بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب معرفة الامام / المجلد الخامس / القسم الثاني: طریق الوصول الی الولایة، العبادة تجب ان تكون حبا لله، نور المخلصین

موقع علوم و معارف الإسلام الحاوي علي مجموعة تاليفات سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني قدس‌سره

 

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

الصفحة السابقة

الدرس‌ الثالث‌ والستّون‌ والرابع‌ والستّون‌

 كيفيّة‌ الوصول‌  إلی‌ مقام‌ الولاية‌

بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحِيمِ

وصلَّي‌ اللهُ علی محمّد وآله‌ الطَّاهرين‌

ولعنة‌ اللَه‌ علی أعدائهم‌ أجمعين‌ من‌ الآن‌  إلی‌ قيام‌ يوم‌ الدين‌

ولا حول‌ ولا قوّة‌ إلاّ باللَه‌ العلی العظيم‌

 طي‌ّ طريق‌ الولاية‌ منحصر في‌ المواظبة‌ علی ذكر الله‌

 قال‌ الله‌ الحكيم‌ في‌ كتاب‌ الكريم‌:

 أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَهِ لاَخَوْفٌ علی هِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرَي‌' فِي‌ الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا وَفِي‌ الاْخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَـ'تِ اللَهِ ذَ ' لِكَ هُوَ الْفُوْزُ الْعَظِيمُ . [1]

 نجد في‌ هذه‌ الآيات‌ أنّ الولاية‌ الإلهيّة‌ لا تتحقّق‌ بمجرّد الإيمان‌ البدائي‌ّ، وذلك‌ في‌ ضوء القرينة‌ القائمة‌ في‌ تفسير قوله‌: أَوْلِيَآءَ اللَهِ بقوله‌: الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . وإنّما تتحقّق‌ بالإيمان‌ الذي‌ يأتي‌ بعد ارتقاء معارج‌ التقوي‌ والعمل‌ الصالح‌ ؛ فهو ـ إذَن‌ ـ لون‌ من‌ الإيمان‌ الراسخ‌ الوطيد الذي‌ يتلو الإيمان‌ البدائي‌ّ، ويكتسب‌ بعد العمل‌ في‌ ضوئه‌، وبملازمة‌ التقوي‌ والعمل‌ الصالح‌ خلال‌ مدّة‌ مديدة‌ . ويستوي‌ الإيمان‌ علی سوقه‌ قويّاً شيئاً فشيئاً بسبب‌ ديمومته‌ مقروناً بالعمل‌ الصالح‌ والتقوي‌،  إلی‌ أن‌ تضمر الحجب‌ النفسانيّة‌ الحائلة‌ بين‌ العبد والحقّ جلّ وعزّ تدريجاً ؛ وتهزل‌ نسائج‌ الانشداد  إلی‌ المشتهيات‌ المادّيّة‌ والافكار والهواجس‌ الجسمانيّة‌، فإذا الحجب‌ تتمزّق‌، وحلقات‌ الهوي‌ تتفكّك‌ تماماً نتيجة‌ المثابرة‌ والمواظبة‌ علی ذلك‌، فلا يظلّ أي‌ّ حجاب‌ بين‌ العبد وربّه‌ . وهذا هو معني‌ الولاية‌؛ وكيفيّة‌ الارتقاء  إلی‌ تلك‌ الدرجة‌ إجمالاً .

 ولمّا كانت‌ الولاية‌ قائمة‌ علی ركيزتين‌: الله‌، والعبد ؛ فإنّ الله‌ يُسمّي‌ وَلِيّاً والمؤمن‌ يُسمّي‌ وَلِيّاً أيضاً ؛ الله‌ من‌ حيث‌ الربوبيّة‌ والفا علی ة‌، والعبد من‌ حيث‌ العبوديّة‌ والتسليم‌ والقابليّة‌ . وهذه‌ هي‌ الولاية‌ الإلهيّة‌، لانّ رفع‌ الحجاب‌ بين‌ العبد والمعبود قد تحقّق‌ فعلاً .

 وفي‌ المقابل‌ ولاية‌ الشيطان‌ حيث‌ لا يبقي‌ حائل‌ بينه‌ وبين‌ الشخص‌ المتمرّد العاصـي‌ ؛ فنري‌ الشـيطان‌ هو الذي‌ يديـر شـؤونه‌ ويدبّـرها ويتصرّف‌بهاكيف‌ يشاء ؛ ويرتفع‌ كلّ حجاب‌ بينهما ؛ فالشيطان‌ مافتأ فاعلاً، وهذا المسكين‌ ما برح‌ طيّعاً قابلاً، الشيطان‌ وليّـه‌، وهو ولي‌ّ الشيطان‌.

 وإنّها لخسارة‌ كُبري‌ أن‌ يصبح‌ الشيطان‌ ولي‌ّ أحد، يتصرّف‌ في‌ شؤونه‌ بواسطة‌ اتّحاده‌ معه‌ .

 وَمَن‌ يَتَّخِذِ الشَّيْطَـ'نَ وَلِيًّا مِّن‌ دُونِ اللَهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبينًا. [2] وقال‌ جلّ من‌ قائل‌:

 قُلْ أَمَرَ رَبِّي‌ بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَي‌' وَفَرِيقًا حَقَّ علی هِمُ الضَّلَـ'لَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَـ'طِينَ أَوْلِيَآءَ مِن‌ دُونِ اللَهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم‌ مُّهْتَدُونَ. [3]

 وقال‌ تعالی‌ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَـ'طِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ . [4]

 يدعو الشيطان‌  إلی‌ الفحشاء، والمنكر، والتباهي‌، والاستكبار، والشرك‌، والكفر، ويجرف‌ الإنسان‌  إلی‌ الضلال‌ والضياع‌، ويعده‌ بالخلود في‌ عالم‌ الغرور ؛ ويخيفه‌ من‌ الفقر والمصائب‌ والمشاكل‌ . ولكنّ الله‌ يدعو  إلی‌ العدل‌، والمعروف‌، والصلاح‌، والإحسان‌، والتوحيد، والعرفان‌ والذوبان‌ فيه‌.

 ويهدي‌ الإنسان‌  إلی‌ هذا الطريق‌، ويعده‌ بالخلود في‌ الآخرة‌، والبقاء ولقاء الله‌، والفناء في‌ أسمائه‌ الحسني‌ وصفاته‌ ال علی ا، وذاته‌ القدسيّة‌ المقدّسة‌؛ ويحذّر من‌ الباطل‌، والعبث‌، والغرور، ويدعو  إلی‌ دار السلام‌ ومهد السعادة‌.

 لذلك‌، فإنّ سبيل‌ ولاية‌ الله‌ ينحصر في‌ الابتعاد عن‌ الشيطان‌ وآرائه‌ وأفكاره‌. أي‌: في‌ الحركة‌ من‌ عالم‌ الكثرات‌ والالتفات‌ والانشغال‌ بعالم‌ الغرور  إلی‌ عالم‌ الوحدة‌، والعالم‌ الاصيل‌ وحقيقة‌ العرفان‌ واللقاء الإلهي‌ّ.

 واجتياز كثرات‌ هذه‌ العوالم‌ وظواهر هذه‌ النشآت‌ والإعراض‌ عنها وذلك‌ بالمضي‌ قُدمَاً للورود في‌ وادي‌ العرفان‌ الايمن‌ بنداء الله‌ أكبر . ولايتحقّق‌ هذا إلاّ بنسيان‌ الكثرة‌، وذكر الله‌، والتفكّر المتواصل‌ فيه‌، والبكاء علی فراقه‌، والاحتراق‌ بنار هجرانه‌ المتّقدة‌ .

