعد ذلك شهرا اصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأرجع إلى منزلي، ولا أذكر شيئا من أمر فاطمة استحياء من


(1) الجزز: الصوف لم يستعمل بعدما جز / لسان العرب. (2) الإذخر: حشيش طيب الريح أطول من الثيل ينبت على نبتة الكولان، واحدتها إذخرة، وهي شجرة صغيرة / لسان العرب. (3) أمالي الطوسي: 40 ح 45، عنه البحار 43: 94 ح 5. (4) تفسير روض الجنان 14: 259 / سورة الفرقان. (*)

[ 260 ]

رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع غاية شوقي عليها، واشتغال قلبي بها، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلما لقيني قال: زوجتك خير النساء، ونعم الزوجة زوجتك. وكنت كذلك إلى أن قال لي أخي عقيل وغيره: ألا تطلب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخول فاطمة عليك لتقر عيوننا باجتماع شملكما ؟ فقلت: استحيي أن اواجه بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أعلم بالحال، إلى أن قلن لي أزواج رسول الله مثل ذلك فأجبت بمثل الجواب، فقلن: نحن نطلب ذلك لك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلت: افعلن. فدخلن عليه، فقالت ام أيمن وام سلمة: يا رسول الله أقر عين فاطمة ببعلها، واجمع شملهما، وقر عيوننا بذلك. وفي رواية اخرى: إن النبي (صلى الله عليه وآله) لما رأى اجتماع النساء عنده قال: لم إجتمعتن ؟ قلن: لأمر لو كانت خديجة في حال الحياة لقرت عينها بذلك، فلما سمع النبي (صلى الله عليه وآله) إسم خديجة قال: وأين مثل خديجة ؟ ! صدقتني مع تكذيب الناس لي، وآنستني عند استيحاش الناس مني، وقوتني على دين الله، وواستني في سبيل الله، وساعدتني بأموالها، وأسرتني بأحوالها، وأوحى الله إلي أن ابشرها بدار لها في الجنة من الزمرد الأخضر، واخرى من قصب كعابها من الذهب، ليس فيها تعب ولا نصب. فقالت النساء: يا رسول الله كانت خديجة أفضل مما ذكرت، وأجمل مما وصفت، إلا أنها اختارت جوار رحمة ربها، فحشرنا الله تعالى معها، يا رسول الله ان عليا أخاك وابن عمك يريد أن تجمع شمله بفاطمة ابنتك. قال (صلى الله عليه وآله): فما بال علي لا يطلب هو مني زوجته، فقد كنا نتوقع منه هذه المسألة ؟ قلن: يا رسول الله الحياء يمنعه من ذلك، فقال (صلى الله عليه وآله): يا ام أيمن ادعي لي عليا، فدعته وهو مترصد للجواب وأ نه


[ 261 ]

ما يقول النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا الباب (1). فأتت ام أيمن بالخبر، فجاء علي (عليه السلام) على الأثر، فسلم عليه وجلس بين يديه، وهو مطرق من الحياء غير رافع رأسه إلى السماء، فقال (صلى الله عليه وآله): يا علي أتريد أن أعطيك زوجتك ؟ قال: بلى يا رسول الله حبا وكرامة، فقال: فما منعك عن طلب ذلك ؟ فقال علي (عليه السلام): الحياء يا رسول الله. فالتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى النساء وقال: هيئن لابنتي وابن عمي بيتا في حجري، فقالت ام سلمة: في أي حجرة يا رسول الله ؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): في حجرتك يا ام سلمة. وأمر النساء أن يزين ويصلحن من شأن فاطمة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لام سلمة: ايتيني بالدراهم التي أعطيتكها لأمر علي وفاطمة فجاءت بها، فقبض النبي (صلى الله عليه وآله) قبضة منها وأعطاها عليا وقال: إشتر بها سمنا وزيتا، واصنع لأهلك طعاما فاضلا، فعليك السمن والتمر ومن عندنا اللحم والخبز، وأعطى (صلى الله عليه وآله) قبضة منها لعمر وقال: إشتر بها طيبا وألبسة. فذهبا الى السوق للشراء، فاشتريا وأتيا بما امرا، وأمر هو من عنده بكبش سمين وخبز كثير، فأمر عليا (عليه السلام) بذبح الكبش واشتغل بشدخ (2) التمر في السمن لاتخاذ الحيس (3) حتى حضر الطعام، فأمر بدعوة الناس للاطعام (4). فصل: [ مجئ الأصحاب بالتحف والهدايا ] وروي في رواية طويلة أنه أتى الأصحاب حينئذ أيضا بتحف وهدايا كثيرة،


(1) تفسير روض الجنان 14: 260 / سورة الفرقان. (2) الشدخ: الكسر في كل شئ رطب / لسان العرب. (3) الحيس: الأقط يخلط بالتمر والسمن / لسان العرب. (4) البحار 43: 131 ح 32. (*)

[ 262 ]

فجاء سعد بن معاذ بإبل وبقر وعشرة أغنام، وسعد الربيع بإبل وعشرة أغنام، وسعد [ بن خيثمة ] (1) بإبلين، وأبو أيوب الأنصاري بغنم ومائة رطل تمر، وخارجة بنت زيد بإبل وبقر وأربعة أغنام، وعبد الرحمن بن عوف بخمسمائة رطل من التمر، وعشرين غنما، وأرطال من السمن (2). وجاء كل من الصحابة بشئ من التحف والهدايا إلى أن اجتمع هدايا كثيرة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يقبل الهدية، ويعطي في مقابلها عوضا، ويرد الصدقة. فأمر (صلى الله عليه وآله) بطحن البر والخبز بقدر ما يكفي للأمر، فاشتغل الأصحاب باصلاح الأمور من كل باب، وأمر عليا بنحر الإبل وذبح البقر والغنم، فكان (عليه السلام) يذبح ويسلخ وينحر، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يفصل ويقطع، فلم يسفر الصبح إلا وقد فرغا من عمل اللحم، ولم ير على يده أثر الدم (3). وقال (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: أعينونا بأبدانكم وساعدونا بأعمالكم، فوضعوا القدور والجوابي، وأحضروا الظروف والأواني، ولما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) جدهم واجتهادهم في الفعل والعمل قال: اللهم أعنهم على طاعتك، ولا تؤيسهم من رحمتك، ولا تخلهم من فضلك، فلما فرغوا من الطبخ وتهيئة الأمر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي ادع إلى الوليمة من أحببت من أهل المدينة (4). وفي رواية اخرى: ادع جملة المهاجرين والأنصار، ولا تدع أحدا من الكبار والصغار، فقال علي (عليه السلام): إن القوم متفرقون في البساتين والبراري والقفار والصحاري، فقال (صلى الله عليه وآله): إصعد على السطح أو موضع عال


(1) أثبتناه من تفسير روض الجنان، وفي المتن كلمة غير مفهومة. (2) تفسير روض الجنان 14: 261 / سورة الفرقان. (3) تفسير روض الجنان 14: 261 / سورة الفرقان. (4) تفسير روض الجنان 14: 262 / سورة الفرقان. (*)

[ 263 ]

وناد: أيها الناس أجيبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإن الله تعالى يوصل بذلك لكل أحد من الفريقين، ولو كان بينك وبينه بعد المشرقين لكرامتي على الله رب العالمين، كما بلغ نداء إبراهيم (عليه السلام) بالحج لكل أحد من الأولين والآخرين في قوله تعالى: * (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا...) * (1) الآية، ففعل علي كذلك، فأجاب جميع الناس بقولهم: لبيك يا داعي رسول الله وسعديك (2). وفي رواية اخرى أنه (صلى الله عليه وآله) لما أمر عليا (عليه السلام) بدعوة الناس إلى وليمة فاطمة، أتى علي (عليه السلام) إلى المسجد وهو مشحون بالصحابة، فاستحيى أن يدعو قوما ويدع قوما، فصعد على ربوة هناك ونادى: أجيبوا وليمة فاطمة. فأقبل الناس إرسالا من النخلات والزروع، فبسط في المسجد النطوع، واجتمع الناس من كل جانب، وازدحموا من الأطراف والجوانب، كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي. فاستحيى علي (عليه السلام) من كثرة الناس وقلة الطعام، فعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما واصله فقال: يا علي سأدعو الله بالبركة، فأكل القوم عن آخرهم وشربوا ودعوا بالبركة وصدروا، وهم أكثر من أربعة الآف، ولم ينقص شئ من الطعام. ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالصحاف فملئت بأمره، ووجهت إلى منازل أزواجه ومنزل فاطمة، وكل من أراد أن يأخذ شيئا من طعام الوليمة أخذه، وبقي طعام كثير من بركة دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم عادوا مرة ثانية فأكلوا باقي الطعام (3). ولم يبق هناك شئ من تحف الأصحاب الكرام من الإبل والبقر والأغنام إلا


(1) الحج: 27. (2) المصدر نفسه. (3) البحار 43: 95 ح 5. (*)

[ 264 ]

غنم لأبي أيوب الأنصاري حيث لم يذبح ولم يطعم، فقال: يا رسول الله ما بال هذا الغنم هل هو مبغوض عند الله، أو مستحقر عند رسول الله، أو أن لحمه حرام فلم يصرف في الإطعام، فوالله لم يكن لي غيره وإلا لفديت به ؟ ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أبا أيوب ان عليا أراد أن يذبحه فنزل جبرئيل فقال: لا تذبحه فإن له شأنا البتة، ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله) يزيد بن جبير الأنصاري أن يذبحه ويسلخه، ويفصل لحمه ويطبخه دون أن يكسر عظمه، ففعل كذلك فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بنداء الأصحاب مرة ثالثة، فاجتمعوا جملة فأكلوا وشبعوا قاطبة، ثم جمع (صلى الله عليه وآله) عظامه في جلده ودعا الله تعالى باحيائه، فقام الغنم حيا. ونزل جبرئيل وقال: إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول: " لو أردت مني أن ازيل عن محله جميع الدنيا شرقا وغربا، وسهلا وجبلا، وبرا وبحرا لفعلت، ولو أردت أن اعيد جميع ما مضى من الأولين لفعلت، من جهة بركة الأسماء الكريمة التي بها دعوت ". فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إن الله أحيى هذا الغنم لأرده إلى أبي أيوب حيث أنه فقير لا مال له، وقال له: يا أبا أيوب انظر أنه هل هو غنمك أو غيره ؟ فتأمل أبو أيوب فقال: هو هو بلا تغيير بالمرة، لأنه كان إحدى عينيه سوداء والاخرى زرقاء وها هو كذلك. وأعطاه الله تعالى له من نسله الخير والبركة، وجعل في لبنه شفاء الأمراض المعضلة بحيث لم يأكل منه مريض إلا برئ، فزاد يقين المسلمين من جهة هذه المعجزة، وأهل المدينة سموا هذا الغنم بالمبعوثة، وأنشأ عبد الرحمن بن عوف في هذا المعنى أبياتا هي هذه: عجبت لأمر الله والله قادر * على ما يشاء من خلق ويريد ولا عجب من أمر ربي وإنما * عجبت لمرء في الضلال يبيد ومن قد ثوى في قلبه الكفر والعمى * وقارنه الشيطان وهو شريد


[ 265 ]

ألم يبصروا شاة ابن زيد وحالها * وفي أمرها للطالبين مزيد ألا يرجعوا عن كفرهم وضلالهم * وقد جاءهم من ذي الجلال رشيد وقد ذبحت ثم استجر اهابها * وفصلها فيها هناك يزيد وأنضج منها اللحم والعظم والكلى * فهلهله بالنار وهو هريد (1) وجمعنا حتى نحونا لأكله * وعرق (2) منها العظم وهو جريد أتى باهاب الشاة والعظم أجرد * ونحن لها فيما هناك شهود فجلله بالرد ثم دعا به * ولم يك من رب السماء بعيد فأحيى له ذو العرش والله قادر * فعادت بحال ما يشاء يعود فسأل عثمان عن الدعاء الذي دعا به لاحياء الغنم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني قلت: " إلهي أنت خلقتها، وأنت أفنيتها، وأنت قادر على إعادتها، فأحيها يا حي يا قيوم، يا لا إله إلا أنت " (3). فلما تفرق القوم وانصرفت الشمس للغروب، أمر النبي (صلى الله عليه وآله) ام سلمة، وام أيمن، وسودة، وحفصة، ونساء المهاجرين والأنصار، أن يقمن بإصلاح شأن فاطمة وتزيينها بما تزين به النساء. قالت ام أيمن وعائشة وغيرهما: فإذا أردنا أن نزين فاطمة رأينا نورا ساطعا من بين عينيها كالشمس الساطعة، وجمالا وحسنا لم نر لأحد من النساء مثله، فأخذنا في تزيينها وألبسناها ثياب خديجة امها، وطيبناها بالطيب الذي اشتريناه من السوق لها، فقالت: إن لي طيبا أحسن من هذا فمهلا حتى أجئ به، فلما جاءت به فإذا هو ماء ورد لم نر في الدنيا مثله. قالت ام سلمة: يا بنت رسول الله مم هذا الطيب ؟ قالت: من عرق أبي


(1) هردت اللحم أهرده - بالكسر - هردا: طبخته حتى تهرأ وتفسخ، فهو مهرد. / لسان العرب. (2) العرق - بالسكون -: العظم إذا اخذ عنه معظم اللحم / لسان العرب. (3) تفسير روض الجنان 14: 263 إلى 265 / سورة الفرقان، نحوه باختصار المناقب لابن شهرآشوب 1: 131 / في إعجازه، عنه البحار 43: 20 ح 46. (*)

[ 266 ]

رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كنت آخذه وأحفظه حين كان يجئ في وقت الحر وينام ويعرق من جهة الحرارة، وجاءت معه بشئ آخر أبيض أطيب من المسك الأذفر، فسألت عنه فقالت: كان يجئ إلى أبي أحيانا رجل يقال له: " دحية الكلبي " فإذا قام وذهب كان يسقط منه هذا الزغب، فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك فقال: يا بنيتي إنما كان هو جبرئيل، وطوبى لك حيث أن طيبك كان من زغب جبرئيل روح الأمين، وعرق أبيك سيد المرسلين (1). فلما صار وقت صلاة المغرب ذهب علي (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وهو كان في المسجد يستغفر ويسبح، فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا علي تهيأ فإن أهلك تجئ إليك هذه الليلة، فراح علي (عليه السلام) إلى الحجرة المهيئة له، فأتى برمل لين ففرشه، وأخذ خشبا فوضعه من الجدار إلى الجدار الآخر ليلقي عليه الثياب قبال الباب، وفرش جلد شاة، ووضع مخدة من ليف. ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بنقل جهاز فاطمة (عليها السلام) إلى دار علي، وأمر أسماء بنت عميس فأخبرت بنات عبد المطلب ونساء قريش وسائر الأنصار والمهاجرين أن يحضرن هذه الليلة لزفاف فاطمة بنت سيد المرسلين. فجاء النبي (صلى الله عليه وآله) بعد العتمة وأمر ام سلمة أن تأتي إليه بفاطمة محلاة بحلي أمها خديجة، وقال للنساء: سرن مع فاطمة إلى بيت علي، وأمرهن باظهار السرور والإبتهاج والفرح والإرتجاز بلا فحش وكذب، مكبرات ومهللات ومحمدات، ونزلت سبعون حورية أحاطوا بفاطمة قائلات: " لا إله إلا الله، ما أكرم محمدا وأهل بيته على الله ". وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله) فأتي ببغلته الدلدل أو الشهباء، وثنى عليها قطيفة فأخرج فاطمة إلى باب الحجرة،


(1) تفسير روض الجنان: 14: 265 - 266 / سورة الفرقان. (*)

[ 267 ]

فأركبها على البغلة، وقد أمسك جبرئيل بلجام الدابة، وإسرافيل بالركاب، وميكائيل بالثفر (1)، وسوى عليها الثياب. وأمر سلمان أن يقودها والنبي كان بنفسه يسوقها، وحولها حور الجنة، وخلفها سبعون ألف ملك يسبحون الله ويقدسونه، ومع النبي (صلى الله عليه وآله) جعفر وعقيل وحمزة شاهرين سيوفهم حوله، وجبرئيل في سبعين ألف من الملائكة قدامها، وإسرافيل مع سبعين ألفا عن يمينها، وميكائيل كذلك عن يسارها، فكبر جبرئيل وميكائيل حينئذ وكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضا، فجرت في العرائس تلك السنة. وأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بنات عبد المطلب، ونساء الأنصار والمهاجرين أن يمضين في صحبة فاطمة، وأن يفرحن ويرجزن ويكبرن ويحمدن، ولا يقولن مالا يرضى الله سبحانه، وكانت النساء تمشي قدامها، فأنشأت ام سلمة قولها: سرن بحول الله جاراتي * واشكرنه في كل حالات واذكرن ما أنعم رب العلى * من كشف مكروه وآفات فقد هدانا بعد كفر وقد * أنعشنا رب السماوات وسرن مع خير نساء الورى * تفدى بعمات وخالات يا بنت من فضله ذو العلى * بالوحي منه والرسالات ثم قالت عائشة: يا نسوة استرن بالمعاجر (2) * واذكرن ما يحسن في المحاضر واذكرن رب الناس أو يخصنا * بدينه مع كل عبد شاكر والحمد لله على إفضاله * والشكر لله العزيز القادر


(1) الثفر: السير الذي في مؤخر السرج. / لسان العرب. (2) المعجر والعجار: ثوب تلفه المرأة على استدارة رأسها ثم تجلبب فوقه بجلبابها، والجمع المعاجر. / لسان العرب. (*)

[ 268 ]

سرن تهادين كذا بفاطمة * بنت النبي ذي الكمال الفاخر سرن بها تستر في ثيابها * وحسنها مع الجمال الزاهر سرن بها فالله أعلى ذكرها * وخصها منه بطهر طاهر ثم قالت حفصة: فاطمة خير نساء البشر * ومن لها وجه كوجه القمر فضلك الله على كل الورى * بفضل من خص بآي الزمر زوجك الله فتيا فاضلا * أعني عليا خير من في الحضر فسرن جاراتي بها فإنها * كريمة بنت عظيم الخطر أعني النبي المصطفى أحمدا * أكرم مبعوث أتى بالسور ثم قالت معاذة ام سعد بن معاذ: أقول قولا فيه ما فيه * وأذكر الخير وابديه محمد خير بني آدم * ما فيه من كبر ولاتيه بفضله عرفنا رشدنا * فالله بالخير يجازيه والشكر لله وسبحانه * على جزيلات أياديه نحن الذين اختارنا ربنا * من بين ذي الخلق بواليه وينصر الدين بأسيافنا * ويقمع الكفر ويخزيه صويحباتي فاستمعن قولا * أقوله والله يرضيه وأرتجي العز بافضاله * من خالق الخلق ومنشيه ونحن مع بنت النبي الهدى * ذي شرف قد مكنت فيه في ذروة شامخة أصلها * فما أرى شيئا يدانيه (1) وكانت النسوة يرجعن أول بيت من كل رجز، ثم يكبرن حتى دخلن الدار، ودخل النبي (صلى الله عليه وآله) في حجرة اخرى، فأرسل إلى علي


(1) تفسير روض الجنان 14: 267 - 269 / سورة الفرقان، نحوه المناقب لابن شهرآشوب 3: 354، عنه البحار 43: 115، والعوالم 11: 392. (*)

[ 269 ]

(عليه السلام) وهو في المسجد، فجاء علي (عليه السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو مطرق من جهة الحياء رأسه. فأجلسه رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن يمينه، وأمر ام سلمة أو ام أيمن أن تأتي بفاطمة إليه، فلما أتت إليها قالت فاطمة: من عند أبي ؟ قالت: علي بن أبي طالب، فبكت إستحياء وقالت: واسوأتاه، كيف أحضر عند أبي ومعه رجل غيره ؟ ! قالت ام سلمة: جعلت فداك ليس هو بأجنبي منك، بل هو ابن عمك وزوجك وأقرب الناس سببا ونسبا إليك. فلما أتت بها إليه، وهي تسحب أذيالها، وقد تصببت عرقا استحياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فعثرت فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): أقالك الله العثرة في الدنيا والآخرة، فلما وقفت بين يديه أجلسها عن يساره، وكشف الرداء عن وجهها حتى رآها علي (عليه السلام)، فقال (صلى الله عليه وآله): يا علي بارك الله لك في ابنة رسول الله، نعم الزوجة فاطمة، ويا فاطمة نعم البعل علي. وكانت فاطمة (عليها السلام) حينئذ تبكي، فقال (صلى الله عليه وآله): يا بنيتي ليس هذا أوان البكاء بل أوان السرور والإبتهاج، فأخذ بيد فاطمة وجعلها في يد علي وقال: خذها فإنك أحق بها، نعم الختن، ونعم الأخ، ونعم الصاحب أنت. ثم قال: مرحبا ببحرين يلتقيان ونجمين يقترنان (1)، اللهم اجمع شملهما، وألف بين قلوبهما، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم، وارزقهما ذرية طيبة طاهرة مباركة، واجعل في ذريتهما البركة، ثم قال لفاطمة: كوني خادمة لعلي حتى يكون علي خادما لك (2)، ثم قال لعلي (عليه السلام): نعم الزوجة زوجتك، وقال لفاطمة (عليها السلام): نعم البعل بعلك.


(1) تفسير روض الجنان 14: 269 - 270 / سورة الفرقان. (2) تفسير روض الجنان 14: 270 / سورة الفرقان. (*)

[ 270 ]

ثم قال: بارك الله لكما بالسعادة، وجعل من نسلكما أولادا طيبة كثيرة، ثم قال لهما: إنطلقا إلى منزلكما ولا تحدثا شيئا حتى آتيكما. فانطلقا ودخلا الدار، فجلسا فيها منتظرين لقدوم النبي المختار حتى دخل عليهما رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأجلس فاطمة عن جانبه وتلطف بها، ثم أمرها بماء فقامت إلى قعب في البيت فملأته ماء ثم أتته به، فأمر (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) أن يشرب نصفه، فشرب فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) جرعة من النصف الآخر فتمضمض بها، ثم مجها في القعب ثم صب منها على رأسها، ثم قال: أقبلي، فنضح منه بين ثدييها، ثم قال: أدبري، فنضح منه بين كتفيها، ثم قال: اللهم هذه ابنتي وأحب الخلق إلي، وهذا أخي وأحب الخلق إلي، اللهم اجعله لك وليا، وبك حفيا، وبارك له في أهله. وروي أنه (صلى الله عليه وآله) أخذ في فيه ماء ودعا فاطمة وأجلسها بين يديه، ثم مج الماء في المخضب - وهو المركن - وغسل قدميه ووجهه، ثم أخذ كفا من ماء فضرب به على رأسها، وكفا اخرى ضرب بين ثدييها، ثم رش على جلدها الباقي من الماء، ثم دعا بمخضب آخر فدعا عليا (عليه السلام)، فصنع به كما صنع بها، ثم التزمهما فقال: اللهم انهما مني وأنا منهما، اللهم كما أذهبت عني الرجس وطهرتني تطهيرا، فأذهب عنهم وطهرهم تطهيرا (1). وروي في كتاب ابن مردويه: اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في شبليهما (2). وروي أنه قال أيضا: اللهم انهما أحب خلقك إلي فأحبهما، وبارك في ذريتهما، واجعل عليهما منك حافظا، واني اعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم (3).


(1) البحار 43: 141 ح 37 نحوه. (2) راجع المناقب لابن شهرآشوب 3: 355 عنه البحار 43: 116 ح 24. (3) المناقب لابن شهرآشوب 3: 355، عنه البحار 43: 117 ح 24. (*)

[ 271 ]

وروي أنه دعا لها وقال: أذهب الله عنك الرجس وطهرك تطهيرا، ثم دعا له (عليه السلام) بمثله، ثم قال: يا علي أنت وأهلك بارك الله لك، ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت انه حميد مجيد. وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما زوج فاطمة وزف بها، قالوا في الدعاء لهما: بالرفاء والبنين، قال (صلى الله عليه وآله): لا بل على الخير والبركة (1). قيل: مقصود النبي (صلى الله عليه وآله) النهي عن هذا الدعاء لأنه كان دعاء أهل الجاهلية، والرفاء هو الإلتئام والاتفاق. ثم وثب (صلى الله عليه وآله) ليخرج تعلقت به فاطمة وبكت، فقال (صلى الله عليه وآله): ما يبكيك يا فاطمة ؟ قالت: إن نساء قريش تعيرني بأن أباك زوجك رجلا فقيرا لا مال له، قال (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة أما ترضين عني فقد زوجتك أقدم الناس إسلاما، وأعظمهم حلما، وأكثرهم علما، وان عليا كفو شريف، وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين، فقالت: رضيت بما رضى الله به ورسوله. ثم خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وطبق باب الحجرة، وأخذ بعضادته وقال: طهركما الله وطهر نسلكما، أنا سلم لمن سالمكما، وحرب لمن حاربكما، وأمر النساء المجتمعات بالرجوع وقال لهن: إرجعن رحمكن الله. فتفرقت النساء إلا واحدة منهن فأقامت هناك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أنت ولم وقفت هناك ؟ قالت: أنا أسماء بنت عميس، واريد أن أعمل بوصية خديجة، فقال (صلى الله عليه وآله): ما هي ؟ قالت: كنت يوما عند خديجة وعندها فاطمة فنظرت إليها وبكت، فقلت: لم تبكين وقد أعطاك الله ما لم يعط غيرك ؟ قالت: كذلك وأشكره على ذلك، لكني أخاف أن أموت وتبقى فاطمة منفردة بلا رحم يأنسها، ولا يكون لها عند تزويجها من يتعهد حالها ويؤنسها.


(1) الكافي 5: 568 ح 52، عنه البحار 43: 144 ح 46. (*)

[ 272 ]

ثم قالت: وأنا اوصيك وأعزم عليك بالله سبحانه لو كنت في حال الحياة أن تكوني عندها في تلك الحالة ولا تتركيها وحيدة، وقبلت تلك الوصية منها فاريد أن أعمل بها ولا اخالفها، فبكى النبي (صلى الله عليه وآله) ودعا لها وقال: اللهم استر أسماء واحفظها في ليلها ونهارها، واسترها في دنياها وآخرتها، واقض لها حاجاتها، ثم قال: يا أسماء نعم الرأي رأيك، فكوني معها ثلاثة أيام أو سبعة (1). فلما ذهب النبي (صلى الله عليه وآله) أخمدت فاطمة (عليها السلام) المصباح في البيت حياء، إلا أن نور وجهها يكاد يخطف الأبصار، فأضاء منه الدار، قال علي (عليه السلام): فلما نظرت إلى وجه فاطمة أخذتني هيبة عظيمة من جهة كونها أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) في الشمائل الحسنة، والكلام والإشارة، فذهبت إلى زاوية البيت وجلست ساعة، ثم قلت: يا بنت رسول الله إن لي ورد صلاة اريد أن اءديها، قالت فاطمة: عليك بها، فقامت هي أيضا ووقفت في عقبي تصلي معي حتى طلع الصبح، فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) ودق الباب وقال: السلام عليكم أهل البيت، أءدخل رحمكم الله ؟ ! (2). قالت أسماء: ففتحت الباب وكانت غداة قرة، وهما مجتمعان من جهة قر السحر تحت العباءة، وكان فراش علي وفاطمة حين دخلت عليه اهاب كبش إذا أرادا أن يناما عليه قلباه فناما على صوفه، وكانت وسادتها أدما حشوه ليف، وكان سترهما عباءة، فأرادا أن يقوما ويفترقا، فأقسم عليهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكونا كما كانا، فجاء وجلس بينهما ومد رجليه على فراشهما، فأخذ بإحداهما علي وبالاخرى فاطمة فضماهما إليهما حتى دفئتا. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي كيف وجدت أهلك ؟ قال: نعم العون على طاعة الله، وقال لفاطمة مثل ذلك فأجابت كذلك، ثم قال: يا علي جئني بكوز من الماء، فلما أتى به قرأ النبي (صلى الله عليه وآله) آيا من القرآن الكريم


(1) تفسير روض الجنان 14: 270 / سورة الفرقان. (2) تفسير روض الجنان 14: 271 / سورة الفرقان. (*)

[ 273 ]

عليه وقال لعلي (عليه السلام): اشرب بعضه وابق بعضه، ففعل كما امر، ثم رش النبي (صلى الله عليه وآله) البعض الباقي على وجه علي (عليه السلام) وصدره وقال: أذهب الله عنك الرجس وطهرك تطهيرا. ثم طلب شيئا من الماء مرة اخرى وقرأ عليه آيات من القرآن أيضا، فقال لفاطمة: اشربي بعضه وأبقي بعضه، ففعل (صلى الله عليه وآله) بباقيه كما فعل أول مرة، وقال لها ما قال له (1). ثم أمر بقدح من اللبن فقال لفاطمة: اشربي من هذا فداك أبوك، ثم قال لعلي: إشرب من هذا فداك ابن عمك، ودعا لهما بالخير والبركة، وقد ظن انهما كانا في تمام الليلة على تلك الهيئة الإجتماعية، فنزل جبرئيل بقوله تعالى: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع...) * (2) (3) الآية. ثم جاء النبي (صلى الله عليه وآله) في اليوم الثاني فرأى أن كلا منهما جالس في زاوية من البيت، فأخذ بيدهما وأجلسهما على نمط موروث من خديجة لفاطمة، وأمرهما بالإجتماع عند الجلسة والنومة، وقد كانت خديجة أحرزت لفاطمة جميع ما كان لها دون ابنتيها الآخريين: زينب زوجة أبي العاص بن الربيع، ورقية زوجة عتبة بن أبي لهب. ثم جاء الرسول إليهما في الليلة الثالثة فطبخا حسوا له فأكلا معه، ثم قام النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المسجد، وكان يصلي ويدعو لهما تمام الليلة، فلما طلع الصبح أتى إليهما وكانا تحت العباءة، فأرادا الفرقة قال: حالكما، فدخل وهما على حالهما، ثم أمر عليا بالخروج إلى المسجد ساعة، ففعل كما أمر، فسأل النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) عن بعلها، فقالت فاطمة: يا رسول الله خير بعل إلا ان نساء قريش تعيرني أن زوجك رسول الله رجلا فقيرا لا مال له،


(1) تفسير روض الجنان 14: 272 / سورة الفرقان، البحار 43: 133 ح 32. (2) السجدة: 16. (3) تفسير روض الجنان 14: 272 / سورة الفرقان. (*)

[ 274 ]

فسلاها النبي (صلى الله عليه وآله) ببعض فضائل علي (عليه السلام) التي مرت إلى ذكرها الإشارة وسيأتي بعضها. ثم دعا عليا (عليه السلام) وقال له: يا أبا الحسن لا أراك غدا إلا وقد بنيت بزوجتك، ثم قال لأسماء بنت عميس: جزاك الله خيرا ارجعي إلى بيتك، فرجعت ورجع النبي (صلى الله عليه وآله)، فخلى (عليه السلام) بفاطمة (1) بإذن رسول الله (صلى الله عليه وآله). ثم جاء النبي (صلى الله عليه وآله) إليهما في اليوم الرابع وقر عينه بهما، قالت فاطمة: يا أبة إذ أتو بي إلى هذا البيت في أول ليلة، رأيت هنا نساء لم أر في نساء الدنيا أحسن منهن، ولم يكن لهن مشابهة بهن، قال (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة كن هن من الحور العين، أرسلهن الله إلى عرسك كرامة لك ولبعلك. فهم (عليهم السلام) كانوا في مقام الإستيناس والصحبة بتلك المقالة وغيرها إذا أتى الخبر بان نساء قريش جاءت لتهنئة فاطمة (عليها السلام)، وهن محليات بحليهن وحللهن، فحزن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انهن يجئن إلى فاطمة فترى حليهن وحللهن فتخجل عندهن، ويشق عليها تلك الحالة، إذ نزل جبرئيل بحلة من الجنة قيمتها تزيد على الدنيا وما فيها بالكلية، فلبستها فاطمة فجلست، فلما جئن ورأين تلك الحلة قلن: أنى لك هذا يا فاطمة ؟ قالت: من عند الله سبحانه (2). هذا وما مر في أمر البوابة وغيرها من ذكر أسماء بنت عميس، فهو محل إشكال على ما ذكره الفاضل المجلسي (رحمه الله) (3)، وان الحق أن تكون هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاري لا بنت عميس، فإن أسماء بنت عميس كانت حينئذ مع زوجها جعفر بن أبي طالب بالحبشة، وقدم بها يوم فتح خيبر سنة


(1) في الاصل: لفاطمة. (2) تفسير روض الجنان 14: 275 / سورة الفرقان. (3) البحار 43: 134. (*)

[ 275 ]

سبع من الهجرة - كما يأتي ذكره - وكان زواج فاطمة (عليها السلام) بأيام يسيرة بعد وقعة بدر. وروي عن علي (عليه السلام) أنه قال: لما خرج النبي (صلى الله عليه وآله) من عندنا ليلة الزفاف مكث بعد ذلك ثلاثا لا يدخل علينا، فلما كان في صبيحة اليوم الرابع جاءنا ليدخل علينا، فصادف في حجرتنا البوابة، فقال لها: ما يقفك هنا ؟ قالت: إن الفتاة إذا زفت إلى زوجها تحتاج إلى امرأة تتعاهدها وتقوم بحوائجها، قال (صلى الله عليه وآله): قضى الله لك حوائج الدنيا والآخرة. قال علي (عليه السلام): وكانت غداة قرة وكنت أنا وفاطمة تحت العباء، فلما سمعنا كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع البوابة ذهبنا لنقوم، فقال (صلى الله عليه وآله) بحقي عليكما لا تفترقا حتى أدخل عليكما، فرجعنا إلى حالنا. فدخل (صلى الله عليه وآله) وجلس عند رؤوسنا، وأدخل رجليه فيما بيننا، وأخذت رجله اليمنى فضممتها إلى صدري، وأخذت فاطمة رجله اليسرى فضمتها إلى صدرها، وجعلنا ندفئ رجليه من القرحتى إذا دفئتا فطلب كوزا من ماء وقرأ عليه آيات من كتاب الله وقال لي: إشرب بعضه وابق بعضه، ففعلت فرش الباقي على رأسي وصدري، وقال: أذهب الله عنك الرجس يا أبا الحسن وطهرك تطهيرا. وأمرني بالخروج من البيت، وخلا بابنته وسأل عن حالها وزوجها، قالت: يا أبة خير زوج إلا أنه دخل علي نساء من قريش وقلن لي: زوجك رسول الله من رجل فقير لا مال له. فقال لها: يا بنية ما أبوك بفقير ولا بعلك بفقير، ولقد عرضت علي خزائن الأرض من الذهب والفضة فاخترت الفقر، يا بنيتي لو تعلمين ما علم أبوك لسمحت الدنيا في عينك، يا بنية ما ألوتك نصحا أن زوجتك أقدمهم إسلاما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما، يا بنية ان الله اطلع على الأرض اطلاعة فاختار


[ 276 ]

من أهلها رجلين، جعل أحدهما أباك والآخر بعلك، يا بنية نعم الزوج زوجك، لا تعصي له أمرا. ثم صاح بي رسول الله وقال: يا علي ادخل بيتك، وألطف بزوجتك، وأرفق بها فإن فاطمة بضعة مني، يؤلمني ما يؤلمها ويسرني ما يسرها. ثم قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) لينصرف قالت له فاطمة: إن أسماء خدمتني مدة وأنا أستحي منها، ولا طاقة لي أيضا بخدمة البيت، فأخدمني خادمة تخدمني وتعينني على أمر البيت، فقال (صلى الله عليه وآله) لها: يا فاطمة أولا تريدين خيرا من الخادم ؟ فقلت لها: قولي بلى، قالت: يا أبة خيرا من الخادم. قال: تسبحين الله في كل يوم ثلاثا وثلاثين مرة، وتحمدينه ثلاثا وثلاثين مرة، وتكبرينه أربعا وثلاثين مرة، فذلك مائة باللسان وألف حسنة في الميزان، يا فاطمة إنك إن قلتها صبيحة كل يوم كفاك الله ما أهمك من أمر الدنيا والآخرة (1). وفي رواية اخرى: إن طلبها الخادم من أبيها إنما كان بعد مدة مديدة، حيث جاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وقالت: يا أبة لا اطيق على أشغال البيت، فأعطني خادمة تعينني على الخدمة، فعلمها النبي (صلى الله عليه وآله) التسبيحة المذكورة وقالت: رضيت بذلك عن الله سبحانه ورسوله، ورجعت إلى بيتها وقالت لعلي (عليه السلام): ذهبت إلى أبي لخير الدنيا فأعطاني خير الدنيا والآخرة. فكانت فاطمة بعد ذلك تباشر بنفسها لمهمات البيت، فكلت يوما ونامت، فجاء علي إلى الباب ودقه فلم يجبه أحد، فنظر من شق الباب إلى البيت فإذا الرحى تدور بلا مدير لها، وتلق الحنطة عليها بلا ملق، والمهد يتحرك بلا محرك، فعجب من ذلك فحكى القصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا علي أما علمت ان لله في الأرض ملائكة موكلين بمعونة محمد وآل محمد (2).


(1) تفسير روض الجنان 14: 274 / سورة الفرقان، المناقب للخوارزمي: 352 ح 364، عنه كشف الغمة 1: 372، عنه البحار 43: 133 ح 32. (2) تفسير روض الجنان 14: 275 / سورة الفرقان. (*)

[ 277 ]

وورد أن عليا (عليه السلام) إقتسم أشغال البيت مع فاطمة (عليها السلام)، فكان علي يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة تطحن وتعجن وتخبز (1). وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله) رأى فاطمة يوما وعليها كساء من أجلة الابل، وهي تطحن بيدها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: يا رسول الله الحمد لله على نعمائه، وأشكره على آلائه، فأنزل الله تعالى: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * (2)، ثم أرسل إليها بعد مدة فضة الخادمة المشهورة لتخدمها (3). وروي أنه كان عند النبي (صلى الله عليه وآله) اسارى، وكانت فاطمة (عليها السلام) تشتكي إلى علي (عليه السلام) يديها مما تطحن بالرحى، فأمرها علي (عليه السلام) أن تطلب من النبي (صلى الله عليه وآله) خادمة، فدخلت على النبي (صلى الله عليه وآله) وذكرت حالها وسألت جارية، فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا فاطمة اني اريد أن لا ينفك عنك أجرك إلى الجارية، واني أخاف أن يخصمك علي بن أبي طالب يوم القيامة بين يدي الله عزوجل إذا طلب حقه منك، ثم علمها صلاة التسبيح، فقال علي (عليه السلام): مضيت تريدين من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الدنيا فأعطانا الله ثواب الآخرة. فلما خرجت فاطمة (عليها السلام) أنزل الله على رسوله: * (واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) * (4) يعني عن قرابتك وابنتك فاطمة " إبتغاء " يعني طلب " رحمة من ربك " يعني رزقا من ربك ترجوها " فقل لهم قولا ميسورا " يعني قولا حسنا، فلما نزلت هذه الآية أنفذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جارية إليها


(1) الكافي 5: 86 ح 1، عنه البحار 43: 151 ح 7، ونحوه من لا يحضره الفقيه 3: 169 ح 3640، وأمالي الطوسي: 660 ح 1369، وقرب الاسناد: 52 ح 170. (2) الضحى: 5. (3) المناقب لابن شهرآشوب 3: 342، عنه البحار 43: 85 ح 8، ونحوه تأويل الآيات: 783 وتفسير كنز الدقائق 14: 318، والصافي 5: 340. (4) الاسراء: 28. (*)

[ 278 ]

للخدمة سماها فضة (1). وورد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صار يوما بعد الفجر إلى بيت فاطمة (عليها السلام) وهو محزون، فأبصر عليا (عليه السلام) نائما بين يدي الباب على الدقعاء (2) والتراب، فجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول: قم فداك أبي وامي يا أبا تراب، فأخذ بيده ودخلا منزل فاطمة (عليها السلام)، ثم خرج (صلى الله عليه وآله) مستبشرا ضاحكا يقول: أصلحت بين إثنين أحب أهل الأرض إلى أهل السماء (3). وفي رواية اخرى أنه كان بين علي وفاطمة كلام، فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقي له مثال، فاضطجع فجاءت فاطمة (عليها السلام) واضطجعت من جانب وعلي (عليه السلام) من جانب، فأخذ بيد علي ووضعها على سرته، ثم أخذ بيد فاطمة فوضعها أيضا كذلك، فلم يزل كذلك حتى أصلح بينهما، ثم خرج مستبشرا فقال ما مر من الكلام (4)، ولا يخفى أن نحو هذه الأخبار مؤولة بما يرجع إلى ضرب من المصلحة. وروي أنه اهديت لجعفر في بلاد الحبشة حين هاجر إليها مع المؤمنين جارية قيمتها أربعة آلاف درهم، فلما قدم المدينة أهداها لعلي (عليه السلام) تخدمه، فدخلت فاطمة يوما ورأت رأس علي في حجر الجارية، فقالت: يا أبا الحسن فعلتها ؟ فقال: لا والله يا بنت محمد (صلى الله عليه وآله)، فما تريدين ؟ قالت:


(1) المناقب لابن شهرآشوب 3: 341، عنه البحار 43: 85 ح 8، وتفسير كنز الدقائق 7: 395. (2) الدقعاء: عامة التراب، وقيل: التراب الدقيق على وجه الأرض / لسان العرب. (3) علل الشرائع: 155 ح 1، عنه البحار 43: 146 ح 1، والعوالم 11: 491 ح 1، كشف الغمة 2: 95، قال الصدوق (رحمه الله): ليس هذا الخبر عندي بمعتمد، ولا هو لي بمعتقد في هذه العلة، لأن عليا وفاطمة (عليهما السلام) ما كانا ليقع بينهما كلام يحتاج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الإصلاح بينهما، لأنه (عليه السلام) سيد الوصيين وهي سيدة نساء العالمين، مقتديان بنبي الله (صلى الله عليه وآله) في حسن الخلق. [ راجع البحار 43: 147 ]. (4) علل الشرائع: 156 ح 2، عنه البحار 43: 146 ح 2، والعوالم 11: 491 ح 2. (*)

[ 279 ]

تأذن لي في المصير إلى منزل أبي ؟ فأذن. فذهبت فنزل جبرئيل بالخبر، وان فاطمة تريد الشكاية من علي فلا تقبل منها في علي شيئا، فدخلت فاطمة فقال النبي (صلى الله عليه وآله): جئت تشكين عليا ؟ فقالت: إي ورب الكعبة، فقال لها: ارجعي إليه فقولي له: رغم أنفي لرضاك، ففعلت كذلك فقالت القول المذكور ثلاثا. فقال علي (عليه السلام): شكوتني إلى خليلي وحبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ واسوأتاه من رسول الله، أشهد الله يا فاطمة أن الجارية حرة لوجه الله، وان الأربعمائة درهم التي فضلت من عطائي صدقة على فقراء المدينة. ثم ذهب علي (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فهبط جبرئيل من الله تعالى أن يا محمد قل لعلي: قد أعطيتك الجنة بعتقك الجارية في رضاء فاطمة، والنار بالأربعمائة درهم التي تصدقت بها، فادخل الجنة من شئت برحمتي، واخرج من النار من شئت بعفوي، فعندها قال علي (عليه السلام): أنا قسيم الله بين الجنة والنار، والصلاة والسلام على محمد وآله الأبرار (1). فصل: [ في أولاد فاطمة (عليها السلام) ] وكان للزهراء (عليها السلام) خمسة أولاد، الأول والثاني: الحسن والحسين (عليهما السلام)، ولها إحدى عشر سنة أو إثنتا عشرة سنة. وفي كشف الغمة: انها ولدته في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وقيل: ولدته لستة أشهر، والصحيح خلافه. ونقل أنها ولدته بعد احد بسنتين، وكان بين وقعة احد ومقدم النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة سنتان وستة أشهر ونصف، فولادته لأربع سنين وستة أشهر ونصف من التاريخ، وبين احد وبدر سنة ونصف، وروي أنها ولدته


(1) علل الشرائع: 163 ح 2، عنه البحار 43: 147، ح 3، وبشارة المصطفى: 101، وتفسير البرهان 4: 224 ح 8، والعوالم 11: 493 ح 4. (*)

[ 280 ]

في شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، إنتهى (1). وأما الحسين (عليه السلام) فروى المجلسي (رحمه الله) ان الحسين (عليه السلام) ولد عام الخندق يوم الخميس أو الثلاثاء لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة بعد أخيه الحسن (عليه السلام) بعشرة أشهر وعشرين يوما (2). وقال في كشف الغمة: كان ولادته لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، علقت فاطمة (عليها السلام) به بعد أن ولدت أخاه الحسن (عليه السلام) بخمسين ليلة، إنتهى (3). والمشهور في مدة حمله (عليه السلام) أنه ستة أشهر، وأنه كان بينه وبين يحيى مشابهة في ذلك، وفي المظلومية، والشهادة، وإهداء رأسه إلى ظالم عتل زنيم مولود من الزنية، وغير ذلك من الامور الكثيرة المفصلة في محلها. الثالث: زينب الكبرى، وكانت في الفصاحة، والبلاغة، والزهد، والعبادة، والفضل، والشجاعة أشبه الناس بأبيها وامها، وكان بعد شهادة الحسين (عليه السلام) امور أهل البيت بل جميع بني هاشم قاطبة بيدها، وخطبها ومكالماتها مع يزيد وابن زياد لعنهما الله مشهورة مأثورة مذكورة في كتاب الإحتجاج وغيره، وكانت زوجة عبد الله بن جعفر، وكان لها منه ولدان استشهدا في الطف بين يدي الحسين (عليه السلام). الرابع: زينب الصغرى المكنية بام كلثوم التي اختلف الأخبار فيها، ففي بعضها أن عمر بن الخطاب خطبها في أيام خلافته فامتنع علي (عليه السلام) من ذلك، فدعا عمر العباس عم النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: خطبت إلى ابن أخيك فردني، فوالله لأعيدن زمزم، ولأنزعن منك السقاية، ولا أدع لكم مكرمة إلا


(1) كشف الغمة 2: 137، عنه البحار 44: 136 ح 4، وانظر أيضا الذرية الطاهرة للدولابي: 101 ح 93. (2) البحار 43: 237 ح 1. (3) كشف الغمة 2: 212، عنه البحار 44: 200 ح 19. (*)

[ 281 ]

هدمتها، ولاقيمن عليه شاهدين بأنه سرق، ولأقطعن يمينه (1). وفي خبر آخر قال له: احضر غدا في المسجد عند خطبتي للناس، فلما حضر قال عمر في آخر خطبته: أيها الناس لو اطلع الخليفة على رجل منكم أنه زنا بامرأة، ولم يكن هناك شهود فماذا كنتم تفعلون ؟ قالوا: قول الخليفة حجة لو أمر برجمه لرجمناه. فسكت عمر ثم نزل فدعا العباس في خلوة وقال: رأيت الحال ؟ قال: نعم، قال: والله لو لم يقبل علي خطبتي لقلت غدا في خطبتي أن هذا الرجل علي فارجموه، فأتى العباس عليا (عليه السلام) وأصر عليه في ذلك حتى حول علي (عليه السلام) أنرها بيده، فزوجها منه (2). وفي خبر آخر قيل للصادق (عليه السلام) في ذلك قال: هو أول فرج غصبناه، وإن ذلك لم يكن أشد وأعظم وأفضح من غصب الخلافة (3). وفي بعضها أنه ذكر ذلك الخبر عند الصادق (عليه السلام) وكان متكئا، فجلس وقال: سبحان الله ما كان أمير المؤمنين يقدر أن يحول بينه وبينها، كذبوا لم يكن ما قالوا، وإنما علي لما أصر العباس عليه بذلك أرسل إلى جنية من أهل نجران يهودية يقال لها: " سحيقة بنت جريرية " فأمرها فتمثلت مثال ام كلثوم، وحجبت الأبصار عن ام كلثوم، وبعث بها إلى الرجل. فلم تزل عنده حتى أنه استراب بها يوما فقال: ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم، ثم أراد أن يظهر للناس فقتل، ثم أخذت الميراث وانصرفت إلى نجران، وأظهر أمير المؤمنين (عليه السلام) ام كلثوم حينئذ (4).


(1) الكافي 5: 346 ح 2، ونحو البحار 42: 94 ح 22 عن الطرائف، وانظر الصراط المستقيم 3: 129، والعوالم 11: 987 ح 2، والوسائل 14: 217 ح 2. (2) نحوه في الاستغاثة للكوفي 1: 78، عنه العوالم 11: 990 ح 6. (3) راجع الكافي 5: 346 عنه البحار 42: 106 ح 34، والعوالم 11: 987 ح 1، والوسائل 14: 433 ح 2. (4) الخرائج 2: 825 ح 39، عنه البحار 42: 88 ح 16، ومدينة المعاجز 3: 202 ح 828، والعوالم 11: 1006. (*)

[ 282 ]

وبالجملة فعلى فرض صحة الرواية السابقة لا قدح في ذلك لعلي (عليه السلام) ولو بملاحظة التقية، فإن الضرورات تبيح المحظورات، وكذلك بالنسبة إلى ام كلثوم مع أن ظاهر الإسلام يوجب صحة المناكحة، كما يشهد بذلك تزويج النبي (صلى الله عليه وآله) لعائشة وحفصة، وتزويجه عثمان لرقية واختها (1). الخامس: محسن، وكان قريبا بالوضع فسقط بصدمة عمر حين صدم الباب عليها، لما أراد إخراج علي (عليه السلام) من بيته قهرا إلى المسجد ليبايع أبا بكر بعد أن بويع بالخلافة. وفي الإحتجاج أن عمر أرسل قنفذا مع جماعة كثيرة - وكان رجلا فظا غليظا جافيا من الطلقاء أحد بني تيم - فذهبوا إلى علي (عليه السلام)، فاستأذنوا للدخول فلم يأذن علي (عليه السلام)، فرجع أصحابه وجدل هو عند الباب، فأمرهم عمر بالرجوع والدخول وإن لم يأذن علي، فلما رجعوا حرجتهم (2) فاطمة أن يدخلوا البيت بغير إذن، فرجعوا إلى عمر فأخبروه، فقال: مالنا وللنساء. ثم أمر اناسا حوله فحملوا الحطب معه فجعلوه حول منزل علي (عليه السلام)، ثم نادى عمر حتى أسمع عليا (عليه السلام): والله لتخرجن


(1) قال الشيخ المفيد في المسائل السروية صفحة 86 (المجلد السابع من مجموعة مصنفات الشيخ المفيد): إن الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين (عليه السلام) ابنته من عمر غير ثابت، وطريقه من الزبير ابن بكار، ولم يكن موثوقا به في النقل، وكان متهما فيما يذكره، وكان يبغض أمير المؤمنين (عليه السلام) وغير مأمون فيما يدعيه على بني هاشم،... والحديث بنفسه مختلف، فتارة يروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) تولى العقد له على ابنته، وتارة يروي أن العباس تولى ذلك عنه، وتارة يروي أنه لم يقع العقد إلا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم، وتارة يروي أنه كان عن إختيار وايثار. ثم ان بعض الرواة يذكر أن عمر أولدها ولدا أسماه زيدا، وبعضهم يقول: أنه قتل قبل دخوله بها، وبعضهم يقول: إن لزيد بن عمر عقبا، ومنهم من يقول: انه قتل ولا عقب له، ومنهم من يقول: إنه وامه قتلا، ومنهم من يقول: إن امه بقيت بعده، ومنهم من يقول: إن عمر أمهر ام كلثوم أربعين ألف درهم، ومنهم من يقول: مهرها أربعة آلاف درهم، ومنهم من يقول: كان مهرها خمسمائة درهم، وبدو هذا الإختلاف فيه يبطل الحديث، فلا يكون له تأثير على حال. (2) أي ضيق عليهم. (*)

[ 283 ]

ولتبايعن خليفة رسول الله أو لأضرمن عليك، ثم رجع إلى أبي بكر خوفا أن يخرج علي (عليه السلام) بسيفه وقال لقنفذ: إن خرج وإلا فاقتحم عليه، فإن امتنع فأضرم عليهم بيتهم نارا. فاقتحم قنفذ وأصحابه بغير إذن فأحاطوا بعلي (عليه السلام) وضبطوه، وألقوا في عنقه حبلا، وحالت فاطمة (عليها السلام) بين زوجها وبينهم عند باب البيت، فضربها قنفذ بالسوط على عضدها، وألجأها إلى عضادة باب بيتها فدفعها، فكسر ضلعا من جنبها وألقت جنينا من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة (1). وهذا أيضا مستند إلى عمر، فلا ينافي هذه الرواية ما ورد ان أول معاملة تعامل يوم القيامة هي معاملة المحسن مع عمر بن الخطاب، مع أن عمر صدمها ثانية في المسجد عند مطالبته فدك - كما يأتي إليه الإشارة - وفي هذه المقامات تفصيلات لا تليق بالباب.


(1) الإحتجاج 1: 210. (*)

[ 284 ]

[ فصل ] [ في نقش خاتمها وأدعيتها (عليها السلام) ] وكان نقش خاتم الزهراء (عليها السلام): " الله ولي عصمتي "، وقيل: كان خاتمها من الفضة ونقشه: " نعم القادر الله "، وقيل: " آمن المتوكلون " (1). وذكروا أن لنقش هذه الكلمات في فص الخاتم تأثيرا عجيبا لدفع الأعداء، وحفظ الأموال والأولاد والبدن عن شر الإنس والجن والأهرمن، وجميع المكاره والآفات والأسواء والبليات. وقيل: نقش خاتمها (عليها السلام) نقش خاتم سليمان بن داود، وهو: " سبحان من ألجم الجن بكلماته ". وكان دعاؤها (عليها السلام): " بسم الله الرحمن الرحيم، يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فأغثني، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله " (2). ودعاؤها المشهور بدعاء الحمى ذكره في البحار على ما اشير إليه سابقا، وعلمته سلمان وهو هذا: " بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله النور، بسم الله نور النور، بسم الله نور على نور، بسم الله الذي هو مدبر الامور، بسم الله الذي خلق النور من النور، الحمد لله


(1) البحار 43: 9 ح 14، عن مصباح الكفعمي. (2) مهج الدعوات: 5، عنه العوالم 11: 299 ح 1، ونحوه مسند فاطمة للسيوطي: 2 ح 4. (*)

[ 285 ]

الذي خلق النور من النور، وأنزل النور على الطور، في كتاب مسطور، في رق منشور، بقدر مقدور، على نبي محبور، الحمد لله الذي هو بالعز مذكور، وبالفخر مشهور، وعلى السراء والضراء مشكور، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين ". قال سلمان: تعلمت هذا الدعاء ولقد علمته أكثر من ألف نفس من أهل المدينة ومكة ممن بهم الحمى، فبرئ كل من مرضه باذن الله تعالى (1). وروى ابن طاووس هذين الدعاءين في باب حرز فاطمة. وروي أنه أصابت عليا (عليه السلام) شدة، فأتت فاطمة (عليها السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت: يا رسول الله ما طعام الملائكة عند ربنا ؟ فقال: التحميد، فقالت: ما طعامنا ؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا بنية والذي نفسي بيده ما اقتبس في آل محمد شهر نارا، واعلمك خمس كلمات علمنيهن جبرئيل، قالت: يا رسول الله ما الخمس الكلمات ؟ قال: " يا رب الأولين والآخرين، يا إله العالمين، يا ذا القوة المتين، يا راحم المساكين، يا أرحم الراحمين ". فتعلمتهن ورجعت، فلما أبصر بها علي (عليه السلام) قال: بأبي وامي ما وراءك يا فاطمة ؟ قالت: ذهبت للدنيا وجئت بالدنيا والآخرة، قال علي (عليه السلام): خير أيامك خير أيامك (2). ومن جملة أدعيتها (عليها السلام) ما علمه إياها أبوها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال ابن طاووس (رحمه الله): ووجدنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال للزهراء (عليها السلام): يا فاطمة ألا اعلمك دعاء لا يدعو به أحد إلا استجيب له، ولا يجوز فيك سحر ولا سم، ولا يشمت بك عدو، ولا يعرض لك الشيطان، ولا يعرض عنك الرحمن، ولا ينزع عنك نعمة، ولا يرد لك دعوة، ويقضي حوائجك كلها ؟ ! قالت: يا أبة لهذا أحب إلي من الدنيا وما فيها، قال: تقولين:


(1) مهج الدعوات: 5، عنه البحار 43: 66 ح 59 دلائل الإمامة: 107 ح 35، والخرائج 2: 533 ح 9. (2) الدعوات للراوندي: 47 ح 116، عنه البحار 43: 152 ح 10. (*)

[ 286 ]

" يا أعز مذكور وأقدمه قدما في العز والجبروت، يا رحيم كل مسترحم، ومفزع كل ملهوف إليه، يا راحم كل حزين يشكو بثه وحزنه إليه، يا خير من سئل المعروف منه وأسرعه إعطاء، يا من تخاف الملائكة المتوقدة بالنور منه، أسألك بالأسماء التي تدعوك بها حملة عرشك، ومن حول عرشك بنورك يسبحون شفقة من خوف عقابك، وبالأسماء التي يدعوك بها جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، إلا أجبتني وكشفت يا إلهي كربتي، وسترت ذنوبي. يا من يأمر بالصيحة في خلقه فإذا هم بالساهرة يحشرون، وبذلك الإسم الذي أحييت به العظام وهي رميم، أحي قلبي، واشرح صدري، وأصلح شأني، يا من خص نفسه بالبقاء، وخلق لبريته الموت والحياة والفناء، يا من فعله قول، وقوله أمر، وأمره ماض على ما يشآء. أسألك بالإسم الذي دعاك به خليلك حين القى في النار فدعاك به فاستجبت له، وقلت: (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم)، وبالإسم الذي دعاك به موسى من جانب الطور الأيمن فاستجبت له، وبالإسم الذي خلقت به عيسى بن مريم من روح القدس، وبالإسم الذي تبت به على داود، وبالإسم الذي وهبت به لزكريا يحيى، وبالإسم الذي كشفت به عن أيوب الضر، وتبت به على داود، وسخرت به لسليمان الريح تجري بأمره والشياطين، وعلمته منطق الطير، وبالإسم الذي خلقت به العرش، وبالإسم الذي خلقت به الكرسي، وبالإسم الذي خلقت به الروحانيين، وبالإسم الذي خلقت به الجن والإنس، وبالإسم الذي خلقت به جميع الخلق، وبالإسم الذي خلقت به جميع ما أردت من شئ، وبالإسم الذي قدرت به على كل شئ، أسألك بحق هذه الأسماء إلا ما أعطيتني سؤلي، وقضيت حوائجي، يا كريم ". فإنه يقال لك: يا فاطمة نعم نعم (1).


(1) مهج الدعوات: 139، عنه البحار 95: 404 ح 35، والعوالم 11: 325، وانظر دلائل الإمامة: 72 ح 12. (*)

[ 287 ]

ومن جملة أدعيتها (عليها السلام) في حوائج الدنيا والآخرة هذا الدعاء: " اللهم قنعني بما رزقتني، واسترني وعافني أبدا ما أبقيتني، واغفر لي وارحمني إذا توفيتني، اللهم لا تعيني في طلب ما لم تقدره لي، وما قدرته علي فاجعله ميسرا سهلا، اللهم كاف عني والدي وكل من نعمه علي خير مكافاة، اللهم فرغني لما خلقتني له، ولا تشغلني بما تكفلت لي به، ولا تعذبني وأنا أستغفرك، ولا تحرمني وأنا أسألك، اللهم ذلل نفسي في نفسي، وعظم شأنك في نفسي، وألهمني طاعتك، والعمل بما يرضيك، والتجنب مما يسخطك، يا أرحم الراحمين " (1). ومن جملة أدعيتها (عليها السلام) للفرج من الحبس والضيق، ما روي أن رجلا كان محبوسا بالشام مدة طويلة مضيقا عليه، فرأى في منامه كأن الزهراء (عليها السلام) أتت فقالت له: ادع بهذا الدعاء، فتعلمه ودعا به فتخلص ورجع إلى منزله، وهو: " اللهم بحق العرش ومن علاه، وبحق الوحي ومن أوحاه، وبحق النبي ومن نباه، وبحق البيت ومن بناه، يا سامع كل صوت، يا جامع كل فوت، يا بارئ النفوس بعد الموت، صل على محمد وأهل بيته، وآتنا وجميع المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها فرجا من عندك عاجلا بشهادة أن لا إله إلا الله، وإن محمدا (صلى الله عليه وآله) عبدك ورسولك (صلى الله عليه وآله) وعلى ذريته الطيبين الطاهرين وسلم تسليما " (2). ومنها غير ذلك، ومن جملة ما اختص بها (عليها السلام) التسبيح المشهور بتسبيح الزهراء، المؤكد عقيب الصلاة وعند النوم، كما اشير إلى كيفيته بالتكبير أولا ثم تقديم الحمد على التسبيح أو بالعكس، وفي بعض الأخبار التسبيح أولا ثم التحميد ثم التكبير، والأصل هو التكبير أولا ثم التسبيح ثم التحميد. وقد مر أنها مائة في الحساب وألف في الميزان، وان من قالها صبيحة كل يوم


(1) مهج الدعوات: 141، عنه البحار 95: 406 ح 36، والعوالم 11: 328. (2) مهج الدعوات: 142، عنه البحار 95: 203 ح 36. (*)

[ 288 ]

كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة، ولقد أعطاها النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك حين طلبت الخادمة منه، فأمرها بذلك، وأنه خير مما طلبته على ما مر تفصيله. وعن الباقر (عليه السلام): ما عبد الله بشئ من التمجيد أفضل من تسبيح فاطمة (عليها السلام)، ولو كان شئ أفضل منه لنحله رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها (1). ومراده (عليه السلام) أن فاطمة كانت أحب الأشياء عنده وأعزها، فتخصيصها (عليها السلام) بالتسبيح المسطور دليل على كون التسبيح المذكور عنده في غاية درجات الشرف والفضيلة. وعن الصادق (عليه السلام): تسبيح فاطمة (عليها السلام) في كل يوم في دبر كل صلاة أحب إلي من صلاة ألف ركعة في كل يوم (2). وعنه (عليه السلام): من سبح تسبيح فاطمة (عليها السلام) قبل أن يثني رجليه من صلاة الفريضة غفر الله له، ويبدأ بالتكبير (3). وكانت صلاتها المخصوصة بها انتسابا صلاتين مندوبتين، إحداهما: ركعتان يقرأ في كل ركعة بعد الحمد سورة التوحيد مرتين، والثانية: ركعتان أيضا يقرأ في الركعة الأولى بعد الحمد سورة القدر مائة مرة، وفي الثانية سورة التوحيد مائة مرة، ويقرأ بعد الفراغ على كل تقدير التسبيح الآخر المشهور بتسبيح الزهراء، وهو أقل شهرة من الأول المذكور، وهو هذا:


(1) الكافي 3: 343 ح 14، عنه البحار 43: 64 ح 56، والوسائل 4: 1024 ح 1، ونحوه في التهذيب 2: 105 ح 166، العوالم 11: 288 ح 19. (2) الكافي 3: 343 ح 15، وفي البحار 85: 331 ح 9، الوسائل 4: 1024 ح 2، وكشف الغمة 2: 99، والتهذيب 2: 105 ح 399، ومكارم الأخلاق: 281. (3) قرب الاسناد: 4 ح 11، عنه البحار 85: 328 ح 2، وفي الكافي 3: 342 ح 6، ومكارم الأخلاق ص: 281، والوسائل 4: 1022 ح 6، وثواب الأعمال: 196 ح 4، العوالم 11: 289 ح 23 وكشف الغمة 2: 99، والتهذيب 2: 105 ح 395. (*)

[ 289 ]

" سبحان من لبس البهجة والجمال، سبحان من تردى بالنور والوقار، سبحان من يرى أثر النمل في الصفا، سبحان من يرى أثر الطير في الهواء، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره ". وهي سريع الأثر في المطالب والحاجات (1). ونقل الفاضل المجلسي (رحمه الله) في زاد المعاد في وظائف اليوم الأول من ذي الحجة، الذي ورد وقوع تزويج الزهراء (عليها السلام) من أمير المؤمنين في ذلك اليوم، صلاة اخرى لها عن الشيخ (رحمه الله)، وأنه قال: يستحب في اليوم الأول من ذي الحجة صلاة الزهراء (عليها السلام) (2). وورد انها أربع ركعات مثل صلاة على (عليه السلام)، كل ركعتين بتسليمة واحدة يقرأ في كل ركعة بعد الحمد سورة التوحيد خمسين مرة، ويقرأ بعد الفراغ من الركعات تسبيح الزهراء (عليها السلام)، وهي: " سبحان ذي العز الشامخ... " إلى آخر ما مر. وجعل الفاضل المذكور الأحوط في عمل ذلك اليوم الجمع بين هذه الصلاة وبين الصلاة السابقة، وكذا في قراءة التسبيح بعد الصلاة الجمع بين التسبيح المذكور وبين التسبيح الآخر المشهور. ونقل السيد ابن طاووس في كتاب الإقبال صلاة اخرى لها (عليه السلام)، وسيأتي ذكرها (3). وتحيتها المشهورة: " اللهم صل على الصديقة فاطمة الزكية، حبيبة حبيبك، وام أحبائك وأصفيائك التي انتجبتها وفضلتها واخترتها على نساء العالمين، اللهم كن الطالب لها ممن ظلمها واستخف بحقها، وكن الثائر اللهم بدم أولادها، اللهم وكما جعلتها ام أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وحليلة صاحب اللواء، والكريمة


(1) مصباح المتهجد: 671 في شهر ذي الحجة، وجمال الأسبوع: 263 الفصل: 29، والبحار 91: 180 ح 7 و 8، والعوالم 11: 300. (2) مصباح المتهجد: 671 أعمال شهر ذي الحجة. (3) الاقبال 3: 166، البحار 100: 199. (*)

[ 290 ]

عند الملأ الأعلى، فصل عليها وعلى امها صلاة تكرم بها وجه أبيها محمد (صلى الله عليه وآله)، وتقر بها عين ذريتها، وأبلغهم في هذه الساعة أفضل التحية والسلام " (1). ونقل الفاضل المجلسي تحية اخرى لها (عليه السلام) نقلها عن ابن طاووس، وان من زارها بهذه الزيارة، وطلب من الله سبحانه المغفرة غفر الله ذنوبه البتة، ويدخله الجنة، وهي أن تقول: " السلام عليك يا سيدة نساء العالمين، السلام عليك يا والدة الحجج على الناس أجمعين، السلام عليك أيتها المظلومة الممنوعة حقها " ثم تقول: " اللهم صل على امتك، وابنة نبيك، وزوجة وصي نبيك، صلاة تزلفها فوق زلفى عبادك المكرمين من أهل السماوات وأهل الأرضين " (2). وقال ابن طاووس في صلاة الزيارة لها: لو أمكنك أن تفعل صلاة الزهراء (عليها السلام) فافعل، وهي ركعتان تقرأ في كل ركعة بعد الحمد سورة التوحيد ستين مرة، ولو لم تقدر على ذلك ففي الركعة الأولى بعد الحمد سورة التوحيد مرة، والركعة الثانية سورة الجحد مرة (3). وروي في كشف الغمة عن علي عن فاطمة (عليها السلام) قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): من صلى عليك غفر الله له وألحقه بي حيث كنت من الجنة (4). قال الفاضل المجلسي (رحمه الله): والأولى والأفضل زيارتها (عليها السلام) في الأوقات الشريفة والأزمنة المخصوصة بها، مثل يوم ولادتها، وهو متمم العشرين من الجمادي الآخرة عند الشيخ المفيد والسيد ابن طاووس، أو اليوم


(1) جمال الأسبوع: 486، عنه البحار 94: 74 ح 1. (2) الإقبال 3: 161، البحار 100: 199. (3) الإقبال 3: 166، البحار 100: 199. (4) كشف الغمة 2: 100، عنه البحار 43: 55 ح 48. (*)

[ 291 ]

العاشر منه كما عند جماعة. ومثل يوم وفاتها (عليها السلام)، وهو اليوم الثالث منه عند السيد وجماعة، أو الحادي والعشرون من شهر رجب عند ابن عباس، ومثل يوم تزويجها (عليها السلام) وهو النصف من شهر رجب، أو اليوم الأول من ذي الحجة، أو اليوم السادس منه. ومثل ليلة زفافها وهي التاسعة عشر من ذي الحجة، أو الحادية والعشرون من محرم، وفي يوم المباهلة وهو الرابع والعشرون من ذي الحجة، ويوم نزول سورة هل أتى، والخامس والعشرون منه، ونحو ذلك مما أوردناه في كتاب بحار الأنوار، إنتهى (1).


(1) زاد المعاد، أعمال شهر ذي الحجة. (*)

[ 292 ]

فصل وأما الكلام في ذكر فدك والعوالي وغصبها عنها فهو أن العوالي جمع العالية، وهي من الأراضي في الشهرة العرفية على ما في الصحاح ما فوق نجد إلى أرض تهامة، وإلى ما وراء مكة وهي الحجاز وما والاها، والنسبة إليها عالي، ويقال أيضا: علوي على غير قياس، يقال: عالي الرجل وأعلى إذا أتى عالية نجد (1)، وكذا في صراح اللغة. وقال في المجمع: وفيه - أي في الخبر - العالية والعوالي، وهي قرى بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية أميال، والنسبة إليها علوي على غير القياس (2). وفي المغرب نقلا عنه: العوالي موضع على نصف فرسخ من المدينة (3). وقال في النهاية: وذكر العالية والعوالي في غير موضع من الحديث، وهي أماكن بأعلى أراضي المدينة، والنسبة إليها علوي على غير قياس، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية أميال، ومنه حديث ابن عمر: جاء أعرابي علوي جاف، إنتهى (4).


(1) الصحاح 6: 2436 / علا. (2) مجمع البحرين / علا. (3) المغرب 2: 57 / علو. (4) النهاية 3: 295 / علا. (*)

[ 293 ]

والظاهر من الأخبار أن العوالي أيضا كانت للنبي المختار دون سائر المسلمين مثل فدك - على ما يأتي تفصيله - وان النبي (صلى الله عليه وآله) أعطاها أيضا لفاطمة (عليها السلام) في حياته بعد إعطاء فدك لها، وان الخلفاء لما غصبوا فدك غصبوها أيضا معها، ولكن لم يجر للعوالي ذكر كثير في الأخبار عند القدح على الخلفاء الأشرار أعداء الملك الجبار. ولعل ذلك من جهة كونها تابعة لفدك، وكونها أقل منفعة منها، فلم يعتنوا بذكرها واستغنوا بذكر فدك عنها، فلم يجر لها ذكر بخصوصها، ونحن أيضا نكتفي في خصوص العوالي بالجملة التي ذكرنا، ونفصل الكلام في تحقيق حال فدك، فيعلم في ضمنه ما يتعلق بها. فنقول: أما فدك - فهي بفتحتين - قرية من قرى اليهود، وكانت للنبي (صلى الله عليه وآله)، بينها وبين مدينة الرسول ثلاثة أيام، وبينها وبين خيبر دون مرحلة، وفي شرح المواقف: انها قرية بخيبر (1). وقيل: هي بلدة بقرب المدينة بينها وبين خيبر، وانها من بلا خيبر، وفي المصباح: انها بلدة بقرب مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) يومان، ويقال: انها من بلاد خيبر وبينها وبين خيبر دون مرحلة، وانها مما أفاء الله على رسوله، وتنازعها علي والعباس في خلافة عمر، فقال علي: النبي جعلها لفاطمة وولدها، وأنكرها العباس فسلمها عمر لهما (2). وفي المجمع: انها قرية من قرى اليهود بينها وبين مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) يومان، وبينها وبين خيبر دون مرحلة، وهي مما أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله)، منصرف وغير منصرف، وكانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنه فتحها هو وأمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن معهما أحد، فزال عنها حكم الفئ ولزمها إسم الأنفال، فلما نزل: * (فلت ذا القربى


(1) شرح المواقف 8: 355 / المرصد الرابع في الإمامة. (2) المصباح المنير: 465، فدك. (*)

[ 294 ]

حقه) * (1) أي أعط فاطمة فدكا أعطاها رسول الله إياها. وكانت في يد فاطمة الى أن توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاخذت من فاطمة (عليها السلام) بالقهر والغلبة، وقد حدها علي (عليه السلام)، حد منها جبل احد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل يعني الجوف، إنتهى (2)، وهكذا في الرواية التي رواها ابن أسباط. وروي في المناقب عن كتاب أخبار الخلفاء، ان هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر (عليه السلام): خذ فدك حتى أردها إليك، فيأبى حتى ألح عليه فقال (عليه السلام): لا آخذها إلا بحدودها، قال: وما حدودها ؟ قال: إن حددتها لم تردها، قال: بحق جدك إلا فعلت. قال: أما الحد الأول فعدن، فتغير وجه الرشيد وقال: أيها، قال: والحد الثاني سمرقند، فأربد وجهه، قال: والحد الثالث أفريقية، فاسود وجهه وقال: هيه، قال: والرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية، قال الرشيد: فلم يبق لنا شئ فتحول إلى مجلسي، قال موسى (عليه السلام): قد أعلمتك انني إن حددتها لم تردها، فعند ذلك عزم على قتله (3). قال الفاضل المجلسي (رحمه الله): وهذان التحديدان خلاف المشهور بين اللغويين، ولعل مراد المعصوم (عليه السلام) ان تلك كلها في حكم فدك، وكان الدعوى على جميعها، وإنما ذكروا فدك على المثال أو تغليبا، إنتهى (4). وحاصله أن فدك عنوان للأراضي التي تجري عليها يد الخلافة الإسلامية، فيكون مصداقه بهذا الإعتبار جميع بلاد الإسلام، فمن أراد فدك فلابد أن يرد أمر الخلافة برمته إلى محله ومنزلته، ومن لا فلا. وكان فتح خيبر وفدك في السنة السابعة من الهجرة، وكان ذلك في أوائل هذه


(1) الروم: 38. (2) مجمع البحرين مادة فدك. (3) المناقب لابن شهرآشوب 4: 320، عنه البحار 48: 144 ح 20، وأيضا 29: 200 ح 41. (4) البحار 29: 201. (*)

[ 295 ]

السنة، وقد وعد الله لنبيه (صلى الله عليه وآله) فتح خيبر ومضافاتها بقوله: * (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها..) * الآية (1). وهذه الوعدة كانت عند صلح الحديبية، ولما رجع النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الصلح في الحديبية - على التفصيل الواقع في الأخبار المروية - رجع إلى المدينة في السنة السادسة من الهجرة، نهض بألف وأربعمائة من جيشه المنتصر إلى فتح خيبر، وفتحها على النحو المفصل في كتب الأخبار والسير. وقد وقعت خيبر من المدينة إلى سمت الشام على مسافة ثمانية بريدات، كل بريد أربعة فراسخ، لها مزارع معمورة وحصون موفورة، بناها خيبر أخو يثرب من العمالقة الذي بنا المدينة، فسمى كل بإسم بانيه، وقيل: خيبر في لغة اليهود بمعنى الحصن، فيقال لتلك الحصون خيابر من هذه الجهة. وكان حصونها مسماة بثلاثة أسماء نوعية، الأول: حصن نطاة، وهي ثلاثة حصون: حصن الناعم، وحصن الصعب، وحصن القلة، الثاني: حصن الشق، وهي حصن ابي وحصن البراء، والثالث: حصن الكتيبة - بصيغة التصغير - وهي حصن قموص، وحصن وطيح، وحصن سلام - بض السين - ويقال له " سلالم " أيضا، والمجموع ثمانية حصون. وفي يوم فتح خيبر قدم جعفر بن أبي طالب، وقد كان هاجر من مكة إلى الحبشة في جمع قليل من المؤمنين مع ستة نفر من الأشعريين منهم أبو موسى الأشعري، فاتفق قدوم جعفر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يوم فتح خيبر، فلما قدم جعفر عليه في خيبر يوم فتحها وبشر النبي (صلى الله عليه وآله) بقدومه، قال: " والله ما أدري بأيهما أشد سرورا بقدوم جعفر أو بفتح خيبر " (2). فلما قدم وثب إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فالتزمه، وقبل ما بين عينيه وقال: يا جعفر ألا أمنحك، ألا أعطيك، ألا أحبوك ؟ فقال جعفر: بلى يا رسول الله،


(1) الفتح: 20. (2) البحار 21: 23. (*)

[ 296 ]

فظن الناس أنه يعطيه ذهبا أو فضة وتشرفوا لذلك، فقال: ألا اعلمك صلاة إذا أنت صليتها وكنت فررت من الزحف، وكان عليك مثل زبد البحر ورمل عالج ذنوبا غفر لك ؟ قال: بلى. فعلمه الصلاة المشهورة بصلاة جعفر الطيار، وهي أربع ركعات بتسليمتين في الركعة الأولى بعد الحمد الزلزلة، وفي الثانية بعدها العاديات، وفي الثالثة بعدها النصر، وفي الرابعة بعدها التوحيد، وبعد القراءة في كل من الركعات خمس عشرة مرة " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " وفي كل من الركوع والرفع منه، وفي كل من السجدات والرفع منها قولها عشر مرة (1)، وأعطى لأصحاب جعفر من غنائم خيبر. وروي أنه لما ورد النبي (صلى الله عليه وآله) مع أصحابه إلى حوالي خيبر، أرسل محيصة بن مسعود الحارثي إلى فدك ليدعو أهلها إلى الاسلام، ويحذرهم عن مخالفة سيد الأنام، فلما وصل محيصة إليهم، وبلغ الرسالة من معدن الرسالة عليهم، وخوفهم ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاء إلى حربهم كما أتى إلى حرب أهل خيبر، فهم أجابوه بالكلام الخشن، والجواب الغير الحسن، واعتمدوا على شجعان خيبر وأبطالها، وان النبي (صلى الله عليه وآله) لا يمكنه فتحها بل يكون هناك مغلوبا، فيكون عن التوجه إلى فدك محروما. وقالوا: إن عامرا وياسرا وحارثا وسيد اليهود - يعنون مرحبا - في حصن نطاة، ومعهم ألف مقاتل من الكماة (2)، وما نظن أن يقاومهم جيش محمد ولا غيره، ولم يعلموا أن الله غالب أمره، فأرادوا رد محيصة، ولما رأى أن لا ميل لهم في المصالحة والمسالمة أراد أن يرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتأمل بعض عقلاء الجماعة في عاقبة المقدمة، وخافوا من الوخامة وسوء الخاتمة، فتعللوا في الجواب بين النقض والإبرام، ولم يدروا ما يلقون إليه من الكلام، حتى وصل إليهم


(1) جمال الأسبوع: 282. (2) الكمي - كغني -: الشجاع أو لابس السلاح / القاموس. (*)

[ 297 ]

الخبر بعد ثلاثة أيام أن فتحت خيبر بجيش سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. فتقدموا حينئذ بقدم الإعتذار، وأرسلوا إلى النبي المختار واحدا من أكابرهم مسمى بنون بن يوشع مع جماعة كثيرة لتمهيد بساط المصالحة، وتأسيس بنيان المسالمة. فلما تشرفوا بخدمة سيد الأنام، وتكلموا بما يليق من الكلام، وقع القيل والقال في أمر المصالحة وكيفيتها بالنقض والإبرام، إلى أن انعقد المصالحة بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أن يكون نصف أراضي فدك لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، والنصف الآخر لأهلها بأن لا يتعرض النبي (صلى الله عليه وآله) عليهم، ويعفو عنهم، ويقرهم على دينهم. فعامل رسول الله (صلى الله عليه وآله) معهم بهذه المعاملة، وهم كانوا على تلك الحالة حتى أخرجهم عمر بن الخطاب في أيام خلافته إلى الشام، بعد أن اشترى منهم النصف الذي كان حصتهم بشئ من بيت المال. وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما فتح خيبر أرسل عليا (عليه السلام) إلى فدك، فصالح أهلها معه بأن يكون نصف أراضي فدك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مع الحوائط والأبنية العالية الموجودة فيها، فصالح (عليه السلام) معهم على هذا، فنزل جبرئيل بقوله تعالى: * (فلت ذا القربى حقه) * (1) فقال (صلى الله عليه وآله): من ذا القربى وما حقه ؟ قال جبرئيل: ذا القربى فاطمة، وحقها ما كان لك من أراضي فدك وحوائطها. فكتب (عليه السلام) بذلك صكا ووثيقة وجعلها لفاطمة (عليها السلام)، وهذه الوثيقة هي التي أتت بها فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر حين غصب فدكا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، على ما سيجئ تفصيله. وفي رواية اخرى: إنه لما سمع أهل فدك أن المسلمين قد صنعوا ما صنعوا بأهل خيبر، بعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسألونه أن يسيرهم، ويخلي


(1) الروم: 38. (*)

[ 298 ]

عنهم فيخلوا له أموالهم، فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك منهم، ففعلوا كما فعلوا وتقبلوا. وروي أيضا أن أهل خيبر لما ضاق عليهم الخناق طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمان بأن يكون دماؤهم محقونة، ويترك لهم نساءهم وأولادهم، ويكون للنبي (صلى الله عليه وآله) أراضيهم وجميع أموالهم إلا ثيابهم على أبدانهم، فصالح (صلى الله عليه وآله) على ذلك معهم، ولما سمع أهل فدك ذلك سألوا النبي (صلى الله عليه وآله) أن يعامل معهم معاملتهم، ففعل (صلى الله عليه وآله) كذلك. وفي رواية اخرى: إنه لما بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا وسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يحقن دماءهم ويسيرهم ففعل، فسمع ذلك أهل فدك فكانوا على مثل ذلك، ثم قالوا له: إنا بتعمير هذه الأراضي أولى من غيرنا، فسلمها لنا نعمرها على أن يكون نصف المنافع لنا ونصفها لك. فرضي (صلى الله عليه وآله) بذلك، وعاقد معهم على ذلك، وشرط عليهم أن يخرجوا كلما أراد خروجهم، فصار خيبر مال جميع المسلمين لما أوجفوا عليها من خيل وركاب، وكان فدك مخصوصة بالنبي (صلى الله عليه وآله) دون المسلمين وسائر الأصحاب لحصول فتحها بلا منازعة، ولا قرع باب. وروي عن الباقر (عليه السلام) انه لما فرغ النبي (صلى الله عليه وآله) من أمر خيبر أراد إرسال الجيش إلى قلاع فدك، فعقد لواء وقال: من يأخذ هذا اللواء ؟ فقام الزبير فرده النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم قام سعد فرده أيضا وقال: قم يا علي فإن هذا حقك. فأخذ علي (عليه السلام) اللواء وصار إلى فدك، وصالح معهم على أن يحقن دماءهم ويكون أموالهم للنبي (صلى الله عليه وآله)، فصار قلاعهم وبلادهم ومزارعهم وبساتينهم للنبي (صلى الله عليه وآله)، دون أن يكون للمسلمين حق فيها، لأنها مما لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب، فنزل جبرئيل بقوله تعالى:


[ 299 ]

* (فلت ذا القربى حقه...) * الآية (1)، فقال (صلى الله عليه وآله): من ذو القربى وما الحق ؟ قال جبرئيل: ذو القربى فاطمة (عليها السلام) وحقها فدك، فطلب (صلى الله عليه وآله) فاطمة وكتب بذلك وثيقة وأعطاها فدكا، فلما مضى غصبها عنها أبو بكر وعمر... إلى آخر الخبر (2). وفي كتاب الإختصاص عن الصادق (عليه السلام) ان ام أيمن شهدت عند أبي بكر وعمر بأني كنت يوما في منزل فاطمة ورسول الله (صلى الله عليه وآله) جالس، فنزل جبرئيل وقال: يا محمد قم بأمر الله سبحانه، فإن الله أمرني بأن أخط لك بجناحي ملك فدك واعرفها لك واسخرها منك. فقام (صلى الله عليه وآله) وذهب ثم رجع، فقالت فاطمة (عليها السلام): إلى أين ذهبت يا أبة ؟ قال: إن جبرئيل خط لي أملاك فدك بجناحه وعرفني حدودها، وأمرني أن اسلمها لك، فسلمها (صلى الله عليه وآله) إياها وأشهدني على ذلك مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) (3). وفي البحار عن الصادق (عليه السلام) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج في غزاة، فلما انصرف راجعا نزل في بعض الطريق والناس معه إذ أتاه جبرئيل فقال: يا محمد قم فاركب، فركب النبي (صلى الله عليه وآله) وجبرئيل معه، فطويت له الأرض كطي الثوب حتى انتهى إلى فدك، فلما سمع أهل فدك وقع الخيل ظنوا ان عدوهم قد جاءهم، فغلقوا أبواب المدينة، ودفعوا المفاتيح إلى عجوز لهم في بيت لها خارج من المدينة، ولحقوا برؤوس الجبال، فأتى جبرئيل إلى العجوز حتى أخذ المفاتيح. ثم فتح أبواب المدينة ودار النبي (صلى الله عليه وآله) في بيوتها وداراتها، فقال جبرئيل: يا محمد هذا ما خصك الله به وأعطاكه دون الناس، وهو قوله تعالى:


(1) الروم: 38. (2) راجع البحار 21: 22 ح 17. (3) الإختصاص: 183 عنه البحار 29: 189 ح 39، والعوالم 11: 647 ح 2. (*)

[ 300 ]

* (ما أفاء الله على رسوله...) * الآية (1). ثم غلق الباب ودفع المفاتيح إليه، فجعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غلاف سيفه وهو معلق بالرحل، ثم ركب وطويت له الأرض، فأتاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم على مجالسهم لم يتفرقوا ولم يبرحوا، فقال (صلى الله عليه وآله): قد انتهينا إلى فدك، واني قد أفاءها الله علي. فغمز المنافقون بعضهم بعضا فقال (صلى الله عليه وآله): هذه مفاتيح فدك، فأخرجها من غلاف سيفه، فركبوا ولما دخلوا المدينة دخل النبي (صلى الله عليه وآله) على فاطمة (عليها السلام) وقال: يا بنية ان الله قد أفاء على أبيك فدك واختصه بها، فهي له خاصة دون المؤمنين، أفعل بها ما أشاء، وانه قد كان لأمك خديجة على أبيك مهر، وان أباك قد جعلها لك بذلك، وأنحلها لك ولولدك بعدك. ودعا علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: اكتب لفاطمة بفدك نحلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فشهد على ذلك علي (عليه السلام) ومولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وام أيمن، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن ام أيمن إمرأة من أهل الجنة، وجاء أهل فدك إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقاطعهم في النصف على أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة (2). وفي رواية اخرى: سبعين ألف دينار. قال ابن أبي الحديد بعد ذكر مصالحة فدك مع أهلها على النصف: فلم يزل الأمر كذلك حتى أخرجهم عمر وأجلاهم، بعد أن عوضهم عن النصف الآخر الذي كان لهم عوضا عن إبل وغيرها (3). وروى أيضا أنه لما أجلاهم عمر بعث إليهم من يقوم الأموال، بعث أبا الهيثم بن التيهان، وفروة بن عمر، وحباب بن صخر، وزيد بن ثابت، فقوموا أرض فدك


(1) الحشر: 6. (2) الخرائج 1: 112 ح 187، عنه البحار 29: 114 ح 10. (3) شرح نهج البلاغة 16: 210 باب 45. (*)

[ 301 ]

ونخلها، فأخذها عمر ودفع إليهم قيمة النصف الذي لهم، وكان مبلغ ذلك خمسين ألف درهم، أعطاهم إياها من مال أتاه من العراق، وأجلاهم إلى الشام (1). وروى ابن شهرآشوب ان النبي (صلى الله عليه وآله) لما توجه إلى فتح قلاع فدك تحصن أهلها في واحدة منها، فناداهم بقوله: ما تفعلون، وما يؤمنكم أن تكونوا آمنين في هذا الحصن، لو تركتكم في هذه القلعة وأمضي إلى سائر قلاعكم وأفتحها، وأتصرف جميع أموالكم التي فيها ؟ ! قالوا: إن لنا حفظة عليها وهي مقفلة عندهم أو عندنا مفاتيحها. قال (صلى الله عليه وآله): بل أعطاني الله مفاتيحها وهي الآن في يدي، فأخرجها من كمه وقال: انظروا إليها، فلما رأوا ذلك اتهموا رجلا سلموا المفاتيح إليه بانه صبا إلى دين محمد (صلى الله عليه وآله)، وأعطى المفاتيح له وعاتبوه في ذلك أشد معاتبة، فحلف أن المفاتيح عنده، وانه جعلها في سفط في صندوق أخفاه في دار محكمة مقفلة. فلما ذهب إليها رأى الأقفال على حالها ولم ير المفاتيح في مكانها، فرجع وقال: أنا علمت أن هذا الرجل نبي لا غير، لأني كنت ضبطت الأقفال، وقرأت عليها آيات من التوراة لدفع السحر عنها باعتقاد ان هذا الرجل ساحر، وقوة عمله بالسحر، وحال جميع الأقفال على حالها، والمفاتيح مفقودة من مواضعها ومحالها، فقالوا له (صلى الله عليه وآله): من أعطاك المفاتيح ؟ قال: الذي أعطى الألواح لموسى أرسلها إلي بيد جبرئيل، ففتحوا حينئذ القلعة وأسرعوا إلى خدمته. فأسلم بعضهم فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) الخمس من أموالهم، وترك الباقي لهم، ومن لم يسلم تصرف أملاكهم وأموالهم وخلاهم وبالهم. فنزل جبرئيل بقوله تعالى: * (فلت ذا القربى حقه) * أي فاطمة فدكا، فإنها ميراثها أي بدل ميراثها من أمها خديجة واختها هند بنت أبي هاله، فرجع (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة وطلب فاطمة (عليها السلام)، وكتب الوثيقة


(1) شرح نهج البلاغة 16: 211 باب 45. (*)

[ 302 ]

وأعطاها الغنائم الفدكية. فقسمت فاطمة (عليها السلام) الأموال المنقولة على فقراء المدينة، وكان الأملاك من أراضي فدك بيدها، وهي متصرفة فيها تأخذ قوت سنتها من منافعها، وتفرق إلى الفقراء ما بقي من حاصلها، إلى أن غصبها العمران منها بعد وفاة أبيها (1). وفي رواية رواها في البحار عن السجاد (عليه السلام) انه قال: لما نزل جبرئيل على النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى له بفتح أراضي فدك شد رسول الله (صلى الله عليه وآله) سلاحه وأسرج دابته، وشد علي (عليه السلام) سلاحه وأسرج دابته، ثم توجها في جوف الليل وعلي (عليه السلام) لا يعلم حيث يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى انتهى إلى فدك، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي تحملني أو أحملك ؟ قال علي (عليه السلام): أحملك يا رسول الله، فقال رسول الله: يا علي أنا أحملك لأني أطول بك ولا تطول بي. فحمل عليا (عليه السلام) على كتفه ثم قام به، فلم يزل يطول به حتى علا على سور الحصن، فصعد علي على الحصن ومعه سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأذن على الحصن وكبر، فابتدر أهل الحصن إلى باب الحصن هرابا حتى فتحوه وخرجوا منه، فاستقبلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بجمعهم ونزل علي (عليه السلام) إليهم، فقتل علي ثمانية عشر من عظمائهم وكبرائهم، وأعطى الباقون البيعة بأيديهم. وساق رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذراريهم ومن بقي منهم وغنائمهم يحملونها على رقابهم إلى المدينة، فلم يوجف عليها غير رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهي له ولذريته خاصة دون المؤمنين (2). وفي العيون عن الرضا (عليه السلام) في فضل العترة الطاهرة قال: الآية الخامسة، قال تعالى: * (وآت ذا القربى حقه) * (3) خصوصية خصهم العزيز الجبار بها


(1) المناقب لابن شهرآشوب 1: 142، عنه البحار 29: 117 ح 11، والعوالم 11: 619 ح 22. (2) البحار 29: 109 ح 3، عن تفسير فرات: 473 ح 619 / سورة الحشر. (3) الاسراء: 26. (*)

[ 303 ]

واصطفاهم على الامة، فلما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ادعو لي فاطمة، فدعيت له فقال: يا فاطمة، قالت: لبيك يا رسول الله، فقال: فدك هي مما لم يوجف عليه خيل ولا ركاب، وهي لي خاصة دون المسلمين، وقد جعلتها لك لما أمرني الله به، فخذيها لك ولولدك... الخ (1). ولذا فسر كثير من المفسرين كالطبرسي وغيره الآية بذلك وقالوا: إن المراد من ذوي القربى قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2). وفي تفسير علي بن إبراهيم: ان الآية نزلت في فاطمة (عليها السلام)، فإنها قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فجعل لها فدك، وللمساكين من ولد فاطمة وابن السبيل منهم (3). وفي الرواية عن الصادق (عليه السلام) انه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد نزول الآية: يا جبرئيل قد عرفت المسكين فمن ذو القربى ؟ قال: هم أقاربك، فدعا حسنا وحسينا وفاطمة (عليهم السلام) فقال: إن ربي أمرني أن أعطيكم ما أفاء علي، قال: أعطيتكم فدكا (4). وفي رواية اخرى قال أبان بن تغلب: فالنبي (صلى الله عليه وآله) أعطاها، فغضب الباقر (عليه السلام) ثم قال: الله أعطاها (5). وفي خبر آخر: فأعطاها فدكا، كلما لم يوجف عليه أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) بخيل ولا ركاب فهو لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يضعه


(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 452 ضمن حديث 184 باب 45، عنه البحار 29: 105 ح 1، والعوالم 11: 619 ح 20، والبرهان 2: 415 ح 2، ونور الثقلين 5: 275، وكنز الدقائق 7: 288، وتفسير الصافي 3: 186. (2) مجمع البيان 3: 411، عنه البحار 29: 107. (3) تفسير القمي 2: 18، عنه البحار 29: 113 ح 8، والعوالم 11: 619 ح 21، والصافي 3: 186. (4) تفسير العياشي 2: 287 ح 46، عنه البحار 29: 119 ح 13، والصافي 3: 187. (5) تفسير فرات: 239 ح 322، عنه البحار 29: 121 ح 19، ونحوه تفسير العياشي 2: 287 ح 47، وكشف الغمة 2: 105. (*)

[ 304 ]

حيث يشاء، وفدك مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب (1). وورد في رواية اخرى في قوله تعالى: * (وآت ذا القربى حقه) * وذاك حين جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) سهم ذي القربى لقرابته، وأعطى فدكا لفاطمة ولولدها، فكانوا على ذلك على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) حتى توفى ثم حجبوها عن قرابته (2)، إلى غير ذلك مما يتعلق بالمسألة. وحاصل المقال على ما ظهر بنحو الإجمال، ان فدكا كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصة دون سائر المسلمين كافة، فاما ان تكون نحلة وعطية لفاطمة (عليها السلام) أعطاها النبي (صلى الله عليه وآله) لها في حياته، وكانت في يدها يتصرف فيها عاملها ووكيلها، كما دل عليه الأخبار، وأفصح عنه الآثار، أو تكون إرثا لفاطمة (عليها السلام) حيث لم يكن لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وارث غيرها. وعلى أي تقدير كانت مختصة بها، وسيأتي بعد شرح الخطبة إن شاء الله تعالى ما يدل على تفصيل المسألة من أخبار العامة والخاصة، والإستدلالات والإحتجاجات الواردة من الفريقين، والنقوض والإبرامات الصادرة من الطرفين، بحيث لا يبقى شبهة عند أحد من أهل الدراية وأرباب الرواية انها (عليها السلام) كانت محقة في دعوى فدك إما إرثا أو نحلة أو عطية، وان الخلفاء غصبوها كما غصبوا الخلافة لأغراض دنيوية دعتهم إلى ذلك، فأغشت أبصارهم، وأعمت أنظارهم، بل جعلوا غصبها مقدمة لاستحكام غصبها، وكانت هي مظلومة في ذلك، مغصوبة في حقها كبعلها وزوجها. فصل: العلة في غصب فدك والعوالي إنهم وضعوا حديثا من لسان النبي (صلى الله عليه وآله) وهو قوله: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.. الخ "، وسيتضح بأوضح بيان أن هذا


(1) تفسير فرات: 323 ح 438، عنه البحار 29: 122 ح 21. (2) تفسير فرات: 323 ح 441، عنه البحار 29: 122 ح 22. (*)

[ 305 ]

الخبر كان موضوعا صرفا جعلوه من عند أنفسهم حتى لا يكون لعلي وفاطمة والحسنين (عليهم السلام) وسعة في وجوه المعيشة، فيؤدي ضيق حالهم إلى استيصالهم، وصرف وجوه الناس عنهم ليستقر أمر الخلافة المغصوبة. وكان أبو بكر متفردا في نقل الرواية، ولم يكن له شاهد على ذلك بالمرة، فظهر بعد مدة مديدة بل في عهد عمر شهود على المسألة، فشهد عمر وعائشة وأوس بن حدثان على صدور الرواية من النبي (صلى الله عليه وآله)، وشهد بعض آخر على أن أبا بكر نقلها من النبي (صلى الله عليه وآله)، بل قيل: إن شهادة الثلاثة المذكورة أيضا إنما كانت على نقل أبي بكر تلك الرواية لا كون الرواية نبوية، وسيأتي تفصيل المرحلة. وبالجملة فادعت فاطمة (عليها السلام) أولا كون فدك نحلة لها من أبيها، فطلبوا منها الوثيقة على ذلك فمزقوها، والشهود فردوها ولم يقبلوها، ثم ادعت على سبيل التنزل والمماشاة كونها إرثا لها من أبيها، فردوها بتلك الرواية التي وضعوها، فلم يبق سنة إلا بدلوها، ودبابة إلا دحروها. وما في بعض الروايات انها ادعت الإرث أولا ثم ادعت النحلة، فذلك على تقدير الصحة إنما هو بلحاظ انها في محل إرثها لا محالة، فلما ألقوا الشبهة بنقل الرواية أبدت ما هو الواقع من حقيقة النحلة. وروى العلامة في كشكوله المنسوب إليه عن مفضل بن عمر، عن الصادق (عليه السلام) قال: لما ولى أبو بكر بن قحافة قال له عمر: إن الناس عبيد هذه الدنيا لا يريدون غيرها، فامنع عن علي وأهل بيته الخمس والفئ وفدكا، فإن شيعته إذا علموا ذلك تركوا عليا، وأقبلوا إليك رغبة في الدنيا وإيثارا لها ومحاماة عليها، ففعل أبو بكر ذلك وصرف عنهم جميع ذلك (1). قال ابن أبي الحديد: قال لي علوي من أهل الحلة يعرف بعلي بن مهنا، ذكي ذو فضائل: ما تظن قصد أبي بكر وعمر بمنع فاطمة فدك ؟ قلت: ما قصدا ؟ ! قال:


(1) الكشكول: 203، عنه البحار 29: 194 ح 40، والعوالم 11: 633 ح 27. (*)

[ 306 ]

أرادا أن لا يظهرا لعلي وقد اغتصبا الخلافة رقة ولينا وخذلانا، ولا يرى عندهما خورا، فاتبعا القرح بالقرح (1). وقال أيضا: وقلت لمتكلم من متكلمي الإمامية، يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل: وهل كانت فدك إلا نخلا يسيرا، وعقارا ليس بذلك الخطير ؟ فقال لي: ليس الأمر كذلك، بل كانت جليلة جدا، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل، وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا أن لا يتقوى علي بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة، ولهذا اتبعا بمنع فاطمة وعلي وسائر بني هاشم وبني المطلب حقهم في الخمس، فإن الفقير الذي لا مال له يضعف همته، ويتصاغر عند نفسه، ويكون مشغولا بالاحتراف والإكتساب عن طلب الملك والرئاسة (2). وقال أيضا: وسألت علي بن الفارقي - مدرس المدرسة الغربية ببغداد - فقلت له: أكانت فاطمة صادقة ؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة ؟ ! فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الإعتذار والموافقة بشئ، لأن يكون قد أسجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. قال ابن أبي الحديد: وهذا كلام صحيح، وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل، إنتهى (3). وبالجملة لقد اقتضت مصلحة أمر الخلافة والحكومة أن يظلموا بغصبها عن تلك المعصومة المظلومة، ليكون علي (عليه السلام) وأولاده فقراء مبتلين بقلة الرياش، وضنك المعيشة، وضيق المعاش ليكون وجوه الناس عنهم منصرفة،


(1) شرح نهج البلاغة 16: 236 باب 45. (2) شرح نهج البلاغة 16: 236 باب 45. (3) شرح نهج البلاغة 16: 284 باب 45. (*)

[ 307 ]

ورأس الجماعة عن التوجه إليهم منحرفة، فلا يتمكن علي (عليه السلام) من المنازعة في الخلافة، ولا يميل الناس إليه بالمرة حتى لا يشتعل ناره، ويقل أعوانه وأنصاره، ويتسلم أمر الخلافة لأبي بكر ومن معه، فيكون في أيديهم الحل والقبض في الجميع، ويخضموا (1) مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، ويعطوا منه من شاؤوا ويمنعوه ممن شاؤوا، وأيم الله ما أشبه حالهم بحال كفار قريش حين قالوا في مثله: " لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله " رأى عمر هذا الرأي بعد أن بويع أبو بكر بالخلافة، فاستحسنه أبو بكر وأرسل إلى وكيل فاطمة (عليها السلام) في فدك والعوالي ومنعه. قال في كشف الغمة: وما كان لأبي بكر وعمر (2) لما وليا هذا الأمر، يرتبان في الأعمال والبلاد القريبة والنائية من الصحابة والمهاجرين والأنصار من لا يكاد يبلغ مرتبة علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ولا يقاربها، فلو اعتقدا هم مثل بعض الولاة، وسلما إليهم هذه الصدقة التي قامت النائرة في أخذها، وعرفاهم ما روياه وقالا لهم: أنتم ذو القربى، وأنتم أهل بيت العصمة الذين شهد الله لكم بالطهارة، وأذهب عنكم الرجس، وقد عرفناكم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " لا نورث ما تركناه صدقة " فعليكم تبعة هذه الفعلة وقد سلمناها إليكم، فإن فعلتم الواجب الذي أمرتم به، وفعلتم فيها فعل النبي (صلى الله عليه وآله) فقد أصبتم وأصبنا، وإن تعديتم الواجب فقد أخطأتم وأصبنا، ولو فعلا كذلك لكان من الإنصاف كما ترى (3). وحكى ابن أبي الحديد عن كلام قاضي القضاة نقلا عن بعض الشيعة أنه قال في المقام: قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها فضلا عن الدين، ثم


(1) الخضم: الأكل عامة، وقيل: هو مل ء الفم بالمأكول، وقيل: الخضم الأكل بأقصى الأضراس. / لسان العرب. (2) كذا، وفي المصدر: " وعلى هذا فقد كان أبو بكر وعمر ". (3) كشف الغمة 2: 105. (*)

[ 308 ]

قال ابن أبي الحديد: وهذا الكلام لا جواب عنه، ولقد كان التكرم ورعاية حق رسول الله وحفظ عهده، يقتضي أن تعوض إبنته بشئ يرضيها إن لم يستنزل المؤمنون عن فدك، ويسلم إليها تطييبا لقلبها، وقد يسوغ للإمام أن يفعل مثل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه، إنتهى (1). أقول: مع أن المسلمين أيضا كانوا لا يضايقون بذلك لو قال لهم ذلك، أو أمرهم بأن يفعلوا كذلك، والوجه الآخر أن من لوازم الخلافة وآثارها الظاهرية أخذ الوجوهات الإسلامية، فهم فعلوا ذلك ليتبين للناس أن الأمر انتقل إليهم بحيث قد أخذوا ما شاؤوا من أهل بيت النبوة، فلا يبقى لسائر الناس كلام بعد ذلك في صرف الوجوه إليهم، ويزول طمعهم في أهل البيت فيصرف وجوههم عنهم، إذ لا يبقى للضعيف قوة دافعة بعد جريان الحكم في القوى البتة. وعلى أي نحو كان فلما بويع لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة، وكان علي (عليه السلام) حينئذ مشغولا بتجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله) - على ما ورد تفصيل الأمر في الأخبار المروية - رجعوا إلى منازلهم، وأقبلوا على إصلاح شأنهم وحالهم، فأول ما اقتضاه مصلحة الدولة والخلافة بعد استقرار الأمر في الجملة أن يرسلوا إلى فدك ويخرجوا عنها وكيل فاطمة الزهراء (عليها السلام). فرجع الوكيل إلى المدينة وأخبر بالواقعة، فبعد ذلك احتج علي وفاطمة (عليهما السلام) على أبي بكر وعمر باحتجاجات كثيرة في مجالس مختلفة، وأتيا إليهما بحجج شافية، واستدلالات وافية، فلم ينفع ذلك في تلك القلوب القاسية شيئا بالمرة، بل زادوا قسوة على قسوة لكونها كالحجارة أو أشد قسوة.


