فهرس القسم الثالث

توطئة

كنا قد تناولنا في القسم الأول من دراستنا هذه لحياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) دور رسول الله (صلى الله عليه وآله) في إعداد شخصية الإمام علي (عليه السلام) والإشراف المباشر على تشكيل عناصرها، منذ طفولته.. حتى صارت شخصية الإمام (عليه السلام) نسخة ثانية طبق الأصل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فكراً وعقيدة وسلوكاً فيما عدا الرسالة ومستلزماتها..

ولقد وصف الإمام (عليه السلام) طبيعة خضوعه لذلك اللون من الإعداد الرسالي وصفاً دقيقاً بقوله «.. وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره، وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطئة في فعل.

ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله) من لدن إن كان فطمياً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم: ليله ونهاره.

ولقد كنت أتبعه: اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة، وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي، وأشم ريح النبوة.

ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله).

فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟

فقال: «هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك لوزير وإنك لعلي خير..»(1).

فهذا النص الكريم إضافة إلى ما حفظه لنا التاريخ من سيرة الإمام (عليه السلام) يجسد لنا بعمق وقوة المدى الذي كان الإمام (عليه السلام) قد حظي به في مضمار الإعداد الرسالي المخطط الذي خصه رسول الله (صلى الله عليه وآله) به. تهيئه له للنهوض بأعباء المرجعية الفكرية والسياسية في الأمة.

وقد بدأ ذلك الإعداد الرسالي من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) منذ نعومة أظفاره فهو ربيبه الذي فتح عينيه في حجره، وهيأ له من فرص التفاعل معه وسلوك نهجه في الحياة ما لم يتوفر لأحد سواه.

وبالإضافة إلى ما كان قد خص به الإمام (عليه السلام) من لدن الرسول (صلى الله عليه وآله) أيام الطفولة والصبا من رعاية وتبن وتربية، الأمر الذي ألمحنا إليه في الحلقة الأولى من هذه الدراسة فإن الإعداد الرسالي للإمام (عليه السلام) منذ الدعوة المباركة، وحتى آخر ساعة من حياة

رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد اتسع مداراً وازداد شمولاً وأصبح أكثر تركيزاً.

والشواهد من حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) متظاهرة في هذا المضمار: فضلاً عن حرص الإمام (عليه السلام) على الاقتداء به بأقصى درجات الاقتداء وأصدقها وأكثرها أمانة، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يخصه بفكر الرسالة وحقائقها ومتطلباتها، ويمده بالمزيد من الثقافة الإلهية.

وكان (صلى الله عليه وآله) يختلي بالإمام (عليه السلام) الساعات الكثيرة آناء الليل والنهار ليعمق وعيه لمفاهيم الرسالة ومشاكل المهمة التغييرية التي بدأها رسول الله في الواقع الإنساني، وأساليب العمل من أجل إكمال ما بدأه الرسول (صلى الله عليه وآله).

روى النسائي عن عبد الله بن عمرو بن هند الجملي عن علي (عليه السلام) قال: «كنت إذا سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطيت، وإذا سكت ابتدأني»(2).

وعن ابن عباس عن علي (عليه السلام) قال «كان لي من النبي (صلى الله عليه وآله) مدخلان: مدخل بالليل، ومدخل بالنهار».

وعن أبي سعيد الخدري قال: كانت لعلي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخلة لم تكن لأحد من الناس».

وعن عبد الله بن يحيى عن علي (عليه السلام) قال «كنت أدخل على نبي الله (صلى الله عليه وآله) كل ليلة، فإن كان يصلي سبح، فدخلت، وإن لم يكن يصلي إذن لي فدخلت(3).

وعن أم سلمة قالت «والذي تحلف به أم سلمة أن أقرب الناس عهدا برسول الله (صلى الله عليه وآله) علي (عليه السلام).. لما كان غدوة قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأرسل إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) -قالت- «وأظنه بعثه في حاجة» فجعل يقول: جاء علي؟ –ثلاث مرات– فجاء قبل طلوع الفجر فلما أن جاء عرفنا أن له إليه حاجة، فخرجنا من البيت وكنا عند رسول الله يومئذ في بيت عائشة، وكنت في آخر من خرج من البيت، ثم جلست من وراء الباب، فكنت أدناهم إلى الباب، فأكب عليه علي (عليه السلام)، فكان آخر الناس به عهداً، فجعل يساره ويناجيه»(4).

ولقد كانت حصيلة ذلك الإعداد الرسالي الخاص من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن رشحت الرسالة الإلهية الإمام علياً (عليه السلام) لاحتلال موقع المرجعية الفكرية والسياسية للأمة الإسلامية.

