فهرس القسم الثاني

منهاج الإصلاح

وضع الإمام (عليه السلام) خطته الإصلاحية الشاملة، وقد انصب جل اهتمام الإمام (عليه السلام) على إصلاح شؤون الإدارة والاقتصاد والحكم كما قدمنا.

ومن خلال ذلك العمل الإصلاحي الكبير حظيت الأمة عبر مسيرتها الجديدة التي اختطها لها أمير المؤمنين (عليه السلام)، بمعطيات جمة ذات مردودات عظيمة لصالح الأمة والمسيرة بشكل عام، نذكر منها ما يلي:

أولاً: استعانة الإمام (عليه السلام) بجهاز من الولاة والموظفين لإدارة دفة الحياة الإسلامية يعدّ أفراده نموذجاً في مستواهم الروحي والفكري والالتزامي: كعثمان بن حنيف، ومحمد بن أبي بكر، ومالك الأشتر وسواهم.

على أن تلك النماذج الخيرة من الرجال، وإن كانوا في مستوى لائق في الفكر والعمل والقدرة الإدارية والقيادية، إلا أن الإمام (عليه السلام) قد زودهم بخط هادية ومناهج راشدة، يهتدون بها في حياتهم العملية، وفي علاقاتهم مع مختلف قطاعات الأمة التي يباشرون قيادتها.

فهو يلزم ولاته بالنصح لعباد الله، وإشاعة العدل بينهم ومعاملتهم باللين والحب، والتجاوز عن كل مظاهر الاستعلاء التي يعري بها المنصب غالباً والحيلولة دون تأثير ذوي النفوذ الاجتماعي في مسيرة العدالة الإسلامية على حساب القطاعات الاجتماعية الأخرى، ونحو ذلك من مستلزمات إشاعة العدل وإقامة الحق بين الناس.

وهذه نماذج من خططه في هذا المضمار:

«.. فأخفض لهم جناحك وألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإن الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وأن يعف فهو أكرم..»(1).

«سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك، وإياك والغضب فإنه طيرة من الشياطين، واعلم إن ما قربك من الله يباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك من النار»(2).

هذه صورة من توجيهات الإمام (عليه السلام) التي ألزم ولاته بالعمل على ضوئها في حياتهم العملية.

ومن نافلة القول أن نشير إلى أن الإمام (عليه السلام) بالرغم من اهتمامه

بانتقاء العناصر الكفوءة والورعة فإنه كان يحرص على الإحاطة بأساليبهم في معاملة الأمة من خلال مراكزهم القيادية باستعانته بجهاز من الرقباء والعيون ليرى مدى طاعة الولاة وتنفيذهم لقواعد العدالة الإسلامية، فإذا بدا من أحدهم خطأ أو تقصير، بادر الإمام إلى تقويم سلوكه بالوسائل التربوية تارة وبالتهديد أو بالعزل إذا لزم الأمر، وهذه نماذج من وسائله تلك:

فقد بلغه أن عثمان بن حنيف (رض) واليه على البصرة دعاه بعض شخصيات أهل البصرة إلى مأدبة، فخشي الإمام (عليه السلام) أن تستميله تلك الوسائل أو سواها فينحرف عن خط العدالة الإسلامية المرسوم فيميل في أحكامه أو يجور في قضائه ومعاملته للأمة، فكتب إليه كتاباً جاء فيه: «أما بعد، يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم، عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقتضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه، فالفظهُ وما أيقنت بطيب وجوهه، فنل منه..

ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد..»(3).

وقد كتب إلى مصقلة الشيباني عامله على (أردشير خرّة) مهدداً ومتوعداً (بلغني عنك أمر أن كنت فعلته، فقد أسخطت إلهك وعصيت إمامك: إنك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقاً لتجدن لك عليّ هواناً، ولتخفَّنَّ عندي ميزاناً، فلا تستهن بحق ربك، ولا تطمح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالاً»(4).

وكتب إلى أحد عماله يقول: «أما بعد فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك، بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فأرفع إليَّ حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس..»(5).

وكما كان الإمام (عليه السلام) يخطط للولاة ويزودهم بنصائحه الهادية، كان يرسم الخطط كذلك لقادة جيوشه، ويوضح لهم معالم الطريق، وما ينبغي عليهم فعله عند مواجهة العدو.

