وفـي روايـة ابـن مـردويـه كـمـا فـي [مـنـاقب ابن شهر آشوب ] [3: 351]: قال النبي (ص ) لـعـلي :[زوجتك ابنتي فاطمة على ما زوجك الرحمن , وقد رضيت بما رضي اللّه لها, فدونك اهلك , فانك احق بها مني ] وفي خبر: فنعم الاخ انت , ونعم الختن انت , ونعم الصاحب انت . وكفاك برضا اللّه رضـا, فـخـر علي ساجدا شكرا للّه تعالى وهو يقول : (رب اوزعني اءن اشكر نعمتك التي اءنعمت علي ) الاية , فقال النبى (ص ): آمين . فلما رفع راءسه قال النبي :[بارك عليكما, واسعد جدكما, وجمع بـيـنـكما, واخرج منكما الكثير الطيب ]. ثم امرالنبي (ص ): بطبق بسر وامر بنهبه , ودخل حجرة النساء وامر بضرب الدف .
وفـيـه [ص 354] نـقـلا عـن تـاريـخ الـخـطيب البغدادي , وكتاب ابن مردويه . وابن المؤذن , وابـن شـيـرويه الديلمي . باسانيدهم عن علي بن الجعد, عن ابن بسطام , عن شعبة ابن الحجاج ,وعن علوان , عن شعبة , عن ابن حمزة الضبعي , عن ابن عباس وجابر انه : لما كانت الليلة التي زفت فاطمة الـى عـلـي كان النبي (ص ) امامها, وجبرئيل عن يمينها, وميكائيل عن يسارها, وسبعون الف ملك من خلفها, يسبحون اللّه ويقدسونه حتى طلع الفجر.
وفيه [ص 355] ايضا عن كتاب مردويه [فضائل امير المؤمنين ]: ان النبي (ص ) سال ماءفاخذ منه جـرعة فتمضمض بها, ثم مجها في القعب ثم صبها على راسها, ثم قال : [اقبلي ],فلما اقبلت نضح بين ثـديـيـها ثم قال : [ادبري ], فلما ادبرت نضح بين كتفيها, ثم دعا لهما,بقوله (ص ): [اللهم انهما احب خـلـقك الي , فاحبهما وبارك في ذريتهما, واجعل عليهما منك حافظا, واني اعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم ].
وروي انـه (ص ) قال : مرحبا ببحرين يلتقيان , ونجمين يقترنان , ثم خرج الى الباب يقول :[طهركما وطـهـر نسلكما, انا سلم لمن سالمكما, وحرب لمن حاربكما, استودعكما اللّه واستخلفه عليكما].
وبـاتـت عـنـدهـا اسـمـاء بنت عميس اسبوعا بوصية خديجة اليها, فدعالها النبي (ص ) في دنياها وآخـرتها, ثم اتاهما(ص ) في صبيحتهما وقال : [السلام عليكم .ادخل رحمكم اللّه ؟] ففتحت اسماء الباب , وكانا نائمين تحت كساء فقال (ص ): [على حالكما: فادخل رجليه بين ارجلهما, فاخبر اللّه عن اورادهـمـا (تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) الاية فسال عليا: [كيف وجدت اهلك ]؟ قال : [نعم العون عـلـى طـاعـة اللّه ,وسـال فـاطـمة فقالت : [خير بعل ], فقال (ص ): [اللهم اجمع شملهما والف بين قـلـوبـهما,واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم , وارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة , واجعل في ذريتهما البركة , واجعلهم ائمة يهدون بامرك الى طاعتك , ويامرون بما يرضيك ], ثم امربخروج اسماء وقال : [جزاك اللّه خيرا].
وروي انه كان بين تزويج امير المؤمنين وفاطمة في السماء الى تزويجها في الارض اربعون يوما, وزوجـهـا رسول اللّه (ص ) من علي اول يوم من ذي الحجة , وروي انه كان يوم السادس منه , وقيل غير ذلك .

المبحث الحادي والثلاثون

في قوله تعالى : (مرج البحرين يلتقيان # بينهما برزخ لايبغيان ) [الرحمن :19-20].
اخـتلفت اقوال المفسرين , وتباينت آراء المتاولين , في تفسير معنى البحرين في هذه الاية .فمنهم من قـال : بان المراد بالبحرين هما بحر السماء وبحر الارض , ومنهم من قال : هما بحرالروم والفرس .
وقائل منهم بانهما بحر العذب والملح , ومن بينهم من قال : بانهما بحر النبوة والخلافة لورود الخبر فـي ذلـك عـن سـلمان الفارسي وغيره رضي اللّه عنهم , كما ذكره بعض المفسرين والمصنفين في كتبهم منهم :
1 - الطبرسي :
قـال فـي تـفـسيره [مجمع البيان ] [9 - 10: 201 ط . دار احياء التراث العربي - بيروت ] بعد ان ذكـرالاقـاويـل , وكـلـمات اهل التاويل : وقد روي عن سلمان الفارسي , وسعيد بن جبير,وسفيان الـثوري ان البحرين : علي وفاطمة (ع ), بينهما برزخ : محمد(ص ) يخرج منهما اللؤلؤوالمرجان :
الـحـسـن والحسين (ع ), ولا غرو ان يكونا بحرين لسعة فضلهما وكثرة خيرهما.فان البحر انما يـسـمـى بحرا لسعته , وقد قال النبي (ص ) لفرس ركبه واجراه فاحمده : [وجدته بحرا] اي كثير المعاني الحميدة .
2 - ابن شهر آشوب :
قـال فـي كـتابه [مناقب آل ابي طالب ] [3: 318 ط . دار الاضواء - بيروت ]: ذكر الخركوشي [ احمدبن عبدالملك المتوفى سنة 407 ] في كتابيه [اللوامع ] و [شرف المصطفى ] باسناده عن سلمان .