(1) شرح نهج البلاغة 16: 268 باب 45. (*)

[ 309 ]

فصل في ذكر إحتجاجات فاطمة (عليها السلام) منها ما رواه في كتاب الإحتجاج عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما بويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار، بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) منها، فجاءت فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر فقالت له: يا أبا بكر لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله بأمر الله تعالى، فقال: هاتي على ذلك بشهود - وفي رواية اخرى قال: هاتي أسود أو أحمر يشهد بذلك -. فجاءت بام أيمن فقالت: لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتج عليك بما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنشدك بالله ألست تعلم ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ام أيمن امرأة من أهل الجنة ؟ فقال: بلى، قالت: فأشهد أن الله عزوجل أوحى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله): * (فلت ذا القربى حقه) * (1) فجعل فدك طعمة لفاطمة (عليها السلام) بأمر الله سبحانه، وجاء علي (عليه السلام) فشهد بمثل ذلك. فكتب أبو بكر لها كتابا برد فدك إليها ودفعه لها، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب ؟ فقال: إن فاطمة ادعت في فدك، وشهدت لها ام أيمن وعلي فكتبته لها،


(1) الروم: 38. (*)

[ 310 ]

فأخذ عمر الكتاب من يد فاطمة (عليها السلام) فتفل فيه ومحاه ومزقه، وقال: هذا فئ للمسلمين. وقال: أوس بن حدثان، وعائشة، وحفصة يشهدون على رسول الله بأنه قال: إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، وان عليا زوجها يجر إلى نفسه، وأما ام أيمن فهي إمرأة صالحة لو كان معها غيرها لنظرنا فيه، فخرجت فاطمة (عليها السلام) تبكي وتقول: بقر الله بطنك كما بقرت كتابي، فاستقبلها علي (عليها السلام) فقال: مالك يا بنت رسول الله غضبى ؟ فذكرت له ما صنع عمر، فقال (عليه السلام): ما ركبوا مني ومن أبيك أعظم من هذا (1). ومنها ما رواه في كتاب الإختصاص عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجلس أبو بكر مجلسه، بعث إلى وكيل فاطمة فأخرجه من فدك، فأتته فاطمة (عليها السلام) فقالت: يا أبا بكر ادعيت انك خليفة أبي وجلست مجلسه، وأنت بعثت إلى وكيلي فأخرجته من فدك، وقد تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صدق بها علي وان لي بذلك شهودا، فقال: إن النبي لا يورث. فرجعت إلى علي (عليه السلام) فأخبرته فقال: إرجعي إليه وقولي له: زعمت اورث سليمان داود، وورث يحيى زكريا، وكيف لا أرث أنا أبي ؟ ! فقال عمر: أنت معلمة، قالت: وإن كنت معلمة فإنما علمني ابن عمي وبعلي، فقال أبو بكر: فإن عائشة تشهد وعمر انهما سمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: النبي لا يورث، فقالت (عليها السلام): هذا أول شهادة زور شهدا بها في الإسلام. ثم قالت: فإن فدك إنما صدق بها علي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولي بذلك بينة، فقال لها: هلمي ببينتك، قال: فجاءت بام أيمن وعلي (عليه السلام)، فقال أبو بكر: يا ام أيمن انك سمعت من رسول الله ما يقول في فاطمة، فقالا: سمعنا


(1) الإحتجاج 1: 234 ح 47، عنه البحار 29: 127 ح 27، والعوالم 11: 751 ح 1، ونحوه تفسير القمي 2: 155. (*)

[ 311 ]

رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، ثم قالت ام أيمن: فمن كانت سيدة نساء أهل الجنة تدعي ما ليس لها ؟ ! وأنا إمرأة من أهل الجنة ما كنت لأشهد بما لم أكن سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال عمر: دعينا يا ام أيمن من هذه القصة، بأي شئ تشهدين ؟ فقالت: كنت جالسة في بيت فاطمة ورسول الله (صلى الله عليه وآله) جالس حتى نزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد قم فإن الله تبارك وتعالى أمرني أن أخط لك فدكا بجناحي، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع جبرئيل فما لبث أن رجع، فقالت فاطمة (عليها السلام): يا أبة أين ذهبت ؟ فقال (صلى الله عليه وآله): خط جبرئيل لي فدكا بجناحه، وحد لي حدودها، فقالت: يا أبة اني أخاف العيلة والحاجة من بعدك فصدق بها علي، فقال (صلى الله عليه وآله): هي صدقة عليك فاقبضيها، قالت: نعم، فقال رسول الله: يا ام أيمن اشهدي ويا علي اشهد. فقال عمر: أنت إمرأة ولا نجيز شهادة إمرأة وحدها، وأما علي فيجر إلى نفسه، قال: فقامت مغضبة وقالت: اللهم انهما ظلما ابنة نبيك حقها فاشدد وطأتك عليهما. ثم خرجت وحملها علي (عليه السلام) على اتان عليه كساء له خمل، فدار بها أربعين صباحا في بيوت المهاجرين والأنصار والحسن والحسين (عليها السلام) معها وهي تقول: يا معشر المهاجرين والأنصار نصروا الله وابنة نبيكم، وقد بايعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم، ففوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ببيعتكم، قال: فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها. قال: فانتهت إلى معاذ بن جبل فقالت: يا معاذ بن جبل اني قد جئتك مستنصرة، وقد بايعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تنصره وذريته، وتمنعه مما تمنع منه نفسك وذريتك، وان أبا بكر قد غصبني على فدك، وأخرج وكيلي منها، قال: فمعي غيري ؟ قالت: لا ما أجابني أحد، قال: فأين أبلغ أنا من نصرك. قال: فخرجت من عنده ودخل إبنه فقال: ما جاء بابنة محمد إليك ؟ قال:


[ 312 ]

جاءت تطلب نصرتي على أبي بكر فإنه أخذ منها فدكا، قال: فما أجبتها به ؟ قال: قلت وما يبلغ من نصرتي أنا وحدي ؟ ! قال: فأبيت أن تنصرها ؟ قال: نعم، قال: فأي شئ قالت لك ؟ قال: قالت لي: والله لا نازعتك (1) الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال: فقال: أنا والله لا نازعتك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ لم تجب ابنة محمد (صلى الله عليه وآله)، [ قال: ] (2) وخرجت فاطمة من عنده وهي تقول: والله لا اكلمك كلمة حتى أجتمع أنا وأنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم انصرفت. فقال علي (عليه السلام) لها: ايتي أبا بكر وحده فإنه أرق من الآخر، وقولي له: ادعيت مجلس أبي وانك خليفته، وجلست مجلسه، ولو كانت فدك لك ثم استوهبتها منك لوجب ردها علي. فلما أتته وقالت له ذلك قال: صدقت، قال: فدعا بكتاب فكتبه لها برد فدك، فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: يا بنت محمد ما هذا الكتاب الذي معك ؟ فقالت: كتاب كتب لي أبو بكر برد فدك، فقال: هلميه إلي، فأبت أن تدفعه إليه، فرفسها برجله، وكانت حاملة بابن اسمه المحسن، فأسقطت المحسن من بطنها، ثم لطمها فكأني أنظر إلى قرط في اذنها حين نقف، ثم أخذ الكتاب فخرقه، فمضت ومكثت خمسة وسبعين يوما مريضة مما ضربها عمر، ثم قبضت (3). بيان: قال في النهاية: الوط ء في الأصل الدوس بالقدم، فسمى به الغزو والقتل لأن من يطأ برجله فقد استقصى في إهلاكه واعانته، ومنه الحديث: " اللهم اشدد وطأتك على مضر " أي خذهم أخذا شديدا، إنتهى (4).


(1) في المصدر: لانازعنك. (2) أثبتناه من المصدر. (3) الإختصاص للمفيد: 183، عنه البحار 29: 189 ح 39، والعوالم 11: 647 ح 2. (4) النهاية 5: / 200 وطأ. (*)

[ 313 ]

والخمل - بالتحريك - هدب القطيفة ونحوها، وقولها (عليها السلام): " لا نازعتك الفصيح " أي لا انازعك بما يفصح عن المراد أي بكلمة من رأسي، فإن محل الكلام في الرأس، أو المراد بالفصيح اللسان، قوله: " حين نقف " على بناء المجهول أي كسر من لطم اللعين. ومنها ما روى العلامة في كشكوله عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه لما قام أبو بكر بن أبي قحافة بالأمر نادى مناديه: " من كان له عند رسول الله دين أو عدة فليأتني حتى أقضيه " وأنجز لجابر بن عبد الله ولجرير بن عبد الله البجلي، قال علي (عليه السلام) لفاطمة (عليها السلام): صيري إلى أبي بكر وذكريه فدكا. فصارت فاطمة وذكرت له فدكا مع الخمس والفئ، فقال: هاتي بينة يا بنت رسول الله، فقالت: أما فدك فإن الله عزوجل أنزل على نبيه قرآنا يأمر فيه بأن يعطيني ويؤتيني وولدي حقي، قال الله تعالى: * (فلت ذا القربى حقه) * (1) فكنت أنا وولدي أقرب الخلائق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنحلني وولدي فدكا. فلما تلا عليه جبرئيل: " المسكين وابن السبيل " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما حق المسكين وابن السبيل ؟ ! فأنزل الله تعالى: * (واعلموا انما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) * (2) فقسم الخمس ستة أقسام، فقال: * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) * (3). فما لله فهو لرسوله، وما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو لذي القربى ونحن ذو القربى، قال الله تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (4).


(1) الروم: 38. (2) الأنفال: 41. (3) الحشر: 7. (4) الشورى: 23. (*)

[ 314 ]

فنظر أبو بكر بن أبي قحافة إلى عمر بن الخطاب فقال: ما تقول ؟ فقال عمر: ومن اليتامى والمساكين وأبناء السبيل ؟ فقالت فاطمة: اليتامى الذين يأتمون بالله وبرسوله وبذي القربى، والمساكين الذين أسكنوا معهم في الدنيا والآخرة، وابن السبيل الذي يسلك مسلكهم. قال عمر: فإذا الخمس والفئ كله لكم ولمواليكم وأشياعكم ؟ ! فقالت فاطمة: أما فدك فأوجبها الله لي ولولدي دون موالينا وشيعتنا، وأما الخمس فقسمه الله لنا ولموالينا وأشياعنا كما يقرأ في كتاب الله، قال عمر: فما لسائر المهاجرين والأنصار والتابعين باحسان ؟ قالت فاطمة: إن كانوا موالينا ومن أشياعنا فلهم الصدقات التي قسمها الله وأوجبها في كتابه، فقال عزوجل: * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب...) * (1) قال عمر: فدك لك خاصة والفئ لكم ولأوليائكم، لا أحسب أصحاب محمد يرضون بهذا. قالت فاطمة: فإن الله تعالى رضي بذلك ورسوله رضي به، وقسم على المولاة والمتابعة لا على المعاداة والمخالفة، ومن عادانا فقد عادى الله، ومن خالفنا فقد خالف الله، ومن خالف الله فقد استوجب من الله العذاب الأليم، والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، فقال عمر: هاتي بينة يا بنت محمد على ما تدعين. فقالت فاطمة (عليها السلام): قد صدقتم جابر بن عبد الله وجرير بن عبد الله ولم تسألوهما البينة، وبينتي في كتاب الله، فقال عمر: إن جابرا وجريرا ذكرا أمرا هينا، وأنت تدعين أمرا عظيما يقع به الردة من المهاجرين والأنصار. فقالت (عليها السلام): إن المهاجرين برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيت رسول الله هاجروا إلى دينه، والأنصار بالإيمان بالله وبرسوله وبذي القربى أحسنوا، فلا هجرة إلا إلينا، ولا نصرة إلا لنا، ولا اتباع بإحسان إلا بنا، ومن ارتد عنا فإلى الجاهلية، فقال لها عمر: دعينا عن أباطيلك واحضرينا من يشهد لك بما تقولين.


(1) التوبة: 60. (*)

[ 315 ]

فبعثت إلى علي والحسن والحسين (عليهم السلام) وام أيمن وأسماء بنت عميس - وكانت تحت أبي بكر بن أبي قحافة - فأقبلوا إلى أبي بكر وشهدوا لها بجميع ما قالت وادعته، فقال: أما علي فزوجها، وأما الحسن والحسين فابناها، وأما ام أيمن فمولاتها، وأما أسماء بنت عميس فقد كانت تحت جعفر بن أبي طالب، فهي تشهد لبني هاشم، وقد كانت تخدم فاطمة، وكل هؤلاء يجرون إلى أنفسهم. فقال علي (عليه السلام): أما فاطمة فبضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن آذاها فقد آذى رسول الله، ومن كذبها فقد كذب رسول الله، وأما الحسن والحسين فابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسيدا شباب أهل الجنة، من كذبهما فقد كذب رسول الله، إذ كان أهل الجنة صادقين. وأما أنا فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنت مني وأنا منك، وأنت أخي في الدنيا والآخرة، الراد عليك هو الراد علي، من أطاعك فقد أطاعني، ومن عصاك فقد عصاني. وأما ام أيمن فقد شهد لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجنة، ودعا لأسماء بنت عميس وذريتها، فقال عمر: أنتم كما وصفتم به أنفسكم، ولكن شهادة الجار إلى نفسه لا تقبل. فقال علي (عليه السلام): إذا كنا نحن كما تعرفون ولا تنكرون، وشهادتنا لأنفسنا لا تقبل، وشهادة رسول الله لا تقبل، فإنا لله وإنا إليه راجعون إذا ادعينا لأنفسنا تسألنا البينة فما من معين يعين، وقد وثبتم على سلطان الله وسلطان رسوله، فأخرجتموه من بيته إلى بيت غيره من غير بينة ولا حجة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ثم قال لفاطمة (عليها السلام): إنصرفي حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. قال المفضل بن عمر: قال مولاي جعفر (عليه السلام): كل ظلامة حدثت في الإسلام أو تحدث، وكل دم مسفوك حرام، ومنكر مشهور حرام، وأمر غير محمود، فوزره في أعناقهما وأعناق من شايعهما وتابعهما، ورضي بولايتهما إلى


[ 316 ]

يوم القيامة (1). بيان: قال الفاضل المجلسي (رحمه الله): يظهر من هذا الخبر أن لذي القربى حقين، حقا مختصا وحقا مشتركا، وأشار سبحانه في الآية الأولى إليهما جميعا، فلما سألوا عن حق المسكين وابن السبيل أنزل آية الخمس لبيان أن اشتراكهما إنما هو في الخمس لا في سائرالفئ، فلا ينافي اختصاص فدك بهم (عليهم السلام). وأما تفسيرها (عليها السلام) اليتامى بالذين يأتمون، فلعل المعنى ان المراد بهم يتامى الشيعة لا مطلق الأيتام، فلا يكون الغرض بيان أن اليتيم مشتق من الإئتمام لاختلاف بناء الكلمتين، مع أنه يحتمل أن يكون مبنيا على الإشتقاق الكبير، ويحتمل أن يكون تأويلا لبطن الآية، بأن المراد من اليتيم من انقطع عن والديه الروحانيين أي النبي والإمام من الشيعة، موافقا للأخبار الكثيرة الواردة في ذلك. وأما ما فسرت به المسكين فلا ينافي البناء، لأن المسكين والمسكن والسكنى متساوقة في الإشتقاق، وهو على وزن فعيل، يقال: تمسكن كما يقال: تمدرع وتمندل، وابن السبيل أظهر فإنه فسرته بسبيل الحق والصراط المستقيم. ثم انه يدل ظاهرا على عدم اختصاص الخمس ببني هاشم - كما هو مذهب أكثر العامة - فيمكن أن يكون هذا على سبيل التنزل، أو يكون المراد انه غير شامل لجميع بني هاشم بل مختص بمن كان منهم تابعا للحق (2). ومنها الإحتجاج المشهور كالنور على الطور المسطور، في كتاب مسطور، في رق منشور، المعروف بخطبة تظلم الزهراء (عليها السلام) التي مقصودنا من هذا الكتاب شرحها، وكل ما ذكر إلى هنا كان مقدمة بالنسبة إليها، ونحن نشرع الآن في ايراد تلك الخطبة الشريفة المشتملة على الآيات البينات، والبراهين الساطعات، والحجج الواضحات، والدلائل القاطعات.


(1) الكشكول: 203، عنه البحار 29: 194 ح 40، والعوالم 11: 633 ح 27. (2) البحار 29: 199. (*)

[ 317 ]

ونشرح فقراتها الكريمة على القواعد العربية، والضوابط اللفظية، ونشير في بعض المواضع إلى بعض المعاني الخفية بالإشارة الإجمالية لا التفصيلية، إذ ليس الغرض هنا إلا شرح ظواهرها، وبسط الكلام في تنقيح ظاهرها. وبعد إتمام الخطبة نذكر ما يتعلق بمضامينها الشريفة، من تحقيق حقيقة المسألة في أمر مرافعة فدك الواقعة بين فاطمة الزهراء (عليها السلام) وابي بكر على وجه النقض والإبرام توضيحا للمرام، وتنقيحا للحال والمقام. [ مصادر الخطبة الشريفة ] فنقول وبالله التوفيق: إعلم ان هذه الخطبة الشريفة من الخطب المشهورة، والاحتجاجات المأثورة التي روتها الخاصة والعامة بأسانيد متظافرة، وطرق متكاثرة. قال عبد الحميد بن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، فيما ذكر من الأخبار الواردة في ذكر قصة فدك، عند شرح قوله (عليه السلام): " بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين.. الخ " خطب (عليه السلام) بها بسبعة أيام قبل موته كما قيل، قال: الفصل الأول فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم، لا من كتب الشيعة ورجالهم، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في السقيفة وفدك. وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدث، كثير الأدب، ثقة، ورع، أثنى عليه المحدثون، ورووا عنه مصنفاته وغير مصنفاته، ثم قال: قال أبو بكر: حدثني محمد بن زكريا - إلى آخر الطريق - وحدثني عثمان بن عمران - إلى آخر - وحدثني أحمد بن محمد - إلى آخر - قالوا جميعا: لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدك... الخ (1). وقد أورد الخطبة علي بن عيسى الأربلي في كتاب كشف الغمة، وقال أيضا:


(1) شرح نهج البلاغة 16: 210، باب 45، عنه البحار 29: 216 ح 1. (*)

[ 318 ]

نقلتها من كتاب السقيفة تأليف أحمد بن عبد العزيز الجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلفها المذكور، قرئت في سنة إثنتين وعشرين وثلاثمائة، روى عن رجاله من عدة طرق ان فاطمة (عليها السلام) لما بلغها اجماع ابي بكر.... الى اخر الخطبة (1). وقد أشار إليها المسعودي في تاريخ مروج الذهب (2)، وذكرها السيد المرتضى بعدة طرق منتهية الى عائشة وغيرها (3)، والطبرسي في كتاب الاحتجاج (4)، ولها طرق اخرى من كتاب أبى الفضل أحمد بن أبى طاهر الذي صنفه في بلاغات النساء (5)، وروى الصدوق بعض فقراتها المتعلقة بالعلل في كتابه علل الشرائع (6)، وذكر السيد ابن طاووس في كتاب الطرائف مواضع الشكوى منها (7)، الى غير ذلك (8). وبالجملة لا إشكال ولا شبهة في كون الخطبة من فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وان مشايخ آل أبى طالب كانوا يروونها عن آبائهم، ويعلمونها أبناءهم، ومشايخ الشيعة كانوا يتدارسونها بينهم، ويتداولونها بأيديهم وألسنتهم. ونقل ابن أبى الحديد في الشرح عن السيد الأجل المرتضى (رحمه الله) انه قال: وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني، عن علي بن هارون، عن عبيد الله بن أحمد، عن أبيه قال: ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كلام فاطمة عند منع أبي بكر اياها فدك، وقلت له: ان هؤلاء


(1) كشف الغمة 2: 108، عنه البحار 29: 217 ح 02 (2) مروج الذهب 2: 304. (3) الشافي 4: 69. (4) الاحتجاج 1: 253 ح 49، عنه البحار 29: 220 ح 8. (5) بلاغات النساء: 14، عنه احقاق الحق 10: 296. (6) علل الشرائع: 248 ح 2 - 4. (7) الطرائف: 263 ح 368. (8) وانظر شرح الأخبار 3: 34، ودلائل الإمامة: 109 ح 36، ودلائل الزهراء للطبري 71 ح 36، وتلخيص الشافي للطوسي 3: 139، والمقتل للخوارزمي 1: 77، وأعلام النساء 4: 116. (

[ 319 ]

يزعمون انه مصنوع، وانه من كلام أبي العيناء، لأن الكلام منسوق البلاغة. فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم، ويعلمونه أولادهم، وقد حدثني به أبي عن جدي يبلغ به فاطمة (عليها السلام) على هذه الحكاية، وقد رواه مشايخ الشيعة، وتدارسوه قبل أن يوجد جد أبي العيناء. وقد حدث الحسين بن علوان، عن عطية العوفي انه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسين يذكر عن أبيه هذا الكلام، ثم قال أبو الحسين زيد: وكيف ينكرون هذا من كلام فاطمة (عليها السلام)، وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة (عليها السلام) ويحققونه لو لا عداوتهم لنا أهل البيت ؟ ! ثم ذكر الحديث بطوله على نسقه، انتهى (1). فقول بعض العامة العمياء بأن هذه الخطبة مصنوعة، وانها من كلام أبي العيناء، حيث ذكروا أن أبا العيناء ادعى هذا الكلام لنفسه - كما ذكره أبو الفضل المذكور - (2) نظير ما ذكروا أن خطب نهج البلاغة، أ والخطبة الشقشقية وحدها من كلام الرضي ومصنوعاته، مع ما تحقق من وجود تلك الخطب والكلمات قبل ولادة الرضي بأعوام كثيرة، كما حققها في شرح نهج البلاغة (3)، وما تلك النسبة في المقامين إلا لاخفاء مثالب الخلفاء، حتى لا يتحقق شكاية أهل البيت (عليهم السلام) منهم بين العامة فيوجب ذلك قدحهم. وأبو العيناء المذكور هو أبو عبد الله محمد بن قاسم بن خلاد الضرير المعروف بأبي العيناء مولى أبي جعفر المنصور، أصله من اليمامة وولد بالأهواز سنة إحدى وتسعين ومائة ونشأ بالبصرة، وكان من أحفظ الناس، وأفصحهم لسانا، وأسرعهم جوابا، كف بصره حين بلغ أربعين سنة، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، كان صاحب النوادر والشعر والأدب، وسمع من أبي عبيدة والأصمعي وغيرهما،


(1) شرح نهج البلاغة 16: 252 باب 45. (2) بلاغات النساء: 12. (3) راجع شرح نهج البلاغة 1: 205 باب 3. (*)

[ 320 ]

والخلاد - بفتح الخاء المعجمة، وتشديد اللام -. ولقب بأبي العيناء لأنه قال لأبي زيد الأنصاري: كيف تصغر عينا ؟ فقال: عيينا يا أبا العيناء. وبالجملة لا شبهة في صدور أصل الخطبة منها (عليها السلام)، لكن الروايات مختلفة من حيث تبديل بعض الفقرات، وتغيير بعض الكلمات مع زيادة أو نقيصة، حتى في أواخر بعض روايات أحمد بن أبي طاهر أنه قال عطية الأوفي: سمعت أبا بكر يومئذ يقول لفاطمة (عليها السلام): يا بنت رسول الله لقد كان أبوك بالمؤمنين رحيما، وعلى الكافرين عذابا أليما، وإذا عزوناه كان أباك دون النساء، وأخا ابن عمك دون الرجال، آثره على كل حميم، وساعده على الأمر العظيم، لا يحبكم إلا العظيم السعادة، ولا يبغضكم إلا الردي الولادة، وأنتم عترة الله الطيبون، وخيرة الله المنتجبون، على الآخرة أدلتنا، وإلى باب الجنة مسالكنا، وأما منعك ما سألت فلا ذلك لي، وأما فدك وما جعل أبوك لك فإن منعتك فأنا ظالم، وأما الميراث فقد تعلمين أن أباك قال: لا نورث وما أبقيناه صدقة. قالت: إن الله تعالى يقول عن نبي من أنبيائه: * (يرثني ويرث من آل يعقوب) * (1) وقال: * (وورث سليمان داود) * (2) فهذان نبيان وقد علمت أن النبوة لا تورث، وإنما يورث ما دونها، فمالي امنع إرث أبي ؟ أأنزل الله في كتابه إلا فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)، فتدلني عليه فأقنع به ؟ فقال: يا بنت رسول الله أنت عين الحجة، ومنطق الرسالة، لا يد لي بجوابك، ولا أدفعك عن صوابك، ولكن هذا أبو الحسن بيني وبينك هو الذي أخبرني بما تفقدت، وأنبأني بما أخذت وتركت، قالت: فإن يكن ذلك كذلك فصبرا لمر الحق والحمد لله إله الحق، إنتهى (3).


(1) مريم: 6. (2) النمل: 16. (3) بلاغات النساء: 19، عنه البحار 29: 245. (*)

[ 321 ]

ولا يخفى لذي عينين أن ما ألحقوه في آخر الخبر إن كان له أصل وفصل، فهو تعريض للعمرين، وإلا فلا يوافق شيئا من الروايات، ولا يلائم ما يأتي من الفقرات والتظلمات والشكايات. وسنفصل المقال في ذلك المجال حتى يتبين جلية الحال، بعد أن نوضح تلك الخطبة الغراء الساطعة عن سيدة النساء التي تحير من العجب منها والإعجاب بها أحلام الفصحاء والبلغاء، ونبني الشرح على رواية الإحتجاج، ونشير أحيانا إلى بعض مواضع الإختلاف الواقع في الروايات الاخر. [ دفع إشكالين ] ولابد أولا قبل الشروع في شرح الخطبة من التنبيه على أمرين، والإشارة إلى دفع إشكالين، أحدهما: ان فاطمة (عليها السلام) قد كانت سيدة النساء، وبنت خير الأنبياء، وزوجة سيد الأوصياء، وهي المخدرة العظمى، ومحل العصمة الكبرى، فكيف يصح لشأنها في شرع أبيها أن تخرج من خدرها، وتدخل المسجد الغاص بالمهاجرين والأنصار، والأخيار والأشرار وهم أجانبة عنها، تسمعهم صوتها، وتتكلم معهم ويتكلمون معها ؟ وكيف رضى أمير المؤمنين (عليه السلام) بذلك منها، مع أنه كان يمكنه أن يطالب حقها الذي كانت تطلبه بالوكالة عنها حتى لا يسمع الأجانبة كلامها ؟ ! الثاني: إنها كانت من أهل بيت العصمة والطهارة، الذين اختاروا الزهادة في الدنيا بحسن اختيارهم، وكانت الدنيا أزهد عندهم من عفطة عنز، أو قلامة حافر، أو لحم خنزير في يد مجذوم كافر، ولم تكن الدنيا تزن عندهم جناح بعوضة، بل تركوا اختيارا لا اضطرارا جميع اللذائذ الدنيوية لأجل الحظوظ الاخروية، ولم يذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا. وقد جاء جبرئيل بمفاتيح جميع خزائن الأرض إليهم فلم يقبلوها، وأعرضوا بالكلية عن الدنيا وما فيها، مع أنهم لو شاؤوا أن يبدل الله جميع ما في الأرض لهم


[ 322 ]

ذهبا، أو أن يبتغوا إلى دفائن الأرض سببا، لكان ذلك أقرب إليهم وأسرع من رجع الطرف ومد البصر. فما وجه هذا الإصرار في خصوص فدك على هؤلاء الكفار الفجار، حتى انتهى الأمر إلى الخروج إلى مجامع المهاجرين والأنصار، ومحضر الشهود والنظار، والمكالمة مع الفجار والأبرار، وكذا البكاء والأنين عند جماعة الموافقين والمنافقين، وخطاب المعاتبة على أمير المؤمنين، وغير ذلك مما يأتي تفصيله في محله ؟ ! والجواب عن الأمرين معا كما يظهر من الروايات: إن الضرورات تبيح المحذورات، وانهم (عليهم السلام) لم يكونوا مكلفين إلا بالعمل على طبق الصورة الظاهرية، والإتصاف بلوازم البشرية، وتأذيهم مما يخالف القواعد الشرعية أشد من تأذينا، لما فيهم من الأسرار الباطنية، والسرائر الداخلية، مع ما في هذا الإصرار من الإشارة إلى فظاعة أمر تلك الولاية الباطلة، وشناعة هذه الخلافة التي تقمصها غصبا ابن أبي قحافة، وانه كان يعلم ان محل علي أمير المؤمنين منها محل القطب من الرحى. والتنبيه على كفر العمرين للناس من باب إتمام الحجة، وايضاح المحجة، لئلا يقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين، أو كنا نحن بهذا الأمر جاهلين، نظير ما فعل موسى بهارون أخيه من الأخذ بلحيته، والضرب على رأسه حتى يتضح عند الناس قبح عبادة العجل وشناعتها، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، بل كان معنى كلامه هذا في فدك راجعا إلى الكلام في خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) التي غصبها أهل الجور والعناد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، وكان في هذه المعركة العظمى، والبناء (1) العظيم تمييز أهل الجنة من أهل الجحيم. وكان بكاؤها (عليها السلام) في الباطن لأجل الهالكين من امة أبيها،


(1) النبأ، خ ل. (*)

[ 323 ]

والسالكين لمسالك الضلالة الثاوين في مهاويها، إلى غير ذلك مما يظهر من الأخبار والآثار لمن كان من اولى الأيدي والأبصار. وقال الفاضل البهبهاني في المقامع: إن أخبار تكلم فاطمة في أمر فدك في المسجد في حضور الصحابة متواترة البتة، وكانت هي (عليها السلام) أعلم من غيرها بالأحكام الشرعية، ولعله من باب الضرورة التي يجوز لأجلها تكلم النساء مع الرجال بإجماع الامة. واما تكلمها مع سلمان وجابر وسائر الصحابة فلم يتحقق لنا، وبعض النظرات الواقعة منهم ومنها لعله من باب الإتفاقيات الضرورية، أو ان الأحكام بالنسبة إلى الأعصار مختلفة، ولعله لم ينزل في تلك الأوقات آية الحجاب ونحوه، وعلى نحوه يحمل ما ورد ان النبي (صلى الله عليه وآله) سمع صوت جماعة من النساء في ليلة زفاف فاطمة (عليها السلام)، على فرض ان كانت فيهن من لم تكن محرما بالنسبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إنتهى. وقال الفاضل الدربندي (رحمه الله): إن تكلم فاطمة (عليها السلام) في غير مقام الضرورة المجوزة إنما كان مع الصحابة الذين لم يكونوا من جملة اولى الاربة، كسلمان وأبي ذر ونحوهما لا مطلقا، وكذلك الكلام في مسألة النظر فإنه نظير الكلام في الكلام. وقد استثنى الله في آية الحجاب غير اولي الاربة من الرجال والطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، والمناط في النظر والكلام متحد، والكلام فيهما من واد واحد، إذ المدرك في حرمتهما - كما يظهر من الأخبار أيضا - هو كون الرجال من اولى الاربة في النساء لا غيره. وعلى ذلك يحمل ما ورد ان الحسين (عليه السلام) أمر أهل بيته يوم الطف عند اشتداد الحرب بالخروج من الخدور، تحريضا للأصحاب على المجاهدة والقتال في ميدان المعركة، حيث قال: يا زينب، ويا ام كلثوم، ويا رقية، ويا سكينة، ويا أهل بيت النبوة اخرجن من خدوركن.


[ 324 ]

فخرجن بارزات الوجوه، ناشرات الشعور، لاطمات الصدور، يندبن ويبكين ويقلن: يا أنصار دين الله ألا تدفعون عن بنات رسول الله ؟ ألا تذبون عن حرم رسول الله ؟ والأصحاب ينظرون اليهن ويبكون بين أيديهن، فقالوا للحسين (عليه السلام): يا ابن رسول الله والله لا يصيبك أحد بسوء مادام منا عرق نابض، إلى غير ذلك، مع كون ذلك من باب الضرورة أيضا. وقال الفاضل المجلسي (رحمه الله) بعد ذكر السؤال والجواب الواقع بين علي وفاطمة (عليها السلام) في آخر الخطبة - كما يأتي - ما لفظه: ولندفع الإشكال الذي قلما لا يخطر بالبال عند سماع هذا الجواب والسؤال، وهو ان اعتراض فاطمة على أمير المؤمنين (عليه السلام) في ترك التعرض للخلافة، وعدم نصرتها، وتخطئته فيهما، مع علمها بإمامته ووجوب اتباعه وعصمته، وانه لم يفعل شيئا إلا بأمره تعالى ووصية الرسول، مما ينافي عصمتها وجلالتها. فأقول: ويمكن أن يجاب عنه بان هذه الكلمات صدرت منها لبعض المصالح، ولم تكن واقعا منكرة لما فعله بل كانت راضية، وإنما كان غرضها أن يتبين للناس قبح أعمالهم، وشناعة أفعالهم، وان سكوته (عليه السلام) ليس لرضاه بما أتوا به. ومثل هذا كثيرا ما يقع في العادات والمحاورات، كما ان الملك يعاتب بعض خواصه في أمر بعض الرعايا مع علمه ببراءته من جنايتهم ليظهر لهم عظم جرمهم، وانه مما استوجب به أخص الناس بالملك منه المعاتبة. ونظير ذلك ما فعله موسى (عليه السلام) لما رجع إلى قومه غضبان أسفا من إلقائه الألواح، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، ولم يكن غرضه الإنكار على هارون، بل أراد بذلك أن يعرف القوم عظم جنايتهم وشدة جرمهم، كما مر الكلام فيه. واما حمله على ان شدة الغضب والأسف والغيظ حملتها على ذلك مع علمها بحقية ما ارتكبه (عليه السلام)، فلا ينفع في دفع الفساد، وينافي عصمتها وجلالتها التي عجزت عن إدراكها أحلام العباد. وبقي هنا إشكال آخر، وهو ان طلب الحق والمبالغة فيه وإن لم يكن منافيا


[ 325 ]

للعصمة، لكن زهدها (عليها السلام)، وتركها للدنيا، وعدم اعتدادها بنعيمها ولذاتها، وكمال عرفانها ويقينها بفناء الدنيا، وتوجه نفسها القدسية، وانصراف همتها العالية دائما إلى اللذات الدنيوية والدرجات الاخروية، لا تناسب مثل هذا الإهتمام في أمر فدك، والخروج إلى مجمع الناس، والمنازعة مع المنافقين في تحصيله. والجواب عنه من وجهين: الأول: إن ذلك لم يكن حقا مخصوصا لها، بل كان أولادها البررة الكرام مشاركين لها فيه، فلم يكن يجوز لها المداهنة والمساهلة والمحاباة وعدم المبالات في ذلك، ليصير سببا لتضييع حقوق جماعة من الأئمة الأعلام، والأشراف الكرام، نعم لو كان مختصا بها كان لها تركه والزهد فيه، وعدم التأثر من فوته (1). الثاني: إن تلك الأمور لم تكن لمحبة فدك وحب الدنيا، بل كان الغرض إظهار ظلمهم وجورهم وكفرهم ونفاقهم، وهذا كان من أهم امور الدين، وأعظم الحقوق على المسلمين، ويؤيده انها (عليها السلام) صرحت في آخر الكلام به حيث قالت: " قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة " وكفى بهذه الخطبة بينة على كفرهم ونفاقهم، إنتهى (2). وظفرت بهذا الكلام منه بعدما قدمته في المقام، وبينهما عموم من وجه، إشتمل كل منهما على ما يشمل عليه الآخر، فلا يعد ذلك من باب الإعادة الخالية عن الفائدة. * * *


(1) مضافا إلى انها (عليها السلام) لو تركت المطالبة بحقها لقال الذين في قلوبهم مرض: لم تركت حقها ولم تطلبه ؟ ! لماذا لم تحاجج القوم في نحلتها ؟ فيكون هذا الأمر ذريعة عندهم لنفي أساس القضية، مدعين بان فدك لو كانت مختصة بها دون المسلمين لوجب عليها المطالبة وعدم السكوت. (2) البحار 29: 324. (*)

[ 326 ]

[ الشروع في شرح الخطبة ] إذا عرفت هذا فنقول: روى الشيخ أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (رحمه الله) في كتاب الإحتجاج (1)، عن عبد الله بن الحسن عن آبائه (عليهم السلام) انه: " لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة (عليها السلام) فدك وبلغها ذلك، لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى دخلت على أبي بكر، وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ". بيان: يقال: أجمع على الأمر أي أحكم النية والعزيمة عليه، قال: تعالى: * (وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب) * (2) أي عزموا على إلقائه فيها، و (أجمعوا أمركم) أي إعزموا عليه، وأصله على أمركم، وحقيقة معنى الجمع واضح، والإجتماع: طلب الجمع أي المجموعية، والإجماع جعل الأمر مجموعا.


(1) الإحتجاج 1: 253 ح 49، عنه البحار 29: 220 ح 8. (2) يوسف: 15. (*)

[ 327 ]

[ في معنى الإجماع ] وإجماع القوم: جمعهم أنفسهم على شئ، وهو مستلزم للإتفاق وللعزم، فاستعمل تارة بمعنى الإتفاق، واخرى بمعنى العزم حتى جعل كل منهما بحسب العرف من جهة كثرة الإستعمال معنى حقيقيا، والإجماع بالمعنى الإصطلاحي مأخوذ منه بمعنى الإتفاق، كما عرفه العامة بانه إتفاق أهل الحل والعقد من امة محمد (صلى الله عليه وآله) في عصر من الأعصار، على أمر من الأمور الدينية. وعرفه الخاصة بانه الإتفاق الكاشف عن رأي المعصوم، أو قوله، أو فعله، أو تقريره الكاشف عن رأيه أيضا، والإتفاق المشتمل على المعصوم قولا أو فعلا أو تقريرا على الخلاف بين المتأخرين منهم والقدماء على طريق اللف والنشر المرتب، أو منه بمعنى العزم. كما ان ابن إدريس ادعى كون فطرة الزوجة الناشزة على زوجها، خلافا للمشهور حيث لم يجعلوها عليه، واستدل على ذلك بان إطلاقات كون فطرة الزوجة على زوجها أو عموماته دالة على وجوبها عليه مطلقا أو عموما، والعمل بالإطلاقات والعمومات الواردة من الكتاب والسنة واجب إجماعا، فصارت المسألة إجماعية (1). ورده المحقق (رحمه الله) بأن الإجماع مأخوذ منه بمعنى العزم من قوله تعالى: * (فأجمعوا أمركم) * (2) أي اعزموا، وما لم يعلم العزم من جميع الأصحاب على المسألة بخصوصها لا تصير المسألة إجماعية، ولو أجمعوا على وجوب العمل بالإطلاقات والعمومات، إذ لا يلزم من الإجماع على العمل بها الإجماع على كل من مواردها بخصوصها. وهذا الطريق الذي مشيت من إرجاع الإجماع بمعنى الإتفاق والعزم إلى


(1) السرائر 1: 466 و 468 / باب وجوب زكاة الفطرة. (2) يونس: 71. (*)

[ 328 ]

معنى الإجتماع، هو مذاقي في أكثر اللغات المشتركة التي لها معان متعددة بل في جميعها، حيث أدى نظري فيها إلى ان جميع المعاني المتعددة للفظة الواحدة راجع إلى معنى واحد هو المعنى الأصلي اللغوي، فانشعب منه تلك الفروعات مجازا من جهة المناسبة والعلاقة، إلى أن صارت من جهة كثرة الإستعمال حقائق عرفية عامة. و (والمنع): خلاف الإعطاء ويستعمل بعن، يقال: منعت الرجل عن الشئ، واستعماله بعن إشارة إلى ما فيه من معنى التجاوز والتخلف، وقد يحذف لفظة (عن) فيوصل الفعل، كما في قوله هنا: " منع فاطمة فدك " والمفعول الأول هنا هو المفعول بلا واسطة وهو فاعل في المعنى، نظير المفعول الأول في أعطيت. ومنع الشخص لا يتصور إلا بمنعه وهو فاعل مختار من الفعل الذي هو في اختياره أو ما هو بمنزلته، فمنع الرجل عن الشئ منعه عن التصرف فيه، والمراد في الخبر منع فاطمة عن التصرف في فدك. وقد مر بيان فدك وانه ينصرف ولا ينصرف، وعدم الإنصراف من جهة العلمية والتأنيث باعتبار البلدة أو الأرض مثلا، والإنصراف باعتبار البلد أو المكان ونحوهما، وذلك إشارة إلى إجماعه على المنع أو إلى نفس المنع، والمراد على التقديرين انه بلغها خبر ذلك أو أثره، إما بلسان الناس أو برجوع وكيلها في فدك إليها واخباره لها بذلك. (ولاثت خمارها على رأسها) أي عصبته، يقال: لاث العمامة على رأسه يلوثها لوثا أي شدها وربطها. وفي النهاية (1): اللوث الطي والجمع، يقال: لثت العمامة ألوثها لوثا، ومنه حديث بعضهم: فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين أي لفة أو لفتين، وأصل اللوث التلطخ، استعمل في التعصب بالعمامة وإدارتها على الرأس، واللوث المشهور في


(1) النهاية 4: 275 / لوث. (*)

[ 329 ]

مقام القتل هو إلتفاف القرائن المفيد للظن به. و (الخمار) - بالكسر - المقنعة، سميت بذلك لأن الرأس يخمر بها أي يغطي، وكل شئ غطيته فقد خمرته، والتخمير هو التغطية ومنه سمي الخمر خمرا لتغطيتها العقل، وقال ابن الأعرابي: سميت بذلك لأنها تركت فاختمرت أي تغيرت ريحها (1). و (الجلباب) - بالكسر - يطلق على الملحفة، والرداء، والإزار، والثوب الواسع للمرأة دون الملحفة، والثوب كالمقنعة. تغطي به المرأة رأسها وصدرها وظهرها، قيل: والأول هنا أظهر، والظاهر أنه كذلك. وفي النهاية في حديث علي (عليه السلام): من أحبنا أهل البيت فليعد للفقر جلبابا، أي ليزهد في الدنيا وليصبر على الفقر والقلة، كنى به عن الصبر لأنه يستر الفقر كما يستر الجلباب البدن. وقيل: إنما كني بالجلباب عن اشتماله بالفقر أي فليلبس إزار الفقر، ويكون منه على حالة تعمه وتشمله، لأن الغنى من أحوال أهل الدنيا، ولا يتهيأ الجمع بين حب الدنيا وحب أهل البيت (2). وفي المجمع: الجلباب ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها ويبقى منه ما ترسله على صدرها، وقيل: الجلباب الملحفة وكل ما يستر به من كساء أو غيره، وفي القاموس (3): الجلباب - كسرداب - القميص، ومعنى " يدنين عليهن من جلابيبهن " (4) أي يرخينها عليهن، ويغطين به وجوههن وأعطافهن (5).


(1) راجع لسان العرب 4: 211 / خمر. (2) النهاية 1: 283 / جلب. (3) القاموس المحيط: 88 / جلبه. (4) الأحزاب: 59. (5) مجمع البحرين / جلب. (*)

[ 330 ]

وسرداب - بكسر السين - معرب السرداب - بفتحها - وهو البناء تحت الأرض سمي به لتبريده الماء، ونقل ضبط الجلباب كسنمار أيضا، فيكون كسر الجيم واللام وتشديد الباء صحيحا أيضا. والإشتمال بالشئ جعله شاملا ومحيطا لنفسه، والإشتمال على الشئ بالعكس أي الإحاطة به، والمراد انها (عليها السلام) غطت رأسها وصدرها أولا بالمقنعة، ثم لبست ملحفة تغطي جميع بدنها، فالتفت بها، وهذا كناية عن غاية التستر وهي عادة النساء الخفرات (1) إذا أردن الخروج من الدار إلى الخارج تحفظا عن الأجانبة. و (اللمة) - بضم اللام وتخفيف الميم - الجماعة، قال في النهاية: في حديث فاطمة (عليها السلام) انها خرجت في لمة من نسائها، تتوطأ ذيلها إلى أبي بكر فعاتبته، أي في جماعة من نسائها، قيل: هي ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: اللمة المثل في السن والترب. وقال الجوهري: الهاء عوض من الهمزة الذاهبة من وسطه (2)، وهو مما أخذت عينه ك‍ (مذ) و (سه)، قالوا: أصلها منذوسته، وقد يؤخذ لام سته فيقال: ست أو إست، بتعويض الهمزة المكسورة عن المحذوف. قال: وأصل لمة فعل من الملاءمة وهي الموافقة، ومنه حديث عمر: إن شابة زوجت شيخا فقتلته، فقال عمر: أيها الناس لينكح الرجل لمته من النساء، ولتنكح المرأة لمتها من الرجال أي شكله وتربه. ومنه حديث علي (عليه السلام): ألا وان معاوية قاد لمة من الغواة أي جماعة، ومنه الحديث: لا تسافروا حتى تصيبوا لمة أي رفقة، إنتهى (3). والهاء التي جئ بها عوضا اما تاء التأنيث، سميت هاء باعتبار حال الوقف،


(1) الخفر - بالتحريك - شدة الحياء / لسان العرب. (2) الصحاح 5: 2026. (3) النهاية 4: 273 / لمة. (*)

[ 331 ]

أو هي الهاء عوملت معاملة تاء التأنيث لشبهها بها في الوقوع في آخر الكلمة مع كون الصورة واحدة، كما أن لام شفه هو الهاء على قول لا الواو، فيبدل الهاء تاء لذلك. ويحتمل أن يكون لمة بتشديد الميم، قال الفيروز آبادي: اللمة - بالضم - الصاحب والأصحاب في السفر والمونس للواحد والجمع (1). وفي المجمع في مادة اللمم: في حديث فاطمة (عليها السلام): خرجت في لمة من نسائها أي في جماعة منهن من غير حصر في عدد، وقيل: هي ما بين الثلاثة إلى العشرة، والهاء عوض عن الهمزة في وسطه، وهي فعلة من الملاءمة بمعنى الموافقة، إنتهى (2). ولا يخفى ما فيه من الخلط والشبهة، والظاهر ان اللمة إذا كانت بتشديد الميم فهي من الإلمام بمعنى النزول، اطلق على الجماعة النازلة كما يطلق اللمة على الخطرة (3) والزورة والأتية بمعنى النزول والقرب. ومنه الخبر: إن للشيطان لمة وللملك لمة، وإن لابن آدم لمتان لمة من الملك ولمة من الشيطان، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالخير، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد هذا فليحمد الله، ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله (4). فيكون جميع المعاني الموجودة للمم راجعة إلى هذا المعنى. وفي نسخة كشف الغمة: " في لميمة " (5) بصيغة التصغير، وهو يؤيد قراءة تشديد الميم بمعنى الجماعة، ويكون التصغير إما للتقليل أي في جماعة قليلة، أو للتكثير نظير التعظيم والتحقير.


(1) القاموس المحيط: 1496 / لمه. (2) مجمع البحرين / لمم. (3) قال في لسان العرب: قال شمر: اللمة اللهمة والخطرة تقع في القلب. (4) نحوه لسان العرب 12: 334 / لمم، والبحار 70: 39. (5) كشف الغمة 2: 109. (*)

[ 332 ]

و (الحفدة) - بالتحريك - الأعوان والخدم وقيل ولد الولد أيضا، والمراد هنا الأول، والواحد حافد، وأصله من الحفد بمعنى السرعة، يقال: حفد البعير أ والظليم - من باب ضرب - حفدا وحفدانا إذا أسرع لإسراعهم في الخدمة. قال في النهاية: وفي حديث ام معبد: محفود محشود، المحفود الذي يخدمه أصحابه ويعظمونه ويسرعون في طاعته، يقال: حفدت وأحفدت فأنا حافد ومحفود. ومنه دعاء القنوت: " وإليك نسعى ونحفد " أي نسرع في العمل والخدمة، ومنه حديث عمر وذكر له عثمان للخلافة فقال: أخشى حفده أي إسراعه في مرضات أقاربه، إنتهى (1). وفي عبارات السلف عند الدعاء لأحد: " حفد حاسده وحسد حافده " أي كان حاسده من الأعاظم المحفودين، وكان خادمه من المحسودين، والإتيان بلفظ (في) في قوله: " وأقبلت في لمة من حفدتها " دون أن يقول " مع لمة " إشارة إلى انها كانت بينهن وهن مجتمعات حولها، محيطات بها، والإضافة في حفدتها لامية، وفي نساء قومها كذلك أيضا، بناء على كون الإضافة لامية فيما كان المضاف بعض المضاف إليه، أو بمعنى (من) بناء على تعميم الإضافة بمعنى من على التبعيضية والتبيينية. قوله: (تطأ ذيولها) أي كانت أثوابها طويلة تستر قدميها، وتضع عند المشي قدمها عليها. وجمع الذيل باعتبار الأجزاء، أو تعدد الذيول باعتبار الأطراف الأربعة، أو بإعتبار تعدد الثياب، ويمكن أن يكون وطي الذيول كناية عن التبختر، فإن العرب كان يطولون ذيولهم حتى كانت تنجر على الأرض إظهارا للهيمنة والشوكة، فنزل قوله تعالى: * (وثيابك فطهر) * (2) أي نزهها عن الإنسحاب على الأرض والتلطخ


(1) النهاية 1: 406 / حفد. (2) المدثر: 4. (*)

[ 333 ]

بالتراب ونحوه، ولذا فسر قوله تعالى فطهر بمعنى فقصر، ثم صار تطويل الذيول كناية عن مطلق التبختر. وفي نسخة كشف الغمة: " تجر أدراعها " (1) ودرع المرأة قميصها والجمع أدراع، وهو مذكر مأخوذ من درع الحديدة وهي مؤنثة في الأكثر، وجر الأدراع كناية عن كون أذيال قميصها طويلة ملاصقة للأرض مرادا به جرها على الأرض، فيرجع إلى معنى تطأ ذيولها. و (الخرم) - بضم الخاء المعجمة، وسكون الراء المهملة - الترك والنقص والعدول. و (المشية) - بكسر الميم - الإسم من مشى يمشي مشيا، وبالفتح مصدر مثل مشى ومشية كرحم ورحمة، أي لم ينقص مشيها من مشي رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا كأنه هو بعينه تميل من جانب إلى جانب، وفي الأخبار: إن فاطمة (عليها السلام) كانت أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) خلقا وخلقا، وقولا وفعلا، وسكونا وحركة (2). قال في النهاية: فيه ما خرمت من صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) - من باب ضرب - أي ما تركت، ومنه الحديث " لم أخرم منه حرفا " أي لم أدع (3). وأصل الخرم القطع والشق، وهو يستلزم النقص وترك شئ من المقطوع والعدول عن الحالة الأصلية، فاستعمل في هذه المعاني للمناسبة. والدخول في الشئ الحركة إلى داخله مع الإنتهاء إليه، كما في نحو دخلت في المسجد لدلالة الفاء على الظرفية، واما الدخول على الشئ فهو الحركة إليه بلا دخول في جوفه، لكن إذا كان المفعول أي ذلك الشئ في داخل شئ آخر كالدار والبيت مثلا، وأما الحركة إلى الشئ الذي هو في فضاء خارج فلا يقال حينئذ دخلت عليه، بل يقال وردت عليه إلا أن يشبه بالمدخول عليه في الدار مثلا،


(1) كشف الغمة 2: 109. (2) راجع إحقاق الحق 10: 251 - 255. (3) النهاية 2: 27 / خرم. (*)

[ 334 ]

وبالجملة فلفظ على مع الدخول يشير إلى كون الداخل مستعليا عليه، فإن الوارد عال بالنسبة إلى المورود عليه. و (الحشد) - بالفتح وقد يحرك - الجماعة، وحشدت القوم - من باب قتل أو ضرب - إذا جمعتهم، يستعمل لازما ومتعديا، وفي الحديث: " ولما حشد الناس قام خطيبا " واحتشد القوم لفلان إذا اجتمعوا وتهيؤا وتأهبوا، وجاء فلان حاشدا أي مستعدا متأهبا، ورجل محشود أي من كان الناس يسرعون إلى خدمته لأنه مطاع، وفي رواية الكشف: " وقد حشد المهاجرين والأنصار " (1) أي جمعهم أبو بكر في المسجد. و (المهاجرون) الذين هاجروا مع النبي (صلى الله عليه وآله) أو بعده من مكة إلى المدينة، أو من مكة إلى الحبشة، ومنها إلى المدينة، أو من بلاد الكفر مطلقا إلى بلاد الإسلام، ويقال لكل من ترك موطنه الأصلي انه مهاجر، وهو من الهجر بمعنى ضد الوصل من هجره هجرا - من باب قتل - أي قطعه أو تركه أو رفضه، قال تعالى: * (واهجرهم هجرا جميلا) * (2). والمهاجرة من أرض إلى اخرى ترك الاولى للثانية، ويقال للثانية مهاجر - بضم الميم وفتح الجيم - أي محل الهجرة ودار الهجرة، والإسم الهجرة - بالكسر - فإن كانت قربة لله فهي الهجرة الشرعية، أولا فهي الهجرة العرفية، والهجرة الشرعية المعروفة هجرتان: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة. قال في النهاية: وفي الخبر: " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " وفي حديث آخر: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة " (3). والهجرة بوجه آخر أيضا هجرتان، إحداهما التي وعد الله عليها الجنة في قوله: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) * (4) فكان الرجل


(1) كشف الغمة 2: 109. (2) المزمل: 10. (3) النهاية 5: 244 / هجر. (4) التوبة: 111. (*)

[ 335 ]

يأتي النبي (صلى الله عليه وآله) ويدع أهله وماله لا يرجع في شئ منه، وينقطع بنفسه إلى مهاجره، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يكره أن يموت الرجل بالأرض التي هاجر منها، فلما فتحت مكة صارت دار الإسلام كالمدينة وانقطعت الهجرة. والهجرة الثانية من هاجر إلى الأعراب وغزا مع المسلمين، ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة الاولى فهو مهاجر، وليس بداخل في فضل من هاجر تلك الهجرة السابقة، وهو المراد بقوله: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة " وهذا وجه الجمع بين الحديثين. وإذا اطلق في الحديث ذكر الهجرتين فإنهما يراد بهما هجرة الحبشة وهجرة المدينة، ومنه الحديث: " ستكون هجرة بعد الهجرة " (1) والمهاجرون عند الإطلاق هم المهاجرون من أهل مكة إلى المدينة، ما لم ينضم إليه قرينة دالة على إرادة المهاجرين من غيرهم من سائر بلاد الكفر مطلقا، أو من مكة إلى الحبشة. وابتداء الهجرة إنما وقع في السنة الخامسة والأربعين من سن النبي (صلى الله عليه وآله)، وهي السنة الخامسة من البعثة حيث هاجر المؤمنون، وهم يومئذ أحد عشر رجلا وخمسة نسوة، من مكة إلى الحبشة من جهة ما بنى عليه الكفار بالنسبة إليهم من الأذى والأذية، فالتجأوا إلى أصحمة النجاشي (2) ملك تلك البلاد، فاستراحوا في الحبشة. ثم قرع سمعهم ان الكفار صالحوا النبي المختار على ترك الأذية له ولمن تابعه فرجعوا إلى مكة، وكان الحال انه لما نزل سورة النجم كان النبي (صلى الله عليه وآله) يقرأها في المسجد الحرام في الصلاة حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى: * (ومنوة الثالثة الاخرى) * (3) فألقى الشيطان في أثناء صوت


(1) النهاية 5: 244، ولسان العرب 15: 32 / هجر. (2) قال في القاموس: أصحمة بن بحر ملك الحبشة النجاشي، أسلم في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، (صحم). (3) النجم: 20. (*)

[ 336 ]

النبي (صلى الله عليه وآله) على آذان الكفار، لا ان الشيطان أجرى على لسانه (صلى الله عليه وآله) كما رواه العامة قوله: " تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجي " وسجد (صلى الله عليه وآله) في آخر السورة (1). فلما شاهد المنافقون هذه الحالة، وكان فيهم وليد بن مغيرة المخزومي، فرحوا بذلك وقالوا: إن محمدا يعظم آلهتنا، ويمدح أصنامنا، ويقر بشفاعة اللات والعزي، فلا نزاع لنا معه. فوصل من هذه الجهة شبهة المصالحة إلى آذان مهاجري الحبشة، ولما رجع النبي (صلى الله عليه وآله) من المسجد سمع من الناس هذه المقالة فحزن لذلك، فنزل جبرئيل تسلية له بقوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في امنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) * (2). فلما علم المنافقون بالكيفية عادوا إلى الأذية، وللآية تفاسير اخر من الخاصة والعامة ليس هنا موضع تفصيلها، فلاحظها في مظانها. وبالجملة فبناء على التفسير المذكور لما رجع المهاجرون إلى مكة، وعلموا بالحال وما عليه الكفار هاجروا في تلك السنة ثانية الى الحبشة بأمر النبي (صلى الله عليه وآله)، وهم حينئذ غير الأولاد الصغار ثمانون رجلا وثمانية عشر مرأة. فبقوا هناك إلى أن هاجروا من الحبشة إلى المدينة سنة فتح خيبر وفدك، وفيهم حينئذ جعفر بن أبي طالب، وام المؤمنين ام حبيبة، مع جمع من قبيلة أشعر من قبائل اليمن منهم أبو بردة الأشعري، وأبو موسى الأشعري، واخوانهما في ستين نفرا وهم على زي أهل الحبشة، وثمانية من أهل الروم، وثمانين من قبيلة دوس منهم أبو هريرة، واسمه على المشهور عبد الشمس بن عامر، وسماه رسول


(1) راجع لمزيد الاطلاع تلخيص التمهيد لمحمد هادي معرفة 1: 46 (اسطورة الغرانيق). (2) الحج: 52. (*)

[ 337 ]

الله (صلى الله عليه وآله) بعد الإسلام بعبد الله، وكان هو في الأصل راعي غنم، وكان له هرة كبيرة تصاحبه وتكون معه فكنى بأبي هريرة. وفي هذه السنة أيضا هاجر خالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة، وعمرو بن العاص بعد قضاء العمرة إلى المدينة، وبالجملة فكل من هاجر من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فهو مهاجر، والأغلب في ذلك أهل مكة، والأغلب منهم قريش، فينصرف إطلاق المهاجرين إليهم إلا مع القرينة. " والأنصار " جمع نصر بمعنى المعاون والناصر، أو جمع نصير كشريف وأشراف، وفي سيرة الحلبي للسيد أحمد عاصم (1) أنه جمع ناصر كصاحب وأصحاب. وهم أهل المدينة سموا بذلك لنصرتهم النبي (صلى الله عليه وآله)، أو لوعدهم إياه بالنصر حين آمن جماعة منهم بالنبي (صلى الله عليه وآله) في مكة، وذلك أنه (صلى الله عليه وآله) بعد البعثة كان يدعو الناس إلى الإسلام في موسم الحج في كل سنة إذا ورد فرق الأنام من الأطراف والأقطار إلى مكة للحج والعمرة. وكان ينادي لأهل الموسم في أيام الحج بقوله (صلى الله عليه وآله): قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، فآمن نفر يسير من أهل المدينة في السنة الحادية والخمسين من سنه (صلى الله عليه وآله)، ثم أسلم إثنا عشر منهم في السنة الثانية والخمسين، وبايعوه في العقبة أي عقبة المدنيين على النصرة والمعاونة، رئيسهم أسعد بن زرارة وهي البيعة الأولى في العقبة. وفي السنة الثالثة والخمسين أسلم منهم سبعون نفرا وامرأتان، وبايعوه أيضا على النصر والمعاونة أولهم براء بن معرور، وقالوا له: لو هاجرت إلى المدينة وجئت الينا لنصرناك، ولو قاتلت الروم والفرس، فهاجر (صلى الله عليه وآله) إليهم


(1) أحمد عاصم العينتابي المشهور بمترجم عاصم، توفي عام 1235 ه‍، وقد ترجم السيرة الحلبية المسمى بإنسان العيون إلى التركية. راجع معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 1: 378 رقم 1710 و 1712. (*)

[ 338 ]

في السنة الرابعة والخمسين من الغار المشهور المسمى بغار الثور. [ كتاب تبع اليمن إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ] وروي أن حمير بن دروع من تبابعة اليمن لما وصل إلى المدينة في أثناء فتحه البلاد، ومعه حينئذ سوى جيشه الطمطام أربعة آلاف نفر من الحكماء العظام، رئيسهم حكيم ماهر مسمى بشامول، تأمل هؤلاء الحكماء أرض المدينة، وعلموا من الكتب السالفة أن هذا المكان هو مهاجر نبي آخر الزمان، فعزموا على التوطن في هذا المقام. فلما علم الملك بذلك من الحكماء الأعلام إختار منهم أربعمائة نفر، وبنى لكل منهم منزلا في المدينة وأقامهم هناك، وبنى دارا عظيم البنيان عالي المكان لنبي آخر الزمان، وكتب لذلك كتابة فيها قوله: " إلى محمد بن عبد الله خاتم النبيين، ورسول رب عالمين من تبع بن دروع، أما بعد يا محمد فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل الله عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شئ، وبكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام والإيمان، وأنا قبلت ذلك فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة، ولا تنسني فإني من امتك من الأولين، وتابعتك قبل مجيئك، وقبل أن يرسل الله إياك، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم ". ثم ختم الكتاب ونقش عليه قوله: " لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون " وسلم الكتاب إلى شامول، وأوصاه أن يوصله بيده أو بيد أولاده إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)، حتى انتهى ذلك بعد أحد وعشرين بطنا إلى أبي أيوب الأنصاري - وكان من أولاد شامول -. فلما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة فأرسل أبو أيوب هذه الكتابة مع شخص معتمد مسمى بأبي ليلى إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فوصل إليه في أثناء الطريق (1) في قبيلة بني سليم، فلما لقيه قال له


(1) كذا الظاهر، وفي المتن: " في أثناء الطريق فوصل إليه ". (*)

[ 339 ]

النبي (صلى الله عليه وآله): أنت أبو ليلى ؟ قال: نعم، قال: ومعك كتاب من تبع الملك ؟ قال: نعم، فتحير أبو ليلى من ذلك ولم يكن يعرفه، فقال: من أنت فاني لست أعرف في وجهك أثر السحر ؟ فقال (صلى الله عليه وآله): أنا محمد هات الكتاب فسلمه إليه، فلما فتحه قال ثلاثا: مرحبا بالأخ الصالح. فلما وصل (صلى الله عليه وآله) المدينة نزل في دار أبي أيوب الأنصاري، وهي الدار التي بناها تبع الملك للنبي (صلى الله عليه وآله)، وسلمها أمانة إلى يد شامول جد أبي أيوب، وذكر أن الأنصار كلهم من نسل هؤلاء الحكماء الأربعمائة. وبالجملة يحمل إطلاق الأنصار على المؤمنين من أهل المدينة، والمهاجرين على من هاجر إليها من أهل مكة، وكان الأنصار والمهاجرون يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نسخ بآية " أولي الأرحام " أي قوله تعالى: * (واولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) * (1). * * *


(1) الأنفال: 75. (*)

[ 340 ]

قال الراوي: " فنيطت دونها ملاءة، فجلست ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء فارتج المجلس، ثم أمهلت هنية حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت الكلام بحمد الله، والثناء عليه، والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها فقالت ". بيان: " نيطت " بمعنى علقت من قولهم: ناط الشئ ينوطه نوطا أي علقه، وهو من اللغات المشهورة واستعمالها في غاية الكثرة. قال الحريري: كلفت مذ ميطت عني التمائم، ونيطت بي العمائم، بأن أغشى معان الأدب، وأنضى إليه ركاب الطلب لأعلق منه بما يكون زينة بين الأنام، ومزنة عند الأوام. وقال في السبعة العلوية (1): يناط عليها للنجوم قلائد * ويسفل عنها للغمام أهاضيب (2) ومنها نياط القلب - ككتاب - للعرق الغليظ الذي يعلق به القلب إلى الوتين، وفعال شايع فيما يفعل به مثل نظام، وقوام، وعصام، ولباس، وكتاب، وإدام، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة، ويقال للنياط النيط أيضا، كما في ما نقل عن معاوية: (ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة إلا وقد طعن في نيطه) (3). وكل شئ علق في شئ فهو منوط، وموضع التعليق مناط، كما يقال: مناط المسألة كذا، وهل المراد من المناط هو النياط أم لا ؟ ! والظاهر المغايرة، مثلا إذا علقت قنديلا إلى سقف المسجد بعلاقة فأنت نائط، والقنديل منوط، والعلاقة نياط،


(1) الروضة المختارة: 86، القصيدة الأولى. (2) الهضبة: المطرة الدائمة، العظيمة القطر / لسان العرب. (3) النهاية 5: 141، ولسان العرب 14: 348 / نيط، وشرح النهج لابن أبي الحديد 19: 129، والبحار 32: 594. (*)

[ 341 ]

والسقف مناط، وإذا قطعت النياط سقط المنوط، وانقطعت العلاقة بينه وبين المناط، فتأمل. و (دون) وهو عند بعضهم مقلوب الدنو ضد فوق، وهو تقصير عن الغاية، ويكون ظرفا حينئذ يقال: هو دونه ضد فوقه، وبمعنى أمام يقال: مشى دونه أي أمامه، وبمعنى وراء يقال: هو دونه أي وراءه، فيكون من الأضداد، وبمعنى غير مثل هو دونه أي غيره. وفي الدعاء: " ليس دونه منتهى " أي ليس غيره منتهى ينتهي إليه الآمال، وقيل معناه: ليس لقربه نهاية، بناءا على إرادة القرب منه، بمعنى ان مراتب القرب منه لا نهاية لها، ويقال: شئ دون أي خسيس أو ردي، ومنه أنفق عليها نفقة دون. ويقال: شئ دون أي شريف، فيكون من الأضداد أيضا حينئذ، ودونكه أي خذه، فيكون من باب أسماء الأفعال، ودونه خرط القتاد أي أقرب منه فيكون ظرفا، وأرجع بعضهم هذا إلى معنى التقريب عن الغاية. ودون النهر جماعة أي قبل أن يصل إليه، وهذا رجل من دون أي من حقير ساقط، قيل: ولا يقال (رجل دون) بدون من، وقال في الصحاح: الدون الحقير الخسيس أيضا، واستشهد عليه بقوله: إذا ما علا المرء رام العلى * ويقنع بالدون من كان دونا (1) ودونكه أي ألزمه واحتفظ به فيكون إغراء، ولا يكون الجار الداخل على دون في بعض معانيه إلا من - وهو الغالب - أو الباء، فيقال: من دونه أو بدونه. قال بعض المحققين: إن دون في الأصل بمعنى أدنى مكان من الشئ، يقال: هذا دون ذاك إذا كان أحط منه قليلا، وإن تدوين الكتاب بمعنى جمعه مأخوذ منه لأن بعض ورقه يقرب من بعض. ويقال: دونك هذا أي خذه من أدنى مكان منك، ثم اتسع واستعمل في


(1) الصحاح 5: 2115 / دون، لسان العرب 4: 450 / دون. (*)

[ 342 ]

الأحوال والرتب بنحو الاستعارة، وعلى ما ذكر قيل فالديوان مأخوذ منه، وأصله الدوان - بكسر الدال وتشديد الواو - قلب أحد الواوين ياء، وهو مصدر دون يدون دوانا مثل كذب يكذب كذابا، وقد يفتح الدال للتخفيف، ثم جعل الديوان إسما للكتاب الذي يضبط أهل الجيش وأهل العطية، ومنه ديوان الأشعار لجمعها فيه على الترتيب أو بدونه، ويجمع على الدواوين، وقد يستعار الديوان لصحائف الأعمال. ومنه الخبر: " إذا ماتت المرأة في النفاس لم ينشر لها ديوان يوم القيامة " (1)، ومنه: " الدواوين ثلاثة " (2) أي صحائف الأعمال، وهي ديوان النعم، وديوان الحسنات، وديوان السيئات، ويقال: ان عمر أول من دون الدواوين في العرب، أي أول من رتب الجرائد والدفاتر للعمال وغيرهم. ولم يشتق من لفظ دون فعل، فلا يبنى منه فعل التعجب أيضا، فلا يقال: ما أدونه، وقيل: إن في اللغة فعلا مشتقا منه مثل دان يدون دونا وأدانه وإدانة، والجائز هنا من معاني دون هو مثل ضد فوقه وأمامه والأقرب، والحاصل في الجميع انه ضربت عندها ملاءة. و (الملاء) - بالضم والمد - الريطة والإزار، والواحد الملاءة، وفي حديث الإستسقاء: " فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين يطوي " (3)، وفي المجمع: انه كل ثوب لين رقيق، ومنه قولهم: فلان لبس العباء وترك الملاء (4). والمعنى أنها (عليها السلام) لما أتت إلى المسجد في القوم ضربوا بينها وبينهم حجابا عظيما تعظيما لها، فجلست وراءها، وفي نسخة الكشف: " فضرب بينهم بريطة بيضاء وقيل قبطية، فأنت.. " الخ (5).


(1) نحوه البحار 81: 80. (2) البحار 7: 273 ح 44. (3) لسان العرب 13: 167 / ملأ. (4) مجمع البحرين / ملأ. (5) كشف الغمة 2: 109. (*)

[ 343 ]

والريطة - بالفتح - الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن لفقين أي قطعتين، وفي حديث وصف علي (عليه السلام) في الجنة: " وعليه ريطتان ريطة من أرجوان النور، وريطة من كافور " (1) ومثله في وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله): " مرتد بريطتين " (2) والجمع رياط ككلبة وكلاب. والقبطية - بالكسر - ثياب بيض رقاق من كتان تتخذ بمصر، وقد يضم لأنهم يغيرون في النسب. وفي المجمع في الحديث: الفجر الصادق هو المعترض كالقباطي - بفتح القاف وتخفيف الموحدة قبل الألف وتشديد الياء بعد الطاء المهملة - ثياب بيض رقيقة تجلب من مصر، واحدها قبطي - بضم القاف - نسبة إلى قبط - بكسرها - وهم أهل مصر، والتغيير في النسبة هنا للإختصاص كما في الدهري نسبة إلى الدهر - بالفتح -. وهذا التغيير إنما اعتبر في الثياب فرقا بين الإنسان وغيره، فأما في الناس فيبنى على اعتبار الأصل، فيقال: رجل قبطي - بالكسر - ومنه حديث من رد الله عليهم أعمالهم فجعلها هباء، قال (عليه السلام): " أما والله كانت أعمالهم أشد بياضا من القباطي، ولكن إذا فتح لهم باب من الحرام دخلوا فيه " إنتهى (3). وكذلك الأمر في النسبة إلى الدهر، حيث يطلق الدهري - بضم الدال - للإنسان الكبير في غاية الكبر، وبالفتح لمن اتخذ الدهر إلها وربا، فيقال: فلان دهري مذهبا. قوله: (أنت) هو من أن الرجل من الوجع يان - بالكسر - أنينا وانانا - بالضم - صوت. و (الجهش) - بالفتح - أن يفزع الإنسان إلى غيره وهو مع ذلك يريد البكاء، كالصبي يفزع إلى امه وقد تهيأ للبكاء، يقال: جهش إليه كمنع وأجهش، وفي


(1) الكافي 8: 25 ح 4. (2) المصدر نفسه. (3) مجمع البحرين / قبط. (*)

[ 344 ]

الحديث: " أصابنا عطش فجهشنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) " (1). وعن القاموس: أجهش فلان بالبكاء: تهيأ له (2)، فالمعنى ان القوم تهيؤوا لأجل فاطمة (عليها السلام) أو من جهة أنتها للبكاء. و (الإرتجاج) الإضطراب، وعن القاموس: الرجوجة الإضطراب كالإرتجاج (3). ورج الباب رجا شديدا أي زعزعه وحركه، وارتج البحر إضطرب، وارتج الظلام التبس، وفي الخبر: " من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له " (4) أي حين تضطرب أمواجه، وقوله تعالى: * (إذا رجت الأرض رجا) * (5) قيل: أي يدق بعضها على بعض. وفي الحديث: " إن القلب ليترجج فيما بين الصدر والحنجرة حتى يعقد على الإيمان فيستقر " (6) والمراد من ارتجاج المجلس إرتجاج أهله، كما أن المراد من إرتجاج البحر إرتجاج مائه. و (الإمهال) الإنظار، والإسم منه المهلة، ومهلته كأمهلته: أنظرته، ومنه قوله تعالى: * (ومهلهم قليلا " (7) وأمهلهم رويدا) * (8). و (هنية) قال في المجمع: وفي حديث الميت: (يوضع دون قبره هنية ليأخذ أهبته، لأن للقبر هيبة)، وهنية - بضم الهاء، وفتح النون، وتشديد الياء المثناة التحتانية - الزمان اليسير، ومنه مكث هنية، وفي بعض النسخ: " هنيهة " بثلاث هاءات، وهو أيضا صحيح وفصيح، وأما هنيئة فغير صواب (9).


(1) أمالي الطوسي: 128 ح 203، عنه البحار 18: 5 ح 3، وفي لسان العرب 2: 401 / جهش. (2) القاموس المحيط: 758 / جهش. (3) القاموس المحيط: 243 / الرج. (4) النهاية 2: 197، لسان العرب 5: 141 / رجج. (5) الواقعة: 4. (6) المحاسن 1: 388 ح 865، عنه البحار 68: 255 ح 13، ونحوه الكافي 2: 421 ح 4. (7) المزمل: 11. (8) الطارق: 17. (9) مجمع البحرين / هنا. (*)

[ 345 ]

وفي المصباح: إن الأصل فيها (هن) ولامها محذوفة، وفي لغة هي هاء فيصغر على هنيهة، ومنه يقال: مكث هنيهة أي ساعة لطيفة دقيقة والمراد القلة (1). وفي لغة هي واو وأصله هنو، فيصغر على هنيوة فتصير هنية، والهمزة كما صرحوا به مع ان الإستعمال بالهمزة لعلة أكثر، والمراد من الفقرة انها (عليها السلام) أمهلت القوم عن كلامها هنية أي صبرت زمانا قليلا عن الكلام وسكتت. و (النشيج) صوت معه توجع وبكاء كما يردد الصبي بكاءه في صدره، وفي حديث وفاة النبي (صلى الله عليه وآله): " فنشج الناس يبكون " (2). قال في النهاية: ومنه حديث عمر: إنه قرأ سورة [ يوسف ] في الصلاة فبكى حتى سمع نشيجه خلف الصفوف، ومنه حديثه الآخر: فنشج حتى اختلفت أضلاعه (3). وفي المجمع: ومنه أقبل الشيخ ينتحب بنشيج (4). وفي المصباح: نشج الباكي نشيجا إذا غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب (5). و (هدأ) هدءا وهدوءا - من باب منع - أي سكن عن الحركة، واهدئ فلان مما كان أي أسكن عن الحركات التي كان عليها كناية عن الموت، وأهدأه: سكته، يقال: أهدأت الصبي إذا جعلت تضرب بكفك عليه وتسكنه لينام. و (الفورة) من فارت القدر تفور فورا فورانا جاشت، والإسم الفورة، أو هي مصدر أيضا بمعنى الجيش والغليان.


(1) المصباح: 641 / الهن. (2) لسان العرب 14: 137 / نشج. (3) النهاية 5: 53 / نشج، لسان العرب 14: 137 / نشج. (4) مجمع البحرين / نشج. (5) القاموس المحيط: 265 / نشج، ولم نجده في المصباح. (*)

[ 346 ]

قال في المصباح: قولهم والشفعة على الفور من هذا أي على الوقت الحاضر الذي لا تأخير فيه، ثم استعمل في الحالة التي لا بط ء فيها، يقال: جاء فلان في حاجته ثم رجع من فوره، أي من حركته التي وصل فيها ولم يسكن بعدها، وحقيقته أن يصل ما بعد المجئ بما قبله من غير لبث (1)، وفار الماء يفور إذا نبع وجرى وكأنه جاش من الأرض وغلا. و (الإفتتاح) بالشئ الإبتداء به، وافتتاح الكلام بحمد الله جعله إبتداء، وسيجئ معنى الحمد والثناء والصلاة، والبواقي واضحة إلا ان البكاء ممدودا أو مقصورا، قيل: كلاهما بمعنى واحد وهو البكاء المطلق، وقيل: هو بالقصر البكاء بلا صوت، وبالمد البكاء معه بناء على أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني، ولا يبعد أن يكونا من باب (إذا اجتمعا إفترقا وإذا افترقا اجتمعا)، وهو باب واسع يدخل فيه أمور كثيرة. والظاهر من كلام الراوي هنا أنها (عليها السلام) حمدت الله أولا وأثنت عليه، وصلت على رسوله بنحو الإجمال، فشرع القوم حينئذ في البكاء مرة ثانية بعد أن بكوا أولا عندما جلست وأنت، وحينئذ سكتت (عليها السلام) لبكاء القوم وعدم سماعهم كلامها، فأمهلتهم ريثما سكنوا عن بكائهم وسكتوا، فعادت (عليها السلام) حينئذ في كلامها. * * *


(1) المصباح المنير: 482 / فار. (*)

[ 347 ]

وقالت (عليها السلام): " الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم إبتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن ولاها، جم عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق باجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها ". بيان: (الحمد) هو الثناء باللسان على الجميل الإختياري بقصد التعظيم والتبجيل للممدوح، سواء كان على النعمة أو غيرها، والشكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب الإنعام أي الاتيان به من جهة إحسانه سواء كان ذلك ذكرا باللسان، أو إعتقادا بالجنان، أو عملا بالأركان، وعليه قول القائل: أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدا ولسانا والضمير المحجبا فالحمد أعم من جهة المتعلق وأخص من جهة المورد، والشكر بالعكس فبينهما عموم من وجه، وفي الحديث: " الحمد رأس الشكر " (1) ووجهه ان ذكر النعمة باللسان، والثناء به على المنعم بالنعمة أدل على مكانها من الإعتقاد، لخفاء عمل القلب وما في عمل الجوارح والأعمال من الإحتمال بخلاف عمل اللسان، هو الذكر الجلي المفصح عن كل خفي، المنبئ عن الضمائر والمنهى عن اسرار السرائر. وفي النهاية: إن الحمد والشكر متقاربان والحمد أعمهما، فإنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه، ولا تشكره على صفاته (2). وفي المصباح: حمدته على صفاته الجميلة، وأفعاله الإختيارية التي ليست


(1) راجع النهاية 1: 437 / حمد، لسان العرب 3: 314 / حمد. (2) النهاية 1: 437 / حمد، لسان العرب 3: 314 / حمد. (*)

[ 348 ]

خلقية، كما يقال: حمدته على شجاعته، وحمدته على إحسانه أي أثنيت عليه، ومن هنا كان الحمد غير الشكر، لأنه يستعمل للصفة في الشخص وفيه معنى التعجب، ويكون فيه معنى التعظيم للممدوح وخضوع المادح، كقول المبتلي: (الحمد لله) إذ ليس هنا شئ من نعم الدنيا ليكون في مقابله إحسان يصل إلى الحامد، وأما الشكر فلا يكون إلا في مقابلة الصنيع، فلا يقال: شكرته على شجاعته، إنتهى (1). و (الثناء) إسم من أثنيت على زيد بالألف أي مدحته، واستعماله في الذكر الجميل أكثر من القبيح، وفي مشارق الأنوار للهروي: انه ورد في الخبر " من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار، وأنتم شهداء الله في الأرض ". قال في مطالع الأنوار - شرح الكتاب المزبور -: فإن قلت: الثناء بتقديم المثلثة على النون إنما يستعمل في الخير، والنثاء بتقديم النون على المثلثة يستعمل في الشر، فكيف وقع في الحديث استعمال الثناء في الشر ؟ قلت: ليجانس استعماله في الخير، وفيه رمز أيضا إلى أن في ذلك خيرا أيضا، لأنه ربما يصير سبب التوجه إلى الطاعة للسامعين، ويكون موجبا للتوبة والإقدام عليها وفيه خير كثير، وقيل: الثناء بتقديم المثلثة يستعمل فيهما، وبتقديم النون لا يستعمل إلا في الشر، إنتهى. وأما المدح فهو الثناء الحسن، ومدحه وامتدحه بمعنى وكذا المدحة - بكسر الميم -، ومدحته من باب نفع أثنيت عليه بما فيه من الصفات الجميلة خلقية كانت أو إختيارية، ولهذا كان المدح أعم من الحمد فيقال: مدحت اللؤلؤ لصفاته، ولا يقال: حمدته. و (الانعام) بالشئ على أحد إعطائه له، وأصل النعمة ينبئ عن معنى النعومة واللين والسهولة، فتطلق لكل ما فيه جهة وسعة واستراحة للإنسان وهو يتنعم به


(1) المصباح المنير: 149 / حمد. (*)

[ 349 ]

مطلقا، فتطلق على الأمن، والصحة، والمال، والدين، والمعرفة وغير ذلك من الفيوض الدنيوية والاخروية، ويجمع النعمة على النعم. و (ما) في (على ما أنعم) اما مصدرية أي على إنعامه، أو موصولة بحذف العائد أي على ما أنعم به، وعلى قياسه قولها (عليها السلام): (على ما ألهم) أي على إلهامه أو على ما ألهمه، وبما قدم أي بتقديمه أو بما قدمه، وعلى الموصولية يكون قولها (عليها السلام): " من عموم نعم " بيانا للموصولة، ويجوز بدل الموصولة جعلها نكرة موصوفة، والعموم على كون (من) بيانية على أحد الوجهين بمعنى العام. و (السبوغ) بمعنى السابغ و (التمام) بمعنى التام، عبر بالمصدر دلالة على المبالغة مثل زيد عدل، وعلى المصدرية يجعل (من) تبعيضية أو تعليلية، والمراد مما أنعم به النعم الظاهرية كالحياة والصحة ونحوهما لظهور النعمة في النعم الظاهرية، والمراد مما ألهم النعم الباطنية كالعلم والمعرفة وغيرهما. ويؤيده الاتيان بلفظ الشكر الحاصل بعمل القلب أيضا، بملاحظة مناسبة الشكر والمشكور عليه مع دلالة لفظ الإلهام على كونها من الأمور القلبية، والمراد مما قدمه هو النعم المقدمة على النعمتين المتقدمتين، وهي نعم الإستعدادات والقابليات بقرينة الاشعار الموجود في التعبير بلفظ التقديم. أو المراد مما قدم خصوص نعم أعطاها الله العباد قبل أن يستحقوها، والمراد بالتقديم الإيجاد والتفضل بلا ملاحظة معنى الإبتداء، وحينئذ يكون (من عموم نعم) ناظرا إلى ما أنعم، و (سبوغ ألاء) إلى ما ألهم، و (تمام منن) إلى ما قدم على طريق اللف والنشر المرتب، ويحتمل المشوش، وأن يجعل كل فقرة عاما لكل وناظرا إلى كل، والموصولات حينئذ متغايرة في المعنى أو متحدة وكذا البيانات، فيحصل صور كثيرة. والتكرار الحاصل في بعض الصور في المبين والبيان أو كليهما إفادة للتأكيد،


[ 350 ]

كما في قوله تعالى: * (لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) * (1) مبالغة في إبداء نعم الله وإظهارها ليكون ذلك ثناء آخر من باب: * (وأما بنعمة ربك فحدث) * (2). والحمد لله اخبار عند الفراء، قال: وفيه إضمار كأنه قال: إحمدوه وقولوا: الحمد لله، والأظهر أن يقال: انه جملة إخبارية في الأصل، ثم استعمل في معنى الإنشاء، فإن المتبادر من قول هذه الجملة - أي الحمدلله - إنشاء الحمد لله، واستعمال الجمل الخبرية في مورد الإنشاء كثير في الجملة، إما فعلية ما ضوية مثل صيغ العقود والأدعية نظير: بعت، وأنكحت، وأيدك الله، ورحمك الله، أو فعلية استقبالية مثل: لا يمسه إلا المطهرون، أو اسمية مثل: الحمد لله وله الشكر ونحو ذلك. والإضمار خلاف الأصل مع أن التبادر العرفي يحكم بكون الجملة إنشائية، كما تقول بعد حصول النعمة: (الحمد لله) بقصد أن تحمده، ثم انهم قالوا: إن العبد إذا حمد الله فقد ظفر بأربعة أشياء: قضى حق الله، وأدى شكر النعمة الماضية، وتقرب من استحقاق ثواب الله، واستحق المزيد من نعمائه. و (الإلهام) هو الإلقاء في الروع، يقال: ألهمه الله خيرا أي لقنه، و (فألهمها فجورها وتقواها) (3) أي بينها. والإلهام قسم من الوحي، وهو والإيحاء الإعلام في خفاء، فيستعمل كل منهما بمعنى الإلقاء في الروع لكونه نوعا من الإعلام في خفاء، قال تعالى: * (وأوحى ربك إلى النحل) * (4) أي ألهمها وقذف في قلوبها، وعلمها على وجه لا سبيل لأحد على الوقوف عليه، * (وأوحينا إلى ام موسى أن أرضعيه) * (5) فإنه أيضا وحي إليها، وكذلك قوله تعالى: * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) * (6).


(1) فاطر: 35. (2) الضحى: 11. (3) الشمس: 8. (4) النحل: 68. (5) القصص: 7. (6) الأنعام: 121. (*)

[ 351 ]

ثم غلب الوحي والإيحاء بمعنى الإلهام فيما يلقى إلى الأنبياء بواسطة الملك، والإلهام فيما يلقى مطلقا بلا وساطته، فيكون الإلهام أعم من الوحي، فالوحي مخصوص بالأنبياء والإلهام أعم منهم ومن الأولياء. و (العموم) في الأصل الكثرة، ويتولد منه معنى الشمول والإحاطة، وهو هاهنا إما بمعناه الأصلي أو الإستيلادي، بلا تأويل ومع تأويله بمعنى الوصف. و (الإبتداء) بالشئ الإفتتاح به، وهو كناية عن إيجاده أول حالة فيشمل معنى الإختراع، وهو بمعنى الإيجاد لا من شئ كما قيل. و (الإبداع) وهو الإيجاد بلا علة، وقيل: الإبداع والاختراع كلاهما بمعنى واحد، قال الجوهري: أبدعت الشئ إخترعته (1)، وقال الزمخشري: أبدع الله الأشياء إبتدعها من غير سبب. ويؤيد الفرق ما رواه الصدوق (رحمه الله) في كتاب التوحيد: " الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء، ومبتدعها إبتداء بقدرته وحكمته، لا من شئ فيبطل الإختراع، ولا لعلة فلا يصح الإبتداع " (2) ولكن في هذه الخطبة - كما سيجئ عن قريب -: " إبتدع الأشياء لا من شئ كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة أمثلها ". ويظهر من هذا أن الإبداع بمعنى الإيجاد لا من شئ فينعكس الفرق، لكن الظاهر عند الإطلاق هو الفرق على النحو المذكور في خبر التوحيد، وجواز استعمال كل في كل عند التقييد، والوارد في الخطبة من هذا القبيل، ويمكن أن يقال: إذا اجتمعا إفترقا وإذا افترقا إجتمعا. وفي الدعاء: " يا مبتدئ بالنعم قبل استحقاقها " (3) اما بمعنى المبدع أو المخترع، أو بمعناه الأصلي الذي هو مطلق الإبتداء، ويقال: إبتدأه بمعنى أوجده


(1) الصحاح 3: 1183 / بدع. (2) التوحيد: 98 ح 5، وعلل الشرائع: 9 ح 3، عنهما البحار 4: 263 ح 11، وفي الكافي 1: 105 ح 3. (3) البحار 86: 75 ح 10. (*)

[ 352 ]

وأنشأه بلا مثال، والمبدئ للشئ هو الذي أنشأه واخترعه إبتداء من غير سابق مثال أيضا، فيكون هو بمعنى المنشئ أيضا على وجه كالمبتدئ، وقد يقال: إخترع وابتدع وابتدأ وأبدأ وأنشأ كلها بمعنى أوجد وأحدث مطلقا. والبادي في أسماء الله تعالى اما بمعنى الأول أو الظاهر أو المبدي، والسبوغ من سبغ الثوب سبوغا تم وكمل، وسبغت الدرع وكل شئ إذا طال من فوق إلى أسفل. ونعمة سابغة أي كاملة طويلة، وسبغت النعمة اتسعت وأسبغها الله تعالى وأكملها، قال تعالى: * (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) * (1) وبمعنى الشمول أيضا استلزاما واستيلادا، وقوله: " يا سابغ النعم، يا دافع النقم " أي تام النعم أو كاملها أو شاملها. (والآلاء) النعم أيضا، واحدها (آلى) بالقصر والفتح وقد تكسر الهمزة، وفي الغريب (2): واحدها (الى) بالحركات الثلاث، قيل: وبسكون اللام أيضا وهي مطلق النعمة، وقيل: الآلاء هي النعم الباطنية، والنعم هي الظاهرية وقد يعكس الأمر فيهما، والظاهر انهما من باب إذا اجتمعا إفترقا وإذا افترقا إجتمعا. وفي الحديث: تفكروا في ألاء الله ولا تفكروا في الله (3)، قيل: أي في نعمه الباطنية، ويجوز إرادة الظاهرية، بل الأعم أيضا، والظاهر أن المراد في الحديث من الآلاء هو الموجودات مطلقا، أي تفكروا في موجوداته تعالى وفي آثار صنعه، ولا تفكروا في ذات الله فإن التفكر في ذات الله لا يزيد إلا تحيرا كما في خبر آخر. و (الإسداء) بمعنى الإعطاء، يقال: أسداه كأولاه وأعطاه لفظا ومعنى، من سدى الثوب - كحصى - وهو ما امتد طويلا من خيوطه مقابل اللحمة، يقال:


(1) لقمان: 20. (2) راجع غريب القرآن الكريم للطريحي: 7 / ألاء. (3) النهاية 1: 63 / ألى، والبحار 71: 321 ح 3، وكنز العمال 3: 106 ح 5707. (*

[ 353 ]

أسديته معروفا وأسديت إليه أي أعطيته، وفي الخبر: " من أسدى إليكم معروفا فكافئوه " (1). و (التمام) الكمال من تم يتم من باب ضرب، قال: إذا تم أمر دنا نقصه * توقع زوالا إذا قيل تم وتم الشئ تماما - بالفتح - وأتمه غيره وتممه واستتمه بمعنى، قيل: والاسم من الاتمام أيضا التمام - بالفتح - وولد الولد لتمام الحمل - بالفتح والكسر - بمعنى، وألقت المرأة الولد لغير تمام بالوجهين، وكذا قمر تمام وتمام إذا تم ليلة البدر، وليل التمام - مكسورة لا غيره - وهو أطول ليلة في السنة، قال الشاعر: فبت اكابد ليل التما * م والقلب من خشية مقشعر (2) ويقال: بدرتم بالإضافة وبدونها مع تثليث التاء والكسر، ويقال: مضى لتم خمس أي عند تمامها. و (المنن) جمع المنة - بالكسر - بمعنى النعمة، والمنان هو المنعم المعطي من المن بمعنى العطاء والإحسان لا المنة، وقد يقع المنان على الذي لا يعطي شيئا منة واعتد به، وأصله أيضا من المن بمعنى الإحسان، فالمراد من المنان العاد لمننه باني فعلت لك كذا وكذا، وهو من قباح الأوصاف وشيمة الأراذل لا الأشراف، قال تعالى: * (ولا تمنن تستكثر) * (3) وقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) * (4). ومن بلاغة الزمخشري: " طعم الألاء أحلى من المن، وهو أمر من الالاء عند المن " أراد بالمن الأول المن المذكور في قوله تعالى: * (وأنزلنا عليهم المن والسلوى) * (5) وبالثاني تعديد النعم، وهو محمود من الله مذموم من العبد مطلقا،


(1) النهاية 2: 356 / لسان العرب 6: 222 / سدا، مستدرك الوسائل 12: 357 ح 14283. (2) راجع لسان العرب 2: 53 / تمم. (3) المدثر: 6. (4) البقرة: 264. (5) الأعراف: 160. (*)

[ 354 ]

وبالألاء الأول: النعم، وبالثاني: الشجر المر. و (والاها) أي تابعها باعطاء نعمة بعد اخرى بلا فصل من الموالاة في الأشياء، أي المتابعة بينها بأن يتبع بعضها بعضا، ومنه الموالاة في أعضاء الوضوء أي في غسلها، فيكون والاها بمعنى والا فيها، أو هو متعد أي أتبع بعضها بعضا. أو أن والاها بمعنى باشرها أي باشر إعطاءها، وأصله من الولى بمعنى القرب، ومنه انشعب معنى المتابعة والمحبة والنصرة والسيادة وغير ذلك من الفروعات الكثيرة. (وجم) الشئ أي كثر، والجم الكثير صفة أو مصدر بمعنى الفاعل، قال تعالى: * (وتحبون المال حبا جما) * (1) أي كثيرا، ويقال: جاء القوم جما غفيرا والجماء الغفير أي مجتمعين كثيرين، والجماء الغفير: الجماعة من الناس أيضا. وورد في الخبر جم الغفير، بحذف اللام من الجم وإضافته إلى الغفير، نظير صلاة الأولى، ومسجد الجامع، وأصل الكلمة من الجموم والجمة وهو الإجتماع والكثرة، والغفير من الغفر وهو التغطئة والستر، ومنه الغفور أي الساتر للذنوب كناية عن العفو، فاستعمل الكلمتان في موضع الشمول والإحاطة كأن الجماعة الكثيرة ساترون لوجه الأرض من جهة الكثرة. وفي نحو (جاؤوا الجماء الغفير) قيل: النصب على المصدر كطرا وقاطبة، وهي أسماء وضعت موضع المصدر، والمشهور انها منصوبة على الحالية أي مجتمعين، وانها أي الجماء الغفير معرفة لفظا ونكرة معنى مثل وحدك بمعنى منفردا، وتأنيث الجماء باعتبار الجماعة، وعدم تغير الغفير لكونه على وزن المصدر فعومل معاملته، مثل قوله تعالى: * (والملائكة بعد ذلك ظهير) * (2) لكونه على وزن صهيل ونهيق. وفي المصباح: جم الشئ جما من باب ضرب كثر [ فهو جم تسمية بالمصدر،


(1) الفجر: 20. (2) التحريم: 4. (*)

[ 355 ]

ومال ] (1) جم أي كثير، وجاؤوا الجماء أي بجملتهم (2)، وظاهره أيضا الحالية، وتعدية جم بعن لتضمين معنى التعدي والتجاوز. و (الإحصاء) العد والحفظ، والمحصي من أسماء الله تعالى بمعنى الذي أحصى كل شئ بعلمه وأحاط به، فلا يفوته دقيق منها ولا جليل، وفي الحديث: (إن لله تسعة وتسعين إسما من أحصاها دخل الجنة) (3). قيل: أي من أحصاها علما بها دخل الجنة، وقيل: أي حفظها على قلبه، وقيل: أراد من استخرجها من كتاب الله وأحاديث رسوله، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يعدها مجتمعة، وقيل: من أطاق العمل بها مثل من يعلم انه بصير، فيكف لسانه وسمعه عما لا يجوز له، وكذلك في الأسماء. وقيل: أراد من أخطر بباله عند ذكرها معناها، وتفكر في مدلولها، معظما لمسماها، ومقدسا لذاته تعالى، ومعتبرا بمعانيها، ومتدبرا راغبا فيها وراهبا، وبالجملة ففي كل إسم يجريه على لسانه يخطر بباله الوصف الدال عليه، بانيا على العمل بمفاده ومضمونه. وفي خبر آخر: (لا احصي ثناء عليك) (4) أي لا احصي نعمك والثناء بها عليك، ولا أبلغ الواجب فيه، وقوله تعالى: * (أحصى كل شئ عددا) * (5) هو أيضا من أحصى الشئ إذا عده كله، أي أحصى ما كان وما يكون منذ خلق الله آدم الى أن تقوم الساعة من فتنة، أو زلزلة، أو خسف، أو امة أهلكت أو تهلك فيما بقي، وكم من إمام عادل وجائر يعرفه باسمه ونسبه، ويموت موتا أو يقتل قتلا إلى غير ذلك.