فكان (عليه السلام) ينهاهم عن البغي، ويأمرهم بعدم إثارة الحرب من جانبهم، وإنما ينبغي التسلح بالصبر وضبط النفس، وأن يكونوا في بداية المواجهة كما لو كانوا مدافعين فحسب، فإذا اعتدى عليهم فقد قامت الحجة لصد العدوان، فإذا قدر وانتصروا على عدوهم فلا يباح أن تحملهم نشوة الظفر على عدوهم إلى ملاحقة جنوده الهاربين من القتال، أو الذي لا يملك منهم سلاحاً يدافع به عن نفسه، كما لا يجوز قتل الجرحى، أو الإساءة إلى النساء، وإن بدأن الإساءة بسب أو شتم أو نحوه.

وهذه بعض وصاياه (عليه السلام) لجيوشه:

«.. لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم فإنكم بحمد الله على حجة وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً(6) ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى، وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم..»(7).

«.. ألا وإن لكم عندي ألا أحتجز دونكم سراً إلا في حرب، ولا أطوي دونكم أمراً إلا في حكم، ولا أوخر لكم حقاً عن محله، ولا أقف به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء، فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، وألا تنكصوا عن دعوة ولا تفرطوا في صلاح وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق..»(8).

وبالنظر للأهمية البالغة التي يحتلها جهاز جباية الأموال في الدولة الإسلامية حيث تشكل الحقوق العامة في ملكية الأفراد عنصراً هاماً من عناصر الاقتصاد الإسلامي، فإن حق الجماعة في الملكيات الخاصة يوفر ضمانة كبرى لمساعدة الدولة الإسلامية على تغطية نفقاتها الكبرى على الصعيد الاجتماعي والعسكري وغيرهما من جوانب الحياة العامة.. أقول بالنظر لأهمية جهاز الجباية هذا فقد أولاه الإمام (عليه السلام) عناية فائقة لا من أجل أن يجمع أكبر نصيب من المال أبداً، وإنما من أجل أن ينخرط –ذلك الجهاز– في مسيرة العدالة الإسلامية المثلى التي جسدها الإمام (عليه السلام) في حياة الناس.. فكان الإمام حريصاً على أن يلتزم موظفوا ذلك الجهاز بأقصى درجات العدل والفضيلة والنبل، والشعور بالمسؤولية فليست مهمتهم في نظر الإمام (عليه السلام) أن يجمعوا المال من أجل المال، وإنما ينبغي عليهم ان يلتزموا الحق في تعاملهم مع الأمة وان يعكسوا عدالة الإسلام لمن يلتقون بهم من الناس، فلا ينبغي أن يغضبوا أحداً من الناس، ولا يسيؤوا معاملة أحد، ولا يضربوا إنساناً من أجل درهم مثلاً، ولا يجوز أن يعتدوا على مال امرئ من المسلمين أو من غيرهم ممن يتمتع بحق التابعية للدولة الإسلامية.

كما لا يجوز أبداً أن يبيعوا كسوة إنسان أو دابته من أجل استيفاء المال، ولا يحق لأحد الجباة أن يردع أحداً أو يستوفي أكثر من حق الله في ماله، ولا ينبغي أن يستعلي على الناس أو يبخل عليهم بالتحية أو اللطف والمرونة في معاملتهم إلى غير ذلك من وصاياه (عليه السلام).

وهذه صور من مناهجه في هذا المضمار:

«.. فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة ولا تحسموا أحداً عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعُنَّ للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا عبداً،

ولا تضربنَّ أحداً سوطاً لمكان درهم ولا تمسَّنَّ مال أحد من الناس مصلٍّ ولا معاهد..»(9).

«.. انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروعَنَّ مسلماً ولا تجتازنَّ عليه كارهاً، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج(10) بالتحية لهم. ثم تقول: عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل الله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه..؟»(11).

ثانياً: تجسيد المخطط الإسلامي للعدالة الاجتماعية بأجلى صورة وأدق تفصيلاته.

إذا كانت جميع جوانب الجهاز الحكومي في الدولة الإسلامية قد تناولتها يد الإصلاح، فحققت أرقى النماذج التي يصبو إليها الإنسان، فإن الإمام (عليه السلام) قد خطا في سبيل تحقيق أفضل صورة للعدالة الاجتماعية وفقاً للتصورات الإسلامية التفصيلية.

فقد شهد المجتمع الإسلامي بجميع قطاعاته وقواه عدالة رائدة كالتي شهدها أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) في منطلقاتها وأبعادها.