وابوبكر الشيرازي في كتابه عن ابي صالح وابو اسحاق الثعلبي , وعلي بن احمد الطائي ,وابو محمد بن الحسن بن علوية القطان في تفاسيرهم عن سعيد بن جبير, وسفيان الثوري .
وابو نعيم الاصفهاني في [نزول القرآن ] باب [ما نزل من القرآن في امير المؤمنين (ع )] عن حماد بن سلمة عن ثابت عن انس و عن ابي مالك عن ابن عباس .
والـقـاضـي النطنزي عن سفيان بن عيينة عن جعفر الصادق (ع ), واللفظ له . في قوله تعالى :(مرج الـبـحـرين يلتقيان ) قال : علي وفاطمة بحران عميقان , لا يبغي احمدهما على صاحبه . وفي رواية :
بينهما برزخ : رسول اللّه (ص ) يخرج منهما (اللؤلؤ والمرجان ):الحسن والحسين (ع ).
[واخرج ] ابو معاوية الضرير [المتوفى (سنة 195)] عن الاعمش , عن ابي صالح , عن ابن عباس :
ان فاطمة بكت للجوع والعري , فقال النبي (ص ): [اقنعي يا فاطمة بزوجك ,فواللّه انه سيد في الدنيا سيد في الاخرة ], واصلح بينهما, فانزل اللّه : (مرج البحرين يلتقيان ) يقول عزوجل : [انا اللّه ارسلت البحرين : علي بن ابي طالب بحر العلم , وفاطمة بحر النبوة يلتقيان : يتصلان . انا اللّه اوقعت الوصلة بينهما]. ثم قال : (بينهما برزخ ) [اي ]مانع , رسول اللّه (ص ) يمنع علي بن ابي طالب ان يحزن لاجل الـدنـيـا, ويـمـنـع فاطمة ان تخاصم بعلها لاجل الدنيا. (فباي آلاء ربكما) يا معشر الجن والانس (تكذبان ) بولاية امير المؤمنين وحب فاطمة .
(الـلـؤلؤ) الحسن . (والمرجان ) الحسين . لان اللؤلؤ الكبار, والمرجان الصغار, ولا غروان يكونا بـحـرين لسعة فضلهما وكثرة خيرهما, فان البحر سمي بحرا لسعته , واجرى النبي (ص ), فرسا فقال : [وجدته بحرا].
وفي ذلك قال محمد بن منصور السرخسي شعرا:
واراد رب العرش ان يلقى بها ----- شجر كريم العرق والاغصان فقضى فزوجها عليا انه ----- كان الكفي لها بلا نقصان وقضى الاله بان تولد منها ----- ولدان كالقمرين يلتقيان سبطا محمد الرسول وفلذتا ----- كبد البتول كذاك يعتلقان فبنى الامامة والخلافة والهدى ----- بعد الرسالة ذانك الولدان 3 - نور اللّه الحسيني :
قـد اورد الـروايـة الـمذكورة في الجزء التاسع من كتاب [احقاق الحق وازهاق الباطل ] [9: 107 مـنشورات مكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي ]: وذكر فيه ايضا جمعا كثيرين من رجال العلم والتصانيف المعتمدة , وارباب التاليف النفيسة الرشيدة . يروونها في مصنفاتهم ومؤلفاتهم ومنهم :
1 - الـثعلبي روى عن سفيان الثوري في قوله : (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لايبغيان ), قال :
فاطمة وعلي (يخرج منها اللؤلؤ والمرجان ) قال : الحسن والحسين .
2 - العلامة الجليل سبط ابن الجوزي ابو المظفر يوسف الواعظ ابن عبداللّه المتوفى (سنة 654 ه) روى في كتابه [تذكرة خواص الامة ] [ص 54 ط . الغري ].
3 - الحافظ العلامة ابو المؤيد الموفق بن احمد خوارزم الخوارزمي المتوفي (سنة 568 ه).
4 - العلامة الشيخ عبداللّه بن طلحة الشافعي . روى في مناقبه [ص 212].
5 - الـصـفـوري وهو العلامة الشيخ عبدالرحمن بن عبدالسلام الشافعي البغدادي , المتوفى (سنة 884) روى في كتابه [نزهة المجالس ] [2: 229 ط . القاهرة ].
6 - الميبذي اليزدي كمال الدين حسين بن معين الدين المتوفى (سنة 870) روى في كتابه [شرح ديوان امير المؤمنين ].
7 - البدخشي ميرزا محمد بن معتمد خان , روى في كتابه [مفتاح النجافي مناقب آل العبا][ص 13].
8 - الـقـنـدوزي وهـو الـشـيـخ سـلـيـمـان بن الشيخ ابراهيم الحسيني الحنفي المتوفى (سنة 1293)بالقسطنطينية . روى في كتابه [ينابيع المودة ] [ص 408 و ص 118 ط . اسلامبول ].
9 - الـحـافـظ جلال الدين عبدالرحمن بن كمال الدين المصري السيوطي الشافعي المتوفى (سنة 911) روى في تفسيره [الدر المنثور) [6: 142 ط . مصر].
10 - العلامة الامرتسري روى في كتابه [ارجح المطالب ] [ص 70و309ط. لاهور].
11 - الـكـشفي الحنفي وهو العلامة المولى صالح الحسيني المتوفى (سنة 1025) روى في كتابه [المناقب المرتضوية ].
12 - الالوسي , وهو علامة القوم في عصره السيد شهاب محمود الرضوي , المتوفى (سنة1270 ) روى في تفسيره [روح المعاني ] [27: ص 93 ط . مصر].

المبحث الثاني والثلاثون

في قوله تعالى : (واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم # ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وارنا مناسكنا وتب علينا انك انت التواب الرحيم ) [البقرة : 127 - 128].