 وما أروع‌ الآية‌ المباركة‌ إذ تكشف‌ لنا هذه‌ الحقيقة‌، وهي‌ أنّ السبيل‌ الوحيد للولاية‌ هو ذكر الله‌، وأنّ الغفلة‌ عن‌ ذكره‌ تؤدِّي‌  إلی‌ الانغماس‌ في‌ الضلالة‌، قال‌ عزّ اسمه‌: فَأَعْرِضْ عَن‌ مَّن‌ تَوَلَّي‌' عَن‌ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلاَّ الْحَيَو'ةَ الدُّنْيَا* ذَ ' لِكَ مَبْلَغُهُم‌ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن‌ ضَلَّ عَن‌ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَي‌' . [5]

 أوّلاً: نجد في‌ هاتين‌ الآيتين‌ أنّ الحياة‌ الوضيعة‌ والغرور الدنيوي‌ّ، والانغماس‌ في‌ الشهوات‌، والافكار الباطلة‌، والآراء السقيمة‌، كلّ ذلك‌ ملازم‌ للإعراض‌ عن‌ ذكر الله‌ .

 وثانياً: نفهم‌ من‌ الآيتين‌ أنّ غاية‌ البلوغ‌ العلمي‌ّ بنحو مطلق‌ لاترسو عند هذا المرفأ؛ بل‌ إنّ هذا المرفأ هو غاية‌ البلوغ‌ العلمي‌ّ والفكري‌ّ لمن‌ كان‌ قصير النظر؛ وإنّ غاية‌ البلوغ‌ العلمي‌ّ للاشخاص‌ الذين‌ يذكرون‌ الله‌ دائماً ستكون‌ في‌ مكان‌ آخر .

 وثالثاً: تبيّن‌ الآيتان‌ أنّ هؤلاء الاشخاص‌ هم‌ من‌ أهل‌ الضلالة‌ ؛ وأنّ الله‌ أعلم‌ بهؤلاء الض إلین‌ عن‌ سبيله‌ ومطّلع‌ علی أحوالهم‌ ؛ وكذلك‌ تدلّ علی أنّ هناك‌ فئة‌ غير هذه‌ الفئة‌ الغافلة‌ عن‌ ذكر الله‌ ؛ متّجهة‌  إلی‌ ذكره‌، وهي‌ فئة‌ المهتدين‌؛ والله‌ عالم‌ بأحوالهم‌ ؛ وفي‌ ضوء ذلك‌ فإنّ هذه‌ الآية‌ تكشف‌ لنا بوضوح‌ أنّ الضلال‌ عن‌ سبيل‌ الله‌ ناتج‌ عن‌ الغفلة‌ عن‌ ذكره‌ ؛ وأنّ الاهتداء  إلی‌ سبيله‌ نابع‌ عن‌ ذكره‌ . إذَن‌، فإنّ ذكر الله‌ يؤدِّي‌  إلی‌ السلوك‌ وبلوغ‌ المقصود ومقام‌ الولاية‌ .

 وتبيّن‌ الآيات‌ التي‌ تضمّها سورة‌ التكاثر بوضوح‌ أنّ الاتّجاه‌  إلی‌ كثرات‌ هذا العالم‌ يحرم‌ الإنسان‌ من‌ لقاء محبوبه‌، ومن‌ جنّة‌ نعيم‌ اللقاء والولاية‌؛ ولذلك‌ فإنّ الظفر بنعيم‌ الولاية‌ ؛ والحلول‌ في‌ منزل‌ الامن‌ والامان‌ الإلهيّين‌، والتمكّن‌ في‌ ذلك‌ المقام‌ الامين‌ دون‌ أي‌ حاجب‌ وساتر، يتوقّفان‌ علی نسيان‌ الكثرات‌ التي‌ يعجّ بها هذا العالم‌ .

 أَلْهَـ'كُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّي‌' زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ  إلیقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (التي‌ هي‌ حقيقة‌ التوجّه‌  إلی‌ الكثرات‌، وباطن‌ وحقيقة‌ الالتفات‌ لغير الله‌ تعالی‌) ثُمَّ لَتَرُونَّهَا عَيْنَ  إلیقِينِ * ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَنءِذٍ عَنِ النَّعِيمِ . [6]

 لقد أثبتنا بحول‌ الله‌ وقوّته‌ في‌ الجزء الثامن‌ من‌ كتابنا « معرفة‌ المعاد » في‌ المجلس‌ الثامن‌ والخمسين‌ أنّ المُراد من‌ النعيم‌ هو مقام‌ الولاية‌؛ وحيثما ورد في‌ القرآن‌ الكريم‌ ذكر للنعيم‌ والنعمة‌، فإنّ القصد هو الولاية‌؛ وفي‌ هذه‌ الحالة‌ تعتبر الآيات‌ المشار  إلیها التكاثر، أي‌ الالتفات‌  إلی‌ الكثرات‌ والتكاثر مطلقاً، سواء كان‌ في‌ المال‌، أو الولد، أو النساء، أو المِلك‌ والضَيْعة‌، أو المُلك‌ والحكومة‌، أو العلم‌ والمعرفة‌، أو الجاه‌ وعلوّ المنزلة‌، كلّه‌ منبعث‌ عن‌ نسيان‌ الوحدة‌؛ ولذلك‌ يؤدّي‌  إلی‌ الضلال‌ عن‌ المقصود ونعمة‌ الولاية‌ ونعيمها؛ وبالت إلی‌ فإنّ الشخص‌ الذي‌ يُمني‌ بهذه‌ الكثرات‌ سيكون‌ عرضة‌ للسؤال‌ والاستنطاق‌ عن‌ فقدان‌ الولاية‌ ؛ وبالملازمة‌ فإنّها تعتبر النعيم‌، أي‌ ؛ الولاية‌ ورفع‌ حجاب‌ الاثنينيّة‌ والبينونة‌، وبلوغ‌ مقام‌ العبوديّة‌ الخالصة‌ متوقّفاً علی نسيان‌ الكثرات‌، والإعراض‌ عن‌ عالم‌ الاعتبار والغرور والباطل‌ والآمال‌ الزائفة‌ العابثة‌؛ ومن‌ المعلوم‌ أنّ نسيان‌ الكثرات‌ لا يتيسّر إلاّ بذكر الله‌؛ إذَن‌ فذكر الله‌ المتواصل‌ يؤدّي‌  إلی‌ بزوغ‌ نورالحقيقة‌، والظفر بمقام‌ الامن‌، والتمكّن‌ في‌ مَنْزِلِ الوَلاَية‌.

 الرجوع الي الفهرس

 طي‌ّ طريق‌ الولاية‌ مبتنٍ علی الإعراض‌ التامّ عن‌ غير الله

وإجمالاً فإنّ التحرّك‌ نحو الله‌، ورفع‌ الحجب‌ النفسانيّة‌ لايتحقّقان‌ بدون‌ الإعراض‌ التامّ عن‌ الدنيا وزخارفها، وكسر صولة‌ الشهوات‌، وقطع‌ الارتباط‌ مع‌ عالم‌ المجاز، والاعتبار، والتفكير بالمصالح‌ الخي إلیة‌، والاعتباريّـات‌ الوهميّـة‌، والتحلّـي‌ بالهمّة‌ الع إلیـة‌ . قال‌ الله‌ سـبحانـه‌
 وتعالی‌: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَو'ةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ و وَلاَتَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَو'ةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ و عَن‌ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَيـ'هُ وَكَانَ أَمْرُهُ و فُرُطًا . [7]

 والآية‌ المباركة‌: وَتَبَتَّلْ  إلیهِ تَبْتِيلاً [8] . تدلّ علی أنّ العازم‌ علی السفر تلقاء حرم‌ الله‌ ينبغي‌ له‌ أن‌ يغضّ الطرف‌ عن‌ كلّ شي‌ء غير الله‌ ورضاه‌؛ ويتحرّي‌ سبيل‌ الإخلاص‌، ولا يلهث‌ وراء شي‌ء غير وجه‌ الله‌ ورضاه‌؛ وإلاّ فإنّه‌ سوف‌ لن‌ يصل‌  إلی‌ المقرّ المنشود .