وفيما يلي شواهد من تلك التجربة التاريخية المشعة التي تفيأت الأمة ظلالها:

أ - رفق وتعاهد:

فقد شهدت قطاعات الأمة جميعاً صوراً من التعاهد لأمرها والرفق بها ورعاية شؤونها، والتسوية في العطاء بين جميع حملة التابعية للدولة الإسلامية التي تجسدها هذه النصوص: «المال مال الله يقسم بينكم بالسوية لا فضل لأحد على أحد».

«وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً»(12).

أقول إلى جانب هذا وذاك، شهدت الأمة التي قادها أمير المؤمنين (عليه السلام) بمختلف قطاعاتها من ألوان التدبير لشؤونها، والرعاية لأمورها، والحدب عليها ما حقق لها القوة والسعادة وهذه صور منها:

عن الحكَم قال:

«شهدت علياً، وأتى له بزقاق من عسل، فدعا اليتامى وقال: ذوقوا، والعقوا، حتى تمنيت أني يتيم، فقسمه بين الناس وبقي منه زق، فأمر أن يسقاه أهل المسجد»(13).

وعن هارون بن عنترة عن زاذان قال: انطلقت مع قنبر غلام علي (عليه السلام) فإذا هو يقول: قم يا أمير المؤمنين فقد خبأت لك خبيئاً.

قال (عليه السلام): وما هو، ويحك!!

قال: قم معي..

فقام فانطلق به إلى بيته، وإذا بغرارة مملوءة ما جامات ذهباً وفضة، فقال: يا أمير المؤمنين، رأيتك لا تترك شيئاً إلا قسمته فادخرت لك هذا من بيت المال.

فقال علي (عليه السلام): ويحك يا قنبر، لقد أحببت أن تدخل بيتي ناراً عظيمة ثم سلَّ سيفه، وضربها ضربات كثيرة، فانتثرت.. ثم دعا بالناس، فقال: اقسموه بالحصص، ثم قام إلى بيت المال، فقسم ما وجد فيه، ثم رأى في البيت إبراً ومسال فقال: ولتقسموا هذا..»(14).

وعن الحكَم قال: إن عليا قسم فيهم الرمّان حتى أصاب مسجدهم سبع رمانات، وقال: أيها الناس أنه يأتينا أشياء نستكثرها إذا رأيناها، ونستقلها إذا قسمناها، وإنا قد قسمنا كل شيء أتانا.

قال: وأتته صفائح فضة فكسرها، وقسمها بيننا.

وعن علي بن ربيعة قال: جاء ابن التياح إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء.

فقال علي: الله أكبر، ثم قام متوكئاً على يد ابن التياح، فدخل بيت المال وهو يقول:

هذا جناي وخياره فيه وكل جان يده إلى فيه(15).

ثم نودي في الناس، فأعطى – علي – جميع ما في بيت المال وهو يقول: «يا بيضاء، ويا صفراء، غري غيري».

حتى لم يبق فيه درهم ولا دينار، ثم أمر بنضحه، فصلى فيه ركعتين (عليه السلام).

وكان لشدة حرص الإمام (عليه السلام) على الأمة لرفع غائلة الفقر والظلم عنها أنه التزم السير –عبر أيام خلافته عليها– وفقاً للنهج الآتي: «.. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع. أو أبيت مبطاناً، وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى؟

أأقنع من نفسي بأن يقال هذا: أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟»(16).

رقابة دقيقة لوضع السوق:

ولقد كان الإمام علي (عليه السلام) حريصاً على تجسيد العدالة الاقتصادية في كافة مرافق الحياة الإنسانية ومن أجل ذلك فقد التزم خطة لمراقبة السوق من ناحية البيع والشراء وطبيعة ما يعرض للبيع، للحيلولة دون التطفيف في المكاييل والتلاعب بالأسعار أو الغش، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كل بكرة يطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً، ومعه الدرة على عاتقه، وكان لها طرفان، وكانت تسمى السبيبة، فيقف على سوق فينادي:

يا معشر التجار قدموا الاستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا عن الكذب، واليمين، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا و«أوفوا المكيال والميزان

بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين»(17).

وعن أبي النوار قال:

رأيت علياً (عليه السلام) وقف على خياط، فقال له: يا خياط صلّب الخيط، ودقق الدرز، وقارب الغرز، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول «يؤتى يوم القيامة بالخياط الخائن وعليه قميص ورداء مما خاطه، وخان فيه، فيفتضح على رؤوس الأشهاد».