فـقد ابدى العياشي في تفسيره - في ما ذكره الطباطبائي في تفسيره [الميزان [ ]1:299] في الاية 125 مـن سورة البقرة - ما خفي على كثير من المفسرين من جواهر معاني هذه الاية الكريمة لبعد غـورها وترامي مراميها ومغزاها. فلا شك لكل ذي انصاف في ان ذلك ممايعرب عن علو مكانته في الـعـلـم , واتـساع مراتبه في استخراج ماصانته ظاهر الايات من جواهرها المكنونة , ما قصر عن بلوغها ونيلها كل ذي باع طويل , وفضل في العلم جزيل ,فلا غرو ان ذلك غاية امل الباحث المتحقق الاريب , ومنية المهتدي المتبصر الاديب ,ونور ظاهر يستضي ء به ذوو التحقيق , للاهتداء الى سبل السلام وسواء الطريق , واللّه اعلم فهو ولي الهداية والتوفيق .
وذلـك انـه لما شاءت الاقدار ان تظهر ما بطن من الحكمة المكنونة , ما تفضل بها اللّه المولى الكريم عـلـى هـذه الامة . سئل ابو عبداللّه سليل صاحب الرسالة الخاتمة عن امة محمد التي هي خير اءمة .
فـاجـاب (ع ) بقوله : [اءمة محمد(ص ) هم بنو هاشم خاصة ], فقال السائل : فماالحجة في امة محمد انهم اهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم ؟ قال : قول اللّه فقرا(ع ) الاية المذكورة الى آخرها ثم قال :
[فـلـما اجاب اللّه دعوة ابراهيم واسماعيل وجعل من ذريتهماامة مسلمة , وبعث فيها رسولا منهم , يعني من تلك الامة , يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة , وردف [في ] دعوته الاولى دعـوتـه الاخـرى فـسـال لـهم تطهيرامن الشرك ومن عبادة الاصنام ليصح امره فيهم ولا يتبعوا غيرهم ], فقال : (واجنبني وبني ان نعبد الاصنام # رب انهن اضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فانه مني ومـن عـصـانـي فـانك غفور رحيم ). ففي هذا دلالة على انه لا يكون الائمة والامة المسلمة التي بعث فيها محمد الا من ذرية ابراهيم , لقوله : (اجنبني وبني ان نعبد الاصنام ) انتهى .
وجـاء صـاحـب الـمـيـزان مبينا في هذا المقام ببيان شاف وقول واف بقوله : استدلاله (ع ) في غاية الـظـهور, فان ابراهيم (ع ) انما سال امة مسلمة من ذريته خاصة , ومن المعلوم من ذيل دعوته (ربنا وابـعـث فيهم رسولا) الخ , ان هذه الامة المسلمة هي امة محمد(ص ) لكن لاامة محمد بمعنى الذين بـعث اليهم , ولا امة محمد بمعنى من آمن بنبوته , فان هذه الامة اعم من ذرية ابراهيم واسماعيل , بل امـة مسلمة هي من ذرية ابراهيم (ع ) ثم سال ربه ان يجنب ويبعد ذريته وبنيه من الشرك والضلال وهي العصمة .
ومـن الـمـعلوم ان ذرية ابراهيم واسماعيل وهم [عرب مضر وقريش خاصة ] فيهم ضال ومشرك , فمراده من بنيه في قوله تعالى : (واجنبني وبني ان نعبد الاصنام ) اهل العصمة من ذريته خاصة , وهم النبي وعترته الطاهرة [اي الذين لم يسجدوا لصنم قط] فهؤلاء هم امة محمد في دعوة ابراهيم (ع ) ولعل هذه النكتة هي الموجبة للعدول عن لفظ الذرية الى لفظالبنين .
ويؤيده قوله تعالى : (فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم ) الاية . حيث اتى بفاء التفريع واثبت من تبعه جزءا من نفسه , وسكت عن غيرهم كانه ينكرهم ولايعرفهم .
ثم اردف المؤلف :
فـان قـلـت : لـو كان المراد بالامة في هذه الايات ونظائرها كقوله تعالى : (كنتم خير امة اخرجت لـلـناس ) [آل عمران : 11] عدة معدودة من الامة دون الباقين كان لازمه المجاز في الكلام من غير موجب يصحح ذلك , ولا مجوز لنسبة ذلك الى كلامه تعالى , على ان كون خطابات القرآن متوجهة الى جميع الامة ممن آمن بالنبي ضروري لا يحتاج الى اقامة حجة .
قلت : اطلاق امة محمد وارادة جميع من آمن بدعوته من الاستعمالات المستحدثة بعدنزول القرآن وانـتـشـار الدعوة الاسلامية , والا فالامة بمعنى القوم , كما قال تعالى : (على امم ممن معك ) [هود:
48] وربـمـا اطلق على الواحد كقوله تعالى : (ان ابراهيم كان امة قانتاللّه ), [النحل : 120] وعلى هذا فمعناها من حيث السعة والضيق يتبع موردها الذي استعمل فيه لفظها, او اريد فيه معناها.
فـقـوله تعالى : (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك ) الاية . والمقام مقام الدعاء بالبيان الـذي تـقـدم , لا يـراد بـه الا عدة معدودة ممن آمن بالنبي (ص ) وكذا قوله تعالى : (كنتم خير امة اخـرجـت لـلناس ) وهو في مقام الامتنان وتعظيم القدر وترفيع الشان , لا يشمل جميع الامة , وكيف يشمل فراعنة هذه الامة ودجاجلتها الذين لم يجدواللدين اثرا الا عفوه ومحوه , ولا لاوليائه عظما الا كسروه .