 قال‌ تعالی‌: قُلْ إِن‌ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَهَ فَاتَّبِعُونِي‌ يُحْبِبْكُمُ اللَهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. [9]

 إنّ غفران‌ الذنوب‌ عبارة‌ عن‌ اقتلاع‌ العقبات‌ القائمة‌ علی الطريق‌، وإزالة‌ عوامل‌ التلويث‌ النفسانيّة‌ التي‌ تبعث‌ علی تراكم‌ الرين‌ والاوساخ‌ علی القلوب‌؛ وحبّ الله‌ عبارة‌ عن‌ النفحة‌ التي‌ تصل‌  إلی‌ المؤمن‌ ؛ فتشدّه‌  إلی‌ الله‌ دائماً.

 الرجوع الي الفهرس

ينبغي‌ أن‌ تكون‌ عبادة‌ طلاّب‌ الولاية‌ حبّاً لله

 وينبغي‌ أن‌ نعلم‌ بأنّ العبادة‌ يمكن‌ أن‌ تكون‌ علی ثلاثة‌ أوجه‌: الاوّل‌: عبادة‌ من‌ أجل‌ الطمع‌ في‌ الجنّة‌ ؛ الثاني‌: عبادة‌ بسبب‌ الخوف‌ من‌ النار؛ الثالث‌: عبادة‌ لاجل‌ حبّ الله‌ وتقرّباً  إلیهِ ابتغاءً لِوَجْهِهِ ؛ لاطمعاً ولاخوفاً. وينبغي‌ علی السالكين‌  إلی‌ الله‌ الذين‌ يقصدون‌ بلوغ‌ الولاية‌ وخالص‌ العبوديّة‌ أن‌ يؤدّوا عباداتهم‌ بل‌ وأعمالهم‌ جميعها علی نحو الوجه‌ الثالث‌ الذي‌ يعني‌ الحبّ والعشق‌ لله‌ سبحانه‌ تعالی‌ .

 ذلك‌ لانّ الغاية‌ من‌ الوجهين‌ الاوّلين‌ هي‌ إمّا الظفر بالراحة‌ والرخاء، وإمّا التخلّص‌ والابتعاد عن‌ العذاب‌ والشقاء . فيكون‌ القصد عندئذٍ بلوغ‌ هوي‌ النفس‌؛ والتوجّه‌  إلی‌ الله‌ سبحانه‌ هو من‌ أجل‌ تحقيق‌ الرغبة‌ النفسانيّة‌. وفي‌ هذه‌ الحالة‌ فإنّ الله‌ واسطة‌ للفوز والفلاح‌ والرغبات‌ النفسانيّة‌. ومن‌ المعلوم‌ أنّ الواسطة‌ من‌ حيث‌ الوساطة‌ نفسها ليست‌ الهدف‌ الاساس‌؛ بل‌ هي‌ هدف‌ عارض‌ وتابع‌ ؛ وفي‌ ضوء ذلك‌ فإنّ مثل‌ هذه‌ العبادة‌ ليست‌ لله‌ حقيقة‌، بل‌ هي‌ من‌ أجل‌ إشباع‌ الرغبات‌ النفسانيّة‌ ؛ بَيدَ أنّ حقّ العبادة‌ التي‌ هي‌ للحقّ حقّاً من‌ النوع‌ الثالث‌، حيث‌ إنّ طلاّب‌ الولاية‌ يسيرون‌ علی تلك‌ الوتيرة‌ .

 روي‌ محمّد بن‌ يعقوب‌ الكُلَيني‌ّ عن‌ علی ‌ّ بن‌ إبراهيم‌، عن‌ أبيه‌، عن‌ ابن‌ محبوب‌، عن‌ جميل‌، عن‌ هارون‌ بن‌ خارجة‌، عن‌ أبي‌ عبدالله‌ (الصادق‌) عليه السلام أنـّه‌ قال‌: ] إِنَّ [ الْعُبّادَ ثَلاَثَةٌ: قَوْمٌ عَبَدُوا اللَهَ عَزَّ وَجَلَّ خَوْفاً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ ؛ وَقَوْمٌ عَبَدُوا اللَهَ تَبَارَكَ وَتعالی‌ طَلَبَ الثَّوابِ، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الاُجَرَاءِ ؛ وَقَوْمٌ عَبَدُوا اللَهَ عَزَّ وَجَلَّ حُبّاً لَهُ، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الاْحْرارِ وَهي‌ أَفْضَلُ الْعِبادَةِ. [10]

 وجاء في‌ « نهج‌ البلاغة‌ »: إنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَهَ رَغْبَةً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجّارِ؛ وَإنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَهَ رَهْبَةً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ ؛ وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الاْحْرَارِ . [11]

 وذكر الصدوق‌ في‌ « الخصال‌ » بسنده‌ عن‌ يونس‌ بن‌ ظبيان‌ أنـّه‌ قال‌: قال‌ الصادق‌ جعفر بن‌ محمّد عليه السلام: إنَّ النَّاسَ يَعْبُدُونَ اللَهَ عَزَّ وَجَلَّ علی ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: فَطَبَقَةٌ يَعْبُدُونَهُ رَغْبَةً فِي‌ ثَوابِهِ، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْحُرَصَاءِ وَهُوَ الطَّمَعُ؛ وآخَرُونَ يَعْبُدُونَهُ فَرْقاً مِنَ النَّارِ، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبيدِ وَهِي‌َ الرَّهْبَةُ ؛ وَلَكِنِّي‌ أعْبُدُوهُ حُبّاً لَهُ عَزَّ وَجَلَّ ؛ فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْكِرَامِ وَهُوَ الاْمْنُ ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَهُم‌ مِّن‌ فَزَعِ يَوْمَنءِذٍ ءَامِنُونَ» وَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَهَ فَاتَّبِعُونِي‌ يُحْبِبْكُمُ اللَهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» فَمَنْ أَحَبَّ اللَهَ أَحَبَّهُ اللَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَهُ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ مِنَ الآمِنِينَ. [12]

 أجل‌ حقّاً، فإنّ العبادة‌ الحقيقيّة‌ ليست‌ معقولة‌ بدون‌ التوجّه‌  إلی‌ الله‌؛ لذلك‌ يتضاعف‌ التوجّه‌ بمضاعفة‌ العبادة‌ المستمرّة‌ ؛  إلی‌ أن‌ تتراكم‌ هذه‌ التوجّهات‌ تدريجاً فتصبح‌ ملكة‌ في‌ النفس‌ ؛ وتورثها  إلیقين‌ والمعرفة‌ والشهود. وهذا مبدأ عامّ وكلّي‌ّ، فضلاً عن‌ وجود الشواهد القرآنيّة‌ والروائيّة‌ الجمّة‌ علی ه‌، فإنّ الاعتبار العقلي‌ّ يدعمه‌ أيضاً ؛ لانّ حبّ كلّ شي‌ء والشوق‌  إلیه‌ يؤدّي‌  إلی‌ الانشداد والتعلّق‌ به‌ ؛ وهذا التوجّه‌ الذي‌ هو نفس‌ العمل‌ يوطّد ذلك‌ الحبّ والشوق‌ ويرسّخه‌ في‌ القلب‌ ؛ وهذا الرسوخ‌ الذي‌ هو العلم‌ يؤدّي‌  إلی‌ تأكيد رسوخ‌ ذلك‌ الشي‌ء في‌ القلب‌ ؛ وإذا ما استقرّ ذلك‌ الشي‌ء في‌ القلب‌ مؤكّداً، وأصبح‌ ملكة‌، فإنّ ظهوراته‌ ستنجلي‌، وآثاره‌ وخواصّه‌ كلّها ستشرق‌.