ثم قال: «يا خياط إياك والفضلات والسقطات فإن صاحب الثوب أحق بها..»(18).

هكذا جسد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المخطط الإسلامي للعدالة الاجتماعية بأدق صورها، وهكذا عامل الأمة بالرفق والحب فعاش آمالها وآلامها حتى قطفت أروع ثمارات العدل في تاريخها كما كانت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) سواء بسواء.

ج- حياته المتواضعة:

تبيين الإمام علي (عليه السلام) سياسة نكران الذات لصالح الأمة وذلك بالزهد الصادق بكل ما يطمع به الطامعون من مال وملذات وزخرف، فلقد عاش أمير المؤمنين في بيت متواضع لا يختلف عما يسكنه فقراء الأمة، وكان يأكل الشعير تطحنه امرأته أو يطحنه بيده سواء في ذلك قبل خلافته، وبعدها:

وكان يلبس أخشن لباس وأبسطه وكان مبدؤه الثابت في هذا المضمار:

«.. ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه»، «فوالله، ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهن من عفصة مقرة»(19).

وبمقدورنا أن نلمس سياسة الإمام (عليه السلام) هذه مع نفسه من خلال المصاديق التالية:

عن هارون بن عنترة عن أبيه قال:

دخلت على علي بالخورنق، وهو في فصل شتاء، وعليه خلق قطيفة.

فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً، وأنت تفعل هذا بنفسك!!

فقال (عليه السلام) والله ما أرزؤكم –أنقصكم– شيئاً، وما هي إلاّ قطيفتي التي أخرجتها من المدينة»(20).

وقد خاطبه عاصم بن زياد يوماً بقوله: (يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك!).

فأجابه علي (عليه السلام):

«ويحك إني لست كأنت. إن الله تعـــالى فرض على أئمـــة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلـــاً يتبيَّغ بالفقير فقرة»(21).

وعن سويد بن غفلة قال دخلت على علي (عليه السلام) يوماً وليس في داره سوى حصير رث وهو جالس عليه.

فقلت: يا أمير المؤمنين أنت ملك المسلمين والحاكم عليهم وعلى بيت المال، وتأتيك الوفود وليس في بيتك سوى هذا الحصير؟

قال (عليه السلام): يا سويد إن البيت لا يتأثث في دار النقلة وأمامنا دار المقامة، وقد نقلنا إليها متاعنا، ونحن منقلبون إليها عن قريب(22).

وها هو علي يخرج سيفه ليبيعه في السوق كي يشتري بثمنه أزاراً، وهو أمير المؤمنين وزعيم الأمة الإسلامية الذي تجبى إليه الأموال من جميع بقاع العالم الإسلامي.

فعن أبي رجاء قال: أخرج علي (عليه السلام) سيفاً إلى السوق فقال: «من يشتري مني هذا؟ فوالذي نفس علي بيده لو كان عندي ثمن إزار ما بعته!!!

فقلت له: أنا أبيعك إزاراً وأنــسوك ثمنه إلى عــــطائك، فدفعت إليه إزاراً إلى عطائه، فلما قبض عطاءه دفع إلـــيّ ثمن الإزار(23).

إنه (عليه السلام) لا يأخذ من فيئهم شيئاً، وإن قدَّر له الخروج من بلدهم، فلا يخرج إلا بالذي جاء به من المدينة المنورة: راحلته ورحله وغلامه.

فعن بكر بن عيسى قال: كان علي (عليه السلام) يقول: «يا أهل الكوفة، إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي، ورحلي وغلامي فلان، فأنا خائن».

فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع، وكان يطعم الناس منها الخبز واللحم، ويأكل هو الثريد بالزيت.

ولشدة حرصه (عليه السلام) على سلوك سبيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عدله وزهده أشار عقبة بن علقمة قال دخلت على علي (عليه السلام) فإذا بين يديه لبن حامض، آذتني حموضته، وكسر يابس.

فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأكل مثل هذا؟

فقال لي: يا أبا الجنوب، كان رسول الله يأكل أيبس من هذا، ويلبس أخشن من هذا، وأشار إلى ثيابه، فإن أنا لم آخذ بما أخذ به خفت ألاّ ألحق به(24).

ولعظيم إيثاره للأمة على نفسه ما رواه عبد الله بن الحسين بن الحسن (عليهم السلام) قال: أعتق علي (عليه السلام) في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألف مملوك مما عملت يداه، وعرق جبينه.