(1) أثبتناه من المصدر. (2) المصباح: 110 / جم. (3) النهاية 1: 397 / لسان العرب 3: 212 / حصى، البحار 4: 186 ح 1. (4) النهاية 1: 397 / لسان العرب 3: 212 / حصى، البحار 85: 169 ح 7. (5) الجن: 28. (*)

[ 356 ]

و (نأى) عنه أي بعد، وقوله تعالى: * (ونأ بجانبه) * (1) أي تباعد عن ذكر الله من النأي بمعنى البعد. و (الجزاء) إسم من جازاه إذا كافاه من أجزءني الشئ أي كفاني، ومجرده جزى بمعنى كفى أيضا، وجزاء العمل عوضه وما يترتب عليه لأنه بدله وهو عوض لازم له كاف عنه. و (الأمد) - بالتحريك - الغاية والمنتهى أي بعد عن الجزاء بالشكر غايتها، فالمراد بالأمد اما الأمد المفروض إذ لا أمد لها حقيقة، أو الأمد الحقيقي لكل حد من حدودها المفروضة، ويحتمل أن يكون المراد بأمدها إبتدائها أي نهايتها من الطرف الأول، وورد بهذا المعنى في الموارد الكثيرة. قال في النهاية: في حديث الحجاج قال للحسن: ما أمدك ؟ قال: سنتان من خلافة عمر، أراد أنه ولد لسنتين من خلافته، وللإنسان أمدان مولده وموته، إنتهى (2). وإذا حمل عليه كان الكلام أبلغ وأفصح كما لا يخفى، وفي المجمع: الأمد هو نهاية البلوغ وجمعه اماد، يقال: بلغ أمده أي غايته، وعن الراغب (3): الأمد والأبد متقاربان لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود ولا يتقيد، فلا يقال: أبد كذا، والأمد مدة مجهولة إذا اطلق وقد ينحصر ويقيد، نحو أن يقال: أمد كذا، والفرق بين الزمان والأمد أن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية، ولذلك قال بعضهم: المدى والغاية متقاربان في قوله تعالى: * (أمدا بعيدا) * (4) أي مسافة واسعة، وفي حديث وصفه تعالى: (لا أمد لكونه، ولا غاية لبقائه) (5)، وقيل: أي لا أول، وفي الدعاء: (جعلت له أمدا محدودا) أي


(1) الاسراء: 83. (2) النهاية 1: 65 / أمد. (3) المفردات: 24 / أمد. (4) آل عمران: 30. (5) التوحيد: 56 ح 14، عنه البحار 4: 284 ح 17، وفي الكافي 1: 139 ح 5. (*)

[ 357 ]

منتهى إليه (1). ويحتمل على بعد أن يقرأ الأمد في الخطبة بكسر الميم، قال الفيروز آبادي: الآمد المملو من خير وشر، والسفينة المشحونة (2). و (التفاوت) البعد وأصله من الفوت، و * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * (3) أي إضطراب واختلاف، وتفاوت الشيئان تفاوتا - قيل بحركات الواو والضم أكثر - أي تباعد ما بينهما، وفاة الأمر فوتا أي انقضى وقت فعله، وفاتت الصلاة خرج وقتها، وفاته الشئ فوتا وفواتا أعوزه، وفاته فلان بذراع سبقه بها. و (الأبد) الدهر ويقال الدهر الطويل الذي ليس بمحدود، قال الرماني: فإذا قلت: لا اكلمه أبدا، فالأبد من لدن تكلمته إلى آخر عمرك، ويقال: أبد أبيد كما يقال: دهر داهر، ويقال: أبد الأبيد وأبد الآبدين كما يقال: دهر الداهرين وعوض العائضين، والأبد أيضا الدائم. وفي حديث الحج قال له سراقة بن مالك: أرأيت متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ قال (صلى الله عليه وآله): لا بل لأبد الأبد (4)، أي هذه لآخر الدهر والتأبيد، ومنه: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا أي مخلدا إلى آخر الدهر - واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا (5)، وافعله أبدا أي دائما. ويطلق الأبد على القديم الأزلي الذي لا نهاية له من الطرف الأول، والقديم الأبدي الذي لا نهاية له من الطرف الآخر كالأبدي نظير الأوحد والأوحدي، وبعدها عن الإدراك لعدم انتهائها، إذ لو كان لها انتهاء تعلق بها الإدراك بخلاف مالا نهاية له. و (ندبه) للأمر وإليه فانتدب أي دعاه فأجاب فهو نادب وذاك مندوب،


(1) مجمع البحرين / أمد. (2) القاموس المحيط: 339 / أمد. (3) الملك: 3. (4) النهاية 1: 13 / أبد، لسان العرب 1: 40 / أبد، البحار 99: 90 ح 8. (5) البحار 44: 139 ح 6. (*)

[ 358 ]

والأمر مندوب إليه، والإسم الندبة كغرفة، ويقال: إنتدبه للأمر بمعنى ندبه أيضا فهو يتعدى ولا يتعدى، وانتدب الله لمن خرج في سبيله أي أجابه إلى غفرانه، أو ضمن، أو تكفل، أو سارع بثوابه. والندب - بالتحريك - كالخطر لفظا ومعنى وهو عوض الإجابة، فالمندوب الشرعي بمعنى المندوب إليه لكن حذفت الصلة لفهم المعنى كما يقال: المشترك بمعنى المشترك فيه، والظرف المستقر بمعنى المستقر فيه على وجه. ومن الندب المذكور ندب الميت بمعنى بكى عليه وعد محاسنه، كأن النادب يذكر محاسنه ويدعو الناس إلى البكاء عليه، وفي الخبر: " كل نادبة كاذبة إلا نادبة سعد " (1) وندبته بعثته أيضا تفرعا من معنى الدعوة. و (الإستزادة) طلب الزيادة والضمير للنعمة، واللام في قولها (عليها السلام): " لاستزادتها " بمعنى إلى، أي دعاهم إلى استزادتها أي إلى أن يطلبوا زيادة نعمه بأن يكون طلبهم لها بسبب الشكر الموجب للمزيد، واللام في اتصالها لتعليل الندب أي رغبهم في استزادة النعمة بسبب الشكر لتكون نعمه متصلة لهم غير منقطعة عنهم، ويحتمل أن يجعل اللام الاولى للتعليل والثانية للصلة متعلقة بالشكر، أي بأن يشكروا على اتصال نعم الله ليحصل لهم الزيادة أيضا. ويؤيده ما في بعض النسخ من قولها (عليها السلام): " لإفضالها " بدل لاتصالها، لتعلق اللام حينئذ بالشكر البتة، وبالجملة فالفقرة المذكورة إشارة إلى قوله تعالى: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * (2). و (الخلائق) جمع الخليقة بمعنى الطبيعة والجبلة المطبوع عليها الشئ، ويكنى بها عن مطلق المخلوق، وفي حديث الخوارج " هم شر الخلق والخليقة " (3) قال بعض الشارحين: الخلق الناس والخليقة البهائم، وقيل: هما بمعنى ويريد بهما


(1) النهاية 5: 34 / ندب، لسان العرب 14: 87 / ندب. (2) إبراهيم: 7. (3) البحار 18: 124 ح 36. (*)

[ 359 ]

جميع الخلائق، يقال: هم خلق الله وخليقة الله، ولا يخفى أن أصل الخلق في اللغة التقدير، يقال: خلقت الأديم للسقاء أي قدرت له، وخلق الرجل القول إفتراه. وفي تفسير النعماني عن الصادق (عليه السلام)، عن علي (عليه السلام) أنه سئل عن الخلق فقال: هو على ثلاثة أوجه، فمنه خلق الإختراع كقوله تعالى: * (خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) * (1) وخلق الإستحالة مثل قوله تعالى: * (يخلقكم في بطون امهاتكم) * (2) و * (هو الذي خلقكم من تراب) * (3) وخلق التقدير كقوله تعالى: * (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير) * (4) والمراد التقدير المحض (5). وقال الصدوق في التوحيد: إعتقادنا في أفعال العباد أنها مخلوقة لله خلق تقدير لا خلق تكوين، ومعنى خلق التقدير أن الله عالم بمقاديرها (6). وقال أيضا في الكتاب المذكور في معنى الخالق: إن الخلق في اللغة تقديرك الشئ، وإن أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين، وخلق عيسى من الطين كهيئة الطير هو خلق تقدير أيضا، ومكون الطير وخالقه في الحقيقة هو الله تعالى (7). وقال بعض الأعلام: قد يظن أن الخالق البارئ المصور في أسماء الله تعالى ألفاظ مترادفة، وان الكل يرجع إلى معنى الخلق والإختراع، وليس كذلك بل كلما يخرج من العدم إلى الوجود مفتقر إلى تقديره أولا، وإيجاده على وفق التقدير ثانيا، وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا، فالله تعالى خالق من حيث هو، مقدر وبارئ


(1) الفرقان: 59. (2) الزمر: 6. (3) غافر: 67. (4) المائدة: 110. (5) راجع البحار 60: 333 ح 2. (6) راجع الإعتقادات للصدوق: 9 رقم 4، عنه البحار 5: 19 ح 29. (7) التوحيد: 216، باب أسماء الله، عنه البحار 4: 207 ح 2. (*)

[ 360 ]

من حيث هو، مخترع وموجد ومصور من حيث أنه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب، وقوله: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (1) بمعنى أحسن المقدرين والمصورين. أو أن الخالق قد يطلق بمعنى الأعم، وهو ما يشمل لمعنى الموجد ولمعنى مظهر الخلق، إذا كان ذلك المظهر فاعلا مختارا، فيشمل الله تعالى وسائر الخلق، فقيل بهذا الإعتبار أحسن الخالقين نظير قوله تعالى: * (والله خير الرازقين) * (2). وذكر الصدوق في التوحيد أنه دخل عبد الكريم ابن أبي العوجاء على الصادق (عليه السلام) فقال: أليس تزعم أن الله خالق كل شئ ؟ فقال الصادق (عليه السلام): بلى، فقال: وأنا أخلق، فقال له: وكيف تخلق ؟ قال: احدث في الموضع ثم ألبث عنه فيصير دوابا فأكون أنا الذي خلقتها، فقال (عليه السلام): أليس خالق الشئ يعرف كم خلقه ؟ قال له: بلى، قال: فتعرف الذكر منها من الاناث، وتعرف كم عمرها ؟ فسكت (3). ويظهر مما ذكر أن الخالق في أسماء الله تعالى من الخلق بمعنى الإنشاء بلا مادة ولا مثال ولا سبب ولا علة، وانه يستلزم امورا ثلاثة: التقدير، ثم الإنشاء على وفقه بلا تغيير ولا تبديل، ثم العلم بما يؤدي إليه خلقه، ونحو هذا هو التقدير الكامل. وهذا الخلق مخصوص لله تعالى، ولا خالق بهذا المعنى إلا الله، وهل من خالق غير الله، ولا مؤثر في الوجود إلا الله، وهو خالق النور والظلمة، والخير والشر، والرحمة والغضب، والنجاة والعطب، والأنبياء والشياطين، والسعادة والشقاوة. وورد في الأخبار الكثيرة أيضا في الكافي وغيره ما حاصله أن خالق الخير والشر هو الله، وانه تعالى أجرى الخير بيد من أحبه، وأجرى الشر بيد من أبغضه،


(1) المؤمنون: 14. (2) الجمعة: 11. (3) التوحيد: 295 ح 5، عنه البحار 3: 50 ح 24. (*)

[ 361 ]

وان من قال ان الشيطان خلق الشر فقد أشركه مع الله في سلطانه، وقال تعالى في القرآن المجيد بعد ذكر الحسنة والسيئة: * (قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) * (1). ومن أول الأحاديث المذكورة بأن المراد من خلق الخير والشر هو خلق الخير والشر بخلق التقدير لا خلق التكوين، وان معنى خلق التقدير انه منقوش في اللوح المحفوظ، وان خلق التكوين وهو وجود الخير والشر في الخارج من فعلنا، فلم يفقه الحديث بل ضل ضلالا بعيدا، ولم يفرق بين الخلق والفعل، وأشرك العبد مع الله، بل صار حاله أشد من الثنوية، فإنهم جعلوا الشيطان خالق الشر وحده، وهذا أشرك معه تعالى جميع العباد، وأضاف الخير أيضا إلى الشر، فجعل الأفعال الخيرية أيضا مخلوقة لغير الله سبحانه مع ان الخالق غير الفاعل، والعبد مظهر الفعل باختيار، وخالق الفعل ومخرجه من العدم إلى الوجود هو الله سبحانه، هل من خالق غير الله فأنى تؤفكون، له الملك وله الحمد وإليه ترجعون، لا إله إلا الله، ولا مؤثر في الوجود إلا الله، ولا معنى لنسبة خلق التكوين في الأفعال إلى عباد الله. نعم الله تعالى خالق كل شئ بالخلق التقديري أيضا في كل المراتب، وله التقدير الكامل فيما اشتمل على القيود الثلاثة المذكورة، وله التقدير في الجملة مع قطع النظر عن الأول والآخر فيما كان له مادة سابقة، وبلحاظ التقدير الأخير ورد قوله تعالى: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (2). فالخالق لأفعال العباد أيضا في الحقيقة هو الله سبحانه، ولا يلزم من ذلك أن يكون هو الفاعل لها، فإن الفاعل غير الجاعل، إذ الفاعل للفعل هو المظهر المختار، والجاعل هو الموجد باختيار هذا المظهر المختار له، فالعبد يختار المشي إلى المسجد أو الخمار، والله يخلقه بذلك الإختيار، فيكون العبد فاعلا لا جاعلا،


(1) النساء: 78. (2) المؤمنون: 14. (*)

[ 362 ]

والله تعالى خالقا لا فاعلا، وليس في الأخبار ما ينافي ما ذكرنا بل كلها منطبقة على ما قررنا. وقد بسطنا الكلام في المقام في كتاب (الأصول المهمة) الذي صنفناه في اصول الدين، ومن أراد التفصيل فليراجع ثمة حتى يتبدل شكه باليقين. و (الإجزال) من الجزيل بمعنى العظيم، يقال: عطاء جزل وجزيل، وأجزلت لهم في العطاء أي أكثرت، وأجزلهم نصيبا أي أكثرهم وأوفرهم، وأجزل الله عليهم العطاء أي وسعه. وأصل الجزل من جزل الحطب جزالة أي عظم وغلظ، ثم استعير للعطاء الكثير والأمر الخطير، ومنه الجزل للعاقل الكريم والجزيل للشئ الأفضل الحسن للإشتمال على العظم الصوري أو المعنوي، ورأي جزيل أي حسن، ويجئ بمعنى التام الكامل أيضا، وقال في النهاية: وكلام جزل أي قوي شديد (1). وقولها (عليها السلام): (واستحمد إلى الخلائق بإجزالها) أي طلب منهم الحمد بسبب إجزال النعم وإكمالها عليهم، أو أن إجزال النعم كأنه طلب الحمد منهم، وعلى التقديرين التعدية بإلى لتضمين معنى الإنتهاء أو التوجه، وهذه التعدية في الحمد شائعة، ويجوز أن يكون استحمد بمعنى تحمد، يقال: فلان يتحمد علي أي يمتن علي، فيكون إلى بمعنى على وهو بعيد. وفي الأخبار: اما بعد فإني أحمد إليك الله، أو أحمد الله إليك، أي منهيا حمدي أو موجها له إليك، وفي المجمع: إن إلى هنا بمعنى مع، أي أحمد معك وأحمد إليك نعمة الله بتحديثك إياه (2)، وهو قد أخذ هذين المعنيين من النهاية. و (الثناء) بالكسر والمد أن يفعل الشئ مرتين، وقيل بالكسر والقصر الأمر يعاد مرتين، ومنه التثنية للإثنين، والاثناء جمع الثني بالكسر فالسكون بمعنى العطف، فالاثناء بمعنى أوساط أعطاف الثوب وهي معاطيفه وتضاعيفه.


(1) النهاية 1: 270 / جزل. (2) مجمع البحرين / حمد. (*)

[ 363 ]

وفي حديث عوف بن مالك أنه سأل النبي (صلى الله عليه وآله) عن الإمارة فقال (صلى الله عليه وآله): أولها ملامة، وثناؤها ندامة، وثلاثها عذاب يوم القيامة، أي ثانيها وثالثها (1). وثنيت الشئ ثنيا - من باب رمى - إذا عطفته ورددته، وثنيته عن مراده إذا صرفته عنه، قال في المصباح: ومنه الإستثناء لصرف العامل عن تناول المستثنى، فيكون حقيقة في المتصل والمنفصل (2)، وقيل: بمعنى الإخراج، وفيه يتصور الصرف الحقيقي فيكون حقيقة في المتصل وحده، وهذا كله بحسب معناه اللغوي، وإلا فالإستثناء في الإصطلاح حقيقة فيهما، وهو الواقع بعد أداته مطلقا. وثنيته - من باب رمى - إذا صرت معه ثانيا، والثاني إسم فاعل منه كالثالث من قولهم: ثلاثة، أي صار ثالثا له، قال المتنبي: أثلث فإنا أيها الطلل * نبكي وترزم تحتنا الإبل (3) وثناه كرماه إذا منعه ودفعه، قال في العلوية: مارمت بعدك بالمدائن صبوة * إلا ثني الثاني هواك الأول (4) وثنيته - بالتفعيل - جعلته إثنين، وثنى في الخطبة يجوز أن يكون بالتخفيف والتشديد، أي بعد أن أكمل الله لهم النعم الدنيوية ندبهم إلى تحصيل أمثالها من النعم الاخروية، أو الأعم منها ومن مزيد النعم الدنيوية. ويجوز أن يكون المراد من الندب إلى أمثالها أمر العباد بالإحسان والمعروف، وهو إحسان على المحسن إليه والمحسن أيضا، لأنه به يصير مستوجبا للأعواض والمثوبات الدنيوية والأخروية. و (الأمثال) جمع المثل - بالكسر - بمعنى المشابه والمماثل، وفي حديث علي


(1) النهاية 1: 225 / ثنا، لسان العرب 2: 137 / ثنى. (2) المصباح المنير: 85 / الثنية. (3) ديوان أبي الطيب المتنبي: 437 / العضديات. (4) الروضة المختارة: 151، القصيدة السابعة. (*)

[ 364 ]

(عليه السلام) في قصة ذي القرنين: (وفيكم مثله) (1) أي شبهه ونظيره، وهو بفتحتين بمعنى الصفة مثل * (ضرب الله مثلا) * (2) أي صفة بمعنى بين، و * (لله المثل الأعلى) * (3) أي الوصف الأعلى، و * (مثل الجنة التي وعد المتقون) * (4) أي صفتها. وبمعنى الصورة مثل قوله تعالى: * (مثل الحياة الدنيا) * (5) وبمعنى العبرة العجيبة أيضا تشبيها بالمثل السائر، وهو ما شبه مضربه بمورده وكأنه صفته أو صورته، وهو المسمى بالإستعارة التمثيلية، ومنه قوله تعالى: * (وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) * (6) و * (فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين) * (7). وبمعنى المثل أيضا كالمثيل بمعنى الشبه والنظير، يقال: هو مثله أي شبيهه، وبمعنى الدليل والحجة يقال: أقام له مثلا أي حجة ودليلا، وبمعنى الحديث يقال: بسط له مثلا أي حديثا، وقيل: المثل والمثل كلاهما بمعنى واحد، وقيل: إذا اجتمعا إفترقا وإذا افترقا إجتمعا، ويجمع كلاهما على الأمثال، مثل جمل وأجمال، وحمل وأحمال، وأما الأمثلة فهي جمع مثال كألبسة ولباس. وفي حديث كميل بن زياد عن علي (عليه السلام): يا كميل مات خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة (8). قال بعض الشارحين: الأمثال جمع مثل - بالتحريك - وهو في الأصل بمعنى النظير، ثم استعمل في القول السائر الممثل الذي له شأن وغرابة، وهذا هو المراد


(1) الإحتجاج 1: 545 ح 132، عنه البحار 12: 180 ح 6، وتفسير العياشي 2: 339 ح 71. (2) النحل: 75. (3) النحل: 60. (4) الرعد: 35. (5) يونس: 24. (6) الزخرف: 59. (7) الزخرف: 56. (8) نهج البلاغة، قصار الحكم: 147. (*)

[ 365 ]

بقوله (عليه السلام): (وأمثالهم في القلوب موجودة) أي حكمهم ومواعظهم محفوظة عند أهلها، يعملون بها ويهتدون بمنارها. ويجوز أن يكون المراد أن صورهم محفوظة في قلوب الناس لأنهم يذكرونهم أبدا، ويتصورونهم دائما من جهة تذكرة علومهم وحكمهم ومصنفاتهم ومؤلفاتهم، ويؤيدهم مقابلة الأمثال بالأعيان، وذكر الشئ يوجب تصوره وحفظ صورته أبدا في القلب والبال. ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته * ما فاته وفضول العيش أشغال ثم ان في بعض النسخ بدل قولها (عليها السلام) (على ما ألهم) بما ألهم، وبدل (إبتدأها) أتبعها، وبدل (أسداها) أنشأها، وبدل (تمام منن أولاها) واحسان منن أولاها، وبدل (الجزاء) المجازاة، وبدل (أمدها) مزيدها، وبدل (ندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها) قولها: واستتب الشكر بفضائلها واستخذأ الخلق بإنزالها، وبدل (ثنى بالندب) أمر بالندب، والإستباب للأمر التهيؤ له، والإستخذاء التذليل أي ذلل الخلق بانزال نعمه عليهم، فجعلهم تحت نعمه مغمورين، فذلت أعناقهم لها خاضعين. * * *


[ 366 ]

قالت (عليها السلام): " وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، أنار في التفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، إبتدع الأشياء لا من شئ كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة أمتثلها ". بيان: الشهادة تجي ة بمعنى الحضور والمعاينة، يقال: شهده متعديا بنفسه أي حضره وعاينه، ومنه الشاهد يرى ما لا يراه الغائب، و * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (1). وقال في البصائر: الشهود والشهادة حضور مع المعاينة والمشاهدة، سواء كان بالبصر أو البصيرة، والثاني يرجع إلى معنى العلم، قال: والأولى أن يستعمل في الحضور المجرد (الشهود)، وفي الحضور مع المشاهدة (الشهادة)، وإن الشهادة قد تطلق على القول الصادر من العلم الحاصل بالبصر أو البصيرة، ويقال: شهد فلان على كذا متعديا بعلى أي اطلع عليه وعاينه، ومنه المشاهدة بمعنى المعاينة، وهو أعم من الحضور لجواز الإطلاع من بعد بدون صفة الحضور. قال في المصباح: وبناء الخلف والسلف في مقام أداء الشهادة أنهم يقولون: أشهد، دون غيره مما يدل على تحقيق الشئ مثل أعلم وأيقن، والظاهر أنه مبتن على أمر تعبدي لكونه موافقا للكتاب والسنة أيضا، ولعل السر فيه أنه اشترط في الأداء ما يبنى على المشاهدة وهي الإطلاع على الشئ عيانا، واما الأتيان بلفظ المضارع دون الماضي نحو شهدت لأنه موضوع للاخبار عن المضي، فيحتمل أن يكون المتكلم به غير مخبر في الحال، فقيل: أشهد دلالة على الاخبار الحال، وان


(1) البقرة: 185. (*)

[ 367 ]

حكم الماضي مستمر إلى الحال (1). ويقال: شهد كذا متعديا بنفسه أيضا إذا علمه، كما نقل ذلك عن القاموس (2) في تفسير (أشهد أن لا إله إلا الله) وفي تفسير: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * (3)، ويقال: شهد له بكذا متعديا بالباء بمعنى أدى عنده من الشهادة، ويرجع هذا المعنى إلى معنى أخبر عن يقين حاصل بالحضور أو بالمشاهدة ولهذا يتعدى بالباء، وفي النهاية: الشهادة في الأصل الاخبار عما شاهده وعاينه (4). وزاد بعضهم في هذا المعنى وقال: هي الاخبار عن مشاهدة أو ما يقوم مقامه المشاهدة، وقد يقال: شهد بكذا بمعنى نقل الخبر به أي أخبر به عن يقين وعلم كما ذكره في المسالك (5)، وهذا أعم من الحاصل بالحضور وبالمعاينة وغيرهما، وفي الصحاح: الشهادة خبر قاطع، منه شهد الرجل على كذا (6)، ولا يخفى أن الظاهر في هذا المعنى أن يقول بكذا. ويجئ بمعنى أخبر مطلقا، قال في المجمع (7): ومنه قوله تعالى: * (وما شهدنا إلا بما علمنا) * (8)، وبمعنى أعلم وبين أيضا مثل أشهد أن لا إله إلا الله، وشهد الله أنه لا إله إلا هو، وبمعنى حلف كما في الصحاح والمجمع والمصباح، ومنه قوله تعالى: * (قالوا نشهد إنك لرسول الله) * (9) الآية، وأشهد بالله أنه فعل كذا أي أحلف به، وبمعنى كتب أو قضى أو قال، كما قيل بهذه المعاني في آية شهد الله أيضا، وذكر


(1) المصباح المنير: 325 / شهد، بإختلاف. (2) القاموس المحيط: 373 / الشهادة. (3) آل عمران: 18. (4) النهاية 2: 514 / شهد. (5) مسالك الافهام 2: 320 / كتاب الشهادات. (6) الصحاح 2: 494 / شهد. (7) مجمع البحرين / شهد. (8) يوسف: 81. (9) المنافقون: 1. (*)

[ 368 ]

بعضهم أن معنى قال لشهد انما هو لغة قيس غيلان. والشهيد من أسماء الله تعالى هو الذي لا يغيب عليه شئ، قيل: إذا اعتبر فيه العلم مطلقا فهو العليم، وإذا اضيف إلى الامور الباطنة فهو الخبير، وإذا اضيف إلى الامور الظاهرة فهو الشهيد. وفي حديث صلاة الفجر: انها مشهودة محضورة أي تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، هذه صاعدة وهذه نازلة (1)، إشارة إلى تفسير قوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) * (2) فإن المراد من قرآن الفجر صلاة الصبح، كما في الخبر الصادقي (عليه السلام)، وفي المجمع: إن قران الفجر كان مشهودا أي يشهده المسلمون، يسمعون القرآن فيكثر الثواب (3). والشهيد من قتل في معركة القتال بيد الكفار بين يدي المعصوم (عليه السلام) في جهاد سائغ، سمي بذلك لأن الله تعالى وملائكته يشهدون له بالجنة، أو لأن ملائكة الرحمة تشهده بالرحمة، أو تشهد غسله وتجهيزه، أو نقله إلى الجنة، أو لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل، أو لأنه قام بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل، أو لأنه ممن يشهد يوم القيامة مع النبي (صلى الله عليه وآله) على الامم الخالية، على طبق قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (4). أو لشهوده عالم الملكوت، أو لسقوطه على الشاهدة أي على وجه الأرض، أو لأنه حي في الحقيقة وكأنه شاهد حاضر لم يمت، قال تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (5) فعيل بمعنى مفعول أو


(1) راجع لسان العرب 7: 225. (2) الاسراء: 78. (3) مجمع البحرين / شهد. (4) البقرة: 143. (5) آل عمران: 169. (*)

[ 369 ]

فاعل على اختلاف في التأويل. واستشهد الرجل بالبناء للمفعول من قتل شهيدا على نحو ما ذكر، ويجوز على بعض الوجوه المذكورة في الشهيد قراءته على بناء الفاعل أيضا، فيجوز قوله (عليه السلام) في الزيارة: " وجعلنا من التابعين لك، والمستشهدين بين يديك " (1) بفتح الهاء وكسرها كما وقع مختلفا أيضا في النسخ، فيكون على الفتح بمعنى الشهيد بمعنى المفعول، وعلى الكسر بمعنى الشهيد بمعنى الفاعل على بعض تلك المعاني، أو بمعنى طالب الشهادة. وبالجملة فإذا عرفت ما ذكرنا من الوجوه المختلفة في معنى الشهادة، عرفت المراد من قول أشهد أن لا إله إلا الله وشهد الله انه لا إله إلا هو، وانه يجري في نحوه وجوه متعددة من جهة المعاني السابقة، مثل معنى أعلم وأخبر أو أقول وغيرها، والشهادة حينئذ متعدية، أو لازمة بتقدير حرف الباء أو غيرها. وأما كلمة التوحيد ففي تحقيق معناها عرض عريض لا يليق بسطه بالمقام، وحاصل معناه الدال على التوحيد الإجمالي واضح عند الخواص والعوام. ولفظ (وحده) قال: معرف في معنى النكرة أي منفردا عن غيره ومتوحدا، و (لا شريك له) حال بعد حال، وكلاهما حال عن لفظ الجلالة لكونه في موضع المفعول من جهة استلزام (إلا) معنى أستثنى، والحال الأول دال على ثبوت الصفات الكمالية له تعالى لدلالة اللفظ على انفراده وتمايزه عن غيره، أي متوحدا في الصفات الكمالية لا نظير له في شئ من ذلك البتة، والحال الثاني دال على نفي جهات النقيصة وسلبها عنها، وبعبارة اخرى: الفقرة الأولى مشتملة على إثبات الصفات الثبوتية، والثانية على سلب الصفات السلبية. قولها (عليها السلام): " كلمة جعل الإخلاص تأويلها " المراد بالكلمة هنا هو قول أشهد أن لا إله إلا الله، أو هو نفس كلمة التوحيد أعني لا إله إلا الله.


(1) البحار 102: 216 ح 1. (*)

[ 370 ]

والكلمة في اللغة هي اللفظة الواحدة الموضوعة لمعنى سواء كانت إسما أو فعلا أو حرفا، ثم تستعمل في الجملة المركبة من الكلمات المتعددة باعتبار جعلها بهيأتها التركيبية شيئا واحدا كأنها كلمة واحدة، ولهذا يطلق بالكلمة على كل قطعة من الكلام، وعلى كل قضية، وعلى البيت، وعلى تمام القصيدة أيضا. ومنه كلمة الإخلاص لقول (لا إله إلا الله) وكذا كلمة التوحيد له، ثم يتسع فيها وتستعمل في كل معنى وعين من الكائنات - كما يتضح مما سيذكر - تشبيها لتأليف الموجودات على تأليف الكتاب من الحروف والكلمات، بل يقال لا تشبيه وإنما الكتاب في الحقيقة كتابان: تدويني وتكويني، ولكل منهما كلام، وجملات، وحروف، وكلمات، وسور، وآيات، وإعراب، وحركات، وسكنات. ولذا قيل في قوله تعالى: * (وجعلها كلمة باقية في عقبه) * (1) ان المراد بتلك الكلمة الإمامة كما في الرواية (2)، وان المراد ان الله تعالى جعلها في عقب الحسين (عليه السلام) إلى يوم القيامة، وقيل: إن إبراهيم (عليه السلام) جعل كلمة التوحيد التي تكلم بها كلمة باقية في ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه ويدعو إلى توحيده، واطلق على عيسى (عليه السلام) كلمة الله لأنه كلمة من كتاب الله التكويني. وقال الجوهري: سمي بذلك للإنتفاع به في الدين كما انتفع بكلامه تعالى على نحو ما يقال: سيف الله وأسد الله (3)، وقيل: لأنه وجد بأمر الله من دون أب فشابه البدعيات في الوجود بقول كن. وكلمة التقوى قيل: هي الإيمان، وقيل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقيل: بسم الله الرحمن الرحيم، وكلمة ربك العليا هي دعوته إلى الإسلام، أفمن حق عليه كلمة العذاب هي قوله تعالى: * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * (4).


(1) الزخرف: 28. (2) تفسير الصافي 4: 387، وتفسير كنز الدقائق 12: 48. (3) الصحاح 5: 2024 / كلم. (4) هود: 119. (*)

[ 371 ]

وقوله (عليه السلام): إتقوا الله في النساء وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله (1)، قيل: الأمانة هنا قوله تعالى: * (فامساك بمعروف أو تسريح باحسان) * (2) والكلمة إذنه في النكاح أو العقد الذي قرره الله تعالى في الشريعة. وقوله (عليه السلام): " وأسألك بكلمتك التي غلبت كل شئ " (3) قيل: يحتمل أن تكون هي القوة والقدرة، وأن تكون الحجج والبراهين الواضحة، وقوله تعالى: * (ويحق الحق بكلماته) * (4) أي بحججه. وسبحان الله عدد كلماته أي عدد أوصافه إذ هي لا تنحصر في عدد، قيل: ويحتمل أن يريد عدد الأذكار، أو عدد الاجور على ذلك، والكلم الطيب هو قول المؤمن: " لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله وخليفة رسول الله ". وأعوذ بكلمات الله التامات، قيل: هي أسماؤه الحسنى وكتبه المنزلة، وقيل: علمه أو كلامه مطلقا، أو القرآن خاصة، أو الإسم الأعظم فإنه إثنان وسبعون كلمة، وكل منها كلمة تامة، أو المراد بالكلمات التامات محمد وآل محمد الهداة. والكلام في أصل اللغة عبارة عن أصوات متتابعة لمعنى مفهوم، وفي عرف النحاة إسم لما تركب من مسند إليه، وهو إسم جنس يقع على القليل والكثير، وليس هو عبارة عن فعل المتكلم، وربما جعل كذلك مثل عجبت من كلامك زيدا، وقيل: هو حينئذ مصدر كلم يكلم، كسلام مصدر سلم يسلم على وجه. وقد يطلق الكلام على المعاني النفسانية، وهل هو حقيقة فيها أو مجاز ؟ قيل: أصحهما الثاني وهو المشهور، وقيل الأول. قال في المصباح: وقول الرافعي: " وينقسم الكلام إلى مفيد وغير مفيد " لم يرد


(1) نحوه المصباح: 539 / كلمته، لسان العرب 12: 147 / كلم، البحار 21: 405 ح 40. (2) البقرة: 229. (3) البحار 90: 99 ح 12. (4) الشورى: 24. (*)

[ 372 ]

به الكلام الإصطلاحي فإنه لا يطلق إلا على المفيد، وإنما أراد اللفظ، وأما ما في كلمات بعض المصنفين من أنه يطلق على غير المفيد أيضا، ولذا يقال هذا كلام لا يفيد فغير معروف وتأويله ظاهر. ثم قال: والكلام في الحقيقة هو المعنى القائم بالنفس لأنه يقال: في نفسي كلام، وقال تعالى: * (يقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله) * (1)، وقال الآمدي وجماعة: وليس المراد من إطلاق لفظ الكلام إلا المعنى القائم بالنفس، وهو ما يجده الإنسان في نفسه إذا أمر غيره أو نهاه أو أخبره أو استخبره، وهذه المعاني هي التي تدل عليها العبارات وينبه عليها بالإشارات، كقوله: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * جعل اللسان على الفؤاد دليلا ومن جعله حقيقة في اللسان فاطلاق إصطلاحي ولا مشاحة فيه، إنتهى (2). أقول: وللكلام في تحقيق معنى التكلم والكلام بالنسبة إلى الله سبحانه، وان كلامه تعالى حادث أو قديم، عرض عريض لا يليق بالمقام، وقد بسطنا القول فيه في شرحنا على القوانين من أراد الإطلاع عليه فليرجع إليه. و (خلص) الشئ خلوصا - من باب قعد - أي صار خالصا صافيا، كما يقال: خلص الماء من الكدر أي صفا، وبهذه المناسبة يستعمل الخلاص في معنى السلامة والنجاة أيضا. والإخلاص جعل الشئ خالصا عن شوب الغير، وإخلاص الدين في قوله تعالى: * (فادعوا الله مخلصين له الدين) * (3) أن لا يكون فيه شوب النظر إلى الغير برياء أو سمعة أو غيرهما، وذلك إنما يكون بتمحيض العمل للقربة، ولذا استدلوا بالآية على لزوم نية القربة في العبادة. فالمراد بالإخلاص في الخطبة جعل الأعمال كلها خالصة لله تعالى، وعدم


(1) المجادلة: 8. (2) المصباح المنير: 539 / كلمته. (3) غافر: 14. (*)

[ 373 ]

شوب الرياء والأغراض الفاسدة، وعدم التوسل بغيره تعالى في شئ من الأمور، فهذا تأويل كلمة التوحيد، لأن من أيقن بأنه الخالق المدبر، وانه لا شريك له في الالوهية، فحق له أن لا يشرك في العبادة غيره، ولا يتوجه في شئ من الامور إلى سواه، ولا يتعدى مما أمره مولاه ونهاه. وأصل التأويل إرجاع الكلام وصرفه عن وجهه أي عن معناه الظاهري إلى معنى أخفى منه، مأخوذ من آل يؤول إذا رجع، ومنه الموئل بمعنى المرجع، فثم يطلق على نفس ذلك المعنى ويقال له المؤول أيضا بمعنى المؤول إليه، وقد يقال: المؤول عليه، فالكلام مؤول، والمعنى الخفي مؤول إليه، والظاهر مؤول منه. والتنزيل مقابل التأويل، وهو المعنى الظاهري، نزل الكلام عليه وصدر من مصدره إليه، فيقال مثلا: قوله تعالى: * (يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ") * (1) ان تنزيله معناه الظاهري الذي هو الخطاب لموسى بن عمران (عليه السلام) بالإقبال وعدم الخوف من عصاه التي كانت تهتز كأنها جان، وتأويله الخطاب للقلب بأن لا يخاف من قوته الوهمية التي هي عصاه إذا أخذها بالقوة العقلية، وهي الآلة الدافعة لفساد النفس من البدن. وقوله تعالى: * (إذهب إلى فرعون إنه طغى) * (2) ان تنزيله هو معناه الظاهري الذي هو الخطاب لموسى (عليه السلام) بالذهاب إلى فرعون مصر، وتأويله هو الخطاب لموسى العقل أن يذهب إلى فرعون النفس الطاغية في أرض مصر البدن، وهكذا. ومدلول الكلام مطلقا اما نص أو ظاهر أو مجمل أو مؤول، فالنص مالا يحتمل الخلاف، والظاهر ما يحتمله إحتمالا مرجوحا، والمجمل ما تساوى فيه الطرفان، والمؤول المرجوح، والقدر المشترك بين الأولين - وهو مطلق الراجح - هو المحكم، والمشترك بين الأخيرين - وهو غير الراجح - هو المتشابه، قال


(1) القصص: 31. (2) طه: 24. (*)

[ 374 ]

تعالى: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات) * (1) وهذه الأقسام الأربعة للكلام في وزان الأقسام الأربعة للادراك أي العلم والظن والشك والوهم. ولما كان التأويل على معنى المؤول هو باطن الكلام وسر المرام، استعير لفظ التأويل لباطن الشئ وحقيقته، فالمراد من كون الإخلاص تأويل كلمة التوحيد، ان باطنها وحقيقتها الإخلاص بمعنى كون تلك صادرة وناشئة عن ماهية الإخلاص الموجود في الباطن، ومشتملة عليها كأنها حقيقتها. وكلمة منصوبة على الحال من مفعول أشهد، أي اخبر بقول لا إله إلا الله، أو أعلمه، أو أقوله، والحال انها في حال نطقي بها كلمة صادرة عن وجه الإخلاص، ويجوز التمييزية وكونها مفعولا مطلقا. ولفظ جعل مبني على المفعول، والإخلاص نائب فاعله، وجعل الإخلاص تأويلها إنما يكون بأمرين: إستعداد القائل، وإفاضة الله سبحانه له، ولذا أتى بصيغة المجهول إشارة إلى أن الفاعل مجهول الحال، ولو قرئ معلوما فهو وإن صح أيضا إلا انه يوهم الإستقلال، فيتولد منه الجبر. والإتيان بصيغة الماضي للإشارة إلى تحققه، وانه أمر سابق في قدر الله من حيث الإستعداد والقابلية الملازمة لوجود أصل المادة في ابتداء الخلقة، ويجوز قراءته معلوما أيضا وإسناده إلى الله تعالى بواسطة الضمير، إشارة إلى ان الأمر بيد الله، وأن لا مؤثر في الوجود إلا الله، وإن كان للعبد أيضا مدخلية في الجملة ومداخلة في العمل، ولو من جهة الإختيار والقابلية. قولها (عليها السلام): " وضمن القلوب موصولها " ضمن الشئ - بالكسر - طيه، وضمنه ضمانا - بالفتح من باب علم -: كفله كأنه جعله في ضمن نفسه، ويتعدى بالتضعيف فيقال: ضمنته المال أي ألزمته إياه بمعنى جعلته محتويا عليه فتضمنه أي فاشتمل عليه واحتوى، وتضمن الكتاب كذا أي حواه ودل عليه.


(1) آل عمران: 7. (*)

[ 375 ]

والمضمن من البيت مالا يتم معناه إلا بالذي يليه، كأن معناه جعل في ضمن البيت الآخر، فالصفة بحال المتعلق أي مضمن المعنى في غيره، إلا أن يجعل البيت عبارة عن معناه باعتبار الحكاية. والقلوب جمع القلب، وهو على ما ذكره الجوهري وغيره هو الفؤاد، قال: وقد يعبر به عن العقل، قال الفراء في قوله تعالى: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) * (1) أي عقل (2). وفي الخبر: ما قلبك معك أي عقلك، و * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) * (3) قيل: لأن ذلك لا يعقل أن يكون الجملة الواحدة متصفة بكونها مريدة وكارهة لشئ واحد في حالة واحدة، إذا أراد بأحدهما وكره بالآخر. وقيل: القلب أخص من الفؤاد، أي الفؤاد يطلق على العقل وعلى شئ آخر هو القلب، وفي الحديث: قلب الإنسان مضغة من جسده (4)، وفيه أيضا: القلب ما فيه إيمان ولا كفر (5)، وفيه: القلب أمير الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه (6). وفيه: القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك، وإن أدركه على إيمانه نجى، وقلب منكوس وهو قلب المشرك، وقلب مطبوع وهو قلب المنافق، وقلب أزهر أجرد وهو قلب المؤمن فيه كهيئة السراج، إن أعطاه الله شكر وإن ابتلاه صبر (7). وعن بعض أهل التحقيق: إن القلب يطلق على معنيين: أحدهما اللحم


(1) ق: 37. (2) الصحاح 1: 204 / قلب، لسان العرب 11: 271 / قلب. (3) الأحزاب: 4. (4) الصحاح 4: 1326 / مضغ، مجمع البحرين / قلب، البحار 44: 255. (5) مجمع البحرين / قلب. (6) المصدر نفسه. (7) الكافي 2: 422 ح 2، ومعاني الأخبار: 395 ح 51، عنه البحار 70: 51 ح 10، ومجمع البحرين مادة قلب. (*)

[ 376 ]

الصنوبري المتشكل المستودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص وفي باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود، وهو منبع الروح ومعدنه، وهذا المعنى من القلب موجود في البهائم بل في الميت أيضا. الثاني لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب تعلق، وتلك اللطيفة هي المعبر عنها بالقلب تارة، وبالنفس اخرى، وبالروح اخرى، وبالإنسان أيضا، وهو المدرك العالم العارف، وهو المخاطب والمطالب والمعاقب، وله علاقة مع القلب الجسداني، وقد تحير أكثر الخلائق في إدراك وجه علاقته، وان تعلقه يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام، أو الأوصاف بالموصوفات، أو تعلق المستعمل للآلة بالآلة، أو تعلق المتمكن بالمكان وشبه ذلك، إنتهى (1). وقال بعض المحققين: القلب هو شئ غير الفؤاد والعقل والروح والنفس، وانه برزخ بين الروح والنفس، أو النفس والبدن، وان الفؤاد هو الطرف الأعلى من العقل، وقيل غير ذلك، وكل ذلك مستند إلى اختلاف الإصطلاحات وتغائر الإعتبارات، وملاحظة بعض المراتب وعدمها، ويمكن الجمع بين جميع الأقوال باعتبار الحيثيات. ثم قد يطلق القلب بمعنى الخالص، لأن قلب الإنسان خالصه ولبه، فيقال: هذا قلبه أي خالصه وخلاصته، وبه فسر قوله (عليه السلام): (يس قلب القرآن) (2) وقيل في توجيه الخبر غير ذلك أيضا. ثم إن أصل القلب كما قيل من قولهم: قلبت الشئ قلبا - من باب ضرب - حولته عن وجهه، وبالتضعيف للمبالغة في معنى المجرد، مثل قوله تعالى: * (وقلبوا لك الأمور) * (3). ومنه كلام مقلوب أي مصروف عن وجهه، وقلبت الرداء: حولته وجعلت


(1) راجع مجمع البحرين / قلب. (2) البحار 92: 288 ح 1. (3) التوبة: 48. (*)

[ 377 ]

أعلاه أسفله أو قلبته ظهرا لبطن، سمى القلب بذلك لانقلابه في الامور وتقلبه آنا فآنا باختلاف الأحوال وتبدل الكيفيات، كما ورد في الخبر: " إن القلب كريشة في فلاة تقلبها الرياح كيف شاءت " (1). وهو كناية عن عدم استقراره في حال من الحالات، وهو على نحو الإجمال واضح معلوم الحال، وتفصيله موجب للإطناب والإملال، وفي خبر آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله): " القلب بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبه كيف شاء، ثم قال (صلى الله عليه وآله): اللهم مصرف القلوب اصرف قلبي إلى طاعتك " (2). وفي خبر آخر: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) (3) وفي الأدعية أيضا: " يا مقلب القلوب والأبصار، يا مدبر الليل والنهار... الخ ". وفي كون القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن وجوه من البيان، قيل: هو تمثيل عن سرعة تقلبه، وتيسر تصريف القلوب عليه تعالى ظاهر كما يقولون: هذا الشئ في خنصري وبنصري وفي يدي وقبضتي، كل ذلك إذا أرادوا تسهله وتيسره بلا مشقة. وقيل: لا يبعد أن يشتمل على القلب جسمان على شكل الإصبعين يحركه الله بهما، فشبها بالأصابع واضيفا إلى الله تعالى لأنه تعالى جعلهما كذلك، وقيل: المراد بالإصبعين النعمتان، نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، وقيل: المراد هو البطش والقدرة أي ان القلب معقود بمشية الله، وتخصيص الأصابع كناية عن إجراء القدرة والبطش لأنه باليد والأصابع إجرائهما، وقيل: المراد إصبعا غضبه ورحمته أي قهره ولطفه، كما قال المولوي: ديده ودل هست بين الاصبعين * چون قلم در دست كاتب أي حسين اين حروف حالهاست از نسخ اوست * عزم وفسخت هم زعزم وفسخ اوست


(1) البحار 61: 150، وكنز العمال 1: 242 ح 1211. (2) راجع مجمع البحرين / صرف. (3) البحار 52: 148 ح 73. (*)

[ 378 ]

اصبع لطف است وقهر اندر ميان * كلك دل با قبض وبسطى در ميان أي قلم بنگر گرا جلاليستى * كه ميان اصبعين كيستى وقيل غير ذلك. والموصول إسم مفعول من الوصل، يقال: وصلت إليه اصل وصولا أي إتصلت به، ووصلني الخبر أي بلغني، ووصلت المرأة شعرها بشعر غيرها، ووصلت الشئ بغيره وصلا، ومنه وصل الثوب بالخيط، وقد تكرر في الخبر ذكر صلة الرحم في مقابلة قطع الرحم، وكان الواصل لذي القرابة بالإحسان قد وصل ما بينه وبينه بإحكام علاقة القرابة فلم تنقطع. وأصل الرحم ككتف هو ما يشتمل على ماء الرجل من المرأة، ويكون فيه الولد وهو المشيمة، ولما كان أغلب القرابات منتهية إليه أطلق الرحم كثيرا على نفس القرابة، فصلة الرحم بمعنى صلة القرابة تشبيها لها بالعلاقة. فإذا عرفت ذلك فاعلم ان معنى الكلمة متصل بالكلمة لأنه فيها كاللب في القشر، ولذا يفهم المعنى منها ويتبادر من حاقها كأنه مندرج فيها، بل في الحقيقة إتصال بينه وبينها، فيكون موصول الكلمة معناها الذي تعلقت به، وحينئذ يكون المراد من الفقرة ان الله تعالى جعل معنى كلمة التوحيد من جهة الإعتقاد به مندرجة في ضمن القلوب بالكلية إلى جعل جميع القلوب مشتملة على معناها، ومحتوية على مغزاها إشارة إلى قوله تعالى: * (فطرت الله التي فطر الناس عليها) * (1) وهي الفطرة التوحيدية الإسلامية، كما قال (صلى الله عليه وآله): كل مولود يولد على الفطرة - أي على فطرة الإسلام - ثم أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه (2). وهذا هوالأوجه في معنى الفقرة من الأوجه المحتملة التي من جملتها ان معناها أن الله تعالى ألزم وأوجب على القلوب ما تستلزمه هذه الكلمة من عدم تركبه تعالى، وعدم زيادة صفاته الكمالية الموجودة وأشباه ذلك مما يؤول إلى التوحيد.


(1) الروم: 30. (2) البحار 61: 186 ح 52. (*)

[ 379 ]

ومنها أن يكون المعنى أنه جعل ما يصل إليه العقل من تلك الكلمة مدرجا في القلوب، بما أراهم من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، ومنها انه لم يكلف العقول الوصول إلى منتهى دقائق كلمة التوحيد وتأويلها، بل إنما كلف عامة القلوب بالاذعان لظاهر معناها وصريح مفادها، وهو المراد بالموصول. ومنها أن يكون الضمير في موصولها راجعا إلى القلوب، أي لم يلزم القلوب إلا ما يمكنها الوصول إليها من تأويل تلك الكلمة الطيبة، والدقائق المستنبطة منها أو مطلقا، قيل: ولولا التفكيك لكان هذا أحسن الوجوه بعد الوجه الأول بل مطلقا. قولها (عليها السلام): " وأنار في التفكر معقولها " الإنارة الإضاءة، يقال: أنار ينير إنارة أي أضاء فهو منير من النور، وهو الظاهر في نفسه المظهر لغيره بمعنى الضياء على ما ذكره الجوهري (1)، فيكون بينهما حينئذ تساو من حيث المعنى، وأضاء يتعدى ولا يتعدى فيكون أنار أيضا كذلك، وكذلك أشرق. وقيل: النور هو ما كان بالعرض والتبعية، والضياء ما كان بالذات والاصالة، فيكون حينئذ بينهما المباينة، ويشير إليه قوله تعالى: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) * (2) لاكتساب ضوئه كسائر الكواكب من نور الشمس، ويحتمل أن يكون الضياء هو الفرد القوي من النور، فيكون بينهما عموم مطلق ولعله الأظهر، والظاهر انهما إذا اجتمعا إفترقا وإذا افترقا إجتمعا. والنار أيضا مشتقة من تلك المادة بمناسبة الإنارة، وأصل النار أيضا واوي بدليل تصغيرها على نويرة، وجمع النور أنوار، وجمع النار نيران أصله نوران، والمنارة - بفتح الميم - التي يؤذن عليها، والتي يوضع عليها السراج والمشعل ونحوهما لإضاءة الأطراف، والمناسبة واضحة. ثم يطلق النور لكل ما كان سببا للهداية مثل التوفيق، كقوله تعالى: * (ومن لم


(1) الصحاح 2: 838 / النور. (2) يونس: 5. (*)

[ 380 ]

يجعل الله له نورا فما له من نور) * (1) أي من لم يجعل الله له نورا من توفيقه وهو في ظلمة الجهالة، ومثل إمام الحق في قوله تعالى: * (ويجعل لكم نورا تمشون به) * (2) أي إماما تأتمون به، وقوله: * (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) * (3) قال (عليه السلام): النور والله الأئمة، هم الذين ينورون قلوب المؤمنين (4). ومثل القرآن في قوله تعالى: * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * (5) أي القرآن، والعلم في قوله (عليه السلام): ليس العلم بكثرة التعلم والتعليم بل هو نور يقذفه الله في قلب من يشآء (6)، إلى غير ذلك وقد مر تفصيل متعلق بلفظ النور في تفسير آية النور. والتفكر من الفكر - بالكسر - وهي في اللغة التأمل، إسم مصدر للفكر - بالفتح -، وأفكر في الشئ وفكر وتفكر بمعنى، على ما ذكره الجوهري (7). وهو في العرف حركة النفس بالقوة التي آلتها مقدم الدورة الواقعة في البطن الأوسط من الدماغ مطلقا، أي سواء كان من المطلوب إلى المبادي أو بالعكس، وهو المراد من قولهم: الفكر هو انتقال النفس في المعاني إنتقالا بالقصد، وهذه الحركة تسمى في المعقولات فكرا وفي المحسوسات تخيلا، فهي قوة واحدة تسمى مفكرة ومتفكرة باعتبار، ومخيلة ومتخيلة باعتبار، والتضعيف للمبالغة لا للتعدي. وذكر المحققون من أهل المعقول: ان الحواس والمشاعر الإنسانية عشرة،


(1) النور: 40. (2) الحديد: 28. (3) التغابن: 8. (4) الكافي 1: 194 ح 1، وتفسير القمي 2: 371، عنه البحار 23: 308 ح 5، وتفسير الصافي 5: 183. (5) النساء: 174. (6) البحار 1: 225 ح 17. (7) الصحاح 2: 783 / فكر. (*)

[ 381 ]

خمسة منها الحواس الظاهرية وهي: السامعة، والباصرة، والشامة، والذائقة، واللامسة، وخمسة منها الحواس الباطنية وهي: الحافظة، والواهمة، والمفكرة، والمخيلة، والحس المشترك. وفي دماغ الإنسان بطون ثلاثة، لكل منها مقدم ومؤخر، ففي مقدم البطن المقدم من سمت الجبهة الحس المشترك، وهي القوة التي يتأدى إليها صور المحسوسات من طرق الحواس الظاهرة فتدركها، وهي الحاكمة بين المحسوسات الظاهرة كما يحكم بان هذا الأصفر، هذا الحلو، والمراد بالصورة هنا ما يمكن إدراكه باحدى الحواس الظاهرة. وفي مؤخر المقدم المخيلة ويقال لها الخيال أيضا - بالفتح - وهي قوة تجتمع فيها صور المحسوسات وتبقى فيها بعد غيبتها عن الحس المشترك، وفي مؤخر الأوسط القوة الوهمية ويقال لها الواهمة أيضا، وهي القوة المدركة للمعاني الجزئية الموجودة في المحسوسات من غير أن يتأدى إليها من طرق الحواس كادراك العداوة والصداقة من زيد، وكادراك الشاة معنى من الذئب. وفي مقدم الأوسط بين الواهمة والمخيلة العقل، وهي القوة العاقلة المدركة للكليات، ولها قوة التركيب والتفصيل بين الصور المأخوذة من الحس المشترك، والمعاني المدركة بالوهم بعضها مع بعض، وهي دائما لا تسكن نوما ولا يقظة، وليس من شأنها أن يكون عملها منظما منتظما، بل النفس تستعملها على أي نظام تريد، فإن استعملها بواسطة القوة الوهمية فهي المتخيلة، وإن استعملها بواسطة القوة العاقلة وحدها أو مع القوة الوهمية فهي المفكرة، فللمتخيلة إعتباران كما ظهر مما مر. وفي مقدم المؤخر الحافظة، وهي قوة تحفظ بها المركبات التي ركبها المفكرة من الصور الخيالية، والمعاني الجزئية الوهمية وسلمتها إليها، فهي خزينة المركبات وخازنة القوة العقلية، والأنسب أن يترتب الحواس الباطنية من الطرف الأسفل إلى الأعلى أي من مقدم الرأس إلى مؤخره بترتيب آخر، وهو اعتبار الحس المشترك


[ 382 ]

أولا، ثم الخيال، ثم الواهمة، ثم الحافظة، ثم العاقلة، وإن صح الترتيب الأول أيضا بوجه آخر. وفي بعض النسخ الفكر - بالكسر -، وفي بعضها الفكر - كعنب - جمع الفكرة بمعنى الفكر كسدرة وسدر. والمعقول مصدر من قولك عقلت الشئ - من باب ضرب - عقلا ومعقولا أي منعته وحجزته ونهيته عن الضياع، فيرجع في بعض المقامات إلى معنى الحفظ، ومنه العقال لما يعقل به البعير لمنعه إياه عن السير والحركة، قال (صلى الله عليه وآله): اعقل بعيرك وتوكل على الله (1)، قال المولوي: گفت پيغمبر با واز بلند * با توكل زانوى اشتر ببند ومنه أيضا العقل للإنسان لمنعه له عن الإرتكاب بالمهالك والإقتحام في المسالك، والمعقول كما جاء مصدرا جاء بمعنى المفعول أيضا أي المدرك بالعقل، وقد يقال لمطلق المدرك بالحواس الباطنية، من عقله إذا أدركه وحفظه وتصوره، وعقلت عن فلان غرمت عنه جنايته، وعقلت له دم فلان إذا تركت القود للدية، فليفرق في الإستعمالات بين عقلته، وعقلت عنه، وعقلت له. وفي الخبر: " لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا " (2)، قال أبو حنيفة: هو أن يجني العبد على حر، وقال ابن أبي ليلى: هو أن يجني الحر على عبد، وصوبه الأصمعي وقال: لو كان المعنى على ما قال أبو حنيفة لكان الكلام لا تعقل العاقلة عن عبد ولا يعقل عبدا، وقال: كلمت أبا يوسف القاضي في ذلك بحضرة الرشيد، فلم يفرق بين عقلته وعقلت عنه حتى فهمته (3). قال في النهاية في معنى الحديث: أي إن كل جناية عمد فهي من مال الجاني


(1) أمالي المفيد: 110 مجلس 22، وأمالي الطوسي: 193 ح 326، عنهما البحار 71: 137 ح 20، وفيه: اعقل راحلتك. (2) انظر لسان العرب 9: 328 / عقل، والنهاية 3: 279 / عقل. (3) راجع لسان العرب 9: 328 / عقل. (*)

[ 383 ]

خاصة، ولا يلزم العاقلة منها شئ، وكذا ما اصطلحوا عليه من الجنايات في الخطأ، وكذا إذا اعترف الجاني بالجناية من غير بينة تقوم عليه، وإن ادعى انه خطأ لا يقبل منه ولا تلزم بها العاقلة، وأما العبد فهي أن يجني على حر فليس على عاقلة مولاه شئ من جناية عبده، وإنما جنايته في رقبته، وهو مذهب أبي حنيفة. وقيل: هو أن يجني حر على عبد، فليس على عاقلة الجاني شئ إنما جنايته في ماله خاصة، وهو قول ابن أبي ليلى، وهو موافق لكلام العرب، إذ لو كان المعنى على الأول لكان الكلام: (لا تعقل العاقلة على عبد) ولم يكن (لا تعقل عبدا) واختاره الأصمعي وأبو عبيد (1). ثم إن العقل في الإنسان هو أحد الجواهر الخمسة، وعرف بانه جوهر مجرد نوراني يتعلق بالبدن تعلق تدبير وتصرف. وقالوا: إن الممكن إما أن يكون موجودا في الموضوع أي المحل المتقوم بنفسه وهو العرض، أولا سواء لم يحل أصلا أو يحل لكن لا في الموضوع وهو الجوهر، وهو إما مفارق عن المادة أي المحل المتقوم بالحال في ذاته وفعله وهو العقل، أو مفارق في ذاته دون فعله وهو النفس، أو مقارن، فإما أن يكون محلا لجوهر آخر وهو المادة، أو حالا في جوهر وهو الصورة، أو ما يتركب منهما وهو الجسم. وعن علي (عليه السلام): العقل ما عبد به الرحمن، واكتسب به الجنان، قيل: فعقل معاوية ؟ قال (عليه السلام): إنما هي نكراء وشيطنة وليس بعقل (2). وللعقل معان مستنبطة من الأخبار متجاوزة على عشرين وجها ليس هنا مقام بسطها، وقال بعض أهل المعرفة: إن القوى العقلية أربعة، منها القوة التي يفارق بها الإنسان البهائم، وهي القوة الغريزية التي يستعد بها الإنسان لادراك


(1) النهاية 3: 279 / عقل. (2) المحاسن 1: 310 ح 613، والكافي 1: 11 ح 3، ومعاني الأخبار: 239، عنه البحار 1: 116 ح 8. (*)

[ 384 ]

العلوم النظرية، فكما ان الحيوان تهيئ الجسم للحركات الاختيارية، والادراكات الحسية، فكذلك القوة الغريزية تهيئ الإنسان للعلوم النظرية، والصناعات الفكرية. ومنها قوة عواقب الأمور، فتقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة، وتتحمل المكروه العاجل لسلامة الآجل، فإذا حصلت هذه القوة يسمى صاحبها عاقلا، من حيث ان اقدامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة، والقوة الأولى بالطبع والأخيرة بالإكتساب. وإلى ذلك أشار علي (عليه السلام) بقوله: رأيت العقل عقلين * فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع * إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس * وضوء العين ممنوع (1) قيل: والمطبوع هو المراد بقوله تعالى خطابا له: " ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك " (2) والمسموع هو المراد بقوله (عليه السلام): " ما كسب الإنسان شيئا أفضل من العقل " (3). ومنها قوتان اخريان، إحداهما ما يحصل بها العلم بان الاثنين أكثر من الواحد، والشخص الواحد لا يكون في مكانين، فيقال له التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس الفطرية، والاخرى التي يحصل بها العلوم المستفادة من التجارب بمجاري الأحوال، فمن اتصف بها يقال انه عاقل في العادة، والأولى منها حاصلة بالطبع، والاخرى بالإكتساب كالأوليين، إنتهى. وهذه عقول أربعة مشهورة، وترتيبها على ما ذكره بعضهم: العقل الهيولاني كما في الطفل، ويقال العقل بالقوة، والعقل المنفعل وهو الأول من الاوليين، ثم


(1) ديوان الامام علي (عليه السلام): 92 رقم 189. (2) المحاسن 1: 306 ح 602، عنه البحار 1: 96 ح 3، وفي الكافي 1: 10 ح 1. (3) المحاسن 1: 308 ح 609، عنه البحار 1: 91 ح 12، وفيه: ما قسم الله للعباد شيئا. (*)

[ 385 ]

العقل بالملكة وهو الأول من الاخريين، ثم العقل المستفاد وهو الثاني من الاخريين، ثم العقل الفعال وهو الثاني من الاوليين، وزاد بعضهم العقل بالفعل قبل العقل الفعال، فجعلها خمسة، وزاد بعضهم بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) عقلا سادسا وهو العقل الكلي. وأول دخول العقل في الإنسان عند ابتداء إنشاء روحه وهو جنين، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل البلوغ، وقيل: إبتداء دخوله عند البلوغ وتكميله عند أربعين، والظاهر أن كلاهما صحيح، والأولى من القوة والثاني من إبتداء الفعل بالمعنى الأعم إلى زمان الكمال. وبالجملة فاطلاق العقل بالنسبة إلى كل أحد ينصرف إلى النوع الكامل من عقوله، وفي الحديث: " إذا تم العقل نقص الكلام " (1)، قيل: وذلك لضبط العقل إياه. وفيه: " نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل " (2) فانه لا فائدة فيه. وفيه: " ليس بين الإيمان والكفر إلا قلة العقل " (3). وفيه: " العقل غطاء ستير " (4) أي ساتر للعيوب. وفي حديث علي (عليه السلام): " العقل شرع من داخل، والشرع عقل من خارج " (5) إلى غير ذلك مما ورد في فضله. ثم إن معقول كلمة التوحيد هو المعنى الذي يتعقل منها، ولمعناها نور واضح، وبرهان لائح في الأذهان عند التفكر فيه، إذ لكل حق حقيقة، ولكل صواب نور، فالمعنى ان الله تعالى قد جعل لمعنى هذه الكلمة في عالم التفكر المتعلق به نورا به يتنور القلب، ويتضح سبيل الحق لما هو ظاهر من مطابقة معناها للواقع مع جبلة


(1) نهج البلاغة، قصار الحكم: 71، عنه البحار 71: 290 ح 62، غرر الحكم: 52 ح 407. (2) تحف العقول: 296، عنه البحار 1: 154 ح 30. (3) مجمع البحرين / عقل. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر نفسه. (*)

[ 386 ]

القلوب على التوحيد من حيث فطرتها. أو يقال: إن الله تعالى أوضح في الأذهان ما يتعقل من تلك الكلمة بالتفكر في الدلائل والبراهين الساطعة، ويجوز أن يجعل المعقول مصدرا أي ان تعقلها منير للقلوب، ويحتمل إرجاع الضمير إلى القلوب أيضا مرادا بمعقولها ما يتعقله القلوب من تلك الكلمة. وفي ذكر التفكر مع المعقول إشارة لطيفة إلى كون القوة العاقلة هي المفكرة، وإشارة أيضا إلى كلية المدركات هنا لما اشير إليه من ان المدرك بالعقل هو الكليات، ولكن تفصيل المسألة يحتاج إلى بسط من الكلام لا يليق به المقام. قولها (عليها السلام): " الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته ". الممتنع من الإمتناع مشتقا من المنع بمعنى الإباء، وهو المراد من تفسيره بخلاف الإعطاء كما فعله بعض أهل اللغة، ومنعته من كذا فامتنع أي قبل المنع، ويقال: إمتنع عن الشئ أي كف عنه، وهو أيضا مستند إلى مانع من كراهة القلب أو غير ذلك، وهو المانع الباطني إذ المانع أعم منه ومن الظاهري. والممتنع في الإصطلاح كل ما كان عدمه ضروريا ووجوده ليس بضروري، وهو مقابل للواجب الذي وجوده ضروري دون عدمه، وللممكن الخاص الذي ليس شئ من عدمه ووجوده بضروري. وكل من هذه الثلاثة من أفراد الممكن العام الذي يسلب فيه الضرورة عن الطرف المخالف للحكم، مثلا إذا قيل: زيد موجود بالإمكان العام أي عدمه ليس بضروري، فإن كان وجوده ضروريا فواجب أولا فممكن بالإمكان الخاص، وإذا قيل: زيد ليس بموجود بالإمكان العام معناه انه ليس وجوده بضروري، فإن كان عدمه ضروريا فممتنع وإلا فممكن خاص أيضا، فيتولد من مثال الإيجاب الواجب والممكن الخاص، ومن السلب الممتنع والممكن الخاص. ثم الممتنع على أقسام ثلاثة، لأنه إما ممتنع بالذات، كشريك الباري،


[ 387 ]

واجتماع المتناقضين أو المتضادين في محل واحد وآن واحد ونحو ذلك، أو بالغير وهذا إما ليس بالإختيار كطيران الإنسان في الهواء، فإن امتناعه لم يحصل باختياره في ظاهر الإعتبار، أو هو من جهة سوء الإختيار كمن دخل باختياره في المكان المغصوب، فهو مكلف بالخروج وعدم الخروج، لأن كلا منهما منهي عنه من جهة التصرف في المغصوب، وهذا ممتنع لكنه حصل بسوء اختيار الشخص. والمذكور في الخطبة هو الممتنع الذاتي، إذ امتناع رؤيته تعالى بالأبصار ليس بعرضي من جهة المانع الخارجي، بل هو ذاتي أصلي. والأبصار جمع بصر كسبب وأسباب، قيل: وهو النور الذي تدرك به العين المبصرات، وقد يطلق البصر على نفس العين المبصرة، كما في قوله تعالى: * (ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) * (1) على ما قيل، ويمكن إرادة المعنى الأول أيضا، واختلف في إدراك البصر انه بخروج الشعاع أو بالإنطباع، والحق عندي اعتبار كليهما أي خروج الشعاع أولا والانطباع بوساطته ثانيا. ويقال: أبصرته برؤية العين إبصارا، يتعدى بنفسه ولا يتعدى، فيقال: أبصر إليه أي نظر، ويقال: بصرته به - بالتضعيف - بمعنى جعلته بصيرا به. قال علي (عليه السلام) في نهج البلاغة في وصف الدنيا: " فمن أبصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته " (2). وبصرت بالشئ - بالضم، والكسر لغة - بصرا - بفتحتين -: علمت به فأنا بصير به، يتعدى بالباء في اللغة الفصيحة وقد يتعدى بنفسه، وهو ذو بصر وبصيرة أي علم وخبرة، كذا ذكره في المصباح (3) وهذا صحيح، وبه فسر قوله تعالى: * (بصرت بما لم يبصروا به) * (4) أي علمت على وجه.


(1) الملك: 4. (2) نهج البلاغة، الخطبة: 82، عنه البحار 73: 133 ح 136. (3) المصباح المنير: 50 / البصرة. (4) طه: 96. (*)

[ 388 ]

ولكن استعمل البصر بمعنى الإبصار أيضا، فيكون بصر به بمعنى أبصره أيضا، ومنه قوله تعالى: * (فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون) * (1) أي نظرت إليه ورأته على وجه، وكذا الآية السابقة على وجه، فالقياس يقتضي مجئ كل من البصر والبصيرة بمعنى الإبصار العيني والعلم القلبي، إلا انه اغلب إستعمال البصر في رؤية العين والبصيرة في رؤية القلب، أو الأول في نور العين والثاني في نور القلب. وقد يجئ كل بمعنى كل، مثل: * (أولى الأيدي والأبصار) * (2) أي أيد من الإحسان وبصائر في الدين، و * (لا تدركه الأبصار) * (3) أي الأوهام، و * (قد جاءكم بصائر من ربكم) * (4) أي الحجج والبينات، فيكونان من باب إذا اجتمعا إفترقا وإذا افترقا إجتمعا. ويجمع البصر على الأبصار كما في قوله تعالى: * (فاعتبروا يا اولي الأبصار) * (5)، والبصيرة على البصائر كقوله تعالى: * (قد جاءكم بصائر من ربكم) * (6) أي سبب البصائر وهي البينات والدلائل، وأما قوله تعالى: * (بل الإنسان على نفسه بصيرة) * (7) فإنه بمعنى بصير على معنى الفاعل، فالتاء للمبالغة أو صفة باعتبار نفس الإنسان، أو ان البصيرة إسم أو مصدر حمل على الإنسان من باب المبالغة، أو بإضمار مضاف أي هو ذو بصيرة. ويطلق البصير على من أدرك بالعين وبالقلب، وبمعنى مطلق المدرك، ومنه البصير في أسماء الله بمعنى العالم كالسميع أيضا، إلا ان ظاهر معناه هو الذي يشاهد الأشياء كلها ظاهرها وباطنها لكن من غير جارحة، فالبصر في حقه تعالى


(1) القصص: 11. (2) ص: 45. (3) الأنعام: 103. (4) الأنعام: 104. (5) الحشر: 2. (6) الأنعام: 104. (7) القيامة: 14. (*)

[ 389 ]

عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات. وفي الحديث: " سميناه بصيرا لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك " (1)، ويمكن أن يقرأ الابصار في الخطبة بالكسر مصدر أبصر - كالفتح - جمع بصر. والرؤية: النظر، وهي رؤية بالعين ويتعدى إلى مفعول واحد، ورؤية بالقلب بمعنى العلم ويتعدى إلى مفعولين، والمراد هنا الأول بقرينة الأبصار. والمراد من الفقرة ان الله تعالى لا يدرك بالحواس الظاهرة مطلقا، وذكر رؤية الأبصار لأن المتعلق بادراك الشخص في مقام معرفته أولا بالوجه المناسب هو الرؤية بالعين، مع ان هذا رد لمن ادعى الرؤية في الله سبحانه، مضافا إلى ان الشئ الموجود الخارجي لا يدرك منه بالحواس الظاهرة إلا أعراضه الطارئة، كالصوت بالسمع، واللون بالبصر، والرائحة بالشم، والطعم بالذوق، واللين باللمس، والأظهر منها في النظر هو الادراك بالبصر. والمراد من إدراك الشئ الخارجي بالحواس، إدراك وجوده في الخارج بواسطة إدراك تلك الامور العارضة، وكل ما يدرك بالبصر لا يلزم أن يكون مدركا بغيره بخلاف العكس، لأن كلما يدرك بغير البصر يدرك بالبصر البتة، فمدرك البصر أعم، كذا قيل وفيه نظر. والأكمل الأشيع الأوضح من إدراك الحواس هو الإدراك البصري، ولذا خص بالذكر كما قال تعالى: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * (2)، وفسر الأبصار في الآية بالأوهام أيضا كما قد يعبر عنها بالأنظار. وهذا إشارة إلى قول علي (عليه السلام) في حديث ذعلب اليماني: ويلك لا


(1) التوحيد: 194 ح 7، والإحتجاج 2: 468 ح 321، عنهما البحار 4: 154 ح 1، وفي الكافي 1: 116 ح 7. (2) الأنعام: 103. (*)

[ 390 ]

تدركه الأبصار بمشاهدة العيان، وإنما يدركه القلوب بحقائق الإيمان (1). وفي حديث هشام بن الحكم في إثبات الصانع: إن الأشياء لا تدرك إلا بأمرين، الحواس والقلب، والحواس إدراكها على ثلاثة معان: إدراك بالمداخلة، وإدراك بالمماسة، وإدراك بلا مداخلة ولا مماسة، فاما الإدراك الذي بالمداخلة فالأصوات والمشام والطعوم، واما الإدراك بالمماسة فمعرفة الاشكال من التربيع والتثليث، ومعرفة اللين والخشن، والحر والبرد. واما الإدراك بلا مماسة ولا مداخلة فالبصر، فإنه يدرك الأشياء بلا مماسة ولا مداخلة في حيز غيره ولا في حيزه، ولإدراك البصر سبيل وسبب، فسبيله الهواء وسببه الضياء، فإذا كان السبيل متصلا بينه وبين المرئي والسبب قائما، أدرك ما يلاقي من الامور والأشخاص، فإذا حمل البصر على مالا سبيل له في إنفاذه لم يدركه. وأما القلب فإنما سلطانه على الهواء، فهو يدرك جميع ما في الهواء، فلا ينبغي للعاقل أن يحمل قلبه على ما ليس موجودا في الهواء من أمر التوحيد، فإنه إن فعل ذلك لم يتوهم إلا ما في الهواء موجود، كما قلناه في البصر، تعالى الله عن ذلك كله. واللسان العضو المخصوص، قال في المصباح: هو يذكر ويؤنث، فمن ذكر جمعه على ألسنة، ومن أنث جمعه على ألسن، قاعدة كلية حيث قالوا: فعيل أو فعال - بالتثليث - إذا كان مؤنثا، جمع على أفعل نحو يمين وأيمن، ولسان وألسن، وإن كان مذكرا جمع على أفعلة كرغيف وأرغفة، ولسان وألسنة (2). قال أبو حاتم: والتذكير في اللسان أكثر، وهو في القرآن كله مذكر، وأما اللسان بمعنى اللغة كاللسن - بكسر اللام - فهو مؤنث، وقد يعتبر معنى اللفظ فيذكر


(1) التوحيد: 305 ح 1، أمالي الصدوق: 281 ح 1، مجلس 55، والإختصاص: 235، البحار 4: 27 ح 2، وفي إرشاد القلوب: 374. (2) المصباح المنير: 553 / اللسان. (*)

[ 391 ]

فيقال: لسانه فصيح كما يقال فصيحة، قال تعالى: * (بلسان عربي مبين) * (1)، وفي الخبر قال: " يبين الألسن ولا تبينه الألسن " (2). ولسن لسنا - كتعب تعبا -: فصح فهو لسن كخشن، وأفعل التفضيل منه ألسن، ويحتمل أن يقرأ كذلك في الخطبة. والصفة إسم أو مصدر كالوصف من قولهم: وصفه وصفا وصفة - من باب وعد - نعته بما فيه، والتاء في الصفة بدل من الواو كما في عدة، ويقال: الصفة إنما هي بالحال المنتقلة، والنعت بما كان في خلق أو خلق. وفي نهج البلاغة: " ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود " أي لعظمته أو لفيوضاته، أو لآثار صفاته التي هي عين ذاته، أو لصفة أفعاله، أو لحقيقته وذاته، وفيه: " وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه " أي المعاني الزائدة كما يقوله الأشاعرة " لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف انه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه " (3) أي أثبت له قرينا واجب الوجود. وفي الحديث: " فمن وصف الله سبحانه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزله " (4). قال بعض الشارحين: المراد من الوصف هنا أيضا القول بان له صفة زائدة ومعنى زائد، ومن قال بان لله صفة زائدة فقد ميزه بصفة، ومن ميزه فقد قال بالتعدد، ومن قال بالتعدد فقد أبطل أزله. ومن كلام علي (عليه السلام) في إثبات الصانع: " ليست له صفة تنال، ولا حد يضرب له الأمثال " (5) فنفى (عليه السلام) بهذه العبارة أقاويل المشبهة حيث


(1) الشعراء: 195. (2) مجمع البحرين / لسن. (3) نهج البلاغة، الخطبة: 1، والإحتجاج 1: 473 ح 113، عنهما البحار 4: 247 ح 5. (4) التوحيد: 57 ح 14، عنه البحار 4: 284 ح 17. (5) التوحيد: 41 ح 3، عنه البحار 4: 269 ح 15. (*)

[ 392 ]

شبهوه بالبلور والسبيكة وغير ذلك مما يكتنفه العرض، والعمق، والطول، والإستواء، وسائر أنحاء العوارض الطارئة الخارجية والذهنية. ومن أوصافه تعالى انه ليس مختلف الذات بأن يكون مركبا من الأجزاء، ولا مختلف الصفات بأن يكون له صفات زائدة على ذاته، أو مما ثبت له صفات الذات وصفات الفعل، والفرق بينهما ان كل صفة من صفاته تعالى توجد في حقه دون نقيضها كالعلم والقدرة ونحوهما، فهي من صفات الذات، وكل صفة توجد فيه تعالى مع نقيضها فهي من صفات الفعل كالإرادة والمشية. وفرق آخر هو ان كل صفة من صفاته تعالى تتعلق بها قدرته وإرادته فهي من صفات الفعل، وكل صفة ليست كذلك فهي من صفات الذات، فالصفة الزائدة للذات منفية مطلقا، كما اشير إليه في الروايات، ولم يبق حينئذ إلا صفة الذات مع كونها عينه لا زائدة عليه، وصفة الفعل مع كونها غيره، وهما حاصلتان لله سبحانه إلا ان صفة الذات لا تنالها الألسن، لأنها هي الذات البحت البات الذي لا إسم له ولا رسم له. واما صفة الفعل فلا تدرك ولا توصف أيضا إلا بالرسم والأثر لا بالحقيقة، مع ان الألسن لا تنال الرسم بتمامه، وإنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها. والأوهام جمع الوهم، وهو القوة الوهمية التي مرت إليها الإشارة، وهي تدرك المعاني الجزئية وبمعنى العقل أيضا، إذ عمل كل قوة انما يكون لتأييده وتشديده، والعقل يدرك المعاني الكلية، والله سبحانه ليس من جنس المعاني لا كلية ولا جزئية، قال (عليه السلام): كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مثلكم، مردود إليكم (1). ولما كان الوهم بمعنى القوة الوهمية، يحصل منه الغلط كثيرا لابتنائه على


(1) البحار 69: 293. (*)

[ 393 ]

الامور الاعتبارية غالبا، اطلق الوهم - بالتحريك - على معنى الغلط والسهو أيضا، يقال: وهم في الحساب يوهم وهما مثل غلط غلطا - لفظا ومعنى - أي سهى، ووهم إلى الشئ يهم - من باب وعد - سبق إليه مع إرادة غيره، ووهمت وهما وقع في خلدي، ويتعدى بالهمزة والتضعيف، وقد يستعمل في المهموز لازما، وأوهم في الحساب مائة أي أسقط، ومنه أوهمت في الكلام أو الكتاب إذا أسقطت منه شيئا. والكيفية حال الشئ وصفته من الكيف الذي يستفهم بها عن حال الشئ وصفته، وتستعمل مصدرا أيضا وهو الأصل لمكان الياء والتاء، ويطلق الكيفية في الإصطلاح على الهيئة القارة التي لا تقتضي قسمة ولا نسبة لذاته، قيل: والهيئة والعرض متقاربا المفهوم، إلا ان العرض يقال باعتبار عروضه، والهيئة باعتبار حصوله. ثم الكيفية إن اختصت بذوات الأنفس فتسمى كيفية نفسانية، وحينئذ إن كانت راسخة في موضوعها تسمى ملكة وإلا فتسمى حالا، فالملكة كيفية راسخة في النفس، والحال كيفية غير راسخة. وبالجملة فالكيفية عرض غير قابل للقسمة، بخلاف الكم فإنه عرض يقبل القسمة لذاته كالعدد والزمان ويقال له الكمية أيضا، وأصلها كم الذي يستفهم به عن المقدار، وكل من الكم والكيف من الأعراض التسعة المشهورة التي تطلق عليها - مع إضافة الجوهر - المقولات العشر، وهي: الجوهر، والكم، والكيف، ومتى، وأين، والملك، والوضع، والفعل، والإنفعال، والإضافة، وكلها مجتمعة في قوله: زيد طويل أسود بن مالك * في داره بالأمس كان متكي في يده سيف لواه فالتوى * فهذه عشر مقولات سوى ويقال للهيئة المجتمعة من الأعراض التسعة: الشكل، والصورة، ومدلول الفقرة انه يمتنع على الأوهام كيفيته تعالى، أي ان القوى الوهمية والعقلية كلها عاجزة عن إدراك كيفيته تعالى، وهذا يوهم ان لله تعالى كيفية ولكن لا تدركها


[ 394 ]

العقول والأوهام، وليس ذلك بمراد البتة إذ ليس لله كيفية وإلا لكان محل العوارض الحادثة الكونية، فيلزم فيه التركيب والحدوث، بل المراد نفي أصل الكيفية من باب السالبة بانتفاء الموضوع، أي لا كيفية له تعالى حتى تدرك. ويمكن أن يكون إطلاق الكيفية على سبيل الفرض، أي لو فرض له تعالى كيفية أيضا كانت بحيث لا تدركها العقول، وكيف وليست له كيفية وهو تعالى كيف الكيف، كما انه لا أين له تعالى وهو أين الأين، أو يفرض ان لله تعالى أيضا في نفسه كيفية لكن لا كالكيفيات، والمنفي انما هي الكيفية الخلقية لا الخالقية، كما يقال: إنه تعالى شئ لا كالأشياء، وجوهر لا كالجواهر. أو المراد هو الكيفية الموجودة للعناوين العالية، والمبادي البادية التي هي الهادية إليه والدالة عليه، كما ورد: إن الله تعالى لا يأسف كأسفنا، وإنما خلق قلوبا اختارها لنفسه، وجعل أسفها أسفه، في قوله: * (فلما أسفونا انتقمنا منهم) * (1) (2)، فيقال: إنه تعالى خلق لنفسه عناوين هي مظاهره، فجعل صفتها صفته، وكيفيتها كيفيته، فتأمل. قولها (عليها السلام): " ابتدع الأشياء لا من شئ كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها ". إبتدع الأشياء أي أحدثها، قال تعالى: * (ورهبانية ابتدعوها) * (3) أي أحدثوها من عند أنفسهم، فيكون ابتدعها بمعنى أبدعها، فيكون إبتدع مبالغة أبدع، وقد مر معنى الإبداع والفرق بينه وبين الإختراع، والإبتداء، والإبداء، والإنشاء، فراجع. والأشياء جمع الشئ، والشئ ما صح أن يعلم ويخبر عنه، قال المفسرون: وهو أعم عام يجري على الجسم والعرض والقديم والحادث، تقول: شئ لا كالأشياء أي معلوم لا كسائر المعلومات، وعلى المعدوم والمحال.


(1) الزخرف: 55. (2) نحوه التوحيد: 168 ح 2، والكافي 1: 144 ح 6، والبحار 4: 65 ح 6، وتفسير الصافي: 4: 396. (3) الحديد: 27. (*)

[ 395 ]

قالوا: إن قلت: كيف قيل انه تعالى على كل شئ قدير، وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل وفعل قادر آخر ؟ قلنا: مشروط في حد القادر أن لا يكون الفعل مستحيلا، فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلها، فكأنه قال: إنه على كل شئ مستقيم مستقدر قدير. وقال في مجمع البيان: الشئ ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، قال سيبويه: وهو أول الأسماء وأعمها وأبهمها، يقع على الموجود والمعدوم، وقيل: إنه لا يقع إلا على الموجود، والصحيح الأول وهو مذهب المحققين من المتكلمين، ويؤيده قوله تعالى: * (إن الله على كل شئ قدير) * (1)، والشئ المحدث بعد الوجود خارج عن المقدورية، فالقدرة عليه في حال عدمه، وعلى هذه المسألة يدور أكثر مسائل التوحيد، إنتهى (2). وقوله تعالى: * (أولا يذكر الإنسان انا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) * (3) قال الصادق (عليه السلام): أي لا مقدرا ولا مكونا (4)، فإن المقدور هو الممكن وهو أعم من المكون، وقيل: معناه لا مقدرا في اللوح المحفوظ ولا مكونا مخلوقا في الأرض. ومادة الشئ من المشية ولعله مخفف الشي، كما يقال: ميت وبين في ميت وبين، وهين ولين في هين ولين، وهو فعيل بمعنى المفعول أي المشاء. وقولنا: الأشياء جمع شئ ينحل إلى وجهين، أحدهما انه أفعال كما قال الكسائي، كما يقال: قول وأقوال، وهذا مبني على ان الأشياء، شئ مستقل بنفسه، والثاني انه أفعاء كما قال الفراء وأصله أفعلاء، كما يقال: صديق وأصدقاء وبين وأبيناء، ثم خفف بخلاف اللام للثقل، وهذا مبني على أن الشئ مخفف شيئ.


(1) البقرة: 20. (2) مجمع البيان، سورة البقرة، آية: 20. (3) مريم: 67. (4) الكافي 1: 147 ح 5، عنه البحار 57: 63 ح 33، وفي المتن: لا مقدورا. (*)

[ 396 ]

وهنا قول ثالث وهو لسيبويه، وهو ان أشياء لفعاء، وأصلها شيئاء على صحراء، فقلبت الهمزة التي هي اللام قلبا مكانيا كراهة اجتماع ألف بين همزتين فجئ به قبل الفاء. ورجح بعضهم قول سبيويه لئلا يلزم منع الصرف بلا سبب، فإن أشياء غير منصرف على المشهور، ولا وجه له على القولين الأولين، فلإشكال الأمر في أشياء قال بعضهم في المقام بعد النقض والإبرام، إيهاما لما في أمره من الإشكال والإبهام: ان الأولي فيها إجمال الكلام كما قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم) * (1). وقولها (عليها السلام): " لا من شئ كان قبلها " أي لا من شئ آخر أي لا من مادة، ولم تقل (من لا شئ) حتى لا يتوهم أن لا شئ - وهو العدم - مادة الأشياء، لأن من تدخل على المادة، فقدم النفي على من إفادة ان كونها من مادة منفي، بل إبتدائها إنما هو بلا مادة. والإحتذاء بشخص بمعنى الإقتداء به في الامور، والمساواة معه بالاتيان بمثل ما أتى به من الحذو في قولهم: حذوت النعل بالنعل حذوا وحذاء - بالكسر - قدرتها بها وقطعتها على مثالها وقدرها، وفي الخبر: لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة (2). وفي خبر آخر: حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه (3)، أي تعملون مثل أعمالهم كما تقطع احدى النعلين على قدر النعل الاخرى، وكما تقدر القذة بالقذة، وهي ريش السهم. وفي خبر آخر: يكون في هذه الامة كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل


(1) المائدة: 101. (2) البحار 13: 180 ح 10. (3) البحار 9: 249 ح 154. (*)

[ 397 ]

بالنعل..، ويكون كل من الحذو والحذاء إسما أيضا، يقال: رفع يديه حذو اذنيه وحذاء اذنيه، ومنه المحاذاة بمعنى الموازات والمساوات. والحذاء للنعل - بالكسر - مصدرا بمعنى المعفول، وكذا الحذاء لما يطأ عليه البعير من خفه والفرس من حافره، والحذاء إسم للإسكاف وهو من يعمل الحذاء، وبالجملة فيقال: إحتذى مثاله أي اقتدى به واتبعه في فعله، والإقتداء أن يعمل الشخص مثل عمل الآخر. والمثال: الصورة كما مر، والجمع أمثلة، وامتثلها أي أخذها مثالا وعنوانا أي تبعها، والمراد انه تبع صاحبها في فعلها، ومنه إمتثل الأمر أي أطاعه، كأنه أخذه صورة وعنوانا في يده فعمل على طبقه، وكذا إمتثل به بتضمين معنى أذعن، وفي بعض النسخ أمثلها من باب الافعال أي صورها بأن أنشأ صورها أولا ثم خلق على مثالها. ويظهر من الفقرة ان الإنشاء هو الإيجاد بلا مثال، والإبداع هو الإيجاد بلا مادة، وقد مر تحقيق الكلام في المرحلة، والحاصل في معنى الفقرة ان الله تعالى أنشأ الأشياء بلا مادة سابقة، ولا اتباع صورة قبلها موجودة سواء كانت الصورة من صنع نفسه أو صنع غيره. * * *


[ 398 ]

قالت (عليها السلام): " كونها بقدرته، وذرأها بمشيته من غير حاجة منه الى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها إلا تبيينا لحكمته، وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته، وتعبدا لبريته، وإعزازا لدعوته، ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته ذيادة لعباده عن نقمته، وحياشة لهم إلى جنته ". بيان: التكوين: الإيجاد من قولهم: كون الله الشئ فكان أي أوجده، أو هو بمعنى التصوير من قولهم: كون الله الولد فتكون أي صوره فتصور، فلا مطاوعة على الأول لعدم شئ هناك أولا بالمرة لا مادة ولا صورة، كما قيل في مقام اثبات ان القابلية والاستعداد في كل شئ أيضا من فيض الله سبحانه. ما نبوديم وتقاضامان نبود * لطف تو ناگفته ما مى شنود وقيل أيضا: آن چنين دلها كه شدشان ما ومن * نعتشان شد بل أشد قسوة چاره ء آن دل عطاى مبذليست * داد حق را قابليت شرط نيست بلكه شرط قابليت داد اوست * داد لب وقابليت هست توست نيست از أسباب تصريف خداست * نيستها را قابلين از كجاست قابلى گر شرط فعل حق بدى * هيچ معدومى به هستى نامدى بخلاف الثاني إذ المطاوعة فيه واضحة، ويمكن المطاوعة في الأول أيضا باعتبار ما يأتي إليه الإشارة. وقوله تعالى: * (كن فيكون) * (1) قيل: معناه أحدث فيحدث، قال في الكشاف: وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول، ثم قال: وإنما المعنى ان ما قضاه من


(1) البقرة: 117. (*)

[ 399 ]

الامور وأراد كونه، فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كالمأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل، ولا يمتنع، ولا يتوقف، ولا يكون منه الاباء، إنتهى (1). وكذا في تفسير الصافي (2) بأدنى تغيير في العبارة، ثم نقل عن العيون، عن الرضا (عليه السلام): ان كن منه تعالى صنع وما يكون به المصنوع (3)، قال: وفي نهج البلاغة: إنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه (4)، قال (عليه السلام): يقول ولا يلفظ، ويريد ولا يضمر (5)، وقال: يريد بلا همة (6). وفي مجمع البيان: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " التقدير أن يكونه فيكون، فعبر عن هذا المعنى بكن لأنه أبلغ فيما يراد وليس هنا قول، وقيل: إن المعنى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول من أجله كن فيكون، فعبر عن هذا المعنى بكن، وقيل: إن هذا إنما هو في التحويل، نحو قوله: * (كونوا قردة خاسئين) * (7) و * (كونوا حجارة أو حديدا) * (8) وما أشبه ذلك (9). أقول: ويمكن أن يكون هناك قول ومخاطب، وذلك إما بأن يقال ان لكل شئ إمكانا مخصوصا به لتفاوت الإمكانات بالأشرفية وغير الأشرفية، فيمكن أن يخاطب الله تعالى إمكان كل شئ بقوله: " كن " أي صر كونا، أو ان في لوح


(1) الكشاف 1: 181 / سورة البقرة. (2) تفسير الصافي 4: 262 / سورة يس. (3) عيون الأخبار 1: 367 ح 163، مجلسه (عليه السلام) مع أهل الأديان، البحار 10: 314، الصافي 4: 262. (4) نهج البلاغة، الخطبة: 186، تفسير كنز الدقائق 11: 104، البحار 4: 255، الصافي 4: 262. (5) نهج البلاغة، الخطبة: 186، تفسير كنز الدقائق 11: 104، البحار 4: 254، الصافي 4: 262. (6) نهج البلاغة، الخطبة: 179، وتفسير كنز الدقائق 11: 104، البحار 4: 52 ح 29. (7) البقرة: 65. (8) الاسراء: 50. (9) مجمع البيان / سورة يس، آية: 82. (*)

[ 400 ]

الإمكان صورا علمية غير متناهية، ولكل شئ يدخل في الوجود في أي زمن كان صورة مخصوصة به هناك، فيمكن أن يخاطب الله لتلك الصورة عند خلقه بقوله: (كن، فيكون) ويشير إلى هذا ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمه ثم رش عليهم من نور الوجود، فتكونوا فظهروا (1). فيكون الخلق هنا بمعنى التصوير والتقدير، ويجعل الإمكان لكونه الصلوح المجرد عن الوجود ظلمة ساترة لكل موجود، فالتكوين يحصل بإخراج الشئ عن ظلمة العدم من جهة إفاضة نور الوجود، فيكون ويتحقق حينئذ الأمر والمخاطب في قوله تعالى: * (كن فيكون) *، ويستغني عن التكلفات التي ارتكبها الأكثرون في هذا المقام الذي هو من مزال الأقدام. والمكان هو موضع كون الشئ، وكون الشئ هو حدوثه ووقوعه، وهو بهذا المعنى تام لا يحتاج إلى الخبر، تقول: كان الأمر كذا، وأنا أعرفه مذ كان. قال الجوهري: وتقول: كان كونا وكينونة أيضا تشبيها بحيدودة والطيرورة من ذوات الياء، ولم يجئ من الواو على هذا إلا أحرف: كينونة، وهيعوعة، وديمومة، وقيدودة، والأصل في كينونة كينونة - بتشديد الياء - فحذفوا إحدى اليائين كما حذفوها من هين وميت، ولولا ذلك لقالوا: كونونة (2). والقدرة مصدر من قولك: قدرت على الشئ قدرة - من باب ضرب - إذا قويت عليه وتمكنت منه، وهي تستعمل إسم مصدر أيضا، والفاعل قدير وقادر وفي الأول دلالة على المبالغة، والشئ مقدور عليه. وأصل القدرة هو ان الفاعل إن شاء فعل وإن شاء ترك، وهي بالنسبة إلى طرفي الفعل وعدمه متساوية، وإلا لكان وجوبا أو امتناعا، والغالب تعليقها على المعدوم الممكن، بل قيل: إنها لا تتعلق بالموجود أصلا، لأن القدرة على الشئ انه إن شاء فعله أي أحدثه والا فلا، والشئ لو تعلق به القدرة بعد الوجود لزم تحصيل


(1) مسند أحمد 2: 369 ح 6606، وتفسير صدر المتألهين 2: 312. (2) الصحاح 6: 219 / كون. (*)

[ 401 ]

الحاصل، ولذا قيل في قوله تعالى: * (إن الله على كل شئ قدير) * أي على كل شئ معدوم ممكن الوجود. والحق ان القدرة كما تتعلق بالمعدوم الممكن باعتبار إبقائه على عدمه، أو إخراجه من العدم إلى الوجود كما هو الغالب، فكذا تتعلق على الموجود الممكن باعتبار إبقائه على حال وجوده أو إخراجه من الوجود إلى العدم. واما اعتبار كونه ممكنا فلأن الإرادة التي لا تفعل القدرة، ولا تؤثر إلا بها لا تتعلق بالمستحيل إلا للعجز عنه، بل لعدم قابلية نفس المستحيل للوجود، فإن الشئ إذا كان له قابلية الوجود ولم تتعلق القدرة به فهو عجز، لأن العجز عدم القدرة على ما من شأنه القدرة عليه، نظير العمى فإنه عدم البصر عما من شأنه البصر، فكما لا يطلق على الجدار أنه أعمى، فكذا لا يطلق على المستحيل انه معجوز عنه، فإنه ليس بموضوع للقدرة والعجز، كما ان الموجود قبل وجوده ليس بموضوع للجبر والإختيار. وفي حديث هشام بن الحكم مع عبد الله أبي شاكر الديصاني، عن الصادق (عليه السلام) وقد سأله ان الله قادر أن يدخل الدنيا كلها بالبيضة، لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة، فأجابه بما حاصله عدم امتناع ذلك في القدرة ممثلا باجتماع الدنيا كلها في إنسان العين، حيث انه إذا نظر إلى الدنيا رأى السماء، والهواء، والأرض، والجبال، والبراري، والقفار، والصحاري، والأشجار، والأنهار، والظلم، والأنوار، مع انه بقدر الحمصة، فإنسان العين لم يكبر والدنيا لم تصغر (1). قيل: وكأنه جواب إقناعي يقنع به السائل ويسكت، ويكتفي به ويرتضيه، وإلا فما ذكره من الامور المستحيلة الممتنعة في ذاتها، الممتنعة الوجود في الخارج في جميع حالاتها. والتحقيق ما أجاب به علي (عليه السلام) حين سئل عن ذلك وقال: إن الله


(1) التوحيد للصدوق: 122 ح 1 باب القدرة، عنه البحار 4: 140 ح 7. (*)

[ 402 ]

تعالى لا يوصف بالعجز، ولكن الذي سألتني عنه لا يجوز - أولا يكون - ومن أقدر ممن يلطف الدنيا ويعظم البيضة (1). ولما كان يحصل من فعل القادر للأمر المقدور عليه صورة وحالة فيه، اطلق القدر - بالتحريك - على تلك الحالة، فيكون إسما كما يكون مصدرا أيضا نظير المقدور - بالفتح فالسكون -، والتقدير جعل قدر وقدر للشئ، وفي الخبر: إن الله تعالى قدر التقادير، ودبر التدابير (2). والقدر - بالتحريك - ما قدره الله أيضا، وهو أخو القضاء، وكل منهما من جملة المراتب الستة اللازمة في تكوين كل مكون كما سيذكر، وفي الخبر: سئل عن القدر فقال (عليه السلام): طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه (3). وفي مسألة القضاء والقدر أبحاث مفصلة لا تليق بالمقام، مع ان سد باب البحث عنهما بالمرة أولى للخواص والعوام. قولها (عليها السلام): " وذرأها بمشيته... ". الذرء: الخلق من قوله تعالى: * (هو الذي ذرأكم) * (4) من باب منع أي خلقكم ويذرأكم أي يخلقكم، وقوله تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس) * (5) أي خلقناهم لجهنم أي على ان مصيرهم إلى جهنم بسوء اختيارهم، وهم الذين علم الله أن لا لطف لهم، وفي الخبر: هم ذرء النار (6)، أي خلقوا لها. والذرية - مثلثة - إسم لنسل الإنسان مطلقا من ذكر وانثى كالأولاد وأولاد


(1) التوحيد: 130 ح 10 باب القدرة، عنه البحار 4: 143 ح 11. (2) التوحيد: 376 ح 22، وعيون الأخبار 1: 318 ح 150، ما جاء عنه (عليه السلام) من الأخبار بالتوحيد، وصيحفة الرضا (عليه السلام): 151 ح 89، البحار 5: 93 ح 12، ومختصر بصائر الدرجات: 137. (3) نهج البلاغة، قصار الحكم: 287، عنه البحار 5: 124 ح 72، ونحوه الإعتقادات: 14. (4) المؤمنون: 79. (5) الأعراف: 179. (6) النهاية 2: 156، ولسان العرب 5: 29 / ذرأ. (*)

[ 403 ]

الأولاد، وأصلها الهمزة لأنها فعولة من ذرأ الله الخلق أي خلقهم، وقيل: أصلها ذرورة فعلولة من الذر بمعنى التفريق، لأن الله تعالى ذرهم في الأرض أي فرقهم، ولثقل التضعيف أبدلوا الراء الأخيرة ياء، ثم اعل البنية فصارت ذرية، ويمكن أن يكون اشتقاقها من الذر بمعنى النمل، أو مفرد ذرات الشمس، أو الذر بمعنى النقطة، أو الجزء الغير المتجزي. والمشية مصدر قولك: شاء يشاء، وأصلها مشيئة - بالهمزة - وهي المرتبة الثانية من المراتب الستة اللازمة في تكوين كل شئ كما اشير إليه آنفا، وهي: العلم، والمشية، والإرادة، والقدر، والقضاء، والإمضاء التي سميت بستة أيام في قوله تعالى: * (خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) * (1) على وجه من وجوه المعاني في الآية الشريفة. وأصل المشية هو تأكد العلم والإرادة تأكد المشية، ولا يكون شئ من الأشياء إلا بهذه، وقد تطلق المشية على الإرادة، وفي الخبر: " خلق الله الأشياء بالمشية والمشية بنفسها " (2) أي بلا واسطة اخرى غير نفسها، والظاهر ان المراد من المشية فيه هو الإرادة، والأولى فيهما أن يجعلاه من باب إذا اجتمعا إفترقا وإذا افترقا إجتمعا. وفي الخبر في التوحيد وغيره: إن لله تعالى إرادتين ومشيتين، إرادة حتم وإرادة عزم، وكذلك المشية، ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء، نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء أن يأكلا، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت إرادتهما مشية الله، وأمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه، ولو شاء لما غلبت مشية إبراهيم مشيته تعالى (3).