  إلی‌ أن‌ يتمكّن‌ الشخص‌ العابد المتوجّه‌  إلی‌ محبوبه‌ الحقيقي‌ّ ومعبوده‌ الحقّ أن‌ يشاهد ربّه‌ تدريجيّاً ؛ ويعرفه‌، ويعرف‌ أيضاً نفسه‌ والكائنات‌ كلّها في‌ الله‌ ومع‌ الله‌ ؛ وفي‌ هذه‌ الحالة‌ فإنّ التوجّه‌ العبادي‌ّ سيثبت‌ في‌ مكانه‌ ويستقرّ في‌ محلّه‌ ؛ لانّ العبادة‌ ما لم‌ تتجسّد في‌ رؤية‌ المعبود علی صعيد الشهود والوجدان‌ والحضور، فإنّها ليست‌ أكثر من‌ عبادة‌ تصوّريّة‌؛ وليست‌ حقّ عبادة‌ المعبود ؛ وذلك‌ لانّ معبوده‌ صورة‌ فكريّة‌ وذهنيّة‌ محدودة‌؛ ومطابق‌ تلك‌ الصورة‌ أيضاً متوهَّم‌ ومحدود في‌ الخارج‌ ؛ وليس‌ ذلك‌ بالمعبود الحقيقي‌ّ والمقصود الاصلي‌ّ ؛ بل‌ غير المقصود .

 ومن‌ الطبيعي‌ّ أنّ هذا اللون‌ من‌ العبادة‌ ينبغي‌ ألاّ يحظي‌ بالقبول‌ من‌ قبل‌ الحقّ تعالی‌ لكنّه‌ قبله‌ بفضله‌ وبرحمته‌ .

 وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَهِ علی كُمْ وَ رَحْمَتُهُ و مَا زَكَي‌' مِنكُم‌ مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا. [13]

 الرجوع الي الفهرس

 العارفون‌ بالله‌ يعبدون‌ ذاته‌

وأمّا العارفون‌ بالله‌ والمقرّبون‌  إلی‌ حريمه‌ المقدّس‌ فإنّهم‌ لايعبدون‌ الله‌ بالمفهوم‌ الفكري‌ّ والصورة‌ الخي إلیة‌ الذهنيّة‌ أبداً، ولايعبدون‌ المعادل‌ الخارجي‌ّ لذلك‌ المفهوم‌ أبداً، بل‌ إنّ عبادتهم‌ تختصّ بالذات‌ الحقيقيّة‌ لربّهم‌ جَلَّتْ عظمتُه‌ ؛ فهم‌ يدعون‌ الله‌ حضوريّاً وشهوديّاً سُبْحَـ'نَ اللَهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ . [14] وسبيل‌ الوصول‌  إلی‌ هذا الهدف‌ هو تمكّن‌ ذكر الله‌ في‌ القلب‌ . قال‌ تعالی‌:

 فَاذْكُرُوا اللَهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا. [15]

 وهذا الشهود والعرفان‌ له‌ درجات‌ ومراتب‌ متنوّعة‌ ؛ وكلّما تحقّقت‌ منه‌ درجة‌، توفّرت‌ المعرفة‌ بقدرها ؛ فالدرجة‌ الاُولي‌ مشاهدة‌ التوحيد الافع إلی‌ّ، والفناء فيه‌ ؛ والدرجة‌ الثانية‌ مشاهدة‌ التوحيد الاسمي‌ّ، والفناء فيه‌؛ والدرجة‌ الثالثة‌ مشاهدة‌ التوحيد الذاتي‌ّ، والفناء في‌ الذات‌ المقدّسة‌ للحقّ تعالی‌ .

 ولا يتحقّق‌ الكمال‌ لاحد إلاّ إذا تحقّقت‌ الدرجات‌ الثلاث‌ من‌ الفناء فيه‌؛ وبكلام‌ آخر، إذا فني‌ في‌ فعل‌ الحقّ واسمه‌ وذاته‌ ؛ ولابدّ للإنسان‌ في‌ سيره‌  إلی‌ الحقّ تعالی‌ أن‌ يجتاز هذه‌ المراحل‌ الثلاث‌ ليظفر بمقام‌ التوحيد المطلق‌.

 بَيدَ أنّ الموضوع‌ اللافت‌ للنظر هنا أنّ الإنسان‌ لا يصل‌  إلی‌ أي‌ّ مرقاة‌ من‌ مراقيه‌ الكم إلیة‌ هذه‌ إلاّ بفنائه‌ وببقاء ذلك‌ الكمال‌ في‌ محلّه‌ ؛ لانّ الفناء هو عبارة‌ عن‌ اجتياز الحدود العدميّة‌، لا اجتياز أصل‌ الوجود .

 لذلك‌ فإنّ أصل‌ الوجود باق‌ في‌ السير  إلی‌ الله‌، وفي‌ تحقّق‌ هذه‌ الدرجات‌ من‌ الفناء ؛ ويتحقّق‌ اجتياز الدرجات‌ والمراتب‌ حتّي‌ تخترق‌ الحدود كلّها، فلا يبقي‌ شي‌ء إلاّ الذات‌ المقدّسة‌ لوجود الحقّ المطلق‌ تعالی‌ شأنُهُ.

 ولهذا نجد الإنسان‌ في‌ كلّ مرحلة‌ من‌ هذه‌ المراحل‌ يطلّع‌ علی جميع‌ أنواع‌ الفيوضات‌ المترشّحة‌ عن‌ تلك‌ المرتبة‌  إلی‌ مراتبها الاوطأ والادني‌؛ ويتحقّق‌ بتلك‌ الآثار وخواصّها، حتّي‌ يصل‌  إلی‌ التوحيد الذاتي‌ّ ؛ فلايبقي‌ منه‌ أي‌ّ اسم‌ ورسم‌ وَالْمُلْكُ يَوْمَنءِذٍ لِلَهِ . وفي‌ ضوء ذلك‌، فإنّ أوليآء الله‌ في‌ كلّ منزل‌ من‌ المنازل‌، وفي‌ كلّ مرحلة‌ من‌ المراحل‌ يتحقّقون‌ بفيوضات‌ ذلك‌ المنزل‌، وتلك‌ المرحلة‌، غاية‌ الامر أنّ ذلك‌ ليس‌ منهم‌، وإنّما هو من‌ الله‌.

 وعندما يصلون‌  إلی‌ الغاية‌ المنشودة‌، أي‌: العبوديّة‌ المطلقة‌ والخالصة‌، ومقام‌ الولاية‌، وارتفاع‌ الحجب‌ النفسانيّة‌ والروحيّة‌ كلّها؛ فلايبقي‌ بينهم‌ وبين‌ المعبود حجاب‌، وهذا هو مقام‌ الولاية‌، فإنّهم‌ عندئذٍ يسمّون‌ ويتّصفون‌ بجميع‌ أسماء الحقّ وصفاته‌ . وهذا هو مقام‌ أوليآء الحقّ سبحانه‌ وتعالی‌ .

 وقد ذكر الكبار من‌ أهل‌ الحكمة‌ في‌ كتبهم‌ فصلاً في‌ مقامات‌ الاولياء؛ بينهم‌ الشيخ‌ الرئيس‌ ابن‌ سينا الذي‌ بسط‌ الكلام‌ حول‌ ذلك‌ عموماً في‌ النمط‌ التاسع‌ من‌ إشاراته‌ . ولمّا كان‌ قصدنا في‌ هذا الكتاب‌ « معرفة‌ الإمام‌ » الحديث‌ عن‌ ولاية‌ الائمّة‌ الطاهرين‌ سلام‌ الله‌ علی هم‌ أجمعين‌ علی وجه‌ الخصوص‌، لذلك‌ نكتفي‌ بمقدار قليل‌ من‌ الآيات‌ والروايات‌ حول‌ آثار الولي‌ّ وصفاته‌ المطلقة‌، حتّي‌ تستبين‌ حالات‌ أُولئك‌ العِظام‌ وصفاتهم‌؛ وحيثما عثرنا في‌ ما بعد علی آية‌ أو حديث‌ في‌ فضائلهم‌ ومناقبهم‌ وكراماتهم‌ ومعجزاتهم‌ الباهرة‌، فلا ننظر  إلیها بعين‌ التأمّل‌، لانّ حالهم‌ حاصل‌ مقامهم‌ ؛ وحالنا حاصل‌ مقامنا .