ولقد ولي الخلافة، وأتته الأموال فما كان حلواه إلاّ التمر ولا ثيابه إلاّ الكرابيس(25).

وعن سفيان الثوري عن عمر بن قيس قال: روّي عن علي (عليه السلام) إزار مرقوع، فعوتب في ذلك، فقال:

«يخشع له القلب، ويقتدي به المؤمن»(26).

ولقد بلغ في شدة زهده (عليه السلام) ونكرانه لذاته ابتغاء لوجه الله تعالى ما يتجلى عبر عبارته «.. والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قيل لي: إلا تستبدل بها غيرها؟ فقلت للقائل: «ويحك أعزب، فعند الصباح يحمد القوم السري»(27).

هذه بعض بنود منهاج علي (عليه السلام) مع نفسه وهي تمثل إحدى روافد العدالة الإسلامية التي جسدها الإمام علي (عليه السلام) في دنيا الناس أسوة برسول الله (صلى الله عليه وآله).

د - مساواة أهل بيته بسائر الناس:

أما منهاج أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي سلكه في أهل بيته وقرابته فلم يكن بعيداً عن منهاجه مع نفسه إلاّ من حيث الدرجة، فقد كان مبنياً على أساس مساواتهم بالأمة في الحقوق والواجبات، بل إن الذي يتحملونه من مهام من أجل حماية الرسالة والمسيرة أكثر بكثير مما ينالون من حقوق...

كان الإمام (عليه السلام) حريصاً على معاملة ذويه في مسألة الحقوق كما لو كانوا من عامة الناس، فلا يفضلهم بعطاء، ولا يميزهم بحق، فلقد سلكَ معهم أسلوب التدريب والإعداد للعمل بمنهاجه معهم، بل كان يبدو شديداً مع بعضهم من أجل أن ينتهج الخط الذي رسمه الإمام (عليه السلام) لمتعلقيه وأهل قرابته.

وهاك صوراً من منهاجه ذلك:

قال مسلم صاحب الحنا:

«لما فرغ علي (عليه السلام) من أهل الجمل أتى الكوفة، ودخل بيت المال، ثم قال: يا مال غرَّ غيري، ثم قسمه بيننا، ثم جاءت ابنة للحسن أو للحسين (عليهما السلام) فتناولت منه شيئاً، فسعى ورائها ففك يدها ونزعه منها، فقلنا: يا أمير المؤمنين إن لها فيه حقاً، قال (عليه السلام) إذا أخذ أبوها حقه فليعطها ما شاء»(28).

وروى هارون بن سعيد قال: قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، لو أمرت لي بمعونة أن نفقة، فوالله ما لي نفقة إلا أن أبيع دابتي!!

فقال الإمام (عليه السلام) لا والله، ما أجد لك شيئاً إلاّ أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك..(29).

وقد جاءه أخوه عقيل –وكان ضريراً– يوماً يطلب صاعاً من القمح من بيت مال المسلمين –زيادة على حقه– وظل يكرر طلبه على علي (عليه السلام) فما كان من الإمام أمير المؤمنين إلا وأحمى له حديدة على النار وأدناها منه، ففزع منها عقيل ثم وعظه (يا عقيل أتئن من حديدة أحماها أنسانها للعبة وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى..)(30).

وعن أبي صادق عن علي (عليه السلام): إنه تزوج ليلى، فجعلت له حجلة، فهتكها، وقال:

حسب آل علي ما هم فيه.

وعن الحسن بن صالح بن حي قال:

- بلغني أن علياً تزوج امرأة فنجّدت –زينت– له بيتاً، فأبى أن يدخله(31).

وعن كلاب بن علي العامري قال:

زفت عمتي إلى علي (عليه السلام) على حمار بأكاف تحتها قطيفة، وخلفها قفه معلقة(32)!!

هكذا كان منهاج علي (عليه السلام) مع أهل بيته وذوي قرابته لا يفرط من أجلهم بحق من حقوق المسلمين، بل يعمل كان ما من شأنه على رفع مستواهم باتجاه مبادئه في الزهد، ونكران الذات في سبيل الله تعالى، ولصالح مجموع الأمة.

ولقد كان منهجه واضحاً كل الوضوح لا لبس فيه ولا غموض ولا يخضع لعاطفة أو مساومة أبداً «.. والله لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً أو أجر في الإغلال مصفداً أحب إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام. وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها..»(33).