(1) الفرقان: 59. (2) الكافي 1: 110 ح 4، عنه البحار 57: 56. (3) التوحيد: 64 ح 18، عنه البحار 4: 139 ح 5، والكافي 1: 151 ح 4، وتفسير كنز الدقائق 1: 364. (*)

[ 404 ]

وفيه أيضا: أمر الله ولم يشأ، وشاء ولم يأمر، أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد، ولو شاء لسجد، ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها، ولو لم يشأ لم يأكل (1). والحتم أن يعطي الله الشئ ويريد منه بقدر اقتضاء قابليته واستعداده، والعزم أن يحكم فيه لقدرته المطلقة بلا لحاظ الإستعداد والقابلية، ويمكن العكس كما قيل به أيضا. والظاهر عندي هو الأصل لا العكس، وعلى ذلك يبتنى توجيه الأجل الحتمي والأجل المعلق، وإن كان المعلق أيضا يرجع في الحقيقة إلى الحتمي كما هو الحق المحقق. والحاجة: الإحتياج، يقال: حاج الرجل يحوج إذا احتاج، وكذلك أحوج فهو محوج، قال في المصباح: وقياس جمعه بالواو والنون لأنه صفة، والناس يقولون: محاويج مثل مفاطير ومفاليس، وبعضهم ينكره ويقول: هو غير مسموع، ويستعمل أحوج متعديا أيضا، يقال: أحوجه الله إلى كذا (2). والحاجة كما تستعمل مصدرا تستعمل إسم مصدر، كما أنها تستعمل إسما أيضا بمعنى الشئ المحتاج إليه، وبمعنى مطلق المقصود لما فيه من جهة الحاجة، وتكرر في الحديث: " من لم يفعل كذا فليس لله فيه حاجة "، والحاجة فيه مصدر أو إسم مصدر، وهو كناية عن التخلي عنه، وعدم الإلتفات إليه بالرأفة والرحمة. وجمع الحاجة حاج وحاجات وحوج وحوائج على غير قياس كأنه جمع حائجة، وكان الأصمعي ينكره ويقول هو مولد (3)، قيل: وإنما أنكره لخروجه عن القياس وإلا فهو كثير في كلام العرب. والحوجاء أيضا الحاجة، يقال: مالي فيك حوجاء ولا لوجاء، قال ابن


(1) الكافي 1: 150 ح 3، وتفسير كنز الدقائق 1: 364. (2) المصباح المنير: 155 / الحاجة. (3) راجع لسان العرب 3: 379 / حوج. (*)

[ 405 ]

السكيت (1): كلمته فمارد علي حوجاء ولا لوجاء، وهذا كقولهم: فما رد علي سوداء ولا بيضاء، أي كلمة قبيحة ولا حسنة. والفائدة: الزيادة تحصل للشخص، وهي إسم فاعل من قولك: فادت له فائدة فيدا - من باب باع - إذا حصلت وزادت، وأفدته مالا: أعطيته، وأفدت منه مالا: أخذته بمعنى استفدت، قيل: وكرهوا أن يقال: أفاد بمعنى استفاد، وإن كان بعض العرب يقول: ناقته ترمل في النقال * مهلك مال ومفيد مال هذا ولكن الظاهر ان المعنى مهلك مال على صاحبه ومفيد مال له، فالمفيد هنا متعد لا لازم بمعنى مستفيد. والتصوير: إنشاء الصورة أي إحداث الشكل والهيئة، وتصوير الشئ تمثيله، والتصاوير التماثيل، وفي الخبر: " إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة " (2). وهو إما لكون عملها مضاهيا لخلق الله، أو لأن حفظ الصورة في البيت تشبه بعبدة الأصنام، أو المراد من الصورة صورة ما كانوا يعبدون من دون الله، أو لاحتمال أداء حفظ الصورة إلى عبادة الصور، أو لكونه موجبا للإشتغال عن ذكر الله تعالى ونحو ذلك. وحديث (إن الله خلق آدم على صورته) معروف، وله توجيهات مشهورة في مجمع البحرين وأنوار السيد الجزائري (3) وغيرهما، وقد استوفينا ما يحتمل في معناه بما لا مزيد عليه في كتابنا المسمى ب‍ " الاصول المهمة " حتى أنهيناها إلى ما يقرب من عشرين وجها. وقد تطلق الصورة ويراد بها الصفة، كقولهم: صورة الأمر كذا أي صفته، ومنه صورة المسألة كذا أي صفتها، وليس ذلك بمراد هنا، وتصورت الشئ مثلت صورته وشكله في الذهن، والمصور من أسماء الله تعالى، وهو الذي صور صور


(1) راجع الصحاح 1: 308 / حوج. (2) مستدرك الوسائل 3: 453 ح 3974، عن درر اللآلي. (3) مجمع البحرين / صور، والأنوار النعمانية 1: 233. (*)

[ 406 ]

جميع الموجودات ورتبها، فأعطى كل شئ منها صورة خاصة وهيئة مفردة، يتميز بها الأشياء بعضها عن بعض على اختلافها وكثرتها. وقد يراد من التصوير الخلق والايجاد إنتقالا من اللازم إلى الملزوم، ويمكن أن يكون المراد من التصوير هنا هذا المعنى، أي إيجاد المادة مع الصورة، كما يمكن أن يراد أصل المعنى أي إحداث نفس الصورة بعد خلق المواد المطلقة أولا ثم تقييدها بالصور المقيدة. والتبيين بمعنى الإظهار من بان يبين بيانا إذا ظهر واتضح، ومنه سلطان بين أي واضح، ومنه البيان أيضا لما يبين به الشئ من الدلالة وغيرها، كما يطلق على المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير. و * (الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان) * (1) قيل: أي فصل ما بين الأشياء، أو المنطق الفصيح، أو المراد من الإنسان آدم (عليه السلام)، والبيان هي اللغات المختلفة، أو أسماء كل شئ، أو الإنسان محمد (صلى الله عليه وآله)، والبيان ما كان وما يكون. والبيان: الفصاحة واللسن، وفلان أبين من فلان أي أفصح، وفي الحديث: " إن من البيان لسحرا " (2) أو " إن من الشعر لحكمة " (3)، وتبين الشئ إذا ظهر وتجلى، وأبان الشئ إبانة وبينة تبيينا أظهره، والتبيان جعل الشئ مبينا بالحجة كالتبيين، وهو بالكسر من المصادر الشاذة. قال الجوهري: لأن المصادر من هذا الوزن إنما تجئ على وزن التفعال - بفتح التاء - كالتكرار والتذكار، ولم يجئ بالكسر إلا حرفان هما التبيان والتلقاء (4). وقد يجئ أبان وبين بمعنى بان وتبين، قال تعالى: * (لا تعبدوا الشيطان إنه


(1) الرحمن: 1 - 4. (2) البحار 1: 218 ح 39. (3) البحار 79: 290 ح 5. (4) الصحاح 5: 2083 / بين. (*)

[ 407 ]

لكم عدو مبين) * (1) أي واضح بين، أو هو بمعنى مظهر العداوة، و * (فإذا هي ثعبان مبين) * (2) أي واضح بين، * (أن يأتين بفاحشة مبينة) * (3) أي واضح، (قد بين الصبح لذي عينين) أي تبين، وأصله من قول علي (عليه السلام) في آخر خبر اشتراء شريح القاضي ولدا بالكوفة حيث قال (عليه السلام): قد بين الحق لذي عينين * إن الرحيل أحد اليومين تزودوا من صالح الأعمال * وقربوا الآمال بالآجال ونظير أبان الأمر وأبانه إستبان الأمر واستبانه، ومن هذه المادة البين للفراق والفصل بين الشيئين بالبعد الظاهري، وأما المعنوي فبالواو، يقال: بين الأمرين بون بعيد، ووقع البين بين الحبيبين. والحكمة: وضع كل شئ في موضعه المناسب له، وهو ينشأ من العلم ونحوه، ولذا قد تطلق على العلم، وبه فسر قوله تعالى: * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * (4) أي العلم، ويوفق للعمل أيضا، وفسر بالقرآن والفقه أيضا والمراد علمهما، قيل: أو المراد فهم المعاني المانع عن الجهل، أو معرفة الإمام وطاعة الله، أو صلاح امور الآخرة والدنيا من المعارف والعلوم. وقيل: الحكمة هي العلم الذي يرفع الإنسان عن فعل القبيح، مستعارة من حكمة اللجام بمناسبة المنع عن الإفراط والتفريط، ويحتمل كون الإشتقاق بالعكس بأن تكون كلمة اللجام مأخوذة من الحكمة. * (ولقد آتينا لقمان الحكمة) * (5) أي الفهم والعقل، وفلان صاحب حكمة إذا كان متقنا للامور، والحكمة علم الشريعة أيضا، و " إن من الشعر لحكمة " أي كلاما نافعا كالمواعظ والأمثال.


(1) يس: 60. (2) الأعراف: 107. (3) النساء: 19. (4) البقرة: 269. (5) لقمان: 12. (*)

[ 408 ]

وقوله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) * (1) قيل: الحكمة النبوة، والموعظة الحسنة القرآن، والمجادلة هو الإستدلال بالقواعد الميزانية. وقيل: المراد بالحكمة المقالة المحكمة الصحيحة، الموضحة للحق، المزيحة للشبهة، وهذا للخواص، والموعظة الحسنة الخطابات المقنعة، والعبر النافعة التي لا يخفى عليهم انك تناصحهم بها وتنفعهم فيها، وهذا للعوام، والمجادلة بالتي هي أحسن أي المجادلة بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة، وهذا للمعاندين والجاحدين (2)، وقيل: الحكمة بيان كيفية الوجود، وان حكمة وضع الأشياء تقتضي مدبرا كذا وكذا. والموعظة الحسنة مثل وقولك للكفار والملحدين: إن كان الأمر كما تقولون من عدم البعث والنشر فنحن وأنتم سواء، وإن كان كما نقول فقد نجينا وهلكتم. والحاصل إراءة سبيل الإحتياط، والأمر بسلوكه، والمجادلة بالتي هي أحسن، قال الصادق (عليه السلام): هي مثل قوله تعالى: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * (3) في جواب من قال: " من يحيي العظام وهي رميم ". وبغير التي هي أحسن أن تجادل مبطلا، فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله، ولكن تجحد حقا يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة لا تدري كيف المخلص منه، فيقوى حينئذ إعتقاد المبطل ويضعف إعتقاد ضعفاء أهل الحق. وقيل: المراد بدليل الحكمة الدليل الذوقي العياني، ومنشأه الفؤاد الذي هو أعلى مشاعر الإنسان، والموعظة الحسنة تعلم الطريقة وتهذيب الأخلاق ومنشأه العقل، ودليل المجادلة هو الأدلة الظاهرية العلمية ومنشأها النفس.


(1) النحل: 125. (2) في المتن المجاهدين، وما أثبتناه هو الأنسب. (3) يس: 79. (*)

[ 409 ]

والحكيم من أسماء الله تعالى فعيل من الحكمة، أو هو بمعنى المحكم من الاحكام لأنه يحكم الأشياء ويتقنها بجعلها في موضعها للعلم بأوضاعها وحالاتها، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم. والحكمة أيضا معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، والحكمة العملية ما لها تعلق بالعمل كالطب، والحكمة العلمية مالها تعلق بالعلم، كالعلم بأحوال اصول الموجودات الثمانية: الواجب، والعقل، والنفس، والهيولى، والصورة، والجسم، والمادة، ورسموا الحكمة العلمية أيضا بانه العلم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية على مقتضى القوانين العقلية. واما علم الكلام فهو ذلك لكن بمقتضى القوانين الشرعية، ولذا رسم بأنه العلم الباحث عن أحوال المبدأ والمعاد على نهج قانون الإسلام. والحكماء المشهورون السابقون - على ما قال شيخنا البهائي (رحمه الله) - أحد عشر حكيما، ومنهم انتشر أهل العلم، وهم أساطين الحكمة، إفلاطون في الإلهيات، أبرخس بطليموس في الرصد والهيئة، والمجسطي بقراط وجالينوس وذو مقرط في الطب، أرسميدس وإقليدس وبلينوس في الرياضي، وإرسطا طاليس في الطبيعي والمنطق، سقراط وفيثاغورس في الأخلاق. قولها (عليها السلام): " وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته ". التنبيه من نبه للأمر نبها - من باب تعب - ونبه من نومه نبها، ويتعدى بالهمزة والتضعيف فيقال: أنبهته من نومه ونبهته فانتبه، ونبهته على الشئ أوقفته عليه. والفقرة إشارة إلى قوله (صلى الله عليه وآله): " الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا " (1) جعل غفلتهم عن الحي القيوم نوما أو بمنزلة النوم، فهم عن طاعة ربهم نائمون، وعن عبادة إلههم ساهون، وعن ذكره تعالى غافلون، وبمعرفته جاهلون، فإذا رأوا آيات الله سبحانه انتبهوا عن نومة الذهول، وتيقظوا عن رقدة الغفلة، فإن ذوي العقول والحجى يتنبهون بمشاهدة مصنوعاته تعالى على ان شكر خالقها والمنعم


(1) البحار 4: 42 ح 18، وتفسير صدر المتألهين 2: 5. (*)

[ 410 ]

بها واجب، وأداء فرض حقه فرض لازم، وقرض لازب. أو ان خالقها وصانعها مستحق للطاعة والعبادة، أو ان من قدر عليها قدر على الإنتقام والإعادة ونحو ذلك من الامور اللازمة التي ينبغي التنبه لها، والإستيقاظ إليها لتحصيل المعرفة، والعبادة، والعلم، والزهادة، والرغبة، والرهبة، والرجاء، والخشية. والطاعة من قولهم: أطاعه إطاعة أي إنقاد له، وأطاعه طوعا - من باب قال - لغة، ويعديه بعضهم بالحرف فيقول: طاع له، ونقل من باب باع وخاف أيضا، والطاعة إسم منه. وفي الخبر: (لا طاعة في معصية الله) (1) يريد طاعة ولاة الأمر إذا أمروا بما فيه معصية كالقتل والقطع، أو المراد ان الطاعة لا تسلم لصاحبها ولا تخلص إذا كانت مشوبة بالمعصية، وإنما تصح الطاعة مع اجتناب المعاصي، والأول أشبه لما في خبر آخر: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) (2). وفلان طوع يديك أي منقاد لك كأنه مصدر بمعنى الفاعل، وفرس طوع العنان إذا كان سلسا، ولسانه لا يطوع بكذا طوعا أي لا يتابعه، والتطوع بالشئ التبرع به، والفاعل من أطاع: مطيع، ومن طاع: طائع، * (فطوعت له نفسه قتل أخيه) * (3) أي سهلت أو شجعت ونحو ذلك، ولا يكون الطاعة إلا عن أمر، كما لا يكون الجواب إلا عن قول. والتعبد من قولهم تعبده واستعبده أي جعله كالعبد أو اتخذه عبدا، وكلاهما هنا صحيح، ويقال: عبده إذا أطاعه، ومنه قوله تعالى: * (بل كانوا يعبدون الجن) * (4)


(1) نحوه الخصال: 139 ح 158 باب 3، عنه البحار 75: 338 ح 8. (2) الخصال: 139 ح 158 باب الثلاثة، عنه البحار 75: 337 ح 8. (3) المائدة: 30. (4) سبأ: 41. (*)

[ 411 ]

و * (لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) * (1)، وفي الخبر: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده) (2). وأصل العبد خلاف الحر مشتق من العبادة، أو العبادة مأخوذة منه، وهي بمعنى غاية الخضوع والتذلل، وهي لا تحسن إلا لله الذي هو مولى جميع النعم صغيرة أو كبيرة، فهو حقيق لغاية الشكر، والإطلاق في عابد الوثن ونحوه مجازي بملاحظة التشبه الصوري. والفقرة إشارة إلى قوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (3) أي لأجل العبادة المستلزمة للمعرفة أيضا، إذ لا معنى للعبادة بدون المعرفة، ولذا فسر قوله تعالى: * (ليعبدون) * بنحو ليعرفون أيضا، إذ الغرض في خلقهم تعريضهم للثواب، وتبعيدهم عن العقاب، ولا يحصل ذلك إلا بأداء العبادات، وسلوك طريق القربات. والتعبد التنسك أيضا، ومنه قوله (عليه السلام): (سجدت لك تعبدا ورقا) (4) والتعبد الدوام على العبادة، ومنه العابد المتعبد للعابد الدائم على العبادة، ولا يصح هذا المعنى هنا إلا على القول بان المفعول لأجله يجوز أن يكون فعلا لغير فاعل الفعل المعلل به، كما ذكره نجم الأئمة واستشهد عليه بقول علي (عليه السلام) في نهج البلاغة في إبليس: (فأعطاه الله النظرة استحقاقا للسخطة، واستتماما للبلية، وإنجازا للعدة) (5)، ويمكن تأويله بحيث لا يستلزم التفكيك بين فقرات الخطبة. وقال المحقق الطوسي في الأخلاق الناصرية: عبادة الله تعالى ثلاثة أنواع: الأول ما يجب على الأبدان كالعبادات البدنية، الثاني ما يجب على النفوس


(1) يس: 60. (2) تحف العقول: 339، عنه البحار 2: 94 ح 30، انظر أيضا عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 562 ح 285. (3) الذاريات: 56. (4) الكافي 3: 328 ح 23، عنه البحار 85: 179 ح 14، والوسائل 4: 884 ح 1. (5) نهج البلاغة، الخطبة: 1، والبحار 11: 122 ح 56. (*)

[ 412 ]

كالإعتقادات الصحيحة في اصول المعرفة، الثالث ما يجب عند مشاركة الناس في المدن، وهي المعاملات، وتأدية الأمانات، ونصح البعض لبعض بضروب المعاونات. لكن الحق أن يقال: الأول العبادة البدنية بالعمل بالفروع الشرعية، الثاني العبادة النفسية بتهذيب الأخلاق والإتصاف بالصفات المرضية، والثالث العبادة العقلية بتهذيب العلم وتحصيل المعرفة في الإعتقادات الدينية الاصولية، ويقال للعلوم المتكفلة لأبحاثها: علم الشريعة، وعلم الطريقة، وعلم الحقيقة على طريق اللف والنشر المرتب، فتأمل. وفي الخبر: إن حقيقة العبودية ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله ملكا كالعبد، بل يرى المال مال الله يضعه حيث أمره الله، وأن لا يدبر العبد لنفسه تدبيرا بل يرى تدبيره بيد الله، وأن يجعل جملة اشتغاله فيما أمر الله ونهاه عنه، فعلى الأول يهون عليه الانفاق، وعلى الثاني تهون عليه مصائب الدنيا، وعلى الثالث لا يتفرغ عنه إلى المراء والمباهاة (1). وإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاث هانت عليه الدنيا ومصائبها، ولا يطلبها تفاخرا وتكاثرا، ولا يطلب عند الناس عزا وعلوا، ولا يدع أيامه باطلة، فهذا أول درجات المتقين. وقوله تعالى: * (قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون) * السورة (2)، قيل: أي لا أعبد آلهتكم التي تعبدونها اليوم وفي هذه الحال، (ولا أنتم عابدون ما أعبد) أي إلهي الذي أعبده اليوم وفي هذه الحال، (ولا أنا عباد ما عبدتم) أي فيما بعد اليوم، (ولا أنتم عابدون ما أعبد) بعد اليوم من الأوقات المستقبلة. قال الزجاج: نفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل، وكذا عبادة الله بالنسبة. وفي الحديث: سئل أبو جعفر الأحول عن مثل هذا القول وتكراره مرة بعد


(1) البحار 1: 225 ح 17. (2) الكافرون: 1 - 2. (*)

[ 413 ]

مرة، فلم يكن جواب عند أبي جعفر الأحول في ذلك بشئ حتى دخل المدينة، فسأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: كان سبب نزولها وتكرارها ان قريشا أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة وتعبد إلهك سنة. فأجابهم الله تعالى بمثل ما قالوا، فقال فيما قالوا تعبد آلهتنا سنة: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) وفيما قالوا نعبد إلهك سنة: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) وهكذا الفقرتان الأخيرتان، فرجع الأحول إلى أبي شاكر فأخبره بذلك، فقال أبو شاكر نافيا لكون هذا الكلام من الأحول: حملته الابل من الحجاز (1). وفي حديث هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام): إذا قلت (لا أعبد ما تعبدون) فقل: ولكني أعبد الله مخلصا له ديني، فإذا فرغت منها فقل: ديني الإسلام - ثلاثا - (2). والبرية: الخلق بمعنى الخليقة، ومنه إطلاق خير البرية على النبي وآله أي خير الخلق والخليقة، وكذا قوله تعالى: * (أولئك هم خير البرية) * (3) وعن ابن عباس: انها نزلت في علي (عليه السلام) وأهل بيته (4). وفي الخبر عن علي (عليه السلام) قال: قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا مسنده إلى صدري، فقال (صلى الله عليه وآله): يا علي ألم تسمع قول الله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) * هم شيعتك، وموعدي وموعدك الحوض إذا جمعت الامم للحساب يدعون غرا محجلين (5).


(1) تفسير القمي 2: 445، عنه البحار 92: 340 ح 4، وتفسير الصافي 5: 385، وتفسير كنز الدقائق 14: 474. (2) مجمع البيان، سورة الكافرون، وتفسير كنز الدقائق 14: 473. (3) البينة: 7. (4) مجمع البيان / سورة البينة. (5) شواهد التنزيل 2: 459 ح 1125، الدر المنثور 8: 589، كفاية الطالب: 246، المناقب للخوارزمي: 265 ح 247، كشف الغمة 1: 322، الصواعق: 161، ينابيع المودة 2: 357 = + * * * + = ح 21. (*)

[ 414 ]

وأصل البرية من قولهم: برأ الله الأشياء أي خلقها فهو بارئها وخالقها، وأصلها بريئة فعيلة بمعنى مفعولة، ويجمع على البراياء والبريات، وقال الجوهري (1): وقد تركت العرب همزتها أي قلبها ياء وادغمت، وفي قول الفراء: إن اخذت البرية من البري بمعنى التراب لخلق آدم منه، فأصلها غير الهمز. وفي حديث علي بن الحسين (عليه السلام): " اللهم صل على محمد وآل محمد عدد الثرى، والورى، والبرى " أي التراب. وفي المجمع: هو الله الخالق البارئ المصور، قيل: الخالق المقدر لما يوجده، والبارئ المميز بعضهم عن بعض بالأشكال المختلفة، والمصور الممثل، ثم قال: والبارئ إسم من أسمائه تعالى، وفسر بالذي خلق الخلق من غير مثال، وعن بعض هو الذي خلقها من غير مادة، فعلى هذا يجوز أن يكون البرية بمعنى المخلوق من غير مثال ولا مادة أيضا (2). قولها (عليها السلام): " إعزازا لدعوته، ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته ". الإعزاز: الإكرام أو التقوية، أو جعل الشئ عزيزا غالبا، من العز بمعنى الكرامة بعد الذلة، أو القوة بعد الضعف، أو بمعنى الغلبة بعد المغلوبية، يقال: عز الشئ يعز عزا - من باب ضرب - إذا كرم أو قوى أو غلب، وأعزه الله إعزازا أي أكرمه أو قواه أو غلبه. وقوله تعالى: * (فعززنا بثالث) * (3) يخفف ويشدد أي قوينا وشددنا، وقوله تعالى: * (عزيز عليه ما عنتم) * (4) أي شديد عليه يغلب صبره. والإسم: العزة بمعنى الغلبة والقوة والكرامة أيضا، وعن الشئ أيضا إذا قل


(1) الصحاح 6: 2279 / برا. (2) مجمع البحرين / برأ. (3) يس: 14. (4) التوبة: 128. (*)

[ 415 ]

بحيث لا يكاد يوجد فهو عزيز الوجود، وأصله من المعنى السابق أيضا، فإن الشئ كلما قل صار ذا عزة وكرامة، وإليه يشير قولهم: (كل شئ إذا كثر رخص إلا العقل، فإنه إذا كثر غلا) وعز علي كذا - من باب تعب - أي اشتد علي كذا. ومنه قول الحسين (عليه السلام) يوم الطف للقاسم بن الحسن حين وقف على رأسه بعد الشهادة: (يا ابن أخي يعز على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك) (1). ومن أسمائه تعالى العزيز أي الغالب القوي الذي لا يغلب، قيل: والعزيز في لغة العرب الملك، والمعز أي الذي يهب العز لمن يشاء من عباده، * (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) * (2). والدعوة مصدر دعا يدعو دعاء ودعوة، وتطلق على ما يدعى به، وفي الدعاء: (اللهم رب الدعوة التامة) (3) أي النافعة أو الكاملة التي لا نقص فيها، أو المباركة الكثيرة الخير والبركة، والمراد بها اصول المعرفة التي دعا الله الناس إليها، وهي تستتبع الدعوة الفروعية أيضا، أو المراد بالدعوة أعم من الاصولية والفروعية التي دعا الله إليها بلسان الأنبياء، فهم يستدلون عليها بخلق الأشياء، ويشتمل على كلها كلمة الإسلام وكلمة التوحيد، كما هو واضح عند من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وفي الحديث: (أنا دعوة إبراهيم) (4) قيل: هي قوله تعالى حكاية عنه (عليه السلام): * (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) * (5) وفي الخبر انها


(1) البحار 45: 67. (2) آل عمران: 26. (3) الذكرى: 175 مسألة 14 في مستحبات الاذان، عنه البحار 84: 182 ح 14. (4) المناقب لابن شهرآشوب 2: 176، في الطهارة والرتبة، عنه البحار 38: 62 ح 1. (5) إبراهيم: 40. (*)

[ 416 ]

قوله (عليه السلام): * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * (1) وفيه دعوة سليمان قوله (عليه السلام): * (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * (2). وفي الخبر: (رب أعوذ بك من دعوة الظلم) أي من الظلم لأنه يترتب عليه دعوة المظلوم، وليس بينها وبين الله تعالى حجاب. وورد في تفسير قوله تعالى: * (إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى) * (3) عن أبي ذر انه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه ما كان صحف إبراهيم ؟ قال: كانت أمثالا كلها، وكان فيها: أيها الملك المبتلى المغرور اني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعثتك لترد عني دعوة مظلوم، فإني لا أردها وإن كانت من كافر. وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيما صنع الله عزوجل إليه، وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال، فإن هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجماع للقلوب، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه، فإن من حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه، وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث: مرمة لمعاش، أو تزود لمعاد، أو تلذذ في غير محرم. قال: قلت: يا رسول الله فما كانت صحف موسى (عليه السلام) ؟ قال (صلى الله عليه وآله): كانت عبرا كلها، مثل: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، ولمن أيقن بالنار كيف يضحك، ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، ولمن يؤمن بالقدر كيف ينصب، ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل. قلت: فهل في أيدينا مما أنزل الله عليك شئ مما كان في صحف إبراهيم


(1) البقرة: 129. (2) ص: 35. (3) الأعلى: 18 - 19. (*)

[ 417 ]

وموسى ؟ قال: يا أبا ذر إقرأ: * (قد أفلح من تزكى) * (1) إلى آخر السورة، إنتهى (2). وما نقل من صحف موسى روي بأدنى تغيير في تفسير الكنز المذكور في قوله تعالى في قصة موسى مع الخضر: * (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا) * (3) حيث روي عن الصادق (عليه السلام) انه سئل عن هذا الكنز، فقال: اما انه ما كان ذهبا ولا فضة، وإنما كان أربع كلمات: لا إله إلا أنا، من أيقن بالموت لم يضحك سنه، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلا الله (4). وعن الرضا (عليه السلام): كان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يركن إليها، وينبغي لمن عقل من الله أن لا يتهم الله في قضائه، ولا يستبطئه في رزقه (5)، وفيه روايات اخر أيضا. وعن الصادق (عليه السلام): إن الله ليحفظ ولد المؤمن إلى ألف سنة، وإن الغلامين كان بينهما وبين أبويهما سبعمائة سنة (6). وعنه (عليه السلام) أيضا: لما أقام العالم الجدار أوحى الله إلى موسى: اني مجازي الأبناء بسعي الآباء إن خيرا فخير وإن شرا فشر، لا تزنوا فتزني نساءكم،


(1) الأعلى: 14. (2) الخصال: 525 ح 13، معاني الأخبار: 334 ح 1، عنهما البحار 12: 71 ح 14، وتفسير كنز الدقائق 14: 243. (3) الكهف: 82. (4) تفسير العياشي 2: 338 ح 66، عنه البحار 13: 312 ح 51، وفي الكافي 2: 58 ح 6، وتفسير البرهان 2: 479، والصافي 3: 256، ونحو فقه الرضا (عليه السلام): 371 باب 102. (5) تفسير العياشي 2: 338 ح 67، والكافي 2: 59 ح 9، عنه البحار 70: 156 ح 14، وفي قرب الاسناد: 375 ح 1330، والصافي 3: 257، والبرهان 2: 479، وكنز الدقائق 8: 131. (6) تفسير العياشي 2: 339 ح 70، عنه البحار 13: 310 ح 44، والبرهان 2: 478، والصافي 3: 257، وكنز الدقائق 8: 133. (*)

[ 418 ]

من وطأ فراش مسلم وطئ فراشه، كما تدين تدان (1). ولا يخفى ان في مجازاة الأبناء بسعي الآباء خيرا وشرا إشكالا مشهورا في الألسنة، وله وجوه دفع مشهورة، مثل رضاء الخلف بفعل السلف، أو لجعل ذلك عبرة للناس مع جزاء الأبناء بمثوبة لائقة في الآخرة لئلا يكون ظلما في حقهم، إذ لا تزر وازرة وزر اخرى، أو لكون الأبناء في أصلاب الآباء حين كانوا، فأثر فيهم أفعالهم خيرا وشرا أو نحو ذلك، وليس المقام مقام تفصيل تلك المسألة. والدعاء في أصل اللغة هي الدعوة المطلقة بطلب شئ من المدعو بأي نحو كان، كدعوة النبي (صلى الله عليه وآله) امته إلى الإسلام ونحو ذلك، ثم جعل في العرف بمعنى الطلب القولي أو المطلق الصادر من السافل بالنسبة إلى العالي، كالأمر من العالي أو المستعلي، والسؤال من المساوي، فالطلب الحتمي الصادر من الله تعالى بالنسبة إلينا أمر، ومنا بالنسبة إليه تعالى دعاء، ومنا إلى أمثالنا في الشأن والمنزلة - ولو دنيوية صورية - سؤال. والثواب: الجزاء في الخير والشر إلا انه غلب استعماله في الخير، وهو المراد هنا، وقوله تعالى: * (لمثوبة من عند الله خير) * (2) أي ثواب الله خير مما هم فيه، وقوله تعالى: * (هل ثوب الكفار) * (3) أي جوزوا بفعلهم. والثواب في إصطلاح أهل الكلام هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والإجلال، والمثابة: المنزل من ثاب إليه، لأن أهله يرجعون إليه، ومنه قوله تعالى: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) * (4) أي مرجعا ومجتمعا، وفي حديث ام سلمة قالت لعائشة: إن عمود الدين لا يثاب بالنساء إن مال (5)، أي لا يعاد إلى استوائه، من


(1) الكافي 2: 553 ح 1، عنه البحار 13: 296 ح 13، والصافي 3: 257، وكنز الدقائق 8: 131. (2) البقرة: 103. (3) المطففين: 36. (4) البقرة: 125. (5) معاني الأخبار: 376، والإحتجاج 1: 392، عنه البحار 32: 151 ح 126، والنهاية 1: 227، ولسان العرب 2: 147 / ثوب. (*)

[ 419 ]

أثاب يثوب إذا رجع. والتثويب في الصلاة هو قول العامة في أذان الصبح: (الصلاة خير من النوم) بعد قولهم: (حي على الصلاة) كأنه رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة، فإن المؤذن إذا قال: (حي على الصلاة) فقد دعاهم إليها، فإذا قال بعده: (الصلاة خير من النوم) فقد رجع إلى كلام معناه طلب المبادرة إلى الصلاة. وقيل: هو من التثويب بمعنى الدعوة، وأصله أن يجئ الرجل مستصرخا فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر، فسمى الدعاء تثويبا لذلك فكل داع مثوب، وقيل: بل المثوب هو الداعي الذي يردد صوته. وقوله: (إذ الداعي المثوب قال يالا) يحتمل كلا الوجهين، والأخير أولى لأن الإفادة خير من الإعادة، والأصل في الكلام التأسيس، وهو أولى من التأكيد، والتثويب أيضا قول المحدث: الصلاة الصلاة، أو قامت قامت. وما روي من ان النداء والتثويب في الإقامة من السنة فقد قيل فيه: ينبغي أن يراد بالتثويب هنا تكرار الشهادتين والتكبير - كما ذكره إبن إدريس (1) - لا التثويب المشهور، واما ما روي عنه (عليه السلام) وقد سئل عن التثويب فقال: ما نعرفه (2)، فمعناه إنكار مشروعيته لا عدم معرفته. والعقاب: العقوبة، وهي جزاء الشر من العقب ككتف، وهي مؤخر القدم لأنه يجئ بعقب العمل، وأصله لمطلق الشئ المتأخر، لكن غلب في جزاء عمل الشر قبال الثواب، وعاقبة كل شئ آخره، والعاقبة: الولد والآخرة أيضا، وعاقبة الدارهي العاقبة المحمودة، يدل عليه قوله تعالى: (أولئك لهم عاقبة الدار جنات عدن) في قراءة. ولا خير فيما لا عاقبة له أي من الأعمال الصالحة، وعواقب الامور امور تترتب عليها وتؤول إليها، وفي الحديث: (السيد والعاقب) فالعاقب من يخلف


(1) السرائر 1: 212 / باب الاذان والإقامة. (2) الذكرى: 175 مسألة 11، والبحار 84: 167 ح 69. (*)

[ 420 ]

السيد بعده، وقول النبي (صلى الله عليه وآله): (أنا العاقب) (1) أي آخر الأنبياء، وكل من خلف بعد شئ فهو عاقب. والمعصية مصدر من عصى يعصي عصيانا إذا خالف الأمر - على وزن محمدة - فهو عاص، والجمع عصاة، والإسم العصيان، وعصى العبد مولاه إذا خالف وتجاوز أمره. و * (وعصى آدم ربه فغوى) * (2) أي خالف أمره الإرشادي لا التكليفي، أو خالف أمره بالأولى، فلا يلزم عليه حينئذ معصية منافية بالعصمة، أو هو بملاحظة ان حسنات الأبرار سيئات المقربين، أي فعل فعلا لو كان صادرا من المقربين لكان معصية بالنسبة إليهم، أو انه (عليه السلام) كان من المقربين فهذا الفعل الصادر منه عد معصية بالنسبة إليه، وإن لم يكن معصية بالنسبة إلى من دونه. قولها (عليها السلام): " وذيادة لعباده عن نقمته، وحياشة لهم إلى جنته ". الذيادة - بالذال المعجمة - من قولهم: ذاد الراعي إبله من الماء أو المرعى يذودها ذودا وذيادا منعها وطردها، والذائد: الحامي الدافع، قال الشاعر: أنا الحامي الذمار وإنما * يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (3) وفي الحديث في وصف الأئمة (عليهم السلام): " القادة الهداة، والذادة الحماة " (4)، وقوله تعالى: * (ووجد من دونهم امرأتين تذودان) * (5) أي تطردان وتكفان غنمهما، وأكثر ما يستعمل الذود في الغنم والإبل، وربما يستعمل في غيرهما أيضا.


(1) صحيح البخاري 5: 26 ح 62 باب ما جاء في أسماء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والبحار 16: 114 ح 43. (2) طه: 121. (3) هو من قصيدة للفرزدق يهجو بها جرير بن عطية الخطفي التميمي، راجع جامع الشواهد 1: 226. (4) فقرات من زيارة الجامعة. (5) القصص: 23. (*)

[ 421 ]

والنقمة من نقمه نقما إذا كرهه غاية الإكراه، قال تعالى: * (هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله) * (1) أي تكرهون أو تنكرون وتعيبون، وهذه الامور متلازمة. وانتقم منه أي عاقبه، والإسم منه النقمة وهي الأخذ بالعقوبة، والجمع نقمات ونقم ككلمة وكلمات وكلم، قال الجوهري: وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون وقلت: نقمة، والجمع نقم كنعمة ونعم (2). ونقمت على الرجل - من باب ضرب - فأنا ناقم إذا عتبت عليه، والمنتقم هو البالغ في العقوبة لمن يشاء من نقم إذا بلغت به الكراهة إلى حد السخط. والحياشة مصدر من قولك حشت الصيد إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة، وكذا أحشت الصيد وأحوشته، ومنه حشت الإبل جمعتها، والمراد بها هنا جمع الناس وسوقهم إلى الجنة، ولعل التعبير بذلك لنفور الناس بطباعهم عما يوجب دخول الجنة، كالصيد النفور الذي يجمع بنحو الحياشة. ومن هذه المادة على سبيل القلب المكاني أو من مادة الحشو، حاشية كل شئ بمعنى طرفه وناحيته، وحاشية النسب الأعمام لإحاطتهم عليه كما يطلق العصبة - بالتحريك جمع عاصب، ككفرة وكافر - على الأولاد والأقرباء من طرف الأب لإحاطتهم به من الأطراف، فالأب جانب، والإبن جانب، والأخ جانب، والعم جانب، وهو من التعصب أي شد العصابة، أو من العصبة مشتقا من العصب - بفتحتين - وهي من أطناب المفاصل، ومنه حاشية الرجل لأصحابه وأهل مودته. والجنة - بالفتح - البستان من النخل أو الشجر أو كليهما مطلقا، وأصلها من الجن بمعنى الستر، كأنها لتكاثفها والتفاف أغصانها سميت بالجنة التي هي بناء المرة من هذه المادة، كأنها سترة واحدة لشدة التفافها وإظلالها، من جنه أوجن عليه الليل إذا ستره. ومادة الجيم مع النون المشددة دالة على معنى الستر مطلقا كالجن لاستتارهم


(1) المائدة: 59. (2) الصحاح 5: 2045 / نقم. (*)

[ 422 ]

عن الأعين، والجنون لاستتار العقل به، والمجنة والجنة لاستتار الإنسان تحتها في الحرب والمعركة، والجنين لاستتاره في بطن الام، والجنان للقلب لاستتاره في الصدر. والمراد بالجنة جنة البرزخ والآخرة، وكل منهما جنات ثمانية: جنة الفردوس، والجنة العالية، وجنة النعيم، وجنة عدن، وجنة دار السلام، وجنة دار الخلد، وجنة المأوى، وجنة دار المقام، ولكل منها حظيرة هي كالظل لها إلا جنة عدن فلا ظل لها فالحظائر سبعة. وفي الحديث: إن جنان الحظائر يسكنها ثلاث طوائف من الخلائق: مؤمنوا الجن، وأولاد الزنا من المؤمنين، وأولاد أولادهم إلى سبعة أبطن، كما ورد ان ولد الزنا لا ينجب إلى سبعة أبطن، والمجانين الذين لم يجر عليهم التكليف الظاهر، ولم يكن لهم من أقربائهم شفعاء ليلحقوا بهم، وجنة الدنيا هي جنة البرزخ يأوي إليها أرواح المؤمنين إلى أن ينفخ في الصور، وهي المذكورة في قوله تعالى: * (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * (1) إذ ليس في جنان الآخرة بكرة وعشي. وسئل الصادق (عليه السلام) عن جنة آدم (عليه السلام) أمن جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة ؟ فقال (عليه السلام): كانت من جنان الدنيا، تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة لم يدخل فيها إبليس وما خرج منها آدم أبدا (2). واختلف في ان جنة الآخرة مخلوقة الآن أم لا، والأكثر ومنهم المحقق الطوسي في التجريد (3) على القول بوجودها الآن، وعليه شواهد من الكتاب


(1) مريم: 62. (2) تفسير القمي 1: 43، عنه البحار 11: 143 ح 13، وفي الكافي 3: 248 ح 2، وعلل الشرائع: 600 ح 55، والصافي 1: 116، وكنز الدقائق 1: 365. (3) تجريد الإعتقاد: 309، المقصد السادس. (*)

[ 423 ]

والسنة، مثل قوله تعالى: * (اعدت للمتقين) * (1) وفي الأخبار تصريح بخلقها، وان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد دخل جنة الآخرة، ورأى نار الآخرة لما عرج به إلى السماء. * * *


(1) آل عمران: 133. (*)

[ 424 ]

قالت (عليها السلام): وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتبله، واصطفاه قبل أن ابتعثه إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علما من الله تعالى بمائل الامور، واحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الامور، إبتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه. بيان: (محمد) من جملة أسماء نبينا (صلى الله عليه وآله) مشتق من الحمد، والتضعيف للمبالغة، وهو بمعنى كثير الخصال المحمودة، قيل: لم يسم به أحد قبل نبينا (صلى الله عليه وآله)، ألهم الله أهله أن يسموه به. وفي الروضة (1) انه سمي به نبينا (صلى الله عليه وآله) إلهاما من الله تعالى، وتفألا بأنه يكثر حمد الخلق له لكثرة خصاله الحميدة، وقد قيل لجده عبد المطلب - وقد سماه في سابع يوم ولادته لموت أبيه قبلها -: لم سميت إبنك محمدا وليس من أسماء آبائك ولا قومك ؟ فقال: رجوت أن يحمد في السماء والأرض، وقد حقق الله رجاءه. وورد ان اسمه (صلى الله عليه وآله) في الأرض محمد، وفي السماء أحمد، وفي الانجيل فارقليطا بمعنى الفارق بين الحق والباطل، كما ان إسم علي (عليه السلام) فيه إيليا، وقيل ان إسم نبينا (صلى الله عليه وآله) في الانجيل هو أحمد، ولعله إشتباه من قوله تعالى: * (مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) * (2). وذكر ابن الأعرابي: ان لله تعالى ألف إسم وللنبي ألف إسم، ومن أحسنها محمد ومحمود وأحمد.


(1) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 1: 18. (2) الصف: 6. (*)

[ 425 ]

والعبد: قد اشير إلى معناه فيما مر. و (عبد الله) من أشرف ألقاب النبي (صلى الله عليه وآله) وأعلاها، وهو (صلى الله عليه وآله) مظهر العبودية الكاملة التي هي جوهرة كنهها الربوبية، وهي أعلى مرتبة من الرسالة والنبوة، ولذا قدم ذكر العبد في الشهادة هنا وفي تشهد الصلاة وسائر الموارد الكثيرة. وخص ذكره (صلى الله عليه وآله) في آية الاسراء، وهي قوله تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا) * (1) إذ المعراج على النحو المفصل المشهور المشتمل على أعاجيب كثيرة تحير منها العقول، من جملتها السير في دقيقة واحدة في جميع العوالم الكونية الجسمانية، والروحانية، والعقلانية، والدنيا، والبرزخ، والآخرة، ومراتب النهار والجنة مع التفاصيل الواقعة في كل مرحلة لا يخفى لمن تأمل في الأخبار المعراجية، لا يمكن صدوره إلا بجهة ربانية مضمرة في كنه العبودية الكاملة. و (الرسول) فعول بمعنى المفعول من المزيد أي المرسل إلى الغير، وسمى بعض الأنبياء رسولا لكونه مرسلا من جانب الله تعالى إلى الغير برسالة الشريعة، سواء كان ذلك الغير هو أهل بيته، أو أهل بلده، أو قومه، أو قوما مخصوصا، أو جميع الناس، ويقال للأخير اولو العزم أيضا إذا لم تكن شريعته مبتدئة، وهم في الأنبياء خمسة كما نظم: أولو العزم خمس شرفوا بمحمد * على كلهم صلى الإله وسلم فنوح بن ملك والخليل بن تارح * وموسى بن عمران وعيسى بن مريم ومعنى العزم كونه ناسخا لشريعة من قبله، ومؤسسا لشرع آخر لجميع من عاصره من بعده. و (النبي) بالتشديد فعيل إما من النبوة بمعنى الرفعة، ومنه ما قيل: لا تصلوا على النبي أي على المكان المرتفع، أو من النبأ بمعنى الخبر مع قلب الهمزة ياء أو


(1) الاسراء: 1. (*)

[ 426 ]

بدونه، فهو بمعنى المرتفع على غيره، أو بمعنى المخبر عن الله تعالى فعيل بمعنى الفاعل من المزيد، كالسميع بمعنى المسمع أو المستمع أيضا. والنبي في الإصطلاح هو إنسان أوحى إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه، وإن امر بذلك فرسول أيضا، وقيل: النبي هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة بشر، أعم من أن يكون له شريعة كعيسى أو لا كيحيى (عليهما السلام)، وكون الشريعة له أعم من أن تكون شريعة مبتدئة كشريعة آدم، أو ناسخة في الجملة بالنسبة إلى الأزمنة والأشخاص كشريعة غير محمد (صلى الله عليه وآله) من اولي العزم، أو مطلقا كشريعة محمد (صلى الله عليه وآله). وقيل: النبي هو الذي يرى في المنام، ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول هو الذي يعاين الملك أيضا، ولذا قيل هو الذي يأتيه جبرئيل قبلا ويكلمه، وقيل: النبي مخصوص بنوع الإنسان، والرسول قد يكون من الملائكة أيضا لقوله تعالى: * (رسلا اولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع) * (1). وقيل بالتساوي بينهما لظاهر ما روي في الكافي عن الصادق (عليه السلام) انه قال: الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات: فمنهم نبي منبئ في نفسه لما يرى في المنام من الامور الصادقة، فيخبر بها ولا يعدو غيرها، ومنهم من يرى في المنام ويسمع الصوت، ولا يعاين الملك في اليقظة، ولم يبعث إلى أحد من جانب الله سبحانه، وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم (عليه السلام) على لوط. ومنهم نبي يرى في المنام ويسمع الصوت، ويعاين الملك، وقد أرسل إلى طائفة قلوا أو كثروا كيونس (عليه السلام)، قال تعالى: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * (2) أي ثلاثين ألفا وعليه إمام. ومنهم من يرى في منامه، ويسمع الصوت، ويعاين في اليقظة، وهو إمام مثل اولي العزم، وقد كان إبراهيم (عليه السلام) نبيا وليس بإمام حتى قال تعالى: * (إني


(1) فاطر: 1. (2) الصافات: 147. (*)

[ 427 ]

جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) * (1) ومن عبد وثنا لا يكون إماما (2). ومن الطبقة الأخيرة نبينا (صلى الله عليه وآله) حيث قال: إني قد يوحى إلي في المنام، وقد أسمع صلصلة الجرس، أو مثل وقوع السلسلة في الطست، وقد أرى جبرئيل بصورة دحية الكلبي أو غيره، وقد رأيته مرة وقدملأ ما بين المشرق والمغرب. وبالجملة النبي أدون مرتبة من الرسول إذ الرسولية أخص من النبوة، وهي مستلزمة للفضيلة وعلو الرتبة، وكل رسول نبي على المشهور دون عكس القضية. وأصل النبوة عبارة عن اتصال روح القدس بروح إنسان لشدة نورية طينته وقربه من المبدأ الفياض، وهو الملك المؤيد المسدد، وبهذا الإتصال يحصل له المعصومية عن المعصية، والخطأ، والغفلة، والعثار، والزلة في الامور الدنيوية، والاخروية، والعرفية، والشرعية - الاصولية والفروعية -. ويطلق على بيان النبي (صلى الله عليه وآله) الدعوة، وعلى ما ظهر بها ومنها الشريعة، وإذا اضيفت الشريعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) اطلق عليها القانون والناموس أيضا، كما يطلق عليها الطريقة والملة أيضا، وإذا اضيفت إلى الله تعالى سميت بالدين فيقال: دين الله للشريعة التي قررها النبي (صلى الله عليه وآله)، ويطلق على قبولها الإسلام والإيمان. والأنبياء على ما ورد في الأخبار مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، أو بحذف الأربعة، والأول هو المشهور، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أصحاب القائم (عليه السلام)، وعدد أصحاب بدر، ومنهم اولو العزم الخمسة. و (الاختيار) من الخير وهو خلاف الشر، ومنه جزاه الله خيرا، وقوله تعالى:


(1) البقرة: 124. (2) الكافي 1: 174 ح 1، والإختصاص: 22، عنه البحار 25: 206 ح 18،. (*)

[ 428 ]

* (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا) * (1) قال المفسرون: الإختيار إرادة ما هو خير، يقال: خير بين أمرين فاختار أحدهما، والخيرة - بكسر الخاء - إسم من الاختيار كالفدية من الافتداء، والخيرة - بفتح الياء - كذلك كالطيرة من التطير. ويقال أيضا: محمد (صلى الله عليه وآله) خيرة الله من خلقه - بفتح الياء وسكونه بمعنى المفعول - أي مختاره، وأسأل الله برحمته خيرة في عافية أي شيئا مختارا مع عافية العاقبة. وفي النهاية: يقال خار الله لك أي أعطاك ما هو خير لك، والخيرة - بسكون الياء - الإسم منه، فاما بالفتح فهي الإسم من قولك: إختاره الله، ومحمد (صلى الله عليه وآله) خيرة الله من خلقه، يقال بالفتح والسكون. والإستخارة طلب الخيرة في الشئ، وهي إستفعال منه تقول: استخر الله يخر لك، ومنه دعاء الإستخارة: " اللهم خر لي " أي إختر لي أصلح الأمرين واجعل لي الخير فيه (2). والاختيار خلاف الإضطرار خيرا وشرا، أو هو في الخير واستعماله في الشر بملاحظة ان اختياره لا يكون إلا بعد فرضه خيرا ولو بحسب الصورة. و (الإنتجاب) من نجب - بالضم - نجابة، يقال: إنتجبه أي استخلصه، وأصله من النجب - بالتحريك - لحاء الشجر، وبالتسكين مصدر قولك: نجبت الشجرة أنجبها - من باب قتل وضرب - إذا أخذت قشر ساقها، فاستعمل منه النجابة لخلوص الطينة من الرذائل الخلقية، يقال: فلان نجيب أي فاضل كريم سخي، ونجب فلان إذا كان فاضلا نفيسا في نوعه، فالإنتجاب بمعنى الاختيار والإصطفاء من بين النوع لامتيازه عن سائر أفراده بالفضائل الكاملة. و (الإجتبال) من جبله الله على كذا - من باب قتل - واجتبله أيضا للمبالغة أي


(1) الأعراف: 155. (2) النهاية 2: 91 / خير. (*)

[ 429 ]

فطره عليه، وفي الدعاء: " أسألك من خيرها وخير ما جبلت عليه " (1) مجهولا من المجرد، وكذا من التضعيف أيضا للمبالغة. ومنه الجبلة - بكسرتين وتشديد اللام - بمعنى الطبيعة والخليقة، وشئ جبلي أي طبيعي ذاتي، وقوله تعالى: * (الذي خلقكم والجبلة الأولين) * (2) و * (لقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون) * (3) أي خلقا كثيرا، والحاصل من قولها (عليها السلام): (قبل أن اجتبله) أي قبل أن فطره وخلقه. و (اصطفاه) من قولهم: صفا يصفو صفوا وصفآء - بالمد - إذا خلص من الكدر فهو صاف، وصفيته من القذر تصفية أزلته عنه، وأصفيته آثرته، وأصفيته الود أخلصته له، والصفي والصفية ما يصطفيه الرئيس لنفسه. وصفو الشئ - بالفتح - خالصه، والصفوة - بالفتح والكسر - مثله، وهو خيار الشئ وخلاصته وما صفا منه، ومنه: السلام على آدم صفوة الله، وما ورد ان محمدا (صلى الله عليه وآله) صفوة الله. وفي المصباح: ان الصفوة تروى بتثليث الصاد (4)، وبالجملة فيكون اصطفاه بمعنى اختاره، والحاصل ان الله تعالى قد اختار نبينا (صلى الله عليه وآله) من بين خلقه، واصطفاه على خليقته، فهو النبي المصطفى، والأمين الأوفى في الدنيا والاخرى. و (الإبتعاث) من البعث وبمعناه بزيادة المبالغة، يقال: بعثت رسولا وابتعثته أي أرسلته، ويقال في مطاوعته: انبعث، مثل كسرته فانكسر، كما في قوله تعالى: * (إذ انبث أشقاها) * (5) أي مضى لشأنه ذاهبا لقضاء وطره ببعث القوم إياه، أو ببعث نفسه له، وكل شئ ينبعث بنفسه فالفعل يتعدى إليه بنفسه كما ذكر، وكل شئ لا


(1) النهاية 1: 236، ولسان العرب 2: 170 / جبل. (2) الشعراء: 184. (3) يس: 62. (4) المصباح المنير: 343 / صفو. (5) الشمس: 12. (*)

[ 430 ]

ينبعث بنفسه كالكتاب والهدية فإن الفعل يتعدى إليه بالباء، فيقال: بعثت به. وأوجز الفارابي فقال: بعثه أهبه وبعث به وجهه، وفي حديث علي (عليه السلام) يصف النبي (صلى الله عليه وآله): " شهيدك يوم الدين، وبعيثك نعمة " (1) أي مبعوثك الذي بعثته إلى الخلق أي أرسلته، فعيل بمعنى مفعول. ومنه قوله (صلى الله عليه وآله): " والذي بعثني بالحق نبيا " (2) ويستعمل البعث بمعنى الإثارة أيضا، مثل: بعث الله الموتى من قبورهم أي أثارهم وأخرجهم، والحالة البعثة - بالكسر -، والمرة بالفتح. وفي حديث حذيفة: " إن للفتنة بعثات وتهيجات " (3) وفي الحديث: " أتاني الليلة آتيان فابتعثاني " (4) أي أيقظاني من نومي، وهو أيضا راجع بالإعتبار إلى المعنى السابق. و (الغيب) في الأصل مصدر من قولك: غاب الشئ عني غيبا وغيبة وغيابا وغيبوبة إذا ستر وخفي، ثم يطلق الغيب على كل ما غاب عنك مصدرا بمعنى الفاعل، ومنه الغيبة - بالكسر والفتح - أيضا للتكلم في غياب الإنسان وخلفه بما يغمه لو سمعه من الامور الصادقة في حقه، وإن كان ذلك الأمر كذبا فهو بهتان في حقه. وفي حديث وصايا النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أبي ذر: يا أبا ذر إياك والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنا، قال: قلت: جعلت فداك وما الغيبة ؟ قال (صلى الله عليه وآله): أن تذكر أخاك في غيابه بما يكره لو سمعه، قلت: فإن كان فيه ذاك الذى ذكرته به ؟ قال (صلى الله عليه وآله): ذلك هو الغيبة، وإلا فهو بهتان


(1) نهج البلاغة الخطبة: 106، عنه البحار 16: 381 ح 93، والنهاية 1: 138، ولسان العرب 1: 438 / بعث. (2) راجع البحار 8: 163 ح 106. (3) النهاية 1: 138، ولسان العرب 1: 438 / بعث. (4) المصدر نفسه. (*)

[ 431 ]

وهو أشد من الغيبة، قلت: وما وجه أشدية الغيبة من الزنا ؟ قال: لأن الزنا يغفر بالتوبة، والغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها (1). وكل شئ غيب عنك شيئا فهو غيابة، ومنه غيابة الجب - بفتح الغين - أي قعره، والغيابة ما غاب عن أعين الناظرين أيضا. وفي النهاية: قد تكرر ذكر علم الغيب، والإيمان بالغيب في الحديث، وهو كلما غاب عن العيون سواء كان محصلا في القلوب أو غير محصل (2). وقوله تعالى: * (يؤمنون بالغيب) * (3) قيل: يعني بالله لأنه لا يرى، وقيل: بما غاب عن أمر الآخرة وإن كان محصلا في القلوب، إنتهى. ولا يخفى ان لفظ الغيب اطلق في الإستعمالات العرفية على امور كثيرة، والوجه فيه ان الغيب - كما اشير إليه - هو ما غاب وستر عن الإدراك الظاهري أو الباطني، وهو من الامور النسبية، فما وراء الجدار غيب بالنسبة إلى من لا يعلم ما ورائه، وشهادة بالنسبة إلى من كان وراؤه ورآه أو علمه أي شاهده بالعين الظاهرية أو العين الباطنية. وما في هذه البلدة غيب بالنسبة إلى من لا يعلم أو ضاعها وحالاتها، وشهادة بالنسبة إلى من يشاهد الوقائع الحادثة فيها وهكذا، فيكون الغيوب بالنسبة إلى الأشخاص مختلفة متفاوتة، وكذلك الشهادة، فالأمر القلبي بالنسبة إلى الجاهل به غيب، وبالنسبة إلى العالم به شهادة، وكذا كل من الامور الدنيوية، والبرزخية، والاخروية، والأرضية، والسماوية، والجن، والملائكة، والنار، والجنة. والله تعالى هو الغيب المطلق، وهو غيب الغيوب الذي لا يدركه أحد بالمرة، والشئ في حال عدمه غيب كما أنه في حال وجوده شهادة، والعدم بمنزلة الستر على الشئ والكن الحاجب له، فيكون العدم عالم الغيب باعتبار والوجود عالم


(1) مكارم الأخلاق: 470، عنه البحار 77: 91 ح 2 بإختلاف يسير. (2) النهاية 3: 399 / غيب. (3) البقرة: 3. (*)

[ 432 ]

الشهادة، كما ان ما وراء الجدار غيب وما دونه الشهادة. وكل مكان لا تعلم ما فيه ولا تشاهده فهو عالم الغيب باعتبار، والمكان المشاهد فيه الشئ في نظرك عالم الشهادة، والبرزخ عالم الغيب لأهل الدنيا، والدنيا عالم الشهادة، وكذلك الآخرة بالنسبة إلى أهل البرزخ، وهكذا حال جميع العوالم الإلهية، فتكثر حينئذ وتختلف العوالم الغيبية والشهودية، وهو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم بمعنى عالم كل غيب وشهادة بخلاف غيره. و (المكنونة) من الكن بمعنى السترة، واحد الأكنان في قوله تعالى: * (وجعل لكم من الجبال أكنانا) * (1) ومنه كن الرجل بمعنى بيته ومنزله لاكتنانه فيه، وفي المقامات الحريرية: (بيني وبين كنى ليل وأمسى وطريق طامس) والأكنة جمع كنان بمعنى الغطاء كقوله تعالى: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) * (2) أي أغطية، ومنه كنانة لجعبة السهام لاستتارها فيها، وكننت الشئ سترته وصنته من الشمس وأكننته في نفسي، قال أبو زيد: كننته وأكننته في الكن والنفس جميعا بمعنى، فهو مكنون ومكن (3). وبيض مكنون أي مصون عن اللمس، ونحوه كتاب مكنون أي محفوظ ومستور عن الخلق، وكون الخلائق بالغيب مكنونة كناية عن كونها معدومة، وسيظهر لك وجه هذه الكناية. و (الستر) بالكسر واحد الستور والإستار، والسترة - بالضم - ما يستتر به كالغرفة، وكذلك الستارة - بالكسر والتخفيف - وفعالة وزن مشهور لما يفعل به كاللفافة والكناية والعمامة والستارة وغيرها، وقد يحذف التاء كاللباس والكتاب والستار، ونظيرها فعالة - بالضم - لما يفعل كالجعالة والقمامة والكناسة، وروي


(1) النحل: 81. (2) الاسراء: 46. (3) راجع لسان العرب 12: 172 / كنن. (*)

[ 433 ]

الجعالة ونحوها بكسر الجيم أيضا، وقيل في كل ما هو كذلك بالتثليث، والإستارة أيضا بالهمزة المكسورة كالستارة. قال في النهاية: وفيه أيما رجل أغلق بابه على امرأته، وأرخى [ دونها ] إستارة فقد تم صداقها، الإستارة من الستر كالستارة، وهي كالإعظامة في العظامة، قيل: لم تستعمل إلا في الحديث، ولو رويت إستاره - جمع ستر مضافا إلى الضمير - لكان حسنا (1). والستر - بالفتح - مصدر ستره يستره سترا - من باب قتل - إذا غطاه، فهو ساتر وذاك مستور، ومنه قوله تعالى: * (حجابا مستورا) * (2) أي حجابا على حجاب كأن أحدهما مستور بالآخر كناية عن كثافة الحجاب، لأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا، وقيل: هو مفعول جاء بمعنى الفاعل كما في قوله تعالى: * (إنه كان وعده مأتيا) * (3) أي آتيا. قال بعضهم: جاء المفعول بمعنى الفاعل في الكتاب العزيز في ثلاثة مواضع: قوله: * (حجابا مستورا) * و * (وعده مأتيا) * و * (جزاء موفورا) * (4) وبالعكس كذلك، وهي قوله تعالى: * (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) * (5) و * (ماء دافق) * (6) و * (عيشة راضية) * (7)، ومن غير الكتاب: سر كاتم، ومكان عامر، وليل قائم، ونهار صائم، واورد على الحصرين بقوله تعالى: * (حجرا محجورا) * (8) بمعنى حاجرا، و * (حرما آمنا) * (9) بمعنى مأمونا.


(1) النهاية 2: 341 / ستر. (2) الإسراء: 45. (3) مريم: 61. (4) الإسراء: 63. (5) هود: 43. (6) الطارق: 6. (7) الحاقة: 21. (8) الفرقان: 22. (9) القصص: 57. (*)

[ 434 ]

والحق عندي أن يكون مستورا في الآية بمعنى المفعول لا على نحو ما ذكر، بل بمعنى كونه مستورا عن أعين الناس لعدم كونه من الحجب الجسمانية، و (جزاء موفورا) بمعنى كونه مرغوبا فيه، و (مأتيا) بمعنى المفعول من أتيت الأمر بمعنى فعلته، و (محجورا) بمعنى محجور به، كما يقال: المشترك بمعنى المشترك فيه، والمستقر بمعنى المستقر فيه بحذف الصلة. وإن إسم الفاعل في جميع ما ذكر في معناه الأصلي أيضا لكن ما باب النسبة، وهو باب واسع ذكره الصرفيون، ومنهم ابن حاجب في الشافية، بمعنى ذي كذا وذات كذا، فيكون عاصم بمعنى ذي عصمة، ودافق بمعنى ذي الدفق، وراضية بمعنى ذات الرضا، وهكذا البواقي نظير لابن، وتامر، ودارع، وعاشق، وضامر ونحو ذلك، فيكون جامدا يستوي فيه المذكر والمؤنث، ومنه الحائض والطالق على أحسن الوجوه الثلاثة التي مرت إليها الإشارة. و (الأهاويل) جمع أهوال جمع هول بمعنى الخوف والأمر الشديد من هاله الشئ يهوله هولا أفزعه، فهو هائل وذاك مهول، وفي الحديث: " المال رزق هائل " ومكان مهيل أي مخوف. وهذه الفقرة أيضا كناية عن كون الأشياء معدومة، بتقريب فرض ان ظلمات العدم كانت امورا موحشة مفزعة لمن رام أن يدخلها، ويطلع على الأشياء التي كانت فيها، فصارت محفوظة عن وصول الأيدي إليها بما دونها من الظلمات الحاجبة الموحشة المفزعة، والإضافة في ستر الأهاويل بيانية بمعنى من، أو ظرفية بمعنى في، مثل قوله تعالى: * (بل مكر الليل والنهار) * (1). وقال بعض الفضلاء في معنى الفقرة: لعل المراد بالستر ستر الاعدام، أو حجب الأصلاب والأرحام، ونسبته إلى الأهاويل لما يلحق الأشياء في تلك الأحوال من موانع الوجود وعوائقه.


(1) سبأ: 33. (*)

[ 435 ]

ويحتمل أن يكون المراد أنها كانت مصونة عن الأهاويل بستر العدم، إذ هي انما تلحقها بعد الوجود، وقيل: التعبير بالأهاويل من قبيل التعبير عن درجات العدم بالستور وبالظلمات. و (نهاية) الشئ ما ينتهى إليه وهي غايته أي أقصاه وآخره، ونهاية الدار حدودها وهي أقاصيها وأواخرها، وانتهى الأمر أي بلغ النهاية، وهي أقصى ما يمكن أن يبلغه. وقوله تعالى: * (إن إلى ربك المنتهى) * (1) قيل: معناه إذا انتهى الكلام إليه فانتهوا، وتكلموا فيما دون العرش ولا تكلموا فوقه، فإن قوما تكلموا فيما فوق العرش فتاهت عقولهم، وله معان اخر يعرفها أهلها. وسدرة المنتهى أي سدرة ينتهى بالوصول إليها، ولا يتجاوزها علم الخلائق من البر والملائكة، ولا يتجاوزها أحد من الملائكة والرسل، مفتعل من النهاية بمعنى الغاية. وأصل النهاية من النهى، إذ غاية الشئ لا يبلغ إليها غالبا، فكأنها منهي عنها، ونهاية العدم أبعد مراتبه المفروضة، وكون الأشياء مقرونة بنهاية العدم كونها أبعد من الوجود في الغاية، وان بينها وبين الوجود غاية النهاية، وهذه أيضا كناية بليغة عن كونها معدومة. قولها (عليها السلام): " علما من الله بمائل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور ". المائل فاعل من مال عن الطريق يميل ميلا أي حاد عنه وانحرف، والمائل الأمر الغير المستقيم، والمراد ان الله تعالى سمى نبيه أي قرر خلقته، وعينه باسمه ورسمه لهداية خلقه لعلمه بعدم استقامة امور خلقه بدونه، وانهم يضلون الطريق بدون الإستضاءة بنوره.


(1) النجم: 42. (*)

[ 436 ]

وفي بعض النسخ: (بمال الامور) بمعنى المرجع أي كان الله يعلم ما يرجع إليه امور الخلق من الإنحراف عن الجادة المستقيمة، وسلوك طريق الغواية والضلالة، فسماه على نحو ما مرت إليه الإشارة ليكون مرجعا للامة بل جميع الخليقة في امورهم الدنيوية والاخروية، وقرئ بمآئل الامور جمع المآل بمعنى عواقبها، وهو أيضا راجع إلى السابق إلا ان فيه إشارة إلى ان لكل أمر مرجعا بخصوصه بملاحظة حال نفسه، فيتعدد المرجع بتعدد الأمر. و (الامور) جمع الأمر، والأمر في اللغة يستعمل إسما ومصدرا، أما الأمر الإسمي وهو المراد هنا فيستعمل بمعنى الفعل والحال والشأن ونحو ذلك، مثل قوله (عليه السلام): (إن أمرنا صعب مستصعب) (1) أي شأننا، وقال تعالى: * (وما أمرنا إلا واحدة) * (2) أي فعلنا، وقولهم: أمورهم مشوشة أي حالاتهم، ويجمع هذا على امور. وأما الأمر المصدري فهو بمعنى الطلب الحتمي المفيد للوجوب، يقال: أمرته بكذا أي طلبته منه طلبا حتميا، فأنا آمر وذاك مأمور، ومدخول الباء مأمور به، وهو في العرف بمعنى طلب فعل بالقول أو مطلقا من العالي أو المستعلي أو العالي المستعلي، ويطلق الأمر على نفس ذلك القول. وفي الإصطلاح إسم لهيئة افعل وما ضاهاه، ويجمع الأمر في تلك المعاني الأخيرة على أوامر، وهو ليس بصحيح من حيث القياس، إذ القياس في جمع فعل الصحيح الوسط فعول وأفعل كفلس وفلوس وأفلس، وانما الفواعل جمع فاعلة وفاعل إذا لم يكن وصفا للمذكر العاقل، فقيل حينئذ في وجه جمعه على كذا انه جمع كذا على غير قياس، فرقا بينه وبين الأمر بمعنى الفعل ونحوه. قيل: إن الأمر بمعنى الامرة لأن الامرة أيضا كالأمر مصدر، كما ذكروا في كتب اللغة، كالعافية والكاذبة والباقية ونحوها على وجه، فجمع الأمر جمع الامرة


(1) راجع البحار 2: 182، باب ان حديثهم (عليهم السلام) صعب مستصعب. (2) القمر: 50. (*)

[ 437 ]

لكونهما بمعنى واحد. وقيل: إن الأمر مأمور به ثم حول المفعول إلى فاعل، كما قيل: أمر عارف وأصله معروف، وعيشة راضية والأصل مرضية إلى غير ذلك، ثم جمع فاعل على فواعل فأوامر جمع مأمور، ذكره في المصباح (1). وقيل: إن الأمر لما كان سببا لانبعاث المأمور فكان كأنه آمر فجمع على أوامر، وتجري تلك الوجوه في النواهي أيضا. وبالجملة فقد يقال في الأمر: أمرة، مثل قولهم: لك علي أمرة مطاعة أي أمرة اطيعك فيها، وهي المرة الواحدة من الأمر، ولا يقال إمرة - بالكسر - وإنما الإمرة - بالكسر - من الولاية كالإمارة - بكسر الهمزة - وإما الأمارة - بالفتح - فهي بمعنى العلامة فهي مثلها لفظا ومعنى. والأمير هو ذو الأمر، وهو دال على الإستمرار والمبالغة باعتبار عموم متعلقه في الجملة أي متعلق حكمه، ولهذا كان الأمير غير الآمر، إذ قد يكون واحد من الرعية آمرا بالنسبة إلى غلامه مثلا، فلا يطلق عليه انه أمير إلا مجازا، والتأمير تولية الإمارة، يقال: أمير مؤمر، وائتمر الأمر أي إمتثله. وفي الدعاء: " فهي بمشيتك [ أي الأشياء بمشيتك ] دون قولك مؤتمرة " (2) أي عند قولك، أولا حاجة إلى القول بل هي مؤتمرة بمجرد مشيتك، وكذا الكلام في قوله (عليه السلام): " وبإرادتك دون نهيك منزجرة " (3). والمؤامرة المشاورة من مادة الأمر، كأن أحد المؤامرين يطلب من الآخر الأمر بما يراه مصلحة، وكذا الإستيمار والائتمار، وأمرهم الله فامروا أي كثرهم فكثروا، ومنه على وجه قوله تعالى: * (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) * (4) ويمكن أخذه من الأمر بالمعنى السابق المشهور على سبيل اعتبار


(1) المصباح المنير: 21 / الأمر. (2) مهج الدعوات: 272، عنه البحار 95: 229 ح 27. (3) المصدر نفسه. (4) الاسراء: 16. (*)

[ 438 ]

المجاز أو الكناية. قيل: وليس من الأمر بنفس المعنى المذكور، وإلا فإن الله تعالى لا يأمر بالفسق والعصيان، وإنما يأمر بالعدل والإحسان، وايتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. وقيل: يصح الأمر بالمعنى المذكور هنا لكن باعتبار معنى الأمر الحتمي لا العزمي بحسب اقتضاء القابليات، واستعداد الماهيات، أو المراد من الأمر عدم النهي على سبيل العزم والقهر، وذلك بتخلية السبيل التي تسمى بالخذلان المقابل للتوفيق، فإن اطلاق الأمر على مثله مشهور، وان السفيه إذا لم ينه مأمور، أو المراد تهيئة الأسباب المؤدية إلى الفسق لكن لا قهرا وجبرا بل بسوء اختيارهم، أو المراد انا أمرناهم بالطاعة فترتب عليه انهم فسقوا، ونحو ذلك. قال في النهاية: وفي حديث أبي سفيان: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أي كثر أو ارتفع شأنه، يعني النبي (صلى الله عليه وآله)، إنتهى (1). وفي خبر آخر منه: لقد عظم ملك ابن أبي كبشة. وكان المشركون ينسبون النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أبي كبشة، وكان أبو كبشة رجلا من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان وعبد الشعرى، فلما خالفهم النبي (صلى الله عليه وآله) في عبادة الأوثان شبهوه به. وقيل: هو نسبة إلى جد النبي (صلى الله عليه وآله) لامه أي هو كنية جده لامه وهب بن عبد مناف، فأرادوا انه (صلى الله عليه وآله) نزع إليه في الشبه والصورة، وقيل: أبو كبشة كنية زوج مرضعته حليمة السعدية، أو كنية أخى زوجها. وبالجملة فكانوا يطلقون على النبي (صلى الله عليه وآله) إبن أبي كبشة، وربما كانوا يقولون ابن كبشة مرخما من ابن أبي كبشة، أو مرادا بكبشة جده عبد المطلب لكونه رئيس القوم في مكة، وكان له عظمة ونباهة وهيبة وجلالة.


(1) النهاية 4: 144 / كبش. (*)

[ 439 ]

قال أبو بكر في أبياته المشهورة الدالة على عدم اعتقاده باطنا بصدق دعوة النبي (صلى الله عليه وآله)، والمصرحة عن نفاقه وكفره، حيث كان يشرب الخمر في أثناء رمضان تاركا لصومه، فنهته امرأته عن ذلك، فقال في جملة أبيات أنشأها: ذريني أصطبح يا ام بكر * فإن الموت نقب عن هشام ونفث عن أبيك وكان قرما * شديد البأس في شرب المدام يخبرنا ابن كبشة أن سنحيى * وكيف حياة أشلاء رمام ألا هل مبلغ الرحمان عني * باني تارك شهر الصيام وتارك كل ما أوحى إلينا * محمد من زخاريف الكلام فقل لله يمنعني شرابي * وقل لله يمنعني طعامي ولكن الحكيم رأى حميرا * فألجمها فتاهت في اللجام (1) أنشد ديك الجن هذه الأبيات لأبي بكر في إثبات كفره عند المتوكل الخليفة، كما أنشد بعض أبيات اخر أيضا مما يدل كل جملة منها على كفر قائلها، من عمر ومعاوية ويزيد وغير ذلك، والقصة طويلة. وام بكر كنية زوجة ابي بكر بمناسبة كنية نفسه بابي بكر، وكان كنيته الأصلية في الجاهلية أبو الفصيل، فلما أسلم ظاهرا كناه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأبي بكر، وأصل إسمه عبد الله بن عثمان، وعثمان هو إسم أبي قحافة كنية أبي أبي بكر، وعليه يترتب ما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: آه من يوم تظلم فيه الأعين العين، مرادا بالأعين الخلفاء الثلاثة، لأن أول إسم كل واحد منهم حرف العين، والمراد من العين المظلومة هو علي (عليه السلام). والإحاطة من قولهم: أحاط به علمه، وحاط به علما أي أدرك جميع ما يدرك


(1) راجع الهداية للحضيني: 102، وإرشاد القلوب 2: 267، عنه البحار 29: 35، ح 18، ومدينة المعاجز 3: 14 ح 693. (*)

[ 440 ]

منه، وأحدق به من جميع جهاته، أو عرفه ظاهرا أو باطنا مبالغة في العلم والإدراك. وأصلها من حاطه يحوطه حوطا وحيطة وحياطة أي كلأه ورعاه، وحاط الجدار على البيت أي دار عليه فهو حائط، ويطلق الحائط على البستان أيضا لذلك، وكذلك حوط تحويطا للمبالغة، ومنه الاحتياط. وفي حديث علي (عليه السلام) لكميل: (أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت) (1)، والاحاطة القدرة الكاملة أيضا، وبمعنى الحفظ والحماية، ومنه: (اللهم اجعلنا في حياطتك). والمحيط من أسماء الله تعالى مشتق من الإحاطة المذكورة العلمية، ويجوز أن يكون بمعنى القادر المطلق أو الحافظ الحامي لخلقه. والحوادث جمع الحادثة بمعنى الواقعة والملمة، لحدوثها بعد أن لم تكن، من الحديث بمعنى الجديد خلاف القديم، من قولهم: حدث الأمر حدوثا أي تجدد - من باب قتل - فهو حادث وحديث، ومنه قوله (صلى الله عليه وآله) لعائشة: لولا قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة، وجعلت لها بابين على ما كان في عهد إبراهيم (2). والحدثان - بكسر الحاء - بالمعنى المذكور أيضا أي الحوادث، ومن هذه المادة إطلاق الحديث على الخبر لحدوثه جديدا، وجمعه على أحاديث على غير قياس، قال الفراء: ونرى انها جمع الاحدوثة كالأعاجيب والأضاحيك ونحوهما، ومنه قوله تعالى: * (فجعلناهم أحاديث) * (3) أي عفينا آثارهم فلم يبق بين الناس إلا أخبارهم يحدثون بها.


(1) أمالي الطوسي: 110 ح 168 مجلس 4، عنه البحار 2: 258 ح 4، والوسائل 18: 123 ح 41. (2) النهاية 1: 350، ولسان العرب 3: 75 / حدث، صدر الحديث فقط. (3) سبأ: 19. (*)

[ 441 ]

وحوادث الدهور: الحادثات الواقعة في الأزمنة، وكل زمان دهر من الدهور، وقد مر معنى الدهر، وفي كل دهر حوادث مختصة به، ويدخل في تلك الحوادث إنقلابات أوضاع الخلق في حيرتهم وضلالتهم الموجبة لبعث رسول إليهم يتلو آيات الله عليهم. والمعرفة من عرفته عرفة وعرفانا - بالكسر - قال في المصباح: علمته بحاسة من الحواس الخمس، والمعرفة إسم منه، ويتعدى بالتثقيل فيقال: عرفته به فعرفه - من باب ضرب - فهو عارف وعريف (1). والعريف: النقيب أيضا، وهو دون الرئيس، وهو القيم بامور القبيلة، والجمع عرفاء، ومنه الخبر: (العرفاء في النار) (2) من عرف عرافة من باب شرف، وإذا أردت أنه عمل بذلك قلت: عرف فلان علينا سنين من باب نصر، ومن هذه المادة التعريف بمعنى الإعلام وإنشاد الضالة ونحو ذلك، كتعريف المحدودات ونحوها. وفي الخبر: (من عرف الله كل لسانه) من عرفت الشئ - من باب ضرب - أي أدركته، قيل: والمعرفة قد يراد بها العلم بالجزئيات المدركة بالحواس الخمسة، كما يقال: عرفت الشئ إذا علمته بإحدى الحواس الخمسة، وقد يراد بها إدراك الجزئي والبسيط المجرد من الإدراك المذكور، كما يقال: عفرت الله دون علمته، لأن العلم مفسر بمعان مختلفة لا يخلو شئ منها من إعتبار إدراك الصورة. وقد يراد بها الإدراك المسبوق بالعدم، وقد يطلق على الإدراك الأخير من الإدراكين إذا تخلل بينهما عدم، كما لو عرفت الشئ ثم ذهلت عنه ثم أدركته ثانيا، وباعتبار المعنيين الأخيرين والمعنى الأول لا يقال: الله عارف، بل يقال عالم من العلم بمعنى الحكم بالشئ إيجابا وسلبا، أو بمعنى إدراك الصورة، أو الصورة الحاصلة، أو غير ذلك. وكل ذلك بالنسبة إلى الله انما يتصور في ملكه لا نفسه، بالعلم الحادث لا


(1) المصباح المنير: 404 / عرفته. (2) النهاية 3: 218، ولسان العرب 9: 154 / عرف. (*)

[ 442 ]

القديم، فإن علمه القديم هو ذاته العالية عن المقامات الماضية، والمراد من معرفة الله كما قيل الإطلاع على نعوته وصفاته الجلالية بقدر الطاقة البشرية، وأما الإطلاع على الذات المقدسة فمما لا مطمع فيه لأحد. قال سلطان المحققين الطوسي (رحمه الله): إن مراتب المعرفة بالله تعرف بملاحظة مراتب معرفة النار مثلا، فإن لمعرفتها مراتب أدناها معرفة من سمع ان في الوجود شيئا يعدم كل شئ يلاقيه، ويظهر أثره في كل شئ يحاذيه، ويسمى ذلك الموجود نارا. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله معرفة المقلدين الذين صدقوا بالدين من غير وقوف على الحجة، وأعلى منها مرتبة معرفة من وصل إليه دخان النار، وعلم انه لابد له من مؤثر، فحكم بذات لها أثر هو الدخان. ونظير هذه المعرفة في معرفة الله معرفة أهل النظر والإستدلال الذين حكموا بالبراهين القاطعة على وجود الصانع، وأعلى منها مرتبة معرفة من أحس بالنار بسبب مجاورتها، وشاهد الموجودات بنورها، وانتفع بذلك الأثر، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله معرفة المؤمنين المخلصين الذين اطمأنت قلوبهم بالله، وتيقنوا ان الله نور السماوات والأرض، كما وصف به نفسه. وأعلى منها مرتبة معرفة من احترق بالنار بكليته، وتلاشى فيها بجملته، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله معرفة أهل الشهود والفناء في الله، وهي الدرجة العليا والمرتبة القصوى، رزقنا الله الوصول إليها، والوقوف عليها بمنه وكرمه، إنتهى (1). وفي الخبر عن علي (عليه السلام): (لا آخذ بقول عراف ولا قائف) (2) والعراف مثل المنجم والكاهن يستدل على معرفة المسروق والضالة بكلام أو فعل، وقيل: العراف يخبر عن الماضي والكاهن يخبر عن الماضي والمستقبل معا. ومعروف الكرخي من أصحاب الصادق (عليه السلام)، ومن حديثه انه قال


(1) راجع مجمع البحرين / عرف، والأربعون حديث للبهائي: 81 الحديث الثاني. (2) من لا يحضره الفقيه 3: 50 ح 3306، عنه الوسائل 18: 278 ح 4. (*)

[ 443 ]

له: أوصني يا ابن رسول الله، قال (عليه السلام): قلل معارفك، قال: ثم أوصني يا ابن رسول الله، قال (عليه السلام): أنكر من عرفت منهم (1). والمعروف هو الخير لكونه معروفا عند أهل الله بخلاف المنكر، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد مرت الإشارة إلى تفصيل المقام، وفي الخبر: (ان المعروف بقدر المعرفة) (2) أي ليعط النعمة والإحسان للشخص بقدر معرفته، كما ان الله لا يجازي بعمل الخير من الإنسان إلا بقدر معرفته. قال في النهاية: قد تكرر ذكر المعروف في الحديث، وهو إسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه، والمعروف أيضا النصفة، وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم من الناس، والمنكر ضد ذلك جميعه. ومنه الحديث: أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، أي من بذل معروفه للناس في الدنيا آتاه الله جزاء معروفه في الآخرة، وقيل: أراد من بذل جاهه لأصحاب الجرائم التي لا تبلغ الحدود فيشفع فيهم، شفعه الله في أهل التوحيد في الآخرة. وروى عن ابن عباس في معناه قال: يأتي أصحاب المعروف في الدنيا يوم القيامة فيغفر لهم بمعروفهم وتبقى حسناتهم جملة، فيعطونها لمن زادت سيئاته على حسناته فيغفر له ويدخل الجنة، فيجتمع لهم الإحسان إلى الناس في الدنيا والآخرة (3). والموقع: محل وقوع الشئ وزمانه، والمراد من المقدور الامور المقدورة، مفرد في معنى الجمع باعتبار اللام الموصولة، التي يستوي فيها المفرد والتثنية


(1) التحصين: 11 ح 21، عنه مستدرك الوسائل 11: 387 ح 16. (2) جامع الأخبار: 382 ح 1069، باب 96، عنه البحار 44: 196 ح 11. (3) النهاية 3: 216، ولسان العرب 9: 155 / عرف. (*)

[ 444 ]

والجمع والمذكر والمؤنث معنى وضميرا، واللام للجنس باعتبار معنى الثبوت المبعد لها عن الموصولية، والجنس يقع على القليل والكثير، أو للإستغراق، وعلى أي تقدير ففيه معنى الجمعية بملاحظة جمعية لفظ المواقع، مع ان معرفته تعالى لا تنحصر بمواقع شئ واحد مقدور، بل هو تعالى يعرف مواقع جميع الامور المقدورة فيضع كل شئ في موضعه بمقتضى الحكمة، أو المراد معرفته تعالى بما يصلح وينبغي من أزمنة الامور الممكنة المقدورة. ويحتمل أن يكون المراد بالمقدور المقدر، كما في قوله تعالى: * (وكان أمر الله قدرا مقدورا) * (1) بل هو أظهر من حيث المعنى وإن كان بعيدا لفظا. قولها (عليها السلام): " إتماما لأمره... الخ ". أي إتماما للحكمة التي خلق الأشياء لأجلها، وهي تحصيل المعرفة والعبادة، والفوز بدرجات الجنة والفيوض الاخروية. والعزم: هو تأكد الإرادة، وأصله بمعنى الجزم والجد والإجتهاد والقوة والصبر، ومنه قوله تعالى: * (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) * (2) مرادا بهم اولو العزم بالمعنى اللغوي لا الإصطلاحي الذي مرت إليه الإشارة، أي المراد بالعزم هنا الصبر لا كون النبي (صلى الله عليه وآله) صاحب عزم وشريعة ناسخة لشريعة من تقدمه. قيل: واولو العزم هنا ستة: نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق على الذبح، ويعقوب على فقد الولد وذهاب البصر، ويوسف في البئر والسجن، وأيوب على الضر، وفي القاموس: هم نوح، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، ومحمد (صلى الله عليه وآله) (3). وقيل: سموا اولي العزم لأنه تعالى عهد إليهم في محمد (صلى الله عليه وآله)


(1) الأحزاب: 38. (2) الأحقاف: 35. (3) القاموس المحيط: 1468 / عزم، باختلاف. (*)

[ 445 ]

والأوصياء من بعده والقائم وسيرته، فأجمع عزمهم على ان ذلك كذلك، أو لأنهم بعثوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وجنها وإنسها، أو لكونهم اولي الجد والثبات والصبر، وبعض هذه الوجوه من باب الإشتباه بين المعنى اللغوي والإصطلاحي. وفي الخبر: (عرفت الله بفسخ العزائم، ونقض الهمم أو حل العقود) (1) أي نظرت في أحوال نفسي واني ربما أعزم وأعقد قلبي على أمر، ثم ينحل العقد من غير تجدد موجب لذلك، فأعلم بهذا النظر من هذين الأمرين ان هذا من مقلب القلوب والأبصار، ومدبر الليل والنهار أي بيده تعالى أزمتها، وكلها مسخرة في يمينه برمتها، فنحو هذا هو الطريق إلى معرفته تعالى. وفي الخبر: (لا خير في عزم بغير حزم، فإن القوة إذا لم يكن معها حذر أورطت صاحبها) (2)، وقوله تعالى: * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) * (3) أي رأيا معزوما عليه، من عزمت عزما وعزيمة إذا أردت فعلا وقطعت عليه، وعن الباقر (عليه السلام) قال: عهد الله إليه في محمد والأئمة من بعده فترك، ولم يكن له عزم انهم هكذا (4). وفي الحديث: (الزكاة عزمة من عزمات الله) (5) أي حق من حقوقه فهو واجب من واجباته، عزم عليها فهي بمعنى المعزوم عليها، وكذلك العزيمة فعيلة بمعنى مفعولة، كما في حديث ابن مسعود: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه (6). وسور العزائم هي السور التي فيها السجدات الواجبة، وهي أربعة مشهورة،


(1) نهج البلاغة، قصار الحكم: 250، عنه البحار 5: 197 ح 10. (2) النهاية 3: 232 / لسان العرب 9: 193 / عزم. (3) طه: 115. (4) علل الشرائع: 122 ح 1، عنه البحار 11: 35 ح 31، وانظر الكافي 1: 416 ح 22، وبصائر الدرجات 90 ح 1، وتفسير القمي 2: 66، والصافي 3: 323، وكنز الدقائق 8: 360. (5) مجمع البحرين / عزم، والنهاية 3: 232 / عزم. (6) النهاية 3: 232، ولسان العرب 9: 193 / عزم. (*)

[ 446 ]

وقد يقال العزيمة لنفس السورة، والعزيمة في الأصل هنا كانت أولا إسما لنفس السجدة الواجبة بقراءة آيتها، ثم اطلقت على الآية بعلاقة المسببية والسببية، ثم استعملت من الآية بعد غلبتها فيها في تمام السورة بعلاقة الجزئية والكلية. وقد تكون العزيمة مصدرا بمعنى العزم - كما اشير إليه فيما مر - على وزن مهيلة، فإن نحو ذلك وارد في أوزان المصدر أيضا، والمعنى المصدري هو المراد منها في الخطبة. والمراد من الحكم هنا هو المعنى المصدري أيضا، أو إسم المصدر أو المحكوم به، ومعنى الحكم هو القضاء وأصله المنع على ما ذكر في المصباح (1)، يقال: حكمت عليه بكذا إذا منعته من خلافه، فلم يقدر على الخروج من ذلك، وحكمت بين القوم فصلت بينهم. والمراد من حكم الله هنا ما حكم به من أمر السعادة، والشقاوة، والهداية، والضلالة، والدنيا، والآخرة ونحو ذلك ولو بحسب الإستعدادات الجبلية، والقابليات الأصلية. والإنفاذ: افعال من نفذ السهم من الرمية إذا خرقها وخرج منها إلى ورائها، ونفذت الكتاب إلى فلان وأنفذته أي أرسلته إليه، والتنفيذ مثله، ورجل نافذ في أمره أي ماض جار، وأمره نافذ أي مطاع. قال تعالى: * (يا معشر الجن والإنس ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) * (2). المعنى: أيها الثقلان إن استطعتم أن تهربوا من قضائي، وتخرجوا من أرضي وسمائي، فاهربوا وافعلوا، ثم قال: لا تقدرون على النفاذ من نواحيها وأقطارها إلا بسلطان أي بقهر وقوة وغلبة، وأنى لكم ذلك، وبالجملة المراد من الإنفاذ هنا


(1) المصباح المنير: 145 / الحكم. (2) الرحمن: 33. (*)

[ 447 ]

الإجراء والإمضاء. والحتم هو احكام الأمر، وبمعنى القضاء، وحتمت عليه الشئ حتما أوجبته وجوبا لا يمكن إسقاطه، والحتم الأمر المحتوم أيضا، والإضافة في (مقادير حتمه) على ما قال الفاضل المجلسي (1)، هي من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة أي مقاديره المحتومة، وهذا بناء على جعل الحتم بمعنى المحتوم، ومستعملا في معنى الجمع لكونه مصدرا في الصورة. ويجوز أن تجعل لامية أي المقادير التي لحتمه، بمعنى كونها صادرة عن حتمه، وجعل المقادير مستندة إلى الحتم بمعنى الوجوب والثبوت: ان صدور هذه المقدرات انما هو بمقتضى القابليات والإستعدادات، فتكون حينئذ إختيارية لا قهرية واجبارية، لتكون من باب العزم الرافع للعقاب، والحتم الدافع للحساب والكتاب. * * *


(1) البحار 29: 255. (*)

[ 448 ]

قالت (عليها السلام): " فرأى الامم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم الى الصراط المستقيم ". بيان: (الامم) جمع امة كغرف وغرفة، وهي هنا بمعنى الجماعة كما فسر في اللغة أيضا بذلك، قال الأخفش: هي في اللفظ مفرد وفي المعنى جمع (1). وجاءت الامة في الكتاب العزيز على وجوه، بمعنى الجماعة مثل قوله تعالى: * (ولما ورد ماء مدين وجد عليه امة من الناس يسقون) * (2) أي جماعة، وهي أصل المعنى من جهة ان المتخلف عنها يأمها، فهي مأمومة يأمها ويقصدها كل من تخلف عنها وانفرد منها فيتبعها، أو ان الامة بمعنى الفاعل أي الجماعة التابعة لرئيسها، ومنه إطلاق الامة على أتباع كل نبي، وإن كان في عصره ولم يتبعه فليس من امته. وبمعنى رجل جامع للخير يقتدى به، مثل قوله تعالى: * (إن إبراهيم كان امة قانتا لله) * (3) وفي حديث قس بن ساعدة (إنه يبعث يوم القيامة امة واحدة) (4). قال في النهاية: الامة الرجل المتفرد بدين كقوله تعالى: * (إن إبراهيم كان امة قانتا لله) * (5). وبمعنى الدين والطريقة، لأنه جماعة من الأحكام متبعة مقصودة، مثل قوله


(1) راجع لسان العرب 1: 216 / أمم. (2) القصص: 23. (3) النحل: 120. (4) النهاية 1: 68، ولسان العرب 1: 215 / أمم، والبحار 15: 157. (5) النهاية 1: 68 / أمم. (*)

[ 449 ]

تعالى: * (إنا وجدنا آباءنا على امة) * (1) وبمعنى حين وزمان أي قطعة مشتملة على أجزاء منه، مثل قوله تعالى: * (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى امة معدودة) * (2). وبمعنى الجيل من الناس والحيوان، وكل جنس منهما، مثل قوله تعالى: * (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا امم أمثالكم) * (3) ومنه الخبر: " لولا ان الكلاب امة تسبح الله لأمرت بقتلها "، والامة جميع الناس أيضا، مثل قوله تعالى: * (وما كان الناس إلا امة واحدة فاختلفوا) * (4) أي جماعة واحدة قبل بعث الأنبياء فاختلفوا بعده. وفي كتاب الملل والنحل: إن الضابط في تقسيم الامم أن نقول: من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول وهم السوفسطائية، ومنهم من يقول بالمعقول والمحسوس ولا يقول بالحدود والأحكام، وهم الفلاسفة الدهرية، ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام ولا يقول بالشريعة والإسلام، وهم الصائبية، ومنهم من يقول بهذه كلها وبشريعة وإسلام ولا يقول بشريعة نبينا (صلى الله عليه وآله)، وهم المجوس واليهود والنصارى، ومنهم من يقول بهذه كلها وهم المسلمون، إنتهى (5). وبالجملة المراد بالامم هنا الفرق أي الجماعات المتفرقة. و (الفرق) جمع فرقة كنعم ونعمة، وهي الجماعة المنفصلة من الناس وغيرهم، والمراد منها هنا معنى الوصف أي المتفرقة، لاستلزام الفرقة الفصل والتفرقة، والمراد ان النبي (صلى الله عليه وآله) لما انبعث بأمر الله حين ابتعثه رأى الامم أي جماعات الناس متفرقة في أديانها، كل امة متبعة لهواها، آخذة دينا مغايرا لدين من سواها.


(1) الزخرف: 22. (2) هود: 8. (3) الأنعام: 38. (4) يونس: 19. (5) الملل والنحل للشهرستاني 2: 4. (*)

[ 450 ]

قولها (عليها السلام): " عكفا على نيرانها... الخ " تفصيل وبيان للفرق بذكر بعضها لكونه من الفرق الواضحة البطلان. وعكف على الشئ عكوفا - كضرب ونصر - أي لازمه، وأقبل عليه مواظبا له فهو عاكف، ويجمع على عكوف كشاهد وشهود، وعادل وعدول، وعلى عكف - بضم العين وفتح الكاف المشددة، كما وقع في الفقرة - وهو الغالب في جمع فاعل الصفة نحو شهد وغيب. ومن هذه المادة وهذا المعنى الإعتكاف الشرعي، وهو اللبث في المسجد الجامع ثلاثة أيام فصاعدا للعبادة على النهج المقرر في الشريعة، بمعنى قبول العكوف أي الملازمة في المسجد فهو معتكف، ويقال له العاكف أيضا أي العاكف على المسجد والملازم له، والعاكف على العبادة أو العاكف على حال نفسه. قيل: هو من عكفت الشئ حبسته أو منعته، والإعتكاف إفتعال منه لأنه حبس للنفس، ومنع لها عن التصرفات العادية، وقوله تعالى: * (والهدي معكوفا) * (1) أي محبوسا، و * (سواء العاكف فيه والباد) * (2) أي المقيم والطارئ. والنيران: جمع نار، وهو قياس مطرد في جمع الأجوف نحو تيجان ونيران، وقد مر معنى النار وما يتعلق به. والأوثان: جمع وثن بمعنى الصنم، وهو المصنوع من خشب أو حجر أو غيرهما بدون إضافة الصورة المجردة أو معها، وقيل: الصنم هو المتخذ من الجواهر المعدنية التي تذوب، والوثن هو المتخذ من حجر أو خشب ونحوهما، فالصورة لا تسمى صنما ولا وثنا. وقال ابن فارس: الصنم ما يتخذ من خشب أو نحاس أو فضة (3)، والوثن من غيرها، وقيل: الوثن كلما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب


(1) الفتح: 25. (2) الحج: 25. (3) مجمل اللغة لابن فارس 2: 543 / صنم. (*)

[ 451 ]

والحجارة ونحوهما على صورة الآدمي وغيره، يعمل وينصب ويعبد، والصنم الصورة بلا جثة. وفي المغرب: الوثن ماله جثة من خشب أو حجر أو فضة أو جوهر ينحت (1)، فالصنم حينئذ عينه أو أخص أو أعم أو مباين. وقيل: إنهما بمعنى واحد مطلقا، والظاهر انهما إذا اجتمعا إفترقا ببعض الفروق، وإذا افترقا إجتمعا على معنى من المعاني، وجمع الوثن أوثان ووثن كأسد وآساد واسد، وهو من وثن إذا ثبت ودام لاثباتها في بيوتها للعبادة لها، وفي الحديث في قوله تعالى: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) * (2) قال: اللعب بالشطرنج والنرد وسائر أنواع القمار (3). والإنكار في الأصل عدم المعرفة، وليس بمراد هنا لقولها (عليها السلام): (مع عرفانها) بل المراد من الإنكار هنا لازمه وهو الجحود، يقال: أنكرته إنكارا خلاف عرفته، وأنكره إذا جحده، ويتفرع منه قولهم: أنكرت عليه فعله بمعنى عتبت عليه، فتكون الفقرة من باب * (يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها) * (4). ويجوز أن يكون المراد حصول المعرفة لهم بالله سبحانه من حيث فطرتهم، فإن معرفته تعالى فطرية، أو ان ذلك لقيام الدلائل الواضحة الدالة على وجوده تعالى، أو ان المراد من معرفتها وعرفانها كونها أهل معرفة في أنفسها بالامور لا بالله سبحانه، أي أنهم لم يعرفوا الله وهم أهل المعرفة في أنفسهم مع أن الله سبحانه في غاية الظهور، وهو نور كل نور، ومبدأ كل ظهور. فوا عجبا كيف يعصى الإله * أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شئ له آية * تدل على انه واحد


(1) المغرب 2: 240 / وثن. (2) الحج: 30. (3) فقه الرضا (عليه السلام): 284 رقم 46، عنه البحار 79: 233 ح 9. (4) النحل: 83. (*)

[ 452 ]

وهذا كالتوبيخ لهم في انهم اتبعوا هوى أنفسهم، فأعمى أبصارهم وأغشى أنظارهم، فلم يعرفوا خالقهم ومدبرهم لما وقعوا في تيه الضلالة، وظلمة الغواية والجهالة مع كونهم في أنفسهم أهل العلم والمعرفة. ويطلق المنكر - بفتح الكاف - على القبيح أي الحرام لعدم معروفيته بين أهل الشرع والإسلام، ومنه قوله تعالى: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (1). والمنكر وقع في الخبر كثيرا بمعنى ضد المعروف الذي اشير إليه أي ما قبحه الشارع وحرمه، والمعروف الذي يذكر في مقابله هو الفعل الحسن المشتمل على رجحان فيختص بالواجب والمندوب، فيخرج المباح والمكروه عن الطرفين وإن كانا داخلين في الحسن على وجه، ويمكن إدخال المكروه في المنكر فيخرج المباح أو يدخل في المعروف أيضا. والنكير: المنكر والإنكار أيضا بكل معنى اشير إليه، ومنكر ونكير أسماء الملكين المشهورين، وقد أنكر بعض أهل الإسلام تسميتها بذلك وقالوا: المنكر هو ما يصدر من الكافر والمتلجلج عند سؤالهما، والنكير ما يصدر عنهما من التفريع له، فليس للمؤمن منكر ونكير عند هؤلاء، والأحاديث الصحيحة المتظافرة صريحة في خلافهم. وربما كانت التسمية لأدنى ملابسة، وذلك لصدور النكير والمنكر عنهما على غير المؤمن عند المسألة، أو ان وجه التسمية انهما يظهران للكافر بهيئة منكرة، فأحدهما المنكر وهو الأكبر، والآخر النكير بمعنى المنكور وهو الأصغر. والنكرة - بالتحريك - الإسم من الإنكار كالنفقة من الإنفاق، ومنه الحديث: (أوحى الله إلى داود (عليه السلام) اني قد غفرت ذنبك، وجعلت عار ذنبك على بني إسرائيل، فقال: كيف يا رب وأنت لا تظلم ؟ قال: إنهم لم يعاجلوك بالنكرة) (2)،


(1) العنكبوت: 45. (2) الكافي 5: 58 ح 7، عنه البحار 14: 27 ح 8، وفي تفسير القمي 2: 232. (*)

[ 453 ]

والنكرة - بكسر الكاف - ككلمة مع وجوهها المعروفة خلاف المعرفة المعنوية واللفظية. والمناكرة: المحاربة، وفي حديث أبي سفيان قال: (إن محمدا لم يناكر أحدا قط إلا كانت معه الأهوال) (1) أي لم يحارب، لأن كل واحد من المتحاربين يناكر الآخر أي يداهنه ويخادعه، والأهوال المخاوف والشدائد، وهذا كقوله (صلى الله عليه وآله): (نصرت بالرعب) (2). ولما كانت المخادعة مستلزمة للمناكرة اطلق المناكرة على المخادعة، فيطلق بذلك النكراء والنكرة على الدهاء والشيطنة، كما قال علي (عليه السلام): العقل ما عبد به الرحمان واكتسب به الجنان، قيل: وعقل معاوية ؟ قال (عليه السلام): ليس ذلك بعقل وانما هي نكراء وشيطنة (3)، فيقال: ما أنكره أي ما أدهاه. والفقرة الاولى من هذه الفقرات المبينة لاختلاف الفرق في أديانها إشارة إلى عبدة النار، والثانية إلى عبدة الأصنام، والثالثة جامعة بينهما، ومثبتة لصفة الإنكار لهما مع إثبات العرفان فيهما مبالغة في الإنكار عليهما، أو ان الثالثة إشارة إلى فرقة اخرى وهي الملاحدة النافية للصانع، أو الدهريون أو الطبيعيون، وإن قيل انه لا نافي للصانع بالمرة، وانما الخلاف في موضوع المسألة، وان النافي بالمرة يقول أيضا بان الله هو الدهر والطبيعة. وأما عبدة النار فكان أسلافهم يعبدون النار لكونها جرما مضيئا نورانيا هو مظهر نورية الله تعالى، والدنيا والآخرة قائمتان بجهة النورية وجودية وغير وجودية، والله تعالى نور والملائكة أنوار، وكذلك الأنبياء والأولياء والصديقون


(1) النهاية 5: 114 / نكر. (2) أمالي الصدوق: 179 ح 6 مجلس 38، عنه البحار 16: 313 ح 1، والخصال 292 ح 56، وأمالي الطوسي: 484 ح 1059، النهاية 5: 114 / نكر. (3) الكافي 1: 11 ح 3، والمحاسن 1: 310 ح 613، ومعاني الأخبار: 239، عنه البحار 1: 116 ح 8. (*)

[ 454 ]

والشهداء والأخيار والأبرار دون الأشرار والفجار، فالنار وجه ظاهر من وجوه الله تعالى، فعبدوها بلحاظ انها وجه الله ومظهر بعض آثاره الكاملة. واستشهد بعض المتأخرين منهم بما روى عنه (عليه السلام) انه لما سئل عن وجه الله كيف هو وأين هو وما هو ؟ فأمر (عليه السلام) بنار فاوقدت واشتعلت، فقال (عليه السلام) للسائل: أين وجه هذه الشعلة ؟ قال السائل: كل طرف منها وجه لها، فقال (عليه السلام): فكذلك الله تعالى، فكل شئ وجه له تعالى، وأينما تولوا فثم وجه الله (1). واستشعروا من تمثيله (عليه السلام) بالنار الإشارة إلى انها أقرب الأشياء إلى الله تعالى في عالم المظهرية، فخصوها بالتوجه إليه تعالى بها دون سائر الأشياء، ثم سرى الوهم والخيال في الجهلة الضلال فجعلوها إلها مستقلا، فغفلوا عن المبدأ تعالى، وقيل غير ذلك. واما عبدة الأصنام فقيل: إنه كان جماعة من سلفهم ظنوا ان الكواكب المنيرة صور وقوالب للملائكة المقربين وغير المقربين، العاكفين في جناب الله سبحانه، وانهم مقربون عند الله وشفعاء الخليقة في جناب الله تعالى في أمور الدنيا والآخرة، فصوروا صور الكواكب السبعة وقالوا لها الهياكل النورية، وجعلوها في بيوت العبادة. فهيكل القمر في بيت، وهيكل العطارد في بيت وهكذا، وزينوا تلك البيوت، وكانوا يدخلون تلك البيوت للعبادة ويخرجون، ثم تجاوز الأمر بحكم التسويلات الشيطانية إلى نحت أصنام اخر من صور الكواكب الاخر وغير ذلك، فجعلوها في بيوت الأصنام وعبدوها استرضاء لأرباب الصور المذكورة ليشفعوا لهم عند الله سبحانه، ولهذا قالوا: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * (2) ثم توهم المتأخرون منهم انها آلهة حقيقة، وتعدوا بعد ذلك إلى صور الحيوانات وغير ذلك.