 كار پاكان‌ را قياس‌ از خود مگير                    گر چه‌ باشد در نوشتن‌ شير شير

 ولمّا كانت‌ أسماء أوليآء الله‌ ورسومهم‌ قد فنيت‌ في‌ ذات‌ الحقّ، فمسك‌ الحقّ زمام‌ أُمورهم‌ بيده‌، فالله‌ هو المتجلّي‌ في‌ الحقيقة‌، إذ تجلّي‌ في‌ مرآة‌ وجودهم‌، وولاية‌ أمرهم‌ مع‌ الحقّ، ولن‌ يتسنّي‌ لاحد أبداً أن‌ يطلّع‌ علی كمالهم‌ النهائي‌ّ والغائي‌ّ، لانـّه‌ قال‌ عزّ من‌ قائل‌:

 وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا . [16]

 الرجوع الي الفهرس

 صفات‌ أوليآء الله‌ ومقاماتهم‌

إنّ أوليآء الله‌ لمّا بلغوا البحر الواسع‌ اللاّ متناهي‌ّ من‌ الرحمة‌، والجود، والوجود؛ فلايلحظ‌ أثر من‌ النقص‌ عندهم‌ ؛ لاَخَوْفٌ علی هِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ فلايخافون‌ فوت‌ شي‌ء منهم‌ علی نحو  إلیقين‌ أو الاحتمال‌ في‌ المستقبل‌؛ ولايأسون‌ علی شي‌ء فقدوه‌ في‌ الماضي‌ . ولو كان‌ لشخص‌ إناء فيه‌ ماء، فإنّه‌ يخاف‌ من‌ احتمال‌ إراقته‌ كلّه‌ أو بعضه‌ في‌ المستقبل‌ ؛ ويأسي‌ علی إراقته‌ في‌ الماضي‌ ؛ لانّ الماء هو رأسمال‌ وجوده‌، وبفقدانه‌، يري‌ أنـّه‌ قد فقد حياته‌ .

 بَيدَ أنّ أوليآء الله‌ يموجون‌ في‌ بحر الرحمة‌ وهم‌ عائمون‌ في‌ ذلك‌ المحيط‌ الخضمّ ؛ متمكّنون‌ في‌ منهل‌ الرحمة‌ وفيض‌ الوجود ؛ مستقرّون‌ في‌ محلّ الامن‌ والامان‌ الامين‌ ؛ فكيف‌ يُتصوّر صدق‌ الفقدان‌ علی هم‌، سواء فيما فاتهم‌ أو فيما سيأتيهم‌؟

 وهل‌ ينقص‌ ماء البحر إذا اغترف‌ منه‌ أحد شيئاً ؟ وهل‌ يزيد إذا أضاف‌  إلیه‌ ماءً ؟ لا يكون‌ ذلك‌ أبداً . وهكذا حال‌ أوليآء الله‌ وصفتهم‌ .

 إنّ أوليآء الله‌ هم‌ وجه‌ الله‌ ؛ فهم‌ باقون‌ ببقاء الله‌ . قال‌ عزّ اسمه‌: مَاعِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَهِ بَاقٍ . [17] وقال‌ تعالی‌:

 كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ . [18]

 إنّ وجه‌ كلّ شي‌ء هو عبارة‌ عمّا يواجهه‌ الإنسان‌ بواسطته‌؛ ووجه‌ الاشياء ليس‌ بمنفصل‌ عنها ؛ ولذلك‌ فإنّ أوليآء الله‌ الذين‌ يمثّلون‌ وَجْهَ اللَهِ متمكّنون‌ في‌ سُبُحات‌ وجه‌ الله‌ من‌ خلال‌ خطواتهم‌ الصادقة‌، ومنصهرون‌ في‌ غمار أنواره‌ ؛ خارجون‌ عن‌ تبعة‌ الاعمال‌، ولا يخصّون‌ بزمان‌ خاصّ أو مكان‌ خاصّ.

 فَأَيْنَمَا تُوَلُّوُا فَثَمَّ وَجْهُ اللَهِ . [19]

 كُلُّ مَنْ علی هَا فَانٍ * وَيَبْقَي‌' وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَـ'لِ وَالإكْرَامِ. [20]

 يتّفق‌ قرّاء القرآن‌ بأجمعهم‌ علی أنّ (ذُو الْجَلاَلِ) مرفوعة‌ نعتاً للوجه‌، لاللربّ. وليس‌ أن‌ يقال‌ إنّها نعت‌ مقطوع‌ علی تقدير هُوَ ؛ لانـّها في‌ مقام‌ نعت‌ الوجه‌، لا نعت‌ الربّ .

 والشاهد علی هذا المعني‌ ما جاء في‌ قوله‌ تعالی‌: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ، وقوله‌: وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ في‌ مقام‌ بيان‌ جمال‌ الاسم‌ وتقديسه‌؛ لاجمال‌ الذات‌ وتقديسها .

 ولمّا كان‌ الإكرام‌ بمعني‌ الجمال‌، فالجلال‌ والإكرام‌ في‌ الآية‌ الشريفة‌ جامعان‌ لصفات‌ الجمال‌ والجلال‌ ؛ ولذلك‌ فلا صفة‌ من‌ صفات‌ الله‌ ال علی ا ولا اسم‌ من‌ أسمائه‌ الحسني‌ خارجاً عن‌ هاتين‌ الصفتين‌ ؛ وأوليآء الله‌ الذين‌ يمثّلون‌ وجه‌ الله‌، ويتصّفون‌ بصفة‌ واسم‌ الجمال‌ والجلال‌ والجميل‌ والجليل‌، يتمتّعون‌ بصفات‌ الحقّ وأسمائه‌ كلّها .

 وقد تمكّنوا في‌ هذه‌ الصفات‌ والاسماء حتّي‌ لم‌ يبق‌ لهم‌ اسم‌ ورسم‌، غير صفات‌ الله‌ وأسمائه‌ . وقد كشف‌ الغطاء ؛ وليس‌ معهم‌ وفيهم‌ سوي‌ اسم‌ وجه‌ الله‌ المتّصف‌ بنعتي‌: الجلال‌ والإكرام‌ .

 وأُثر عن‌ الإمام‌ موسي‌ بن‌ جعفر علی هما السلام‌ قوله‌: لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ حِجَابٌ إلاَّ خَلْقُهُ، فَقَدِ احْتَجَبَ بَغَيْرِ حِجَابٍ مَحجُوبٍ، واسْتَتَرَ بِغَيْرِ سَتْرٍ مَسْتُورٍ ـ الحديث‌ . [21]

 فلا حجاب‌ لاولياء الله‌ إلاّ وجودهم‌ المرآتي‌ّ والآيتي‌ّ، فهم‌ ينتمون‌  إلی‌ الممكن‌ لا الواجب‌ ؛ وطبيعيّاً فنحن‌ نعلم‌ أنّ وجودهم‌ ظلّي‌ّ وتابع‌ ومرآتي‌ّ وشبيه‌ بالمرآة‌، وله‌ معني‌ حرفي‌ّ .

 ومن‌ هذا المنطلق‌، ما جاءت‌ به‌ الرواية‌ المأثورة‌ عن‌ مجي‌ء الملائكة‌ عند قبض‌ روح‌ ولي‌ّ الله‌، وإتيانهم‌ برسالة‌ من‌ الله‌ تبشّره‌ بالجنّة‌، وقد كتب‌ فيها: مِنَ الْمَلِكِ الْحَي‌ِّ الْقَيُّوم‌  إلی‌ الْمَلِكِ الْحَي‌ِّ الْقَيُّومِ ـ الحديث‌.[22]

 وكما قيل‌، فإنّ أوليآء الله‌ في‌ مقام‌ القرب‌، وفي‌ الحجاب‌ الاقرب‌؛ وقد سمّاهم‌ الله‌: المقرّبين‌ ؛ لانـّه‌ ذكرهم‌ ووصفهم‌ باسم‌ السابقين‌، وأثني‌ علی هم‌ بصفة‌ السابقين‌  إلی‌ الخيرات‌ . قال‌ تعالی‌: وَالسَّـ'بِقُونَ السَّـ'بِقُونَ* أُولَـ'´نءِكَ الْمُقَرَّبُونَ . [23] وقال‌: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَــ'بَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَـالِمٌ لِّنَفْسِـهِ وَمِنْهُم‌ مُّقْتَصِـدٌ وَمِنْهُمْ سَـابِقٌ بِالْخَيْـرَ ' تِ بِإِذْنِ اللَـهِ. [24]

 وقد نفي‌ الله‌ عنهم‌ كلّ لون‌ من‌ ألوان‌ الشرك‌ العلمي‌ّ والعملي‌ّ، ووصفهم‌ بأنـّهم‌ من‌ الموقنين‌ بأيات‌ الله‌ والمشفقين‌ منه‌، وعدّهم‌ من‌ المسارعين‌ في‌ الخيرات‌ .