وسـيـجي ء, تمام البيان في الاية ان شاء اللّه , فهو من قبيل قوله تعالى لنبي اسرائيل : (واني فضلتكم عـلـى الـعـالمين ) [البقرة : 47] فان منهم قارون ولا تشمله الاية قطعا, كما ان قوله تعالى : (وقال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذه القرآن مهجورا) [الفرقان : 30] لايعم جميع هذه الامة . وفيهم اولياء القرآن , ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه تعالى .

المبحث الثالث والثلاثون

فـي قـولـه تـعـالى : (وكذلك جعلناكم اءمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) [البقرة : 143].
ان اللّه جـعـل هـذه الامة شهداء على الناس , وهذا جلائل من الكرامات والاكرام التي تكرم بها اللّه عـزوجـل عـلـيها, ولكن الذي يهمنا معرفته من هذا, هل هذه الكرامة عامة بافراد هذه الامة بحيث يكون كل شخص منها شهيدا على الناس ؟ ام مختصة ببعضها؟فيفهم من مضمون العبارة : [بنسب وصف البعض الى الكل , لكون البعض فيه ومنه ](77).
وثبت ما اقره العقل من بين مختلفات الاراء والنظريات في البحث عما تضمنته هذه الاية الكريمة في هذا المقام الهام , وما تكنه هذه العبارة من المراد التام . ما شرحه صاحب تفسير[الميزان ] [1: 324]:
ومـن ذلك قوله (ع ) فالمراد بكون الامة شهيدة , ان الشهادة فيهم . كما ان المراد بكون بني اسرائيل فـضلوا على العالمين ان هذه الفضيلة فيهم , من غير ان يتصف كل واحد منهم , بل نسب وصف البعض الى الكل لكون البعض فيه ومنه , فكون الامة شهيدة هو ان فيهم من يشهد على الناس ويشهد الرسول عليهم .
واورد الـسـيـد الـطـبـاطـبـائي ايـضـا فـي بحثه الروائي من تفسيره هذه الاية من طريق اهل الـسنة والجماعة في شهادة الامة على الناس وشهادة النبي عليهم : ان الامم يوم القيامة يجحدون تبليغ الانبياء, فيطالب اللّه الانبياء بالبينة على انهم قد بلغوا [هو اعلم ] فيؤتى بامة محمدفيشهدون , فتقول الامـم : مـن ايـن عـرفـتم ؟ فيقولون : عرفنا ذلك باخبار اللّه تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق . فيؤتى بمحمد ويسال عن حال امته , فيزكيهم ويشهدبعدالتهم , وذلك قوله تعالى : (فكيف اذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاءشهيدا) [النساء: 41]. ثم ذكر المؤلف ايضا مصرحا بان هـنـاك اخبارا تؤيد الخبر المذكور قدنقلها السيوطي وغيره , من تزكية رسول اللّه لامته وتعديله اياهم .
فـقال باثره : لعله يراد به تعديله لبعضهم دون جميعهم , والا فهو مدفوع بالضرورة الثابتة من الكتاب والسنة , وكيف تصحح او تصوب هذه الفجائع التي لا تكاد توجد, ولاانموذجة منها واحدة من الامم الـماضية ؟ وكيف يزكي ويعدد فراعنة هذه الامة وطواغيتها؟ فهل ذلك الا طعن في الدين الحنيف ؟ ولعب بحقائق هذه الملة البيضاء.
ثـم اورد مـا فـي الـمـناقب في هذه المعنى عن الباقر(ع ) انه قال : [ولا يكون شهداء على الناس الا الائمـة والـرسل , واما الامة فغير جائز ان يستشهدها اللّه , وفيهم من لا تجوز شهادته على حزمة بقل ].
ونـقـل عن تفسير العياشي ايضا عن الصادق (ع ) في قوله تعالى : (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الـرسـول عـلـيكم شهيدا) الاية . فان ظننت ان اللّه عنى بهذه الاية جميع اهل القبلة من الموحدين , افترى ان من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة , ويقبلها منه بحضرة جميع الامم الماضية ؟ كلا, لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه . [ولكن ] يعني الامة التي وجبت لها دعـوة ابراهيم [في قوله تعالى :] (كنتم خير اءمة اءخرجت للناس ) وهم الامة الوسطى , وهم خير امة اءخرجت للناس .

المبحث الرابع والثلاثون

في قوله تعالى : (ثم اءورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) [فاطر: 32].
اخـتـلفت آراء العلماء وتباينت افهامهم في معرفة المصطفين من العباد الذين يرثون الكتاب , فاتى كل واحد منهم بما ارتاه , كما هو المعلوم في كتب التفاسير.
قـال الـطـبرسي في تفسيره [مجمع البيان ] [4: 526 ط . مؤسسة التاريخ العربي - بيروت ] بعد سـرده الاقـاويـل الـمـتـضـاربـة , روي عن الباقر والصادق (ع ) انهما قالا: [هي لنا خاصة وايانا عنى ],وهذا اقرب الاقوال لانهم احق الناس بوصف الاصطفاء والاجتباء وايراث علم الانبياء, اذ هم المتعبدون بحفظ القرآن وبيان حقائقه , والعارفون بجلائله ودقائقه .انتهى .
وقد اتفق هذا القول مع اقوال بعض اعيان المؤرخين ومشاهير المفسرين البارعين منهم :
مـحمد جواد مغنية في كتابه [الشيعة في الميزان ] [ص 258 ط . دار التعارف - بيروت ] فانه قد ذكـررواية الامام علي بن موسى الرضا(ع ) في محضر العلماء على اختلاف مذاهبهم وفرقهم الذين جمعهم المامون العباسي ليتدارسوا ويتناقشوا في الفقه والحديث والفلسفة وغيرها,وحين ذاك القى المامون عليهم السؤال : من هم المصطفون المعنيون بقوله تعالى : (ثم اورثناالكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)؟ قال العلماء غير الامام : انهم امة محمد بكاملها.