(1) إرشاد القلوب 2: 318، عنه البحار 30: 86. (2) الزمر: 3. (*)

[ 455 ]

وقيل: إن قوما من السلف كانوا يتأسفون لموت آبائهم، وامهاتهم، وأولادهم، وإخوانهم، وأقربائهم، وأصدقائهم، فتمثل لهم الشيطان وقال لهم: صوروا صور موتاكم فضعوها في بعض بيوتكم، فإذا اشتقتم إليهم فزوروهم في بيوتكم، ففعلوا كذلك، ثم لما مات السلف واستخلف الخلف، أوقع الشيطان في بالهم ان آباءهم كانوا يعبدون تلك الصور المنحوتة المعمولة لأنها آلهتهم أو صور آلهتهم، فسرى الوهم فضلوا عن السبيل فهم لا يهتدون، وفي بيداء الغي يعمهون. وقيل: إن جماعة من الامم السالفة صوروا علماءهم وزهادهم، وجعلوها في حياتهم وبعد وفاتهم في بيوتهم، يزورون تلك الصور تعظيما لشأن أربابها، وتقربا إلى الله سبحانه بتعظيمها، فلما مضى السلف ولم يعرف الخلف جهة ما كان يفعل آباؤهم وأجدادهم، فخيل الشيطان إليهم انهم ما كانوا يفعلون كذلك إلا انهم آلهتهم أو صور آلهتهم، فآل الأمر إلى ما آل، فتاهوا في بيداء الضلال، وقيل غير ذلك مما أوجب وقوعهم في ظلمات المهالك. قولها (عليها السلام): " فأنار الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) ظلمها... الخ ". الظلم - بضم الظاء وفتح اللام - جمع الظلمة كغرف وغرفة، وضمير ظلمها للفرق والامم، وإنارة الظلمة إزالتها بالنور. ولما كانت الظلمة هي ظلمة شبهات الجهل والضلالة الثابتة فيهم المحيطة عليهم، كان النور هو نور المعرفة والهداية الذي أتى به النبي (صلى الله عليه وآله) باظهار أحكام الشريعة القويمة، ودعوة الناس إلى تلك الطريقة المستقيمة، فأزال عنهم تلك الظلمة، كما قال تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) * (1). والمراد كما في الأخبار موت الجهل والغواية، وحياة العلم والمعرفة، ونور


(1) الأنعام: 122. (*)

[ 456 ]

الدين والهداية، وظلمات الغي والجهالة، وليس المراد إزالتها عن جميعهم، وإلا لم يبق في الخلق ضال كافر بالمرة، بل المراد إزالتها عمن كان قابلا للهداية، أو المراد إزالتها عن الجميع إزالة قوية شأنية لا فعلية، بأن أزال الشبهات وأتى بالدلائل الواضحات والآيات البينات، فهلك من هلك عن بينة، وحي من حي عن بينة، ولعل لهذا المعنى الأخير مقربات من فقرات الخطبة الشريفة، كما لا يخفى لمن تأمل فيها. والظلمة والظل متقاربان لفظا ومعنى، وظلمة الليل ظل الأرض الحادث بغروب الشمس وكونها تحت الأرض، وظلمة البطن ظل الجسم المحيط به، وظلمة البيت ظل الجدران والسقف المحيطة به وهكذا. والظلمات المعنوية ظل الكثافات الدنيوية، والكدورات الجسمانية والنفسانية وهكذا، فإن إشراق نور الأزل انما يكون من جهة عالم الباطن، فيقع في عالم الظاهر من جهة كدوراته الحاجبة ظل الجهالة والغواية ونحو ذلك، فتأمل في ذلك فإنه نكتة دقيقة لا يدركها إلا البصر الحديد، * (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) * (1). * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) * (2). * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) * (3) فليس لهم أن يفقهوه. وسمى الظلم خلاف العدل ظلما لأنه ظلمة حادثة من غروب شمس العقل وقمر العدل، بل العقل والعدل متقاربان لفظا ومعنى بقول فصل ليس بالهزل. والأصل في الظلم لغة وعرفا هو وضع الشئ في غير موضعه، ومنه قولهم: من استرعى الذئب على الغنم فقد ظلم، وبعكسه العدل الصوري والمعنوي،


(1) ق: 22. (2) الإسراء: 46. (3) البقرة: 7. (*)

[ 457 ]

فتفضيل المفضول على الفاضل - كما فعله العامة - ظلم وخيم، ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم، فالذين ظلموا آل محمد غافلون جاهلون حائرون، وفي بيداء الضلالة تائهون سائرون، * (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) * (1). والمظلمة - بفتح الميم وكسر اللام - إسم لما يطلبه المظلوم عند الظالم كالظلامة بالضم، وفي الخبر: (الظلم ظلمات يوم القيامة) (2). وفيه: إن الظلم ثلاثة: ظلم لا يغفر وهو الشرك بالله، وظلم لا يترك وهو ظلم العباد بعضهم بعضا، وظلم مغفور لا يطلب وهو ظلم العبد نفسه عند فعل بعض المنهيات (3)، يعني الصغيرة من الزلات، وهذه كلها ظلمات. والظالم أيضا من يتعدى حدود الله، قال تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فاؤلئك هم الظالمون) * (4) لكونه لم يضع الشئ موضعه فوقع في ظلمات الجهل عن الشريعة، وزال عنه نور الطريقة وضياء الحقيقة، وبالجملة الظلمة خلاف النور. وقوله تعالى: * (في ظلمات ثلاث) * (5) هي ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة البطن، وقوله تعالى: * (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض) * (6) قال المفسرون: هذا تشبيه بأن أعمال الكفار في خلوها عن نور الحق وظلمتها لبطلانها، كظلمات متراكمة هي ظلمة الموج وظلمة البحر وظلمة السحاب. وروي في قوله تعالى: * (أو كظلمات) * انه (عليه السلام) قال: هي الأول


(1) الشعراء: 227. (2) عوالي اللألي 1: 364 ح 52، عنه مستدرك الوسائل 12: 99 ح 13628، وصحيح الترمذي 4: 377 ح 2030 باب 83 كتاب البر والصلة. (3) الكافي 2: 330 ح 1، عنه البحار 75: 322 ح 53، وأيضا نهج البلاغة خطبة: 176، والخصال 118 ح 105 وأمالي الصدوق: 209 ح 2 مجلس 44. (4) البقرة: 229. (5) الزمر: 6. (6) النور: 40. (*)

[ 458 ]

وصاحبه، * (يغشاه موج) *: الثالث * (من فوقه موج ظلمات) *: الثاني * (بعضها فوق بعض) *: معاوية وفتن بني امية، إذا أخرج المؤمن يده في ظلمة فتنهم لم يكد يراها (1). وقوله تعالى في يونس: * (فنادى في الظلمات) * (2) أي ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر، أو ظلمة حوت التقم الحوت الأول، وفي الدعاء: (جاعل الظلمات والنور) (3) أي الليل والنهار، والجنة والنار، والأخيار والأشرار، والفجار والأبرار ونحو ذلك. والظلام قيل: مطلق الظلمة، وقيل: ظلمة أول الليل وكذا الظلماء، أو هي بمعنى الظلمة مطلقا، ويقال: أظلم الليل أي أقبل بظلامه، وأظلم القوم أي دخلوا في الظلام. قولها (عليها السلام): " وكشف عن القلوب بهمها ". الضمير يجوز أن يرجع إلى الامم مطابقا للضمير في ظلمها، ويجوز أن يرجع ضمير بهمها إلى القلوب وكلاهما صحيحان، وفي ضمير غممها أيضا وجهان بالنسبة إلى الرجوع إلى الامم والأبصار. والبهم جمع بهمة - بالضم - كغرف وغرفة، وظلم وظلمة، وهي مشكلات الأمور ومبهماتها، وهذه المادة تنبئ عن معنى الإغلاق والستر والإخفاء وعدم البيان، يقال: إستبهم الخبر واستغلق واستعجم بمعنى، وأبهمته إبهاما إذا لم تبينه، وأبهمت الباب أغلقته، وأمر مبهم أي لا مأتى له، وفارس بهمة - كغرفة - أي لا يدري من أين يؤتى لشدة بأسه. والبهيمة الحيوان الذي لا يفهم صوته وما يقوله، والأسماء المبهمة هي أسماء


(1) الكافي 1: 195 ح 5، عنه الصافي 3: 438، وكنز الدقائق 9: 321، ونحوه تفسير القمي 2: 106. (2) الأنبياء: 87. (3) البحار 98: 57 / في أدعية اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان. (*)

[ 459 ]

الإشارة عند النحاة على ما ذكر الجوهري (1)، لعدم البيان الصريح فيها، والمبهمات الثلاثة هي أسماء الإشارة، والموصولات، والمضمرات لوجود الإبهام فيها جملة. ومعنى الفقرة ان النبي (صلى الله عليه وآله) كشف عن قلوب الامم مشكلات أمور تلك الامم، أو مشكلات أمور قلوبهم، واللام في القلوب عوض عن المضاف إليه، والإضافة على الأول لامية وعلى الثاني ظرفية. والمراد من المشكلات مشكلات التوحيد وسائر أصول المعرفة والعبادة وفروعهما، بل كل ما يتعلق بالأمور الدنيوية والأخروية، وكشفها عبارة عن تبيينها ببيانات النبي (صلى الله عليه وآله) وإزالتها به، أي انه (صلى الله عليه وآله) أزال إشكالات الأمور الدنيوية والدينية فاتضح به لهم حقيقة كل مسألة، واقيل عنهم به زلة كل معصية، وعثرة كل مزلقة في كل مرحلة بقدر الإستعداد والقابلية في كل مورد معضلة. و (جلوت) الأمر كشفته وأوضحته من الجلاء بمعنى الكشف والإيضاح، فهو منجل، قال الشاعر: وستري إذا انجلى الغبار * أفرس تحتك أم حمار والتفعيل من هذه المادة يستعمل للمبالغة، يقال: جليته تجلية بمعنى جلوته جلاء، قيل: والمجرد يستعمل لازما مثل جلى الغبار بمعنى إنجلى، ومنه الجلي مقابل الخفي، ومتعديا مثل جلا الامور أي كشفها، ومنه على وجه قوله: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا * متى أضع العمامة تعرفوني (2) أي أنا ابن رجل جلا الأمور وكشفها. وفي الحديث: (السواك مجلاة للبصر) (3) أي آلة لتقوية البصر، وكشف لما يغطيه، وفي حديث النبي (صلى الله عليه وآله): (فجلى الله لي بيت المقدس)


(1) الصحاح 5: 1875 / بهم. (2) قاله سحيم بن وثيل، راجع لسان العرب 2: 345 / جلا. (3) الخصال: 481 ح 53 باب الإثني عشر، عنه البحار 76: 129 ح 14، وفي مكارم الأخلاق: 50. (*)

[ 460 ]

بتشديد اللام وتخفيفها أي كشفه، فيجوز الوجهان في الفقرة الشريفة أيضا، وجلا فلان عن الوطن أي انكشف وزال عنه إلى مكان آخر. و (الغمم) جمع غمة كظلم وظلمة، يقال: أمر غمة أي مبهم ملتبس، قال تعالى: * (لا يكن أمركم عليكم غمة) * (1). قال أبو عبيدة: مجازها ظلمة وضيق (2) وتقول: غممت الشئ إذا غطيته وسترته، قيل في معنى الآية أي لا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستورا عليكم، وليكن مشهورا مكشوفا تجاهرونني فيه. والغمة أيضا السترة من غمه يغمه ستره، ومنه الحديث: (لا غمة في فرائض الله) (3) أي لا تستروها ولكن تجاهروا فيها، وبمعنى الكربة أيضا لأنها أي الكربة تستر القلب، أو سروره، أو حلمه، ويقال: هو في غمة أي حيرة. والمغموم: المهموم المكروب، والغمام: السحاب لأنه يستر وجه السماء، والأغم من ليس لرأسه نزعة، لكون الشعر ساترا لجميع أطراف رأسه إلى الجبينين والجبهة، وهو دليل البلادة، واغتم فلان هو إفتعل من الغم، وغم علينا الهلال إذا حال دون رؤيته غيم. وروي (عماها) بدل غممها هنا، وهو عدم البصر عما من شأنه البصر، وهو أنسب بالنسبة إلى الأبصار، وإن لم يناسب سجع الكلام في المضمار. وهذه الفقرات الثلاث ناظرة إلى الفقرات الثلاث الأول باللف والنشر المرتب، فإنارة الظلم ناظرة إلى العكوف على النيران، وفيه إشارة إلى ان ذلك وإن كان في الظاهر عكوفا على النيران المنيرة، إلا انه كان عكوفا على الظلمات المعنوية، وملازمة لظلمة الضلالة، فأنار النبي (صلى الله عليه وآله) تلك الظلم. وكشف البهم عن القلوب ناظر إلى عبادة الأوثان، فإن تلك العبادة لا تكون


(1) يونس: 71. (2) راجع لسان العرب 1: 127 / غمم. (3) النهاية 3: 388، ولسان العرب 10: 128 / غمم. (*)

[ 461 ]

إلا بالشبهات الوهمية، والإعتقادات الباطلة. وجلاء الغمم عن الأبصار ناظر إلى إنكارهم لله سبحانه مع العرفان، فإن ذلك لا يكون إلا من جهة تغطيته الأبصار بغشاوة الأكدار حتى لا تعرف هي من كانت تعرفه، إذ المراد بالأبصار هنا هو الابصار بالبصيرة الباطنية المعنوية. قولها (عليها السلام): " وقام في الناس بالهداية ". أي أقام أمر الهداية، يقال: قام بكذا أي أقامه على ان الباء للتعدية، أو قام مصاحبا له أو بسببه، ويستلزم ذلك إقامته، فالنبي (صلى الله عليه وآله) أقام الهداية أي نصب أعلامها للناس ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، أي ظلمات بر الشريعة وبحر الطريقة والحقيقة. وقولهم: قام فلان بكذا في الإستعمال، بعكس ما يقال في معنى القوام انه ما يقوم به الشئ كما لا يخفى، فإن معنى قام فلان بالأمر انه أقامه أي جاء معطيا حقوقه، كما في قوله تعالى: * (يقيمون الصلاة) * (1) و * (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض) * (2). ويقال للقوم: القوم لقيامهم بامور عيالهم وصغارهم، ولذا قيل: القوم هو الرجال دون النساء، كما قال زهير: وما أدري وسوف اخال أدري * أقوم آل حصن أم نساء ؟ (3) وقال تعالى: * (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن) * (4) وربما دخل فيهم النساء والصغار على سبيل التبع لا الاصالة. و (الإنقاذ) التخليص والإنجاء من أنقذت الغريق إنقاذا أخلصته، فنقذ هو من


(1) البقرة: 3. (2) النساء: 34. (3) راجع لسان العرب 11: 361 / قوم. (4) الحجرات: 11. (*)

[ 462 ]

باب تعب، ومنه (يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى) وأنقذه واستنقذه بمعنى. و (الغواية) بفتح الغين من غوى يغوي غيا وغواية - من باب ضرب - إذا تاه وظل وانهمك في الجهل فهو غاو، والجمع غواة، وأغواه إغواء أي أضله وأوقعه في الجهل والضلالة فهو مغو، والغي: الضلال والإنهماك في الباطل والخيبة، وقوله تعالى: * (فسوف يلقون غيا) * (1) أي ضلالا وخيبة، أو ضلالا عن طريق الجنة. والغوي: الضال، ويطلق على من كانت ضلالته في الغاية، بحيث يحمل الناس على الغواية أي خلاف الرشد، وقوله تعالى: * (ما ضل صاحبكم وما غوى) * (2) أي ما انحرف عن جادة الرشد فيما يقوله، إذ * (ما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) * (3). وفي حديث الإسراء: (لو أخذت الخمر لغوت امتك) (4) أي ضلت، وفي الحديث: (سيكون عليكم أئمة إن أطعتموهم غويتم) (5). والفقرة من جهة ذكر الإنقاذ المتعلق بالغواية، إشارة إلى ان الغواية والضلالة كالبحر العميق الذي يغرق ويهلك فيه من وقع فيه. و (التبصير) جعل الشخص صاحب البصيرة والبصر الصوري والمعنوي. و (العماية) بفتح العين هي الغواية واللجاج، وأصل العمى فقد البصر وذهابه، ويستعار للقلب كناية عن الضلالة والغي والعماية وعدم الإهتداء، فهو عم وأعمى القلب. وقوله تعالى: * (من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) * (6) أي


(1) مريم: 59. (2) النجم: 2. (3) النجم: 3 - 4. (4) صحيح البخاري 6: 434 ح 1134 في تفسير سورة بني إسرائيل، والنهاية 3: 397، ولسان العرب 10: 149 / غوي. (5) النهاية 3: 398، ولسان العرب 10: 149 / غوي. (6) الإسراء: 72. (*)

[ 463 ]

من كان في الدنيا أعمى القلب عن الحق فلا يرى في الآخرة طريق النجاة. وعمى الخبر: خفى كأنه لم يهتد إلى سبيل الظهور، ومنه قوله تعالى: * (فعميت عليهم الأنباء يومئذ) * (1) وأعميته إعماء: أخفيته، والعماء - بالفتح والمد - السحاب، و (من) في قولها (عليها السلام): (من العماية) بمعنى عن، متعلق بقولها (عليها السلام): (بصرهم) بتضمين معنى الإنجاء والتخليص ونحو ذلك. والفقرات الثلاث ناظرة إلى الفقرات السابقة أيضا باللف والنشر المرتب، فالقيام بالهداية ناظرة إلى إنارة الظلم، والإنقاذ من الغواية إلى كشف البهم عن القلوب، والتبصير عن العماية إلى جلاء الغمم عن الأبصار، (فاعتبروا يا أولي الأبصار). قولها (عليها السلام): " وهداهم إلى الدين القويم... الخ ". الهداية قيل: هي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، وقيل: هي إراءة الطريق الموصلة إليه، والأول يستلزم الوصول إلى المطلوب بخلاف الثاني، والأول منقوض بقوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) * (2) والثاني بقوله تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت) * (3) مع أن شأن النبي (صلى الله عليه وآله) إراءة الطريق. ونقل عن ظاهر حاشية التفتازاني على الكشاف: ان الهداية لفظ مشترك بين المعنيين فلا نقض، ومحصل كلامه فيها ان الهداية تتعدى إلى المفعول الثاني تارة بنفسه كقوله تعالى: * (إهدنا الصراط المستقيم) * وتارة باللام نحو قوله تعالى: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) * (4) وتارة ب‍ (الى) نحو قوله تعالى: * (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * (5).


(1) القصص: 66. (2) فصلت: 17. (3) القصص: 56. (4) الإسراء: 9. (5) البقرة: 213. (*)

[ 464 ]

فمعناه على الإستعمال الأول هو الإيصال، وعلى الأخيرين الاراءة، لكن ينتقض الأول أيضا بقوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم) * (1) و * (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) * (2) و * (هديناه النجدين) * (3) إلى غير ذلك. والثاني بقوله تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) * (4)، مع ان معنى الهداية هنا بالنسبة إلى الله هي الدلالة الموصلة المختصة بمن أدركه التوفيق، وإلا فالله تعالى يهدي كل أحد إلى صراط مستقيم. والحق جواز استعمال كل في كل إلا ان الغالب إستعمال المتعدي بلا واسطة في الدلالة الموصلة للمناسبة اللفظية، والمتعدي بالحرف في الإراءة، مع كون الغالب في الإراءة من قرب هو التعدية باللام، ومن بعد التعدية ب‍ (إلى). والمعنى ان النبي (صلى الله عليه وآله) قام بالهداية، وهدى الناس إلى الطريقة الحقة من بعد، لكون الحال حالة صدر الإسلام، والناس معتكفون حينئذ عن عبادة الأصنام، بل هم فرق مختلفون تائهون في بيداء الضلالة، هائمون في حيرة الجهالة، فلم تكن الهداية في أول الحالة إلا بحيث كأنهم كانوا ينادون من مكان بعيد، فناداهم إلى الدين القويم الذي لا عوج له، ودعاهم كذلك إلى الطريقة المستقيمة التي من سلكها وصل إلى الحقيقة، والمراد من الدين الشريعة، وقد مر الى تفصيل معناه اللغوي الإشارة فيما مر. و (الصراط المستقيم) - بالصاد وهي اللغة الفصيحة - هو الطريق المستوي عن الإعوجاج، والسراط والزراط لغتان في الصراط. وذكروا على سبيل القاعدة الكلية انه إذا وقعت في الكلمة بعد السين بمرتبة أو أكثر حرف من حروف حطقخ (أي الحاء، والطاء، والقاف، والخاء) جاز في السين


(1) فصلت: 17. (2) الإنسان: 3. (3) البلد: 10. (4) القصص: 56. (*)

[ 465 ]

تبديلها الصاد والزاء وبالعكس، نحو سراط وصراط، وسلح وصلح، وبساق وبصاق، ويجوز الزاء في الجميع. قيل: وسرطت الشئ - بالكسر - أسرط من باب علم: بلعته، وسمى الطريق صراطا لغياب السالك فيه بالذهاب كأنه بلعه، والمراد بالصراط الكتاب العزيز، أو الدين الحق الذي لا يقبل الله من العباد غيره، وإنما سمي الدين صراطا لأنه يؤدي من يسلكه إلى الجنة، كما ان الصراط يؤدي من يسلكه إلى مقصده. وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: * (إهدنا الصراط المستقيم) * قال: يقول: أرشدنا إلى الطريق المستقيم أي أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، والمبلغ لدينك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك (1). أو المراد به الإسلام، أو النبي (صلى الله عليه وآله)، أو الأئمة (عليهم السلام)، ولكل منها شاهد من الأخبار أو غير ذلك، والأولى حمل الآية على العموم حتى يدخل فيه جميع ذلك، لأن كل ما أمر الله بالإقرار به أو اتباعه من العدل والتوحيد وولاية من أوجب الله وغير ذلك كله داخل في الصراط المستقيم. وعن علي (عليه السلام): الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو، وارتفع عن التقصير واستقام، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة (2). وعن الصادق (عليه السلام): هي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فاما الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في


(1) عيون الأخبار 1: 565 ح 287 عنه البحار 92: 228 ح 6، معاني الأخبار 33 ح 4، وتفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 44 ح 20، وتأويل الآيات: 29، والصافي 1: 85، وكنز الدقائق 1: 72. (2) معاني الأخبار: 33 ح 4، وتفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 44 ح 20، عنهما البحار 24: 9 ح 1، وتفسير كنز الدقائق 1: 70. (*)

[ 466 ]

الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة، فتردى في نار جهنم (1). وعنه (عليه السلام): (الصراط أمير المؤمنين (عليه السلام) (2)، وفي رواية اخرى انه معرفة الإمام (عليه السلام) (3)، وفي اخرى: (نحن الصراط المستقيم) (4). وفي الخبر في قوله تعالى: * (إهدنا الصراط المستقيم) * لا تقصدوا الهداية إلى الصراط فإنكم هديتم إليه، بل اقصدوا ثبتنا على الصراط المستقيم. وعن علي (عليه السلام): يعني أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا (5). وقيل: معناه اهدنا الصراط المستقيم باطنا كما هديتنا إليه ظاهرا، أو اهدنا كل آن فيما يأتي من الآنات إلى الصراط المستقيم، كما هديتنا فيما سبق منها، بناء على أن هداية كل آن غير هداية الآن الآخر، أو المراد: كما هديتنا في الزمان الماضي اهدنا في الزمان المستقبل، أو كما هديتنا إليه في الدنيا إهدنا إليه في الآخرة. أو كما هديتنا إليه في الجملة إهدنا إليه على وجه الكمال، أو كما هديتنا إليه علما فاهدنا إليه عملا، أو كما هديتنا إليه قولا إهدنا إليه فعلا واعتقادا، أو كما هديتنا إليه علما وعملا أجزنا جزاءه خيرا بتخليصه عن الرياء والسمعة مثلا، أو كما هديتنا إلى صراط الشريعة إهدنا إلى صراط الطريقة والحقيقة.


(1) معاني الأخبار: 32 ح 1، عنه البحار 8: 66 ح 3، وكنز الدقائق 1: 69، والصافي 1: 85. (2) معاني الأخبار: 32 ح 2، عنه البحار 35: 366 ح 7، وفي الكافي 1: 433 ح 91. وكنز الدقائق 1: 70، والصافي 1: 85. (3) تفسير القمي 1: 28، وكنز الدقائق 1: 68، والصافي 1: 85. (4) تفسير القمي 2: 66 / سورة طه، عنه البحار 24: 14 ح 12، وكنز الدقائق 1: 68. وفي معاني الأخبار: 35 ح 5، والصافي 1: 85. (5) معاني الأخبار: 33 ح 4، وتفسير الإمام (عليه السلام): 44 ح 20، عنهما البحار 24: 9 ح 1 وكنز الدقائق 1: 70، والصافي 1: 85. (*)

[ 467 ]

وقال بعض الأفاضل: في معنى إهدنا وجوه، مثل أن يكون معناه ثبتنا على الدين، لأن الله تعالى قد هدى الخلق كلهم إلا ان الإنسان قد يزل، وترد عليه الخواطر الفاسدة، فيحسن أن يسأل الله تعالى أن يثبته على دينه، ويديمه عليه، أو ان المراد زيادة الهدى بمقتضى قوله تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (1) وهذا كما يقول القائل لغيره وهو يأكل: كل. أو المراد من الهداية هي الثواب، لقوله تعالى: * (يهديهم ربهم بإيمانهم) * (2) فصار معناه إهدنا إلى طريق الجنة ثوابا، ويؤيده قوله: * (الحمد لله الذي هدانا لهذا) * (3). أو المراد دلنا على الدين الحق في مستقبل العمر كما دللتنا عليه في الماضي، ويجوز الدعاء بالشئ الذي يكون حاصلا، كقوله: * (قال رب احكم بالحق) * (4) أو إن الدعاء عبادة وفيه إظهار الإنقطاع إلى الله سبحانه. واما انه ما معنى مسألة ذلك وقد فعله الله، فقيل: إنه قد يكون لنا في الدعاء به مصلحة في ديننا، وهذا كما ترى تعبدنا بتكرار التسبيح والتحميد، والإقرار لربنا بالتوحيد، وإن كنا معتقدين لجميع ذلك، ويجوز أن يكون الله يعلم ان الأشياء الكثيرة تكون أصلح لنا إذا سألناه، وإذا لم نسأله لا تكون مصلحة، ويجوز أن يكون المراد إستمرار التكليف والتعريض للثواب، لأن إدامته ليست بواجبة بل هو تفضل محض، فجاز أن يرغب فيه بالدعاء، إنتهى ملخصا. وبعض هذه الوجوه المذكورة داخل فيما ذكرنا. ثم إن أكثر الوجوه التي مرت إليها الإشارة مع بعض وجوه اخر تجري في قوله تعالى: * (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) * (5).


(1) محمد: 17. (2) يونس: 9. (3) الأعراف: 43. (4) الأنبياء: 112. (5) البقرة: 257. (*)

[ 468 ]

أي كما أخرجهم يثبتهم على هذا الإخراج، ومثله الكلام في يخرجونهم، أو يخرجهم في كل آن عما يأتي كما في ما مضى من الآنات، أي كما أخرجهم في الماضي يخرجهم في الآتي، أو كما أخرجهم في الدنيا يخرجهم في الآخرة، أو كما أخرجهم ظاهرا يخرجهم باطنا، أو كما أخرجهم قولا يخرجهم فعلا أو إعتقادا، أو كما أخرجهم علما يخرجهم عملا. أو يخرج المؤمن من ظلمة الدنيا إلى نور البرزخ والآخرة، والكافر من نور الدنيا إلى ظلمة البرزخ والآخرة، فإن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، أو يخرج المؤمن من ظلمة الجهل والذنوب إلى نور الهدى والمغفرة، والكافر من نور الفطرة إلى ظلمة فساد استعداد الطبيعة والطينة، أو يخرج المؤمن من ظلمات الذنوب كما في الخبر إلى نور التوبة بولايتهم كل إمام عادل، والمنافق من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر لتوليهم كل إمام جائر، فأوجب الله لهم النار مع الكفار. قال الراوي: قلت للصادق (عليه السلام): أليس الله عنى بهذا الكفار ؟ قال (عليه السلام): وأي نور للكافر وهو كافر فاخرج منه إلى الظلمات (1). والإخراج في كل من المؤمن والكافر يقتضي إما أن يكون المؤمن في الظلمة فيخرج إلى النور، والكافر بالعكس، أو يكون في كل منهما جهتان جهة نور وجهة ظلمة، والمراد في بعض الوجوه الأول كما ظهر صحته مما مر، وفي بعضها الثاني، وذلك لأن لكل شئ جهتين: جهة من ربه، وجهة من نفسه، والاولى نور والثانية ظلمة، أو جهة وجود وماهية، والوجود نور والماهية ظلمة. أو فيه جهة عقلانية وجهة نفسانية، أو جهة قدرة على الخير، وجهة قدرة على الشر، أو جهة ملكية وجهة شيطانية، أو جهة توحيد وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، وجهة إشراك وهي جهة المخالفة، أو جهة نور وجهة ظلمة شأنا لا فعلا. * * *


(1) تفسير العياشي 1: 138 ح 460، عنه البحار 67: 23. (*)

[ 469 ]

قالت (عليها السلام): " ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وإيثار، فمحمد (صلى الله عليه وآله) في راحة عن تعب هذه الدار، موضوعا عنه أعباء الأوزار، ومحفوفا بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار صلى الله وعلى أبي نبيه وأمينه على الوحي، وصفيه وخيرته من الخلق ورضيه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته ". بيان: (قبضت) الشئ قبضا - من باب ضرب - أخذته، ولعل منه قولهم: قبضه الله بمعنى أماته أي قبض روحه وأخذها من جسمه، فصار بمعنى أماته فهو مقبوض أي مميت مقبوض الروح. وهذا المعنى هو المراد من الفقرة، بل أصل القبض خلاف البسط، فمعنى الأخذ أيضا متفرع منه وهكذا معنى الإمساك، كما في قوله تعالى: * (يقبضون أيديهم) * (1) أي يمسكونها عن الصدقة والخير، والتضييق في قوله تعالى: * (والله يقبض ويبصط) * (2) أي يضيق على قوم ويوسع على قوم. وفي الخبر: (ما من قبض ولا بسط إلا ولله فيه مشية وابتلاء) (3) قيل: المراد من القبض والبسط الألم والفرح سواء كان بطريق ظلم أحد أم لا، وهو في قبضته أي ملكه، فإن الملك مقبوض بالقبض المعنوي. والقبضة - بفتح القاف وضمها أيضا - مل ء الكف من الشئ مقبوضا عليه الأصابع بجميع الكف، ومنه قوله تعالى: * (فقبضت قبضة من أثر الرسول) * (4) أي


(1) التوبة: 67. (2) البقرة: 245. (3) الكافي 1: 152 ح 1، والتوحيد: 354 ح 2، عنه البحار 5: 216 ح 5، وفي المحاسن 1: 434 ح 409 باب الإبتلاء والإختيار. (4) طه: 96. (*)

[ 470 ]

ملأت مل ء كفي من تراب موطئ فرس جبرئيل المسمى بحيزوم، قيل: والضم مقدم على الفتح، وقيل: بالضم إسم بمعنى المقبوض كالغرفة بمعنى المغروف، وبالفتح المرة. والقابض من أسماء الله تعالى، وهو الذي يمسك الرزق وغيره عن العباد بلطفه وحكمته، ويقبض الأرواح عند الممات، والباسط خلاف القابض، ويحسن القرآن أي المقارنة في الذكر بين هذين الإسمين، فيقال: القابض الباسط، وكذا كل إسمين متقابلين يردان موردهما أو لا، مثل الخافض والرافع، والمعز والمذل، والضار والنافع، فإن ذلك أنبأ عن القدرة، وأدل على الحكمة. وقولها (عليها السلام): (إليه) متعلق بفعل مضمن في قولها (عليها السلام): (قبضه الله)، وضمير إليه راجع إلى الله تعالى، أي رافعا أو جاذبا أو داعيا له إليه أي إلى قرب جنانه، أو إلى رضوانه ونحو ذلك، كما قال تعالى: * (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) * (1) ونحو هذا التضمين شائع في هذه المادة. ومنه قوله تعالى: * (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) * (2) يريد به الظل المنبسط، ومعنى قبضه إليه كذلك انه تعالى ينسخه بوجود الشمس قبضا يسيرا، أي على مهل أي شيئا بعد شئ، وفي ذلك منافع غير محصورة، ولو قبضه إليه دفعة واحدة لتعطل أكثر منافع الناس الحاصلة بالظل والشمس جميعا. و (الرأفة) أشد الرحمة - كما قال أبو زيد - من رؤفت بالرجل - من باب كرم ومنع وضرب - رأفة فهو رؤوف، قيل: والرأفة أرق من الرحمة ولا تكاد تقع في الكراهة، والرحمة قد تقع مع الكراهة أيضا للمصلحة، والرؤوف من أسمائه تعالى بمعنى الرحيم لعباده، العطوف عليهم بألطافه. و (الإختيار) قد مر إلى معناه الإشارة فيما مر. و (الرغبة) مصدر وإسم مصدر من رغبت في الشئ - من باب علم - إذا


(1) آل عمران: 55. (2) الفرقان: 46. (*)

[ 471 ]

أردته وحرصت عليه، وكذا رغبته متعديا بنفسه، واما رغبت عنه فبمعنى كرهته أو لم ترده وزهدت فيه، فالرغبة في الشئ خلاف الرغبة عنه. والظاهر ان المعنى في الإستعمال الثاني أيضا راجع إلى الأول لكونه بمعنى الرغبة في شئ آخر مائلا عن الأول أو معرضا عنه، وبالجملة فالمعنى عند ذكر الصلة واضح، وعند حذفها يتوقف على تقديرها، فيتعين بالصلة المقدرة المحذوفة من جهة القرائن، ولو لم يظهر هناك قرينة للصلة صار اللفظ مجملا. والقرينة في الفقرة قائمة على تقدير فيه، وقد يستعمل لفظ إليه بدل فيه أي مائلا إليه، كما في الدعاء: (اللهم إليك رغب الراغبون) (1) فقوله تعالى: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) * (2) بمعنى من يزهد فيه ولم يرده، أو بمعنى من يعرض عنه ويكرهه. وفي الخبر: (لا تجتمع الرغبة والرهبة في قلب إلا وجبت له الجنة) (3) فالرغبة هي السؤال والطلب، والرهبة هي الخوف والخشية، وفي الدعاء: (رغبة ورهبة إليك) (4) اعمل لفظ الرغبة وحدها وإلا لقيل: (رغبة اليك ورهبة منك) والرغبة في الدعاء كما وردت به الرواية: أن تستقبل ببطن كفيك إلى السماء وتستقبل بها وجهك (5). وصلاة الرغائب أي صلاة ما يرغب فيها من المثوبات العظيمة، وهي التي تصلى في أول جمعة من رجب، جمع رغيبة بمعنى المرغوبة، وموصوفها المثوبة المحذوفة أو الفائدة ونحوها، ومنه ما في خبر آخر: (لا تدع ركعتي الفجر فإن فيهما الرغائب) (6) أي ما يرغب فيه من المثوبات العظيمة.


(1) مجمع البحرين / رغب. (2) البقرة: 130. (3) البحار 84: 260 ح 59، ومجمع البحرين / رغب. (4) النهاية 2: 237، ولسان العرب 5: 254 / رغب. (5) البحار 69: 359 نحوه. (6) النهاية 2: 238 / رغب، نحوه مستدرك الوسائل 3: 75 ح 3067. (*)

[ 472 ]

وليلة الرغائب بناء على ما اشير إليه هي ليلة يوم يصلى فيه صلاة الرغائب، ويجوز أن يجعل إسم الرغائب، فهذه الليلة من جهة انها أول ليلة جمعة من الشهور المباركة الثلاثة، ففي هذه الليلة تجري رغائب الله وفوائده وعطاياه على العباد. و (الإيثار) من آثرته - بالمد - على فلان أي فضلته عليه، وفي الكتاب المجيد: * (تالله لقد آثرك الله علينا) * (1) أي فضلك، و * (يؤثرون على أنفسهم) * (2) أي يقدمون غيرهم على أنفسهم، * (بل تؤثرون الحياة الدنيا) * (3) أي تقدمونها وتفضلونها على الآخرة. واستأثر بالشئ إستبد به مشتق من الأثر بمعنى العلامة، أو الخبر من أثر الخبر أثرا - من باب ذكر - أي ذكره فهو مأثور، وفلان يستأثر على أصحابه أي يختار لنفسه أخلاقا وأفعالا حسنة. والمأثرة - كمكرمة وزنا - بمعناها، لأنها تؤثر أي تذكر أو تعلم وتعرف، ومنه مآثر العرب أي مكارمها ومفاخرها التي يؤثر عنها أي تروى وتذكر وتعرف، وقوله تعالى: * (أو أثارة من علم) * (4) أي فضيلة تؤثر عن الأولين وتستند إليهم، أو علم مأثور، وأثرت في الأرض تأثيرا علمتها بالمشي فحصل منه في الأرض أثر، ومنه قوله تعالى: * (فقبضت قبضة من أثر الرسول) * (5) أي من أثر حافر فرسه. وفي الحديث: (من سره أن يبسط الله في رزقه، وينسأ في أثره فليصل رحمه) (6) قيل: الأثر الأجل سمى به لأنه يتبع العمر، قال زهير: والمرء ما عاش ممدود له أمل * لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر (7)


(1) يوسف: 91. (2) الحشر: 9. (3) الأعلى: 16. (4) الأحقاف: 4. (5) طه: 96. (6) النهاية 1: 23، ولسان العرب 1: 69 / أثر. (7) راجع لسان العرب 1: 69 / أثر. (*)

[ 473 ]

وأصله من أثر مشيه في الأرض، فإنه إن مات لا يرى لأقدامه تأثير في الأرض لعدم المشي، فلا يبقى له أثر حينئذ. قال في النهاية: ومنه قوله (عليه السلام) للذي مر بين يديه وهو في الصلاة: (قطع صلاتنا قطع الله أثره) دعا عليه بالزمانة لأنه إذا زمن انقطع مشيه فانقطع أثره (1)، ويحتمل الحمل على الدعاء بموته ولعله بعيد. قولها (عليها السلام): (قبض رأفة) مفعول مطلق، أي كان قبض الله له (صلى الله عليه وآله) إليه قبض رأفة، مثل ضربت ضرب الأمير، أي كان هذا القبض على وجه الرأفة على النبي (صلى الله عليه وآله) ليخلصه عن تعب الحياة الدنيوية، ويريحه من شدائد هذه النشأة الدنية. وقولها (عليها السلام): (واختيار) أي قبض اختيار من الله له ما هو خير له، كما قال تعالى: * (وللآخرة خير لك من الأولى) * (2) و * (والآخرة خير وأبقى) * (3)، أو المراد ان هذا القبض باختيار منه (صلى الله عليه وآله)، ورضا منه بلا كره وإجبار، وكذلك الكلام في إجراء وجهي الإختيار بالنسبة إلى الرغبة والإيثار. و (التعب) مصدر قولك: تعب فلان تعبا - من باب علم - إذا أعيى وكل، والمراد منه المشقة والزحمة. و (الدار) معروفة، وهي المحوطة المشتملة على البيوت، وفسرت بالمنازل المسكونة، سميت بالدار لاحاطة الجدار ودوره حول بيوتها، وتجمع على أدؤر، تهمز واوه ولا تهمز، وآدر بالقلب المكاني ثم القلب الذاتي، والأصل أدور، و ديار، ودور، وتطلق الدار على المحلة أيضا، ومنه الحديث: (ما بقيت دار إلا وقد بني فيها مسجد) (4).


(1) النهاية 1: 23، ولسان العرب 1: 69 / أثر. (2) الضحى: 4. (3) الأعلى: 17. (4) النهاية 2: 139، ولسان العرب 4: 440 / دور. (*)

[ 474 ]

قيل: والأصل في إطلاق الدور المواضع، وقد تطلق على القبيلة مجازا إذا اجتمعت في محلة، ومنه قوله (صلى الله عليه وآله): (ألا اخبركم بخير دور الأنصار ؟ دور بني النجار) (1)، وأما إطلاقها على الدنيا أو الآخرة فهو حقيقة عرفية ثانوية. وفي إصطلاح أهل المعرفة حقيقة أولية لكون المعاني الموضوع لها عامة عندهم، فللدنيا حائط محيط لما فيها من البيوت وكذلك الآخرة، والدار قد يضاف إلى الدنيا والآخرة فتكون بالإضافة البيانية، وقد توصف بهما بناء على اعتبار وصفيتهما الأصلية، فيقال: الدار الدنيى تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب من دنا يدنو دنوا إذا قرب، أو بمعنى الأحقر والأذل من الدون بمعنى الخسيس. والآخرة فاعلة بمعنى المتأخرة مثل دار العقبى، والدار العقبى مؤنث أعقب بمعنى المتأخر أيضا، ويجوز على الإضافة جعل المضاف إليه مصدرا سيما في دار العقبى على وزن الرجعى والبشرى، ودار الله هي الآخرة، أو حضرة قدسه، أو الجنة، فإن الله هو السلام والجنة دار السلام. والدارة أخص من الدار، ودارة الوجه ما يحيط به من جوانبه، والدارة هالة القمر تشبيها بالدار المحيطة على البيت، ويقال: ما بها دوري ولا ديار أي أحد، ومنه قوله تعالى: * (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * (2) أي أحدا، وهي فيعال من درت وأصله ديوار فاعل، والدواري: الدهر يدور بالإنسان أحوالا. والداري العطار وهو منسوب إلى دارين فرضة بالبحرين، فيها سوق كان يحمل إليها المسك من ناحية الهند، ويجوز أن يعتبر نسبته إلى دار الصين الذي يجاء منه الأدوية المعطرة مثل القرنفل ونحو ذلك، ومنه الدارصين من العقاقير المعروفة، وفي الحديث: (مثل الجليس الصالح مثل الداري إن لم يحذك من عطره


(1) المصدر نفسه. (2) نوح: 26. (*)

[ 475 ]

علقك من ريحه) (1). والداري رب النعم لأنه مقيم في داره، والدائرة: الهزيمة يقال: (عليهم دائرة السوء)، وقيل: الدائرة الدولة بالنصر والغلبة، أو بمعنى ما يسوء الشخص من دوائر الدهر والزمان أي صروفه التي تدور وتحيط بالإنسان مرة بخير ومرة بشر. ودير النصارى معبد زهادهم، أصله الواو والجمع أديار، والديراني صاحب الدير، وأصل جميع ذلك من دار يدور إذا طاف وأحاط وكذا استدار يستدير على الشئ وإليه إذا طاف حوله، وعاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه. وبالجملة فدار القرارهي الآخرة كما قال تعالى: * (وإن الآخرة هي دار القرار) * (2) إذ لا انتقال منها إلى دار اخرى بعدها، وليس وراء عبادان قرية، بخلاف دار الدنيا فإنها دار فناء وزوال ودثور واضمحلال. وفي بعض النسخ: (بمحمد عن تعب هذه الدار) فيكون الظرف متعلقا بالإيثار بتضمين معنى الضنة ونحوها، وفي بعض النسخ: (محمد في راحة عن تعب هذه الدار) بدون الفاء والباء، فالجملة إستينافية أو مؤكدة للفقرة السابقة، أو حالية بتقدير الواو. وفي رواية كشف الغمة: (رغبة بمحمد عن تعب هذه الدار) (3)، وفي رواية أحمد بن أبي طاهر: (بأبي عزت هذه الدار) والمراد بالدار حينئذ دار القرار، وفي بعض النسخ: (فمحمد عن تعب هذه الدار في راحة في الدار الآخرة). و (الراحة) والروح من الإستراحة عن التعب، وهي زوال الاعياء والكلال، وبمعنى السعة أيضا، والمراح والمستراح محل الإستراحة، وأراحه إراحة وروحه تروحيا جعله مستريحا، ومنه قولهم: إن الأرواح تكل كما تكل الأبدان فروحوها بالحكمة.


(1) نحوه النهاية 2: 140، ولسان 4: 441 / دور. (2) غافر: 39. (3) كشف الغمة 2: 110. (*)

[ 476 ]

وفي شرح المجلسي الأول المولى محمد تقي على الفقيه، رواه بعنوان الخبر عن علي (عليه السلام) بقوله: وروي عن علي أمير المؤمنين (إن الأرواح تكل كما تكل الأبدان فروحوها بالحكمة الجديدة) وفسر الحكمة الجديدة بمثل كلمات المولوي الرومي، والحكيم السنائي وأضرابهما من طائفة العرفاء. وفي الدعاء: (أسألك الروح والراحة عند الموت) (1) كلاهما بمعنى الإستراحة، وقيل: الروح الرحمة أو نسيم الريح، وأصل المادة من راح يروح إذا ذهب وجاء أي تحرك، فاشتق منه الروح - بضم الراء - والريح ونحو ذلك، ثم توسع فاستعمل في معنى الإستراحة ونحوه لكون الروح والريح سببا لذلك. قولها (عليها السلام): (موضوعا عنه أعباء الأوزار... الخ). الوضع هو من قولك: وضعت الدين عنه بمعنى أسقطته، ويتفرع عليه قولهم: وصعت الشئ من يدي أو بين يديه تركته وألقيته، والمصدر الوضع والموضوع مثل المعقول. والموضع - بكسر الضاد -، والمفعول موضوع والموضع المكان أيضا. وفي الخبر: (إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم) (2) أي تفرشها لتكون تحت أقدامه إذا مشى، وهو متفرع من المعنى السابق، وقيل: هو بمعنى التواضع تعظيما لحقه، وقيل: أراد بوضع الأجنحة نزولهم عند مجالس العلم وتركهم الطيران، وقيل: أراد به إظلالهم بها، ومنه الحديث الآخر: (تظلهم الطير بأجنحتها). ثم قيل: إن المراد بالملائكة العموم، وقيل: الكرام الكاتبون، وقيل: ويحتمل صنعهم هذا وفعلهم كذلك في الدنيا، ويحتمل في الآخرة، ويحتمل في الدارين جميعا. والأعباء جمع العب ء كالحمل والثقل لفظا ومعنى، وقيل: هو الحمل الثقيل، وحملت أعباء القوم أي أثقالهم من دين أو غيره، قال: الحامل العب ء الثقيل عن ال‍ * جاني بغير يد ولا شكر (3)


(1) البحار 87: 236 ح 47. (2) أمالي الصدوق: 58 ح 7، عنه البحار 1: 164 ح 2. (3) راجع لسان العرب 9: 5 / عبأ. (*)

[ 477 ]

ويطلق العب ء على عدل المتاع أيضا، وأصل كل ذلك من عبأت الطيب عبأ - بفتح العين - إذا هيأته وصنعته وخلطته، وكذلك عبأت المتاع عبأ هيئته، وعبأت الجيش تعبئة، و * (ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) * (1) أي ما يبالي، فإن الشئ المهيأ ثقيل يعبأ به ويعتنى بشأنه. والأوزار جمع وزر كحبر بمعنى الثقيل، فيكون الأوزار بمعنى الأثقال، فالإضافة في الفقرة بيانية، ويجوز المغايرة الإعتبارية، والمراد هنا الأثقال الدنيوية والتكلفات والمشقات الواردة عليه من جهة إرشاد الامة، ومقاسات الحروب والشدائد، والمجاهدات الدينية، ويطلق الوزر على الإثم أيضا لثقله، وكذا السلاح وآلات الحرب، قال الشاعر: وأعددت للحرب أوزارها * رماحا طوالا وخيلا ذكورا (2) قال تعالى: * (حتى تضع الحرب أوزارها) * (3) أي أثقالها، والمراد وضع أهل الحرب أسلحتهم حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم، أو المراد وضع شدائدها باسكاتها وطرحها وتركها أي حتى ينقضي أمر الحرب ويخف أثقالها. والوزر: الملجأ لعظمه في العيون، والوزير: الموازر لأنه يحمل عن الملك وزره أي ثقله أي ثقل اموره، أو لأن الأمير أي الملك يلتجئ إلى رأيه وتدبيره فهو ملجأ له، و * (لا تزر وازرة وزر اخرى) * (4) أي لا تؤخذ بذنب نفس اخرى، ولا تحمل حمل اخرى، ويقال: وزر - بالبناء للمفعول - من الإثم فهو موزور، وفي الحديث: (ارجعن مأجورات غير مأزورات) (5) أي غير آثمات، والأصل موزورات فهمزوا للإزدواج فلو افرد رجع إلى أصله.


(1) الفرقان: 77. (2) راجع لسان العرب 15: 284 / وزر. (3) محمد: 4. (4) الأنعام: 164. (5) سنن ابن ماجه 1: 503 ح 1578 في اتباع النساء الجنائز، والنهاية 5: 179، ولسان العرب 15: 285 / وزر، والبحار 81: 264. (*)

[ 478 ]

و (المحفوف) مفعول من حف به إذا أطاف به، ومنه قوله تعالى: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش) * (1) أي مطيفين به مستديرين عليه، وكونه (صلى الله عليه وآله) محفوفا بالملائكة انهم أحاطوا به من كل جانب، وقاموا في خدمته وتوقيره وتعظيم شأنه، والإنقياد لأمره ونهيه. وفي الخبر: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) (2) وفي بعض النسخ في الفقرة: (قد حف بالملائكة الأبرار) وهو أدل على التحقق، وحفت المرأة وجهها بالشعر أو من الشعر أي زينته أو نقحته، وحفتهم الحاجة تحفهم إذا كانوا محاويج، والحفيف دوي جري الفرس والريح ونحو ذلك، وكل هذه الفروع مأخوذة من معنى الإحاطة. و (الأبرار) جمع بر - بفتح الباء - صفة مشبهة أو مخفف بار، تقول: بررت بوالدي من باب علم برا - بكسر الباء - خلاف العقوق فأنا بر به، والجمع أبرار كما ذكروا، واما جمع البار بالمعنى المذكور وبمعنى خلاف الفاجر فهو البررة، ومؤنث البر (برة)، يقال: الام برة بولدها أي عطوف، وفلان يبر خالقه أي يطيعه. وبر فلان في يمينه صدق، وبر حجه بصيغة المعلوم اللازم أو المجهول، وبر الله حجه برا أي قبله فصار مقبولا، والبر - بالكسر - يطلق على الخير والفضل والتقى، قال تعالى: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) * (3) ومعناه قريب من قول الشاعر: وغير تقي يأمر الناس بالتقى * طبيب يداوي الناس وهو عليل (4) و (الرضوان) بكسر الراء وضمها لغة قيس وتميم بمعنى الرضا، والمرضاة مثله، ورضيت الشئ وارتضيته فهو مرضي ومرتضى، وكذا رضيت به وعنه وفي


(1) الزمر: 75. (2) نهج البلاغة، الخطبة: 176، عنه البحار 70: 78 ح 12. (3) البقرة: 44. (4) راجع محاضرات الأدباء 1: 133، والأمثال والحلم للرازي: 194 رقم 865. (*)

[ 479 ]

لغة الحجاز عليه (1) أيضا، ويقال: رضيت به بمعنى اخترته لأن الرضا بالشئ يستلزم اختياره. وقوله تعالى: * (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) * (2) قيل: الرضوان من الله ضد السخط، وقيل: هو المدح على الطاعة والثناء والرضا مثله، فرضى الله ثوابه وسخطه عقابه من غير شئ يتداخله فيهيجه من حال إلى حال، لأن ذلك من صفات المخلوقين، ورضوان الرب يمكن أن يراد به رضا الرب عن العبد على نحو ما ذكر، وأن يراد به العكس، وكلاهما كما في قوله تعالى: * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) * (3) بل هما متلازمان مثل قوله تعالى: * (يحبهم ويحبونه) * (4). وفي الحديث: (الصلاة رضوان الله) أو (أول الوقت رضوان الله) (5) أي سبب رضوانه، ورضوان خادم الجنان إذ بيده جزاء رضوان الله، وفي الحديث: (سبحان الله رضا نفسه) (6) أي ما يقع منه موقع الرضا، أو ما يرضاه لنفسه، وفي الدعاء: (وخذ لنفسك رضاء من نفسي) (7) أي اجعل نفسي راضية بكل ما يرد عليها منك، كما في الدعاء الآخر: (اجعل نفسي مطمئنة إلى لقائك، راضية بقدرك وقضائك). وفي الدعاء أيضا: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، ومعافاتك من عقوبتك) (8) قيل: بدأ بالرضا لأنه من صفات الذات بخلاف المعافاة فإنها من صفات الأفعال، ولأن المعافاة انما تترتب على الرضا وتحصل به، وقول الفقهاء:


(1) أي يستعملون (رضيت عليه) أيضا. (2) المائدة: 16. (3) المائدة: 119. (4) المائدة: 54. (5) دعائم الإسلام 1: 137 مواقيت الصلاة، عنه البحار 83: 25 ح 47. (6) البحار 94: 207 ح 3، ومجمع البحرين / رضا. (7) فلاح السائل: 254، ومجمع البحرين. (8) عوالي اللآلي 4: 113 ح 176، عنه البحار 85: 169 ح 70، وفي لسان العرب 5: 235 / رضي. (*)

[ 480 ]

(يشهد على رضاها) أي على إذنها، جعلوا الاذن رضى لدلالته عليه، و * (عيشة راضية) * (1) أي مرضية، أو ذات الرضا بها، أو ان الإسناد مجازي. و (الرب) يطلق على الله تبارك وتعالى معرفا بالألف واللام، ومضافا إلى الأرباب، والناس، والخلق، والسماوات، والأرضين ونحو ذلك، نحو رب الأرباب، ورب الناس، ورب الخلق والسماوات والأرضين، ويطلق مضافا إلى شئ مخصوص جزئي على مالك الشئ الذي لا يعقل، فيقال: رب الدين، ورب المال. وقد يستعمل بمعنى السيد مضافا إلى العاقل مثل رب العبد والغلام ونحوهما، مثل قوله تعالى: * (اما أحدكما فيسقي ربه خمرا) * (2) وربما جاء باللام عوضا عن الإضافة المخصوصة بمعنى السيد، ومنع بعضهم أن يقال: هذا رب العبد وهو ضعيف، وقد يطلق مضافا بمعنى الصاحب والمربي والمدبر والمتمم والمنعم ونحو ذلك. والربانيون: الكاملون في العلم والعمل، قال أبو عباس أحمد بن يحيى: إنما قيل للفقهاء الربانيون لأنهم يربون العلم أي يقومونه، وفي الكشاف: الرباني شديد التمسك بدين الله وطاعته (3)، وفي القاموس: المتأله العارف بالله (4) وقال الطبرسي: هو الذي يرب أمر الناس بتدبيره وإصلاحه (5). وأصل المادة من رب الأمر ربا إذا أصلحه بتدبيره، ورباه تربية أصله رببه فابدل الباء الأخير ياء لأن المضاعف يلحقه الإبدال والحذف، مثل أمليته إملاء في أمللته املالا، فيقال: ربه ربا، ورببه تربيبا، ورباه تربية، كلها بمعنى.


(1) الحاقة: 21. (2) يوسف: 41. (3) الكشاف 1: 378، في سورة آل عمران آية: 79. (4) القاموس المحيط: 111 / الرب. (5) مجمع البيان / سورة آل عمران آية: 79. (*)

[ 481 ]

و (الغفار) مبالغة الغفور، ومعناهما الساتر لذنوب عباده وعيوبهم، المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم. والحاصل انهما من المغفرة، وهي العفو عن الذنب وأصلها من الغفر بمعنى الستر، يقال: غفره - من باب ضرب - غفرا وغفرانا ستره، والإسم المغفرة وتستعمل مصدرا أيضا. وغفرت المتاع جعلته في الإناء، فاطلق على العفو عن الذنب كأن الغافر يستره، كما يقال له العفو أيضا بمعنى المحو في الأصل، فيقال: غفر الله ذنبه وعفاه، ومنه الغفير للجم الكثير والجمع الزائد لسترهم وجه الأرض بكثرتهم وزيادتهم، والغفير بمعنى الزائد من الولد والمال، والمغفر لما يجعل على الرأس من آلة الحديد المعروفة لستره الرأس ونحو ذلك، وقولهم: والصبغ أغفر للوسخ أي أستر. و (المجاورة) من الجار، وهو من قرب ببيته من بيتك متصلا أو غير متصل بالقدر المعروف عرفا أي إلى أربعين ذراعا، أو أربعين دارا ونحو ذلك على الخلاف المعروف بحسب العرف والشرع من حيث بيان العرف، ولما كان الجار في حفظ الجار الآخر لقربه منه إذا كان قويا وهو يحفظه، أو ان الظالم لا يقصده من جهة الخوف منه، اطلق الجار على المجير، والمستجير، والناصر، والمستنصر، والشريك، والزوج، والزوجة ونحو ذلك من المعاني المناسبة والملائمة. ومجاورة الملك كناية عن الكون في حفظه وذماره، أو القرب منه أي من رضوانه وثوابه ونعمه وألطافه. وفي الحديث: (عليكم بحسن الجوار فإن حسن الجوار يعمر الدار)، قيل: ليس حسن الجوار كف الأذى فقط بل تحمل الأذى منه أيضا، ومن جملة حسن الجوار إبتدائه بالسلام، وعيادته في المرض، وتعزيته في المصيبة، وتهنيته في الفرح، والصفح عن زلاته، وعدم التطلع على عوراته، وترك مضايقته فيما يحتاج إليه من وضع جذوعه على جدارك، وتسلط ميزابه على دارك. وفي الخبر: (أحسنوا جوار النعم) وتفسيره كما جاءت به الرواية: الشكر لمن


[ 482 ]

أنعم بها عليك، وأداء حقوقها (1). والجارة: الضرة، قيل لها جارة إستكراها للفظ الضرة المشعر بكون كل منهما طالبا لضرر الآخر، أو لكون كل منهما موجبا له، ويطلق الجارة على المرأة المجاورة القريبة مكانا في محل الجوار المعروف، ومن أمثال العرب: إياك أعني واسمعي يا جارة. قيل: أول من قال ذلك هو سهل بن ساعد الفزاري، وذلك انه خرج فمر ببعض أحيا ءطي فسأل عن سيد الحي، فقيل: هو حارثة بن سلام الطائي، فأم رحله فلم يصبه شاهدا، فقالت له اخته: إنزل في الرحب والسعة، فنزل فأكرمته وألطفته، ثم خرجت من خباء إلى خباء، فرآها أجمل أهل زمانها فوقع في نفسه منها شئ، فجعل لا يدري كيف يرسل إليها ولا ما يوافقها من ذلك، فجلس بفناء الخباء وهي تسمع كلامه، فجعل ينشد: يا اخت خير البدو والحضارة * كيف ترين في فتى فزارة أصبح يهوي حرة معطارة * إياك أعني واسمعي يا جارة فلما سمعت قوله علمت انه إياها يعني فضرب مثلا. ومنه قوله (صلى الله عليه وآله): (نزل القرآن على لغة اياك أعني واسمعي يا جارة) (2) أي القرآن خوطب به النبي (صلى الله عليه وآله) لكن المراد به الامة، مثل ما عاتب الله به نبيه في قوله تعالى: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) * (3) فإنه عنى بذلك غيره كما جاءت به الرواية. وكذا قوله تعالى: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (4) وقوله تعالى: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * (5) على وجه من الوجوه، إلى


(1) البحار 71: 54 ح 86. (2) البحار 17: 71. (3) الاسراء: 74. (4) الزمر: 65. (5) الفتح: 1 - 2. (*)

[ 483 ]

غير ذلك. وفي الدعاء: (يا من يجير ولا يجار عليه) (1) أي ينقذ من هرب إليه ولا ينقذ من أحد هرب منه، وكلاهما من الإجارة بمعنى الإنقاذ. وجار الله من يجاور بمكة، إذ فيها بيت الله سبحانه، ويقال أيضا لمن كان ملازما لذكر الله فهو باعتبار المعنى جار الله أيضا، وقد يطلق لمن جاور المسجد أيضا فإنه أيضا بيت الله، قال الجوهري: ويقال جاورته مجاورة وجوارا - بالكسر والضم، والكسر أفصح - صرت جارا له (2). و (الملك) صفة مشبهة من قولهم: ملك فلان على الناس أمرهم - من باب ضرب - إذا تولى ذلك فهو ملك - بكسر اللام -، والإسم منه الملك - بضم الميم - بمعنى التسلط. وأصله من ملكت العجين ملكا - بفتح الميم - إذا شددته وقويته، ومنه ملاك الأمر - بكسر الميم وفتحه - قوامه وصلاحه أو ما يقوم به ويصلح، كما يقال: ملاك الجسد القلب، وملاك الدين الورع. وملكت الشئ ملكا - بفتح الميم - من باب ضرب أي تملكته فأنا مالك والشئ مملوك وملك - بالكسر فالسكون -، قال في الصحاح: وهذا الشئ ملك يميني أي مملوكها - بالفتح والكسر، والفتح أفصح (3)، - قيل: والإسم منه الملك - بالكسر والضم أيضا -، وبعضهم يجعل الملك - بكسر الميم وفتحها - لغتين في المصدر. والملكوت - كرهبوت -: (4) العزة والسلطان والمملكة هي الموضع للسلطنة، ويقال: الجبروت فوق الملكوت كما ان الملكوت فوق الملك، ويقال: لفلان ملكوة


(1) البحار 94: 390 ح 3. (2) الصحاح 2: 617 / جور. (3) الصحاح 4: 1609 / ملك. (4) الرهبوت من الرهبة على ما في لسان العرب 13: 182 / ملك. (*)

[ 484 ]

العراق - كترقوة - أي ملكها وعزها، وبيده تعالى ملكوت كل شئ فهو مليك وملك أي ذو الملك العظيم، والعزة القوية التي لا يدفعها شئ، وهذا بخلاف المالك لأنه يصدق بدون الملك العظيم، وبدون العزة القوية أيضا. والظاهر من الإستعمالات أن الملك - بتثليث الميم - يكون مصدرا وإسم مصدر، وبمعنى المفعول أي المملوك مطلقا، لكن الغالب في المصدرية فتح الميم، وفي معنى المملوك مطلقا كسر الميم، وفي إسم المصدر ضم الميم مع غلبته فيما كان مع عظمته عزة وقدرة وغلبة وسلطنة، ومنه قوله تعالى: * (اللهم مالك الملك) * (1) بضم الميم. وقال الشيخ أبو علي: مالك الملك أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكونه (2)، فهذا ملك عام، واما الملكان الآخران في الآية فخاصتان. وفي المجمع: الملك - بالضم - المملكة وقيل السلطنة، وهي الإستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف، وقوله تعالى: * (على ملك سليمان) * (3) عن الصادق (عليه السلام): جعل الله تعالى ملك سليمان في خاتمه، فكان إذا لبسه حضرته الجن والإنس والطير والوحش وأطاعوه، ويبعث الله رياحا تحمل الكرسي بجميع ما عليه من الشياطين والطير والإنس والدواب والخيل، فتمر بها في الهواء إلى موضع يريده سليمان. وكان يصلي الغداة بالشام والظهر بفارس، وكان إذا دخل الخلاء دفع خاتمه إلى بعض من يخدمه، فجاء شيطان فخدع خادمه وأخذ منه الخاتم فلبسه، فخرت عليه الشياطين والجن والإنس والطير والوحش، فلما خاف الشيطان أن يفطنوا به ألقى الخاتم في البحر، فبعث الله سمكة فالتقمته.


(1) آل عمران: 26. (2) تفسير جوامع الجامع 1: 166، ومجمع البحرين / ملك. (3) البقرة: 102. (*)

[ 485 ]

ثم إن سليمان خرج في طلب الخاتم، فهرب ومر على ساحل البحر تائبا إلى الله تعالى، فمر بصياد يصيد السمك فقال له: أعينك على أن تعطيني من السمك شيئا، فقال: نعم، فلما اصطاد دفع إلى سليمان سمكة، فأخذها فشق بطنها فوجد الخاتم في بطنها، فلبسه فخرت عليه الشياطين والوحش ورجع إلى مكانه، فطلب ذلك الشيطان وجنوده الذين كانوا معه فقتلهم، وحبس بعضهم في جوف الماء وبعضهم في جوف الصخرة، فهم محبوسون إلى يوم القيامة (1). و (الجبار) فعال من الجبر، وهو أن تغني الرجل أو تصلح عظمه من كسر، وجبرت العظم فجبر أي أصلحته فانجبر، يستعمل لازما ومتعديا، ويقال: جبرت اليد أي وضعت عليها الجبيرة، وهي عظام توضع على الموضع العليل من الجسد ينجبر بها. وجبرت اليتيم أعطيته، ويقال: جبر الله فلانا فاجتبر أي سد مفاقره، فالجبار يرجع إلى المبالغة في معنى قوله (عليه السلام): (يا جابر العظم الكسير) (2) أي المصلح لجميع نقائص أمور خلقه، كما قال في النهاية: في حديث علي (عليه السلام): (وجبار القلوب على فطراتها) هو من جبر العظم المكسور، كأنه أقام القلوب وأثبتها على ما فطرها عليه من معرفته والإقرار به شقيا أو سعيدا، قال القتيبي: لم أجعله من أجبرت لأن أفعل لا يقال فيه فعال (3). ويقال: أجبرته على الأمر أي أكرهته عليه بمعنى حملته عليه قهرا وغلبة فهو مجبر، وهو لغة عامة العرب، فالجبار لا يكون مبالغة من هذا الباب لأنه مزيد، وكان على هذا المعنى أن يطلق عليه تعالى المجبر لا الجبار. ولو فرض تصحيحه بحذف الزوائد نظير ما قيل في نحو قولهم: طوحته الطوائح، ان الطائح فاعل من طوحته أو أطاحته بحذف الزوائد بمنى المطوح


(1) مجمع البحرين / ملك، والحديث في تفسير القمي 2: 236، عنه البحار 63: 194 ج 1. (2) البحار 12: 319 ح 147. (3) النهاية 1: 236، ولسان العرب 2: 167 / جبر. (*)

[ 486 ]

والمطيح، أو بملاحظة ما نقل من استعمال جبرته بمعنى أجبرته في لغة بني تميم وبعض أهل الحجاز، كما حكاه الأزهري عنهما وابن القطاع عن بني تميم. وإن الأزهري نقل أيضا عن ابن دريد في باب ما اتفق عليه أبو زيد وأبو عبيدة: ان مما تكلمت به العرب من فعلت وأفعلت جبرت الرجل على الشئ وأجبرته عليه، وفي بعض التفاسير انه نقل له الفراء أيضا. وقال في النهاية في رد قول القتيبي المذكور على ما مر من جعل الجبار من جبر العظم لا الإجبار بمعنى القهر، معللا بأن أفعل لا يقال فيه فعال، قلت: يكون من اللغة الاخرى، يقال: جبرت وأجبرت بمعنى قهرت، إلى أن قال: وجبروت فعلوت من الجبر بمعنى القهر (1). فنقول: معنى الجبار حينئذ ان الله تعالى أكره الناس على حمل التكاليف الشرعية والكونية، لا انه أجبرهم على ارتكاب كل واحد من تلك التكاليف، وإنما قبل كل أحد ما قبل منها بحسن اختياره أو بسوء اختياره من الطاعة والمعصية، فليس هناك جبر رافع للقدرة وموجب للاضطرار بالضرورة، فليس هناك شبهة الإجبار، وإنما الأمر مطلقا مع الطوع والإختيار. أو يقال: إن الجبر انما هو في التكوينيات لا التشريعيات، فاخراج الأشياء من العدم إلى الوجود أي إيجادها بعد أن كانت معدومة، فإنما هو على سبيل الجبر لا الاختيار إذ لا اختيار للمعدوم بالمرة. ما نبوديم وتقاضامان نبود * لطف تو ناگفته ء مى شنود قابليت نيز از فيض خداست * نيستهارا قابليت از كجاست بلكه شرط قابليت داداوست * داد مغز وقابليت هست وپوست وبعد إيجادها فهي مختارة في مراتب استعداداتها وقابلياتها. بل يقال: لا جبر مع هذه الحالة أيضا، إذ مورد الجبر هو أن يكون للشئ استعداد واقتضاء فتمنعه عن ذلك الإقتضاء، فإذا لم يكن شئ ولا اقتضاء فلا جبر


(1) النهاية 1: 236 / جبر. (*)

[ 487 ]

لا محالة، كما ان العمى عدم البصر فإذا لم يكن هناك إنسان له اقتضاء البصر واستعداده فلا يصدق العمى لعدم البصر هناك، مثلا لا يقال للجدار انه أعمى لعدم قابلية فيه للبصر حتى يكون عدمه عمى. وهكذا فيما نحن فيه، فايجاد الموجود إجبار لا إكراه، واما بالنسبة إلى ما بعد ذلك فإختيار لكن هو أيضا لما كان على طبق أصل الفطرة فيجوز أن يقال انه إضطرار لا اختيار ولا إجبار. وبعد هذه كلها إذا عرفت جهات المسألة علمت انه لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه، مع ان لجميع الموجودات حركة إختيارية لا محالة، إذ لا يكون الخاتمة إلا على طبق الفاتحة، كما قيل: (إلهي إن الكل يخافون من آخر الأمر وعبد الله يخاف من الأول) (1)، ولكن ليس هذا جبرا رافعا للتكليف، ومبطلا للثواب والعقاب كما هو المذهب السخيف بل: اين نه جبر اين معنى جباريست * ذكر جبارى براى زاريست گر نبودى اختيار اين شدم چيست * اين دريغ وخجلت وآزرم چيست انبيا در كار دنيا جبريند * كافران در كار عقبى جبريند انبيارا كار عقبى اختيار * كافران را كار دنيا اختيار بر درخت جبر تاكى مى جهى * اختيار خويش را يكسو نهى هم چو آن ابليس وذريات أو * با خدا در جنگ واندر جستجو قال في المصباح: والجبر خلاف القدر، وهو القول بان الله تعالى يجبر عباده على فعل المعاصي، وهو فاسد وتعرف أدلته من علم الكلام، بل هو قضاء الله على عباده بما أراد وقوعه منهم، وهو الجبار لأنه تعالى يفعل في ملكه ما يشاء، ويحكم في خلقه ما يشاء (2).


(1) هذه المقولة للعارف الخواجه عبد الله الأنصاري، وأصلها الفارسي هكذا: (الهى همه كس از آخر مى ترسند وعبد الله از أول). (2) المصباح المنير: 89 / جبرت. (*)

[ 488 ]

وقيل: الجبار المتكبر، وفي الحديث: (لا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم) (1) أو لأنه يجبر الخلق ويقهرهم على بعض الأمور التي ليس لهم فيها اختيار، ولا على تغييرها اقتدار، أو الجبار هو العظيم الشأن في الملك والسلطان، أو المتعظم المتجبر الذي لا يكترث للأمر. وفي النهاية: الجبار معناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر أو نهي، وقيل هو العالي فوق خلقه، ومنه نخلة جبارة أي العظيمة التي تفوت منها يد المتناول أو الطويلة كذلك، وفي الحديث في امرأة: (دعوها فإنها جبارة) أي متكبرة عالية عاتية، ومنه الحديث في ذكر النار: (حتى يضع الجبار فيها قدمه). والمشهور في تأويله ان المراد بالجبار هنا هو الله تعالى، ويشهد له قوله في الحديث الآخر: (حتى يضع رب العزة فيها قدمه)، والمراد بالقدم أهل النار الذين قدمهم الله لها من شرار خلقه، كما ان المؤمنين قدمه أيضا الذين قدمهم للجنة. وقيل: اريد بالجبار هنا المتمرد العاتي، ويشهد له قوله (عليه السلام) في الحديث الآخر: (إن النار قالت: وكلت بثلاثة: بمن جعل مع الله إلها آخر، وبكل جبار عنيد، وبالمصورين)، وفي الحديث: (كثافة جلد الكافر في النار أربعون ذراعا بذراع الجبار) أراد به ها هنا الطويل، وقيل: يراد من الجبار هنا الملك، كما قد يقال بذراع الملك كناية عن العظم، وقال القتيبي: وأحسبه ملكا من ملوك الأعاجم كان تام الذراع (2). وبالجملة فالجبر خلاف القدر هو الجبر الباطل الذي هو القول بان الله تعالى يجبر عباده على فعل المعاصي، ومنه الحديث: (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، سئل ما الأمر بين الأمرين ؟ قال: مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته، فتركته ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك كنت أنت الذي أمرته بالمعصية) (3).


(1) أمالي الصدوق: 294 ح 9 مجلس 57، عنه البحار 2: 41 ح 2. (2) النهاية 1: 235 / جبر. (3) التوحيد: 362 ح 8، عنه البحار 5: 17 ح 27، مجمع البحرين / جبر. (*)

[ 489 ]

وينسب إلى الجبر بالمعنى المذكور فيقال: جبري، وقوم جبرية - بسكون الباء - على لفظه، وإذا قيل جبرية وقدرية جاز فتح الباء للازدواج، ويسمى الجبرية - باسكان الباء - في عرف أهل الكلام بالمجبرة، لأنهم يؤخرون أمر الله ويرتكبون الكبائر، كذا قيل. قال في المجمع: والمفهوم من كلام الأئمة (عليهم السلام) ان المراد من الجبرية الأشاعرة، ومن القدرية المعتزلة القائلون بالتفويض (1)، وفي الحديث ذكر القدرية وهم المنسوبون إلى القدر، ويزعمون ان كل عبد خالق فعله، ولا يرون المعاصي والكفر بتقدير الله ومشيته. وفي شرح المواقف: قيل: القدرية هم المعتزلة لاسناد أفعالهم إلى قدرتهم، وفي الحديث: (لا يدخل الجنة قدري) وهو الذي يقول: لا يكون ما شاء الله ويكون ما شاء إبليس، وفي الخبر: (القدرية مجوس هذه الامة) وقد يطلق القدرية على الجبرية لاسنادهم الأفعال إلى قدر الله وقضائه بنحو الجبر بلا اختيار للعبد. قولها (عليها السلام): " صلى الله على أبي نبيه وأمينه على الوحي وصفيه... الخ ". (الصلاة) في اللغة على المشهور بمعنى الدعاء، كما في قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) * (2) أي ادع لهم، ومنه سمى الصلاة واحدة الصلوات المفروضة بالمعنى الشرعي لكونها نوعا من الدعاء. وقوله تعالى: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * (3) يحتمل أن كون المصلى فيه مأخوذا من الصلاة بالمعنى اللغوي أي محل الدعاء، أو بالمعنى الشرعي أي محل الصلاة المقررة في الشريعة، والحق المشهور في أصل وضع الصلاة


(1) مجمع البحرين / جبر. (2) التوبة: 103. (3) البقرة: 125. (*)

[ 490 ]

الشرعية واشتقاقها هو ما ذكر. وإن قيل: إن اشتقاقها من الصلو وهو العظم الذي عليه الاليان، لأن المصلي يحرك صلوه في الركوع والسجود، أو هو باعتبار حال ائتمامه لأنه يجعل رأسه على صلوى السابق أي الإمام أو مأموم آخر مثله، تشبيها للمصلي (1) التابع للمجلي (2) من أفراس الرهان العشرة. أو انها إسم مصدر من صليت بمعنى أزلت الصلا وهو الإحتراق بالنار بجعل التفعيل للإزالة، لأنها توجب دفع عذاب الآخرة، أو هو من صليت العود بالنار إذا لينته، لأن المصلي يلين بالخشوع، أو من الوصل كما قيل وورد في بعض الأخبار، لأنها اتصال وارتباط بين العبد وبين الله سبحانه، فإن كل ذلك خلاف الظاهر بحسب المتعارف بين أهل الظاهر، والخبر حجة تعبدا وسره عند أهله إن لم يكن فيه ضعف سندا ودلالة. وتجئ الصلاة بمعنى الرحمة أيضا كقوله تعالى: * (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) * (3) أي ترحم، وبمعنى البركة أيضا كالآية، وقولهم: (اللهم صل على محمد وآل محمد) أي ارحمهم وبارك عليهم، وبمعنى التعظيم والإعتناء بإظهار الشرف ورفع الشأن. فلا يكون قوله تعالى: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) * (4) من باب إستعمال اللفظ في المعنيين أو في مجازي عام، بل في معنى واحد حقيقي وهو التعظيم بإظهار الشرف والشأن، ومن هنا قيل إن تشريف الله تعالى محمدا (صلى الله عليه وآله) بقوله: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) * أبلغ من تشريف آدم بالسجود.


(1) المصلي من الخيل: الذي يجئ بعد السابق لأن رأسه يلي صلا المتقدم وهو تالي السابق / لسان العرب. (2) يقال للسابق الأول من الخيل المجلي / لسان العرب. (3) البقرة: 157. (4) الأحزاب: 56. (*)

[ 491 ]

فيجري هذا المعنى في قولهم: (اللهم صل على محمد وآل محمد) أيضا، فيكون هو بمعنى ارحمهم وبارك عليهم أي أنزل رحمتك وبركاتك عليهم، وعظمهم بما يظهر به شرف شأنه، فيؤول حاصله إلى قولنا: اللهم أعطهم وألطف عليهم في الدنيا بإعلاء ذكرهم، وإظهار دعوتهم، وإبقاء شريعتهم، وفي الآخرة بتشفيعهم في الامة، وتضعيف الأجر والمثوبة مضافا إلى إنزال رحمتك وبركاتك عليهم في الدنيا والآخرة، والله يصلي عليهم أي ينزل رحمته إليهم. وصلاة الملائكة بمعنى الرحمة أيضا، وذلك بدعائهم للنبي (صلى الله عليه وآله) أيضا كدعائنا له، فإن الدعاء أيضا رحمة، فيمكن أن يكون معنى الدعاء متفرعا من معنى الرحمة. فقول بعض من أهل الأدب: إن الصلاة من الله تعالى الرحمة، ومن الإنسان الدعاء أي طلب الرحمة، ومن الملائكة الإستغفار أي طلب المغفرة، لا وجه له. وتطلق الصلاة على الدين أيضا إما لأنه أيضا رحمة، أو لأن الصلاة الشرعية أعظم أركان الدين فاطلقت عليه، ومنه قوله تعالى في شعيب حكاية عن قومه: * (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) * (1) أي دينك، وقيل: المراد به نفس الصلاة الشرعية، فإن شعيب كان كثير الصلاة فقالوا له ذلك. وفي الدعاء: (اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم) (2) قيل: ليس التشبيه من باب إلحاق الناقص بالكامل، بل لبيان حال من لا يعرف عند عامة الناس بمن هو معروف مشهور عندهم، وإن كان الأول بالنسبة إلى الآخر أكمل في الحقيقة. وقيل: هو في أصل الصلاة لا في قدرها، وقيل: معناه إجعل لمحمد (صلى الله عليه وآله) صلاة بمقدار الصلاة لابراهيم وآله، وفي آل إبراهيم خلائق لا يحصون من الأنبياء والأولياء، وليس في آله نبي، فطلب إلحاق جملة فيها نبي


(1) هود: 87. (2) تأويل الآيات 2: 460 ح 26، مجمع البحرين / صلى. (*)

[ 492 ]

واحد بما فيه أنبياء. واختلف في وجوب الصلاة على محمد (صلى الله عليه وآله) في الصلاة، فذهب أكثر الإمامية، وأحمد، والشافعي إلى وجوبها فيها، وخالف أبو حنيفة ومالك في ذلك ولم يجعلوها شرطا في الصلاة، وكذلك اختلف في إيجابها عليه (صلى الله عليه وآله) في غير الصلاة، فذهب الكرخي إلى وجوبها في العمر مرة، والصخاوي: كلما ذكر، واختاره الزمخشري (1)، وكذا ابن بابويه من فقهائنا، قال في المجمع: وهو قوي (2) (3). قال الشهيد الثاني (رحمه الله) في الروضة: وغاية السؤال بالصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) عائدة إلى المصلي، لأن الله تعالى قد أعطى نبيه (صلى الله عليه وآله) من المنزلة والزلفى لديه مالا تؤثر فيه صلاة مصل، كما نطقت به الأخبار، وصرح به العلماء الأخيار، إنتهى (4). أقول: ولعل من جملة تلك الأخبار التي أشار إليها قوله (عليه السلام): (الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) أفضل من الدعاء لنفسه) (5) ووجهه ان فيها ذكر الله وتعظيم النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن شغله ذكره عن مسألة أعطاه أفضل مما يعطي الداعي لنفسه، ويدخل في ذلك كفاية ما يهمه في الدارين، وفيه: (من صلى علي صلاة صلت الملائكة عليه عشرا) (6) أي دعت له وباركت، وفي آخر: (من صلى علي مرة لم يبق من ذنوبه ذرة) (7) إلى غير ذلك. وحاصل هذا الوجه حينئذ ان النطق بالصلاة على هذا الوجه تعبدي، وضعت


(1) راجع الكشاف 3: 557 / سورة الأحزاب آية: 56. (2) مجمع البحرين / صلى. (3) راجع تفصيل هذه الأقوال في كنز العرفان 1: 132، والبحار 85: 279. (4) شرح اللمعة الدمشقية 1: 20. (5) مجمع البحرين / صلا. (6) النهاية 3: 50، مجمع البحرين / صلا. (7) جامع الأخبار: 153 ح 4، عنه البحار 94: 63 ح 52. (*)

[ 493 ]

على هذه الصورة لندعوه بها، ويرجع ثوابها إلينا، وقيل: إن درجات نواله تعالى مما لا تقف على حد، وامتاز نبينا (صلى الله عليه وآله) عن سائر الأنبياء بزيادة القبول للفيوض الربانية، وكان (صلى الله عليه وآله) يقول: (إن ربي قد وعدني درجة لا تنال إلا بالدعاء، أو دعاء امتي) وكان (صلى الله عليه وآله) يطلب الدعاء من صلحاء المؤمنين. وقيل: إن دعاءنا له من جملة أعماله التي بها يستحق مزيد القرب والدرجات، لأنه قد أنقذنا من الهلاك فعرفناه وعرفنا الصلاة عليه، وهذا أيضا من أعماله وعباداته، كدعاء المؤمن في حق المؤمن بسبب دخوله في الإيمان حيث انه ليس للإنسان إلا ما سعى. وقيل: إن ذلك يوجب بالنسبة إليه (صلى الله عليه وآله) أن يحصل له درجة الشفاعة في حقنا، وهذا مزيد درجة له كما ندعو بقولنا: وتقبل شفاعته في امته، أو انه دعاء لهم (عليهم السلام) بنصرهم، وسلامة شيعتهم في الرجعة، أو انه دعاء لهم بعدم انقطاع وساطة الرحمة الكلية عنهم (عليهم السلام)، نظير (إهدنا الصراط المستقيم) على وجه من الوجوه، وقوله (صلى الله عليه وآله): (رب زدني علما) أو انه دعاء لازدياد نعمنا، فإن ازدياد نعمنا وعلو درجاتنا مزيد لهم (عليهم السلام)، من حيث ان زيادة أغصان الشجر وأوراقها ونضرتها زينة للشجر ومزيد له من باب الصفة بحال المتعلق. و (الأمين) هو من اؤتمن على شئ فيوضع عنده، وذلك الشئ هو الأمانة، وهي هنا الوحي أي الموحى به بمعنى الأحكام الأصولية والفروعية والتشريعية والتكوينية التي اوحيت إليه (صلى الله عليه وآله) فاودعت عنده، فيؤديها على ما أودعت إمتثالا لقوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * (1) وسيجئ. و (الصفي) فعيل بمعنى مفعول من الصفا والصفوة بمعنى الصافي والمصطفى. و (الخيرة) بكسر الخاء وفتح الياء بمعنى المختار.


(1) النساء: 58. (*)

[ 494 ]

و (الرضي) نظير الصفي بمعنى الراضي والمرتضى من الرضاء. وقد مر معاني المواد المذكورة، والله سبحانه قد اصطفى نبينا (صلى الله عليه وآله) واختاره من بين خليقته للنبوة التامة، والرسالة الكاملة، ولمنشئية آثار الالوهية، ومبدئية فيوضات الربوبية بحيث لا يدانيه أحد، ولا يحد مداه بحد، كما اختاره للعبودية الحقيقية التي كنهها الربوبية، وارتضاه لتلك المرتبة الكاملة، والفضيلة الفاضلة، ورضي عنه وأرضاه، وانتجبه واجتباه، فهو تعالى راض عنه، وهو (صلى الله عليه وآله) راض عنه تعالى. و (السلام) هو السلامة، ومعنى قولنا: (السلام عليك) الدعاء بالسلامة من المكاره، وإذا قلنا: (السلام علينا وعلى الأموات) فمعناه الدعاء بالسلامة لأنفسنا من آفات الدنيا والأموات من عذاب الآخرة، بل لأنفسنا أيضا من عذاب الآخرة. وضعه الشارع موضع التحية والبشرى بالسلامة، ثم انه اختار لفظ السلام وجعله تحية لما فيه من المعاني المقصودة، أو لأنه مطابق للسلام الذي هو إسم من أسمائه تعالى تيمنا وتبركا، وكان يحيى به قبل الإسلام وبغيره أيضا، بل كان السلام بالسلام أقل وغيره أكثر وأغلب، فلما جاء الإسلام اقتصروا بأمر الشارع عليه، ومنعوا ما سواه من تحيات الجاهلية، وإيراده على صغية التعريف أزين لفظا وأبلغ معنى. وقيل: معنى (السلام عليك) إسم السلام عليك، أو إسم الله عليك أي أنت في حفظه، كما يقال: (الله معك) وهو ضعيف. والسلام على النبي (صلى الله عليه وآله) دعاء بعدم انقطاع الفيوضات الإلهية عنه لنفسه ولأمته وشيعته، بل لجميع الخليقة في الدنيا والآخرة، وفي الرجعة والبرزخ من المكاره والآفات وسوء الخاتمة، ويظهر بعض الكلام في وجه السلام على النبي (صلى الله عليه وآله) مما مر في معنى الصلاة. و (الرحمة) قيل بمعنى مطلق النعمة، والحق كما قيل انها بمعنى رقة القلب والتعطف والمرحمة، يقال: رحمت زيدا أي رققت له وحننت عليه، والفاعل راحم


[ 495 ]

والمبالغة رحيم. وفي الحديث: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) (1)، ويقال: رهبوت خير من رحموت أي لأن ترهب خير من أن ترحم (2). والمراد من الرحمة عند النسبة إلى الله سبحانه غايتها، وهي الانعام والإحسان والرزق والإمتنان، وكذا بعض الأوصاف المنتسبة إليه تعالى مما يشبه ذلك الذي لا يجري فيه تعالى بحقيقته لكونه من صفات خلقه كالقهر، والغضب، والكرم، والسخاء، والرضا، والمكر، والسخرية وغيرها، فإن المراد في كل ذلك غايته لا مبدأه، ولذا قيل: إن هذا المقام من مواد ما تداول بين الأقوام من قول الحاضر والبادي: (خذ الغايات واترك المبادي) أي اجعل الأمر كذلك في نسبة تلك الأوصاف إلى الله سبحانه. قيل: والرحمة الرحمانية هي العطوفة الكاملة التي لا غاية لها، فيختص من حيث اللغة بالله سبحانه، وهي إعطاء كل ذي حق حقه. ولعل هذا من جهة المبالغة الموجودة في (رحمان) بالنسبة إلى (رحيم) لأن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني، ولذا اختص بالله سبحانه ولا يطلق على غيره تعالى لكونه من الصفات المختصة به تعالى من حيث المعنى. وقيل: إن ذلك من جهة كونه من الصفات الغالبة، وبالجملة لا يطلق هو على غيره تعالى البتة، وقول بني حنيفة في مسيلمة الكذاب رحمان اليمامة، فهو من جهة تعنتهم في كفرهم وضلالهم حتى قالوا: سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا * وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا و (البركة) الزيادة والنماء، يقال: بارك الله فيه فهو مبارك، والأصل مبارك فيه، ومنه التحيات المباركات، واما ما يقال في الله تبارك وتعالى قيل: هو أيضا من هذه المادة بهذا المعنى أي زاد وارتفع بحسب نعمه وإحسانه، من باب الصفة بحال


(1) دعائم الإسلام 1: 225، عنه البحار 82: 101 ح 48. (2) راجع لسان العرب 5: 173 / رحم. (*)

[ 496 ]

المتعلق أي زائد النعم والإحسان، وحاصله انه صاحب البركة. وقيل: هو من برك البعير بروكا - من باب قتل - وقع على بركته وهي صدره، كناية عن قدمه تعالى وثبوته، وعدم تطرق التغير والزوال عليه، والمعنى الأول أظهر في النظر، و * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (1) قيل: أي ثبت الخير عنده وفي خزائنه، وقيل: تبارك أي علا وتعظم وتكبر وتكرم، واتسعت رحمته وكثرت نعمته، وتبارك في هذه المقامات بمعنى بارك نظير تقابل وقابل. وقد يكون بارك متعديا نحو باركه الله أي بارك الله فيه من باب الحذف والإيصال، وإلا فهو لازم أيضا في الحقيقة، والمراد من بركته تعالى نعمه وإفضالاته الزائدة، وجمع البركات للمبالغة. قال في النهاية: في الحديث: (وبارك على محمد وآل محمد) أي أثبت له وأدم له ما أعطيته من التشريف والكرامة، من برك البعير إذا أناخ في موضعه ولزمه، وتطلق البركة أيضا على الزيادة والأصل الأول، إنتهى (2). والظاهر في عالم التبادر هنا بملاحظة العرف هو اعتبار معنى الزيادة والبركة، أي كن صاحب البركة والزيادة بالنسبة إلى محمد وآل محمد، وتفضل عليهم، وزد في نعمهم وإحسانهم أبدا، كما قال (صلى الله عليه وآله): (رب زدني علما). ثم إن قولها (عليها السلام): " والسلام عليه ورحمة الله وبركاته " يمكن أن يكون السلام فيه إشارة إلى سلامته (صلى الله عليه وآله) في نفسه عن مفاسد امته وشرورهم بالنسبة إلى عترته، والرحمة إشارة إلى جريان الفيوض الإلهية إليهم من حيث أنفسهم، وبركاته إشارة إلى وصول نعم الله تعالى إلى شيعتهم. وهنا قد فرغت (عليها السلام) من الحمد والثناء على الله سبحانه، والصلاة والسلام على نبي الرحمة، وإمام الامة الكاشف للغمة. * * *


(1) المؤمنون: 14. (2) النهاية 1: 120، ولسان العرب 1: 387 / برك. (*)

[ 497 ]

ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت (عليها السلام): " أنتم عباد الله نصب امره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وامناء الله على أنفسكم وبلغاؤه إلى الامم، زعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم، كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، متجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائد إلى الرضوان أتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه ". بيان: قولها (عليها السلام): (عباد الله) منادى مضاف حذف منه حرف النداء أي يا عباد الله، و (أنتم) مبتدأ و (نصب) خبره، وإقحام النداء بين الخبر والمبتدأ إشارة إلى الحرص على التنبيه، وان المطلب الملقى إليهم أمر خطير لابد أن ينبه المخاطب عليه لئلا يذهب عليه ولا يفوت عنه من جهة الإشتباه والغفلة. وحذف حرف النداء تنبيه آخر على ان المطلب مهم فليلاحظ حتى لا يفوت بطول النداء، وهذه النكتة اعتبرت في لفظ عباد الله بخصوصه غالبا في الخطب الواردة عن الأئمة (عليهم السلام)، كقولهم: (أوصيكم عباد الله بتقوى الله) (1)، (أوصيكم عباد الله بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبوا تركها، والمبلية لأجسادكم وإن كنتم تحبون تجديدها) (2) إلى غير ذلك من خطب نهج البلاغة وغيرها. و (نصب) بالفتح - على ما قال الفيروز آبادي (3) - هو العلم المنصوب، ويحرك ويقال: هذا نصب عيني - بالضم والفتح - أي منصوب في مقابل عيني، ونصب - بضمتين - أيضا كذلك، ولهذا يطلق كل منها على الوثن المنصوب للعبادة.