وقد عبر الإسلام الحنيف عن ذلك الترشيح بشتى الوسائل التعبيرية المباشرة، مجسداً مؤهلات علي (عليه السلام) لأمامة الأمة المسلمة تارة، ومعلناً تارة أخرى إسناد الإمامة له رسمياً:

فضائل علي (عليه السلام) من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله):

وهذه بعض مؤهلات الإمام (عليه السلام) كما تطرحها النصوص الصحيحة:

1- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «مثل علي فيكم كمثل الكعبة..»(5)

فحيث توحد الكعبة وجهة الأمة عند ساعات الوقوف بين يدي الله تعالى في الصلاة أو أداء شعائر الحج والعمرة، كذلك يفعل التزام علي (عليه السلام) والأخذ عنه في دنيا المسلمين.

2- والإمام (عليه السلام) هو الصراط المستقيم الذي تستلهم الأمة منه العلم الإلهي ومعارف التشريع بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون سواه من الناس:

قـــال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «علي باب علمي ومــبين لأمتي ما أرســـت به من بعدي، حبه إيمان، وبغضه نفاق..»(6).

وقال (صلى الله عليه وآله) «أنا مدينة العلم وعلي بابها..»(7).

3- وأن علياً كرسول الله (صلى الله عليه وآله) في إقامة العدل بين الناس فكفه ككفه (صلى الله عليه وآله) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا أبا بكر كفي وكف علي في العدل سواء»(8).

4- ويصف الرسول علياً (عليه السلام) بأنه كنفسه، فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن حنطب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لوفد ثقيف -حين جاؤوه- «لأسلمن أو لأبعثن إليكم رجلاً كنفسي ليضربن أعناقكم وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم –فالتفت إلى علي وأخذ

بيده– فقال: هو هذا، هو هذا» (9).

5- وأن الإمام (عليه السلام) أدرى المسلمين قاطبة بشؤون القضاء بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فعن أنس بن مالك قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أقضى أمتي علي»(10) وهو إشارة من الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى أن الإمام علي (عليه السلام) أقدر من سواه على إدارة شؤون الأمة وحسم ما يشجر في حياتها العملية.

6- وقال المصطفى (صلى الله عليه وآله) «علي مع الحق والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة»(11).

7- وحيث أن علياً (عليه السلام) صنو الحق الذي هدى الله عباده إليه، فلا يفترق أحدهما عن الآخر، فقد دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمته لسلوك منهجه والاندماج بخطة لينقذها من الزيغ، ولكي لا تتبع السبل فتضل عن سبيل الله تعالى قال (صلى الله عليه وآله): «ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك، فالزموا علي ابن أبي طالب، إنه أول من يراني، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو مني في السماء العليا، وهو الفاروق بين الحق والباطل»(12).

8- وحول إيمان علي (عليه السلام) ومداه يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لو أن السماوات والأرض موضوعتان في كفة وإيمان علي في كفة لرجح إيمان علي (عليه السلام)(13).

هذه بعض مؤهلات علي (عليه السلام) كما بينها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

نصوص الإمامة:

أما النصوص التي تسند إليه أمر إمامة الأمة فكرياً وسياسياً بشكل صريح فنذكر منها.

1- آية الولاية:

(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتولَّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون).

(المائدة/ 55–56)

فقد ذكر المفسرون أن آية الولاية هذه قد نزلت في علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، حيث تؤكد بلا أدنى شك أنه يجب على الأمة الإسلامية الالتزام به إماماً ومرجعاً فكرياً وسياسياً بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ولقد نزلت هذه الآية الكريمة في علي (عليه السلام) كما روى ذلك جمع من الثقاة من المحدثين والمفسرين –لحد الاستفاضة– وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة أن سائلاً دخل مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسأل

المسلمين المعونة فأشار الإمام (عليه السلام) إلى إصبعه وهو راكع فانتزع السائل خاتم الإمام من إصبعه وتصدق الإمام به وهو راكع فنزلت فيه هذه الآية(14).

2- خطبة الغدير التي ألقاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع بعد أدائه مراسيم الحج الأكبر.

فعن البراء بن عازب قال: أقبلنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) سنته التي حج فيها، فنزل في بعض الطريق فأمر:

الصلاة جامعة فأخذ بيد علي،

فقال: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»

قال: بلى.

قال (صلى الله عليه وآله): (ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟).

قالوا: بلى.

قال (صلى الله عليه وآله): «فهذا ولي من أنا مولاه، اللهم وال من والاه، اللهم عاد من عاداه»(15).

وفي لفظ أحمد بن حنبل أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»(16).

3- وعن أم سلمة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الله اختار لكل نبي وصياً، وعلي وصي في عترتي وأهل بيتي وأمتي بعدي»(17).