قال المامون للامام الرضا(ع ): ما تقول انت يا ابا الحسن ؟ قال الامام : انه اراد العترة الطاهرة دون غيرهم .
قال المامون : وما الدليل على ذلك ؟ قـال الامـام : لـو اراد اللّه عزوجل بهذه الاية الكريمة جميع المسلمين كما قال العلماء لحرمت النار على كل مسلم وان فعل ما فعل , لانه تعالى لا يعذب احدا اصطفاه , والثابت بضرورة الدين خلاف ذلك .
و ان من يعمل مثقال ذرة خيرا يره , وان من يعمل مثقال ذرة شرا يره , هذا الى ان آيات القرآن الكريم يـفـسـر بـعضها بعضا, كما ان الاحاديث النبوية هي تفسير وبيان لكتاب اللّه , وفي الكتاب والحديث دلائل وشواهد على ان المرادبقوله تعالى : (ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا), هم العترة الطاهرة منها:
1 - قـولـه تـعالى : (انما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا)[الاحزاب :
32]. فـقد دلت الاية على ان اهل البيت هم المطهرون من الرجس , وبديهة ان المصطفين مطهرون , فاهل البيت اذن هم المصطفون دون غيرهم .
2 - قـول الرسول الاعظم : [اني مخلف فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حـتـى يردا علي الحوض ], وما دام الكتاب ملازما للعترة ولم يفترق عنها بحال , اذن هي التي ترثه , وهي التي خصها اللّه بالقرب والاصطفاء.
3 - قـولـه تعالى : (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءناوابناءكم ونساءنا ونـسـاءكـم وانـفـسـنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين )[آل عمران : 61] فالذين اخـتارهم اللّه هنا في هذه الاية واصطفاهم للمباهلة هم بالذات الذين اصطفاهم وعناهم في آية (ثم اورثنا الكتاب ) ولا يختلف اثنان , ان المراد بانفسنا:علي , وابناءنا الحسن والحسين , ونساءنا فاطمة , وهذه خاصة لا يتقدمهم فيها احد,وفضل لا يلحقهم به بشر. وشرف لا يسبقهم اليه مخلوق .
4 - ان الـنـبـي (ص ) سـد ابواب الصحابة جميعا التي كانت على مسجده الا باب علي , حتى تكلموا واحـتجوا, وقالوا فيما قالوا: يا رسول اللّه ابقيت عليا واخرجتنا؟. فقال : [ما اناابقيته واخرجتكم , ولـكـن اللّه سـبـحـانـه هو الذي ابقاه واخرجكم ], فكما اخرج اللّه الناس هناك وابقى عليا, كذلك اخرجهم من آية : (ثم اورثنا الكتاب ) وابقى العترة الطاهرة .
5 - قـوله تعالى : (وآت ذا القربى حقه ) [الاسراء: 26], فقد نص صراحة على ان لاهل البيت حقا خاصا بهم , لايشاركهم فيه احد, وما ذاك الا لان اللّه سبحانه قد اصطفاهم على الامة جمعاء.
6 - ان اللّه عـزوجـل لـم يـبـعث نبيا الا اوحى ان لا يسال قومه اجرا على تبليغ رسالته , لان اللّه سبحانه هو الذي يوفيه اجر الانبياء, الا محمدا فان اللّه امره ان يجعل اجره مودة قرابته , بطاعتهم ومـعـرفة فضلهم . فقد حكى عن نوح انه قال : (ويا قوم لا اسالكم عليه مالا ان اجري الا على اللّه ) وحكى عن هود انه قال لقومه : (قل لا اسالكم عليه اجرا ان اجري الا على الذي فطرني ).
اما محمد فقد قال بامر ربه : (قل لااءسالكم عليه اءجرا الا المودة في القربى ) [الشورى : 20].واذا كـان وجـوب الـمـودة مـيـزة خـاصة بال الرسول دون غيرهم من آل الانبياء, فكذلك ارث الكتاب والاصطفاء ميزة خاصة بهم دون غيرهم .
7 - قـولـه تعالى : (واعلموا انما غنمتم من شي ء فاءن للّه خمسه وللرسول ولذي القربى )[الانفال :
41] فـقـد جـعـل اللّه سـبحانه الال في حيز, والناس في حيز دونهم , ورضي لهم مارضي لنفسه , واصـطفاهم على الخلق , فبدا بنفسه ثم ثنى برسوله ثم بذي القربى في كل ماكان من الفي ء والغنيمة وغير ذلك , وهذا فضل للال دون الامة .
8 - قوله تعالى : (فاسالوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ) [النحل : 43]. واهل البيت هم اهل الذكر, لانهم عدل القرآن بنص حديث الثقلين .
9 - قـوله تعالى : (وامر اهلك بالصلاة واصطبر عليها) [طه : 132]. قال الامام الرضا(ع ):ان اللّه تـبـارك وتعالى قد امرنا مع الناس باقامة الصلاة في قوله : (اقيموا الصلاة ) ثم خصنا من دونهم بهذه الاية الكريمة , فكان رسول اللّه بعد نزولها ياتي الى باب علي وفاطمة عند حضور كل صلاة خمس مـرات . ويـقول : [الصلاة يرحمكم اللّه ]. ولم يكرم احدا من ذراري الانبياء بمثل هذه الكرامة التي اكرمنا بها.
10 - ان اللّه سبحانه وتعالى قال : (سلام على نوح في العالمين ) [الصافات : 79], وقال :(سلام على ابراهيم ) [الصافات : 109]وقال : (سلام على موسى وهارون ) [الصافات :120],ولم يقل سلام على آل نـوح , ولا سلام على آل ابراهيم , ولا سلام على آل موسى ولكنه قال عز من قائل : (سلام على آل يس ) ويس هو محمد بالاتفاق , واذا خصهم اللّه بالسلام فقد خصهم ايضا بارث الكتاب والاصطفاء.