(1) نهج البلاغة، الخطبة: 83. (2) نهج البلاغة، الخطبة: 99. (3) القاموس المحيط: 177 / نصب. (*)

[ 498 ]

قال تعالى في مقام بيان المحرمات: * (وما ذبح على النصب) * (1) أي لأجله، وهو قربان الأوثان يلطخونها بدمه بعد أن يذبحوه عندها، فصارت حمرا ملوثة بالدم، وقد لا يلطخون، أو هو الحيوان المذبوح الذي لم يذكر عليه إسم الله، أو ذكر عليه إسم بعض الأوثان عند الذبح. وقال تعالى: * (إنما الخمر والميسر والانصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان) * (2) أي الحاصل بما ذكر من المذكورات المتعلق بها رجز (فاجتنبوه)، وفسر الأنصاب بالأصنام وبنفس تلك الذبائح أيضا. وبالجملة فالنصب بالمعنى المذكور يكون مصدرا بمعنى المفعول، ولكونه مصدرا في الأصل يقع على القليل والكثير، ووقع هنا خبرا عن الجمع أي أنتم منصوبون لأوامره تعالى ونواهيه، وأنتم مطمح نظر الله في إنزال الدين والشريعة، وانه خلقكم ونصبكم ليحمل أوزار التكليف عليكم، ويحملكم إلى العبادة المطلوبة والمعرفة المقصودة، كما قال تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما اريد منهم من رزق وما اريد أن يطعمون) * (3). والنصب بالمعنى المصدري معروف، ويرجع معناه إلى الرفع مع الإثبات، يقال: نصبت الشئ أي أقمته وأثبته، والمنصب كمنبر الأثفية من الحديد يجعل عليها الطنجير (4) بدل الأثافي من الحجر، وهي حجران ثالثهما المرتفع من الأرض الذي يقال له ثالثة الأثافي. والمنصب كمجلس - بكسر العين - الأصل والمرجع، يقال: منصب الشئ أي أصله ومرجعه يعني الذي نصب فيه، قيل: ومنه المنصب بمعنى الجاه، والحق ان المنصب في هذه الموارد إسم مكان بمعنى محل النصب والإثبات والإقامة، إلا انه


(1) المائدة: 3. (2) المائدة: 90. (3) الذاريات: 56 - 57. (4) الطنجير: وعاء يعمل فيه الخبيص [ أي الحلواء ] ونحوه. / المنجد. (*)

[ 499 ]

قد يكنى به عن الأمور المزبورة من باب الملازمة. والنصاب من المال - بكسر النون - القدر الذي تجب فيه الزكاة، والنصب - # # بفتحتين - التعب، لأن من تعب في سيره قام وثبت في مقامه فلا يتحرك. و (حملة) جمع حامل وهو الشائع في جمع فاعل الصفة وصفا للعاقل كطلبة وفعلة وغيرهما، والمراد من الدين والوحي معنى الموحى به من أحكام الشريعة، ويجوز المعنى المصدري أيضا فيهما، والمال راجع مطلقا إلى المعنى الواحد هو الشريعة، وقد مرت الإشارة إلى مادة اللفظين. والمراد من الحمل هنا هو تحمل التكاليف الدينية أصولية وفروعية، أي أن الله تعالى قد حمل أمانة التكاليف عليكم، ووجه أوامره ونواهيه إليكم، فأنتم الحاملون للتكاليف الشرعية، والمتحملون لأعباء الأوامر والنواهي الدينية، فلابد لكم أن تطيعوه تعالى فيما أمر ونهى بلسان رسوله الذي ما كان ينطق عن الهوى، فلم تتخذون من دون الله أوثانا، وتجعلون لأنفسكم من غير أولياء الله أربابا ؟. وإلى هذا المعنى يرجع على أحد الوجوه قوله تعالى: * (انا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا) * (1). أي انا عرضنا أمانة التكاليف الشرعية على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، مرادا بالاباء هو الاباء الطبيعي والاستعدادي أي لم يكن لها استعداد وقابلية في أنفسها لحملها بأن تكون مخاطبة بحملها والعمل بها، وأشفقت منها لضعف طباعها عن أدائها، وحملها الإنسان لقابليته لها، انه كان ظلوما جهولا أي مركبا من القوة الغضبية والشهوية. وهو وصف للجنس باعتبار أغلب الأوصاف، كقوله تعالى: * (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) * (2) أي ان الله تعالى حمل التكاليف


(1) الأحزاب: 72. (2) الأنعام: 38. (*)

[ 500 ]

الشرعية على الإنسان لا على غيره من المخلوقات لعدم قابليتها لها بخلاف الإنسان، فحملها اياه وكلفه بها ليعذب الله المنافقين والمنافقات لخيانتهم في الأمانة، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات بأدائهم لها والعمل على طبقها. فالمراد بالأمانة حينئذ الأوامر والنواهي والفرائض والأحكام الواجبة على الأنام، ويدخل فيها ولاية الأئمة (عليهم السلام) لأ # نها أعظم أحكام الإسلام. وفي بعض الأخبار في الكافي والبصائر وغيرهما: ان الأمانة هي الولاية أبين أن يحملنها كفرا وحملها الإنسان أبو فلان، انه كان ظلوما جهولا (1)، وفي خبر آخر: إن المراد بالإنسان أبو الشرور والمنافق (2). وفي بعض الأخبار: فأبين أن يحملنها بأثقالها وادعائها لأنفسهن وتمنى محلها لهن، وحمل الشيطان آدم وحواء في الجنة على تمني منزلتهم (عليهم السلام) إلى أن آل أمرهما إلى ما آل، ثم لم يزل أنبياء الله بعد ذلك يحفظون هذه الأمانة، ويشفقون من ادعائها لأنفسهم، وحملها الإنسان الذي قد عرف بأصل كل ظلم منه إلى يوم القيامة (3). وفي بعضها: فأبين أن يغصبنها عن أهلها وأشفقن منها، وحملها الإنسان يعني الأول (4). وفي بعضها: ان الصلاة من أمانة الله فلابد من أدائها (5)، ونحو ذلك. فالمراد من حمل الأمانة حينئذ ابقائها في الذمة وعدم أدائها، أو المراد حمل


(1) بصائر الدرجات: 96، ج 3 باب 10، عنه البحار 23: 281 ح 24، وفي الكافي 1: 413 ح 2، وتفسير الصافي 4: 207، وكنز الدقائق 10: 453. (2) معاني الأخبار: 110 ح 2، عنه البحار 23: 279 ح 20، وتفسير الصافي 4: 207 وكنز الدقائق 10: 453. (3) معاني الأخبار: 108، وتفسير الصافي 4: 207، وكنز الدقائق 10: 450، ملخصا. (4) تفسير القمي 2: 198، والبحار 23: 280 ح 21، وتفسير الصافي 4: 207، وكنز الدقائق 10: 456. (5) تفسير الصافي 4: 208. (*)

[ 501 ]

تركها وحمل اثمها وعقابها، كما قال تعالى: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) * (1)، وعن الزجاج: كل من خان الأمانة فقد حملها، وكل من أثم فقد حمل الاثم (2). أو المراد أنا عرضنا أمانة الولاية لهن للإمتحان، وانهن هل يحملنها بأن يتقمصنها، فأبين عن ذلك عملا بمقتضى علمهن من أنهن لسن أهلا لذلك، وانه لا يليق لهن التقمص بذلك، ولا يمكن لهن أداء حقوقها والعمل بلوازمها ورسومها، وتقمصها الإنسان وهو فلان ظلما وجهالة أو تجاهلا. أو إنا جعلنا لكل شئ تكليفا فأبى كل شئ حمل مخالفة تكليفه، بل أدى تكليفه، بخلاف الإنسان فإنه خالف ما امر به، فحمل قلادة المخالفة لما فيه من الظلم والجهالة. ويجوز أن يكون المراد أنا عرضنا أمانة الولاية عليهن، فلم يكن فيهن شئ قابل لحملها وتحمل أعبائها، وحملها الإنسان أي علي (عليه السلام)، انه كان ظلوما جهولا أي مظلوما مجهول القدر بين الناس، كما ورد في قوله تعالى خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله): * (ووجدك ضالا فهدى) * (3) أي وجدك مجهول القدر بين الناس، فهدى الناس إلى معرفتك. و (الامناء) جمع الأمين، يقال: أمنته على كذا أمنا وأمانة وأتمنة فهو آمن وذاك مأمون ومؤتمن وأمين على ذلك الشئ الذي هو أيضا يسمى أمانة، قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: * (يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف) * (4) بالادغام والإظهار، والإدغام أحسن. وأبلغه مأمنه أي موضع أمنه، ويقال: أمنت من الأسد أمنا مثل سلم وزنا


(1) العنكبوت: 13. (2) راجع لسان العرب 3: 331 / حمل. (3) الضحى: 7. (4) يوسف: 11. (*)

[ 502 ]

ومعنى، ويتعدى بالهمزة فيقال: أمنته منه وأمنت الأسير أعطيته الأمان فأمن هو - # # بالكسر - أمنا، فالايمان في الأصل إعطاء الأمن، ويسمى الإيمان بالله إيمانا لأن إيمان العبد بتصديق النبي (صلى الله عليه وآله) مثلا إيمان لنفسه أي جعله مطمئنا. وأصل الأمن الاطمئنان وسكون القلب، وبعبارة اخرى خلاف الخوف، ومن ائتمن شخصا على شئ فقد اطمأن به من جهة هذا الشئ أي اطمأن بالمأمون على ذلك الشئ فذلك الشئ أمانة، وتسمى وديعة أيضا لأ # نه يدعها ويتركها عند المؤتمن، وفي حفظها يعتمد عليه ويطمأن به. ومن أسمائه تعالى المؤمن لأ # نه أمن عباده من أن يظلمهم، أو من نار جهنم، أو أنه مصدق لهم في عبوديتهم له، أو في الوهيته عليهم، أو مصدق لنبيه فيما جاء به من عنده. والمهيمن قيل أصله المؤمن باعتبار أصله أي مؤأمن قلبت الهمزة الأولى هاء والثانية ياء، وقيل: هو من الهيمنة بمعنى السلطنة والعظمة، أو التسلط بالقهر والغلبة، وفي الدعاء: (يا مؤمن يا مهيمن) (1) والعطف دليل المغايرة. ومعنى قولها (عليها # السلام): (وامناؤه على أنفسكم) أي أن نفوسكم ودائع الله عندكم وأنتم اناء الله على أنفسكم، فلا يجوز لكم الخيانة على ودائع الله بأن تتركوا أوامره ونواهيه فتوقعوها في الهلكة، وتضيعوها بالمخالفة والمعصية، بل لابد لكم أن تهذبوها بالطاعة والانقياد لأمر الله سبحانه، وتزكوها باتباع أهل الولاية وأئمة الهداية. و (البلغاء) جمع البليغ على ما هو الأكثر في جمع الفعيل، وإن جاز جعله جمع الفاعل أيضا كشعراء في شاعر، إلا أنه نادر لم يأت منه إلا أسماء معدودة مسموعة، مثل العلماء في عالم، والعرفاء في عارف، والشهداء في شاهد، مع


(1) دعاء الجوشن، الفقرة: 17. (*)

[ 503 ]

إمكان جعل كل ذلك جمع فعيل أيضا وفعلاء أكثر مثل ظرفاء في ظريف، وشرفاء في شريف، وكرماء في كريم ونحو ذلك، وهو الصحيح في القواعد العربية. والبليغ فعيل بمعنى فاعل من المزيد بمعنى المبلغ والمبلغ من الافعال والتفعيل، نحو السميع بمعنى المسمع، والأليم بمعنى المؤلم، والحكيم بمعنى المحكم ونحو ذلك، أي أنكم تبلغون الأحكام وتؤدونها إلى سائر فرق الأنام من أهل الإسلام الذين يأتون بعدكم، أو هم غائبون عن خدمة النبي (صلى الله عليه وآله) لأنكم أدركتم صحبة النبي (صلى الله عليه وآله) وأخذتم منه الأحكام الشرعية. وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله) لكم في يوم الغدير: (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب) مرادا منه المعنى الأعم الشامل للموجود والمعدوم، فإن حكمه على الواحد منكم حكمه على الجماعة، وان شرع محمد (صلى الله عليه وآله) مستمر إلى يوم القيامة فكيف يليق بكم أن تتركوا ما امرتم به، وترتكبوا ما نهيتم عنه. قولها (عليها # السلام): " زعيم حق له فيكم... الخ ". الزعيم فعيل من الزعم بمعنى الكفيل من قولهم: زعمت به أزعم زعما وزعامة - من باب علم - كفلت به، وفي الحديث: (الزعيم غارم) (1)، وفي نهج البلاغة: (ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم) (2) وفي سورة يوسف: * (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) * (3)، وقد يستعمل الزعيم بمعنى الوكيل أيضا، ومنه الحديث: (زعيم الأنفاس) (4) أي وكيلها الموكل بها يصعدها. والزعامة أيضا السيادة، وزعيم القوم سيدهم، ولعل هذا المعنى متفرع من


(1) عوالي اللآلي 3: 241 ح 1، عنه مستدرك الوسائل 13: 393 ح 15698، والنهاية 2: 303، ولسان العرب 6: 48 / زعم. (2) نهج البلاغة الخطبة: 16، عنه البحار 32: 47 ح 30، والنهاية 2: 303، ولسان العرب 6: 48 / زعم. (3) يوسف: 72. (4) النهاية 2: 303، ولسان العرب 6: 49 / زعم. (*)

[ 504 ]

المعنى السابق، فإن سيد القوم كفيلهم وكفيلهم سيدهم، والزعم أيضا القول مطلقا من زعم زعما - بالتثليث -، وقيل الفتح للحجاز، والضم للأسد، والكسر لبعض قيس - من باب قتل ومنع - أي قال مطلقا أو مع الإعتقاد، أو قال بما لا وثوق به للقائل أو لمن سمعه. قال في النهاية: وفي الحديث: انه ذكر أيوب فقال: كان إذا مر برجلين يتزاعمان فيذكران الله كفر عنهما، أي يتداعيان شيئا فيختلفان فيه فيحلفان عليه، كان يكفر عنهما لأجل حلفهما، قال الزمخشري: معناه انهما يتحادثان بالزعمات، وهي مالا يوثق به من الأحاديث، قوله: فيذكران الله، أي على وجه الاستغفار. ومنه الحديث: (بئس مطية الرجل زعموا) معناه ان الرجل إذا أراد المسير إلى بلد والظعن في حاجة ركب [ مطيته ] وسار حتى يقضي إربه، فشبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه ويتوصل به إلى غرضه من قوله زعموا كذا وكذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة، وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه وإنما يحكى عن الألسن، فذم من الحديث ما كان هذا سبيله (1). والزعم - بالفتح والضم - ما يقرب من الظن أيضا، وقال الأزهري: واكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه ولا يتحقق، وقال بعضهم: هو كناية عن الكذب، وقال المرزوقي: أكثر ما يستعمل فيما كان باطلا أو فيه ارتياب، وقال بعضهم: زعم زعما قال خبرا لا يدرى أحق هو أو باطل، قال الخطابي: ولهذا قيل زعموا مطية الكذب (2). وفي الكشاف: إن هذا الخبر أي الوارد بعد الزعم - على ما فسر التفتازاني - كلام غير موثوق به، لأن الزعم هو القول بغير تبين ولا تثبت، وعن شريح القاضي: لكل شئ كنية وكنية الكذب زعموا. ويقال: زعم زعما غير مزعم أي قال قولا غير مقول صالح وادعى ما لا


(1) النهاية 2: 303، لسان العرب 6: 49 / زعم. (2) راجع مجمع البحرين / زعم. (*)

[ 505 ]

يمكن، وقول الكفار: * (أوتسقط السماء كما زعمت علينا كسفا) * (1) يحتمل إرادة أكثر المعاني المذكورة، وقوله تعالى: * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) * (2) أي اعتقدوا، وفي الحديث: (كل زعم في القرآن كذب) (3) ويقال أيضا زعم - بالكسر - يزعم كعلم يعلم أي طمع. و (الحق) خلاف الباطل، ويستعمل بمعنى الصادق والثابت والمطابق للواقع والموافق له ونحو ذلك، قيل: الخبر أو الإعتقاد إذا كان مطابقا للواقع كان الواقع أيضا مطابقا له، فمن حيث انه مطابق للواقع - بالكسر - يسمى صادقا، ومن حيث انه مطابق له - بالفتح - يسمى حقا، وقد يطلق الحق والصدق على نفس المطابقية والمطابقية، وقد يستعمل أحدهما موقع الآخر، وقيل: إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا. والحق في الأصل مصدر قولك حق الشئ - من باب ضرب وقتل - إذا وجب وثبت، ومنه الحق مصدرا بمعنى الفاعل، أو صفة مشبهة كحقيق، ومنه الحقيقة للكلمة المستعملة فيما وضعت له لثبوتها في مقامها الأصلي، أو هي فعيلة بمعنى مفعولة أي كلمة أو لفظة مثبتة في محلها، لأ # نه قد يستعمل متعديا أيضا مثل حققت الشئ إذا تيقنته وجعلته ثابتا لازما، وحققته - بالتثقيل - تحقيقا للمبالغة، وحق له أن يفعل له كذا يجوز فيه قراءة حق مجهولا ومعلوما، لما ذكر من جواز استعماله متعديا ولازما. و (العهد) بفتح العين الوصية، وتقول: عهدت إليه عهدا - من باب علم - إذا وصيته، ومنه الحديث: (تمسكوا بعهد ام عبد) (4) أي ما توصيكم به وتأمركم، والمراد من ام عبد ام عبد الله بن مسعود.


(1) الاسراء: 92. (2) التغابن: 7. (3) الكافي 2: 342 ح 20، عنه البحار 72: 244 ح 6. (4) النهاية 3: 326، لسان العرب 9: 448 / عهد وفيه: ابن ام عبد. (*)

[ 506 ]

وفي حديث علي (عليه السلام): (عهد إلي النبي الامي) (1) أي أوصى، وقوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم) * (2) أي ألم اوصي أولم أقدم إليكم، ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة، ولعله مصدر بمعنى المفعول أي المعهود الذي عرف وعهد. وعهدته بمكان كذا أي لقيته، وعهدي به قريب ملقاتي له، والتعهد بالشئ التحفظ به وتجديد العهد به واصلاحه. ومنه قولهم: عهدة هذا الأمر علي أي ما كان فيه من عيب فتعهده واصلاحه علي، وبرئت من عهدة هذا العهد أي مما أدرك فيه من عيب، أي ما أدرك فيه من درك فليس إصلاحه علي. ويطلق العهد على اليمين، والموثق، والأمان، والحفاظ، والذمة، ورعاية الحرمة، ولا تخرج الأحاديث الواردة فيه عن أحد هذه المعاني، وفي حديث الدعاء: (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) (3) أي أنا مقيم على ما عاهدتك عليه من الإيمان بك، والإقرار بوحدانيتك لا أزول عنه. و (البقية) من الرجل ما يخلفه في أهله فعيلة من بقي يبقى بقاء بمعنى الباقية فما يبقى من الشئ، أو من آثاره ولوازمه ونحو ذلك فهي بقية، قال تعالى: * (إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) * (4) وكانت هذه البقية مما تكسر من الألواح التي كتب الله لموسى، وعصا موسى وثيابه، وعمامة هارون. وقوله تعالى: * (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) * (5) أي ما أبقى الله لكم من الحلال ولم يحرمه عليكم فيه مقنع ورضى فهو خير لكم، أو ان المراد من بقية الله تعالى أحكامه الباقية بينهم مما لم ينسخه.


(1) النهاية 3: 326، لسان العرب 9: 448 / عهد، البحار 28: 65 ح 25. (2) يس: 60. (3) النهاية 3: 324، ولسان العرب 9: 448 / عهد، والبحار 89: 296 ح 7. (4) البقرة: 248. (5) هود: 86. (*)

[ 507 ]

وبقية نبينا (صلى الله عليه وآله) بين امته شيئان: أحدهما العترة، والثاني القرآن، وهما الثقلان المشهوران حيث قال: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا، أحدهما أكبر من الآخر، وهو كتاب الله فإنه حبل ممدود من السماء إليكم طرف منه بيد الله والآخر بأيديكم) (1). قولها (عليها # السلام): (استخلفها عليكم) أي جعلها خليفة من جانبه ونائبا عنه عليكم وفيكم، يبين لكم الأحكام والفرائض والسنن والآداب، ولكن بتفسير العترة وتعبير أهل بيت العصمة. والمراد من كتاب الله الناطق هنا هو القرآن الصادق، وإن كان قد يطلق كتاب الله الناطق على علي (عليه السلام)، أو على مطلق العترة بجعل القرآن كتابا صامتا، وهو هنا وإن كان صحيحا في نفسه ولكن الظاهر بقرينة الكلمات الآتية هو الصامت، ولا ينافيه الوصف بالناطق فإن الصامت أيضا ناطق بالأحكام، وفيه تبيان كل شئ من الحلال والحرام، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين من علوم الأولين والآخرين، وإن حجب عن فوائده الشريفة الواضحة، ودلائله الساطعة اللامعة من ختم على سمعه وقلبه، وجعل غشاوة على بصره. وقولها (عليها # السلام): (كتاب الله) مبتدأ مؤخر، وزعيم فعيل مضافا إلى الحق خبر مقدم، أي ان كتاب الله الناطق وهو القرآن الصادق زعيم حق لله فيكم، أي هو كفيل الحق بينكم من اتبعه هدى، ومن تخلف عنه غوى. وقولها (عليها # السلام): (عهد وبقية) معطوفان على زعيم أي القرآن أيضا عهد ووصية قدمه الله إليكم، وهو بقية منه تعالى أو من نبيه (صلى الله عليه وآله) جعلها خليفة عن نفسه أو عن نبيه عليكم، وهو المعجز الباقي إلى يوم القيامة، المستمر باستمرار الشريعة، من تدبرفيه ميزبين الحق والباطل وفرق بينهما بقول


(1) لهذا الحديث مصادر كثيرة من طرق الخاصة والعامة، راجع إحقاق الحق 4: 436، والبحار 23: 104 - 166. (*)

[ 508 ]

فاصل، بل هو آيات بينات لا يخفى حالها، * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) * (1). قال علي (عليه السلام) في النهج في وصف النبي (صلى الله عليه وآله): (إلى أن بعثه الله سبحانه لانجاز عدته، وتمام نبوته، مأخوذا على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريما ميلاده، وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتة - # إلى قوله (عليه السلام): - فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة، ثم اختار سبحانه لمحمد (صلى الله عليه وآله) لقاءه، ورضى له ما عنده، فأكرمه عن دار الدنيا، ورغب به عن مقارنة البلوى، فقبضه إليه كريما، وخلف فيكم ما خلفت الأنبياء في اممها، إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح، ولا علم قائم، كتاب ربكم مبينا حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصه وعامه، وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه... الخ) (2). وضبط الفاضل المجلسي (رحمه الله) هذه الفقرة الشريفة هكذا: (زعمتم حق لكم) بصيغة الماضي فيهما، وفسره بقوله: أي زعمتم ان ما ذكر ثابت لكم، وتلك الأسماء صادقة عليكم بالاستحقاق. ثم قال ما لفظه: ويمكن أن يقرأ على الماضي المجهول، وفي إيراد لفظ الزعم اشعار بانهم ليسوا متصفين بها حقيقة، وإنما يدعون ذلك كذبا، ويمكن أن يكون حق لكم جملة اخرى مستأنفة أي زعمتم أنكم كذلك، وكان يحق لكم وينبغي أن تكونوا كذلك لكن قصرتم، وفي بعض النسخ: وزعمتم حق لكم فيكم وعهد، وفي كتاب المناقب القديم: (زعمتم أن لا حق لي فيكم عهدا قدمه إليكم)، فيكون عهدا منصوبا باذكروا أو نحوه، وفي الكشف: (إلى الامم حولكم لله فيكم عهد) (3)،


(1) محمد: 24. (2) نهج البلاغة الخطبة: 1، عنه البحار 18: 216. (3) البحار 29: 257 / في شرح ألفاظ الخطبة الفاطمية (عليها # السلام). (*)

[ 509 ]

إنتهى (1). فيكون حولكم متعلقا بالامم أي الامم الكائنين حولكم أي بعدكم، فيكون (لله فيكم عهد) جملة مستقلة تامة، وبقية عطفا على العهد، فحينئذ يمكن أن يكون المراد من العهد ما أوصاهم به في أهل بيته وعترته، ومن البقية القرآن، فيكون كتاب الله الناطق ناظرا إلى العهد، والقرآن الصادق ناظرا إلى البقية، على طريق اللف والنشر المرتب. وفي رواية أحمد بن أبي طاهر: (وبقية استخلفنا عليكم، ومعنا كتاب الله) (2)، فيكون المراد بالعهد ما أوصاهم به في العترة، ومن البقية نفس العترة، والصحيح من النسخ والمعاني ما قدمنا إليه الإشارة. و (القرآن) هو التنزيل العزيز، والكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين. وهو في الأصل مصدر كغفران، سمى به كلام الملك المنان بعد جعله بمعنى المفعول من قرأت الكتاب قراءة أي تلوته، أو بمعنى الفاعل من قرأت شتات الأمور أي جمعتها وضممتها، لأن القرآن يتلى أبدا بين الامة إلى يوم القيامة في آناء الليل وأطراف النهار، لتحصيل المثوبة والتدبر والاستبصار، أو لجمعه السور بعضها مع بعض وضمها كذلك. أو لجمعه القصص، والأمر والنهي، والوعد والوعيد وغير ذلك، أو لجمعه ثمرة جميع العلوم وآثارها، أو لجمعه نفس جميع العلوم وأحوال كل شئ مما كان وما يكون، إذ لا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، وفيه تبيان كل شئ وتفصيله. ويجوز في المعنى الثاني جعله بمعنى المفعول أي المجموع لأن الله تعالى


(1) كشف الغمة 2: 110. (2) بلاغات النساء: 16. (*)

[ 510 ]

جمعه، فهو مجموع لله ومجموعة أحكام الله، قال الله تعالى: * (إن علينا جمعه وقرآنه) * (1). ويجوز جعل العطف حينئذ للتفسير، ويجوز المغايرة بجعل القرآن بمعنى التلاوة، لقوله تعالى في الآية: * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) * (2) قال ابن عباس: أي فإذا بيناه بالقراءة فاعمل بما بيناه لك (3)، وقيل: معناه ان علينا جمعه في صدرك، واثبات قراءته في لسانك، فإذا قرأناه أي إذا قرأه جبرئيل من جانبنا فاتبع قراءته، فجعل قراءة جبرئيل قراءته. وبالجملة قد يقال: قرأت الشئ - من باب منع - بمعنى جمعته وضممت بعضه إلى بعض، ومنه قولهم: (ما قرأت هذه الناقة سلى قط، وما قرأت جنينا) (4) أي لم تضم رحمها على ولد. وقرأت الكتاب قراءة وقرآنا بمعنى جمعته، قال أبو عبيدة: وبه سمي القرآن لأ # نه يجمع السور ويضمها، وقد يقال: قرأت الكتاب قراءة وقرآنا أي تلوته، قيل: وهو مأخوذ من المعنى الأول لأن القارئ يجمع الحروف والكلمات بعضها مع بعض في التلاوة. وفلان قرأ عليك السلام وأقرأك السلام بمعنى أي أبلغك إياه، وقيل: لو أبلغه السلام بلسانه فيقال: قرأ (عليه السلام) من المجرد، ولو أبلغه بكتابه فيقال: أقرأه السلام. وفي الأساس: تقول: اقرأ سلامي على فلان، ولا تقول: اقرأه مني السلام (5). وفي المجمع: فلان يقرئك السلام قيل: أي يحملك على قراءة السلام، يقال: أقرئ فلانا السلام واقرأ عليه السلام، كأ # نه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ


(1) القيامة: 17. (2) القيامة: 18. (3) لسان العرب 11: 78 / قرأ. (4) راجع لسان العرب 11: 78 / قرأ. (5) أساس البلاغة للزمخشري: 360 / قرأ. (*)

[ 511 ]

السلام ويرده، كما إذا قرأ القرآن أو الحديث على الشيخ يقول: أقرأني فلان أي حملني على أن أقرأه عليه، ومنه: (أقرأه النبي (صلى الله عليه وآله) خمس عشر سجدة) أي حمله أن يجمع في قراءته ذلك، وقيل: أقرأه عليك أي أتلوه عليك، واقرأه مني السلام أي بلغه سلامي، ويقرئك السلام أي يبلغك السلام ويتلوه عليك (1). وقوله تعالى: * (فاقرؤا ما تيسر من القرآن) * (2) قيل: دلت الآية على وجوب قراءة شئ من القرآن، فيصدق دليل هكذا قراءة شئ من القرآن واجب، ولا شئ من القرآن في غير الصلاة بواجب، فيكون الوجوب في الصلاة وهو المطلوب. واورد عليه ان الكبرى ممنوعة، وسند المنع ان الوجوب إما عيني ولا إشعار به في الكلام، أو كفائي فعدمه في غير الصلاة ممنوع، بل يجب لئلا تندرس المعجزة. واجيب بان المراد الوجوب العيني، إذ هو الأغلب في التكاليف، وهو المتبادر عند الإطلاق، وقيل: المراد بالقراءة نفس الصلاة تسمية للشئ ببعض أجزائه، وعنى به صلاة الليل ثم نسخ بالصلوات الخمس، وقيل: الأمر في غير الصلاة لكنه على الإستحباب، واختلف في أقله، فقيل: أقله في اليوم والليلة خمسون آية، وقيل: مائة، وقيل: مأتان، وقيل: ثلث القرآن، قوله: * (وقرآن الفجر) * (3) أي ما يقرأ في صلاة الفجر، والمراد صلاة الفجر (4). ويقال: أقرأه القرآن فهو مقرئ، ومنه: * (سنقرئك فلا تنسى) * (5)، وأصل الإقراء


(1) مجمع البحرين / قرأ. (2) المزمل: 20. (3) الاسرا: 78. (4) راجع مجمع البحرين / قرأ. (5) الأعلى: 6. (*)

[ 512 ]

الأخذ على القارئ بالإستماع لتقويم الزلل، والقارئ هو التالي أي سنأخذ عليك قراءة القرآن فلا تنسى ذلك، ومعناه سيقرأ عليك جبرئيل بأمرنا فتحفظ ولا تنساه. والنسيان هو ذهاب المعنى عن المدركة والحافظة معا، فيحتاج إلى تحصيل جديد، والسهو ذهابه عن المدركة دون الحافظة فيتفطن به بالتذكر، والذكر - بضم الذال - خلافهما، وهو التذكر القلبي، بخلاف الذكر - بكسر الذال - للذكر اللساني. وقوله تعالى: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * (1) أكثر المفسرين على أن هذه الآية أول ما نزل من القرآن، ويدل على ذلك حديث الباقر (عليه السلام) قال: أول ما نزل من القرآن: (بسم الله الرحمن الرحيم، اقرأ باسم ربك) وآخره (إذا جاء نصر الله) (2)، وقيل: أول ما نزل (يا أيها المدثر)، وقيل: فاتحة الكتاب. وقيل: ومعنى اقرأ الأول أوجد القراءة من غير اعتبار تعديته إلى مقروء به، كما يقال: فلان يعطي أي يوجد الإعطاء من غير اعتبار تعديته إلى المعطي. قال بعض المحققين: وهذا مبني على أن تعلق (باسم ربك) باقرأ # الثاني، ودخول الباء للدلالة على التكرير والدوام، كقولك: أخذت الخطام وأخذت بالخطام، والأحسن أن إقرأ الأول والثاني كلاهما منزلان منزلة اللازم أي افعل القراءة وأوجدها، والمفعول محذوف في كليهما أي اقرأ القرآن، والباء للاستعانة أو الملابسة أي مستعينا باسم الله ربك، أو # متبركا، أو # مبتدئ به، هكذا ذكر في المجمع (3). وفي الحديث: نزل القرآن أربع أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام (4). وزاد العياشي: ولنا كرائم القرآن (5).


(1) العلق: 1. (2) البحار 92: 39 ح 1 عن عيون الأخبار، وفي الصافي 5: 348. (3) مجمع البحرين / قرأ. (4) تفسير فرات: 46 ح 1، وتأويل الآيات: 21، عنه البحار 24: 305 ح 1، والصافي 1: 24. (5) تفسير العياشي 1: 9 ح 1، عنه البحار 92: 114 ح 1، والصافي 1: 24. (*)

[ 513 ]

وفي خبر الأصبغ عن علي (عليه السلام): نزل القرآن أثلاثا: ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام (1). وفي خبر آخر: ثلث فينا وفي أحبائنا، وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا، وثلث سنة ومثل، ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شئ، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض، ولكل قوم آية يتلونها هم منها في خير أو شر (2). وللقرآن أسماء كثيرة كالكتاب، والنور، والضياء، والذكر، والإمام وغير ذلك، ومن جملتها الفرقان سمي به لأ # نه فارق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، فإن كل ما فرق به بين الحق والباطل فهو فرقان، ومنه قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان) * (3). وقيل: سمي بالقرآن باعتبار كونه جملة واحدة مجموعة، وبالفرقان لكونه في نفسه قطعا متفرقة بالسور والآيات والأمثال والقصص والحكايات وغير ذلك من صنوف الأمور المتفرقات. وقيل: يطلق عليه القرآن لما مر، والفرقان لكونه نازلا بالنجوم والأقساط، كما يشير إليه قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) * (4)، و * (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث


(1) تفسير العياشي 1: 9 ح 3، عنه البحار 92: 114 ح 2، والصافي 1: 24، وفي الكافي 2: 627 ح 2. (2) تفسير العياشي 1: 10 ح 7، عنه البحار 92: 115 ح 4، والصافي 1: 24. (3) الأنبياء: 48. أقول: وقال تعالى أيضا في سورة الأنفال: 29 " يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا " تدل هذه الآية الكريمة على أن المؤمن إذا اتقى الله حق تقاته، ألهمه الله تعالى وألقى في قلبه ما يفرق بين الحق والباطل، فيسلك سبل الرشاد ويترك سبل الضلال بالهام من الله تعالى، ولذا ترى أن المتقي الصادق يكون دائما على الصراط المستقيم ولا تغويه الفتن ولا تلتبس عليه الأمور. (4) الفرقان: 32. (*)

[ 514 ]

ونزلناه تنزيلا) * (1). وورد: ان القرآن نزل جملة واحدة في ليلة القدر من عند الله سبحانه إلى البيت المعمور في شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان - ولذا سمي بالقرآن - ثم نزل من البيت المعمور إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بالنجوم والأقساط في عرض ثلاث وعشرين سنة، أو في عرض عشرين سنة على اختلاف في الأخبار، ولذا سمي بالفرقان. وأول بانه نزل به الروح الأمين إلى قلب الرسول المتين، كما في القرآن المبين وهو البيت المعمور، ثم خرج منه إلى لسانه تدريجا في عرض مدة البعثة ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وورد أيضا أن القرآن جملة الكتاب، والفرقان المحكم الواجب العمل به (2). و (الساطع) من سطع الصبح يسطع سطوعا كمنع أي ارتفع، وكذلك الغبار والرائحة، فالنور الساطع هو اللامع المرتفع، والسطيع الصبح، والأصل من السطع - # بالتحريك - بمعنى طول العنق، والساطع أيضا أول ما ينشق من الصبح مستطيلا، ومنه حديث ابن عباس: كلوا واشربوا ما دام الضوء ساطعا (3). و (اللامع) من قولهم: لمعت الشئ - من باب منع - لمعا ولمعانا أي اختلسته، ويطلق لخفق النور واضطرابه من جهة قوته حيث انه يكاد يخطف بالأبصار، كما يقال: لمع البرق أي أضاء، والتمع مثله. ومنه الألمعي من الرجال للذكي المتوقد، ويلمع للسراب، والملمع للخيل الذي يكون في جسده بقع يخالف سائر لونه، ثم اطلق اللمعة - بضم اللام - إسما منه لكل بياض أولا، أو بعد ما جعلت اسما للقطعة من النبت والكلاء يأخذ في اليبس لكونه بيضاء بالنسبة إلى ما حولها، ثم تطلق من جهة المشابهة على قطعه


(1) الاسراء: 106. (2) معاني الأخبار: 189، عنه البحار 92: 15 ح 10، وفي تفسير العياشي 1: 9 ح 2 والكافي 2: 461. (3) النهاية 2: 365، لسان العرب 6: 258 / سطع. (*)

[ 515 ]

من البدن بقيت يابسة عند الغسل، لعدم وصول الماء إليها تشبيها باللمعة من النبت. قولها (عليها # السلام): " بينة بصائره، منكشفة سرائره... الخ ". (البينة) بمعنى الواضحة من بان يبين إذا ظهر، وأصل بين على فيعل إلا ان البين يائي والسيد واوي، إلا أن يجعل البين من البون فيكون هو أيضا واويا. و (البصائر) جمع البصيرة، وقد مرت الإشارة إلى معاني مادة اللفظين، والمراد من البصيرة هنا هو سبب البصيرة وهو الحجة، كما قال تعالى: * (قد جاءكم بصائر من ربكم) * (1) أي الحجج البينات والدلالات الواضحات، يعني ان الحجج الموجودة في القرآن في بيان الأصول والفروع مما يتعلق بمسائل المعرفة والعبادة المطلوبتين من خلق الجن والانس واضحة غير خفية، فلا يشتبهن عليكم الأمر في تلك القضية. وإن فدكا مما أفاء الله على رسوله بلا ايجاف خيل ولا ركاب، وانه (صلى الله عليه وآله) أعطانيها بحكم آية ذوي القربى، وكذا الأمر في أمر الخلافة لقوله تعالى: * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) * (2) وقوله تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (3) وغير ذلك من الأمور التي بينت فيها الحجة، واتضحت بها المحجة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة. و (السرائر) جمع السريرة وهي النية الخفية والملكة الباطنية، فعيلة بمعنى مفعولة كما قيل في قوله تعالى: * (يوم تبلى السرائر) * (4) أي تختبر السرائر، وهي ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، أو ما خفي من الأعمال. وقال الشيخ أبو علي: السرائر أعمال بني آدم، والفرائض التي أوجبت عليه، وهي سرائر في العبد، تختبر تلك السرائر يوم القيامة حتى يظهر خيرها وشرها.


(1) الأنعام: 104. (2) المائدة: 55. (3) الشورى: 23. (4) الطارق: 9. (*)

[ 516 ]

وعن معاذ بن جبل قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله) ما هذه السرائر التي تبلى بها العباد يوم القيامة، قال: سرائركم، أي هي أعمالكم من الصلاة، والزكاة، والصيام، والوضوء، والغسل من الجنابة، وكل مفروض، لأن الأعمال كلها سرائر خفية، فإن شاء قال: صليت ولم يصل، وإن شاء قال: توضأت ولم يتوضأ، فذلك قوله تعالى: * (يوم تبلى السرائر) * (1). وعن الحسن انه سمع رجلا ينشد قوله: سيبقى لها في مضمر القلب والحشا * سرائر ود يوم تبلى السرائر فقال: ما أغفله عما في السماء والطارق، أي عن قوله تعالى: * (يوم تبلى السرائر * فما له من قوة ولا ناصر) * (2)، * (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) * (3). والمراد بسرائر القرآن المطالب الدقيقة، والمقاصد الخفية المضمنة فيه مما يتعلق بالأمور الدينية، والمعارف اليقينية، وسائر الوقائع والحوادث الكونية الزمانية، والدهرية والسرمدية. والحاصل جميع دقائق الأحكام التشريعية والتكوينية، والمراد بانكشاف سرائره وضوحها عند حملة القرآن وأهله لا مطلقا، أو المراد انها قابلة للكشف يكشفها أهله لمن يشاء ويريدإذا كان قابلا لها، إذ لا يكشف السر إلا لأهله، ولا يوضع الشئ إلا في محله. ويرجع حاصل معنى السرائر إلى تأويلات القرآن وبطونه السبعة، أو السبعين، أو السبعمائة، أو أكثر في مقابل ظواهر القرآن، والمراد من ظواهره هو الظاهر بالمعنى الأعم الشامل للنص والظاهر بالمعنى الأخص الذي هو الراجح المطلق المسمى بالمحكم، وقد مرت الإشارة إلى بعض ما ينفع في هذا المقام


(1) مجمع البيان سورة الطارق، ومجمع البحرين / سرر. (2) الطارق: 9 - 10. (3) الحج: 2. (*)

[ 517 ]

فراجع ما تقدم. و (التجلي) هو الإتضاح أي الوضوح والجلاء بنفسه، وقد مر معنى المادة، وليس المراد هنا المطاوعة إذ ظواهر القرآن بأنفسها ظاهرة بلا حاجة إلى أن يظهرها غيرها لعدم الخفاء فيها أولا، وذلك نظير قوله تعالى: * (فلما تجلى ربه للجبل) * (1)، وقول الشاعر: ها علي بشر كيف بشر * ربه فيه تجلى وظهر (2) فإن التجلي في نحو ذلك ليس بمعنى قبول الجلاء بحسب ظاهر النظر، وانما يقال في المطاوعة فيه الإنجلاء لا التجلي، ويجوز اعتبار معنى المطاوعة هنا بأن يقال: إن الله جعل ظواهر القرآن من ابتداء الأمر ظاهرة جالية، فصارت متجلية منجلية، أو ان العلم بالوضع اللغوي والعرفي صار سببا لظهور معانيها، حيث قال تعالى: * (وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم) * (3). وظاهر معنى الظواهر هو تنزيلاته في مقابل تأويلاته، ومحصل المقصود ان ذلك الكتاب لا ريب فيه ولا عيب، ولا إشكال فيه ولا شبهة من حيث ظاهره


(1) الأعراف: 143. (2) هذا البيت مطلع القصيدة الغديرية المعروفة للحاج ملا علي الخوئي النجفي (قدس سره) المتوفي عام 1350 ه‍ ق، واليك بعض أبياتها تيمنا وتبركا: ها علي بشر كيف بشر * ربه فيه تجلى وظهر علة الكون ولولاه لما * كان للعالم عين وأثر وله ابدع ما تعقله * من عقول ونفوس وصور فلك في فلك فيه نجوم * صدف في صدف فيه درر أسد الله إذا صال وصاح * أبو الأيتام إذا جاء وبر حبه مبدأ خلد ونعيم * بغضه منشأ نار وسقر كل من مات ولم يعرفه * موته موت حمار وبقر خصمه أبغضه الله ولو * حمدالله وأثنى وشكر خله بشره الله ولو * شرب الخمر وغنى وفجر (3) إبراهيم: 4. (*)

[ 518 ]

وباطنه، (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب). و (الاغتباط) من الغبطة - بالكسر - بمعنى حسن الحال، أو تمني حسن الحال الموجود في الغير بما نال، وهو حسد خاص إسما من غبطته غبطا كضربته إذا تمنيت مثل ما له من حسن الحال من غير أن تريد عنه الزوال. وفي الحديث: (أقوم في مقام يغبطني فيه الأولون والآخرون) (1) والمراد منه المقام المحمود المذكور في قوله تعالى: * (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * (2). والغبطة جائزة فإنها ليس بحسد محرم، وهو أن تريد زواله عنه، والمؤمن يغبط ولا يحسد، وللحسد مضار باطنية وظاهرية، وورد ان الحسد يذيب الإيمان في القلب كما يذوب الملح في الماء، وان الحسد يحبط الحسنة، وان الحسد يذيب الجسد ونحو ذلك، والمؤثر منه في إذابة الإيمان واحباط الحسنة ونحوهما هو ما إذا ظهر واعمل لا ما اسر منه بالمرة. وعليه حمل قوله (صلى الله عليه وآله): رفع عن امتي تسعة: السهو، والخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما اضطروا إليه، والطيرة، والحسد، والوسوسة في التفكر في الخلق ما لم ينطق بشفة (3)، أي رفع عن امتي مؤاخذة هذه التسعة، أو آثارها مطلقا ظاهرية وباطنية. وفي الحديث: من يزرع خيرا يحصد غبطة - أي فرحا وسرورا - ومن يزرع شرا يحصد ندامة (4). وفي الحديث القدسي: المتحابون في حلالي لهم منابر من نور يغبطهم


(1) البحار 86: 116 ح 2. (2) الاسراء: 79. (3) الخصال: 417 ح 9 باب 9، والتوحيد: 353 ح 24، عنهما البحار 5: 303 ح 14، ومن لا # يحضره الفقيه 1: 59 ح 132، والكافي 2: 463 ح 2. (4) الكافي 2: 458 ح 19، والبحار 78: 373 ح 1، وأمالي الطوسي: 473 ح 1032. (*)

[ 519 ]

النبيون (1). قال بعض شراح الحديث: كل ما يتحلى به الرجل من علم وعمل فله عند الله منزلة لا يشاركه غيره، وإن كان له من نوع آخر ما هو أرفع قدرا فيغبطه بأن يكون له مثله مضموما إلى ماله، فالأنبياء قد استغرقوا فيما هو أعلى من دعوة الخلق وارشادهم، واشتغلوا به عن العكوف على مثل هذه الجزئيات والقيام بحقوقها، فإذا رأوهم يوم القيامة ودوا لو كانوا ضامين خصالهم إلى خصالهم (2). وبالجملة يقال: غبطته بما نال أغبطه غبطا وغبطة، واغتبط هو كقولك منعته فامتنع وحبسته فاحتبس، قال الشاعر: وبينما المرء في الأحياء مغتبط * إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير قال في الصحاح: أنشدنيه أبو سعيد بكسر الباء أي مغبوط، قال: والإسم الغبطة وهو حسن الحال، ومنه قولهم: (اللهم غبطا لاهبطا) أي أسألك الغبطة أي منزلة يغبط عليها، أو دوام الغبطة وحسن الحال، ونعوذ بك من منازل الهبوط والضعة، أو أن نهبط عن حالنا (3)، فالباء في المغتبطة الواقعة في الفقرة الشريفة مكسورة، والباء في (به) للسببية. و (الأشياع) وهو فاعل قولها (عليها # السلام): (مغتبطة) بمعنى الاتباع جمع الشائع كالاشهاد في الشاهد، أو هو جمع الشيع جمع الشيعة، فهو جمع جمع لها، والشيعة إسم جنس يقع على القليل والكثير بمعنى الفرقة. قال تعالى: * (لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمان عتيا) * (4) وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره من المشايعة بمعنى المتابعة، ومنه الدعاء: (وشايعت وبايعت وتابعت على قتله) (5).


(1) مجمع البحرين / غبط. (2) راجع مجمع البحرين / غبط. (3) الصحاح 3: 1146، ولسان العرب 10: 13 / غبط. (4) مريم: 69. (5) من فقرات زيارة عاشوراء. (*)

[ 520 ]

ويقال: شايعه أي والاه، وأصله من شاع يشيع شيوعا وشياعا إذا ظهر، ويتعدى بالحرف وبالألف فيقال: شعت به وأشعته إشاعة، قيل: والشيعة كل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم بعضا. وفي النهاية: أصل الشيعة الفرقة من الناس، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد، ولقد غلب هذا الإسم على من يزعم أنه يتوالى عليا وأهل بيته (عليهم السلام) حتى صار لهم إسما خاصا، وإذا قيل: فلان من الشيعة عرف انه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم، إنتهى (1). وقوله تعالى: * (وإن من شيعته لابراهيم) * (2) قيل: أي وإن من شيعة نوح إبراهيم يعني انه على منهاجه وسنته في التوحيد والعدل واتباع الحق، وقيل: إن من شيعة محمد (صلى الله عليه وآله) إبراهيم، أو من شيعة علي إبراهيم (عليه السلام)، كما قال تعالى: * (انا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) * (3) أراد من ذريتهم من هو أب لهم، فجعلهم ذريتهم وقد سبقوهم. وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله) جلس ليلا يحدث أصحابه في المسجد فقال: يا قوم إذا ذكرتم الأنبياء الأولين فصلوا علي ثم صلوا عليهم، وإذا ذكرتم أبي إبراهيم فصلوا عليه ثم صلوا علي. قيل: يا # رسول الله بما نال إبراهيم ذلك ؟ قال: اعلموا # ان ليلة عرج بي إلى السماء فرقيت السماء الثالثة نصب لي منبر من نور، فجلست على رأس المنبر، وجلس إبراهيم (عليه السلام) تحته بدرجة، وجلس جميع الأنبياء الأولين حول المنبر، فإذا بعلي قد أقبل وهو راكب ناقة من نور ووجهه كالقمر، وأصحابه حوله كالنجوم، فقال إبراهيم (عليه السلام): يا محمد هذا أي نبي معظم، وأي ملك مقرب ؟ قلت: لا نبي معظم ولا ملك مقرب، هذا أخي، وابن عمي، وصهري، ووارث


(1) النهاية 2: 519، لسان العرب 7: 258 / شيع. (2) الصافات: 83. (3) يس: 41. (*)

[ 521 ]

علمي علي بن أبي طالب، قال: وما هؤلاء الذين حوله كالنجوم ؟ قلت: شيعته، فقال إبراهيم (عليه السلام): اللهم اجعلني من شيعة علي، فأتى جبرئيل بهذه: * (وإن من شيعته لابراهيم) * (1) (2). ويجمع الشيعة على الشيع، قال تعالى: * (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) * (3)، * (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين) * (4) أي في فرقهم. وفي المصباح: إن الشيعة تجمع على الشيع، ويجمع جمع الجمع على الأشياع (5). وقوله تعالى: * (ولقد أهلكنا أشياعكم) * (6) أي أشباهكم ونظراؤكم في الكفر، وقوله تعالى: * (كما فعل بأشياعهم من قبل) * (7) أي بأمثالهم من الشيع الماضية. ولا يخفى ان الأشياع هنا بمعنى الفرق أيضا، وإنما المعنى المذكور من جهة الإضافة وجعلهم فرقهم، إذ كون الفرق السابقة فرقهم أي منتسبة إليهم انما هو من جهة مشابهتهم لهم. وأصل جميع المعاني السابقة في هذه المادة من الشياع، وهو الحطب الصغار التي تشتعل بالنار، وتعين الحطب الكبار على ايقاد النار، فاستعمل منه الشيعة في قوم اجتمعوا على أمر، فالقوم كالحطب الصغار والرئيس بينهم من الحطب الكبار، وأصل الجمع من الشيوع بمعنى الظهور. وفي الأخبار ان الشيعة مأخوذة من الشعاع، ومنه شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله)، كما ورد انهم سموا شيعة لأ # نهم خلقوا من فاضل طينتنا، أو


(1) الصافات: 83. (2) مجمع البحرين / شيع. (3) الأنعام: 65. (4) الحجر: 10. (5) المصباح المنير: 329 / شاع. (6) القمر: 51. (7) سبأ: 54. (*)

[ 522 ]

من شعاع أنوارنا (1)، فشيعة كل رجل من سنخه، وقد مرت الإشارة إلى وجه هذا الإشتقاق ونحوه الوارد في الأخبار، وإن لم يكن موافقا للقواعد اللفظية الظاهرية. والمقصود من الفقرة الشريفة ان أتباع القرآن أي حملته الذين يعملون به، ويتبعون أوامره ونواهيه مغبوطون يوم القيامة بما ينالونه من الفيوضات الإلهية الغير المتناهية بسبب القرآن أي بسبب العمل به، فتغبطهم الامم السالفة وتبعة الكتب السماوية الماضية. و (القائد) إسم فاعل من قاد الرجل الفرس قودا وقيادا وقيادة - بالكسر - قال الخليل: القود أن يكون الرجل أمام الدابة آخذا بقيادها (2)، والسوق أن يكون خلفها، والحبل الذي يشد للزمام أو اللجام يقاد به الحيوان هو القياد والمقود - # بكسر القاف في الأول وكسر الميم في الثاني - والرجل قائد والفرس مقود فانقاد الفرس أي أذعن وأطاع للقياد طوعا أو كرها. ومنه الإنقياد للخضوع والخشوع، وفلان سلس القياد أي سهل الانقياد من غير توقف، وفي الحديث: (لا تمكن الناس من قيادك فتذل رقبتك) (3) يريد أعز نفسك في الصمت وحفظ اللسان، ولا تمكن الناس بسبب بذله من قيادك الذي يقاد به وهو استعارة، وقاد الأمير الجيش أي ساقها فهو قائد والجمع قادة وقواد. ومنه: (قائد الغر المحجلين) لعلي (عليه السلام)، لأ # نه يقودهم إلى الجنة، والمراد من الغر المحجلين شيعته لسطوع النور من وجوههم وأيديهم وأرجلهم أي مواضع وضوئهم يوم القيامة، مشابهين بالأفراس الغر المحجلة، وأئمتنا (عليهم السلام) هم (القادة الهداة، والذادة الحماة، وأهل الذكر، وأولى الأمر) (4). وفي الحديث: (المجتهدون - قيل: أي في القرآن - قواد أهل الجنة) (5) يعني


(1) البحار 53: 302. (2) كتاب العين 5: 196 / قود. (3) الكافي 2: 113 ح 4، عنه البحار 71: 296 ح 68، وفي قرب الإسناد: 309 ح 1204. (4) فقرات من الزيارة الجامعة. (5) الكافي 2: 606 ح 11، ومجمع البحرين / قود. (*)

[ 523 ]

يقودونهم إليها كأن المعنى يسوقونهم ويجرونهم إليها. وفي حديث علي (عليه السلام): (قريش قادة ذادة) (1) أي يقودون الجيوش جمع قائد، ويذودون الأعداء أي يدفعونهم جمع ذائد، واجتمع القواد والجند أي الأمراء الذين يقودون الجيش، أو من يقودون الخيل للرؤساء، والجند العسكر. قال في النهاية: وفي حديث السقيفة: (فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان) أي يذهبان مسرعين كأن كل واحد منهما يقود الآخر (2). و (الرضوان) قد مرت الإشارة إلى معنى تلك المادة، والمراد به هنا إما مقام رضاء الله، أو دار رضوانه مرادا بها الجنة. و (الإتباع) افتعال من تبعه يتبعه تبعا - كعلم - إذا فعل مثل فعله، أو مشى خلفه، أو مر به فمضى معه، ثم استعمل بمعنى الإطاعة، وتبعه وأتبعه بمعنى، إلا ان الثاني مشتمل على المبالغة دون الأول. وفي الحديث: (اتبعوا القرآن ولا يتبعنكم) (3) أي اجعلوه أمامكم ثم اتلوه، وأراد: لا تدعوا تلاوته والعمل به فتكونوا قد جعلتموه وراء ظهوركم، وقيل: معناه لا يطلبنكم لتضييعكم إياه كما يطلب الرجل صاحبه بالتبعة. أو المراد انه اجعلوا آراءكم تابعة للقرآن، ولا تجعلوا القرآن تابعا لارائكم بأن تؤولوه على طبق أهوائكم النفسانية، ويقال: ما زلت اتبع فلانا حتى اتبعته أي حتى حصلت ملكة التبعية، واتبع فلانا من باب الافعال أي لحقه وقفاه. ومنه قوله تعالى: * (فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) * (4) أي لحقه، و * (فأتبعهم


(1) النهاية 4: 119، لسان العرب 11: 341، مجمع البحرين / قود. (2) النهاية 4: 119، لسان العرب 11: 341 / قود. (3) درر اللألي 1: 33، عنه مستدرك الوسائل 4: 254 ح 46630، النهاية 1: 179، ولسان العرب 2: 14 / تبع. (4) الأعراف: 175. (*)

[ 524 ]

فرعون بجنوده) * (1) أي لحقهم، و * (فأتبعه شهاب ثاقب) * (2) أي لحقه وأصابه واتبعه أيضا بمعنى تبعه، كقوله تعالى: * (فأتبع سببا) * (3) أي تبع سببا، ومنه الإتباع في الكلام مثل حسن بسن وقبيح شقيح، وهو سماعي لا ميزان له. وأتبعت زيدا عمروا أي جعلته تابعا له فتبعه فهو تابع وتبيع، والتبيع أيضا الذي يتبعك بحق ليطالب به، والتبعة ما يتبع المال من نوائب الحقوق، وهو من تبعت الرجل بحقي. وفي حديث الدعاء: (تابع بيننا وبينهم بالخيرات، أو على الخيرات) (4) أي اجعلنا نتبعهم على ما هم عليه، وفي حديث أبي واقد: (تابعنا الأعمال فلم نجد فيها أبلغ من الزهد) (5) أي عرفناها وأحكمناها، يقال للرجل إذا أتقن الشئ وأحكمه: قد تابع عمله. و (اتباعه) في الفقرة فاعل القائد أي ان اتباع القرآن يقود تابعه إلى الرضوان، ويجوز قراءته على إفعال جمع تابع، ونصبه مفعولا للقائد، ويكون فاعله ضميرا راجعا إلى القرآن، لكن الظاهر بل المتعين هو الأول. و (المؤدي) إسم فاعل من قولهم: أدى الأمانة إلى أهلها، أو الدين إلى صاحبه ومستحقه يؤدي تأدية كتبصرة، وأداء كسلاما من سلم، وأداء ككذابا من كذب أي ردهما. وقد يستعمل أداء وتأدية إسم مصدر ويقال: أدى إليه الخبر أي أنهاه إليه فتأدى الخبر أي انتهى، والحاصل في الجميع معنى الإيصال، قال تعالى: * (وأداء إليه باحسان) * (6) أي ايصال.


(1) طه: 78. (2) الصافات: 10. (3) الكهف: 85. (4) النهاية 1: 180، لسان العرب 2: 13 / تبع، البحار 81: 352 ح 33. (5) النهاية 1: 180 / تبع. (6) البقرة: 178. (*)

[ 525 ]

و (النجاة) بفتح النون هو الخلاص من الهلاك، يقال: نجى عن الهلكة ينجو نجاة ونجاء - بالمد والقصر - أي خلص فهو ناج، وأنجيته ونجيته إنجاء وتنجية أي خلصته تخليصا، وقرئ بهما قوله: * (فاليوم ننجيك ببدنك) * (1) ومن جهة المناسبة في المعنى قد يستعمل النجو بمعنى التغوط لأ # نه نوع من الخلاص، ولذا أيضا يقال: نجوت بمعنى أسرعت كأن المسرع ينجو ويخلص ممن حوله ويفلت منهم. والصدق منجاة أي سبب النجاة كأ # نه محلها، والنجوى الكلام السر كأ # نه سبب الخلاص من الهلاك الحاصل من القول بالجهار، والنجوة: المرتفعة من الأرض، ومناسبته مع المعنى الأصلي واضحة. والمراد من النجاة هنا هو الخلاص عن الهلاك الأخروي والمعنوي، بل وكذلك الدنيوي والظاهري أيضا من جهة الإستشفاء والتبرك بالآيات القرآنية في دفع الشدائد الدنيوية والظاهرية. و (الإستماع) افتعال من سمع الشئ سماعا وسمعا، والإفتعال منه يفيد الإعتمال كما قيل به في الكسب والإكتساب في مقام بيان النكتة في قوله تعالى: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * (2) ان النفس أميل إلى عمل الشر، وفي الاكتساب اعتمال وميل إلى الإشتغال به، والسماع شامل للاتفاقي والاختياري، واما الإستماع فلا يستعمل إلا في الاختياري وفي مقام المقابلة يختص السماع بالإضطراري، مثلا إذا اتفق وصول صوت الغناء إلى السمع قهرا أو بغتة فهو سماع ولا معصية فيه لأ # نه سماع اضطراري، بخلاف الإستماع واصغاء الأذن إليه مختارا، فإنه سماع اختياري. ولما كان الإستماع واقعا اختيارا، ولا يصدر مثله من العاقل إلا حيث يريد ترتيب الأثر على الشئ المسموع، فاستعمل الإستماع بمعنى الانقياد والاطاعة


(1) يونس: 92. (2) البقرة: 286. (*)

[ 526 ]

أي في الاستماع المتعقب بالاتباع، فيكون المراد هنا ان الانقياد للقرآن، والاتباع لأحكامه، والامتثال لأوامره ونواهيه يؤدي الإنسان إلى النجاة من الضلالة، والخلاص من حيرة الجهالة، والوصول إلى دار الكرامة. كما قال (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، إلى غير ذلك، وروي: (اسماعه) على وزن الافعال، قيل: تلاوته وقراءته، والأولى الأول. * * *


[ 527 ]

قالت (عليها # السلام): " به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق، والصيام تثبيتا للاخلاص، والحج تشييدا للدين، والعدل تنسيقا للقلوب، وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة، والجهاد عزا للاسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر ". بيان: الباء في (به) للسببية والضمير فيه للقرآن، و (تنال) من قولهم: نال فلان خيرا يناله نيلا - من باب تعب - أصابه، ومنه نال فلان من مطلوبه المراد، ونال فلان من امرأته ما أراد، ونال فلان من عدوه كذلك أي بلغ منه مقصوده، ويتعدى بالهمزة إلى اثنين فيقال: أنلته مطلوبه فناله. و (الحجج) بضم الحاء جمع الحجة بالضم أيضا كغرفة وغرف، والحجة بمعنى الدليل والبرهان. قال أهل الميزان: المعلوم التصوري الموصل إلى مطلوب تصوري يسمى معرفا، كتصور الحيوان الناطق الموصل إلى تصور الإنسان، والمعلوم التصديقي الموصل إلى مطلوب تصديقي يسمى حجة، كالتصديق بأن العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث، ووجه تسمية المعرف واضح، واما تسمية الحجة بذلك فلأنها تصير سببا للغلبة على الخصم، وان الحجة في اللغة الغلبة، فهذا من قبيل تسمية السبب بإسم المسبب، ويجوز أن تكون الحجة مشتقة من الحج بمعنى القصد، إذ بها يقصد الغلبة. والمحاجة: المخاصمة والمجادلة، قال تعالى: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في


[ 528 ]

ربه) * (1)، * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم...) * (2). ويقال: حاجه فحجه أي طالبه فغلبه بالحجة، ومنه الحديث: (فحج آدم موسى) (3) أي غلبه بالحجة، وفي المثل: (لج فحج) (4) وهو رجل محجاج أي جدل، والتحاج التخاصم، وفي حديث الدعاء: (اللهم ثبت حجتي في الدنيا والآخرة) (5) أي إيماني في الدنيا وجوابي عن الملكين في القبر. والحج - بالفتح - القصد، يقال: حج يحج حجا - من باب قتل - أي قصد فهو حاج، ورجل محجوج أي مقصود، هذا أصله في هذا المعنى، ثم قصر استعماله في الشرع على قصد الكعبة لأداء مناسك مخصوصة، كما ان العمرة لغة الزيارة، ثم خصت بزيارة البيت على كيفية معلومة، وكل منهما أعمال مخصوصة مذكورة في الكتب الفقهية. ومنه يقال: ما حج ولكن دج، فالحج قصد البيت للنسك والدج القصد للتجارة، والإسم الحج - بالكسر - قال تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (6) دون المصدر فإنه بالفتح، قال تعالى: * (الحج أشهر معلومات) * (7) أي زمان الحج أشهر معلومات معروفات للناس أي لم يتغير زمانه في الشرع، وهو رد على أهل الجاهلية في قولهم بالنسئ المذكور في قوله تعالى: * (إنما النسئ زيادة في الكفر) * (8) وتفصيل النسئ مذكور في كتب التفاسير.


(1) البقرة: 258. (2) آل عمران: 61. (3) تفسير القمي 1: 44، عنه البحار 5: 89 ح 8، وفي تفسير العياشي 2: 10 ح 10، والنهاية 1: 341 / حجج. (4) راجع لسان العرب 3: 53 / حجج. (5) النهاية 1: 341، لسان العرب 3: 55 / حجج. (6) آل عمران: 97. (7) البقرة: 197. (8) التوبة: 37. (*)

[ 529 ]

وهذه الأشهر المعلومة هي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة بالتمام، أو تسعة من ذي الحجة أو عشرة على الخلاف المذكور في مظانه، ويوم الحج الأكبر قيل في طبق بعض الروايات انه يوم النحر مطلقا، وقيل: جميع أيام الحج كذلك. وقيل: سمي حج مخصوص وقع في أيام النبي (صلى الله عليه وآله) بالحج الأكبر، لأ # نها كانت سنة حج فيها المسلمون والمشركون، ولم يحج المشركون بعد تلك السنة، ومنعوا عن ذلك لقوله تعالى: * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ان الله برئ من المشركين ورسوله) * (1). وقيل: انه اتفق فيه ثلاثة أعياد: عيد المسلمين، وعيد النصارى، وعيد اليهود، وروي انه لم يتفق ذلك قبل ذلك، ولا يتفق بعد ذلك إلى يوم القيامة، ويقال بين العامة: إن الحج الأكبر هو ما اتفق يوم عرفة جمعة، أو يوم العيد جمعة. وفي النهاية: إنهم كانوا يسمون الحج الحج الأكبر، والعمرة الحج الأصغر، والحجة - بالكسر - المرة من الحج على غير قياس، والجمع حجج مثل سدرة وسدر والقياس الفتح، قال تغلب: ولم يسمع من العرب، وبها سمي شهر ذي الحجة - بالكسر - وبعضهم يفتح في الشهر لا في غيره. قال في المصباح: وجمع الحاج حجاج وحجيج (2)، وفي الصحاح: انه يجمع على حج مثل بازل وبزل (3). وفي النهاية: وربما اطلق الحاج على الجماعة مجازا واتساعا، ومنه الحديث: (لم يترك حاجة ولا داجة) الحاج والحاجة واحد الحجاج، والداج والداجة الأتباع والأعوان، يريد الجماعة الحاجة ومن معهم من أتباعهم وأعوانهم، إنتهى (4).


(1) التوبة: 3. (2) المصباح المنير: 121 / حج. (3) الصحاح 1: 303، لسان العرب 3: 52 / حجج. (4) النهاية 1: 341، لسان العرب 3: 53 / حجج. (*)

[ 530 ]

وقد يبدل الجيم الثاني في الحاج ياء فيقال: حاجي، لأن المضاعف يلحقه الإبدال والحذف كالمعتل تشبيها لثقل التضعيف بالتعليل، وهو المستعمل كثيرا في هذه الأزمنة المتأخرة. وأحججت الرجل - بالألف - بعثته ليحج، والحجة - بالكسر - السنة أيضا، والجمع حجج كسدرة وسدر، ولعل الوجه في أصل التسمية وقوع الحج في كل سنة مرة كأن كل حجة سنة، ثم اطلق على السنة بلا لحاظ وقوع الحجة. قال في السبعة المعلقة. دمن تجرم بعد عهد أنيسها * حجج خلون حلالها وحرامها بل ما تذكر من نوار وقد نأت * وتقطعت أسبابها وزمامها وقال الراجز ولعله روبة بن العجاج: منازل يقمن من تأججا * من آل ليلى قد عفون حججا وبالجملة فالمراد من حجج الله تعالى في الفقرة الشريفة هي البراهين القاطعة، والأدلة الساطعة القائمة على اصول المعرفة والعبادة أي الأحكام الشرعية العلمية والعملية، والمراد من كون تلك الحجج منورة كونها واضحة مبينة عند أرباب اليقين، لأ # نه الكتاب المبين الذي لا ريب فيه هدى للمتقين، وهذه الفقرة ناظرة إلى إثبات أصول الدين. و (العزائم) جمع العزيمة فعيلة بمعنى مفعولة، من عزمت على كذا عزما وعزيمة إذا أردت فعله وقطعت عليه، قال الله تعالى: * (ولم نجد له عزما) * (1) أي صريمة أمر أي رأيا معزوما عليه. وفي الخبر: (خير الأمور عوازمها) (2) أي فرائضها التي عزم الله عليك بفعلها جمع عازم، قيل: والعوازم هي الأمور التي جرت به السنة من الفرائض والسنن أي ثبتت في الكتاب والسنة، والمعنى ذوات عزمها التي فيها عزم، وقيل: هي ما


(1) طه: 115. (2) النهاية 3: 231، لسان العرب 9: 193 / عزم، البحار 21: 216 ح 2. (*)

[ 531 ]

وكدت - من التوكيد - رأيك عليه وعزمك إلى فعله، ووفيت بعهد الله فيه. وفي الحديث: (الزكاة عزمة من عزمات الله) (1) أي حق من حقوقه، وواجب من واجباته، وقالوا: لا خير في عزم بغير حزم، فإن القوة إذا لم يكن معها حذر أورطت صاحبها، وفي الخبر: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) (2). والعزيمة: سورة السجدة الواجبة أيضا، وهي جعلت أولا اسما لنفس السجدة الواجبة بآيتها، ثم اطلقت على الآية تسمية للسبب بإسم المسبب، ثم بعد جعلها فيها حقيقة عرفية اطلقت على نفس السورة تسمية للكل باسم الجزء، وسور العزائم مشهورة، وفي الحديث: (ليست سجدة صاد من عزائم السجود) (3). قيل: والعزم والعزمة ما عقد عليه قلبك انك فاعله، ومنه قوله تعالى: * (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) * (4)، قيل: العزم هنا بمعنى الصبر والقوة، و (عرفت الله بفسخ العزائم) (5) جمع العزيمة بمعنى العزمة وهي العقد القلبي، وفي الحديث: (شهادة أن لا إله إلا الله عزيمة الإيمان) (6) أي عقيدته المطلوبة. والمراد من العزائم في الفقرة الواجبات المفروضة، لأن كل واجب فريضة معزوم عليها، ويطلق عليها العوازم والعزمات أيضا، ويتفرع على العزم بالمعنى السابق قولهم: عزمت عليك بمعنى أقسمت عليك، ومنه العزائم للرقي، وفي الدعاء: (عزمت عليك بعزيمة الله، وعزيمة محمد، وعزيمة سليمان بن داود، وعزيمة أمير المؤمنين) (7) وعزائم المغفرة: محتماتها أي ما يجعلها الله حتما.


(1) النهاية 3: 232، لسان العرب 9: 193 / عزم. (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه. (4) الأحقاف: 35. (5) نهج البلاغة، قصار الحكم: 250، عنه البحار 5: 197 ح 10. (6) نهج البلاغة الخطبة: 2. (7) المناقب لابن شهرآشوب 4: 222، والخرائج 2: 607 ح 2، عنهما البحار 47: 95 ح 108 = (*)

[ 532 ]

و (التفسير) والفسر البيان، يقال: فسرت الشئ - من باب ضرب - وفسرت من باب التفعيل أي بينته. وأصل الفسر نظر الطبيب إلى الماء في القارورة وكذلك التفسير، وقيل: أصل التفسير من السفر من أسفرت المرأة وجهها إذا كشفت، وأسفر الصبح إذا ظهر، فقدم الفاء إلى موضع الفاء، أو أخر السين إلى موضع العين بالقلب المكاني المعروف في علم الصرف والاشتقاق، وان أصل التفسير هو كشف المراد عن اللفظ المشكل، ولهذا لا يقال على بيان المعاني الواضحة انه تفسير، ولا على ذكر المعاني المعروفة من حيث العرف واللغة انه تفسير بالرأي ليكون حراما بالنسبة إلى القرآن. والتفسير أعم من التنزيل والتأويل عموما مطلقا، وقد مر البيان في بيان فرقهما فراجع، وعلم التفسير علم يبحث فيه عن كلام الله المنزل للإعجاز من حيث الدلالة على مراده تعالى، وبالجملة فالمفسرة هنا - بفتح السين - صفة للعزائم بمعنى المبينة أي الواجبات المبينة في القرآن. و (المحارم) جمع المحرم بمعنى ما لا يحل انتهاكه - بفتح الميم والراء، وبضم الراء أيضا مع التاء - سواء كان ذلك بنسب أو رضاع أو غير ذلك بمعنى الحرام مطلقا، وأصله من الحرمة بمعنى المنع، ومنه الحرم لحرم مكة والمدينة. والحريم للفصل بين السائس والمسوس في الجلوس ونحوه، وحرمت الصلاة على الحائض أي امتنعت في حقها، وحرم الشئ حراما - بالفتح والكسر - امتنع، واحرمه احراما وحرمه تحريما منعه إياه، وأحرم الرجل إذا دخل في حرمة لا تهتك. وحرمات الله محارمه التي قررها، وحريم الرجل أهل بيته، وحريم البيوت والقنوات وغير ذلك ما يختص بكل منها من المسافة، وجميع ذلك مأخوذ من الحرم بمعنى المنع، والمراد من محارم القرآن المحرمات التي حرمها الله تعالى


= وكشف الغمة 2: 404، والكافي 2: 572 ح 11.

[ 533 ]

وبينها فيه. و (المخدرة) من الخدر، يقال: خدرت الشئ خدرا - من باب علم - أي تحرزته وخفت منه، وخدرت زيدا العفرناة أي حرزته إياها، فأنا # مخدر - # بالكسر # - وزيد مخدر - بالفتح - وهي مخدرة، وإذا خاف زيد من عند نفسه أي بلا مخدر فيقال له: خادر، وحاصل معنى التخدير راجع إلى التخويف، والمخدرة صفة للمحارم أي المحارم التي حذر الله الناس إياها أي منها. و (البينات) جمع البينة بمعنى الواضحة صفة مشبهة، وقد مرت الإشارة إلى معنى المادة، والمراد من البينات الآيات اللائحات، والدلائل الواضحات. و (الجالية) من الجلاء من جلا الأمر أي ظهر وانكشف، صفة توضيحية للبينات إشارة إلى التأكيد في وضوحها. و (البراهين) جمع البرهان وهو الحجة، يقال: برهن عليه أي أقام الحجة عليه، ومنه قوله تعالى: * (أن رأى برهان ربه) * (1) أي حجته وبيانه، وسمى الحجة برهانا لبيانها ووضوحها، وعن ابن الأعرابي: البرهان الحجة من البرهونة، وهي البيضاء من الجواري، كما اشتق السلطان من السليطة على وجه، وهو الزيت لانارته (2). و (الكافية) من قولهم: كفاه مؤنته كفاية أي وقاه كلفتها، فيتعدى إلى مفعولين، وكفاه أي أغناه فيتعدى إلى مفعول واحد، * (وكفى بالله وكيلا) * (3) أي اكتفى به بمعنى استغنى به أو قنع به فيكون لازما، والباء غير زائدة، وقد تجعل الباء زائدة فيكون كفى بالله بمعنى كفى الله. وهذا رجل كافيك من فلان أي مغنيك عنه، والشئ الكافي ما حصل به الإستغناء عن غيره، و * (أليس الله بكاف عبده) * (4) أي بمغن عبده، ومثله: * (وكفى الله


(1) يوسف: 24. (2) راجع مجمع البحرين / برهن. (3) النساء: 81. (4) الزمر: 36. (*)

[ 534 ]

المؤمنين القتال) * (1) أي أغناهم. قولها (عليها # السلام): (وبيناته الجالية) ناظرة إلى العزائم، و (براهينه الكافية) إلى المحارم، أو كلاهما لكليهما. و (الفضائل) جمع الفضيلة فعيلة بمعنى فاعلة من قولهم: فضل الشئ فضلا - # من باب علم وقتل - أي زاد، وخذ الفضل أي الزيادة. والفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة بمعنى الدرجة الرفيعة، * (ويؤت كل ذي فضل فضله) * (2) أي كل ذي عمل زائد زيادته أي يعطيه جزاء عمله، أو من كان ذا فضل في دينه فضله الله في الدنيا بالمنزلة وفي الآخرة بالثواب، * (ولا تنسوا الفضل بينكم) * (3) أي التفضل، * (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) * (4) أي خلفا أفضل مما أنفقتم في الدنيا. والفضل بمعنى الإحسان والإفضال المتعدي إلى الغير، ويقال فيه: الفاضلة كالفضيلة في الوصف الحسن اللازم الغير المتعدي، فتطلق الفواضل على الأوصاف المتعدية كالسخاوة والشجاعة، والفضائل على الأوصاف اللازمة كالعلم والحسن، والحق أن يقال: إن الفضائل ملكات هذه الأوصاف، والفواضل آثارها بلا فرق بين السخاوة ونحوها والعلم ونحوه. ورجل مفضال أي سمح، وامرأة مفضالة على قومها - إذا كانت ذات فضل - سمحة، وأفضل عليه وتفضل بمعنى، والمتفضل أيضا الذي يدعي الفضل على أقرانه، ومنه قوله تعالى: * (يريد أن يتفضل عليكم) * (5) وفضلته على غيره تفضيلا إذا حكمت له بذلك أو صيرته كذلك، وفاضلته ففضلته إذا غلبته بالفضل، والفضلة - # بالفتح والضم - ما فضل من الشئ، وبالضم الشئ الزائد أيضا.


(1) الأحزاب: 25. (2) هود: 3. (3) البقرة: 237. (4) البقرة: 268. (5) المؤمنون: 24. (*)

[ 535 ]

ثم إن المراد من الفضائل في الفقرة الشريفة هي المندوبات بالمعنى الأخص، وهي الأمور الراجحة شرعا التي يجوز تركها مرجوحا، وقد ندب الله الخلق إليها أي دعاهم دعوة غير ملزمة، وأصل الندب الدعوة مطلقا، والمراد هنا هو الندب الغير الملزم لا الندب المطلق الشامل للندب الوجوبي أيضا. و (الرخص) جمع الرخصة - بضم الراء - وقد تضم الخاء أيضا للاتباع، وهي التسهيل في الأمر ورفع التشديد فيه، يقال: رخص لنا الشارع في كذا ترخيصا وأرخص إرخاصا إذا يسره وسهله، والرخص مثل قفل إسم منه والواحد رخصة. ورخص الشئ فهو رخيص والرخص - بالفتح - الناعم، يقال: هو رخص الجسد أي بين الرخوصة، وكل هذه المعاني راجعة إلى معنى واحد، والمراد من الرخص هنا هو المباحات، ووصفها بالموهوبة إشارة إلى انها مما أعطاها الله لعباده من باب العطية لئلا يكون لهم حرج في فعلها وتركها، فيكونوا في سعة من الأمر. و (الهبة) قيل: هي العطية مطلقا، والظاهر كما صرحوا به أيضا هاهنا العطية بلا عوض، يقال: وهب لزيد مالا هبة أي أعطاه إياه بلا عوض، قيل: يتعدى إلى الأولى باللام وإلى الثاني بنفسه، وفي التنزيل: * (يهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور) * (1) ولا يتعدى إلى الأولى بنفسه على ما ذكره جماعة من أهل اللغة، فلا يقال: وهبتك مالا، والفقهاء يقولونه، وقد يوجه ذلك بتضمين معنى الإعطاء لكن لم يسمع في كلام فصيح. والظاهر ان اللام فيه ليست للتعدية بل زائدة للتأكيد، كما تزاد في المفعول الأول من أعطى أيضا، فيقال: أعطى لزيد مالا، كما تزاد (من) أيضا فيقال: أعطى من زيد مالا، وكذلك المفعول الأول من بعت، فيقال: بعت لزيد ومن زيد مالا، وفي الهبة أيضا الوجهان، وكذا في النكاح والتزويج.


(1) الشورى: 49. (*)

[ 536 ]

فيجوز (من واللام) في الجميع من ذلك بالنسبة إلى المفعول الأول الذي هو الأخذ الفاعل في المعنى، فلزيادة (اللام ومن) فيه إيهام بل إشارة إلى نكتة الأخذية بان حصول هذا الفعل لأجله ومختص به، وهو الباعث والمنشأ، فالإعطاء لزيد أي الأثر الحاصل منه له وهو منشأه، وكذلك الكلام في البيع والنكاح ومطلق باب أعطيت الذي هو ما كان متعديا إلى مفعولين أولهما أخذ والثاني مأخوذ، قاعدة مطردة مصرح بها في كتب الصرف واللغة. وليست الحرفان في المواد المذكورة للتعدية وإن توهمها جماعة، كالباء في مادة التزويج لقوله تعالى: * (وزوجناهم بحور عين) * (1) والحال انها لتضمين زوجناهم معنى قرناهم، وقد اشتبه جمع كثير وجم غفير من الخلف والسلف في هذا الأمر الخطير، فتأمل. والإسم من الفعل السابق الموهب والموهبة، فهو واهب والشئ موهوب، وزيد موهوب أيضا وموهوب له ومنه ومتهب، وقيل: الهبة هي العطية الخالية عن الأعواض والأغراض. وبالجملة فالهبة في مقابل العوض بصيغة الهبة باطلة، وإطلاق الهبة المعوضة بهذا المعنى غلط البتة، بل لابد حينئذ من صيغة البيع أو الصلح، واما الهبة بشرط العوض فلا ضير فيها لخروج الشرط عن متن الهبة، وإذا كثرت الهبة والعطية بلا عوض مطلقا من أحد سمى بالوهاب، ولذا صار الوهاب من أسماء الله تعالى، كما ان الواهب أيضا من أسمائه تعالى لأ # نه الواهب الحقيقي. و (الشرائع) جمع الشريعة، وهي في الأصل مشرعة الماء مطلقا، أو إذا كان جاريا كالأنهار، والمشرعة - بفتح الميم والراء - هي مورد الشاربة كالشرعة - # # بالكسر - وسمى ما شرع الله لعباده من الدين شريعة تشبيها بمورد # الماء، لأن أهل الدين يردونه ويأخذون منه مياه الأحكام الشرعية التي منها حياة الأرواح الطيبة.


(1) الدخان: 54. (*)

[ 537 ]

وفي المصباح: الشرعة - بالكسر - الدين، والشرع والشريعة مثله مأخوذ من الشريعة، وهي مورد الناس للإستسقاء، سميت بذلك لوضوحها وظهورها، والجمع شرائع، وشرع الله لنا كذا يشرعه: أظهره وأوضحه، إنتهى (1). والظاهر انه بمعنى قرر لنا كذا، كما يقال: شرع فلان تشريعا أي قرر شريعة سواء كان بحق أو باطل، ويطلق الشارع - من شرع بالمعنى المذكور - على الله تعالى وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله) وعلى الأئمة (عليهم السلام)، وعند الإطلاق ينصرف إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، وعلى الأول بمعنى موجد الشرع، وعلى الثاني بمعنى مبدئ ظهوره، وعلى الثالث بمعنى مبدئ تفاصيله. والشرعة تستعمل بمعنى المنهاج مطلقا كما قال تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * (2)، والشارع الطريق الأعظم بملاحظة وضوحه أو ورود الناس عليه، فاعل بمعنى مفعول مثل طريق قاصد أي مقصود. والظاهر ان الشريعة بمعنى المورد من شرعه أظهره وهو ظاهر، أو من شرعت الإهاب سلخته، فإن المورد يداس بالأرجل فيصير ظاهره أبيض كأ # نه شئ سلخ منه جلده، كما يطلق الملحوب على الطريق المديس، كما قال في العلوية: ألا ان نجد المجد أبيض ملحوب * ولكنه جم المهالك مرهوب (3) أو من شرعت الدواب في الماء أي دخلت، أو من شرعت الباب وأشرعته بمعنى فتحته، وقيل: الشريعة بالمعنى الإصطلاحي مأخوذ من قولهم: مررت برجل شرعك من رجل أي حسبك، أو من شرعته بمعنى طلبته، أو من الشرع بمعنى السواء، يقال: الناس في هذا الأمر شرع سواء أي مستوون، قال الطغرائي: مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع * فالشمس راد # الضحى كالشمس في الطفل ويستوي في الشرع في هذا المعنى الواحد والتثنية والجمع والمذكر والمؤنث


(1) المصباح المنير: 310 / الشرعة. (2) المائدة: 48. (3) الروضة المختارة: 84، القصيدة الأولى. (*)

[ 538 ]

لكونه مصدرا في الأصل، وسواء في قولهم: (شرع سواء) قيل: كأ # نه من باب عطف البيان، لأن الشرع في مثل المثال بمعنى السواء، أو هو تأكيد من غير اللفظ، ولا يخفى وجه المناسبة بين الشريعة الإصطلاحية وجميع المعاني اللغوية المسطورة لهذه المادة. ثم إن الشريعة قد تطلق على مجموع الدين المقرر، وقد تطلق على كل واحد واحد من الأحكام أو من دلائل الأحكام، والثاني أكثر وأظهر، فيكون الدليل بمنزلة المشرعة، والحكم المأخوذ منه بمنزلة الماء، فيجمع الشريعة بالنسبة إلى الملة الواحدة بهذا الإعتبار كما جمعت في الفقرة الشريفة. و (المكتوبة) كناية عن المقررة، وأصل الكتابة بمعنى الخط وهو واضح، ومعنى هذه المادة في اللغة هو الجمع المطلق، أو جمع قطع الأديم بالسيور والخيوط، قال الشاعر: لا تأمنن فزاريا خلوت به * على قلوصك (1) واكتبها بأسيار (2) سمى الكتابة بذلك لما فيها من الجمع بين الحروف والكلمات بعضها مع بعض. ثم قد تطلق الكتابة على الفرض ونحوه، كقوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام) * أي فرض * (كما كتب على الذين من قبلكم) * (3)، ويطلق على مطلق التقرير والجعل، فيشمل تشريع الأحكام الخمسة التكليفية والخمسة الوضعية، أو مطلق الأحكام الوضعية بناء على تعميمها - على ما قرر في الأصول - مع إخراج الصحة والفساد عن الخمسة المعروفة بالوضعية في الكتب الأصولية القديمة، بناء على انهما من الأحكام العقلية لا الشرعية الوضعية. والمراد من الشرائع المكتوبة هنا المكروهات، فيكون كل من الفقرات المذكورة عبارة عن نوع واحد من الأحكام الشرعية التكليفية: الوجوب،


(1) القلوص: الفتية من الابل بمنزلة الجارية الفتاة من النساء / لسان العرب. (2) راجع لسان العرب 12: 24 / كتب، وفيه: (على بعيرك) بدل على قلوصك. (3) البقرة: 183. (*)

[ 539 ]

والحرمة، والندب، والإباحة، والكراهة مع الإشارة إلى أدلة الأولين في البين. ويجوز أن يراد من الرخص هنا ما يشمل المكروهات أيضا، وتكون الشرائع المكتوبة عبارة عن جميع الأحكام الشرعية المشار إليها في الفقرات السابقة، أو يراد من الشرائع ما سوى المذكورات من الأحكام كالحدود والديات أو الأعم. وفي رواية ابن أبي طاهر: (وبيناته الجالية، وجمله الكافية) (1) فالمراد بالبينات المحكمات، وبالجمل المتشابهات، ووصفها بالكافية لدفع توهم نقص فيها لاجمالها فإنها كافية فيما اريد منها، ويكفي معرفة الراسخين في العلم بالمقصود منها، فإنهم المفسرون لغيرهم. ويحتمل أن يكون المراد بالجمل العمومات التي يستنبط منها الأحكام الكثيرة، واقحام الجملتين بين الواجبات والمحرمات وبين باقي الأحكام لايهام ان المقصود الأصلي من الأحكام هو القسمان السابقان بخلاف غيرهما لعدم كونه بتلك المثابة. قولها (عليها # السلام): " فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ". قد مرت الإشارة إلى معنى الإيمان لغة واصطلاحا، والإيمان ينصرف بالاطلاق الشائع على القول باصول الدين الخمسة وما يتعلق بها من لوازمها وفي دعاتها، وقد يطلق على العمل بالفروع أيضا، ولذا يقال لمن لا أمانة له انه لا دين له ونحو ذلك. وتحقيق الكلام في المرام على نحو الإجمال الحقيق بالمقام: ان الإيمان له مراتب لا تحصى، كما يظهر من الأخبار والآثار لمن جاس خلال تلك الديار، فمن قال باصول المعرفة وتوابعها وتفصيلاتها على النحو المقرر المعتبر في الشريعة، وقال بصحة كل ما قرره الله تعالى من الأحكام الشرعية، وعمل بالواجبات وترك المحرمات، وعمل بالمندوبات والمكروهات فعلا وتركا


(1) بلاغات النساء: 16. (*)

[ 540 ]

بالكلية، وقال بالمباحات وعمل بها على وجه الإباحة، فقد أحرز الإيمان الكامل الذي لا نقص فيه بالمرة ولو مثقال ذرة، ولا يوجد هذا الإيمان الكامل على ما هو عليه إلا للنبي والأئمة صلوات الله عليهم. فمن ترك جميع ذلك بالكلية عمدا أو جهلا فهو الكفر الكامل في الغاية، ولا يوجد إلا في رؤساء أعداء الدين من أرباب الجهالة الكاملة، فإذا ترك أصول الدين ولا ينفع بعدها الفروع وإن عمل بها فهو الكفر الموجب للنجاسة، ومن قال باصول الدين وترك الفروع كلية فهو مؤمن في الأصول وكافر في الفروع. فإن عمل ببعض الفروع دون بعض فمؤمن بالنسبة إلى بعضها وكافر بالنسبة إلى بعض، ففعل الصلاة مرتبة من مراتب الإيمان، وتركها مرتبة من مراتب الكفر، وهكذا كل واحد واحد من الواجبات فعلا وتركا، وكل واحد واحد من المحرمات تركا وفعلا، كما ورد (إن تارك الصلاة كافر) (1). وقال تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * (2)، والمراد ممن كفر هو من ترك الحج. وفي الحديث: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) (3) إلى غير ذلك، ولذا استشكلوا في عرق الجنب بالحرام انه نجس أم لا، وأصل الكلام انما هو في عرقه الحاصل حين الجنابة لا مطلقا، وإن اشتبه الجماعة في تعيين موضوع المسألة. وكذلك لفعل المندوبات والمكروهات وتركهما مدخلية في الإيمان والكفر، فيحصل بلحاظ الهيئة التركيبية الحاصلة بحصول كل طاعة مع ما سواها مرتبة من مراتب الإيمان، وبتركها مرتبة من مراتب الكفر، بل من المجموع من حيث المجموع، وإنما خص بعض التروك أو بعض الأفعال باطلاق الكفر من جهة


(1) الكافي 2: 278 ح 8، والوسائل: 3: 29 ح 4. (2) آل عمران: 97. (3) نحوه البحار 69: 192 ح 8. (*)

[ 541 ]

المبالغة والإهتمام في شأن ذلك البعض. وقد ورد عن الصادق (عليه السلام): (ان الإيمان عمل كله) (1) وان قول لا إله إلا الله أيضا من العمل إذ هو أيضا عمل لساني، بل قيل: إن الإعتقادات أيضا عمل أي انها عمل قلبي، وورد أيضا: ان للإيمان مراتب كثيرة، فلا يكلف أهل المرتبة السافلة إلى العروج إلى المرتبة العالية، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (2). وذلك كله بحسب تفاوت الإستعداد والقابلية في القول، والفعل، والعلم، والعمل، والمعرفة، والعبادة، وتحصيل تفاصيل المعرفة، وجعل العبادة خالصة من شوب الرياء والسمعة ونحو ذلك، مشتملة على الخضوع والخشوع والإستكانة وغير ذلك. فحصل مما ذكر ان للإيمان مراتب ودرجات، ومنازل ومقامات، أعلاها الإيمان الصرف وأدناها الكفر المحض، وبينهما متوسطات مركبات على اختلاف في درجاتها، فأكثر الناس مؤمنون وهم كافرون أي في الجملة، أو كافرون وهم مؤمنون كذلك، كما قال تعالى: * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * (3). غاية الأمر ان الكفر الحاصل بترك جميع الأصول الخمسة أو بعضها أو ما يرجع إليها، موجب شرعا للحكم بالنجاسة في هذه النشأة الظاهرية أيضا بخلاف باقي مراتب الكفر، وإن كان كل نوع من الكفر موجبا في عالم الباطن للخباثة والقذارة بقدره البتة. وكل نوع من مراتب الإيمان موجبا للطهارة والنظافة الباطنية غير الظاهرية، ولذا جعل الإيمان في الفقرة الشريفة تطهيرا للشرك أي سببا لتطهيره أو مطهرا له، أو ان الحمل للمبالغة. وأصل التطهير بمعنى التنظيف والتنزيه من العيوب والأدناس والأقذار


(1) الكافي 2: 39 ح 7، عنه البحار 69: 23 ح 6. (2) راجع الكافي 2: 42، باب درجات الإيمان، تجد عدة روايات بهذا المضمون. (3) يوسف: 106. (*)

[ 542 ]

والأرجاس، فالايمان يطهر الإنسان من الأدناس الظاهرية والباطنية، والأرجاس العقلانية والنفسانية والجسمانية، ويقال: رجل طاهر الثياب أي منزه الأثواب، ومنه الطهر لخلاف الحيض، والطهور لما يتطهر به كالفطور والسحور والوقود. قال تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * (1) أو قوله تعالى: * (وأزواج مطهرة) * (2) أي نساء مطهرة من الحيض والحدث، ودنس الطبع، وسوء الخلق ونحو ذلك. وقوله تعالى: * (يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (3) أي ينزهكم عن الأرجاس الظاهرية والباطنية مطلقا، كما استدل بهذه الآية العامة والخاصة على معصومية أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام). و (الشرك) نوع من الكفر، وقد يطلق على مطلق الكفر، إسم من قولهم: أشرك فلان بالله فهو مشرك، وأصله من قولهم: شركته في البيع والميراث ونحو ذلك من باب علم شركة - بالفتح فالكسر، أو بالكسر فالسكون - فهو شريك، والإسم الشرك أيضا - بالكسر -. وأشركت زيدا عمروا، أو لعمرو، وبعمرو، ومع عمرو في كذا أي جعلته شريكا له في كذا، قال تعالى: * (وأشركه في أمري) * (4) أي أشركه لي في أمري، والأكثر في مفعوله الثاني الاستعمال بالباء الدالة على الملازمة والملابسة لما بين الشريكين من الملازمة والمخالطة. وأشرك فلان بالله أي أشرك غيره معه اما في الألوهية، أو في الصفة، أو في الفعل، أو في العبادة، قال تعالى: * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * (5) أي لا يشرك أحدا


(1) الفرقان: 48. (2) آل عمران: 15. (3) الأحزاب: 33. (4) طه: 32. (5) الكهف: 110. (*)

[ 543 ]

مع نفسه في عبادته تعالى، والباء هنا بمعنى في، وهذه غير الباء في قولهم: أشرك بالله. والكفر قسمان لأ # نه إذا فرض شخص آخر مع الله سبحانه، فإما أن يجعل الإله هو الله وحده دون الغير فهو التوحيد، أو الغير وحده فهو الكفر الغير الشركي وله أقسام عديدة، أو يجعل كلاهما إلها وهو الكفر الشركي. وهو إما على سبيل الإستقلال في كل منهما مثل شرك الثنوية، أو بدون الإستقلال بل مع الشركة المطلقة، ولو بأن يجعل للغير مدخلية في الجملة ولو مثقال ذرة، فيدخل في الشرك حينئذ العمل بالرياء والسمعة ونحو ذلك مما كان هناك شائبة الغير، باعتبار الذات أو الصفة أو الفعل أو العبادة. وقلما يخلو أحد من الشرك بالمرة، غاية الأمر أن الشرك الموجب للحكم بالكفر والنجاسة الظاهرية شرك مخصوص لا جميع مراتبه - # على ما اشير إليه آنفا # - فترك الواجب وفعل المعصية يوجب إشراك الشيطان بالله سبحانه في العبادة، فإن المخالفة لله سبحانه عبادة للشيطان وإشراك له بالرحمن، كما قال تعالى: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) * (1). وفي الحديث: (الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء) (2) يريد به الرياء في العمل، فكأ # نه أشرك في عمله غير الله، ومنه قوله تعالى: * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * (3). وفيه: (من حلف بغير الله فقد أشرك) (4) أي قد خالف الله وعصاه، أو جعل ما


(1) يس: 60 - 61. (2) النهاية 2: 466، لسان العرب 7: 10 / شرك، والبحار 72: 93 ح 3. (3) الكهف: 110. (4) عوالي اللآلي 3: 444 ح 8، عنه مستدرك الوسائل 16: 50 ح 19109، النهاية 2: 467، لسان العرب 7: 100 / شرك. (*)

[ 544 ]

يحلف به محلوفا به كاسم الله الذي يكون به القسم، ومنه الحديث: (الطيرة شرك ولكن الله يذهبه بالتوكل) (1) جعل التطير شركا بالله تعالى في اعتقاد جلب النفع ودفع الضرر إلى غير ذلك، والإيمان الكامل يطهر المؤمن من جميع الإشراكات المذكورة وغير المذكورة. و (من) في قولها (عليها # السلام): (من الشرك) إما بمعنى عن، أو لتضمين التطهير معنى التخليص، أو ان (من) بدلية أي جعل الإيمان فيكم بدلا من الشرك. والحاصل انه تعالى أذهب عنكم أدناس الشرك وأرجاس الجاهلية، وبدلها بطهارة الإيمان، وأوصلكم نزاهة العلم والمعرفة، فأوضح لكم السبيل والمحجة في أموركم الدينية والدنيوية، وأزال رين الشك والشبهة عن قلوبكم الكدرة فتبين سبيل الهدى، فمن تخلف عنه ضل وغوى، والسلام على من اتبع الهدى. و (الصلاة) قد مرت الإشارة إلى تفصيل معاني المادة، والمراد منها هنا هي الصلاة الشرعية، وهي الأركان المخصوصة، والحركات والسكنات والأذكار المشهورة، ويجري في التنزيه الوجوه الثلاثة السابقة في التطهير. و (الكبر) بالكسر إسم من التكبر، وهو أخذ الكبر - كالصغر بمعنى العظم - لنفسه، ومثله الكبرياء بمعنى العظمة إلا ان الكبرياء أبلغ، وأصل الكبر من قولهم: كبر الشئ كبرا كصغر صغرا - من باب قرب - أي عظم، فهو كبير وكابر أيضا نظير الصغير والصاغر، كما قال الشاعر: جمعوا المكارم أولا عن آخر * وتوارثوها صاغر عن كابر ويقولون أيضا: (ورثوا المجد كابرا عن كابر) أي كبيرا شريفا عن كبير شريف، وأفعل التفضيل منه: أكبر ويجمع على الأكابر، وقد يجعل أكبر صفة مشبهة بمعنى الكبير، ومنه قولنا في الصلاة وغيرها: (الله أكبر). وقال النحاة: معناه الله أكبر من كل شئ، وظاهرهم كونه هنا أفعل التفضيل،


(1) النهاية 2: 467، لسان العرب 7: 100 / شرك، البحار 58: 322. (*)

[ 545 ]

وفي الخبر النهي عنه، وانه يستلزم كون الأشياء حينئذ كبيرة أيضا، مشاركة لله تعالى في الكبر والعظمة الا ان الله تعالى أكثر كبرا، وليس كذلك بل المعنى هنا: ان الله أكبر من أن يوصف، كما ورد في الخبر عن الصادق (عليه السلام) (1). ولكن قال المحققون: إن أكبر فيه أي في هذا التفسير الوارد في الخبر ليس أفعل تفضيل أيضا، وليست (من) تفضيلية، بل أكبر هنا صفة مشبهة بمعنى الكبير، و (من) بمعنى (عن)، إذ لا معنى لتفضيل الله تعالى على الوصف الحاصل من تأويل (أن) مع الفعل، أي الله كبير متجاوزا عن كل شئ ومتعاليا عنه قدرا، ومثله قولنا: فلان أجل من أن يقاس، وقولنا: الأخبار في هذا المعنى أكثر من أن تحصى، والإنسان أعم من زيد، والإثنان أكثر من واحد ونحو ذلك، لعدم صحة معنى التفضيل في هذه المقامات كما لا يخفى. وقوله تعالى: * (ومكروا مكرا كبارا) * (2) الكبار - بالتشديد - أكبر من الكبار - # # بالتخفيف - وهو أكبر من الأكبر، والأكبر من الكبير، والكبرى مؤنث أكبر، قال تعالى: * (فأراه الآية الكبرى) * (3) أي العصا أو اليد البيضاء، و * (يصلى النار الكبرى) * (4) أي نار جهنم التي هي أكبر من نار # الدنيا، وجمعه الكبر - # بالضم فالفتح - كما قال تعالى: * (إنها لأحدى الكبر) * (5). ومن أسمائه تعالى المتكبر، قيل: هو ذو الكبرياء أي العظمة الكاملة، كما في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعظمة ازاري) (6)، وقيل: المتعالى عن صفات الخلق، وقيل: المتكبر على عتاة خلقه، والتاء فيه للتفرد والتخصص لا تاء التعاطي


(1) المحاسن 1: 376 ح 229، ومعاني الأخبار: 11 ح 1، والتوحيد: 313 ح 2، والبحار 93: 218 ح 1. (2) نوح: 22. (3) النازعات: 20. (4) الأعلى: 12. (5) المدثر: 35. (6) البحار 73: 192 ح 1. (*)

[ 546 ]

أو التكلف، وقيل: الكبرياء الملك فهو بمعنى مالك الملك، وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، ولا يوصف بهما إلا الله. وفي وصايا النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر: يا أبا ذر من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوء مقعده من النار، يا أبا ذر من مات وفي قلبه مثقال ذرة من الكبر لم يجد رائحة الجنة إلا أن يتوب قبل ذلك، فقال رجل: يا رسول الله اني ليعجبني الجمال حتى وددت أن علاقة سوطي وشراك نعلي حسن، فهل يرهب علي ذلك. قال (صلى الله عليه وآله): وكيف تجد قلبك ؟ قال: أجده عارفا بالحق مطمئنا إليه، قال: ليس ذلك بالكبر، ولكن الكبر أن تترك الحق وتتجاوزه إلى غيره، وتنظر إلى الناس ولا ترى أن أحدا عرضه كعرضك، ولادمه كدمك. يا أبا ذر أكثر من يدخل النار المتكبرون، وقال رجل: وهل ينجو من الكبر أحد يا رسول الله ؟ قال: نعم، من لبس الصوف، وركب الحمار، وحلب المعز، وجالس المساكين، يا أبا ذر من حمل بضاعته فقد برئ من الكبر - يعني ما يشتري من السوق - يا أبا ذر من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، يا أبا ذر من رفع ذيله، وخصف نعله، وعفر وجهه فقد برئ من الكبر (1). وفي الخبر الآخر: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الكبر) (2) وفسر الكبر هنا بالجحود والشرك أيضا كما جاءت به الرواية. والكبر من الأخلاق المذمومة في الإنسان، وعلاجه بما يعرف به الإنسان نفسه من ان أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة، وان آخره الموت، وانه يعرض للحساب والكتاب والعقاب، فان كان من أهل النار فالخنزير خير منه، فمن أين يليق له الكبر وهو عبد مملوك لا يقدر على شئ. ولما كانت الصلاة أعظم العبادات، وهي مشتملة من تعظيم الله تعالى وتكبيره،


(1) امالي الطوسي: 538 ح 1 مجلس 19، وفي البحار 77: 92 ح 2، عن مكارم الأخلاق: 471. (2) الكافي 2: 310 ح 7، عنه البحار 73: 216 ح 7، ومعاني الأخبار: 241 ح 2. (*)

[ 547 ]

والخضوع له والخشوع عنده بما لا يشتمله غيرها، فانها من الإبتداء الى الإنتهاء خضوع وانكسار وذلة، كما يظهر من ملاحظة حالة التكبير والقيام على كيفية خاصة في حضور الحق سبحانه، والركوع والسجود والقنوت والتشهد والسلام، وفي مجموع كل ذلك خضوع لا فوق له، فجعلت موجبة لتنزيه الإنسان عن صفة الكبر الذي هو أقبح الأخلاق الذميمة، بل هو موجب لدخول أكثر الناس في جهنم، والصلاة موجبة لزواله وخلاص الناس منه. ولذا أيضا جعلت الصلاة أفضل الأعمال، وجعل من فضلها أنها إن قبلت قبل سائر الأعمال أيضا، كما ورد في الخبر: انها إن قبلت قبل ما سواها، وإن ردت رد ما سواها (1). وفي الدرة النجفية: ان الصلاة هي أفضل القرب * وأكمل الطاعات طرا وأحب عمود هذا الدين والعنوان * لسائر الأعمال والميزان أن قبلت فخيرها بها قبل * وإن ترد رد كل ما عمل الى أن قال: فانها قراءة وذكر * وانها استكانة وشكر فيها مثول العبد للمعبود * بين الركوع منه والسجود (2) و (الزكاة) قال بعضهم: أصلها النمو والزيادة والبركة من زكى الزرع والأرض يزكو - من باب قعد - إذا زاد، وسمي القدر المخرج من المال زكاة لأ # نه سبب يرجى به الزكاة من باب تسمية السبب باسم المسبب. وزكى الرجل ماله تزكية أخرج زكاته الشرعية، والإسم منه أيضا الزكاة، والزكوي أي المنسوب الى الزكاة هو المال الذي يجب إخراج زكاته شرعا، ويقال: زكاه أيضا إذا أخذ زكاته.