وهذا السبيل الذي اختاره الإمام (عليه السلام) إنما يمثل أحد مصاديق العدل الاجتماعي الشامل الذي حرص أمير المؤمنين (عليه السلام) على تجسيده واقعاً حياً في دنيا الناس. 

 

1 - من عهده (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر، نهج البلاغة ص383 تبويب د. صبحي الصالح. 

آس: ساو بينهم. حيفك لهم: ظلمك من أجلهم. 

2 - وصيته إلى عبد الله بن عباس حين استخلفه على البصرة نهج البلاغة، د. صبحي الصالح رقم 76.

سع الناس: أشملهم برعايتك في كل جانب من جوانب الحياة.

طيرة: طيش وخفة.

3 - نهج البلاغة تبويب د. صبحي الصالح ص416.

مأدبة طعام: طعام دعوة أو عرس.

يستطاب لك: يطلب لك طيبها.

الألوان: أصناف الطعام.

الجفان: جمع جفنة وهي القصعة.

العائل: المحتاج.

المجفو: مطرود (من الجفاء)

قضم: أكل بطرف أسنانه.

المقضم: المأكل.

الفظه: اطرحه، لا تأكله.

الطمر: الثوب البالي.

طعمه: ما يطعمه ويفطر عليه.

قرص: رغيف خبز.

السداد: الإحتراز من الخطأ.

4 - المرجع السابق ص415 أعتمامك: اختارك وأصله أخذ العيمة: وهي خيار المال.

5 - المرجع السابق ص412 جردت الأرض: إشارة إلى الخيانة بتخريب الأراضي.

6 - المعور: الذي عجز عن حماية نفسه أثناء الحرب.

7 - نهج البلاغة، وصيته (عليه السلام) رقم 14 ص373، د. صبحي الصالح.

8 - نفس المصدر من كتاب له إلى أمراء جيشه رقم 50 ص424. 

9 - نهج البلاغة من كتاب له إلى أعماله على الخراج رقم 51 تبويب د. صبحي الصالح. 

10 - لا تخدج بالتحية : لا تبخل بالسلام عليهم والسؤال عن أحوالهم. 

11 - نهج البلاغة كتاب لمن يستعمله على الصدقات رقم 25. 

12 - روائع نهج البلاغة : جورج جرداق ص163. 

الخزامة : حلقة من شعر توضع في وترة أنف البعير يشد بها زمامه ويسهل قياده. 

13 - أنساب الأشراف للبلاذري ج2 ص136. 

14 - شرح النهج تح/ محمد أبو الفضل إبراهيم ط/ 13978 هـ ج1، ص198 و199.

15 - مثل يضرب، أراد به الإمام (عليه السلام) أنه لم يصب شيئاً من مال المسلمين بل وضعه في مواضعه. تذكره. 

الخواص: سبط انب الجوزي ص117. 

16 - نهج البلاغة من كتاب له إلى عثمان بن حنيف رقم 45 ص418. 

17 - من سورة هود/ 85، راجع بحار الأنوار ج41 ص104 من آمالي الصدوق وتذكرة الخواص ص134 وأنساب الأشراف للبلاذري ج2 ص129 مع اختلاف يسير في الألفاظ. 

18 - تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي ص125. 

19 - كتابه لعثمان بن حنيف نهج البلاغة رقم النص45، التبر: فتات الذهب والفضة قبل الصياغة. 

الوفر: المال الطمر: الثوب الخلق البالي. أتان دبرة: التي عقر ظهرها فقل أكلها.

20 - تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي ص121 وعبقرية الإمام للعقاد ص16 ط. بيروت 1967. 

21 - نهج البلاغة تبويب د. صبحي الصالح رقم 209 ص324.

يتبيغ: يستبد به ألم الفقر. 

22 - تذكرة الخواص ص68. 

23 - شرح في نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2 ص200. 

24 - المرجع السابق ص201. 

25 - نفس المرجع ص202. 

26 - تذكرة الخواص ص121. 

27 - المرجع السابق ص125. المدرعة: ثوب صوفي غليظ. 

28 - أنساب الأشراف ج2 ص132. 

29 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2 ص200. 

30 - بحار الأنوار ج40 باب 98 ومناقب آل أبي طالب ج1 في المسابقة بالزهد. 

حجلة: ستر يضرب للعروس في الليل. 

31 - نفس المصدر. 

32 - نفس المصدر. 

أكاف: كساء يوضع على ظهر الدابة، الفقه: إناء من خوض النخل. 

33 - نهج البلاغة رقم النص 224.