وجـاء فـي الـحديث ان المسلمين سالوا محمدا(ص ) كيف نصلي عليك يا رسول اللّه ؟ قال : [تقولون :
اللهم صل على محمدوآل محمد).
وبعد ان انتهى الامام من حديثه الطويل , قال العلماء والمامون للامام : جزاكم اللّه خيرااهل البيت عن امة جدكم . فانا لا نجد بيان ما اشتبه علينامن الحق الا عندكم .
وقال صاحب تفسير [الميزان ] [17: 45] في تفسير الاية الكريمة :
واخـتلفوا في هؤلاء المصطفين من عباده من هم . فقيل : هم الانبياء, وقيل هم بنو اسرائيل الداخلون فـي قـوله تعالى : (ان اللّه اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين ) [آل عمران :
33], وقـيـل هـم : امـة محمد اورثوا القرآن من نبيهم , اليه يرجعون , وبه ينتفعون , علماؤهم بلا واسطة , وغيرهم بواسطة . وقيل هم : العلماء من الامة المحمدية .
وقـيـل , وهـو الـمـاثـور عـن الـصـادقـيـن (ع ), فـي روايات كثيرة مستفيضة : ان المراد بهم ذريـة الـنـبـي (ص ), مـن اولاد فـاطـمـة (ع ) وهم الداخلون في آل ابراهيم في قوله تعالى : (ان اللّه اصـطـفى آدم ونوحا وآل ابراهيم ), وقد نص النبي (ص ) على علمهم بالقرآن واصابة نظرهم فـيـه , ومـلازمـتهم اياه , بقوله في الحديث المتواتر المتفق عليه . [اني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعـتـرتي اهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ]. واورد في [ص 49]من نفس المصدر عن الكافي باسناده عن احمد بن عمر قال : سالت ابا الحسن الرضا(ع )عن قول اللّه عزوجل : (ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) قال : ولدفاطمة (ع ), والسابق بالخيرات الامام , والمقتصد العارف بالامام , والظالم لنفسه الذي لايعرف الامام .

المبحث الخامس والثلاثون

فـي قـوله تعالى : ( يا ايها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف ياتي اللّه بقوم يحبهم ويحبونه اذلـة على المؤمنين اءعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم ) [ المائدة :
54 ]:
كثرت الاقاويل وتباينت التاويل , في مورد نزول هذه الاية الشريفة . التي تتضمن الاوصاف الحميدة , والـخـصال المجيدة , التي قل من يتصف بها من كبار الصحابة فضلا عن غيرهم من المؤمنين , ما عدا المهدي المنتظر, كما في قول بعضهم , نظرا الى حرف الاستقبال وهي [سوف ].
فـمنهم من زعم انها نزلت في ابي بكر, ومنهم من قال بنزولها في الانصار, ومنهم من رآى انها نزلت فـي ابي موسى الاشعري وقومه , ومنهم من ذهب الى انها نزلت في الفرس , ومنهم من راى انها نزلت فـي امـيـر المؤمنين علي (ع ) ثم انه لما اختلفت آراؤهم واقوالهم فبطبيعة الحال تضاربت حججهم ايضا.
وامـا مـن قال ان الاية نزلت في ابي بكر, فحجتهم بانه هو الذي حارب المرتدين , ولكن تلك الحجة غـير ناهضة امام مخالفيهم , لما يرون انه من يوم نزول تلك الاية الى ان استولى على الخلافة لم يكن يـحارب المرتدين , فلهذا استشكل عظيم المفسرين الامام الرازي ارادة ابي بكر في هذه الاية , كما قال الامام المظفر الشيخ محمد حسن في كتابه [دلائل الصدق ] [2: 194].
وامـا الـقول باصدار ابي بكر جيشا تحت قيادة خالد بن الوليد الى بني يربوع الذين كان في طليعتهم مالك بن نويرة لكونهم مرتدين , فليس من الممكن القطع بالحكم على ردتهم بمقتضى الشرع . ومن باب اولى , اذا كان القول بكفرهم مراعاة او دفاعا عن ان تمس كرامة احد من الناس , على ان هنالك محلا لـلنظر, قد عرف من له اقل المام بواقعة يوم البطاح وتبصر, فانهم لا يزالون مقيمين للصلاة جماعة مع اولئك القوم الذين يبيتون لهم ,اليس معنى الردة الخروج عن الاسلام والرجوع الى الكفر؟ وامـا مـن حـيـث امساكهم زكاة اموالهم فللعالم المتثبت مجال للاحتمال على ان يستبعد من ان يكونوا بوجوبها من الجاحدين , فليس من المحال ان يحتمل انهم اجتهدوا وتاولوا في تفسير قوله تعالى : (خذ مـن اءمـوالـهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)(78) فراءوا اءن المامورباخذ الزكاة واستلامها هو الرسول (ص ) وقد توفاه اللّه , ولم يتحقق ويتعين عندهم الاولى الذي استحق الولاية من بعده (ص ) حتى تسلم اليه .
ومـن الـغريب البعيد عن مدار الحقيقة والتحقيق ان يقال بان قاتلي مالك قد اتصفوابالاوصاف القيمة , المذكورة في الاية الكريمة , فان هذه المزعمة مما لا يشك في ان اساسهامحض الجهل او جهل في كـذب , او الـكـذب المبني على العصبية الممنوعة في الشريعة المحمدية , لما لا يخفى على الباحث الـمـتـبصر المستقيم , ما وقع بين خالد وبين مالك وزوجته ما يتكدر من ذكره صفاء كل قلب منصف سـليم , فحسبك نزر يسير ليكون ذلك منك على بال , منه قولة لعمر بن الخطاب التي وجهها الى خالد مـقـسـمـا: واللّه لارجمنك , وقوله ايضا لابي بكر: ان خالدا قد زنى فارجمه , وقد حلف ابو قتادة الانصاري - وكان وقتذاك مع خالد - ان لا يكون ابدا تحت لواء عليه خالد.