(1) البحار 10: 394. (2) الدرة النجفية: 81 / كتاب الصلاة. (*)

[ 548 ]

والزكاة قسم من الصدقة، ولذا يقال تزكى بمعنى تصدق، وقوله تعلى: * (قد أفلح من تزكى) * (1) أي أدى زكاته مرادا بها زكاة البدن أي الفطرة أو زكاة المال، وقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * (2) يحتمل الوجهين. والزكاة جاءت لغة بمعنى الطهارة أيضا، وأصلها فعلة قلبت الواو ألفا، والظاهر ان هذا المعنى هو الأظهر في وجه التسمية، فإن زكاة المال طهر للأموال، وزكاة الفطر طهر للأبدان، قال تعالى: * (ما زكى منكم من أحد) * (3) أي ما طهر، وقوله تعالى: * (وأوصاني بالصلاة والزكاة) * (4) أي الطهارة، وقيل: زكاة الرؤوس. وقوله تعالى: * (أقتلت نفسا زكية) * (5) أي طاهرة، و * (ذلكم أزكى لكم وأطهر) * (6) يحتمل الطهارة والنمو أيضا، * (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) * (7) الضمير للنفس، وتزكيتها تطهيرها من الأخلاق الذميمة الناشئة من شره البطن والكلام والغضب ونحو ذلك، وفي الغريب: (قد أفلح من زكاها) أي ظفر من طهر نفسه بالعمل الصالح (8). وقد مر أن الزكاة كما انها إسم للمال المخرج إسم من التزكية أيضا، فهي من الأسماء المشتركة بين المخرج والفعل، فتطلق على العين وهي الطائفة من المال المزكى بها، وعلى المعنى وهو التزكية. قال في النهاية: ومن جهل بهذا البيان أي كون الزكاة إسما للعين والمعنى، أتى من ظلم نفسه بالطعن على قوله تعالى: * (والذين هم للزكاة فاعلون) * (9) ذاهبا إلى


(1) الأعلى: 14. (2) التوبة: 103. (3) النور: 21. (4) مريم: 31. (5) الكهف: 74. (6) البقرة: 232. (7) الشمس: 9 - 10. (8) تفسير غريب القرآن للطريحي: 35 / زكى. (9) المؤمنون: 4. (*)

[ 549 ]

العين، وإنما المراد المعنى الذي هو التزكية (1). ويجئ زكى بمعنى تمدح أيضا، ومنه قوله تعالى: * (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) * (2) ويمكن رجوعه إلى معنى الطهارة مع جعل التفعيل للنسبة. وبالجملة فالزكاة في الشرع إسم للمال المخصوص المعين إخراجه الثابت في المال أو الذمة، بشروط مخصوصة بدنية أو مالية، سميت بذلك لأ # نها تستجلب البركة في المال والتنمية، وتطهر المال من الخبث، والنفس البخيلة من البخل، وتفيد النفس فضيلة الكرم والسخاوة، وتزيل عن النفس دنس الذنوب، كما اشير إلى بعض ما ذكر في قوله تعالى: * (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون) * (3) على بعض التفاسير أي المضعفون للمال. وقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيم بها) * (4) و * (قد أفلح من زكاها) * (5) و * (الذين هم للزكاة فاعلون) * (6) إلى غير ذلك، فيكون تزكية للنفس أي سبب التزكية أو مزكية، أو انها نفس التزكية على سبيل المبالغة، ونماء في الرزق والمال بأحد الوجوه الثلاثة الجارية فيما مر من الفقرات السابقة وما يأتي من اللاحقة. ويظهر من الفقرة الشريفة كون كلا المعنيين مأخوذا في التسمية، وان المناط في الحقيقة هو تزكية النفس أي تطهيرها، ولذا قدمت في الذكر بخلاف النماء بزيادة الرزق. قولها (عليها # السلام): (والصيام تثبيتا للاخلاص، والحج تشييدا للدين). (الصيام) عبادة معروفة، وهو في الأصل لغة الإمساك والسكوت مطلقا، يقال:


(1) النهاية 2: 307، لسان العرب 6: 65 / زكا. (2) النجم: 32. (3) الروم: 39. (4) التوبة: 103. (5) الشمس: 9. (6) المؤمنون: 4. (*)

[ 550 ]

صامت الريح صوما إذا ركدت وأمسكت عن الهبوب وسكنت، وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام وكلام أو سير فهو صائم (1)، قال الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة * تحت العجاج وخيل تعلك اللجما (2) أي قيام بلا اعتلاف، وصيام في البيت جمع صائم كقيام وقائم، كما في قوله تعالى: * (فاذكروا الله قياما وقعودا) * (3) على وجه. والأصل صوام - بالواو - قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها، ويجوز جعله مصدرا محمولا على معنى الجمع كما في الآية أيضا على وجه، وقوله تعالى: * (إني نذرت للرحمن صوما) * (4) أي صمتا أو صوما شرعيا، وكان الصمت حينئذ من شروط الصوم في ذلك الزمان، ثم اطلق الصيام والصوم شرعا على الإمساك عن المفطرات المخصوصة مع النية. وفي النهاية: وفي الخبر انه سئل عمن يصوم الدهر ؟ فقال: لا صام ولا أفطر أي لم يصم ولم يفطر كقوله تعالى: * (فلا صدق ولا صلى) * (5)، وهو إحباط لأجره على صومه حيث خالف الكتاب والسنة، وقيل: هو دعاء عليه كراهية لصنيعه (6). و (التثبيت) ادامة الأمر وجعله مستقرا من ثبت الأمر ثبوتا دام واستقر فهو ثابت، أو جعله صحيحا من ثبت الأمر أي صح، ويعدى بالهمزة والتضعيف. وللصوم الشرعي فضائل مخصوصة ليست للصلاة، كما يظهر مما سيذكر، ولذا ورد في الحديث القدسي: (إن الصوم لي وأنا أجزي به) (7)، قيل في وجه التخصيص أي تخصيص الصوم بذلك مع أن جميع الأعمال لله تعالى، وانه تعالى


(1) راجع لسان العرب 7: 446 / صوم. (2) راجع لسان العرب 7: 446 / صوم، وفيه: واخرى تعلك. (3) النساء: 103. (4) مريم: 26. (5) القيامة: 31. (6) النهاية 3: 61، ولسان العرب 7: 445 / صوم. (7) مكارم الأخلاق: 138، عنه البحار 96: 255 ح 31. (*)

[ 551 ]

يجزي الناس بها بأيدي الملائكة: انه أمر عدمي لا يظهر لغيره تعالى، فهو أبعد من شوب الرياء وأقرب إلى الإخلاص، فيكون قوله تعالى (أنا اجزي به) مبالغة في اكرام الصوم وأهله، أي أنا اباشر بنفسي لجزائه بلا إحالة أمره إلى الملائكة. ولما ذكر في وجه اشتماله على الإخلاص جعل الصوم في الفقرة الشريفة تثبيتا للاخلاص أي موجبا لتشييد الإخلاص وابقائه أو مظهرا له ولبيانه، ويؤيد الأخير أن في بعض النسخ: (تبيينا للإخلاص). وقيل في وجه اختصاص الصوم به تعالى وتخصصه بهذه الفضيلة: انه موجب لضعف القوى البدنية، وكسر الشهوات النفسانية، أو باعث للتصفية والتخلية، وجلاء الحواس الظاهرية والباطنية عن الكدورات العرفية، أو انه جهاد مع النفس وهو الجهاد الأكبر الذي اشير إليه في قوله (صلى الله عليه وآله): قد رجعنا من الجهاد الأصغر - يعني المجاهدة الظاهرية مع المشركين والمنافقين - وبقي علينا الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر ؟ قال (صلى الله عليه وآله): جهاد النفس (1). أو ان الصوم من جهة اشتماله على الجوع يكسر سورة الشيطان وجنوده المفسدين في أرض البدن، كما ورد: (إن الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع) (2) إلى غير ذلك. وقرئ قوله تعالى (أنا اجزى به) بصيغة المجهول، وعلى تقدير صحته يكون المعنى: وأنا جزاء صومه، من باب ما نسب إلى الحديث القدسي: (من أحبني عشقني ومن عشقني قتلته، ومن قتلته فأنا ديته). و (الحج) قد مرت الإشارة إلى معناه اللغوي والشرعي، والمراد هنا هو معناه الشرعي. و (التشييد) من الشيد - بالفتح - بمعنى الرفع، أو من الشيد - بالكسر - وهو كل


(1) الكافي 5: 12 ح 3، عنه البحار 19: 182 ح 31. (2) البحار 63: 332. (*)

[ 552 ]

شئ طليت به الحائط من جص أو بلاط، يقال: شاده يشيده شيدا رفعه أو جصصه بالشيد. و (قصر مشيد) (1) أي مرفوع أو معمول بالشيد، والمشيد - بالتشديد - مبالغة منه، يقال: شيده تشييدا بمعنى شاده، ومنه قوله تعالى: * (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) * (2) أي مرفوعة مطولة، أو مجصصة محكمة، أو مزينة مزوقة، وأشاد صوته بالشئ إشادة أي رفع صوته به، وأشاد بذكره إذا رفع من قدره، وقيل: أشدت بالشئ أي عرفته. قال في النهاية: وفي الحديث: (من أشاد على مسلم عورة يشينه بها بغير حق شانه الله بها يوم القيامة) يقال: أشاده وأشاد به إذا أشاعه ورفع ذكره (3). وكون الحج مشيدا للدين أي سببا لتشييده، من جهة انه زيارة بيت الله الحرام، وفيها زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله)، وسائر قبور الأئمة الأنام (عليهم السلام)، أو أن أعمال الحج من البداية إلى النهاية حكاية لأحوال الموت والبرزخ ويوم القيامة، فيتذكر الحاج بتذكر تلك الحالات المقررة حالات النشأة الأخروية، فيتشيد به دين أهل الدين، ويتضح به سبيل اليقين، ويظهر هذا المعنى من ملاحظة أعمال الحج والعمرة وأسرارهما، وقد بيناها على نحو التفصيل في رسالة على حدة، فمن لاحظها عرف كيفية الحالة. أو المراد أن تحمل المشاق في الحج، وبذل النفس والمال له، أدل دليل على ثبوت الدين أي الاعتقاد به، أو ان ذلك كله يوجب استقرار الدين في النفس، أو يوجب زوال صفة البخل، وحب جمع المال، وحب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، وغير ذلك من الحكم التي لا نعرفها. ويحتمل أن تكون الفقرة اشارة إلى ما ورد في الأخبار الكثيرة من أن علة


(1) الحج: 45. (2) النساء: 78. (3) النهاية 2: 517. (*)

[ 553 ]

أصل تشريع الحج التشرف بخدمة الأئمة (عليهم السلام)، وعرض النصرة عليهم، وتعلم الشرائع منهم في المعرفة والعبادة (1)، ويمكن أن تكون جميع تلك الحكم ملحوظة. وفي بعض الروايات كرواية أحمد بن أبي طاهر وغيرها: (تسلية للدين) فلعل المعنى تسلية للنفس بتحمل المشاق، وبذل الأموال بسبب التقيد بالدين، أو المراد بالتسلية الكشف والإيضاح، فإنه يكشف الهموم والغموم فيتفرغ الإنسان لأمر الدين، أو المراد بالدين أهله فاسند إليه الفعل مجازا، أو ان التسلية محرفة من التسنية بمعنى الرفع، كما وقع كذلك في بعض النسخ أي أن الحج يصير سببا لرفعة الدين وعلوه. و (العدل) قد مرت الإشارة إلى معناه، وهو مطلق الإعتدال في أمور الدين والدنيا، والمراد هنا الإعتدال في أمور الدين. و (التنسيق) التنظيم تفعيل من قولهم: نسقت الدر - من باب قتل - نظمته، ونسقت الكلام عطفت بعضه على بعض وهو أيضا نوع من النظم، والمصدر النسق - # بالفتح -، والإسم النسق - بالتحريك - ومنه حروف النسق لحروف العطف. وفي بعض النسخ: (مسكا للقلوب) أي هو شئ يمسكها عن الإنحراف، وفي القاموس: المسكة - بالضم - ما يتمسك به، وما يمسك الأبدان من الغذاء والشراب، والجمع مسك كصرد، والمسك - محركة - الموضع يمسك الماء (2). وفي رواية ابن أبي طاهر والكشف: (تنسكا للقلوب) (3) أي عبادة لها لأن العدل أمر نفساني يظهر آثاره على الجوارح. وذكر العدل هنا بعد الحج مع عدم مناسبته لاقحامه بين الفروع، إنما هو من


(1) راجع الوسائل 10: 252، باب استحباب زيارة النبي والأئمة (عليهم السلام) وخصوصا بعد الحج. (2) القاموس المحيط: 123 / المسك. (3) بلاغات النساء: 16، كشف الغمة 2: 110. (*)

[ 554 ]

جهة أن المراد بالعدل هنا في المعنى هو الميل إلى أئمة الهدى الموجب لانتظام القلوب واعتدالها في الإعتقاد، وهو انما يحصل بالقول بأئمة الهدى، والوصول والتشرف إلى خدمة سادات الورى (عليهم السلام)، وذلك إنما كان يحصل في ضمن الحج، كما ظهر مما اشير إليه في كون الحج تشييدا للدين من دلالة بعض الأخبار على أن أصل تشريع الحج انما كان للتشرف بخدمة أئمة الدين (عليهم السلام)، إذ عند ذلك تنتسق القلوب، وتعتدل في الطريقة المستقيمة ولا تتخلف عن جادة الحقيقة، فيحصل من القلوب حينئذ الطاعة للأئمة (عليهم السلام) لما يرى منهم ما يوجب القول بولاية الأئمة، وان بيدهم الخلافة الكبرى الدينية والدنيوية. وهذه الطاعة نظام للملة إذ بها تنتظم أمور أهل الملة، وإلا فتتشتت القلوب بالأهواء المختلفة إلى أئمة الضلال الذين يدعون إلى النار، ويوم القيامة لا ينصرون، فيتيهون في أودية الحيرة والجهالة بخلاف إمامة أئمة الهدى، فإنه أمان للناس من الفرقة - بضم الفاء - إسما من فارقته مفارقة وفراقا أي الإفتراق في بوادي الغواية. و (الجهاد) مصدر من قولك: جاهد فلان يجاهد مجاهدة وجهادا من الجهد - # # بالفتح والضم - بمعنى الوسع والطاقة، وقيل: الضم في الحجاز والفتح في غيرهم، فالمجاهدة بذل الطاقة، وقرئ بالوجهين قوله تعالى: * (والذين لا يجدون إلا جهدهم) * (1). وقال الفراء: الجهد - بالضم - الطاقة وبالفتح المشقة، من قولك إجهد جهدك في هذا الأمر أي أوقع نفسك في المشقة (2)، أو الجهد هنا بمعنى الغاية أي أبلغ غايتك، وجهد دابته وأجهدها إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها. وفي الدعاء: (وأعوذ بك من جهد البلاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء) (3)


(1) التوبة: 79. (2) راجع لسان العرب 2: 396 / جهد. (3) البحار 98: 314 ح 3. (*)

[ 555 ]

أي من مشقة البلاء، وفي الحديث: (المسكين أجهد من الفقير) (1) أي أسوء حالا منه، ويقال: جاهد في سبيل الله مجاهدة وجهادا أي بذل الوسع والمجهود بالمعنى المصدري لا المفعول فيما أمر به. وقوله تعالى: * (جاهدوا في الله حق جهاده) * (2) أي في عبادة الله، قيل: وهو أن تعبد ربك كأ # نك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ولذلك قال (حق جهاده) أي جهادا حقا كما ينبغي بجذب النفس وخلوصها عن شوائب الرياء والسمعة مع الخشوع والخضوع. والجهاد مع النفس الأمارة واللوامة في نصرة النفس العاقلة المطمئنة وهو الجهاد الأكبر، ولذا ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه رجع عن بعض غزواته فقال: رجعنا من الجهاد الأصغر وبقي علينا الجهاد الأكبر (3). وفي الخبر: (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك) (4). وفي الخبر: (أفضل الجهاد جهاد النفس) (5) وهو قهرها وبعثها على ملازمة الطاعات، ومجانبة المنهيات ومراقبتها على مرور الأوقات، ومحاسبتها على ما ربحته وخسرته في دار المعاملة من السعادات، وكسر قوتها البهيمية والسبعية بالرياضات، كما قال تعالى: * (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) * (6)، وقوله تعالى: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * (7). قال الشيخ أبو علي: أي جاهدوا الكفار ابتغاء مرضاتنا وطاعة لنا، وجاهدوا


(1) مجمع البحرين / جهد، ونحوه تفسير العياشي 2: 90 ح 64، عنه البحار 96: 57 ح 3. الكافي 3: 501 ح 16. (2) الحج: 78. (3) الكافي 5: 12 ح 3، عنه البحار 19: 182 ح 31. (4) عدة الداعي: 314، عنه البحار 70: 64 ح 1. (5) نحوه معاني الأخبار: 160، عنه البحار 70: 65 ح 7، وغرر الحكم: 242 ح 4904. (6) الشمس: 9 - 10. (7) العنكبوت: 69. (*)

[ 556 ]

أنفسهم في هواها خوفا منا، وقيل: معناه اجتهدوا في عبادتنا رغبة في ثوابنا ورهبة من عقابنا، (لنهدينهم سبلنا) أي السبل الموصلة إلى ثوابنا، وقيل: لنوفقنهم لازدياد الطاعات ليزداد ثوابهم، وقيل: معناه والذين جاهدوا في اقامة السنة لنهدينهم سبيل الجنة، وقيل: معناه والذين يعملون بما يعلمون لنهدينهم إلى مالا يعلمون (1). والجهاد المقابل للحج جهاد مخصوص مع أعداء الدين، وله أحكام وشروط مخصوصة مذكورة في الكتب الفقهية، ومجمله بذل المال والنفس لإعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان، وهو عز أي سبب عزة وغلبة وقوة للإسلام وأهله على المشركين والمنافقين. والإجتهاد المبالغة في الجهد والإجتهاد، ونقل في الإصطلاح إلى استفراغ الوسع فيما فيه مشقة لتحصيل ظن شرعي، وعرفوه بانه استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي الفرعي عن الأدلة الشرعية، والمجتهد اسم فاعل منه، وهو العالم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية فعلا أو بالقوة القريبة من الفعل. و (الصبر) من قولهم: صبرت صبرا - من باب ضرب - أي حبست النفس عن الجزع والإضطراب واصطبرت مثله، وصبرت زيدا يستعمل لازما ومتعديا أي حبسته ومنعته، ومنه قوله تعالى: * (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) * (2)، وصبرته - بالتثقيل - حملته على الصبر بوعد الأجر. وقتلته صبرا أي حبسا، وهو كل ذي روح يوثق حتى يقتل، وقيل: الصبر هو أن يقتل حيوان وعنده حيوان آخر ينظر # إليه، وقيل: الصبر هو # أن يحبس حيوان عن الأكل والشرب حتى يموت جوعا # وعطشا، وقيل غير # ذلك على ما # فصلناه في بعض تحقيقاتنا، وعلى جميع المعاني يصح حمل قول زينب الكبرى (عليها # السلام) في


(1) مجمع البيان سورة العنكبوت آية: 69، ومجمع البحرين / جهد. (2) الكهف: 28. (*)

[ 557 ]

مقام الشكاية عن الظالمين من أهل الشام والكوفة في بعض الخطبة الشريفة بقولها: (قتلتم أخي صبرا) (1). قيل: وأصل الصبر من الصبر ككتف وهو دواء مر معروف، لأن الصبر مر في مذاق النفس كالصبر، وقوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * (2) قيل: اريد به الصوم، وسمى الصوم صبرا لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والنكاح، وفي حديث الصوم: (صم شهر الصبر) (3) وهو شهر رمضان. والصبر في الإصطلاح العرفي حبس النفس عن إظهار الجزع، وعن بعض الأعلام: هو حبس النفس على المكروه امتثالا لأمر الله، وهو من أفضل الأعمال حتى قال النبي (صلى الله عليه وآله): (الإيمان شطران شطر صبر وشطر شكر) (4). وعن الصادق (عليه السلام): (نحن صبرو شيعتنا أصبر منا، وذلك انا صبرنا على ما نعلم و [ هم ] صبروا على مالا يعلمون) (5). والصبر يستعمل تارة ب‍ (عن) كما في المعاصي، وتارة ب‍ (على) كما في الطاعات، يقال: صبر عن الزنا وصبر على الصلاة، وقوله تعالى: * (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * (6) قال الشيخ أبو علي: هو إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى العدل والتوحيد، وأداء الواجبات والإجتناب عن المقبحات (7). وفي الحديث: (الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر عما تحب) (8) فالصبر


(1) الملهوف: 198، والبحار 45: 112 ح 1. (2) البقرة: 45. (3) النهاية 3: 7، ولسان العرب 7: 276 / صبر. (4) عوالي اللآلي 2: 66 ح 171، عنه مستدرك الوسائل 11: 287 ح 13039، وفي تحف العقول: 48. (5) تفسير القمي 2: 141، عنه البحار 24: 216 ح 7، وكنز الدقائق 10: 82، والصافي 4: 95. (6) العصر: 3. (7) مجمع البيان سورة العصر، ومجمع البحرين / صبر. (8) نهج البلاغة، قصار الحكم: 55، عنه البحار 71: 95. (*)

[ 558 ]

الأول مقاومة النفس للمكاره الواردة عليها وثباتها وعدم انفعالها، وقد يسمى به سعة الصدر وهو داخل تحت الشجاعة، والصبر الثاني مقاومة النفس لقوتها الشهوية، وهي فضيلة داخلة تحت العفة. ثم إن في تحمل المكروه امتثالا لأمر الله، وفيه مقامات ثلاثة: الصبر، والشكر، والرضا، فالصبر أن يشق البلاء على النفس ومع ذلك يصبر ويتحمل، والشكر أن يكون وجود البلاء وعدمه عنده سواء فيشكر الله على كل حال، والرضا أن يكون حبه للبلاء أكثر من عدم البلاء لما يرى فيه من أن البلاء للولاء، ويجوز المبادلة بين المقامين الأخيرين في التسمية بالإسمين الأخيرين. مى ننالم ترسم أو باور كند * وز ترحم جور را كمتر كند در بلا هم مى چشم لذات أو * مات اويم مات اويم مات أو والصبور من أبنية المبالغة ومعناه قريب من الحليم، والفرق بينهما أن المذنب لا يأمن العقوبة من صفة الصبور كما يأمنها من صفة الحليم، وفي الحديث: (لا أحد أصبر على أذى يسمعه عن الله عزوجل) (1) أي أشد حلما عن فاعل ذلك في ترك المعاقبة عليه. والمراد من الصبر في الفقرة الشريفة الصبر على مضض الجهاد الأصغر ومشقاته خصوصا، وعلى ما يشمل الجهاد الأكبر عموما مع الصبر على مشقة فعل جميع الطاعات، وعن ترك لذائذ جميع السيئات، وكون الصبر معونة على استيجاب الأجر من انه يتم به فعل الطاعات وترك السيئات. و (المعونة) من قولهم: استعان عليه به فأعانه، وقد يتعدى بنفسه فيقال: استعانه، والإسم المعونة مفعلة - بضم العين - من العون بمعنى الظهر، وبعضهم يجعل الميم أصلية ويقال هو من الماعون وانها فعولة. وفي الصحاح: المعونة الإعانة، تقول: ما عندك معونة ولا معانة - بالفتح - ولا


(1) النهاية 3: 7، ولسان العرب 7: 276 / صبر. (*)

[ 559 ]

عون (1)، وفي الحديث: (تنزل المعونة على قدر المؤنة) (2) وذلك لتكفل الله بالأرزاق. قوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * (3) أي على حوائجكم بالصبر على تكاليف الصلاة من الإخلاص ورعاية الآداب، وعلى الصلاة نفسها، أو المراد بالصبر هنا الصوم كما مر، وقوله تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى) * (4) أي ليستعن بعضكم ببعض في امتثال الأوامر والنواهي. و (الاستيجاب) هنا الإستحقاق، يقال: استوجبه أي استحقه من وجب الشئ وجوبا - كوعد - لزم، قاله الجوهري (5) وغيره، والوجوب اللزوم والثبوت، ووجب البيع لزم، وأوجبه إيجابا أي ألزمه، والإيجاب والوجوب متقاربان في المعنى. قال بعض الأفاضل: والفرق بينهما كالفرق بين الضارب والمضروب، فالضارب هو المؤثر للضرب والمضروب هو المؤثر فيه، فالضارب إسم اشتق للذات باعتبار معنى الضرب القائم بها، والإيجاب معناه التأثير، والوجوب هو حصول الأثر، فلما أوجب الله علينا شيئا فوجب فالأول هو الإيجاب والثاني الوجوب، والموجب الملزم والباعث. وفي الدعاء: (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك) (6) وأوجب الرجل إيجابا إذا فعل فعلا وجبت له به الجنة، ولا إله إلا الله من الموجبات لأ # نها كلمة توجب الجنة، ومن نطق بها فقد أوجب أي نطق بالكلمة الموجبة. و (الأجر) كزجر جزاء العمل سواء كان اخرويا أو دنيويا وكذا الاجرة، إلا ان الأول خص بالاخروي والثاني بالدنيوي، وسواء كان من عقد أو من غير عقد،


(1) الصحاح 6: 2168 / عون. (2) نهج البلاغة، قصار الحكم: 139. (3) البقرة: 45. (4) المائدة: 2. (5) الصحاح 1: 231 / وجب. (6) راجع مفاتيح الجنان في تعقيبات صلاة الظهر. (*)

[ 560 ]

وقد يكنى بالاجرة عن مهر النكاح، والأجر أيضا مصدر اجره - من باب نصر - إذا جزاه، وبمعنى الذكر الحسن، قال تعالى: * (وآتيناه أجره في الدنيا) * (1) وبمعنى المهر في عقد النكاح. قال في الأساس: ومنه قوله تعالى: * (على أن تأجرني ثماني حجج) * (2) أي تجعلها أجري على التزويج يريد المهر، وقوله تعالى: * (وآتوهن أجورهن) * (3) كناية عن المهور (4). ويقال: أجره فلان أجرا أي صار أجيره، ومنه قوله تعالى حكاية عن شعيب لموسى (عليه السلام): * (على أن تأجرني ثماني حجج) *، وأجره فلان أي أعطاه اجرته وبمعنى الإكراء، يقال: أجر المملوك أجرا إذا أكراه. والإجارة - بتثليث الهمزة - إسم لجزاء العمل كالأجر والإيجار - # بكسر الهمزة - إعطاء الجزاء للعامل، يقال: آجره يؤجره إيجارا إذا جزاه، وبمعنى الإكراء يقال: آجر المملوك إيجارا إذا أكراه. والمؤاجرة على وزن المفاعلة الإكراء أيضا، يقال: آجر المملوك مؤاجرة إذا أكراه، وآجر الأجير مؤاجرة أي صار اجيري، واستأجرت الأجير اتخذته أجيرا، واستأجرت الدار استكريتها، وذكر الصبر بعد الجهاد اشارة إلى لزومه في الجهاد، وان بالصبر عليه وعلى سائر الطاعات ينال الأجر الأخروي. * * *


(1) العنكبوت: 27. (2) القصص: 27. (3) النساء: 25. (4) أساس البلاغة: 3 / أجر. (*)

[ 561 ]

قالت (عليها # السلام): " والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، وتوفية المكائيل والموازين تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس، واجتناب القذف حجابا عن اللعنة، وترك السرقة إيجابا للعفة، وحرم الشرك إخلاصا له بالربوبية، * (فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنه: * (انما يخشى الله من عباده العلماء) * ". بيان: (الأمر بالمعروف) قد علم فيما سبق مع النهي عن المنكر. و (المصلحة) بمعنى الخير، يقال: في هذا الأمر مصلحة أي خير ومنفعة، والجمع مصالح، وهو من صلح الشئ صلوحا - من باب قعد - وصلاحا أيضا، وصلح - بالضم - لغة خلاف فسد، وصلح يصلح - بفتحتين - لغة ثالثة فهو صالح وأصلحته فصلح. ويقال: أصلح بمعنى أتى بالصلاح - بفتح الصاد - وهو الخير والصواب ضد الفساد، وصالحه صلاحا - بكسر الصاد - ومصالحة من باب قاتل أي أوقع فيما بينه وبينه الصلح، والصلح - بالضم - إسم منه يذكر ويؤنث، وصلاح إسم علم لمكة، وفي أخبارها: أبا مطر هلم إلى صلاح * فتكفيك الندامى من قريش (1) وصالح المؤمنين في قوله تعالى: * (وجبريل وصالح المؤمنين) * (2) هو علي (عليه السلام)، كما ورد انه لما نزلت الآية أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بيد علي


(1) راجع لسان العرب 7: 385 / صلح. (2) التحريم: 4. (*)

[ 562 ]

(عليه السلام) وقال: أيها الناس هذا صالح المؤمنين (1). والإصلاح بين الناس التأليف بينهم بالمودة، وفي حديث الدعاء: (اللهم اجعل أول نهاري صلاحا، وأوسطه نجاحا، وآخره فلاحا) (2) أي صلاحا في ديننا، وفي الحديث: (إذا ضللت الطريق فناد يا صالح أرشدنا إلى الطريق يرحمك الله) (3)، وذلك لما روي أن البر موكل به صالح (عليه السلام) والبحر موكل به حمزة، وقيل: إن الموكل بالبر هو خضر (عليه السلام) وبالبحر هو الياس (عليه السلام). ويوم الجمعة يوم صالح أي صالح للعمل لتضاعف الأجر والحسنات فيه، والصلح جائز بين المسلمين إلا ما حرم حلالا أو حلل حراما بمعنى الصلح الشرعي. و (العامة) كافة الناس من العموم بمعنى الشمول ونحوه، يقال: عم المطر الأرض عموما - من باب قعد - أحاطها وشملها فهو عام، والعامة خلاف الخاصة والجمع عوام مثل دابة ودواب، والنسبة إلى العامة عامي. والوجه في إطلاق العامة على خلاف الخاصة ان الرجل العامي لا يكون له قيد ومانع من الحركة إلى أي مكان شاء، والقيام والقعود في كل مقام أراد، فيكون له عموم بالنسبة إلى الأمكنة مثلا، والخاص هو المخصوص بحال مخصوص لا غير مثلا، أو أن إطلاق الخاص من جهة تعينه ومعروفيته والعام بخلافه، أو أن الخاص خاصة السلطان ونحوه والعام بخلافه، أو أن الخاص أفراد مخصوصون محصورون بخلاف العام فإن في أفراده كثرة وشيوعا. والعامة تطلق على الواحد والإثنين والأكثر في المؤنث والمذكر، وهو إسم


(1) تفسير فرات: 490 ح 636، عنه البحار 36: 30 ح 8، وشواهد التنزيل 2: 352 ح 996، والصافي 5: 195 عن مجمع البيان. (2) مصباح المتهجد: 454، دعاء يوم الأحد. (3) مكارم الأخلاق: 359 / في دعاء الضال، الباب التاسع، عنه البحار 76: 253 ح 48، ومن لا يحضره الفقيه 2: 195. (*)

[ 563 ]

جنس حقيقة يقع على القليل والكثير كزنج وروم، ويقال في الواحد عامي كرومي وزنجي، إذ بياء النسبة أيضا يفرق بين الجنس ومفرده، كما بالتاء حذفا في نحو تمر وتمرة، وإثباتا كما في نحو كم ء وكمأة، والتاء فيها للمبالغة أو للتأنيث باعتبار موصوف مؤنث محذوف أي الطائفة العامة ونحو ذلك، ومثله الكلام في الخاصة. والخاصة تطلق على الشيعة أيضا والعامة في مقابلهم أهل السنة والجماعة، لأن الشيعة فرقة مخصوصة بالنسبة إلى العامة والعامة جماعة كثيرة، ولفظ العام خلاف الخاص لما في العام من العموم والإحاطة والكثرة بخلاف الخاص. والعمامة - بالكسر - ما يلف على الرأس لاحاطتها به، يقال: كورت العمامة على الرأس أي لففتها عليه، والعمائم تيجان العرب وهي صورة تيجان الملائكة رآها النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة المعراج، فأمر قومه أن يعمموا كذلك تشبيها بالملائكة، والعم أخو الأب كالعمة اخته لإحاطتهم بالشخص، والعم أيضا الجماعة من الناس. وفي الخبر: (سهم المؤلفة [ قلوبهم ] والرقاب عام والباقي خاص) (1) أي عام لمن يعرف ولمن لا يعرف، وخاص بمن يعرف لا غير، ولا يعذب الله العامة بعمل الخاصة أي لا يعذب الأكثر بعمل الأقل، وفي الحديث: (خذ ما خالف العامة) (2) يعني أهل الخلاف فإن الرشد في خلافهم، وذهب عامة النهار أي جميعه. والمراد من العامة في الفقرة الشريفة جميع الناس، أي الأمر بالمعروف الذي قرره الله تعالى وأوجبه مصلحة للناس جميعا، ولولا الأمر بالمعروف لاختل أمور الدين من جهة فساد الفاسقين والمفسدين من شياطين الانس والجن، وامور الدنيا أيضا بوقوع الإختلال بين الناس، ولم ينتظم أمر المعاش الذي هو المقدمة لأمر المعاد، وكذلك النهي عن المنكر، وفي بعض النسخ بدل الأمر بالمعروف النهي عن المنكر، وكل منهما مستلزم للآخر.


(1) الكافي 3: 496 ح 1، والتهذيب 4: 49 ح 2، ومن لا يحضره الفقيه 2: 4 ح 1577. (2) نحوه الكافي 1: 68 ح 10. (*)

[ 564 ]

و (البر) بالكسر خلاف العقوق والمبرة مثله، تقول: بررت بوالدي - من باب علم - برا فأنا بر به - بالفتح - وبار، وجمع البر الأبرار وجمع البار البررة، وفلان يبر خالقه أي يطيعه، والام برة بولدها. وفي الحديث: (تمسحوا بالأرض فإنها بكم برة) (1) أي مشفقة عليكم كالوالدة البرة بأولادها، يعني أن منها خلقكم وفيها معاشكم وإليها بعد الموت معادكم، وفي الحديث: (الأئمة من قريش أبرار) (2). وحاصل معنى البر هو الإحسان والافضال، ويختلف في كل مورد بحسبه، قال تعالى: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) * (3)، والبر فيه هو الإسم الجامع للخير كله دنيويا وأخرويا، ومنه البر بمعنى الصلة. وبر الوالدين صلتهما، والإحسان إليهما، ورفع قدرهما، وتوفى مكارمهما، وتوقي مكارههما، وملاحظة حقوقهما بخلاف عقوقهما المستلزم للإساءة إليهما، والتضييع لحقهما ولو بنسيانهما عن دعاء الخير بعد وفاتهما، كما ورد في الأخبار. ولبر الوالدين فضائل لا تحصى كثرة حتى ورد (ان الجنة تحت أقدام الأمهات) (4)، وان عقوق الوالدين مستلزم لعقوق الله تعالى، ومن بر بوالديه وقاه الله من سخطه في الدنيا والآخرة، كما اشير إليه في الفقرة الشريفة. و (الوالدان) الوالد والوالدة أي الأب والام من باب التغليب من ولده يلده ولادة، فالطفل مولود والأب والد والام والدة، فيستند الولد من حيث التولد إليهما معا، ويقال: ولد الرجل المرأة طفلا توليدا أي حصل له منها ولد، والولد - # بفتحتين - كل ما ولده شئ، ويطلق على الذكر والانثى والمثنى والمجموع، وجمعه أولاد، والولد وزان قفل لغة فيه، وقيس تجعل المضموم جمع المفتوح مثل اسد جمع أسد.


(1) النهاية 1: 116، لسان العرب 1: 371 / برر، والبحار 81: 162 ح 24. (2) النهاية 1: 116، لسان العرب 1: 372 / برر، وفيه: الأئمة من قريش أبرارها امراء ابرارها. (3) البقرة: 44. (4) راجع مستدرك الوسائل 15: 180 ح 17933. (*)

[ 565 ]

والولادة وضع الوالدة ولدها، واستولد الرجل المرأة أي أحبلها، وأما أولد بمعنى استولد فلم يثبت وصرح بعضهم بمنعه، وأولدت المرأة إذا حان ولادتها مثل أحصد الزرع إذا حان حصاده، وولدتها القابلة توليدا باشرت لذلك، ومثل ولد الرجل غنمه توليدا كما يقال: نتج ابله نتجا. وتولد الشئ من غيره نشأ عنه، وتوالدوا أي كثروا وولد بعضهم بعضا، ولدة الرجل - بكسر اللام كعدة - تربه، والمولد موضع الولادة، وميلاد الرجل إسم الوقت الذي ولد فيه، والوليد أيضا الصبي المولود القريب العهد بالولادة، وإذا كبر فلا يقال له وليد، ويطلق الوليد على الغلام أيضا، وجمعه مطلقا ولدان كالوليدة للصبية والأمة والجمع ولائد. قال تعالى: * (ويطوف عليهم ولدان مخلدون) * (1) أي صبيان، ومخلدون أي باقون ولدانا لا يهرمون، وهم إما أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات ولا سيئات، أوهم أطفال المشركين والكفار الذين ماتوا في حال الصغر، كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنهم خدمة أهل الجنة (2). وإما أولاد المؤمنين الذين ماتوا صغارا فالظاهر أنهم مخدومون في الجنة كآبائهم، كما قال تعالى: * (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ) * (3) فانه ممكن العموم لذلك. ويحتمل أن تكون النسخة في قوله: (أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات ولا سيئات) أولاد أهل الدين الذين لم يبلغوا الحلم حتى تكون لهم حسنة أو سيئة، أوهم خدام أهل الجنة خلقوالخدمتهم على صورة الولدان، وقوله تعالى: * (ووالد وما ولد) * (4) قيل: يعني آدم وذريته، وقيل: آدم وما ولد من الأنبياء


(1) الواقعة: 17. (2) مجمع البيان / تفسير سورة الواقعة، عنه كنز الدقائق 13: 26، والصافي 5: 121. (3) الطور: 21. (4) البلد: 3. (*)

[ 566 ]

والأوصياء، وفي حديث الاستعاذة: (ومن شر والد وما ولد) يعني ابليس وذريته (1). قال في المصباح في مادة بيض: ويحكى عن الجاحظ انه صنف كتابا فيما يبيض ويلد من الحيوانات فأوسع في ذلك، فقال له عربي: يجمع ذلك كله كلمتان: كل أذون ولود وكل صموخ بيوض (2)، والمراد من الأذون صاحب الأذن والصموخ خلافه. و (الوقاية) بالكسر ما يوقى به الشئ عن الشئ، وفعالة شائع فيما يفعل به قياسا كالعمامة والستارة واللفافة ونحو ذلك، وفي الحديث: (اللهم اجعله وقاية لمحمد (صلى الله عليه وآله) (3) أي حفظا له، وهو من قولهم: وقاه الشئ أي حفظه إياه. قال تعالى: * (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) * (4) يتعدى إلى مفعولين على ما قيل، والظاهر ان المفعول الثاني يستعمل بعن إصالة، ويقال: اتقيته اتقاء، والأصل أوتقيته، وفي حديث علي (عليه السلام): (كان إذا حمى البأس - # أي اشتد الحرب - اتقينا برسول الله (صلى الله عليه وآله) (5) أي جعلناه وقاية لنا من العدو. (واتقوا الله حق تقاته) أي حق تقواه، والأصل وقاية كما أن أصل التقوى الوقوى كالدعوى، كما أن تترى في قوله تعالى: * (ثم أرسلنا رسلنا تترى) * (6) أصله وترى قلبت الواو تاء للتخفيف من جهة ثقل الواو في أول اللفظ، ومنه تراث والأصل وراث، والتقية والأصل وقية. وتجئ الوقاية - بالكسر - مصدرا وإسما أيضا والفتح لغة فيها مطلقا، وقد


(1) النهاية 5: 225 / ولد. (2) المصباح المنير: 68 / باض. (3) نحوه الكافي 2: 30 ح 1. (4) الإنسان: 11. (5) نحوه النهاية 5: 217، ولسان العرب 15: 379 / وفى، والبحار 16: 121. (6) المؤمنون: 44. (*)

[ 567 ]

تحذف التاء من الوقاية فيقال: الوقاء، ومن هذه المادة الأوقية، وهي واردة في الأخبار كثيرا مرادا بها أربعون درهما. قال في الصحاح: وكذلك كان فيما مضى فاما اليوم فيما يتعارفها الناس ويقدر عليه الأطباء فالأوقية عندهم وزن عشرة دراهم وخمسة أسباع درهم (1). وهو استار وثلثا استار، والجمع الأواقي مثل أثفية والأثافي، وإن شئت خففت الباء في المفرد والجمع أيضا. وقال بعضهم: أوقية - بضم الأول وتشديد الياء - هي عند العرب أربعون درهما في تقدير افعولة كالأعجوبة والأحدوثة، وقيل: سبعة مثاقيل والوقية - # بالضم - أيضا كذلك، قال المطرزي: وجرى على ألسنة الناس الفتح وهي لغة حكاها بعضهم، والتوقي التجنب، ومنه يتوقون شطوط الأنهار. وفي حديث علي (عليه السلام): (توقوا البرد في أوله وتلقوه في آخره) (2) وهو في معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله): (اغتنموا برد الربيع فإنه يعمل بأبدانكم كما يعمل بأشجاركم، واجتنبوا برد الخريف فإنه يعمل بأبدانكم كما يعمل بأشجاركم) (3). و (السخط) بالتحريك، وبضم أوله وسكون ثانيه: الغضب وهو خلاف الرضا، يقال: سخط سخطا - من باب تعب - كغضب لفظا ومعنى فهو ساخط، يقال: سخطه وسخط عليه متعديا بنفسه وب‍ (على)، وأسخطه أغضبه فسخط أي غضب، وإذا اسند السخط إلى الله تعالى يراد به ما يوجبه السخط من العقوبة كنظائره على ما مرت إليه الإشارة. والمراد من السخط هنا الذي جعل بر الوالدين وقاية عنه يحتمل أن يكون


(1) الصحاح 6: 2528 / وقى. (2) نهج البلاغة، قصار الحكم: 128، عنه البحار 62: 271 ح 68، وفي دعوات الراوندي: 75 ح 175. (3) البحار 62: 271 ح 69. (*)

[ 568 ]

سخطهما أو سخط الله سبحانه، والظاهر هو الثاني وإن سبق إلى بعض الأوهام أن الأول هو الأظهر. و (صلة الأرحام) قد مرت إلى معناها الإشارة، والحاصل منها الإحسان إلى الأقرباء والعشائر، والإفضال لهم، والتعطف معهم ولو باطعام أو سلام أو كلام، وحسن مقال وفعال، أو تفقد حال ونحو ذلك. ولهذا مراتب متدرجة بحسب حال الرحم قربا وبعدا، وضعة وشرفا، وعدلا وفسقا، وبحسب حال الواصل من حيث الفقر والغنى، والإمكان وعدم الإمكان، وملاحظة الأهم فالأهم، وبحسب نفس الإحسان قلة وكثرة، قولا وفعلا إلى غير ذلك، ولها تفاصيل شرعية ليس هنا محلها. و (المنماة) آلة النمو والزيادة والازدياد والبركة، والمراد هنا سبب النمو، وقيل: هو هنا إسم مكان أو مصدر ميمي وعلى أي حال فالمراد السببية، ثم المراد هنا من العدد - بالفتح - الكثرة إذ العدد لا يكون إلا مع تعدد المعدود، والمقصود أن صلة الرحم مع إيجاب كثرة الحسنات وازدياد الدرجات في العقبى، يوجب كثرة الأموال والأولاد والعشائر والأعوان في الدنيا، ولهذا قال علي (عليه السلام) كما في نهج البلاغة: " ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه ولا ينقصه إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة، وتقبض منهم عنه أيد كثيرة، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة " (1). وبالجملة فمع قطع النظر عن كل شئ فلا محالة انها توجب كثرة عدد الأولاد والعشائر كما أن قطعها يذر الديار بلا قع، على مادل عليه الأخبار وشهد عليه الإعتبار، ويجوز أن يكون العدد في الفقرة الشريفة بالضم فالفتح بمعنى الاستعداد


(1) نهج البلاغة الخطبة: 23، والبحار 74: 104 ح 66. (*)

[ 569 ]

أو ما يتهيأ للذخيرة، فيكون كناية عما اشير إليه آنفا. و (القصاص) بكسر القاف: القود، وقد أقص الأمير من فلان فلانا إذا اقتص له منه فجرحه مثل جرحه أو قتله قودا، ومنه القصاص الشرعي على الوجه المفصل في كتب الفقه، وأصله من قصصت الشعر - من باب قتل - قصصا وقصا بمعنى قطعته، وطائر مقصوص الجناح أي مقطوعه ومفصوله، والمقص المقراض، وقصاص الشعر - بتثليث القاف - منقطع الشعر من الرأس والضم أفصح، وتقاص القوم إذا قاص كل واحد منهم صاحبه في حساب أو غيره كأ # نه قطع منه بقدر حقه. والقصة - بالكسر - الأمر والشأن والحديث والجمع قصص - بالكسر -، وقص عليه الخبر أو الرؤيا قصصا - بالتحريك - أي حدث به وبينه، وفي حديث الرؤيا: (لا تقصها إلا على واد) (1). وقص أثره واقتصه أي اتبعه كأ # نه يقطع أثره، والقصاص عن المقتول أخذ عوضه وبدله من القاتل كأ # نه يقطعه منه، أو لأن المقتص يتبع أثر الجاني فيفعل مثل فعله من الجرح والقتل. و (الحقن) بفتح الحاء: الحفظ، يقال: حقنت الماء في السقاء حقنا - من باب قتل - أي حفظته فيه وحبسته، ومنه قولهم: حقنت دمه خلاف هدرته كأ # نك جمعته في صاحبه فلم ترقه، وحقن الرجل بوله: حبسه وجمعه فهو حاقن، ومنه الحديث: (لا يصل أحدكم وهو حاقن) (2) أي حابس بوله، وحقنت المريض إذا أوصلت الدواء إلى باطنه من مخرجه بالمحقنه - # بكسر الميم - والإسم الحقنة - # بضم الحاء # -. و (الدماء) جمع الدم، قال في الصحاح: وأصله دمو - بالتحريك - وإنما قالوا: دمي يدمي لحال الكسرة التي قبل الياء كما قالوا: رضي يرضى وهو من الرضوان، قال الشاعر: فلو أنا على حجر ذبحنا * جرى الدميان بالخبر اليقين


(1) النهاية 4: 70، ولسان العرب 11: 191 / قصص، البحار 61: 174. (2) النهاية 1: 416، لسان العرب 3: 265 / حقن، البحار 2: 60. (*)

[ 570 ]

وبعض العرب يقول في تثنيته: دموان، وقال سيبويه: الدم أصله دمي - # # بالتسكين - لأ # نه يجمع على دماء ودمي مثل ظبي وظباء وظبي، ودلو ودلاء ودلي، قال: ولو كان مثل قفا وعصا لما جمع على ذلك، وقال المبرد: أصله فعل - # بالتحريك - وإن جاء جمعه مخالفا لنظائره، والذاهب منه الياء، والدليل عليها قولهم في تثنيته: دميان (1). وبالجملة فالدماء جمع دم وأصله دماو أو دماي قلبت الواو أو الياء ألفا ثم همزة لوقوعها بعد الألف الزائدة، والمصغر دمي، والنسبة إليه دموي أو دميي أو دمي، كما أن التثنية دموان أو دميان أو دمان، وهو إسم جامد لكن جاء منه الفعل المجرد كما اشير إليه، يقال: دمى يدمى فهو دام، وشجة دامية أي التي يخرج دمها ولا يسيل فإن سال فهي الدامعة، وأدميته أنا إذا جرحته حتى خرج منه الدم. قولها (عليها # السلام): (والقصاص حقنا للدماء) أي أن الله جعله سببا لحقن الدماء، وهو إشارة إلى قوله تعالى: * (ولكم في القصاص حياة) * (2)، قال أهل المعاني والبيان: وكلام الله هذا من باب إيجاز القصر الذي ليس فيه حذف، فإن معناه كثير ولفظه يسير، لأن المراد به ان الإنسان إذا علم انه متى قتل قتل كان ذلك داعيا أن لا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، وكان ارتفاع ذلك حياة لهم. وفضل هذا الكلام ورجحانه على ما كان عندهم أوجز كلام في هذا المعنى، وهو قولهم: (القتل أنفى للقتل) بقلة حروف ما يقابله منه وهو قوله تعالى: (في القصاص حياة) لأ # نه قوله: (لكم) لا مدخل له في المقابلة. ووجه القلة أن حروف قوله تعالى: (في القصاص حياة) أحد عشر إن اعتبر التنوين وإلا فعشرة، وحروف (القتل أنفى للقتل) أربعة عشر، والمعتبر الحروف الملفوظة لا المكتوبة لأن الإيجاز انما يتعلق بالعبارة دون الكتابة، وفيه النص على


(1) الصحاح 6: 234 / دما. (2) البقرة: 179. (*)

[ 571 ]

المطلوب الذي هو الحياة. وفي تنكير حياة تعظيم عظيم لمنعه عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد، أو التنوين للنوعية وهي الحياة الحاصلة للمقتول والقاتل بالارتداع من القتل لخوف القصاص، وفي القصاص حياة مطرد أيضا إذ الإقتصاص مطلقا سبب الحياة بخلاف القتل، إذ القتل قد يكون أدعى للقتل وهو القتل الذي لا يكون على وجه الإقتصاص. وليس في الآية تكرير بخلاف قولهم المذكور، وفي الآية الجمع بين المتضادين أي القصاص والحياة، واشتمال القتل على الحياة أمر عجيب، إلى غير ذلك من وجوه الفضيلة التي ذكروها للآية بالنسبة إلى قولهم المذكور. و (الوفاء) بالفتح ضد الغدر مصدر قولك: وفيت بالعهد أفي به وفاء، وأوفيت به إيفاء مثله، كما قال تعالى: * (يوفون بالنذر...) * (1)، قال بعض الأفاضل: قد تضمنت الآية المدح بالوفاء بالنذر والنذر سبب نزولها باتفاق الامة، * (وابراهيم الذي وفى) * (2) التثقيل مبالغة وفى أي وفى بذبح ولده. وفي الحديث: سئل ما معنى قوله تعالى: * (وابراهيم الذي وفى) * قال: كلمات بالغ فيهن، كان إذا أصبح قال: أصبحت وربي محمود، أصبحت ولا اشرك بالله شيئا، ولا أدعو معه إلها، ولا اتخذ من دونه وليا (3). وقال الفارابي: أوفيته حقه ووفيته - بالتثقيل - أي أعطيته، وتوفاه الله: أماته من الوفاة بمعنى الموت، قال تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * (4) والله هو المتوفى بصيغة الفاعل، والميت المتوفى بصيغة المفعول، وقال تعالى: * (قل يتوفاكم


(1) الإنسان: 7. (2) النجم: 37. (3) علل الشرايع: 37 ح 1، عنه البحار 12: 70 ح 13، وكنز الدقائق 12: 511، والصافي 5: 95 عن الكافي 2: 534 ح 38. (4) الزمر: 42. (*)

[ 572 ]

ملك الموت) * (1) أي يقبض أرواحكم. وقال تعالى: * (الذين تتوفاهم الملائكة) * (2) وقال تعالى: * (يا عيسى إني متوفيك) * (3) أي مستوف أجلك أي اني عاصمك من أن تصلك الكفار، وموفيك إلى أجل اكتبه لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم، أو اني قابضك من الأرض إلى السماء. ووافيته موافاة: أتيته، وأوفى على الشئ: أشرف، ووفى الشئ أي تم وكثر، والأوفى: الأكمل، فوفاه حسابه أي أكمله واستوفاه، وفي الحديث: من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى فليكن آخر قوله: * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين) * (4) (5) والمكيال الأوفى كناية عن نيل الثواب الأوفى. واستوفيت عليه الكيل أخذته منه تماما وافيا، قال تعالى: * (إذا اكتالوا على الناس يستوفون) * (6) وكل هذه المعاني راجعة إلى مبدأ واحد كما لا يخفى على المتأمل. و (النذر) لغة الوعد من قولهم: نذرت لله كذا - من باب ضرب وقتل - نذرا، أو نذر ماله نذرا، وشرعا إلتزام المكلف بفعل أو ترك متقربا، يقال: نذر على نفسه نذرا، وذلك كأن يقول: إن عافاني الله فلله علي صدقة أو صوم مما يعد طاعة، وفي الحديث: (لا نذر في معصية) (7). قال بعض الأعلام: هو شامل لما إذا كان نذرا مطلقا نحو: لله علي أن لا أتزوج


(1) السجدة: 11. (2) النحل: 28. (3) آل عمران: 55. (4) الصافات: 180 - 182. (5) الكافي 2: 496 ح 3، من لا يحضره الفقيه 1: 213 ح 954، وفي البحار 86: 23 ح 23. (6) المطففين: 2. (7) معاني الأخبار: 169، عنه البحار 97: 73 ح 21. (*)

[ 573 ]

مثلا، ومعلقا نحو: إن شفي مريضي فلله علي أن أصوم العيد، قال: وذهب المرتضى إلى بطلان النذر المطلق طاعة كان أو معصية وادعى عليه الإجماع، وقال: إن العرب لا تعرف من النذر إلا ما كان معلقا كما قاله تغلب، والكتاب والسنة واردان بلسانهم، والنقل على خلاف الأصل. قال: وقد خالفه أكثر علمائنا وحكموا بانعقاد النذر المطلق كالمعلق، ثم نقل ما تمسكوا به على ذلك ورده، ثم قال: وبالجملة فلا دلالة فيه على ما ينافي مذهب السيد بوجه، ويجوز أن يراد بالنذر هنا المعنى اللغوي والشرعي فإن كلا منهما نوع سبب للمغفرة أي لأن يغفر الله ذنوب الناذر، فإن الحسنات يذهبن السيئات، والتخصيص بالنذر لعله من جهة زيادة مدخلية الوفاء بالنذر والعمل على طبقه في المغفرة. و (التعريض) تفعيل من قولهم: عرض له أمر كذا أي ظهر، وعرضت عليه أمرا كذا أي أظهرته عليه فاعرض أي ظهر، وعرضت له الشئ تعريضا أي أظهرته له وأبرزته إليه، ويقال: عرضت له ثوبا مكان حقه، وعرضتهم على السيف أي جعلتهم في معرضه، ومن هذا المعنى التعريض للمغفرة، فإن النذر يعرض الإنسان على المغفرة أي يجعله في معرضها فتعرض المغفرة له وتحيط به، ويتفرع على المعنى السابق قولهم: عرض العود على الإناء أي وضعه عليه بالعرض. و (التوفية) الإكمال، وقد مرت الإشارة إلى معنى هذه المادة. و (المكائيل) جمع المكيال وهو آلة الكيل من كلت زيدا الطعام كيلا - من باب باع - يتعدى إلى مفعولين، وقد تدخل اللام على المفعول الأول فيقال: كلت له الطعام، والإسم الكيلة - بالكسر - كالجلسة والركبة، ومنه المثل: أحشفا وسوء كيلة (1) أي أتجمع أن تعطيني حشفا وأن تسئ إلي الكيل. والمكيال ما يكال به والجمع مكائيل - كما ذكر - والكيل مثله والجمع


(1) راجع لسان العرب 12: 203 / مادة كيل، والحشف هو التمر أو التمر اليابس الفاسد. (*)

[ 574 ]

الأكيال، واكتلت منه وعليه إذا أخذت وتوليت الكيل بنفسي، يقال: كال الدافع واكتال الآخذ، قال تعالى: * (ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) * (1) والدافع المباشر للكيل كائل والآخذ حينئذ مكيل بخلاف الآخذ المباشر للكيل فإنه مكتال. ومنه قولهم: كما تكيل تكال وكما تدين تدان، ونظير المكائيل فيما ذكر الموازين جمع الميزان وأصله موزان، وعن أبي عبيدة انه قال: والذي يعرف به أصل الكيل والوزن أن كل ما لزمه إسم المختوم والقفيز والمكوك والصاع والمد فهو كيل أي مكيل بالمكيال، وكل ما لزمه اسم الأرطال والأمناء والأواقي فهو وزن أي موزون بالميزان (2). وفي الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله): (المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة) (3). قال: وأصل التمر الكيل فلا يجوز أن يباع وزنا بوزن، لأ # نه إذا رد بعد الوزن أي الكيل لم يؤمن فيه التفاضل، وكل ما كان في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) بمكة والمدينة مكيلا فلا يباع إلا بالكيل، وكل ما كان بهما موزونا فلا يباع إلا بالوزن لئلا يدخله الربا بالتفاضل، وهذا في كل نوع يتعلق به أحكام الشرع من حقوق الله تعالى دون ما يتعامله الناس في بياعاتهم. فاما المكيال فهو الصاع الذي يتعلق به وجوب الزكاة والكفارات والنفقات وغير ذلك، وهو مقدر بكيل أهل المدينة دون غيرها من البلدان لهذا الحديث، وهو مفعال من الكيل والميم للآلة، واما الوزن فيريد به الذهب والفضة خاصة لأن حق الزكاة يتعلق بها، ودراهم أهل مكة ستة دوانيق ودراهم الإسلام المعد له كل عشرة سبع مثاقيل، وكان أهل المدينة يتعاملون بالدراهم عند مقدم رسول الله


(1) المطففين: 1 - 3. (2) راجع لسان العرب 12: 203 / كيل. (3) النهاية 4: 218، لسان العرب 12: 203 / كيل. (*)

[ 575 ]

(صلى الله عليه وآله) بالعدد فأرشدهم إلى وزن مكة. واما الدنانير فكانت تحمل إلى العرب من الروم إلى أن ضرب عبد الملك بن مروان في أيامه دراهم معلومة، واما الأرطال والأمناء فللناس فيها عادات مختلفة في البلدان فهم معاملون ومجرون عليها، كذا ذكر بعضهم (1)، والظاهر ان الكيل كان قديما متداولا من عهد آدم (عليه السلام). واما الميزان فروي أن جبرئيل نزل به في عهد نوح (عليه السلام)، فدفعه إليه وقال: مر قومك يزنوا به (2)، وقوله تعالى: * (الوزن يومئذ الحق) * (3) قال الشيخ أبو علي: قيل معناه أن الوزن عبارة عن العدل في الآخرة وانه لا ظلم فيها، وقيل: إن الله ينصب ميزانا له لسان وكفتان فتوزن به أعمال العباد الحسنات والسيئات. ثم اختلفوا في كيفية الوزن، لأن الأعمال أعراض لا يجوز وزنها، فقيل: توزن صحائف الأعمال، وقيل: تظهر آثار الحسنات والسيئات في الكفتين فيراها الإنسان، وقيل: تظهر الحسنات في صور حسنة والسيئات في صور سيئة، وقيل: يوزن نفس المؤمن ونفس الكافر، وقيل: المراد بالوزن ظهور مقدار المؤمن في العظم ومقدار الكافر في الذلة (4). قوله تعالى: * (والسماء رفعها ووضع الميزان) * (5) قيل: هو الميزان الظاهري ليتوصل به إلى الإنصاف، * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) * (6) قيل: اريد الأنبياء والأوصياء، وفي الحديث: (الصلاة ميزان فمن وفى استوفى) (7) وكأ # نها ميزان الأعمال كما اشير إليه سابقا من أنها:


(1) راجع لسان العرب 12: 203 - 204. (2) راجع تفسير الصافي 5: 139، وكنز الدقائق 13: 107، عن تفسير جوامع الجامع. (3) الأعراف: 8. (4) مجمع البيان سورة الأعراف، ومجمع البحرين / وزن. (5) الرحمن: 7. (6) الأنبياء: 47. (7) من لا يحضره الفقيه 1: 133 ح 622، باب فضل الصلاة، والبحار 82: 235 ح 62. (

[ 576 ]

إن قبلت فغيرها بها قبل * وإن ترد رد كل ما عمل على ما ورد في الأخبار. و (التغيير) إزالة الشئ عن حاله ومكانه وتبديله بأي وجه كان، من غيرته تغييرا فتغير، مأخوذ من الغير لكون الحال الثاني مثلا غير الأول. و (البخس) بتقديم الباء على وزن فلس، هو النقص وبمعنى الناقص أيضا مصدرا وصفة، وقد بخسه حقه بخسا كمنعه إذا نقصه، ويقال: بيع لا بخس ولا شطط أي قصد لا نقيصة فيه ولا زيادة، * (وشروه بثمن بخس) * (1) أي ناقص، ويقال أيضا بخسه أي عابه، وفي المعنى الأول يتعدى إلى مفعولين، وفي التنزيل: * (لا تبخسوا الناس أشياءهم) * (2) وفي بعض النسخ بدل البخس: البخسة، ولا يتفاوت المعنى. والمراد من الفقرة الشريفة أن الله تعالى أمر بتوفية المكائيل والموازين لأ # نها مزيلة ومغيرة للبخس، أي أنها مقدرة من جانب الله سبحانه لئلا ينقص مال من لا ينقص المكيال والميزان، إذ التوفية موجبة للبركة وكثرة المال، أو لئلا ينقصوا أموال الناس فيكون المقصود ان هذا أمر يحكم العقل بقبحه، أو لئلا ينقص بنقص المكيال والميزان موازين حسناتهم، كما قال تعالى: * (ويل للمطففين) *. و (النهي) خلاف الأمر وهو المنع والزجر وأصله التحريم، يقال: نهيته عنه نهيا فانتهى أي كف، ونهوته نهوا لغة، ويقال: انه لأمور بالمعروف ونهو عن المنكر، ويطلق على العقل النهية - بضم النون - لأ # نه ينهى عن القبيح، والجمع: النهى. ونهاية الشئ أقصاه لنهيه عن الوصول إليه ثم اطلق لكل نهاية، ومنه نهايات الدار لحدودها، وتناهى الماء إذا وقف في الغدير، وتناهى الأمر أي بلغ النهاية، وانتهى الأمر إلى الحاكم أعلمته به لأن الخبر ينتهي إليه، والإنهاء: الإبلاغ، ويقال:


(1) يوسف: 20. (2) الأعراف: 85. (*)

[ 577 ]

فلان ناهيك من رجل كما تقول: حسبك من رجل. و (الشرب) بالضم إسم من شربت الماء أو غيره من المائعات شربا - بالفتح - كما في المصباح (1)، من باب علم، وقيل: الضم أيضا لغة في المصدر، ولا يقال في الطائر شرب الماء بل يقال: حساه حسوا، كما يقال: عب الماء عبا وهو الشرب بلا مص، والظاهر اختصاص الشرب بما كان بالمص وقد يستعمل في غيره مجازا. والشرب - بالكسر - الحظ والنصيب من الماء، ومنه قوله تعالى: * (هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) * (2) وأشربته: أسقيته، و * (اشربوا في قلوبهم العجل) * (3) أي حب العجل. وفي الخبر: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)، قيل: هذا من باب التعليق في البيان، أراد انه لم يدخل الجنة لأن الخمر من شراب أهل الجنة، فإذا لم يشربها في الآخرة لم يكن دخل الجنة (4). وفي الحديث نهى عن الشرب قائما (5)، قيل: هو للتنزيه لأن أعضاء القائم ليست مطمئنة ساكنة، فربما انحرف الماء عن موضعه المعلوم من المعدة فيؤذي، وفي رواية اخرى عن علي (عليه السلام) انه كان يشرب الماء وهو قائم (6)، وعن الصادق (عليه السلام) انه قال: (الشرب قائما أقوى لك وأصح) (7). وحمل الخبر الأول الناهي عن الشرب قائما على الشرب في الليل، والثاني


(1) المصباح المنير: 308 / الشراب. (2) الشعراء: 155. (3) البقرة: 93. (4) النهاية 2: 455، لسان العرب 7: 64 / شرب. (5) الاستبصار 4: 92 ح 1، والتهذيب 9: 95 ح 147، والوسائل 17: 192 ح 6. (6) المحاسن 2: 408 ح 52، عنه البحار 66: 469 ح 40، وفي الكافي 6: 383 ح 6، والوسائل 17: 194 ح 4. (7) التهذيب 9: 94 ح 144، والإستبصار 4: 93 ح 2، والوسائل 17: 192 ح 5، ونحوه المحاسن 2: 410 ح 59، عنه البحار 66: 471 ح 48. (*)

[ 578 ]

المرجح للشرب قائما عليه في النهار، ولعل الوجه ان أصل الشرب قائما أفضل، لكن لو شرب في الليل قائما فربما كان فيه عقرب أو غيره مما يسقط فيه في الليل من السوام، فربما يشربه فيؤدي إلى ضرره واهلاكه، فإذا قعد يرى غالبا بنور السراج وغيره الماء فيرى ما سقط فيه، وهذا من باب الحكمة لا العلة. و (الخمر) هو المسكر المعروف المائع المأخوذ من ماء العنب، قال ابن الأعرابي: سميت الخمر خمرا لأ # نها تركت فاختمرت واختمارها تغير ريحها، وقيل: سميت بذلك لمخامرتها العقل (1)، وقيل: أصل الخمر بمعنى الستر وسمى الخمر خمرا لسترها العقل، ومنه الخمار - بالكسر - للمقنعة لسترها رأس المرأة. والخمار بقية السكر، ويقال: ما عند فلان خل ولا خمر أي خير ولا شر، والخمير: الدائم الشرب، والخمار: بياع الخمر، والخمرة - بالضم - ما يجعل فيه الخمر، وأخمرت الشئ: أضمرته، وخمر عني فلان - من باب قتل - إذا توارى، وخمرت الإناء تخميرا أي غطيته. وبالجملة فالخمر على قول هو المخصوص بالعصير العنبي، واما المسكر المعمول من غيره فيقال له النقيع في الزبيب والبتع - بتقديم الباء المكسورة - في العسل، والجعة - بالكسر - في الشعير، والمزر - بتقديم الزاء مع كسر الميم - في الحنطة، والنبيذ في التمر، والفضيخ في البسر، إلى غير ذلك من الأسماء المخصوصة. واشتهر بينهم أن الخمر هو كل شراب مسكر مطلقا ولا يختص بعصير العنب، وعن القاموس: إن العموم أصح لأ # نها حرمت وما في المدينة يومئذ خمر عنبي، وما كان شرابهم إلا من التمر أو البسر (2). وفي الرواية عن الصادق (عليه السلام) انه قال: قال رسول الله


(1) راجع لسان العرب 4: 211 / خمر. (2) القاموس المحيط: 495 / الخمر. (*)

[ 579 ]

(صلى الله عليه وآله): الخمر من خمسة: العصير من الكرم، والنقيع من الزبيب، والبتع من العسل، والمزر من الشعير، والنبيذ من التمر (1). وفي الكافي بسند صحيح عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: إن الله لم يحرم الخمر لاسمها ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر (2). وفي الخبر الآخر: الفقاع خمر استضغره الناس (3). و (الرجس) بكسر الراء القذر والمنتن أو كلما يجب التنزه عنه، وقال الفارابي: كل شئ يستقذر فهو رجس، قال تعالى: * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * (4) أي نتنا إلى نتنهم، أو القذارة على القذارة من حيث المراتب الظاهرية والباطنية. وقيل: الرجس هو النجس، وقيل: بل الرجس أعم من النجس لأن النجس هو القذر الخارج من بدن الإنسان، والرجس مطلق كالقذر، ورجس رجسا - من باب تعب وقرب أيضا - أي صار قذرا، وقد يعبر بالرجس عن الحرام، والفعل القبيح، والعذاب، واللعنة، والكفر ونحو ذلك. وهذه كلها معان حقيقية له إن كان الرجس بمعنى ما يجب التنزه عنه مطلقا، وقوله تعالى: * (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) * (5) أي فعل قبيح أو شئ نجس أو نحو ذلك. وقوله تعالى: * (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) * (6) قال الفراء: المراد به


(1) الكافي 6: 392 ح 1، والتهذيب 9: 101 ح 177، والوسائل 17: 221 ح 1. (2) الكافي 6: 412 ح 2، والتهذيب 9: 112 ح 221، والوسائل 17: 273 ح 1. (3) راجع الكافي 6: 423 ح 9، والتهذيب 9: 125 ح 275، والإستبصار 4: 95 ح 6، والوسائل 17: 262 ح 1 وفيها: (هي خمرة) وفي الباقي: (هي خميرة). (4) التوبة: 125. (5) المائدة: 90. (6) يونس: 100. (*)

[ 580 ]

العقاب والغضب، وهو مضارع لقوله تعالى: * (والرجز فاهجر) * (1)، قال: ولعلهما لغتان بدلت السين زاء كما قيل الأسد للأزد (2)، وقيل: المراد بالرجس في الآية اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولو فسر الرجس بمعنى النجس والقذر الظاهري أمكن أن يستدل بالفقرة الشريفة على نجاسة الخمر (3). و (الإجتناب) والتجنب والإحتراز من جنبت الرجل شرا - من باب قعد - أبعدته عنه، وجنبته - بالتثقيل - مبالغة فيه، وأصل المادة هو الجنب وهو طرف الإنسان أي ما تحت ابطه إلى الكشح فما دون، والشخص إذا تجنب الشئ الآخر بعده عن جنبه وإلى جنبه، ومنه الجانب أيضا للناحية، والأجنب والأجنبي للأبعد من الإنسان أي الذي ليس بينك وبينه قرابة، وكذا الجنيب والجنيبة للفرس الذي يقاد ونحو ذلك، وكذا الجنب - بضمتين - بمعنى البعيد. ومنه قوله تعالى: * (فبصرت به عن جنب) * أي عن مكان بعيد * (وهم لا يشعرون) * (4) ولعل منه الجنب لذي الجنابة المعروفة من جنب كقرب وأجنب كأبصر، والجنابة هي النجاسة المعروفة الوهمية أي الباطنية الحاصلة من خروج مني أو جماع، قيل: وسمى الجنب جنبا لاجتنابه موضع الصلاة، ويستوي في لفظ الجنب المذكر والمؤنث والواحد والإثنان والجماعة. و (القذف) رمي الغير بالفاحشة، وأصله الرمي بشئ مطلقا أو رميا مع قوة، يقال: قذفت بالحجارة قذفا - من باب ضرب - رميت بها، يقال: هم بين حاذف


(1) المدثر: 5. (2) راجع لسان العرب 5: 147 / رجس. (3) اختلف الأصحاب في نجاسة الخمر فذهب الشيخ المفيد والطوسي والمرتضى واكثر الأصحاب إلى أنه نجس العين، وقال ابن أبي عقيل: من أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما، لأن الله تعالى إنما حرمهما تعبدا لا لأ # نهما نجسان، وكذلك سبيل العصير والخل إذا أصاب الثوب والجسد، ونحوه قال الصدوق في من لا يحضره الفقيه (راجع مدارك الأحكام 2: 289). (4) القصص: 11. (*)

[ 581 ]

وقاذف، فالحاذف بالعصا والقاذف بالحجارة، وقذفت الحائض الدم أي رمته. وفي الخبر: (إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا) (1) أي يلقي ويوقع، وقذف الرجل أي قاء كأ # نه رمى بالقئ من باطنه إلى الخارج، والقذيفة: القبيحة وهي الشتم، وقذف بقوله: تكلم من غير تدبر ولا تأمل. و (الحجاب) بالكسر: الستر كذلك، وهو ما يحجب به كاللباس والنظام والكتاب والقوام ونحو ذلك من حجبه حجبا - من باب قتل - منعه، إذ الحجاب يمنع المشاهدة، وقيل للبواب حاجب لأ # نه يمنع الدخول. والأصل في الحجاب جسم حائل بين جسدين، وقد استعمل في المعاني أيضا، فقيل: العجز حجاب بين الإنسان وبين أمره ومراده، والمعصية حجاب بين العبد وبين ربه، وجمعه حجب ككتاب وكتب، واحتجب الملك عن الناس أي استتر، وقوله تعالى: * (حتى توارت بالحجاب) * (2) وكذا في حديث الصلاة، أي حتى غابت الشمس في الأفق واستترت به. وفيه: إن الله يغفر للعبد ما لم يقع الحجاب، قيل: يا رسول الله وما الحجاب ؟ قال: أن تموت النفس وهي مشركة (3). كأ # نها حجبت بالموت مع الشرك عن الإيمان، ويجوز أن يكون الموت هو الحجاب لكونه حجابا عن الرجوع إلى الدنيا، أو حجابا عن أن يكون إيمانه نافعا، كما قال تعالى: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * (4). ومنه: (من اطلع الحجاب واقع ما وراءه) أي إذا مات الإنسان رأى ما وراء الحجابين: حجاب الجنة وحجاب النار، وقيل: اطلاع الحجاب مد الرأس، لأن المطالع يمد رأسه ينظر من وراء الحجاب وهو الستر، وقوله تعالى: * (وبينهما


(1) النهاية 4: 29، لسان العرب 11: 75 / قذف. (2) ص: 32. (3) النهاية 1: 340، لسان العرب 3: 51 / حجب. (4) غافر: 85. (*)

[ 582 ]

حجاب) * (1) أي بين الجنة والنار أو بين أهلهما يعني سور أو حجاب حاجز. وفي الحديث: (حجبت الجنة بالمكاره وحجبت النار بالشهوات) أي لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار إلا بالشهوات، وقد روي (حفت الجنة بالمكاره) (2)، وهذه الرواية أيضا مشهورة، وضمنه الشاعر اقتباسا في قوله: قال لي ان رقيبي سئ الخلق فداره * قلت دعني وجهك الجنة حفت بالمكاره و (اللعن) هو الطرد مطلقا، والعرب تقول لكل كريه ملعون، والإسم اللعنة، ورجل لعنة كهمزة لمزة: يلعن الناس كثيرا، واشتهر اللعن في الطرد عن الرحمة، وقوله تعالى: * (كما لعنا أصحاب السبت) * (3) أي طردناهم عن الرحمة بالمسخ، و * (لعنهم الله بكفرهم) * (4) أي أبعدهم وطردهم من الرحمة. والشجرة الملعونة في القرآن أي الملعون أهلها، وقوله تعالى: * (ويلعنهم اللاعنون) * (5) قيل: إن الإثنين إذا تلاعنا وكان أحدهما غير مستحق للعن رجعت اللعنة على المستحق لها، فإن لم يستحق لها أحد رجعت اللعنة إلى اليهود (6)، والرجل لعين وملعون والمرأة لعين أيضا وملعونة. وعن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ملعون كل جسد لا يزكى ولو في أربعين يوما مرة، ثم قال لأصحابه: أتدرون ما عنيت ؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: الرجل يخدش الخدشة، وينكب النكبة، ويعثر العثرة، ويمرض المرضة، ويشاك الشوكة، وما أشبه هذا (7). وقوله ملعون أي ملعون صاحبه أي مطرود مبعد عن رحمة الله.


(1) الأعراف: 46. (2) نهج البلاغة الخطبة: 176، والبحار 70: 78 ح 12. (3) النساء: 47. (4) البقرة: 88. (5) البقرة: 159. (6) قالها ابن مسعود، راجع لسان العرب 12: 292 / لعن. (7) قرب الإسناد: 68 ح 218، عنه البحار 81: 181 ح 28، وفي الكافي 2: 199 ح 26. (*)

[ 583 ]

والملاعنة المباهلة ومنه اللعان، وهو في اللغة الطرد والبعد، فإن أحدهما لابد أن يكون كاذبا فيلحقه الإسم، وشرعا المباهلة بين الزوجين في إزالة حد، أو نفي ولد بلفظ مخصوص، وفي الحديث: (اتقوا الملاعن الثلاث) (1) جمع ملعنة، وهي الفعلة التي يلعن بها فاعلها كأ # نها مظنة اللعن ومحل له، وهو أن يتغوط الإنسان على قارعة الطريق، أو ظل الشجرة، أو جانب النهر، فإذا مر بها الناس لعنوا فاعلها. وجاء اللعن بمعنى السب أيضا، وهو متفرع من المعنى الأول، والمراد من اللعنة في الفقرة الشريفة لعنة الله أو لعنة القاذف والمقذوف، والأول أظهر لقوله تعالى: * (لعنوا في الدنيا والآخرة) * (2). و (السرقة) ككلمة ويجري فيها اللغات الجارية في الكلمة: مصدرا واسم مصدر من قولك سرقته أو سرقت منه مالا من باب ضرب سرقا - بالتحريك -، يتعدى إلى الأول بنفسه وبالحرف على الزيادة. وسرق السمع واسترقه بمعنى سمعه مستخفيا مجاز لتشبيهه بما يفعله السارق، وسرقه - بالتضعيف - أي نسبه إلى السرقة، وقرئ قوله تعالى: * (إن ابنك سرق) * (3) بصيغة الفاعل والمفعول أي معلوما ومجهولا. و (الإيجاب) الإثبات، وقد مرت الإشارة إلى معنى هذه المادة والمراد هنا السببية. و (العفة) بكسر العين وتشديد الفاء من قولهم: عف الشئ يعف عفة أي كف عنه كالتعفف، والمراد هنا الكف عن الحرام وعما يكره مطلقا كالسؤال ونحوه، وأعفه: كفه.


(1) النهاية 4: 255، لسان العرب 12: 293 / لعن، والبحار 72: 113 ح 11. (2) النور: 23. (3) يوسف: 81. (*)

[ 584 ]

وفي حديث الدعاء: (اللهم إني أسألك العفة والغنى) (1) وعفة الفرج صونه عن المحرمات، ومنه: (اللهم حصن فرجي) (2) والإستعفاف طلب العفة أو هو مبالغتها، ومنه قوله تعالى: * (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا) * (3) أي سبب النكاح ومقدمته وهو المهر والنفقة. وفي الخبر: (أفضل العبادة العفاف) (4) بالفتح أي العفة، وفيه أيضا: (من يستعفف يعفه الله) (5) أي من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها، وأصل العفة والاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشئ، والمرء عفيف وعف - بفتح العين - والمرأة عفيفة وعفة. والمراد من العفة هنا العفة عن التصرف في أموال الناس مطلقا، أو العفة عن المكاره الدنيوية والاخروية الواردة عليه من جهة السرقة، وفي الكشف بعد قوله للعفة: (والتنزه عن أموال الأيتام، والاستيشار بفيئهم إجارة من الظلم، والعدل في الأحكام ايثار للرعية) (6)، والمراد من الاستيشار طلب المشورة في حفظ فيئهم أي ضبط نصيبهم من الفئ. و (التحريم) هو جعل الشئ ممنوعا منعا لازما يوجب فعله العقاب. و (الشرك) هو نوع مخصوص من الكفر على ما مر، فإن من لم يشرك بالله قد أخلص لله الربوبية، وكان ممن يعبد الله مخلصا له الدين، وفي بعض النسخ: (وحرم الشرك) وفي الكشف بدل تحريم الشرك التنزيه عن الشرك، والكل واضح. * (فاتقوا الله حق تقاته) * المفعول المطلق هنا نوعي أي تقاة حق التقاة، وهو نظير


(1) النهاية 3: 264، لسان العرب 9: 290 / عفف. (2) البحار 80: 180 ح 29. (3) النور: 33. (4) الكافي 2: 79 ح 3، عنه البحار 71: 269 ح 3، وفي مكارم الأخلاق: 269، وفلاح السائل: 27. (5) النهاية 3: 264 / عفف، والبحار 71: 405. (6) كشف الغمة 2: 110، وفيها: أكل أموال الأيتام والاستيثار.. (*)

[ 585 ]

اضرب ظرب الأمير، والمراد من حق التقاة التقاة الكاملة التي لا مسامحة فيها. * (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * أي لا يدرككم الموت إلا في حال إسلامكم أي لا ترتدوا عن الإسلام بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، فيدرككم الموت وأنتم في غمرة الإرتداد ساهون، وعن طريق الحق ضالون، وعن الصراط ناكبون. وهو إشارة إلى ما ورد انه: إرتد الناس كلهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) إلا أربعة: سلمان، وأبو ذر، والمقداد، وعمار (1)، أو إلا الثلاثة كما في بعض الأخبار (2)، كما قال تعالى: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) * (3). * (واطيعوا الله فيما أمركم به) * بلسان رسوله (صلى الله عليه وآله) ونهاكم عنه بقوله، (فما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فإنه (إنما يخشى الله من عباده العلماء) أي الذين علموا به وبأحكامه وبصفات جلاله واكرامه، فإن من كان علمه أكثر كانت خشيته أكثر (4). هر كه أو بيدارتر پر درد تر * هر كه أو آگاه تر رخ زرد تر والمراد ان الخشية الكاملة هي وظيفة العلماء إذ لا خشية إلا بقدر العلم والمعرفة. * * *


(1) راجع البحار 22: 328 ح 35، نحوه. (2) اختيار معرفة الرجال 1: 47 ح 24، عنه البحار 22: 440 ح 9. (3) آل عمران: 144. (4) ويدل عليه قوله (عليه السلام) في دعاء كميل: (وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة). (*)

[ 586 ]

ثم قالت (عليها # السلام): " أيها الناس أنا فاطمة وأبي محمد (صلى الله عليه وآله)، أقولها حقا عودا وبدءا، ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا، * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) * فان تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزي إليه، فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة، مائلا عن مدرجة المشركين، ضاربا ثبجهم، آخذا بأكظامهم، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام، وينكت الهام حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلت عقد الكفر والشقاق ". بيان: قولها (عليها # السلام): (أيها الناس) منادى حذف منه حرف النداء لكثرة الإستعمال، وإذا اريد المبالغة في التنبيه ذكر حرف النداء فيقال: يا أيها الناس، وإذا اريد الإشارة إلى الإستعجال وضيق المجال، ولو من حيث الإيهام إلى ضيقه من حيث الاهتمام لذكر المطلوب الأهم حذف حرف النداء، وأصل المنادى واقعا هو الناس، وظاهرا هو أيها، والناس صفة أو بدل أو عطف بيان، وتفصيل الكلام مذكور في كتب النحو. وقولها (عليها # السلام): (أقولها حقا) أي أقول الكلمة السابقة حقا أي بحق، أو حققت هذه الكلمة حقا، أو حقت هي حقا، أو أقولها محقة فيما أقول أي لا شك اني فاطمة التي قال فيها النبي (صلى الله عليه وآله): (فاطمة بضعة مني) كما لا شك اني بنت محمد (صلى الله عليه وآله) وهو أبي، فلا تنكروا ميراثه أو عطيته في حقي.


[ 587 ]

وكل من الفقرتين صالحة لأن يرجع الضمير إليها، كما يجوز رجوعه إليهما معا بجعلهما ككلمة واحدة من حيث الهيئة التركيبية، أو المراد بالضمير ما تقولها بعد ذلك في مقام المنازعة. قولها (عليها # السلام): (عودا وبدءا) العود مصدر قولك عاد إلى كذا ولكذا يعود عودا أو عودة صار إليه ورجع، وهو يستلزم كونه عليه أولا، قال تعالى: * (ولو ردو العادوا لما نهوا عنه) * (1) وفي المثل: (العود أحمد) (2)، قال الشاعر: جزينا بني شيبان أمس بقرضهم * وجئنا بمثل البدء والعود أحمد (3) والمعاد هو محل العود، ويقال للمعشر المعاد لأن الناس منه فارقون وإليه راجعون عائدون. فرقتي لو لم تكن في ذا السكون * لم يقل انا إليه راجعون راجع آن باشد كه باز آيد به شهر * سوى وحدت آيد از تفريق دهر وله تفصيل موكول إلى محله معلوم عند أهله. وفي الصحاح: قد عاد إليه بعد ما كان أعرض عنه، والمعاد: المصير والمرجع، والآخرة معاد الخلق، إنتهى (4). وفي أسمائه المعيد، وهو الذي يعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات في الدنيا، وبعد الممات إلى الحياة يوم القيامة، ومنه الحديث: (إن الله يحب الرجل القوي المبدئ المعيد) (5) أي الذي أبدأ في غزوة وأعاد فغزا مرة بعد مرة، أو جرب الأمور طورا بعد طور، والفرس المبدئ المعيد هو الذي غزا عليه صاحبه مرة بعد مرة، وقيل: هو الذي قد ريض وادب فهو طوع راكبه.


(1) الأنعام: 28. (2) راجع لسان العرب 9: 458 / عود، والصحاح 2: 513. (3) الصحاح 2: 514، لسان العرب 9: 458 / عود. (4) الصحاح 2: 514 / عود. (5) لسان العرب 9: 458 / عود، والبحار 64: 184. (*)

[ 588 ]

وفي حديث علي (عليه السلام): (والحكم لله والمعود إليه يوم القيامة) قال في النهاية: أي المعاد، هكذا جاء المعود على الأصل، وهو مفعل من عاد يعود، ومن حق أمثاله أن تقلب واوه ألفا كالمقام والمراح، ولكنه استعمل على الأصل (1). وقوله تعالى: * (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) * (2) قيل: لراجع لك إلى مكة وهي معاد الحج لأ # نهم يعودون إليها، ومعاد الرجل بلدته لأ # نه يطوف البلاد ثم يعود إليها، وقيل: إلى المعاد الذي هو بعث الأجسام البشرية، وتعلق أنفسها بها للنفع أو الإنتصاف والجزاء، ويكون المعاد مصدرا ميميا، ويوم المعاد يحتمل الوجهين. والبدء مصدر قولك بدأت بالشئ أبدء بدءا - من باب منع - ابتدأت به، والبدءة كالبدء بمعنى الإبتداء، وبدأ الله الخلق وأبدءهم بمعنى، وفلان ما يبدئ وما يعيد أي ما يتكلم ببادئة ولا عائدة، وقد مرت الإشارة إلى تفصيل معاني هذه المادة. ويقال: رجع عوده إلى بدئه إذا رجع في الطريق الخاص الذي جاء منه، وفعل ذلك عودا وبدءا، وفي عوده وبدئه، وفي عودته وبدءته كلها بمعنى، وهو كذلك بادئ الرأي أي في أول رأي رآه، وابتدأه بادي الرأي غير مهموز من البدو بمعنى الظهور أي في ظاهر الرأي والنظر، قال بعض الأفاضل: عودا وبدءا أي أولا وآخرا. وفي رواية ابن أبي الحديد وغيره: (أقول عودا على بدء) (3) والمعنى واحد، والمراد من الفقرة اني أقول هذه الكلمة أولا وآخرا، وأعود إليها مرة بعد اخرى، ولا أتركها بل الازمها وامارسها. و (الشطط) بالتحريك: البعد عن الحق ومجاوزة الحد في كل شئ، وفي


(1) النهاية 3: 316، ولسان العرب 9: 460 / عود. (2) القصص: 85. (3) شرح نهج البلاغة 16: 212 باب 45. (*)

[ 589 ]

الكشف: (ما أقول ذلك سرفا ولا شططا) (1). وأصل الشطط هو البعد الجسماني مصدر قولك: شطت الدار شطا وشطوطا - # من باب نصر وضرب - أي بعدت، ثم استعمل في البعد المعنوي والتجاوز عن الحد والمقدار ونحو ذلك، واشط واشتط في السوم أي ابعد، وشط فلان في حكمه وأشط إذا جار، ومنه قوله تعالى: * (فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط) * (2). وفي الحديث: (لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط) (3) أي لا نقصان ولا زيادة، والمراد هنا اني لا أطلب فدك ولا أفعل فيها من المنازعة من باب البعد عن الحق والتجاوز عن القدر، بل هي حق يلزم علي أن أطلبه ولا يسوغ لي أن أتركه. * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * عنى بالرسول محمدا (صلى الله عليه وآله) أي جاءكم رسول من جنسكم من البشر، ثم من العرب، ثم من بني إسماعيل، ثم من أهل مكة، والمراد أنه من نكاح طيب لم يصبه شئ من ولادة الجاهلية، كما روى عن الصادق (عليه السلام) (4). وروى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شئ، ما ولدني إلا نكاح الإسلام (5). وعلى الوجه الأول قيل: وإنما من الله سبحانه عليهم بكونه منهم، لأ # نهم إذا عرفوا مولده ومنشأه وشاهدوه صغيرا وكبيرا، وعرفوا حاله في صدقه وأمانته، ولم يعثروا على شئ يوجب نقصا فيه، فبالحري أن يكونوا أقرب إلى القبول منه والإنقياد له. وعن القمي: (رسول من أنفسكم) أي مثلكم في الخلقة، قال: ويقرأ من


(1) كشف الغمة 2: 111. (2) ص: 22. (3) النهاية 2: 475، ولسان العرب 7: 119 / شطط. (4) مجمع البيان سورة التوبة آية: 128، وتفسير كنز الدقائق 5: 579. (5) مجمع البيان سورة التوبة آية: 128. (*)

[ 590 ]

أنفسكم - بفتح الفاء - أي من أشرفكم (1). وفي الجوامع: قيل: هو قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة (عليها # السلام) (2). * (عزيز عليه ما عنتم) * أي شاق شديد عليه عنتكم ولقاءكم المكروه، والعنت هو المشقة، أو ما يلحقكم من الضرر بترك الإيمان أو مطلقا، أو ما أثمتم، أو ما أعنتكم وضركم، أو ما هلكتم عليه، أو ما أنكرتم وجحدتم. (حريص عليكم) أي على إيمانكم باصلاح شأنكم حتى لا يخرج أحد منكم عن الإستسعاد بدينه الذي جاء به، أو حريص على من لم يؤمن أن يؤمن بالمؤمنين. (رؤوف رحيم) قيل: هما واحد، والرأفة شدة الرحمة والتقديم لرعاية الفواصل، قيل: رؤوف بالمطيعين منهم رحيم بالمذنبين، وقيل: رؤوف بأقربائه رحيم بأوليائه، أو رؤوف لمن رآه رحيم بمن لم يره، أو رؤوف بالمؤمنين منكم ومن غيركم ورحيم عليهم. وقال بعض السلف: لم يجمع الله سبحانه لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنه قال: * (بالمؤمنين رؤوف رحيم) * وقال: * (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) * (3). قولها (عليها # السلام): (فإن تعزوه) هو من قولهم: عزوته إلى أبيه نسبته إليه، وعزيته لغة أيضا فاعتزى هو وتعزى أي انتمى وانتسب، والإسم العزاء، وفي الحديث: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا) (4) يعني بنسب الجاهلية، وهو الإنتساب إلى القوم بأن يقول عند ندائه: أنا فلان بن فلان، ينتمي


(1) تفسير القمي 1: 308، وكنز الدقائق 5: 579، والصافي 2: 391. (2) جوامع الجامع 2: 94، وكنز الدقائق 5: 579، والصافي 2: 391. (3) البقرة: 143. (4) النهاية 3: 233، ولسان العرب 9: 196 / عزا، والبحار 32: 91. (*)

[ 591 ]

إلى أبيه وجده لشرفه وغير ذلك ونحو ذلك. ومنه العزاء والعزوة اسما لدعوى المستغيث، وهو أن يقول: يالفلان أو للمهاجرين والأنصار، ومنه الحديث الآخر: (من لم يتعز بعزاء الله فليس منا) (1) أي من لم يدع بدعوى الإسلام حتى يقولوا يا للمسلمين، أو هو من التعزية في المصيبة. وأصلها نسبة الحكم إلى أمر الله، وهي موجبة للتصبر عند المصيبة والتسلي عنها، فيكون المراد من التعزي بعزاء الله أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون كما أمر الله، ومعنى قوله: بعزاء الله أي بتعزية الله إياه، فأقام الإسم مقام المصدر ثم استعمل عزى يعزي - من باب تعب - بمعنى صبر على البلاء. وعزيته تعزية قلت: أحسن الله عزاك أي رزقك الصبر الحسن، فالعزاء هنا مصدر أو إسم مصدر مثل سلم سلاما، وكلم كلاما، وتعزى هو أي تصبر وشعاره أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وفي الحديث أيضا: (من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات) (2). والمراد من الفقرة الشريفة انكم إن ذكرتم نسب الرسول وعرفتموه تجدوه أبي وأخا ابن عمي، أي شرف الإنتساب إليه (صلى الله عليه وآله) إنما هو مخصوص بنا رجالا ونساء لا بكم، ولا هو مشترك بيننا وبينكم، فلم تمنعون ميراثنا، وتغتصبون حق خلافتنا، وتتعرضون بنا في فدك التي وهبها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنا. وذكر الأخوة في مقام ذكر النسب استطراد، أو ان المراد من الإنتساب أعم من النسب ومما طرأ أخيرا بالمؤاخاة ونحوها، ويمكن أن يكون أخا بصيغة الماضي. وفي بعض الروايات: (فإن تعزروه وتوقروه) والتعزير التعظيم والتوقير،


(1) النهاية 3: 233، لسان العرب 9: 196 / عزا، والبحار 22: 538. (2) تفسير القمي 2: 66، عنه البحار 73: 89 ح 58، وفي الخصال: 64 ح 95 باب 2. (

[ 592 ]

ويكون هذا أيضا كناية عن ذكر نسبه، فإن في ذكر نسبه (صلى الله عليه وآله) تعظيما له وتوقيرا، حيث أنه كان نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسه من مدلهمات ثيابها. و (المعزي إليه) هو النبي (صلى الله عليه وآله)، أي ان نسبتي إليه وأنا بنته كما فهم من قولها (عليها # السلام) (تجدوه أبي دون نسائكم) أي هو (صلى الله عليه وآله) أبي وليس أبا نسائكم، فأنا مخصوصة بتلك النسبة من بين نساء الامة، ونعم المنسوب إليه الرسول المشار إليه، والمعزي كمرمي إسم مفعول من المجرد، ويجوز أن يجعل مفعولا من المزيد من باب التفعيل إن جعل التضعيف للمبالغة إلا انه مرجوح. و (الرسالة) في الأصل مصدر وهو وصف الرسول، ولا معنى ظاهرا لتبليغها، فالمراد بها ما يلزم للرسول أن يبلغه وهو الأمر المرسل به. وقولها (عليها # السلام) (صادعا بالنذارة) صادعا إسم فاعل من الصدع بمعنى الإظهار، تقول: صدعت الشئ صدعا - من باب منع - أي أظهرته، وصدعت بالحق إذا تكلمت به جهارا، قال الله تعالى: * (فاصدع بما تؤمر) * (1) قال الفراء: أي فاصدع بالأمر أي أظهر دينك الذي امرت به وباظهاره (2). وقيل: أبنه إبانة لا تنمحي كما لا يلتئم صدع الزجاجة، والكلام استعارة، والمستعار منه كسر الزجاجة، والمستعار له التبليغ، والجامع التأثر، وقيل: فرق بين الحق والباطل، وقيل: شق جماعاتهم بالتوحيد أو بالقرآن. وأصل الصدع هو الشق مطلقا أو الشق الذي يظهر منه الصوت، يقال: صدعته فانصدع أي انشق، وصدعت الزجاجة فانصدعت والإسم أيضا الصدع، ومنه قوله تعالى: * (والأرض ذات الصدع) * (3) أي ذات انشقاق بالسحاب.


(1) الحجر: 94. (2) راجع لسان العرب 7: 304 / صدع. (3) الطارق: 12. (*)

[ 593 ]

والصديع: الصبح، وصدعت الفلاة: قطعتها، وصدعت القوم فتصدعوا أي فرقتهم فتفرقوا، وفي حديث الإستسقاء: (فتصدع السحاب صدعا) (1) أي تفرق، والصداع وجع الرأس، وصدع فلان تصديعا - بالبناء للمفعول - أي أخذه وجع الرأس. و (النذارة) بالكسر على وزن العمامة ما ينذر به من الانذار بمعنى الإعلام على وجه التخفيف، وقيل: أنذرت الرجل كذا بمعنى أبلغته كذا، وأكثر ما يستعمل في التخويف كقوله تعالى: * (وأنذرهم يوم الآزفة) * (2) أي خوف عذابه، والفاعل المنذر ونذير وجمع الأخير نذر، وقوله تعالى: * (إنما أنت منذر من يخشاها) * (3) أي إنما ينفع إنذارك من يخافها، و * (وجاءكم النذير) * (4) أي الرسول المنذر من عذاب الله، أو المراد منه إمارات عذابه تعالى. وقوله تعالى: * (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) * (5) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا المنذر وعلي الهادي (6)، وروي أن الآية نزلت: إنما أنت منذر وعلي لكل قوم هاد. ويجوز أن يكون المراد ان شأنك الإنذار والهداية التي نسبت إليك مظهرها علي، وهو منك وأنت منه لحمه من لحمك ودمه من دمك. قال الباقر (عليه السلام): أما والله ما ذهبت - يعني الهداية - منا، وما زالت فينا إلى يوم القيامة (7).