هذه بعض النصوص الإسلامية الصحيحة التي أسندت أمر المرجعية الفكرية والسياسية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ولمن يريد المزيد من تتبع نصوص الإمامة مراجعة المصادر المختصة بالموضوع(18).

 

1 - نهج البلاغة تبويب صبحي الصالح خطبة رقم 192 «القاصعة». 

2 - خصائص الإمام علي بن أبي طالب - للنسائي ط1 بيروت 1975، وأنساب الأشراف للبلاذري ج2 ص98. 

3 - نفس المصدر ص48. 

4 - نفس المصدر ص65 وأخرجه أيضاً أحمد بن حنبل في مسنده والكنجي والمحب الطبري وغيرهم نقلاً عن مقام أمير المؤمنين ص77 - 78 مط الأعلمي كربلاء. 

5 - جلال الدين السيوطي في تاريخ الخلفاء ج1 ص96 وابن عساكر من حديث أبي بكر وعثمان وعائشة وسواهم، وأخرج الحديث الكنجي الشافعي في الكفاية والخوارزمي في المناقب، نقلاً عن مقام أمير المؤمنين ص6 - 7 مط الأعلمي - كربلاء. 

6 - أخرجه أبو نعيم في الحلية ورواه الديلمي في فردوس الأخبار والحمويني في الفرائد وغيرهم نقلاً عن المصدر السابق ص7. 

7 - أخرجه أحمد بن حنبل والترمذي في جامعة الصحيح نقلاً عن فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي الحافظ أحمد بن محمد الغماري ط2 1969. 

8 - أخرجه جلال السيوطي في تاريخ الخلفاء وابن عساكر في تاريخه الكبير والمناقب للخطيب الحنفي نقلاً عن مقام أمير المؤمنين ص12. 

9 - وأخرجه ابن حنبل في المناقب أيضاً وأخرجه كذلك أبو نعيم في الحلية والترمذي وغيرهما، نقلاً عن علي والوصية ص346 - 347 بألفاظ متشابهة.

10 - الرياض النضرة ج2 ص198 والكنجي الشافعي في الكفاية والفصول المهمة - لابن الصباغ المالكي وأنساب الأشراف للبلاذري نقلاً عن مقام أمير المؤمنين ص32 ط الأعلمي. 

11 - الخطيب البغدادي في تاريخه الكبير ج4 ص321 وابن قتيبة في الإمامة والسياسة وكنز العمال والزمخشري في ربيع الأبرار والحمويني في فرائد السمطين وغيرهم، نقلاً عن علي والوصية ص113. 

12 - الكنجي الشافعي في كفاية الطالب والحافظ في أمالية وغيرها، نقلاً عن علي والوصية 167. 

13 - أخرجه الديلمي عن ابن عمر، يراجع كنز العمال ج6 ص165 والرياض النضرة ج2 ص226 أخرجه عن عمر بن الخطاب نقلاً عن مقام أمير المؤمنين ص15 ط الأعلمي - كربلاء. 

14 - راجع تفسير الآية في كل من: تفسير البيضاوي ومجمع البيان للطبرسي، وأبو إسحاق الثعلبي في تفسيره، والطبري في تفسيره، والواحدي في أسباب النزول، وأبو البكرات النسفي في تفسيره، والنيسابوري في تفسيره، والشبلنجي في نور الأبصار وابن حجر في صواعقه المحرقة وغيرهم. نقلاً عن فضائل الخمسة في الصحاح الستة ج1 وأعيان الشيعة ج3 ق1 ص130 وما بعدها. 

15 - لفظ صحيح ابن ماجة ص12. 

16 - مسند أحمد بن حنبل ج4 ص281 وقد نص على أن الحديث رواه ثلاثون صحابياً. وقد أخرج الحديث غيره كالنسائي في الخصائص والطبراني عن زيد بن أرقم والفخر الرازي في تفسير آية (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) وكنز العمال ج1 ص48 ومستدرك الصحيحين نقلاً عن كتاب الغدير ج1 للشيخ عبد الحسين الأميني. 

17 - الموفق بن أحمد الحنفي في مناقبه والحمويني الشافعي في فرائد السمطين وفي مسند أحمد بن حنبل حديث الوصية يشبهه وللثعلبي في الكشف والبيان وابن المغازلي مثله نقلاً عن علي والوصية ص235. 

18 - ككتاب «الغدير» للشيخ عبد الحسين الأميني و«دلائل الصدق» للشيخ محمد حسن المظفر و«وأحاق الحق» للقاضي التستري و«عبقات الأنوار» للسيد مير حامد حسين و«المراجعات» للسيد عبد الحسين شرف الدين.. وغيرها.