وقد كفى للعاقل اللبيب بما جرى بين خالد وبين عمر وابي قتادة ان يتخذه مقياسا وميزاناللاعتبار, فليستوح من عقله ليتبين له المصيب من المخطى ثم ليقض ما هو قاض .
وعلى ذلك كله , اعني فيما تقدم ذكره , فان لخالد واقعة اخرى في ايام حياة الرسول (ص )وذلك حين بـعـثـه الـى بـني جذيمة , داعيا لا محاربا. وكانت جذيمه قد قتلت الفاكه بن المغيرة [عم خالد] في الجاهلية , فلما ورد عليهم قال لهم :
ضـعوا سلاحكم فان الناس قد اسلموا, فوضعوا اسلحتهم , فامر بهم فكتفوا ثم عرضهم على السيف , فـقـتل منهم مقتلة عظيمة , فلما انتهى الخبر الى النبي (ص ) رفع يده الى السماءوقال : اللهم اني ابرا اليك مما صنع خالد [مرتين ](79).
وفي [الفصول المهمة ] [هامش 14 ص : 58] عن ابن الاثير في كامله (80): ثم ارسل عليا, ومعه مال وامـر ان ينظر في امرهم فودى لهم الدماء والاموال , حتى انه ودى ميلغة الكلب , وبقي معه من المال فـضلة , فقال لهم : هل بقي لكم مال اودم لم يود؟ قالوا: لا, قال (ع ): فاني اعطيكم هذه البقية , احتياطا لرسول اللّه (ص ) ففعل , ثم رجع الى النبي (ص ) فقال (ص ):اصبت واحسنت .
فـاما من قال بان نزول هذه الاية في الانصار, فحجتهم في ذلك : بان المراد بالاية النصرة ,فهم الذين نـصـروا الـرسـول ووازروه فاختصت بهم , ولكن لم يرد في ذلك حديث يستدل به على صحة هذا الـقـول , على ان المهاجرين قد شاركوهم في النصرة . فكيف تكون هذه الاية مختصة بالانصار دون غـيـرهم ؟ فظهر بطلان تطبيق هذه الاية على الانصار, اذ لم يكن تطبيقهم الا تطبيقا نظريا محضا كتطبيق من قال بنزولها في ابي بكر.
ولا تنطبق هذه الاية ايضا على الفرس واهل اليمن ولا على ابي موسى الاشعري , لماتتضمن فيها من الاوصـاف التي لم يتعين ظهورها وثبوت مجموعها فيهم , ككمال الشجاعة والحزم واللين للمؤمنين , وعلو العزة على الكافرين , والشدة عليهم في نصرة الدين ,والتفاني في اعلاء كلمة الحق وتشييد ملة سـيد المرسلين . فان هذه الصفات ما تجمعت وظهر جلها الا لامير المؤمنين علي (ع ) بحيث لا يخاف في اللّه لومة لائم وخصوصا في قوله تعالى : (يحبهم ويحبونه ) فلا يتعين قط الا له (ع ), كما نطقت بـذلـك الـكتب والدفاتر, وايده الخبر المتواتر, مما لا يمكن لاحد ان ينازع ويدافع استحقاقه ذلك , ومن الخبر المتفق مع هذه الاية الشريفة ما رواه امام المحدثين البخاري , وذلك بعد ان انهزم قوم بعد قـوم , مـرة بـعـد اخرى , وكان القائد منهم يجبن الناس ويجبنونه , فقال النبي (ص ): لاعطين الراية غـدارجـلا يـحـب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله كرارا غير فرار, لا يرجع حتى يفتح اللّه عـلـى يده فاعطاه الراية . وقد جاء ايضا ما يدل على محبته عزوجل لامير المؤمنين وجماعته رضي اللّه عـنـهم ما رواه الترمذي (81) وحسنه , وابن عبد البر في الاستيعاب ان رسول اللّه (ص ) قال :
[ان اللّه امـرنـي بحب اربعة واخبرني انه يحبهم قيل : يا رسول اللّه سمهم لنا.قال (ص ): علي منهم [يقول ذلك ثلاثا] وابو ذر والمقداد وسلمان امرني بحبهم واخبرني انه يحبهم ]. ويؤيد ما قلناه ايضا قـول رسـول اللّه (ص ) منذرا لقريش بقتال علي من بعده ,وذلك حين جاء سهل بن عمرو في جماعة منهم , فقالوا للنبي (ص ): يا محمد ان ارقاءنالحقوا بك فارددهم الينا, فقال لهم النبي (ص ): [لتنتهن يا مـعـشر قريش , او ليبعثن اللّه عليكم رجلا يضربكم على تاويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله ].
فـقـال بـعـض اصـحـابـه : مـن هو يا رسول اللّه , ابو بكر؟ قال (ص ): لا, ولكنه خاصف النعل في الحجرة .وكان علي يخصف نعل رسول اللّه (ص ).
وفي رواية احمد وابن جرير كما في الكنز [6: 396] عن علي (ع ) قال : جاء النبي (ص ) اناس من قريش فقالوا: يا محمد انا جيرانك وحلفاؤك , وان اناسا من عبيدنا قد اتوك , ليس بهم رغبة في الدين ولا رغـبـة في الفقه انما فروا من ضياعنا واموالنا فارددهم الينا. فقال (ص )لابي بكر: [ما تقول ]؟ قـال : صـدقوا انهم لجيرانك واحلافك , فتغير وجه رسول اللّه (ص ) ثم قال لعمر: [ما تقول ]؟ قال :
صـدقوا انهم لجيرانك وحلفاؤك , فتغير وجه رسول اللّه (ص )فقال (ص ): [يا معشر قريش , واللّه لـيبعثن اللّه عليكم رجلا قد امتحن اللّه قلبه بالايمان فيضربكم على الدين او يضرب بعضكم ]. فقال ابو بكر: انا يا رسول اللّه ؟ قال : [لا], قال عمر: انا يا رسول اللّه ؟ قال : لا, ولكنه الذي يخصف النعل وكان اعطى عليا نعلايخصفها(82).