(1) النهاية 3: 16، ولسان العرب 7: 303 / صدع. (2) غافر: 18. (3) النازعات: 45. (4) فاطر: 37. (5) الرعد: 7. (6) الفصول المهمة: 105، كفاية الطالب: 233، مستدرك الحاكم 2: 129، ونور الأبصار: 105، تفسير الرازي 19: 14، والكافي 1: 192 ح 3. (7) بصائر الدرجات: 50 ح 7 باب 13، عنه البحار 23: 3 ح 5، وفي الكافي 1: 192 ح 4، وتفسير العياشي 2: 204 ح 8. (*)

[ 594 ]

والمنذر أيضا المعلم الذي يعرف القوم بما يكون قد دهمهم من عدو أو غيره وهو المخوف، وأنذرته به أي أعلمته به فنذر كعلم لفظا ومعنى، والصلة بالباء تفيد هذا المعنى. قولها (عليها # السلام): (مائلا عن مدرجة المشركين) أي معرضا عنها، يقال: مال عنه ميلا أي أعرض وانحرف، وإذا استعمل ب‍ (إلى) صار المعنى بالعكس أي أقبل إليه بالرضا القلبي. و (المدرجة) المذهب والمسلك وهي من قولهم: درج الصبي دروجا - من باب قعد - مشى قليلا في أول ما يمشي، والمدرج - بفتح الميم والراء - الطريق مطلقا أو الطريق الذي فيه اعتراض وانعطاف والجمع المدارج، والدرجة: المرقاة والجمع درج مثل قصبة وقصب. ودرج في المدارج أو الدرجات أي علا في الطبقات والمراتب وارتقى إليها بالتدريج، وقوله تعالى: * (هم درجات عند الله) * (1) أي ذو طبقات عنده تعالى في الفضيلة و * (لهم درجات عند ربهم) * (2) أي بعضهم فوق بعض في القرب والزلفى. ودرجته إلى الأمر تدريجا فتدرج واستدرجته أخذته قليلا، قال تعالى: * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) * (3) أي سنأخذهم قليلا ولا نباغتهم، كما يرتقي الراقي الدرجة فيتدرج شيئا بعد شئ حتى يصل إلى العلو. وفي القاموس: استدرجه خدعه، واستدراج الله للعبد انه كلما جدد خطيئة جدد له نعمة وأنساه الإستغفار، فيأخذه قليلا قليلا ولا يباغته (4)، أي لا يفاجئه من البغتة وهي الفجأة. وفي الحديث: إذا أراد الله بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة ويذكره


(1) آل عمران: 163. (2) الأنفال: 4. (3) الأعراف: 182. (4) القاموس المحيط: 240 / درج. (*)

[ 595 ]

الإستغفار، وإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها، وهو قوله تعالى: * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) * (1). ودرج في سبيله أي مشى، ومنه قولهم: درج فلان بمعنى مات، وتدرج القوم إذا انقرضوا، ودرجت الكتاب طويته، وأدرجته فيه أي جعلته في ضمنه، وجميع المعاني السابقة راجعة إلى مبدأ واحد. وفي بعض النسخ (عن مدركة) بدل قولها (عليها # السلام) (عن مدرجة)، والمدركة مقابل المدرجة، والدرك والدركة نظير الدرج والدرجة، وهي بمعنى مرتبة الإنحطاط من الدرك بمعنى الأخذ، كأ # نه أخذ ومنع عن العروج إلى المرتبة العالية، فيقال لطبقات الجنة درجات ولطبقات النار دركات، كما قال تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) * (2). ويقال لمسالك المشركين في الدنيا والآخرة دركات، ولمذاهب المؤمنين فيهما درجات، والمدركة أولى بالمشركين من المدرجة، وعلى تقدير المدرجة تكون هي استعارة بملاحظة ظاهر الحالة. وفي بعض النسخ: (ناكبا عن سنن المشركين) والسنن - بالتحريك - هي الطريقة، ويجوز قراءة سنن - بالضم - جمع السنة كغرف في جمع غرفة، وفي رواية ابن أبي طاهر: (مائلا على مدرجة) أي قائما للرد عليهم، والظاهر انه تصحيف، والفقرتان اشارة إلى قوله تعالى: * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) * (3). و (الثبج) بالتحريك وتقديم الثاء المثلثة على الباء الموحدة وسط الشئ ومعظمه، ومنه ثبج الرمل وثبج البحر، وقوله (عليه السلام): (وتدفق متقاذفات


(1) الكافي 2: 452 ح 1، عنه البحار 5: 217 ح 9، وفي علل الشرائع: 561 ح 1 باب 354 والآية في سورة الأعراف: 182. (2) النساء: 145. (3) الحجر: 94. (*)

[ 596 ]

أثباجها) (1)، الأثباج جمع ثبج بالمعنى المذكور والضمير للمجاز، والمراد معظم مياه البحار، وأصل الثبج هو ما بين الكاهل إلى الظهر. والمراد بثبج المشركين معظم جماعاتهم عددا وعددا، أو المراد أعاظمهم ورؤساؤهم أي أن النبي (صلى الله عليه وآله) أضرب عن طريقتهم، وضربهم عن آخرهم على مناخرهم فأهلكهم وقمعهم وصرعهم وصرمهم. و (الأكظام) جمع الكظم - بالتحريك - وهو مخرج النفس من الحلق، وكظم الغيظ كظما - بالسكون - تجرعه واحتمل الصبر عليه وهو قادر على إمضائه، كأ # نه يدخله من مخرج نفسه إلى صدره فلا يظهر أثره، وقوله تعالى: * (والكاظمين الغيظ) * (2) أي الحابسين غيظهم المتجرعينه. وفي الحديث: (من كظم غيظا أعطاه الله أجر شهيد) (3) قيل: وظاهره ينافي ما اشتهر من أن أفضل الأعمال أحمزها، وربما يجاب بان الشهيد وكل فاعل حسنة أجره مضاعف بعشر أمثاله للآية، فلعل أجر كاظم الغيظ مع المضاعفة مثل أجر الشهيد لا بدونها. وفي حديث علي (عليه السلام): (لعل الله يحدث (4) أمر هذه الامة ولا يؤخذ بأكظامها) (5) والمراد من الأخذ بالأكظام تضييق الأمر عليهم كما يضيق الأمر على الإنسان عند الأذ بمخرج نفسه، ومنه الحديث: (له التوبة ما لم يؤخذ بكظمه) (6) أي خروج نفسه وانقطاع نفسه. والمراد من الفقرة الشريفة أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان شديدا صلبا في أمر الدين، لا يبالي بكثرة المشركين، ولا يداريهم في أمر الدعوة إلى كلمة الإسلام


(1) البحار 57: 111 ح 90، وفيه: (تصطفق متقاذفات). (2) آل عمران: 134. (3) أمالي الصدوق: 350 / حديث المناهي، عنه البحار 75: 247 ح 10. (4) في النهاية: يصلح. (5) النهاية 4: 178، لسان العرب 12: 106 / كظم، والبحار 33: 370 ح 602. (6) النهاية 4: 178، لسان العرب 12: 106 / كظم. (*)

[ 597 ]

والمجاهدة في سبيل ربه مع الخاص والعام، داعيا إلى سبيل ربه كما أمره سبحانه بقوله: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) * (1). قيل: المراد بالحكمة البراهين القاطعة وهي للخواص، وبالموعظة الحسنة الخطابات المقنعة والعبر النافعة وهي للعوام، وبالمجادلة التي هي أحسن الزام المعاندين الجاحدين بالمقدمات المشهورة والمسلمة، واما المغالطات والشعريات فلا تناسب درجة أصحاب النبوة. وقيل في معنى الآية وبيان معاني الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن وجوه غير ذلك قد مرت إليها الإشارة في بيان معنى الحكمة في شرح قولها (عليها # السلام): (إلا تبيينا للحكمة). قولها (عليها # السلام): (يكسر الأصنام وينكث الهام) النكث - بالثاء المثلثة - القاء الرجل على رأسه، يقال: طعنه فنكثه ومنه يتفرع قولهم: نكث الرجل العهد أو الحبل نكثا - # من باب قتل - نقضه ونبذه فانتكث مثل نقضه فانتقض. والنكث - بالكسر - ما نقض من غزل الشعر ونحوه ليغزل، والجمع أنكاث مثل حمل واحمال، قال تعالى: * (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) * (2)، وفي الصحاح: النكث - بالكسر - أن تنقض أخلاق الأخبية والأكسية لتغزل ثانية (3). وفي حديث علي (عليه السلام): (امرت بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين) (4)، فالناكثون أهل الجمل لأ # نهم نكثوا البيعة أي نقضوها، واستنزلوا عائشة وساروا بها إلى البصرة، وهم عسكر الجمل ورؤساؤهم، والقاسطون أهل صفين، لأ # نهم جاروا في حكمهم وبغوا، والمارقون الخوارج، لأ # نهم مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وهذا التفسير مروي عن النبي


(1) النحل: 125. (2) النحل: 92. (3) الصحاح 1: 295 / نكث. (4) المناقب لابن شهرآشوب 3: 217، فصل في ظالميه ومقاتليه، عنه البحار 32: 303 ح 267. (*)

[ 598 ]

(صلى الله عليه وآله). ومن كلام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة في عثمان: فلما انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله فما راعني إلا والناس إلي كعرف الضبع ينثالون علي من كل جانب (1). قال الشيخ ميثم: كنى (عليه السلام) بانتكاث فتله عن انتقاض الأمور عليه، وما كان يبرمه من الآراء دون الصحابة، واستعار لفظ الإجهاز لفتله وكذلك لفظ الكبو الذي حقيقة في سقوط الحيوان على رأسه، لفساد أمره بعد استمراره كالكبو بعد استمرار الفرس في العدو، وكنى ببطنته عن توسعه في بيت المال، والإنثيال تتابع الشئ يتلو بعضه بعضا كعرف الضبع (2). وقرئ ينكت - بالتاء المثناة - من نكت الأرض بقضيب ونحوه حتى أثر فيها، ومنه النكتة للأمر الدقيق لتأثيره في القلب، ونكت المطر الأرض أي أثر فيها، ويقال أيضا طعنه بالرمح فنكته أي ألقاه على رأسه. و (الهام) بتخفيف الميم وكذا الهامة هو الرأس وقيل أعلى الرأس، وقد يستعار على الإشراف. والمراد من نكت الهام تجديل الرؤوس والقائها على الأرض، فيكون كناية عن قتل رؤساء المشركين وقمعهم وإذلالهم، أو المراد ضرب رؤوسهم بالسيوف مطلقا في مقام الجهاد، وقيل: اريد به إلقاء الأصنام على رؤوسها، وهو بعيد سيما بملاحظة ما بعده. وفي بعض النسخ (ينكس الهام) بالسين، وفي الكشف وغيره (يجذ الأصنام) من قولهم: جذذت الشئ أي كسرته، ومنه قوله تعالى: * (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) * (3). و (الإنهزام) انفعال من الهزم، يقال: هزمت الجيش هزما وهزيمة فانهزموا،


(1) نهج البلاغة، الخطبة: 3. (2) شرح النهج لابن ميثم 1: 263، وفي مجمع البحرين / نكث. (3) الأنبياء: 58. (*)

[ 599 ]

والهزم في الأصل بمعنى الكسر ومنه قولهم: تهزم السقاء إذا يبس فتكسر، قال تعالى: * (فهزموهم باذن الله) * (1) أي كسروهم، وهزم الأحزاب وحده أي كسرهم. و (الجمع) الجماعة واللام للعهد أي انهزم جماعة المشركين، وأصل الجمع ضم شئ إلى شئ ثم يطلق على معنى المجموع مصدرا بمعنى المفعول، ويصدق على اثنين وأكثر وهذا هو الجمع اللغوي، وعليه حمل على وجه قوله (صلى الله عليه وآله): (الإثنان وما فوقهما جماعة) (2) بخلاف الجمع الإصطلاحي فإن أقله ثلاثة على المشهور، وإن قيل بكونه اثنين أيضا. وقيل: إن اطلاقه على الاثنين إنما هو باعتبار الجمع المنطقي لا الإصطلاحي مطلقا، واما بالنسبة إلى المنطق فلعل وجهه انهم قالوا ان الكلي انما يتشخص بالأفراد أو يوجد في ضمن الأفراد ونحو ذلك، ومرادهم من الأفراد ليس الثلاثة وما فوقها البتة بل أعم مما يصدق باثنين أيضا، وهو أول مراتب الكثرة ولهذا نسب ذلك إليهم. وبالجملة اختلف علماء العربية في أقل الجمع الإصطلاحي على المشهور، فقيل ثلاثة، وقيل إثنان، والظاهر منهم انه لا فرق بين جمع يكون مفرده فردا أو زوجا أو جمعا، فكما أن أقل الأول على القول بانه ثلاثة ثلاثة أفراد كما عند الأكثر، كذلك أقل الثاني ثلاثة أزواج، وأقل الثالث ثلاثة جموع، وإلى هذا ينظر قول من قال: أقل جمع الجمع تسعة إلا أن وقوعه غير ثابت. وحكى المحشي الشيرازي عن العلامة قطب الدين الشيرازي عن الفتوحات المكية أن مؤلفها قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بعض الوقائع فسألته عن أقل مراتب الجمع وقلت: ذهب فريق إلى انه ثلاثة، وفريق إلى اثنان، فما الحق ؟ فقال (صلى الله عليه وآله): أخطأ هؤلاء وهؤلاء، بل ينبغي أن يفصل


(1) البقرة: 251. (2) البحار 16: 156. (*)

[ 600 ]

ويقال: الجمع إما جمع فرد أو جمع زوج، فأقل مراتب الأول ثلاثة وأقل مراتب الثاني اثنان. ومثل له بعضهم بالخفين فإنه يطلق على زوجين من جنس الخف وجمعه خفاف، ولا يطلق على ثلاثة أفراد من هذا الجنس، وهو محل نظر. و (التولية) عن شئ الإعراض عنه، يقال: وليت عنه أي أعرضت عنه وكذلك تولى كما يقال: تولى عنه بجانبه أي أعرض وانحرف، هذا إذا عدي ب‍ (عن) واما إذا عدي بنفسه أو ب‍ (إلى) فيكون على خلاف الإعراض، كقوله تعالى: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * (1)، * (ولكل وجهة هو موليها) * (2) أي مستقبلها، فالتولية تكون اقبالا وانصرافا. وولى بدبره أي ولاه إلى العدو، أو ولى وأقبل إليه به فيكون كناية عن الإدبار والإنصراف، أو ولى عنه أي أعرض وانصرف عنه بجعل دبره إليه، وأصل المادة الولى والولاء بمعنى القرب الملازم للمباشرة والإتصال، أو وقوع شئ بعد شئ أو قبله ونحو ذلك، وولاة الأمر أصحابه من ولى الأمر يليه ولاء أي باشره، وأوليته الشئ فوليه ووليته الشئ تولية أي جعلته عليه واليا. والمولى السيد والعبد بمعنى الفاعل والمفعول، والموالي الأقرباء، إلى غير ذلك مما يرجع إلى معنى القرب المستلزم للمباشرة، والله الولي والمولى أي هو المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها، والولاية تستلزم التدبير والقوة والفعل، وتولى فلانا اتخذه وليا، وكل من ولى أمرا أو قام به فهو مولاه وولية. قود تكرر ذكر المولى في الحديث، وهو إسم يقع على جماعة كثيرة كالسيد والعبد - على ما مر - والرب، والمالك، والمنعم، والمعتق، والناصر، والمحب، والتابع، والجار، وابن العم، والحليف، والصهر، ونحو ذلك. والولاية - بالفتح - هي السلطنة والمالكية، ومنه قوله تعالى: * (هنالك الولاية لله


(1) البقرة: 144. (2) البقرة: 148. (*)

[ 601 ]

الحق) * (1) وبالكسر الإمارة. و (الدبر) بضمتين وسكون الباء للتخفيف خلاف القبل من كل شئ، ومنه يقال لآخر الأمر دبره وأصله ما أدبر عنه الإنسان، ودابر القوم آخر من يبقى منهم ويجئ في آخرهم، ومنه قوله تعالى: * (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) * (2) ومنه الدابر للعقب والأصل وتحتملهما الآية. ودبر الرجل عبده تدبيرا إذا أوصى بعتقه بعد موته، والدبر مقعدة الإنسان لكونها في أواخره مقابل رأسه ويطلق على ظهر الإنسان أيضا، وولاه دبره كناية عن الهزيمة، ودابرة الإنسان عرقوبه، والدابر التابع، والدبرة - بالكسر - خلاف القبلة، ويقال: (فلان ماله قبلة ولا دبرة) إذا لم يهتد لجهة أمره، ويقال: (ليس لهذا الأمر قبلة ولا دبرة) إذا لم يعرف وجهه. ودبرت الأمر تدبيرا فعلته عن فكر في عواقبه وروية فيها، وتدبرته تدبرا أي نظرت في عواقبه وما يؤول إليه، والدبور وزان رسول ريح تهب من جهة المغرب تقابل الصبا، ويقال: تقبل من جهة الجنوب ذا هبة نحو المشرق، واستدبرت الشئ خلاف استقبلته. و (التفري) من الفري بمعنى القطع، يقال: فريته فريا أي قطعته لاصلحه، وفريت المزادة: صنعتها، وفريت الأوداج: قطعتها، وأفريت الشئ: شققته فانفرى وتفرى أي انشق، وتفرى الليل عن صبحه أي انكشف كأن الليل انشق فظهر من بين شقة الصبح. والفرية - بالكسر - الكذب مع العمد اسما من الإفتراء، استعارت (عليها # السلام) لظلمة الجاهلية بالليل، وللحق المستور الذي ظهر بظهوره (صلى الله عليه وآله) بالصبح، أي زالت به (صلى الله عليه وآله) ظلمة الجاهلية العمياء، وطلع بطلوعه صبح الشريعة الغراء.


(1) الكهف: 44. (2) الأنعام: 45. (*)

[ 602 ]

و (الإسفار) الإنكشاف يقال: أسفر الصبح إذا انكشف وأضاء، قال تعالى: * (والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر) * (1) وأسفر الوجه إذا علاه جمال، والسفر كفرس بياض النهار وقطع المسافة أيضا كما سيجئ، وأسفرت المرأة وجهها وسفرته كشفته وأوضحته، يعدى ولا يعدى مجردا ومزيدا. وسافر مسافرة خرج إلى السفر، وإطلاقه عليه بمناسبة الخروج من البيت والدار إلى الصحاري والقفار، أو الخروج إلى السفر أي بياض النهار، والسفرة طعام يصنع للمسافر. والسافر الكاتب لأنه يبين الشئ ويوضحه، ومنه قوله تعالى: * (بأيدي سفرة * كرام بررة) * (2) ومنه السفر للكتاب لأنه المكتوب الذي يوضح فيه الأسرار، وقيل: السفرة جمع السافر من السفير الذي يمشي بين القوم ويصلح أمرهم من السفارة بمعنى الرسالة، إذ هم أي الملائكة الكرام سفراء بين الله ورسله العظام. وهو أيضا يرجع إلى معنى الإظهار إذ الرسول يوضح الأسرار، ويرفع الأستار، والسافر المسافر أيضا وهو قليل وجمعه السفر كصاحب وصحب، ومنه قوله (صلى الله عليه وآله) لأهل مكة عام الفتح: (يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا سفر) (3). قال في الصحاح: سفرت أسفر سفورا خرجت إلى السفر، فأنا سافر ونحن قوم سفر (4) وفي الحديث: (اسفروا بالفجر فانه أعظم للأجر) (5) أي صلوا صلاة الفجر سفرين أو طولوها إلى الاسفار. و (المحض) بفتح الميم وسكون الحاء الخالص الذي لا يشوبه شئ، وفي


(1) المدثر: 33 - 34. (2) عبس: 15 - 16. (3) النهاية 2: 372، ولسان العرب 6: 277 / سفر. (4) الصحاح 2: 686 / سفر. (5) النهاية 2: 372، لسان العرب 6: 279 / سفر. (*)

[ 603 ]

الحديث: (لا يسأل من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا) (1) ومنه اللبن المحض، والحرير المحض، والعربي المحض: الخالص النسب، قال الجوهري: الذكر والانثى والجمع فيه سواء (2). ومحضته الود أخلصتها له ومثله أمحضته بالألف، ومنه الحديث: (امحض أخاك المودة) (3) ومحض الشئ صار خالصا محضا، فالمجرد منه يعدى ولا يعدى. وإسفار الحق عن محضه إنكشافه عن خالصه حتى ظهر خالصه، شبه ظاهر الحق بالقشر الساتر للمحض واللب، والمراد أنه (صلى الله عليه وآله) أسفر وأظهر خالص الحق أي حقيقته، أي أظهر الحق وأزال الستر عن وجه باطنه حتى ظهر باطنه أيضا. و (زعيم) القوم سيدهم والمتكلم عنهم من الزعامة بمعنى السيادة، والزعيم الكفيل كما في قوله تعالى: * (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) * (4) ولعل المعنى الأول متفرع منه، يقال: زعمه زعما وزعما وزعمت به أي كفلت، وفي الحديث: (الزعيم غارم) (5) والإضافة في زعيم الدين لامية ويحتمل البيانية. و (الخرس) كفرس مصدر الأخرس، وقد خرس الإنسان - بالكسر - خرسا منع الكلام خلقة وأخرسه الله سبحانه، وسحابة خرساء: ليس فيها رعد ولا برق، وعلم أخرس إذا لم يكن في الجبل صوت صدى. و (الشقاشق) جمع الشقشقة - بالكسر - وهي شئ كالرية يخرجها البعير من فيه إذا هاج، وإذا قالوا للخطيب ذو شقشقة فانما هو للتشبيه بالفحل، واسناد


(1) الكافي 3: 235 ح 1، عنه البحار 6: 260 ح 97. (2) الصحاح 3: 1105 / محض. (3) راجع مجمع البحرين / محض. (4) يوسف: 72. (5) عوالي اللالي 3: 241 ح 1، عنه مستدرك الوسائل 13: 393 ح 15698، وفي لسان العرب 6: 48 / زعم. (*)

[ 604 ]

الخرس إلى الشقاشق مجازي، والخطبة الشقشقية لعلي (عليه السلام) في نهج البلاغة معروفة، سميت بذلك لقول علي (عليه السلام) في آخرها: (هيهات هيهات يا ابن عباس هذه شقشقة هدرت ثم قرت). وفي النهاية: في حديث علي (عليه السلام): (إن كثيرا من الخطب من شقاشق الشيطان) الشقشقة الجلدة الحمراء التي يخرجها الجمل العربي من جوفه ينفخ فيها فتظهر من شدقه، ولا تكون إلا للعربي كذا قال الهروي، وفيه نظر. شبه الفصيح المنطيق بالفحل الهادر، ولسانه بشقشقته، ونسبها إلى الشيطان لما يدخله من الكذب والباطل وكونه لا يبالي بما قال، هكذا أخرجه الهروي عن علي (عليه السلام)، وقيل انه من كلام عمر، وفي خطبة علي (عليه السلام): (تلك شقشقة هدرت ثم قرت) (1). وشقشق الفحل شقشقة - بالفتح - هدر، والعصفور تشقشق في صوته، والمراد من شقاشق الشياطين ألسنة المشركين الذين كانوا يصوتون بالأباطيل في أمور الدين. و (طاح) فلان يطوح ويطيح إذا هلك أو أشرف على الهلاك، وطاح في الأرض: سقط، وأطاحه إطاحة: أهلكه وكذلك طوحه تطويحا، وأطاحته الطوائح وطوحته أي أهلكته الحوادث المهلكة وقذفته القواذف المردية، والقياس المطيحات أو المطوحات، فجرد المزيد عن الزوائد والمعنى على حاله، ولا يقال المطيحات أو المطوحات، ومثل ذلك من النوادر. ومنه قوله تعالى: * (وأرسلنا الرياح لواقح) * (2) على أحد الوجهين لأن الفعل القح لا لقح، ومثل طاح يطوح ويطيح والمزيد منه: تاه يتوه ويتيه وأتاهه وتوهه بمعنى ذهب به هاهنا وهاهنا، فتطوح وتتوه في البلاد أي رمى بنفسه هاهنا وهاهنا، والمطاوح والمتاوه المفاوز.


(1) النهاية 2: 489 / شقشق. (2) الحجر: 22. (*)

[ 605 ]

و (الوشيظ) بالمعجمتين الرذل والسفلة من الناس، ومنه قولهم: اياك والوشائظ، قال الجوهري: الشويظ لفيف من الناس ليس أصلهم واحد، وبنو فلان وشيظة في قومهم أي هم حشو فيهم (1). وقرئ الوسيط بالمهملتين، وهو أشرف القوم نسبا وأرفعهم محلا، فإن وسط الشئ عدله وخياره كما فسر به قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) * (2) وهذه القراءة أيضا مناسبة من حيث المعنى، اما بأن يجعل الوسيط على معنى الشريف العظيم في عالم النفاق، أو على معنى الوسيط الذي توسط الشئ أي دخل في وسطه وتوغل فيه. و (النفاق) مصدر قولك: نافق فلان ينافق منافقة، والمنافق هو الذي أخفى الكفر وأظهر الإيمان من النفق وهو السرب في الأرض، كأنه استتر في الإسلام كما يستتر في السرب، وقيل: هو من قولهم: نافق اليربوع إذا دخل نافقاه، وهي احدى جحرتي اليربوع يكتمها ويظهر غيرها وهو القاصعاء، فإذا طلب من النافقاء خرج من القاصعاء، وإذا طلب من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج. وفي الحديث: (المنافق هو الذي يظهر الإيمان ويتصنع بالإسلام) (3) وعن بعض فقهائنا في الصلاة على المنافق: ان المراد بالمنافق ما يعم الصبي وغيره من أهل الخلاف. والنفاق - بالكسر - هو فعل المنافق، والأصل في النفاق أن يفعل في الظاهر فعل وفي الباطن غيره، مأخوذا من النفق - بفتحتين - وهو سرداب في الأرض يكون له مخرج من وضع آخر، وبعبارة اخرى مخالفة الظاهر والباطن، وأظهر أفراده نفاق الكفر فالرياء أيضا نفاق، وقد يطلق المنافق على مطلق الكافر فإن كفره مخالف للتوحيد الفطري الذي في باطنه.


(1) الصحاح 3: 1181 / وشظ. (2) البقرة: 143. (3) نحوه نهج البلاغة الخطبة: 210. (*)

[ 606 ]

و (الإنحلال) من الحل خلاف العقد - بالفتح -، والعقد - بالضم ثم الفتح - كغرف جمع عقدة كغرفة، وهي ما يعقد به. و (الشقاق) المعاداة مشتق من الشق لانشقاق ما بينهما، أو لكون كل من المنازعين في شق - بالكسر - أي طرف غير شق الآخر، مصدر شاقه يشاقه مشاقة. والمراد من الفقرات الشريفة انه هلك وطاح من جهة ظهور النبي (صلى الله عليه وآله)، وقوة الإسلام، ومجاهدة أهل الإيمان، القوم الأراذل الذين اختاروا النفاق، أو هلك أشراف أهل النفاق وعظماؤهم، أو هلك الكفار الذين توغلوا في الكفر والنفاق، ورفعوا أعلام المعاندة والشقاق، فلم يبق في ديارها ديار ولا من دمنها آثار، كذلك الله يفعل ما يشاء ويختار. وإن الأسباب التي من جهتها استحكمت آثار الكفر والشقاق قد وهت وضعفت حتى اضمحلت، فإن الإنحلال كناية عن الضعف والفتور، والعقد كناية عن الإستحكام، فالإنحلال بمنزلة النقض والعقد بمنزلة الإبرام. * * *


[ 607 ]

قالت (عليها السلام): " وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص، وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون الورق، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) بعد اللتيا والتي وبعد أن مني ببهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، * (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) * أو نجم قرن للشيطان، وفغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه ". بيان: يقال: فاه فلان بالكلام يفوه فوها أي لفظ به كتفوه، وأصله من لفظ (فو) بمعنى الفم، مادته الأصلية فوه - بضم الفاء - والجمع أفواه مثل سوق وأسواق، ولما كان عزم عند الإضافة إلى ضمير الغائب اجتماع هائين، وهو موجب للثقل على اللسان والإستكراه لذي البيان، حذفت الهاء مطلقا في صورة الإضافة والإعراب بالحرف، وقلبت ميما عند القطع عن الإضافة. ويقال: تفوه الوادي أي دخل فيه، وفي الخبر: (ولما تفوه البقيع) (1) أي دخل في أوله فشبهه بالفم لأنه أول ما يدخل منه إلى الجوف، ويقال لأول الزقاق والنهر فوهة - بضم الفاء وتشديد الواو -، والمفوه - بفتح الواو - البليغ المنطيق كأنه مأخوذ من الفوه - بالتحريك - بمعنى سعة الفم. وفي حديث علي (عليه السلام): (إن جامعت ليلة الجمعة وكان بينكما ولد فانه يكون خطيبا قوالا مفوها) (2) ورجل أفوه أي واسع الفم، وامرأة فوهاء كذلك.


(1) النهاية 3: 481، ولسان العرب 10: 359 / فوه. (2) البحار 89: 313 ح 18، وفي الإختصاص: 135، ومستدرك الوسائل 14: 300 ح 16774. (*)

[ 608 ]

وفي حديث ابن مسعود: (أقرأنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاه إلى في) (1) أي مشافهة وتلقينا، وهو نصب على الحال بتقدير المشتق، أو أن الجملة حال وجعل نصبه في أول جزئيها لكون الجملة في معنى المشتق، ويقال أيضا: كلمني فوه إلى في - بالرفع - على الأصل، والجملة في موضع الحال والنصب في المحل. وقد مر معنى كلمة الإخلاص وان المراد بها شهادة أن لا إله إلا الله، وهي الشهادة بالتوحيد أو أنها هي مع كلمة محمد رسول الله، لأن كلمة الرسالة من شروط كلمة التوحيد فهما قرينتان لا تتفارقان. وفي قولها (عليها السلام): (وفهتم بكلمة الإخلاص) إشارة إلى عدم ثبوت كلمة الإيمان في قلوبهم حينئذ كما قال تعالى: * (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * (2). و (النفر) قيل هم رهط الإنسان وعشيرته، وهو إسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة، على ما ذكره في النهاية وغيرها (3)، ولا واحد له من لفظه وقيل سبعة، وقوله تعالى: * (أكثر نفيرا) * (4) أي عددا، وفي المجمع: انه جمع نفر (5). والنفير أيضا من ينفر مع الرجل من قومه من النفر بمعنى الخروج مطلقا أو إلى الغزو، أو بمعنى الفزع إلى الشخص، قال تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) * (6)، وأصل النفر جماعة تنفر إلى مثلها، والثبة جماعة في تفرقة، ونفر القوم نفرا: تفرقوا، ونفر منه أي ارتحل، ونفر إليه أي أسرع، وكلها يرجع إلى


(1) النهاية 3: 481، لسان العرب 10: 357 / فوه. (2) الحجرات: 14. (3) النهاية 5: 93 / نفر. (4) الإسراء: 6. (5) مجمع البحرين / نفر. (6) التوبة: 122. (*)

[ 609 ]

مبدء واحد. و (البيض) جمع أبيض وبيضاء، وهو من الناس وغيرهم خلاف الأسود. و (الخماص) جمع الخميص بمعنى ضامر البطن من الخماصة بمعنى دقة البطن خلقة، أو من جهة خلوها عن الطعام ونحو ذلك، ويقال: فلان خميص البطن من أموال الناس أي عفيف عنها، وفي الحديث: (كالطير تغدو خماصا وتروح بطانا) (1) أي تغدو بكرة وهي جياع وتروح عشاء وهي ممتلئة الأجواف. ومنه الحديث الآخر: (خماص البطون، خفاف الظهور) (2) أي انهم أعفة عن أموال الناس، فهم ضامروا البطون من اكلها، خفيفوا الظهور من ثقل وزرها، ومنه المخمصة بمعنى المجاعة وهي مصدر مثل المغضبة، يقال: خمص فلان إذا جاع. والأخمص صفة أيضا كالخميص فيطلق على ما يطلق عليه، وقد يطلق على راحة اليد والرجل، وهي ما دخل من باطنهما كأنه جائع من خمص القدم خمصا - من باب تعب - ارتفعت عن الأرض ولم تصبه، وإذا جمعت أخمص وصفا للرجل قلت خمص، وكذا جمع خمصاء وصفا للمرأة، مثل أحمر وحمراء وحمر، وإذا جمعت أخمص اسما للقدم قلت أخامص، ويقال أيضا: رجل خمصان وامرأة خميصة وخمصانة - بضم الخاء في الثانية -. والمراد بالبيض الخماص اما أهل البيت (عليهم السلام)، ويؤيده ما في كشف الغمة: (في نفر من البيض الخماص الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) (3)، ووصفهم بالبياض لبياض وجوههم، أو كناية عن شرفهم وتميزهم عن غيرهم من قبيل وصف الرجل بالأغر، أو هو لبياض أنسابهم وأحسابهم، أو هو لبياض طينتهم وطويتهم.


(1) جامع الأخبار: 321 ح 903، عنه البحار 71: 151 ح 51، ومجموعة ورام 1: 222، والنهاية 2: 80، ولسان العرب 4: 219 / خمص. (2) النهاية 2: 80، لسان العرب 4: 219 / خمص، والبحار 68: 189. (3) كشف الغمة 2: 111. (*)

[ 610 ]

وبالخماص لكونهم ضامري البطون بالصوم وقلة الأكل، أو لعفتهم عن أكل أموال الناس بالباطل، أو المراد بهم من آمن من العجم كسلمان وغيره، ويقال لأهل فارس بيض لغلبة البياض على ألوانهم وأموالهم إذ الغالب في أموالهم الفضة، كما يقال لأهل الشام الحمر لحمرة ألوانهم وغلبة الذهب في أموالهم، والأول أظهر. والظاهر اعتبار نوع من التخصيص في المخاطبين، فيكون المراد بهم غير الراسخين الكاملين في الإيمان، والبيض الخماص الكمل، وكلمة (في) حينئذ للمصاحبة بمعنى مع، ويجوز جعل الخطاب عاما و (في) بمعنى (على) بتقدير معنى الإشتمال. قولها (عليها السلام): (وكنتم على شفا حفرة) شفا كل شئ طرفه وشفيره، أي كنتم على شفير جهنم مشرفين على دخلوها والتهافت فيها بشرككم وكفركم، إذ لو كان أدرككم الموت في تلك الحالة لوقعتم في النار، وهذا إشارة إلى قوله تعالى: * (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته اخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) * (1). والخطاب لأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) أي وكنتم يا أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) على طرف حفرة من جهنم لم يكن بينكم وبينها إلا الموت، فأنقذكم الله منها بأن أرسل إليكم رسولا هداكم إلى الإيمان ودعاكم إليه، فنجوتم باجابته من النار، وإنما قال: (فأنقذكم منها) مع أنهم لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها من حيث استحقاقهم لدخولها واشرافهم عليها. وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام): قال: (فأنقذكم منها بمحمد) هكذا والله نزل بها جبرئيل على محمد (صلى الله عليه وآله) (2). والضمير في منها للحفرة أو للنار أو للشفا، وتأنيثه لتأنيث ما اضيف إليه، أو


(1) آل عمران: 103. (2) الكافي 8: 183 ح 208، عنه البحار 92: 57 ح 32، وفي العياشي 1: 194 ح 124، وتفسير البرهان 1: 307، والصافي 1: 366، وكنز الدقائق 3: 190. (*)

[ 611 ]

لأن الشفا بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها طرفها كالجانب والجانبة، وأصله شفو - بالواو - قلبت الواو ألفا في المذكر وحذفت في المؤنث، قال الأخفش: لما لم تجز فيه الإمالة عرف انه من الواو لأن الإمالة إنما تكون من الياء (1)، والتثنية شفوان وجمعه أشفاء، ومنه قولهم: أشفى فلان على كذا أي أشرف عليه كاشراف المريض على الموت. وقوله تعالى: * (شفا جرف هار) * أي طرف موضع جرفه السيول أي أكلت ما تحته، وهار مقلوب من هائر مثل قولهم شاكي السلاح وأصله شائك السلاح على وجه. قولها (عليها السلام): (مذقة الشارب ونهزة الطامع) مذقة الشارب - بضم الميم - شربته وهو ما يذاق ويشرب مثل الغرفة بمعنى ما يغرف، من قولهم: ذقت الشئ أذوقه ذوقا ومذاقا ومذاقة. وأصل الذوق ادراك طعم الشئ بواسطة الرطوبة المنبثة بالعصب المفروش على عضل اللسان، وقد يطلق الذوق على نفس تلك القوة وعلى القوة الادراكية التي لها اختصاص بادراك لطائف الكلام ووجوه محاسنه الخفية، وذقت ما عند فلان خبرته وجربته، وأذاقه الله وبال أمره أي أصابه به. و (النهزة) بالضم الفرصة من قولهم: انتهزها أي اغتنمها وبادر وقتها، وناهزتهم الفرص أي بادرتهم إليها، والأصل من قولهم نهز رأسه - من باب منع - حركه، والفرصة محل الحركة والعمل بالشئ وزمان المهلة ونفس المهلة. ونهز فلان راحلته أي دفعها في السير، ونهز لكذا أي نهض لتناوله، والمراد من كونهم مذقة الشارب كونهم قليلين، ومن كونهم نهزة الطامع كونهم محل نهزته كناية عن القلة أيضا أي كنتم أذلاء قليلين يكاد أن يتخطفكم الناس بسهولة، وكذا قولها (عليها السلام): وقبسة العجلان وموطئ الأقدام.


(1) راجع لسان العرب 7: 157 / شفي. (*)

[ 612 ]

و (القبسة) بالضم شعلة من نار تقتبس من معظمها وكذلك القبس والمقباس، واقتباسها الأخذ منها، وفي حديث علي (عليه السلام): (أورى قبسا لقابس) (1) أي أظهر نورا من الحق لطالبه، والقابس طالب النار أو آخذها وكذلك المقتبس، وقد يستعاران لطالب العلم، والإضافة إلى العجلان لبيان القلة والحقارة، والعجلان صفة من العجلة. و (وطئ الأقدام) مثل مشهور في المذلة والمغلوبية، والأقدام جمع القدم وموطئها محل وطئها. و (الطرق) بالتحريك أو بالفتح فالسكون ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتبعر، وقيل: هو منقع الماء من الطروق - بضم الطاء - بمعنى الدق، وسمى الآتي بالليل طارقا لاحتياجه إلى دق الباب، ومنه حديث علي (عليه السلام): (إنها خارقة طارقة) (2) أي طرقت بخير، ومنه الدعاء: (أعوذ بك من طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير) (3). والطارق النجم المضئ الثاقب، * (والسماء والطارق) * (4) فسر الطارق فيه بالكوكب الذي يبدو بالليل، * (وما ادراك ما الطارق * النجم الثاقب) * (5)، قيل أي المضئ كأنه يثقب الأفلاك بضوئه فينفذ فيها. القمي قال: الطارق النجم الثاقب، وهو نجم العذاب، ونجم القيامة، وهو زحل في أعلى المنازل (6).


(1) نهج البلاغة الخطبة: 72، عنه البحار 16: 381 ح 93، والنهاية 4: 4، ولسان العرب 11: 11 / قبس. (2) النهاية 3: 121، ولسان العرب 8: 152 / طرق. (3) النهاية 3: 121، ولسان العرب 8: 152 / طرق، والبحار 94: 213. (4) الطارق: 1. (5) الطارق: 2 - 3. (6) تفسير القمي 2: 415، عنه البحار 7: 108 ح 33، وتفسير الصافي 5: 313، وكنز الدقائق 14: 224. (*)

[ 613 ]

وفي الخصال عن الصادق (عليه السلام) انه قال لرجل من أهل اليمن: ما زحل عندكم في النجوم ؟ قال اليماني: نجم نحس، فقال (عليه السلام): لا تقولن هذا فإنه نجم أمير المؤمنين، وهو نجم الأوصياء، وهم النجم الثاقب الذي قال الله في كتابه، فقال له اليماني: فما يعني بالثاقب ؟ قال: لأن مطلعه في السماء السابعة، وانه ثقب بضوئه حتى أضاء في السماء الدنيا، فمن ثم سماه الله النجم الثاقب (1). ويطلق الطريق على السبيل لأنه فعيل بمعنى مفعول، حيث انه يدق بالأرجل والمطرقة على آلة الدق لكونها كذلك. و (الاقتيات) أخذ القوت من اقتاته يقتاته اقتياتا، وقد تقلب التاء الثانية دالا للخفة أي أخذه قوتا لنفسه. و (الورق) بالتحريك ورق الشجر، والمراد بيان احتياجهم إلى أكل مثله لغاية الفقر والمجاعة. وفي بعض النسخ: (وتقتادون القد) وهو بكسر القاف وتشديد الدال سير يقد من جلد غير مدبوغ، كناية عن كون أكلهم من الأشياء الخشنة كالورق والقد، وكون شربهم من المياه العفينة كالنقيع والطرق. وحاصل المراد من الفقرات المذكورة وصفهم بخباثة المشرب وخشونة المأكل، لعدم اهتدائهم إلى ما يصلحهم في دنياهم لفقرهم، وقلة ذات يدهم، وخوفهم من الأعادي. و (الأذلة) جمع الذليل كالأعزة جمع عزيز. و (الخاسئ) الصاغر المبعد كناية عن الذليل أيضا من خسأت الكلب خسأ طردته، وفي حديث الدعاء: (واخسأ شيطاني) (2) بهمزة وصل أي أسكنه صاغرا مطرودا وأبعده، وخسأ الكلب بنفسه يتعدى ولا يتعدى بمعنى انخسأ، قال تعالى:


(1) الخصال: 489 ح 68، عنه البحار 58: 269 ح 56، وفي الإحتجاج 2: 252، وتفسير الصافي 5: 313، وكنز الدقائق 14: 224. (2) البحار 97: 317. (*)

[ 614 ]

* (اخسأوا فيها ولا تكلمون) * (1) وأصل الخس ء هو الإبعاد والبعد بمكروه، وقوله تعالى: * (كونوا قردة خاسئين) * (2) أي باعدين مبعدين، و * (ينقلب اليك البصر خاسئا وهو حسير) * (3) أي مبعد أو هو كليل. و (التخطف) استلاب الشئ بخفية وأخذه بسرعة من قولهم: خطفه خطفا - من باب تعب - استلبه بسرعة، ومن باب ضرب لغة أيضا حكاها الأخفش، وتخطفه واختطفه مثله، وخطفه تخطيفا مبالغة فيه، قال تعالى: * (إلا من خطف الخطفة) * (4) أي اختلس خلسة من كلام الملائكة، وليتخطف الناس من أرضنا أي تستلب. والخطاف - بالفتح - هو الشيطان يخطف السمع أي يسترقه، وقوله تعالى: * (فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق) * (5) كل منهما كناية عن الهلاك. وقولها (عليها السلام): (من حولكم) أي من جوانبكم، والمراد الجوانب الأربعة كناية عن الإحاطة والأخذ على الوجه الأكمل، والكلام المذكور من قوله تعالى: * (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) * (6). وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن الخطاب في تلك الآية لقريش خاصة، والمراد بالناس سائر العرب أو الأعم منها ومن العجم (7). و (اللتيا) بفتح اللام وكسر التاء تصغير التي، وجوز بعضهم فيه ضم اللام وفتح التاء، وهما كنايتان عن الداهية الصغيرة والكبيرة، فاللتيا للداهية الصغيرة والتي


(1) المؤمنون: 108. (2) البقرة: 65. (3) الملك: 4. (4) الصافات: 10. (5) الحج: 31. (6) الأنفال: 26. (7) راجع البحار 29: 267، عن نهج البلاغة. (*)

[ 615 ]

للكبيرة وقيل بالعكس أي اللتيا للكبيرة والتي للصغيرة، تشبيها للحية فإنها إذا كثر سمها صغرت فإن السم يأكل جسدها. وقال ابن ميثم في شرح نهج البلاغة: إن اللتيا والتي كالمثل، وأصله أن رجلا تزوج امرأة قصيرة ضئيلة الخلق فقاسى منها شدائد، فطلقها وتزوج طويلة بعد ذلك فقاسى منها أضعاف ذلك فطلقها، ثم سئل: هل تزوج ؟ فقال: بعد اللتيا والتي لا أتزوج أبدا (1). وقيل: إن اللتيا كناية عن التمرة والتي عن النخلة، والمراد بعد القصة الصغيرة والطويلة، نظير قولهم: قصيرة عن طويلة كناية عن الإجمال بعد التفصيل والتقصير بعد التطويل. قولها (عليها السلام): (بعد أن مني ببهم الرجال) مني بهم على صيغة المجهول أي ابتلى بهم من قولهم: منوته ومنيته إذا ابتليته، ومنه التمني أي طلب الإبتلاء والوصول والمنا المقصود والمقدور وغير ذلك. و (بهم) كصرد الشجعان لأنهم لشدة بأسهم لا يدرى من أين يؤتون جمع البهمة كغرفة وغرف، وفي الصحاح عن أبي عبيدة: البهمة - بالضم - الفارس الذي لا يدرى من أين يؤتى من شدة بأسه والجمع بهم، ويقال للجيش أيضا بهمة، ومنه قولهم: فارس بهمة وليث غابة، وأمر مبهم أي لا مأتى له، وأبهمت الباب أغلقتها (2)، واما البهمة - بالفتح - فهي أولاد الضأن، والجمع البهم بحذف التاء وجمعه بهام بكسر الباء. و (الذؤبان) بضم الذال جمع الذئب - بالكسر - يهمز ولا يهمز وأصله الهمز، والانثى ذئبة، وجمع القليل أذؤب، والكثير ذئاب وذؤبان - بضم الذال -، وذؤبان العرب لصوصهم وصعاليكهم الذين يتلصصون لا مال لهم ولا اعتماد عليهم، ويستلبون من الناس أموالهم تشبيها بالذئاب في تلك الأوصاف، وأرض مذئبة


(1) شرح النهج لابن ميثم 1: 279 الخطبة: 5، والبحار 28: 235. (2) الصحاح 5: 1875 / بهم. (*)

[ 616 ]

ذات ذئاب. و (المردة) جمع المارد من مرد يمرد - من باب قتل وسرق وكرم - إذا عتى فهو مارد، و * (مردوا على النفاق) * (1) أي عتوا واستمروا عليه، ومنه المريد بمعنى العاتي في قوله تعالى: * (شيطان مريد) * (2) وبمعنى العاري عن الخير والظاهر شره من قولهم: شجرة مرداء إذا سقط ورقها وظهرت عيدانها، ورملة مرداء لانبت فيها، ومكان أمرد لا نبات فيه، وغصن أمرد لا ورق عليه، وغلام أمرد لا شعر في وجهه. ومرد الغلام - من باب تعب - إذا أبطأ نبات وجهه، وقيل إذا لم تنبت لحيته، ومرد الرجل - بالضم - مرادة أي صار عاتيا شديدا، والمراد من مردة أهل الكتاب عتاتهم المتكبرون المتجاوزون للحد الذي قرروا عليه. والمراد من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى والمجوس، والأصل في أهل الكتاب هم اليهود أهل التوراة والنصارى أهل الانجيل، واما المجوس فلما كان فيهم شبهة الكتاب الحقوا بأهله، وهم ينسبون دينهم إلى إبراهيم (عليه السلام)، ويقولون انهم من أهل ملته، وانهم يعملون لصحفه على ما ذكروا. وفي الخبر أن أهل مكة كتبوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) والتمسوا منه أن يأخذ منهم الجزية ويقرهم على دينهم، فكتب النبي (صلى الله عليه وآله): إن ذلك الحكم إنما هو بالنسبة إلى أهل الكتاب، واما غيرهم وهم أهل الحرب فليس الحكم الشرعي في حقهم إلا الإيمان أو القتل، فكتبوا إليه (صلى الله عليه وآله) انك أخذت الجزية من مجوس هجر - موضع باليمن - وهم ليسوا من أهل الكتاب ؟ فكتب (صلى الله عليه وآله) إليهم: انه كان لهم نبي يقال له جاما سب، وقد جاء إليهم بكتاب من الله كتبوه في اثني عشر ألف جلد ثور، فقتلوا نبيهم وأحرقوا كتابهم (3).


(1) التوبة: 101. (2) الحج: 3. (3) الكافي 3: 567 ح 4، عنه البحار 14: 463 ح 28، وفي التهذيب 6: 158 ح 2، وتفسير البرهان 2: 115، والصافي 2: 334. (*)

[ 617 ]

وفي التواريخ أن نبيهم كان يسمى بزرد شت الحكيم المعروف، ووقائعه مشهورة، وكتابه الذي أتى به بزعمه من الله مسمى بزند، وقد شرحه وسماه (پازند) ثم شرح الشرح فسماه (پاپازند) وله إسم آخر أيضا ذكره مع بعض تفاصيله في كتاب البرهان. وبالجملة فلهم شبهة الكتاب فألحقهم الشارع بأهل الكتاب، ويسمى غيرهم بالكافر الحربي، ولم يجعل من أهل الكتاب امم الأنبياء السلف مطلقا وإن كانوا أهل الكتاب أيضا لأنهم انقرضوا في الأعصار الماضية، ولم يبق منهم اليوم على الأرض باقية، ولذا طرحوا وتركوا بالمرة. قولها (عليها السلام): (كلما أوقدوا نارا...) الإيقاد الإشعال من أوقدت النار إيقادا ووقدتها وقدا - من باب وعد - وقودا بالضم أي أشعلتها، ووقدت النار تقد وقودا أي اشتعلت يعدى مجرده ولا يعدى. والوقود - بالفتح - ما يوقد به كالحطب ونحوه، ووزن فعول لما يفعل به كالوضوء - بفتح الواو - لما يتوضأ به، والسحور لما يسحر به، واما بالضم فالكل مصدر أو إسم مصدر، وقوله تعالى: * (فأوقد لي يا هامان على الطين) * (1) فأجج النار على الطين واتخذ الآجر، و * (نار الله الموقدة) * (2) أي المشتعلة المشعلة. والمراد من الحرب في الخطبة حرب الرسول أي كلما أوقدوا نار الحرب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أطفأها الله بفيض نصره من السماء كاطفاء النار بالماء، وقيل: المراد انه كلما أرادوا مكرا للنبي (صلى الله عليه وآله) ودبروا خديعة بالنسبة إليه (صلى الله عليه وآله) أبطلهما الله سبحانه، وفي لفظ كلما دلالة على أن هذه الحالة كانت مستمرة فيهم، وكانت جنود نصر الله تعالى نازلة على نبيه (صلى الله عليه وآله) في جميع الأعصار والأزمنة. و (نجم) الشئ نجوما - من باب قعد - أي طلع وظهر وكذلك نجم النبت،


(1) القصص: 38. (2) الهمزة: 6. (*)

[ 618 ]

وكلما طلع النبت وظهر فقد نجم، وقد خص بالنجم منه مالا يقوم على ساق كما خص القائم منه على الساق بالشجر، ومنه قوله تعالى: * (والنجم والشجر يسجدان) * (1). ولعل إطلاق النجم على الكوكب أيضا بمناسبة الطلوع والظهور، والنجم أيضا كوكب الثريا بخصوصه، وهو إسم علم له كزيد وعمرو، وفي الخبر: (هذا إبان نجومه (صلى الله عليه وآله) (2) أي وقت ظهوره، وفلان منجم الباطل والضلالة أي مظهرهما ومعدنهما، ويقال: نجم السن أو القرن أي ظهر من اللحم والجلد. و (القرن) كناية عن القوة، وفسر قرن الشيطان بامته ومتابعيه أيضا والمال واحد. و (فغر) فاه أي فتحه وفغر فوه انفتح يتعدى ولا يتعدى، وأفغر النجم أي ظهر ظهورا قويا وذلك في الشتاء لأن الثريا إذا كبد السماء من نظر إليه فغر فاه، وفي حديث موسى (عليه السلام): (فإذا هي حية عظيمة فاغرة فاها) (3). وفي حديث النابغة الجعدى: " كلما سقطت له سن فغرت له سن " (4) أي موضع سن كناية عن طلوع السن، وفي الحديث: (إني لأبغض الرجل فاغرا فاه إلى ربه يقول: يا رب ارزقني) (5)، والفاغرة من المشركين الطائفة العادية منهم تشبيها بالحية أو السبع، ويمكن تقدير الموصوف مذكرا على أن تكون التاء للمبالغة. و (القذف) الرمي ويستعمل في الحجارة كما أن الحذف يستعمل في الحصى، يقال: هم بين حاذف وقاذف، ويقال: قذفه بالحجارة - من باب ضرب - إذا رمى بها، وقذف المحصنة رماها بالفاحشة.


(1) الرحمن: 6. (2) النهاية 5: 23، ولسان العرب 14: 59 / نجم، والبحار 15: 403 ح 29. (3) النهاية 3: 460، ولسان العرب 10: 294 / فغر. (4) المصدر نفسه. (5) عوالي اللالي 2: 108 ح 296، عنه مستدرك الوسائل 13: 15 ح 14597، وفي من لا يحضره الفقيه 3: 120 ح 509. (*)

[ 619 ]

وقذف بقوله تكلم به من غير تدبر ولا تأمل، وقوله تعالى: * (بل نقذف بالحق على الباطل) * (1) أي نرمي به في قلب من يشاء، وقذفت الماء في الظرف أي طرحته فيه، و * (اقذفيه في التابوت) * (2) أي ضعيه وألقيه فيه، و * (حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها) * (3) أي طرحناها في نار السامري التي أوقدها في الحفرة. وفي الدعاء: (واقذف في قلبي رجاءك) (4) أي ألقه، وفي الخبر: (ربما قذفت الحبلى الدم) (5) أي رمته، وفي الخبر: (وخشيت أن يقذف في قلوبكما شرا) (6) أي يلقي ويوقع، وقذف الرجل: قاء. و (اللهوات) بالتحريك جمع اللهات، وهي اللحمة الحمراء المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم، وفي الصحاح: اللهات الهنة المطبقة في أقصى سقف الفم، والجمع اللها واللهوات واللهيات أيضا (7)، وقيل: هي سقف الفم. واللهوة - بالضم - ما يلقيه الطاحن في فم الرحى بيده، ولهيت عن الشئ ولهوت عنه إذا سلوت عنه، وتركت ذكره، وأضربت عنه كأنك جعلته في لهاتك وسترته، ولهوت بالشئ أي لعبت به كأنك غفلت عن الغير بالإشتغال به، و * (لاهية قلوبهم) * (8) أي ساهية غافلة مشغولة بالباطل. وفي بعض النسخ: (في مهواتها) والمهوى - بالتسكين - الحفرة وما بين الجبلين ونحو ذلك، وعلى أي حال فجملة نجم عطف على جملة أوقدوا، أي كلما نجم قرن للشيطان... الخ، والمراد انه (صلى الله عليه وآله) كلما أراده طائفة من


(1) الأنبياء: 18. (2) طه: 39. (3) طه: 87. (4) البحار 95: 450 ح 2، ومجمع البحرين / قذف. (5) مجمع البحرين / قذف. (6) النهاية 4: 29، ولسان العرب 11: 75 / قذف. (7) الصحاح 6: 2487 / لها. (8) الأنبياء: 3. (*)

[ 620 ]

المشركين أو عرضت له داهية عظيمة بعث عليا (عليه السلام) لدفعها وعرضه للمهالك. وفي رواية كشف الغمة وابن أبي طاهر: (كلما حشوا نارا للحرب ونجم قرن للضلال... الخ) (1)، قال الجوهري: حششت النار أوقدتها، والمعنى كالمعنى (2). (فلا ينكفئ حتى يطأ...) الإنكفاء - بالهمزة - الرجوع من قولك: كفأت القوم كفأ إذا أرادوا وجها فصرفتهم عنه إلى غيره فانكفؤوا أي رجعوا، وكفأت الإناء وأكفأته إذا كببته وأملته ليفرغ ما فيه، وفي حديث الوضوء: (فأتاه محمد بن الحنفية بالماء فأكفأه بيده على يده اليمنى) (3) أي قلبه عليها، وانكفأت بهم السفينة أي انقلبت. و (الصماخ) بالكسر ثقب الأذن والأذن نفسها أيضا، وبالسين كما في بعض الروايات لغة فيه، وضرب الله على أصمختهم جمع قلة للصماخ مثل أسلحة وسلاح أي أنامهم الله، وفي حديث علي (عليه السلام): (أصغت لاستراقه صمائخ الأسماع) (4) جمع صماخ كشمال وشمائل. والأخمص - بفتح الميم - مالا يصيب الأرض من باطن القدم عند المشي، وخمص القدم - من باب تعب - خمصا إذا ارتفعت عن الأرض فلم تمسه، فالرجل أخمص والمرأة خمصاء والجمع خمص، مثل أحمر وحمراء وحمر، وإن جمعت القدم نفسها قلت: أخامص مثل أفضل وأفاضل إجراء له مجرى الأسماء. وأصله من خمص فلان خمصا - من باب قرب - إذا جاع فهو خميص، وقد يقال: رجل خمصان كعريان وعميان بمعنى الأخمص والعاري والأعمى، وروي جناحها بدل صماخها.


(1) كشف الغمة 2: 111، وبلاغات النساء: 13. (2) الصحاح 3: 1001 / حشش. (3) التهذيب 1: 53 ح 153، ومن لا يحضر 1: 26 ح 84، والكافي 3: 70 ح 6، والبحار 80: 318 ح 12. (4) النهاية 3: 52، ولسان العرب 7: 404 / صمخ، ونهج البلاغة، الخطبة: 91. (*

[ 621 ]

و (الاخماد) اسكان لهب النار من خمدت النار خمودا - من باب قتل - سكن لهبها ولم يطفأ جمرها، وأخمدتها أنا أسكنتها، وخمد المريض اغمي عليه أو مات لخمود نار روحه، كقوله تعالى: * (فإذا هم خامدون) * (1) أي ميتون، وخمود الإنسان موته وسكونه عن الحركة. وفي المصباح: خمدت النار خمودا - من باب قعد - ماتت فلم يبق منها شئ، وقيل: سكن لهبها وبقي جمرها (2)، كما اشير إليه. و (اللهب) بالتحريك اتقاد النار، وفي الصحاح: لهب النار لسانها (3)، وقوله تعالى: * (تبت يدا أبي لهب) * (4) قال الشيخ أبو علي: قرأ ابن كثير: (أبي لهب) بسكون الهاء، والباقون بفتحها (5). وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان شديد العداوة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، قيل اسمه كنيته، وقيل اسمه عبد العزي، فسمى بذلك لحسنه وإشراق وجهه، وكانت وجنتاه كأنهما تلتهبان (6). وتلهبت النار والتهبت: اتقدت، وألهبتها: أوقدتها، ويطلق اللهب على الغبار الساطع كالدخان أيضا، ووط ء الصماخ بالأخمص كناية عن القهر والغلبة على أبلغ وجه، وكذا إخماد اللهب بماء السيف استعارة بليغة شائعة. * * *


(1) يس: 29. (2) المصباح المنير: 181 / خمدت. (3) الصحاح 1: 231 / لهب. (4) المسد: 1. (5) مجمع البيان، سورة تبت. (6) مجمع البحرين / لهب. (*)

[ 622 ]

قالت (عليها السلام): " مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيدا في أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال، فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة النقاق، وأسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الآفلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللعزة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا، فوسمتم غير ابلكم، ووردتم غير مشربكم ". بيان: (مكدودا) حال من أخاه أو ضميره وكذا ما بعده من الأوصاف المنصوبة، والمكدود من بلغه التعب والأذى من الكد - بالفتح - بمعنى الشدة في العمل وطلب التكسب ونحوه، وكددت الرجل - من باب قعد - اتعبته. وفي الحديث: (ليس من كدك وكد أبيك) (1) أي ليس حاصلا بسعيك وتعبك، وفي الحديث: (الكاد على عياله فله كذا) أي المكتسب لهم القائم بامورهم والساعي الكاد نفسه لأجلهم. و (ذات الله) قال الفاضل المجلسي (رحمه الله): المراد بذات الله أمره ودينه وكلما يتعلق به تعالى، إنتهى (2). والذات في الأصل مؤنث ذو، ولامه محذوفة واما عينه فقيل ياء أيضا لأنه


(1) النهاية 4: 155، ولسان العرب 12: 44 / كدد. (2) البحار 29: 269. (*)

[ 623 ]

سمع فيه الإمالة، وقيل واو، قال في المصباح: وهو الأقيس لأن باب طوى أكثر من حي، ووزنه في الأصل ذوي وزان سبب فيعرب بالحروف، ولا يستعمل إلا مضافا إلى إسم جنس فيقال: ذو علم وذو مال (1). واما لفظة ذات فهي وإن كانت بمعنى الصاحبة والتاء فيها للتأنيث، لكن لوحظ في التاء جهة البدلية عن اللام المحذوفة، ولذا جعلت ممدودة مثل تاء اخت وبنت، وصارت جزء الكلمة واعربت اللفظ بالحركة. وقيل في النسبة إليها ذاتي بمعنى جبلي فطري بلا تغيير بحذف التاء، ولهذا قد تستعمل بمعنى الحقيقة بلا ملاحظة معنى الوصفية، فيقال: ذات الشئ بمعنى حقيقته وماهيته، ولذا أيضا جاز استعماله في الله، فيقال: ذات الله، مع انهم صرحوا أن كلما يطلق على الله لا يؤتى فيه التاء وإن كانت تاء المبالغة، لكون التاء تاء التأنيث من حيث الأصل تبعيدا للتأنيث الصوري أيضا عنه تعالى من جهة الأدب. وبالجملة فيطلق الذات البحت البات على هذا الذات المستجمع لجميع صفات الكمال، ويؤتى بأوصاف هذا اللفظ مذكرة إذا كان صاحب الذات مذكرا، وإطلاق ذات الله مثل إطلاق جنب الله ووجه الله، وقد وقع إطلاق ذات الله في خطب المعصومين (عليهم السلام) وفي الأخبار والأدعية كثيرا، كما ترى من هذه الخطبة الشريفة وغيرها، مثل قوله (صلى الله عليه وآله): (علي ممسوس من ذات الله) (2) وغير ذلك. فلا يصغى إلى من أنكر وقوع ذلك في الكلام القديم حتى قال ابن برهان من النحاة: قول المتكلمين (ذات الله) جهل لأن أسماءه تعالى لا يلحقها تاء التأنيث، فلا يقال علامة وإن كان أعلم العالمين، قال: وقولهم (الصفات الذاتية) خطأ أيضا، فإن النسبة إلى ذات ذوي لأن النسبة ترد الإسم إلى أصله (3).


(1) المصباح المنير: 211 / ذوى. (2) المناقب لابن شهرآشوب 3: 221، عنه البحار 39: 312 ح 5، وحلية الأولياء 1: 68، وكفاية الطالب: 194، وفرائد السمطين 1: 165 ح 127. (3) راجع المصباح المنير: 212 / ذوي. (*)

[ 624 ]

ولا يخفى بطلان ما ذكره فيما لو استعملت على الإسمية على ما مرت إليه الإشارة، وقد اشير إلى جواب ما ذكره، وأنكر بعضهم كون الكلمة عربية وهو أيضا غلط. وبالجملة فالذات على الإسمية تستعمل كثيرا بمعنى النفس والحقيقة والسر والكنه وغير ذلك، وقوله تعالى: * (والله عليم بذات الصدور) * (1) أي ببواطنها وخفياتها وأسرارها، و * (أصلحوا ذات بينكم) * (2) أي حقيقة أحوال بينكم أي أصلحوا ما بينكم من الأحوال، وذات يوم وليلة وغداة أي حقيقتها، ويستعمل منه الفعل أيضا فيقال: تذوت الشئ - من باب التفعل - أي صار محقق الحقيقة كما يقال: تحجر الطين أي تحقق فيه حقيقة الحجرية. وفي نسخة الكشف: (مكدودا دؤوبا في ذات الله) (3) والدؤوب - بالفتح - فعول صفة من دأب يدأب دؤبا - بالضم - كتعب وزنا ومعنى. و (الإجتهاد) مبالغة في الجد، وقد مرت الإشارة إلى معنى المادة، والمراد من أمر الله أحكامه مطلقا من أوامره ونواهيه، أو المراد به رضاء الله. (قريبا من رسول الله) لأن عليا (عليه السلام) كان أقرب الناس إليه (صلى الله عليه وآله) بالقرب الصوري من حيث النسب والمصاهرة، وبالقرب المعنوي من حيث الشرف والمنزلة. (سيدا في أولياء الله) أي كان علي (عليه السلام) سيدهم كما أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان سيد الأنبياء، وخاتم الأولياء، كما انه كان خاتم الأنبياء، وفي بعض النسخ (سيد أولياء الله) بالنصب مع الإضافة بحذف (في)، وقرئ بالجر أيضا صفة أو بدلا أو عطف بيان من رسول الله (صلى الله عليه وآله). و (المشمر) إسم فاعل من التشمير في الأمر بمعنى الجد والإهتمام فيه، وأصله


(1) آل عمران: 154. (2) الأنفال: 1. (3) كشف الغمة 2: 111. (*)

[ 625 ]

من قولهم: شمر إزاره عن ساقه تشميرا رفعه، ثم يقال شمر في أمره أي خف وأسرع وجد، وشمرت السهم أرسلته، وانشمر للأمر وتشمر تهيأ، وفي حديث سطيح: (شمر فإنك ماضي الأمر) (1)، ورجل شمير كشرير مبالغة منه. و (النصح) بضم النون هو الإخلاص والصدق في المشورة والعمل ونحوهما من نصحت لزيد أنصح له نصحا ونصيحة، وهذه هي اللغة الفصيحة وعليها ورد قوله تعالى: * (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم) * (2) وفي لغة يتعدى بنفسه أي بدون اللام فيقال: نصحته نصحا، قال الذبياني: نصحت بني عوف فلم يتقبلوا * رسولي ولم تنجح لديكم رسائلي (3) والفاعل ناصح ونصيح، وقال الشيخ أبو علي في قوله تعالى: * (توبوا إلى الله توبة نصوحا) * (4) هو فعول من النصح وهو خلاف الغش، والتوبة النصوح هي البالغة في النصح التي لا ينوى فيها معاودة المعصية كأن الإنسان يبالغ في نصح نفسه بها، وقيل: هي ندم في القلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود (5). وقيل: هو من قولك نصحت الثوب خطته اعتبارا لقوله (عليه السلام): (من اغتاب خرق ومن استغفر رفأ) (6) أي توبة صحيحة موجبة لغفران الذنوب. قيل: والنصيحة لله الإعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته، ونصرة الحق فيه، والنصيحة لكتاب الله هو التصديق به، والعمل بما فيه، والذب عنه دون تأويل الجاهلية، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، والنصيحة لرسول الله التصديق بنبوته، والإنقياد لما أمر به ونهى عنه.


(1) البحار 15: 265، وفيه: ماضي العزم. (2) هود: 34. (3) راجع لسان العرب 14: 158 / نصح. (4) التحريم: 8. (5) راجع مجمع البحرين / نصح. (6) لسان العرب 14: 159 / نصح. (*)

[ 626 ]

والنصيحة لا تكون قبيحة وربما يستقبحها السامع لصعوبتها، ويجمع جميع معاني النصيحة الخلوص في العمل والنية، وكل شئ خلص فقد نصح، والناصح من العسل وغيره هو الخالص المحض، والإنتصاح قبول النصيحة في المشورة. و (المجد) إسم فاعل من أجد اجدادا بمعنى جد واجتهد، والظاهر ان الهمزة فيه للصيرورة أي صار ذا جد واجتهاد، ويجوز جعلها للمبالغة يقال: جد في الأمر وأجد فيه بمعنى. و (الكادح) من الكدح بمعنى العمل والسعي ويجئ بمعنى الخدش والكسب أيضا، يقال: هو يكدح في كذا أي يكد، وقوله تعالى: * (إنك كادح إلى ربك كدحا) * (1) أي تسعى بجد واجتهاد للدنيا صائرا إلى ربك أي مالك إليه، فتزود للقائه ولا تسع للدنيا، وأصابه شئ فكدح وجهه أي خدشه، وفلان يكدح لعياله ويكتدح لهم أي يسعى لأجلهم. و (الرفاهية) بفتح الراء وتخفيف الياء بمعنى الإتساع كالرفاهة، يقال: رفه العيش - بالضم - أي اتسع ولان، وهو في رفاهية من العيش أي سعة، ورفهنا رفها - من باب نفع - ورفوها أي أصبنا نعمة واسعة من الرزق، ويتعدى بالهمزة والتضعيف فيقال: أرفهته ورفهته فترفه. وفي الخبر انه (صلى الله عليه وآله) نهى عن الإرفاه (2)، وهو التوسعة للنفس بكثرة التدهن والتنعم، وقيل: التوسع في المشرب والمطعم وهو من الرفه في ورد الإبل، وهو أن ترد الماء متى شاءت كما يقال: رفهت الإبل إذا وردت الماء كل يوم شاءت، وحاصل المراد ترك التنعم والدعة ولين العيش لأنه من زي العجم وأرباب الدنيا. وفي حديث جابر: (أراد أن يرفه عنه) (3) أي ينفس عنه ويخفف، وفي حديث


(1) الإنشقاق: 6. (2) النهاية 2: 247، لسان العرب 5: 277 / رفه. (3) النهاية 2: 247، لسان العرب 5: 278 / رفه. (*)

[ 627 ]

ابن مسعود: (إن الرجل يتكلم بالكلمة في الرفاهية من سخط الله ترديه أبعد ما بين السماء والأرض) (1) أي ينطق بكلمة على حسبان أن سخط الله لا يلحقه إن نطق بها، فهو في الرفاهية من سخط الله على حسبانه، وربما أوقعته في مهلكة عظيمة عند الله. و (العيش) الحياة وقد عاش الرجل معاشا ومعيشا، وكل واحد منهما يصلح أن يكون مصدرا وأن يكون إسما، مثل معاب ومعيب، وممال ومميل، وأعاشه الله عيشة راضية، ويقال في معيش: معيشة أيضا، والجمع معايش بلا همزة إذا جمعتها على الأصل أي المعيش، وتقديره مفعل والياء أصلية متحركة فلا تنقلب في الجمع همزة، وكذلك مكاييل ومباييع ونحوها، وإن جمعتها على الفرع همزت وشبهت مفعلة بفعيلة كما همزت المصائب لأن الياء ساكنة. ومن النحويين من يرى الهمز لحنا، ومنهم من يرى عدم الهمز لحنا بناء على أن الياء أو الواو إذا وقعت بعد ألف زائدة قلبت همزة قاعدة مطردة كما في كساء ورداء، فتأمل. والتعيش تكلف أسباب المعيشة، وقد تطلق المعيشة والعيش على الإشتغال بأسباب العيش والتنعم بمقدماته، وعلى مكسب الإنسان الذي يعيش به. و (وادعون) خبر قولها (عليها السلام): (وأنتم) والجار متعلق به من الدعة، وهي على ما ذكره الجوهري (2) السعة والخفض، تقول منه ودع الرجل - بضم الدال وفتحها - وداعة - بالفتح - ودعة فهو وديع أي ساكن، رابط الجأش، غير مضطرب الحال، ووادع أيضا ويقال: نال فلان المكارم وادعا من غير كلفة، ولعل قولهم يدع بمعنى يذر مأخوذ من ذلك أيضا، فإن السكون يستلزم الترك. ومنه الوديعة بمعنى الأمانة المتروكة عند الغير، ويدع بهذا المعنى قيل لا ماضي له أي لم يستعمل له ماض، وإنما يستعمل بدل ماضيه ترك لا ودع، ولذا


(1) المصدر نفسه. (2) الصحاح 3: 1295 / ودع. (*)

[ 628 ]

قالوا: وأماتوا ماضي يدع ويذر، وهو ضعيف إلا أنه لا كلام في الندرة والقلة. وقرأ جماعة قوله تعالى: * (ما ودعك ربك وما قلى) * (1) بالتخفيف بمعنى ما تركك، كما انه يجئ بالتضعيف أيضا بهذا المعنى من الوداع بمعنى الترك والمفارقة والهجر، وورد في الأخبار أيضا ونقله الفراء مستعملا في كلام العرب، فلا وجه للاماتة. وأودعته مالا أي جعلته وديعة عنده، وأودعه أيضا أي قبله للوديعة فيكون من الأضداد، واستودعته وديعة أي استحفظته إياها، قال الشاعر: استودع العلم قرطاس فضيعه * فبئس مستودع العلم القراطيس (2) و (الفكاهة) بالضم المزاح وبالفتح المصدر من فكه الرجل - بالكسر - فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا، والفكه أيضا الاشر والبطر، وقرئ قوله تعالى: * (ونعمة كانوا فيها فاكهين) * (3) أي أشرين، وفاكهين أي ناعمين أو معجبين بما هم عليه، والمفاكهة الممازحة. وفي الحديث: (كان النبي (صلى الله عليه وآله) من أفكه الناس مع الصبي) (4)، وفي حديث زيد بن ثابت: (انه كان من أفكه الناس إذا خلا مع أهله) (5)، والفاكهة ما يتفكه به الإنسان أي يتنعم بأكله رطبا كان أو يابسا كالزبيب، والرطب، والتين، والبطيخ، والرمان. وقوله تعالى: * (فيهما فاكهة ونخل ورمان) * (6) من باب عطف الخاص على العام لزيادة الإهتمام، ومن قال من جهة تخصيصهما بالذكر بعد الفاكهة: ان النخل والرمان ليسا من الفاكهة، فهو من جهة الجهل بلغة العرب في ذكر التفصيل بعد


(1) الضحى: 3. (2) راجع لسان العرب 15: 253 / ودع. (3) الدخان: 27. (4) النهاية 3: 466، لسان العرب 10: 310 / فكه. (5) المصدر نفسه. (6) الرحمن: 68. (*)

[ 629 ]

الإجمال، وذكر الخاص بعد العام لفوائد يقتضيه الحال والمقام، وقوله تعالى: * (فظلتم تفكهون) * (1) أي تعجبون بما أصابكم وحاصله تندمون. و (آمنون) أي مطمئنون، وقد مرت الإشارة إلى معنى تلك المادة، وفي رواية ابن أبي طاهر: (وأنتم في بلهنية وادعون آمنون) (2)، قال الجوهري: في بلهنية من العيش - بضم الباء وفتح اللام - أي سعة ورفاهية (3). وهو ملحق بالخماسي بألف في آخره، وإنما صارت ياء لكسرة ما قبلها، ويقال بلهنة من العيش كدحرجة، أيضا وفي الكشف: (وأنتم في رفهنية) (4) وهي مثلها لفظا ومعنى، والظاهر في بلهنية ورفهنية زيادة النون والياء والأصل من البله والرفه. و (التربص) الإنتظار، يقال: تربصت قدوم زيد أي انتظرته متوقعا ذلك، ومنه المتربص للمحتكر، وأصله من قولهم: ربص بالمكان إذا لزمه وأقام به، وقوله تعالى: * (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) * (5) أي تمكث أربعة أشهر، وقوله تعالى: * (قل كل متربص) * (6) أي منتظر للعاقبة. وتربص الدوائر تربص نزولها، والدوائر جمع الدائرة، وهي صروف الزمان وحوادث الأيام والعواقب المذمومة، لكونها دائرة على الإنسان ومحيطة به، وأكثر ما تستعمل الدائرة في تحول النعمة إلى الشدة، وكل نائبة دائرة سوء، أي كنتم تنتظرون نزول البلايا علينا وزوال النعمة عنا. و (التوكف) التوقع من الوكف بمعنى الوقوع من قولهم: وكف المطر أي وقع، فيقال: توكفه أي انتظر وقوعه، ويقال: توكف الخبر إذا انتظر بلوغه ووصوله.


(1) الواقعة: 65. (2) بلاغات النساء: 13. (3) الصحاح 6: 2227 / بله. (4) كشف الغمة 2: 111. (5) البقرة: 226. (6) طه: 135. (*)

[ 630 ]

و (الأخبار) جمع خبر، والمراد بها هنا أخبار المصائب والفتن والنوائب، وفي بعض النسخ: (تتواكفون الأخيار) بالياء المثناة تحت، يقال: واكفه في الحرب أي واجهه. و (النكوص) الاحجام والتأخر عن الشئ والرجوع إلى وراء قهقرى، يقال: نكص على عقبيه - من باب ضرب ونصر - أي رجع القهقرى. و (النزال) بالكسر المنازلة والمنازعة، وهو أن ينزل القرنان عن ابلهما إلى خيلهما فيتضاربا، والفرار من القتال وهو الهزيمة، والمقصود من تلك الفقرات انهم لم يزالوا منافقين، وعن الجهاد ناكبين، وعن النهوض إلى النزال قاعدين، والمراد من دار أنبيائه هي الجنة أو الدرجات العالية منها مما يليق بالأنبياء، وكذلك المراد من مأوى الأصفياء. وقولها (عليها السلام): (ظهر فيكم حسكة النفاق) الحسكة - بالتحريك - العداوة وكذلك الحسيكة كما في بعض النسخ، يقال: في صدره حسكة وحسيكة أي ضغن وعداوة إستعارة من حسك السعدان، وهي عشبة شوكتها مدحرجة وهي شوكة صلبة معروفة، الواحدة حسكة ويقال: حسك الصدر على فلان أي صار عليه ذا حسكة وعداوة، وإطلاق الحسكة على العداوة لأنها تؤثر في القلب وتؤذيه كالشوكة، فالمراد من حسكة النفاق العداوة الحاصلة به ومعه على سبيل الإستعارة، والإضافة بيانية. و (أسمل) هو أفعل من قولهم: سمل الثوب كنصر سمولا أي صار خلقا وبمعناه أسمل، وثوب اسمال جمع سمل - بالتحريك - بمعنى سمل كأن كل قطعة منه سمل، مثل برمة أعشار ونطفة أمشاج. و (الجلباب) بالكسر الملحفة، وقيل: ثوب واسع للمرأة غير الملحفة، وقيل: هو إزار ورداء، وقيل: كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وصدرها وظهرها، وقيل غير ذلك. و (الكاظم) من قولك: كظمت الغيظ - من باب ضرب - كظما وكظوما إذا


[ 631 ]

أمسكت على ما [ في ] نفسك منه على صفح أو غيظ، وفي التنزيل: * (والكاظمين الغيظ) * (1)، وقد مرت الإشارة إلى معنى المادة، والمراد هنا الساكت من جهة الخوف عن عقاب النبي (صلى الله عليه وآله) المبطن لعداوته، والكاظم غيظه من جهة مهابته. و (الغاوون) الضالون المنهمكون في الجهل والباطل من غوى يغوي غيا وغواية، قال تعالى: * (والشعراء يتبعهم الغاوون) * (2) وفسروا بقوم وصفوا عدلا يعني حلالا وحراما بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره. وقوله تعالى: * (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى) * (3) أي ما انهمك في الجهل والباطل، * (فسوف يلقون غيا) * (4) أي خيبة وضلالة، والإسم أيضا الغواية بالفتح. و (نبغ) الشئ - من باب منع وقتل وضرب - نبغا ونبوغا - بالغين المعجمة - أي ظهر، ونبغ الرجل إذا لم يكن في ارث الشعر ثم قال وأجاد، ومنه النوابغ من الشعراء، ونبغ فيهم النفاق إذا ظهر ما كانوا يخفونه من النفاق واشتهر، ومنه ابن النابغة لعمرو بن العاص لظهورها في الزنا وشهرتها، ونبغ أيضا في الشعر إذا قال وأجاد فظهر واشتهر. و (الخامل) من خفي ذكره وصوته وكان ساقطا لا نباهة له، مأخوذ من خمل المنزل خمولا - من باب نصر - إذا عفى ودرس واخملته أنا، واذكروا الله ذكرا خاملا أي منخفضا توقيرا لجلاله. والمراد ب‍ (الآفلين) الأذلون من قولهم: أفل الشئ افولا - من باب ضرب ونصر - أي غاب، وكذا أفل فلان عن البلد أي سار وذهب، وأفلت الشمس إذا


(1) آل عمران: 134. (2) الشعراء: 224. (3) النجم: 1 - 2. (4) مريم: 59. (*)

[ 632 ]

غربت، والآفل: الزائل المتغير، ومنه قوله تعالى: * (لا أحب الآفلين) * (1). و (الهدير) التصوت، يقال: هدر البعير هديرا - من باب ضرب - تصوت أو ردد صوته في حنجرته، وهدر الحمام هديرا أي سجع. و (الفنيق) الفحل المكرم من الإبل الذي لا يركب، ومنه قولهم: تفنق الرجل أي تنعم، وفي بعض الروايات: (ونطق خامل الأولين)، وفي الكشف: (فنطق كاظم، ونبغ خامل، وهدر فنيق الكفر) (2)، والحاصل انه لما مات النبي (صلى الله عليه وآله) أظهر أهل النفاق نفاقهم، ونطق الذين كانوا من مهابة النبي ساكتين، وفي زاوية الخمول آفلين. قولها (عليها السلام): (فخطر في عرصاتكم) يقال: خطر البعير بذنبه يخطر - بالكسر - خطرا - بفتحتين - وخطرانا إذا حركه مرة بعد مرة وضرب به فخذيه، ومنه قول الحجاج لما نصب المنجنيق على الكعبة: (خطاره كالجمل الفنيق) شبه رميها بخطران الفنيق، وخطران الرجل اهتزازه في المشي وتبختره، وفلان يخطر في مشيته أي يتمايل ويمشي مشية المتعجب بنفسه، ومنه الحديث: (أحب الخطر بين الصفين وأبغض الخطر بين الطرقات) (3). و (العرصة) كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها شئ من بناء وغيره، والجمع العراص والعرصات. و (مغرز) الرأس - بكسر الراء - ما يختفى فيه من غرزت الشئ بالإبرة غرزا - من باب ضرب - أي أدخلتها فيه، ومنه غرزت رجلي في المغرز إذا وضعتها فيه، قيل: لعل في الكلام تشبيها للشيطان بالقنفذ فإنه انما يطلع رأسه عند زوال الخوف، أو بالرجل الحريص المقدم على أمر فإنه يمتد عنقه إليه. و (الهاتف) الصائح من الهتاف - بالكسر - بمعنى الصياح من هتف به هتفا


(1) الأنعام: 76. (2) كشف الغمة 2: 111. (3) الكافي 2: 256 ح 17، عنه البحار 72: 237 ح 4. (*)

[ 633 ]

وهتافا - من باب ضرب - صاح به ودعاه، وهتفت الحمامة صوتت، وهتف به هاتف سمع وصوته ولم ير شخصه، وفي حديث حنين: (اهتف بالأنصار) (1) أي نادهم وادعهم، وفي حديث بدر: (فجعل يهتف بربه) (2) أي جعل يدعوه ويناشده. وقولها (عليها السلام): (ألفاكم) أي وجدكم، ومنه قوله تعالى: * (ألفوا آباءهم ضالين) * (3)، وقولها (عليها السلام): (لدعوته) متعلق بقولها: (مستجيبين). و (الغرة) بكسر الغين الإغترار والإنخداع والغفلة من الغرور، ورجل غر وغرير أي غير مجرب غافل عن الدنيا وتقلباتها على أهلها، ويقال: غره أي أوقعه في غفلة فهو مغرور، واغتر بالشئ خدع به، واغتره أي أتاه على غفلة، والغرور: الشيطان لأنه يغر الإنسان في الغفلة، ومنه قوله تعالى: * (ولا يغرنكم بالله الغرور) * (4) وكل ما يوجب الغفلة للإنسان فهو غرور، ولو كان هوالتنعم وزينة الدنيا وغيرهما. وفي الخبر: (المؤمن غر كريم، والمنافق خب لئيم) (5) أي المؤمن ليس بذي نكر فهو ينخدع لانقياده ولينه وهو ضد الخب، أي المؤمن المحمود من طبعه الغرارة، وقلة الفطنة للشر، وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلا ولكنه كرم وحسن خلق. وقوله تعالى: * (ما غرك بربك الكريم) * (6) أي أي شئ غرك في خالقك وخدعك وسول لك الباطل حتى عصيته، وإنما قال الكريم دون سائر صفاته تعالى وأسمائه تلقينا أن يقول: غرني كرمك يا كريم، والضمير المجرور في قولها (عليها السلام): (فيه) للشيطان. و (ملاحظة) الشئ مراعاته، وأصله من اللحظ واللحاظ - بفتح اللام فيهما -


(1) النهاية 5: 243، لسان العرب 15: 26 / هتف. (2) المصدر نفسه. (3) الصافات: 69. (4) لقمان: 33. (5) البحار 67: 283 ح 6، وفي النهاية 3: 354، لسان العرب 10: 41 / غرر. (6) الإنفطار: 6. (*)

[ 634 ]

إسما للنظر بمؤخر العين مما يلي الصدغ عن يمين وشمال، وهوأشد التفاتا ويكون عند تعلق القلب بشئ، واما اللحاظ - بكسر اللام - فهو مصدر لاحظه ملاحظة أي نظر إليه بمؤخر عينه، واما النظر بالشق الذي على الأنف فيسمى بالموق والماق. والمراد انه وجدكم الشيطان لشدة قبولكم للانخداع إليه كالذي كان مطمح نظره أن يغتر بأباطيله، ويحتمل أن يكون (للعزة) بتقديم المهملة على المعجمة، وفي الكشف: (وللعزة ملاحظين) أي وجدكم طالبين للعزة. و (النهوض) القيام من نهض لكذا وإلى كذا - من باب منع - أي قام إليه أو به، واستنهضه للأمر أي أمره بالقيام إليه، وفي الحديث: (إن أمير المؤمنين (عليه السلام) استنهض الناس في حرب معاوية) (1) أي طالب النهوض منهم. ونهض من مكانه نهوضا أي ارتفع عنه، ونهض إلى العدو أسرع إليه، ونهضت إلى فلان تحركت إليه بالقيام، وأنهضته للأمر فانتهض أي أقمته إليه فقام، وناهضته قاومته، وتناهض القوم في الحرب إذا نهض كل فريق إلى صاحبه، ونهض النبت إذا استوى. و (الخفاف) جمع خفيف خلاف الثقيل أي وجدكم مسرعين إليه بلا تثاقل. و (الإحماش) الإغضاب، يقال: أحمشه إذا أغضبه وكذلك التحميش، وفي حديث ابن عباس: (رأيت عليا (عليه السلام) يوم صفين وهو يحمش أصحابه) (2) أي يحرضهم على القتال ويغضبهم على الأعداء، ويقال: حمش الشر إشتد، وأحمشته النار وأحمشت النار: ألهبتها، وأحمشت القدر: أشبعت وقودها. ومنه حديث أبي دجانة: (رأيت إنسانا يحمش الناس) (3) أي يسوقهم بغضب، وفي الخبر: (ولا حمية تحمشكم) (4)، واحتمش فلان أي التهب غضبا، واحتمش الديكان أي اقتتلا.


(1) التوحيد: 41 ح 3، عنه البحار 4: 269 ح 15. (2) النهاية 1: 441، ولسان العرب 3: 325 / حمش. (3) المصدر نفسه. (4) نهج البلاغة الخطبة: 39. (*)

[ 635 ]

والحاصل انه حملكم الشيطان على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه، أو من عند أنفسكم أي وجدكم مطيعين له في أي حال، ومنقادين له في جميع الأحوال، وفي كتاب المناقب القديم: (عطافا) بدل خفافا - بالعين المهملة والفاء - من العطف بمعنى الميل والشفقة والإنحناء والتحنية من قولهم: عطفت الناقة إلى ولدها أو على ولدها أي حنت، وعطفت العود فانعطف، ولعله أظهر لفظا ومعنى، وهو إما جمع عطوف أو عطيف، أو مصدر بمعنى الصفة، أو مفعول مطلق لفعل محذوف. و (الوسم) أثر الكي، يقال: وسمته - كوعدته - وسما أي جعلت عليه علامة، والغالب كونها بالكي، والإسم السمة وهي العلامة، ومنه الموسم لأنه معلم يجتمع إليه الناس للحج والعمرة، وإسم الآلة منه الميسم - بكسر الميم -، وقوله تعالى: * (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) * (1) أي المتفرسين. و (الورود) حضور الماء للشرب خلاف الصدور، والإيراد الإحضار. و (المشرب) محل الشرب، وفي بعض النسخ (أوردتم) وفي بعضها (الشرب) بلا ميم مع كسر الشين، وهو الحظ من الماء ويطلق على المشرب أيضا، وفي الكشف: (وأوردتموها شربا ليس لكم) (2) والكلام كناية عن أخذ ما ليس لهم بحق من الخلافة والإمامة وميراث النبوة. * * *


(1) الحجر: 75. (2) كشف الغمة 2: 112. (*)

[ 636 ]

قالت (عليها السلام): " هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر، إبتدارا زعمتم خوف الفتنة * (ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين) * فهيهات منكم وكيف بكم وأنى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، اموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، قد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تدبرون، أم بغيره تحكمون ؟ بئس للظالمين بدلا، * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) * ثم لم تلبثوا الا ريث أن تسكن نفرتها، ويسلس قيادها، ثم أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجلي، وإهماد سنن النبي الصفي، تسرون حسوا في ارتغاء، وتمشون لاهله وولده في الخمر والضراء، ونصبر منكم على مثل حز المدى، ووخز السنان في الحشا ". قولها (عليها السلام): (هذا) أي خذوا هذا الذي ذكرت وتدبروا فيه، أو اذكروا هذا الذي فعلتم، أو أنكم فعلتم هذا ونحو ذلك والحال ان العهد قريب، ويسمى هذا في نحو هذا المقام بفصل الخطاب. و (العهد) بمعنى الوصية والتقديم لذكر شئ، وبمعنى اللقاء وغير ذلك مما مرت إليه الإشارة سابقا في شرح قولها (عليها السلام): (وعهد قدمه إليكم) ويقال: عهدي به قريب أي لقائي إياه، والمقصود انكم فعلتم هذه الأمور، وارتكبتم بما ارتكبتم من المحذور، والحال ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قريب العهد بكم لم يمض مدة مديدة بينه وبينكم. و (الكلم) بفتح الكاف من قولهم: كلمته كلما - من باب قتل - أي جرحته، ومن باب ضرب لغة أيضا، ثم اطلق المصدر إسما على الجرح ويجمع على كلوم وكلام،


[ 637 ]

ورجل كليم أي مجروح والجمع كلمى مثل جريح وجرحى، ومن هذه المادة الكلمة والكلام بمناسبة التأثير في المخاطب وغيره، كما قيل: جراحات السنان لها التئام * ولا يلتام ما جرح اللسان وقد مر الكلام في معنى الكلمة والكلام. و (الرحيب) بمعنى الوسيع، وقوله تعالى: * (ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) * (1) أي برحبها - بضم الراء - أي اتساعها، وفي الحديث: (مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر) (2) أي لا قوا رحبا وسعة لا ضيقا، أو أتوا مكانا واسعا. ورحب المكان - من باب قرب أو تعب - أي اتسع، ويتعدى بالحرف فيقال: رحب بك المكان، فكثر الإستعمال حتى تعدى بنفسه أيضا فقيل: رحبتك الدار، وهذا شاذ في القياس لأنه لا يوجد فعل بالضم إلا لازما. ورجل رحب الذراعين أي واسع القوة عند الشدائد، ومنه قولهم: قلدوا أمركم رحب الذراع أي واسع القدرة والقوة والبطش، ومن صفاته (صلى الله عليه وآله) (رحب الراحة) ومعناه واسع الراحة كبيرها، والعرب تمدح كبير اليد وتهجو صغيرها، ويقولون: رحب الراحة أي كثير العطاء كما يقولون ضيق الباع في الذم، ورحبة المسجد - بالفتح - الساحة المنبسطة في بابه. وبالجملة فالمراد من كون الكلم رحيبا أي وسيعا كون وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) أمرا عظيما وخطبا جسيما، أي هي ثلمة في الإسلام لا يسدها شئ، فاتسع الخرق على الراقع، تحسبونه هينا وهو عند الله عظيم. و (الجرح) بالضم إسم كالجراح - بالكسر -، وجمع الأول جروح والثاني جراحات، والجرح - بالفتح - مصدر قولك: جرحه جرحا من باب منع، واللام فيه للعهد إشارة إلى الكلم السابق ذكره.


(1) التوبة: 118. (2) الكافي 5: 12 ح 3، عنه البحار 19: 182 ح 31. (*)

[ 638 ]

و (الاندمال) انفعال من قولك: دملت بين القوم أصلحتهم، واندمل الجرح أي إلتأم وصلح، والمراد أن جرح وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) أي ثلمته لم يرأب بعد ولم يصلح أي لم يمض زمان يوجب سكون فورته وكسر مورته. و (الرسول لما يقبر) من قولك: قبرت الميت أي دفنته، أي غصبتم الخلافة وارتددتم على أدباركم قبل أن يقبر النبي (صلى الله عليه وآله) ويدفن. قولها (عليها السلام): (ابتدارا) أي فعلتم الأفعال السابقة من جهة الإبتدار إلى هوى أنفسكم، أو إلى الفتنة، أو إلى الخلافة، أو إلى المخالفة عن الشريعة، أو الى إظهار النفاق والعداوة ونحو ذلك، أو هو مفعول مطلق أي إبتدرتم إلى هذه الأعمال ابتدارا، وفي بعض الروايات: (بدارا) أي فعلتم ما ذكر بدارا، أو بدرتم إلى ما ذكر بدارا بمعنى ابتدارا. (زعمتم خوف الفتنة) أي ادعيتم ذلك وجها للابتدار إلى ما ابتدرتم إليه، وأظهرتم للناس كذبا وخديعة انا إنما اجتمعنا في السقيفة دفعا للفتنة، مع انه كان غرضكم غصب الخلافة عن أهلها، وهو عين الفتنة التي تترتب عليها المفاسد التي لا انقراض لها إلى أبد الدهر، مع انكم بفعلكم هذا قد وقعتم في الفتنة العظيمة، وكفرتم عن الشريعة، وان جهنم لمحيطة بكم في هذه الحالة. والإلتفات في سقطوا لموافقة الآية الكريمة، والمعنى هنا ألا في الفتنة سقطتم وان جهنم لمحيطة بكم حيث انكم ضللتم وأضللتم، وفي شرع النبي (صلى الله عليه وآله) ابتدعتم. قولها (عليها السلام): (فهيهات منكم) هيهات بمعنى بعد إسم فعل وفيه مع التبعيد معنى التعجب، كما صرح به الشيخ الرضي وغيره، ومنه قوله تعالى: * (هيهات هيهات لما توعدون) * (1) وتحقيق الكلمة موكول إلى محله، فهيهات منكم أي بعدت هذه الأمور منكم أي ما كان ينبغي أن تصدر هي منكم، مع أن كتاب الله


(1) المؤمنون: 36. (*)

[ 639 ]

تعالى بين أظهركم. و (كيف وأنى) تستعملان أيضا في التعجب، وكيف بكم أي أي حال بكم، أو كيف تناسبكم هذه الأمور وكيف تليق بكم. و (أنى تؤفكون) أي إلى أين تصرفون من أفكه كضربه عن الشئ أي صرفه عنه، أي إلى أين يصرفكم الشيطان، أو إلى أين تصرفكم أنفسكم بأهوائها الباطلة مع أن كتاب الله تعالى بينكم، وفيه تبيان كل شئ وهو هدى للمتقين. وهذا إشارة إلى ما في القرآن الكريم من الآيات الدالة على أن في عترته (صلى الله عليه وآله) الوراثة والخلافة، وان عليا (عليه السلام) هو المقدم على الكل في أمر الولاية، والآيات الدالة على تقدم العترة في كل مرتبة، وعلى حق ذوي القربى المذكور في نحو قوله تعالى: * (وآت ذا القربى حقه) * (1) والآيات الدالة على أحكام توريث الأنبياء (عليهم السلام) وغير ذلك مما ستأتي إليه الإشارة، وهذا توبيخ لهم على عدم تدبرهم تلك الآيات الواضحة، والإمارات اللائحة. وفلان بين ظهراني القوم وأظهرهم أي مقيم بينهم، محفوف من جانبيه أو من جوانبه بهم، وأصل الظهر خلاف البطن ثم استعمل في معاني كثيرة بالمناسبة، ومنها معنى الظهور فإن ظهر الشئ باد ظاهر للغير، ومنها معنى القشر فإنه بمنزلة الظهر واللب بمنزلة البطن. ولما كان الظهر من الإنسان والحيوان محل القدرة والقوة والإعتماد عليه وبه تحمل الأشياء، استعمل الإستظهار بمعنى الإعتماد وطلب القوة ونحو ذلك، فيقال: استظهرت على فلان أي اعتمدت عليه واستندت إليه، وفلان مستظهر أي معان، واستظهرت القرآن أي حفظته بمعنى قرأته عن ظهر قلبي، قيل: أو على ظهر قلبي أي استقر القرآن على ظهر قلبي فلا ينسى ولا يترك، والحق أن يقال: إن معناه حفظته عن ظهر قلبي، وجعلته في جوفه أي استقر في بطن قلبي فلا ينسى. ثم إن الظهر يجمع على أظهر وظهران - بضم الظاء - والتثنية ظهران - بفتح


(1) الإسراء: 26. (*)

[ 640 ]

الظاء - وقد يزاد في التثنية ألف ونون أخرى للتأكيد فيقال: ظهرانان - بفتح الظاء - فيضاف إلى القوم كالجمع فيقال: فلان بين ضهراني القوم - بفتح الظاء - تثنية، وأظهر القوم بصيغة الجمع، والمعنى هو ما مر أي مقيم بينهم محفوف بهم من جانبيه أو من جوانبه. قال في النهاية: وفيه (أقاموا بين ظهرانيهم وبين أظهرهم) قد تكررت هذه اللفظة في الحديث، والمراد بها انهم أقاموا بينهم على سبيل الإظهار والإستظهار والإستناد إليهم، وزيدت فيه ألف ونون تأكيدا، ومعناه أن ظهرا منهم قدامه وظهرا وراءه، فهو مكنوف بهم من جانبيه ومن جوانبه إذا قيل بين أظهرهم، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا. وفي حديث علي (عليه السلام): (اتخذتموه وراءكم ظهريا حتى شنت عليكم الغارات) هو بكسر الظاء أي جعلتموه وراء ظهوركم، وهو منسوب إلى الظهر، وكسر الظاء من تغييرات النسب (1). وقوله تعالى: * (تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) * (2) أي تركتموه على عقبكم أي نسيتموه ولم تعملوا به ونبذتموه. و (الأمور) جمع الأمر بمعنى الشأن والحال ونحوهما. و (الظاهر) ظاهر. و (الأحكام) جمع الحكم وهو توجيه الخطاب نحو الغير، أو نفس الكلام الموجه إليه، أو المعنى المندمج في الخطاب المؤدى باللفظ والكتاب. و (الزاهر) المتلألئ المشرق. و (الاعلام) جمع العلم بالتحريك وهو العلامة التي يعلم بها الشئ، ويطلق بهذه المناسبة على الجبل والراية ونحوهما. و (الباهر) هو الغالب بنوره وضيائه.


(1) النهاية 3: 166 / ظهر. (2) الأنعام: 94. (*)

[ 641 ]

و (الزواجر) جمع الزاجر، والمراد بها النواهي بقرينة ذكر الأوامر بعد ذلك. و (اللائحة) الواضحة. وكل هذه اللغات واضحة بأنفسها أو مما مرت إليه الإشارة، وفي الكشف: (بين أظهركم، قائمة فرائضه، واضحة دلائله، نيرة شرائعه، زواجره واضحة، وأوامره لائحة) (1). قولها (عليها السلام): (أرغبة عنه تدبرون) أي أمن جهة الإعراض عنه تدبرون، أو تدبرون إدبارا عنه ؟ وهذا استفهام توبيخي، ورغبة منصوب على المفعول لأجله أو للمفعول المطلق من غير اللفظ، فإن الرغبة عن الشئ الإدبار عنه. (أم بغيره تحكمون) هذا أيضا توبيخ أي أي هذين الأمرين فعلتم فعليكم الذم والعقاب فيما عملتم. (بئس للظالمين بدلا) من الكتاب ما اختاروه من الحكم الباطل، أو بدلا من الميل إلى الكتاب والحكم به ما فعلوه من الإدبار عنه والحكم بغيره، ومن ابتغى دينا وراء الإسلام، وحكما بغير ما يحكم به القرآن من الأحكام، فأولئك هم العادون ولن يقبل ذلك منهم في الآخرة، واولئك هم الخاسرون. قولها (عليها السلام): (ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها) اللبث - بفتح اللام - المكث من لبث بالمكان لبثا - من باب تعب - أي مكث، وسكون العين من المصدر هنا خلاف القياس، إذ المصدر من فعل - بالكسر - قياسه التحريك إذا لم يتعد مثل تعب تعبا، و * (للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) * (2) أي مكث، واللبثة - بالفتح - المرة وبالكسر الهيئة والنوع، والإسم اللبث - بالضم - ويتعدى بالهمزة والتضعيف. والريث الإبطاء، وراث علينا خبر فلان يريث إذا أبطأ، واستراث الخبر استبطأه، وفي حديث أبي بكر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن القوم قد


(1) كشف الغمة 2: 112. (2) الصافات: 144. (*)

[ 642 ]

فرحوا بقدومك وهم يستريثون إقبالك إليهم) (1) أي يستبطئون اقبالك إليهم من الاستراثة بمعنى الإستبطاء. وما أراثك علينا أي ما أبطأك عنا، وفعل فلان كذا عجلا غير رائث أي غير بطئ متأخر، ويقال: رب عجلة أورثت ريثا، وريثما وزان حيثما وقريب منه معنا ولفظا ويبنى مثله أيضا وقد تكرر في الحديث. ومنه: فلم يثبت إلا ريثما قلت أي إلا قدر ذلك، وقد يستعمل بغير ما كقوله: لا يصعب الأمر إلا ريث يركبه، وقد يستعمل بدون النفي مثل: أمهلته ريثما فعل أي قدر ما فعله. والنفرة - بفتح النون وكسرها - من قولهم نفر الوحش ينفر نفورا إذا ذهب ولم يكن منقادا، وحاصله معنى الوحشة والدهشة، ويجوز القاف بدل الفاء من النقر، وهو أيضا كناية عن الوحشة. و (السلس) بالتحريك السهولة واللين في العمل، يقال: سلس سلسا - من باب تعب - أي لان وسهل، وبمناسبته استعمل سلس البول في استرساله وعدم استمساكه، وفلان سلس القياد أي لين سهل الإنقياد. و (القياد) بالكسر مايقاد به الدابة من حبل وغيره، وفي الحديث: إن الجواد إذا حباك بموعد * أعطاكه سلسا بغير مطال وحاصله خلاف الجموح حقيقة أو مجازا، وفي نسخة ابن أبي طاهر: (ثم لم تريثوا حتها إلا ريث) وحت الورق من الغصن نثرها، وفي بعض النسخ: (ثم لم تبرحوا ريثا). وضمير المؤنث في الفقرة الشريفة راجع الى الفتنة السابقة التي فيها سقطوا، وهي فتنة وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) مرادا بتلك الفتنة الخلافة المغصوبة المجعولة، أي لم تصبروا الا بقدر أن استقر أمر الخلافة، وانقاد لكم جملها الصعب


(1) الكافي 8: 340 ح 536، عنه البحار 19: 116 ح 2. (*)

[ 643 ]

الذي لا يكاد يسلس وينقاد لكم، ثم أخذتم أي شرعتم تشعلون نار الفتنة الخامدة، والمفسدة الكامنة. وقولها (عليها السلام): (تورون) من الإيراء مصدر أوريت الزندة من قولهم: ورى الزند يرى وريا إذا خرجت ناره، وأوريته أنا ووريته أنا ايراء وتورية، ويقال: فلان يستوري نار الضلالة أي يستخرجها، قال تعالى: * (أفرأيتم النار التي تورون * أءنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤون) * (1). والتورية عن الشئ بمعنى الكناية عنه كناية عنه، والزند الوري الذي تظهر ناره سريعا، وفي حديث علي (عليه السلام): (حتى أورى قبسا لقابس) (2) أي أظهر نورا لطالب الحق والهدى، وكأنه مأخوذ من وراء أي أتى بشئ من وراء شئ كما يقال: توارى القرص أي غاب. و (وقدة) النار - بالفتح - وقودها، ووقدها لهيبها. و (الجمرة) المتوقد من الحطب فإذا برد فهو فحم، والجمر بدون التاء جمعها، و في المصباح: جمرة النار القطعة الملتهبة والجمع جمر وجمرات (3). و (الهتاف) بالكسر الصياح كما مر، وهتف به دعابه. و (الإطفاء) إسكان النار واسكاتها من طفئت النار طفأ - بالهمزة - من باب تعب خمدت وأطفأتها أنا، ومنه أطفأت الفتنة بمعنى أسكنتها على سبيل الإستعارة، قال تعالى: * (يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم) * (4) أي اسكانه واخماده، وهو تهكم بهم لإرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن (هذا سحر) ونحو ذلك، فأشبه حالهم من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، وفي الحديث:


(1) الواقعة: 71 - 72. (2) نهج البلاغة الخطبة: 72، عنه البحار 16: 381 ح 93، والنهاية 5: 179، ولسان العرب 15: 282 / ورى. (3) المصباح المنير: 108 / جمرة. (4) التوبة: 32. (*)

[ 644 ]

(قوموا الى نيرانكم التي أو قدتموها على ظهوركم فاطفؤوها بصلاتكم) (1) أراد بها الذنوب على سبيل الإستعارة. و (اهماد) النار إطفاؤها بالكلية. و (السنن) جمع السنة بمعنى الطريقة شبهت بالأنوار وأسند إليها الإطفاء، والحاصل انكم انما صبرتم الى أن استقرت فيكم الخلافة المغصوبة، ثم شرعتم في تهييج الشرور والفتن، واتباع الشيطان، وإبداع البدع، وتغيير السنن. قولها (عليها السلام): (تسرون حسوا في ارتغاء) الاسرار ضد الإعلان من السر - بالكسر - وهو الأمر المخفي أو الخفي، والحسو - بفتح الحاء وسكون السين المهملة - شرب المرق وغيره شيئا بعد شئ، يقال: حسوت المرق أو الماء حسوا أي شربته كما ذكر، وفي الحديث: (فأكل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وحسوا المرق) (2) أي شربا منه شيئا فشيئا، وأحسيته المرق فحساه واحتساه بمعنى. والحسوة - بالفتح - المرة وبالضم الجرعة، يقال: في الإن