 إِنَّ الَّذِينَ هُم‌ مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم‌ مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم‌ بِـَايَـ'تِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ* وَالَّذِينَ هُم‌ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ .  إلی‌ أن‌ قال‌: أُولَـ'´نءِكَ يُسَـ'رِعُونَ فِي‌ الْخَيْر ' تِ وَهُمْ لَهَا سَـ'بِقُونَ. [25]

 وقد وعد الله‌ المقرّبين‌ أن‌ يرفع‌ عن‌ قلوبهم‌ حجاب‌ الجهل‌ بالنسبة‌  إلی‌ عوالم‌ الغيب‌ ؛ وأن‌ يطلعهم‌ علی أسرار عالم‌ علی ين‌ والمُلك‌ و لملكوت‌. قال‌ جلّ من‌ قائل‌: كَلآ إِنَّ كِتَـ'بَ الاْبْرَارِ لَفِي‌ علی يِنَ * وَمَا أَدْرَي'كَ مَا علی ونَ* كِتـ'بٌ مَّرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ . [26]

 وقد وعدهم‌ الله‌ أن‌ يبدّل‌ وجودهم‌ بحياة‌ خالصة‌ ؛ ويرحمهم‌ بنور معنوي‌ّ يمشون‌ به‌ في‌ الارض‌ . قال‌ تعالی‌: أَوَ مَن‌ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ'هُ وَجَعَلْنَا لَهُ و نُـورًا يَمْشِـي‌ بِهِ فِي‌ النَّاسِ كَمَن‌ مَّثَلُهُ فِـي‌ الظُّلُمَـ'ـتِ لَيْسَ بِخَارجٍ مِّنْهَا. [27]

 الرجوع الي الفهرس

 لاوليآء الله‌ نور إلهي‌ّ

ولاولياء الله‌ نور إلهي‌ّ يعيشون‌ به‌ بين‌ الناس‌ وهم‌ في‌ معاشرتهم‌ ومخالطتهم‌ للناس‌ يتمتّعون‌ بالحواسّ والقوي‌ الربّانيّة‌، وقد ميّزوا بين‌ العلم‌ والجهل‌، والحقّ والباطل‌ والسعادة‌ والشقاء، والإلهامات‌ الرحمانيّة‌ والإلقاءات‌ الشيطانيّة‌، وفرزوا بعضها عن‌ بعض‌ .

 وبيّن‌ الله‌ أنّ هذا النور هو الروح‌ ذو الفهم‌ والعقل‌، وقد جعله‌ لهداية‌ من‌ يشاء من‌ عباده‌ . قال‌ عزّ اسمه‌:

 وَكَذَ ' لِكَ أَوْحَيْنَآ  إلیكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ما كُنتَ تَدْرِي‌ مَا الْكِتَـ'بُ وَلاَالإيمَـ'نُ وَلَـ'كِن‌ جَعَلْنَـ'هُ نُورًا نَّهْدِي‌ بِهِ مَن‌ نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا . [28]

 إنّ الله‌ تبارك‌ وتعالی‌ يهدي‌ أوليآءه‌ بنوره‌ الخاصّ، أي‌ بالنور الذي‌ ينسبه‌  إلی‌ نفسه‌، وهم‌ يستمتعون‌ بهذا النور . قال‌ تعالی‌: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَهِ بِأَفْوَ ' هِهِمْ وَاللَهُ مُتِمُّ نُورِهِ . [29] وقال‌:

 يَـ'´ـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن‌ رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل‌ لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ . [30] وقال‌: أَفَمَن‌ شَرَحَ اللَهُ صَدْرَهُ و لِلإسْلَـ'مِ فَهُوَ علی ‌' نُورٍ مِن‌ رَّبِّهِ . [31]

 الرجوع الي الفهرس

تفسير آية‌ النور، والنور الخاصّ لاوليآء الله‌

 ويهدي‌ الله‌ بهذا النور الخاصّ أفراداً من‌ عباده‌ أكملوا إيمانهم‌ وأصبحوا في‌ عداد الذين‌ يشملهم‌ قوله‌ عزّ من‌ قائل‌: رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَـ'رَةٌ وَلاَبَيْعٌ عَن‌ ذِكْرِ اللَهِ . [32]

 يهدي‌ خاصّة‌ عباده‌ بهذا النور الذي‌ تشرق‌ به‌ السماوات‌ والارض‌؛ وهو نور معنوي‌ّ يختصّ به‌، ويفوق‌ جميع‌ الانوار الموجودة‌ في‌ السماوات‌ والارض‌ علوّاً وغلبةً وقوّة‌ .

 وما أروع‌ وأسمي‌ الآيات‌ الواردة‌ في‌ سورة‌ النور، إذ تتكفّل‌ بشرح‌ هذا النور وكيفيّة‌ نزوله‌ في‌ عالم‌ الإمكان‌ ؛ ومنه‌ يهدي‌ الله‌ خاصّة‌ عباده‌، وقد جعله‌ في‌ بيوت‌ رفيعة‌ عظيمة‌ من‌ حيث‌ الشأن‌ والمنزلة‌ . قال‌: جلّ شأنه‌:

 اللَهُ نُورُ السَّمَـ'وَ ' تِ وَالاْرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَو'ةٍ [33] فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي‌ زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن‌ شَجَرَةٍ مُّبَـ'رَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَغَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيي‌´ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ علی ‌' نُورٍ يَهْدِي‌ اللَهُ لِنُورِهِ مَن‌ يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَـ'لَ لِلنَّاسِ وَاللَهُ بِكُلِّ شَي‌ءٍ علی مٌ * فِي‌ بُيُوتٍ أَذِنَ اللَهُ أَن‌ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ و يُسَبِّحُ لَهُ و فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ* رِجَالٌ لاَّتُلْهِيهِمْ تِجَـ'رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن‌ ذِكْرِ اللَهِ وَإِقَامِ الصَّلَو'ةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَو'ةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاْبْصَـ'رُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم‌ مِّن‌ فَضْلِهِ وَاللَهُ يَرْزُقُ مَن‌ يَّشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ . [34]

 يلاحظ‌ في‌ هذه‌ الآيات‌ أنّ الله‌ قد أخبر بقوله‌: يَهْدِي‌ اللَهُ لِنُورِهِ مَن‌ يَّشَآءُ، وأنـّه‌ قال‌ بأنّ نوره‌ نور السماوات‌ والارض‌ .

 ثمّ جعل‌ لنوره‌ حجابين‌ ؛ وهما من‌ نور أيضاً، ويضيئان‌ من‌ نوره‌؛ وتضي‌ء السماوات‌ والارض‌ منهما أيضاً . أحدهما المشكاة‌ ونورها أقلّ إذ تأخذه‌ ممّا في‌ داخلها ؛ وفي‌ داخلها زجاجة‌ تنير بواسطة‌ المصباح‌ .