وفـي روايـة احمد في مسنده [3: 33 / 82] والحاكم في المستدرك [3: 133] فان النبي (ص ) قال :[ان منكم من يقاتل على تاويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ].
قال ابو بكر وعمر: انا هو؟ قال : [لا ولكنه خاصف النعل ].
وفـي الاسـتيعاب (83) في ترجمة علي قال (ص ) لوفد ثقيف حين جاءه : [لتسلمن او لابعثن رجلا مني , [او قال : مثل نفسي ] فليضربن اعناقكم وليسبين ذراريكم , ولياخذن اموالكم ]. قال عمر: فواللّه ماتمنيت الامارة الا يومئذ, وجعلت انصب صدري له رجاء ان يقول : هو هذا. فالتفت [النبي (ص )] الى علي (ع ) فاخذ بيده ثم قال : [هو هذا, هو هذا].
وهل بقي لذوي الانصاف ادنى شك بعد ورود هذه الاخبار الصريحة في انه وقومه غيرداخلين في عموم هذه الاية التي نحن بصددها؟ فضلا عن ان تكون نازلة بهم .
واللّه اعلم والموفق للصواب .

المبحث السادس والثلاثون

في قوله تعالى : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ) [ البقرة : 37 ].
اخـتـلـفت اقوال المفسرين وتباينت آراؤهم في تفسير معنى [الكلمات ] التي في هذه الاية الشريفة , حيث تكون لشيخ النبيين آدم (ع ) سببا في الفوز بالتوبة والسعادة الابدية من ربه عزوجل .
فمنهم من راى انهن مناسك الحج .
وقد استبعد البعض منهم ذلك الراي , لعدم انسجامها مع معناها اللغوي . اذ المناسك من جنس الاعمال .
وذهـب بـعـضهم كما في [الدر المنثور] للامام الجليل عبد الرحمن السيوطي , الى ان الكلمات التي تـلقاها آدم من ربه من جملة الدعوات والمناجاة كقوله : (ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ), كما اخرجه الثعلبي وابن المنذر وابن جرير.
واخـرج ابن عساكر والبيهقي في شعب الايمان بان الكلمات هي قوله (ع ): لا اله الاانت عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني انك انت التواب الرحيم .
وذكـر انه عن النبي (ص ), ولكن شك فيه . وذكر ايضا في تفسيره المذكور ما اخرجه الديلمي في [فـردوس الاخبار] رواية ذكر فيها هبوط آدم (ع ) بالهند, وحواء بجدة ,وبكاؤه على خطيئته مائة سـنـة حـتـى بعث اللّه جبريل (ع ) وقال له : عن اللّه عزوجل ما قال حتى قال اخيرا: فعليك بهؤلاء الكلمات فان اللّه قابل توبتك وغافر ذنبك , قل : اللهم اني اسالك بحق محمد وآل محمد سبحانك لا اله الا انـت عـمـلـت سوءا وظلمت نفسي فتب علي انك انت التواب الرحيم . فهؤلاء الكلمات التي تلقاها آدم (ع ).
وامـا مـا ذكـره مـن روايـة الـخـطيب في اماليه وابن عساكر ايضا انه (ع ) لما امره اللّه بالهبوط الـى الارض هـبـط مـسودا, فبكت الارض وضجت فاوحى اللّه اليه بالصيام . الى آخر الرواية فلا مناسبة بينها وبين الكلمات المذكورة في هذه الاية .
وهـناك روايات كثيرة مليئة باعترافاته (ع ) وتاسيه وما قاساه من سوء احواله ما لم تكن صالحة لان تـكـون مـرادفة لمعنى الكلمات , ولا قابلة لمفهوم معنى التلقي لكونها من الاعمال والاحوال , كالامر بالاقلال من الكلام والاكثار من السكوت , وما هنالك من الاخبار مايطول المقام بذكرها.
ولـعـل الاقـرب الى مستوى الافهام من الروايات في نظر الاخرين ما ذكره عن ابن النجارعن ابن عـبـاس قال : سالت رسول اللّه (ص ) عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه فقال (ص ): [سال بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ].
وقـد اخـرج هـذا الحديث ايضا الفقيه الحافظ الخطيب ابو الحسن علي بن محمد الواسطي الشافعي الـشـهير بابن المغازلي في مناقبه [ص 63 ط. منشورات المكتبة الاسلامية -طهران ] مسندا,قال :
اخـبرنا احمد بن محمد بن عبد الوهاب اجازة , اخبرنا ابو احمد عمر بن عبيداللّه بن شوذب حدثنا مـحـمـد بـن عثمان قال : حدثني محمد بن سليمان بن الحارث , حدثنا محمد بن علي بن خلف العطار, حـدثـنـا حسين الاشقر, حدثنا عمرو بن ابي المقدام , عن ابيه , عن سعيد بن جبير, عن عبداللّه بن عـبـاس قـال : سئل النبي (ص ) عن الكلمات التي تلقا(84) آدم من ربه فتاب عليه , قال : [ساله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين الا تبت علي ,فتاب عليه ].
وقـد اخـرج ايـضا هذا الحديث بعينه الامام الحافظ سليمان بن ابراهيم القندوزي الحنفي في كتابه [ينابيع المودة ] [ص 97].