 فالمصباح‌ ـ إذَن‌ ـ يشعّ بالنور علی الزجاجة‌ التي‌ هو في‌ داخلها؛ ونور الزجاجة‌ أكثر من‌ نور المشكاة‌، وهو القيّم‌ علی النور . ولعلّ نور الارض‌ مكتسب‌ من‌ المشكاة‌ ؛ ويفوق‌ ذلك‌ نورُ السماوات‌ من‌ الزجاجة‌، لانـّه‌ يقول‌ جلّ شأنه‌: يُدَبِّرُ الاْمْرَ مِنَ السَّمَآءِ  إلی‌ الاْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ  إلیهِ. [35]

 ولم‌ يرد في‌ هذه‌ الآية‌ الشريفة‌ ذكر لما وراء السماوات‌ والارض‌، حتّي‌ يعلم‌ من‌ أين‌ نوره‌ . وكذلك‌ لم‌ يرد ذكر لمواصفات‌ المصباح‌، غير أنـّه‌ قال‌ فقط‌: من‌ شجرة‌ زيتونة‌ مباركة‌ لا شرقيّة‌ ولا غربيّة‌، لتُشرق‌ علی ها الشمس‌ في‌ بعض‌ الاوقات‌، ولا تشرق‌ في‌ بعضها الآخر ؛ وبالت إلی‌ فإنّ ثمرتها ستكون‌ غير طريّة‌ ؛ بل‌ هي‌ تستمتع‌ بنور الشمس‌ المشرقة‌ علی العالم‌ وتؤتي‌ أفضل‌ الاُكل‌ .

 وقال‌ كذلك‌: زيتها يضي‌ء باستمرار ولو لم‌ تمسسه‌ نار .

 ثمّ قال‌: مثل‌ هذه‌ المشـكاة‌ وما في‌ داخلها في‌ بيـوت‌ أذِن‌ الله‌ أن‌ ترفع‌ ويذكر فيها اسمه‌، وبالغدوّ والآصال‌ كناية‌ عن‌ الاستمرار والمواظبة‌، رجال‌ لايلهيهم‌ أمـر من‌ أُمـور الدنيا عن‌ الصـلاة‌ والزكاة‌ والقيام‌ بالاعمال‌ الصالحة‌.

 نعم‌ هؤلاء الرجال‌ هم‌ أوليآء الله‌، لانـّه‌ تعالی‌ يصفهم‌ بقوله‌: إنّهم‌ غيرغافلين‌ عن‌ ذكر الله‌، وعن‌ العمل‌ الصالح‌ . وهم‌ غير محجوبين‌ عن‌ ذكره‌ أبداً، وغير ملتفتين‌  إلی‌ غير الله‌ ؛ بل‌ هم‌ متوجّهون‌  إلی‌ الله‌ فقط‌ ؛ وهذا هو معني‌ الولاية‌، وأصحابها هم‌ أوليآء الله‌ .

 أُولئكم‌ من‌ المخلصين‌ الاطهار الذين‌ قطعوا درجات‌ الإخلاص‌، فبلغوا منزل‌ الخُلُوص‌ ؛ واجتازوا اسم‌ المخلِصين‌ فأصبحوا من‌ المخلَصِين‌.

 الرجوع الي الفهرس

أوليآء الله‌ هم‌ من‌ المخلَصين‌

 إنّ المقرّبين‌ وأوليآء الحقّ تبارك‌ وتعالی‌ هم‌ من‌ المخلَصين‌ لامحالة‌؛ وقد نزلت‌ فيهم‌ آيات‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌ ووصفتهم‌ أوّلاً: بأنـّهم‌ بلغوا مقاماً ودرجة‌ استطاعوا معها، وبسبب‌ القرب‌ وكشف‌ الغطاء، أن‌ يصفوا الله‌ كما هو أهله‌: سُبْحَـ'نَ اللَهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ. [36]

 ثانياً: أنّ ربّهم‌ استثناهم‌ من‌ أهوال‌ يوم‌ القيامة‌، وهولها ودهشتها، من‌ الصَعْقَة‌، والفَزَع‌، ونفخة‌ الصور، والسؤال‌ والحساب‌، والكتاب‌، والوقوف‌، والحضور؛ وذلك‌ لانـّهم‌ اجتازوا هذه‌ المراحل‌ في‌ الدنيا قبل‌ موتهم‌.

 فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ. [37]

 ثالثاً: أنّهم‌ تحرّروا من‌ ربقة‌ الشيطان‌ وأغوائه‌ ومصيدته‌ ؛ فليس‌ له‌ علی هم‌ سلطان‌، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. [38]

 وفي‌ ضوء ذلك‌، فقد صرف‌ عنهم‌ كلّ لون‌ من‌ ألوان‌ الإثم‌ والسوء والفحشاء والمنكر.

 كَذَ ' لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّو´ءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ و مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. [39]

 رابعاً: أنّ جزاء كلّ أحد علی أساس‌ عمله‌ ؛ إلاّ هذه‌ المجموعة‌ التي‌ لاتنال‌ جزاءً حيال‌ عملها ؛ لانـّها لا عمل‌ لها غير الذات‌ الاحديّة‌ المقدّسة‌ جزاءً لها . وَمَا تُجْزَونَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ . إِلاَّ عِبَادَ اللَهِ الْمُخْلَصِينَ.

 أجل‌، لقد كان‌ هذا مِقدَراً ممّا مَنَّ الله‌ به‌ علی أوليائه‌ ؛ وممّا تقدّم‌ أنّ من‌ عنايات‌ الحقّ وفضله‌ علی أوليائه‌: حصول‌ الفناء في‌ ثلاث‌ مراحل‌ الافعال‌، والصفات‌، والذات‌ .

 إنّ أوّل‌ شي‌ء يصل‌ فيهم‌  إلی‌ مرحلة‌ الفناء هو الافعال‌ . وأقلّ شي‌ء فيهم‌ عدّه‌ العلماء في‌ الافعال‌ الفانية‌ ستّة‌ أشياء: المَوْت‌، والحَياة‌، والمَرَض‌، والصحَّة‌، والفَقْر، والغِنَي‌.

 أي‌ أنـّهم‌ في‌ هذه‌ الاشياء الستّة‌ لا يرون‌ فعلاً من‌ أنفسهم‌ أو من‌ غيرهم‌؛ بل‌ يُشاهدون‌ ذلك‌ من‌ الحقّ سبحانه‌، كالذي‌ يري‌ حركة‌، بدون‌ أن‌ يري‌ محرّكها ويشاهده‌ ؛ بَيدَ أنـّه‌ يعلم‌ أنّ لها محرّكاً ؛ وفي‌ هذه‌ الحالة‌، فإنّ الحقّ سبحانه‌ يقوم‌ في‌ مقام‌ أفعالهم‌ ؛ وفعلهم‌ ـ إذَن‌ ـ هو فعل‌ الحقّ عينه‌.

 الرجوع الي الفهرس

 الآيات‌ والروايات‌ الواردة‌ في‌ فناء الفعل‌ في‌ فعل‌ الله‌

وفيما يخصّ التوحيد الافع إلی‌ّ لاولياء الله‌ الملازم‌ للفناء في‌ الافعال‌، فقد جاء في‌ كتاب‌ « التوحيد » للشيخ‌ الصدوق‌ عن‌ الإمام‌ الصادق‌ عليه السلام في‌ الآية‌ الشريفة‌: فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ . [40] قال‌:

 إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتعالی‌ لاَ يَأسَفُ كَأَسَفِنَا وَلَكِنَّهُ خَلَقَ أَوْلِيآءَ لِنَفْسِهِ يَأْسَفُونَ وَيَرْضَوْنَ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ فَجَعَلَ رِضَاهُمْ رَضَا نَفْسِهِ وَسَخَطَهُمْ سَخَطَ نَفْسِهِ .

 وَذَلِكَ لاِنـَّهُمْ جَعَلَهُمُ الدُّعَاةَ  إلیهِ وَالاْدِلاَّءَ علی هِ فَلِذَلِكَ صَارُوا كَذَلِكَ وَلَيْسَ أَنَّ ذَلِكَ يَصِلُ  إلی‌ اللَهِ كَمَا يَصِلُ  إلی‌ خَلْقِهِ وَلَكِنْ هَذَا مَعْنَي‌ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ. وقال‌ بعد ذلك‌: وَقَدْ قَالَ أَيضْاً: مَنْ أَهَانَ لِي‌ وَلِيّاً فَقَدْ بَارَزَنِي‌ بِالْمُحَارَبَةِ وَدَعَانِي‌  إلیهَا .

 وَقَدْ قَالَ أَيضاً: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَهَ. [41]

 وقد قال‌ أيضاً: مَّن‌ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَهَ . [42]

 وكُلُّ هَذا وَشِبْهُهُ علی ما ذَكَرْتُ لَكَ وَهَكَذَا الرِّضَا وَالْغَضَبُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الاْشْيَاءِ مِمّا يُشاكِلُ ذَلِكَ ـ الحديث‌ . [43]

 حقّاً فقوله‌ عليه السلام وكلّ هذا وشبهه‌ إشارة‌  إلی‌ الآيات‌ والروايات‌ الجمّة‌ المأثورة‌ في‌ هذا الحقل‌ ؛ كالآية‌ الشريفة‌:

 وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلـ'كِنَّ اللَهَ رَمَي‌' . [44]

 وقوله‌ تعالی‌: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي‌' * إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي‌'. [45]

 وقوله‌ تعالی‌: لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَيْءٌ . [46]

 وكقول‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه و آله وسلّم‌: فاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي‌ مَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي‌ وَمَنْ آذانِي‌ فَقَدْ آذَي‌ اللهَ ـ الحديث‌ . [47]

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

ارجاعات


[1] ـ الآيات‌ 62 ـ 64 ، من‌ السورة‌ 10 : يونس‌ . 

[2] ـ الآية‌ 119 ، من‌ السورة‌ 4 : النساء . 

[3] ـ الآيتان‌ 29 و 30 ، من‌ السورة‌ 7 : الاعراف‌ . 

[4] ـ الآية‌ 27 ، من‌ السورة‌ 7 : الاعراف‌ . 

[5] ـ الآيتان‌ 29 ، 30 ، من‌ السورة‌ 53 : النجم‌ . 

[6] ـ آيات‌ السورة‌ 102 : التكاثر . 

[7] ـ الآية‌ 28 ، من‌ السورة‌ 18 : الكهف‌ . 

[8] ـ الآية‌ 8 ، من‌ السورة‌ 73 : المزّمل‌ . 

[9] ـ الآية‌ 31 ، من‌ السورة‌ 3 : آل‌ عمران‌ .

[10] ـ «أُصول‌ الكافي‌» طبع‌ الحيدري‌ّ ، ج‌ 2 ، باب‌ العبادة‌ ص‌ 84 . 

[11] ـ «نهج‌ البلاغة‌» ج‌ 2 ، الحكمة‌ 237 . 

[12] ـ «الخصال‌» باب‌ الثلاثة‌ ، الطبعة‌ الحروفيّة‌ ، ص‌ 188 . 

[13] ـ الآية‌ 21 ، من‌ السورة‌ 24 : النور . 

[14] ـ الآيتان‌ 159 و 160 ، من‌ السورة‌ 37 : الصافّات‌ . 

[15] ـ الآية‌ 200 ، من‌ السورة‌ 2 : البقرة‌ . 

[16] ـ الآية‌ 110 ، من‌ السورة‌ 20 : طه‌ . 

[17] ـ الآية‌ 96 ، من‌ السورة‌ 16 : النحل‌ . 

[18] ـ الآية‌ 88 ، من‌ السورة‌ 28 : القصص‌ . 

[19] ـ الآية‌ 115 ، من‌ السورة‌ 2 : البقرة‌ .

 [20] ـ الآيتان‌ 26 و 27 ، من‌ السورة‌ 55 : الرحمن‌ .

 [21] ـ نسخة‌ مخطوطة‌ من‌ رسالة‌ الولاية‌ للاُستاذ الفقيد آية‌ الله‌ العلاّمة‌ الطباطبائي‌ّ رضوان‌ الله‌ عليه‌ و قد استنسختها بخطّي‌ ، ص‌ 32 . 

22] ـ المصدر السابق‌ ، ص‌ 42 .  

23] ـ الآيتان‌ 10 و 11 ، من‌ السورة‌ 56 : الواقعة‌ . 

[24] ـ الآية‌ 32 ، من‌ السورة‌ 35 : فاطر . 

[25] ـ الآيات‌ 57 ـ 61 ، من‌ السورة‌ 23 : المؤمنون‌ . 

[26] ـ الآيات‌ 18 ـ 21 ، من‌ السورة‌ 83 : المطفّفين‌ . 

[27] ـ الآية‌ 122 ، من‌ السورة‌ 6 : الانعام‌ . 

[28] ـ الآية‌ 52 ، من‌ السورة‌ 42 : الشوري‌ . 

[29] ـ الآية‌ 8 ، من‌ السورة‌ 61 : الصفّ . 

[30] ـ الآية‌ 28 ، من‌ السورة‌ 57 : الحديد . 

[31] ـ الآية‌ 22 ، من‌ السورة‌ 39 : الزمر . 

[32] ـ الآية‌ 37 ، من‌ السورة‌ 24 : النور . 

[33] ـ كان‌ الناس‌ في‌ قديم‌ الايّام‌ يستضيئون‌ بالفوانيس‌ التي‌ تُضاء بالزيت‌ أو النفط‌. وكانوا يعملون‌ فتحة‌ في‌ الجدار علي‌ هيئة‌ الرفّ فيضعون‌ الفانوس‌ هناك‌ ، وكانوا يسمّون‌ هذه‌ الفتحة‌ بالكوّة‌ أو المشكاة‌ . 

[34] ـ الآيات‌ 35 ـ 38 ، من‌ السورة‌ 24 : النور . 

[35] ـ الآية‌ 5 ، من‌ السورة‌ 32 : السجدة‌ . 

[36] ـ الآيتان‌ 159 و 160 من‌ السورة‌ 37 : الصافّات‌ . 

[37] ـ الآيتان‌ 127 و 128 ، من‌ السورة‌ 37 : الصافّات‌ . 

[38] ـ الآيتان‌ 83 و 84 ، من‌ السورة‌ 38 : ص‌ . 

[39] ـ الآية‌ 24 ، من‌ السورة‌ 12 : يوسف‌ . 

[40] ـ الآية‌ 55 ، من‌ السورة‌ 43 : الزخرف‌ . 

[41] ـ الآية‌ 10 ، من‌ السورة‌ 48 : الفتح‌ .

 [42] ـ الآية‌ 80 ، من‌ السورة‌ 4 : النساء .

 [43] ـ «التوحيد» للشيخ‌ الصدوق‌،باب‌ 26 ،ص‌ 168 ، 169 ؛وذكر الكليني‌ هذه‌ الرواية‌ أيضاً في‌ «الكافي‌» مسندة‌ عن‌ الإمام‌ الصادق‌،ج‌ 1 من‌ الاُصول‌،الطبعة‌ الحروفيّة‌ الحيدريّة‌،ص‌ 144 .

 [44] ـ الآية‌ 17 ، من‌ السورة‌ 8 : الانفال‌ .

 [45] ـ الآية‌ 3 . 4 ، من‌ السورة‌ 53 : النّجم‌ .

 [46] ـ الآية‌ 128 ، من‌ السورة‌ 3 : آل‌ عمران‌ .

 [47] ـ «بحار الانوار» طبع‌ كمباني‌ ج‌ 10 ، ص‌ 13 . الحديث‌ بهذا اللفظ‌ عن‌ جابر .

تتمة النص

الصفحة الاولي للموقع فهرس الكتب الفهرس الموضوعي الفحص

 

 

.

التعريف و الدليل

كلية الحقوق، محفوظة و متعلقة بموسسة ترجمة و نشر دورة علوم و معارف الاسلام
info@maarefislam.org