فهرس القسم الثالث

صور من الفكر السياسي - الاجتماعي

بالرغم من قصر المدة التي قضاها أمير المؤمنين (عليه السلام) في قيادة الأمة اجتماعياً وسياسياً فإن الفكر السياسي الذي طرحه الإمام (عليه السلام) كفيل بتغطية حاجات الإنسان عبر امتداده التاريخي على هذه الأرض، فقد جاءت خطب الإمام (عليه السلام) ورسائله وأوامره وإرشاداته زاخرة بهذا اللون من الفكر، مجسداً أروع أطروحة وأنضجها لإدارة شؤون الحياة الإنسانية.

ففي الحقل الاقتصادي طرح الإمام (عليه السلام) نظاماً متكاملاً لعلاج المشكلة الاقتصادية، وظاهرة الانحراف عن خط العدالة الإسلامية في التوزيع، وحدد برامج واضحة تتجاوز الأخطاء المتراكمة في مسألة توزيع المال بين الناس من خلال منهاج التسوية في العطاء. ولم يلتمس الإمام (عليه السلام) المواقف الوعظية في علاج المشكلة الاقتصادية وإقرار العدالة في المجتمع فحسب وإنما سلك إلى جانب مخاطبة الضمائر والاستفادة من رصيد الإيمان بالله فيها، سلك سبيل استخدام الضوابط القانونية في تحقيق التوازن والعيش الرغيد، وإنهاء دور الظلم في المجتمع ومن أجل ذلك استرد الأموال التي تدفقت على جيوب فئة من الناس من غير حق، وسلك سبيل مراقبة طرق جباية الأموال، وكيفية توزيعها على قطاعات الأمة، كما شدد على مراقبة ولاته في الأمصار، واستحدث نظام المراقبة والتفتيش ليحيط علماً بتصرفاتهم وممارساتهم ومن هنا تجد الكثير من النصوص التي يوجه فيها الإمام (عليه السلام) والياً أو جابياً للمال باتجاه الطريقة المثلى في عمله المناط به، كما نجد نصوصاً يوبخ فيها الإمام (عليه السلام) ذلك الوالي أو يستدعيه للحساب أو يعزله عن منصبه لخيانة الأمانة التي أنيطت به(1).

وكما وضح الإمام (عليه السلام) مناهجه القويمة المجسدة لشرع الله تعالى في المال، كذلك فعل بالنسبة للإدارة وشؤون القيادة الأخرى في المجتمع، فبالرغم من كثرة النصوص التي حفظها لنا نهج البلاغة وكتب السيرة الأخرى التي يحدد (عليه السلام) فيها مسؤولية الولاة والعمال على البلدان، وما ينبغي أن يلتزموا به في حياتها العملية، يطرح الإمام (عليه السلام) المواصفات الواجب توفرها في شخصية الحاكم المسلم سواء أكان حاكماً عاماً للأمة أو حاكماً محلياً، ونكتفي هنا بذكر بعض من هديه بهذا الصدد.

«و.. وقد علمتهم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم، والأحكام، وإمامة المسلمين: البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة»(2).

«من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم»(3).

«لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع ولا يضارع، ولا يتبع المطامع».

وإذا شئنا الرجوع إلى أوسع نص لتحديد مواصفات الحاكم المسلم، ففي عهد الإمام (عليه السلام) إلى مالك الأشتر حين ولاه على مصر فإن فيه غنى عن طرح أي دليل آخر، حيث اشتمل العهد المذكور على كل مستلزمات القيادة الصالحة، وما ينبغي أن تنهض به من مسؤوليات في حياة الأمة على الصعيد الاجتماعي، والسياسي والاقتصادي، وسوى ذلك من شؤون.

كما حدد العهد بعمق واع كل ما يتطلبه المجتمع وما ينبغي للحاكم المسلم النهوض به عبر مسؤولياته القيادية كي يستجيب لطموحات الأمة التي يدير دفة حياتها(4).

ومن المناسب أن نشير هنا إلى أن عهد الإمام (عليه السلام) إلى الأشتر قد انطوى على أفكار اجتماعية غاية في الأهمية، فقد تناول الإمام (عليه السلام) تركيبة المجتمع، والقوى المؤثرة، والقطاعات الضرورية فيه تناول خبير ملم بها، فقد درس الإمام (عليه السلام) أهمية القطاع الزراعي وأثر التجار والقضاة والولاة والجنود في مسيرة المجتمع وبناء الحضارة، وحدد كيفية التعامل مع تلك القوى الهامة في المجتمع، وحدد مسؤوليات السلطة العليا تجاه كل واحدة من تلك القوى الفاعلة في الحياة العامة، كما ذكر القطاعات الضعيفة من أهل اليتم والشيخوخة وسواهم مما يعتبر وجودهم طبيعياً في المجتمعات، فدرس حالهم وحدد العلاج لما يعانون(5).

وهذا وقد سبق الإمام (عليه السلام) علم الاجتماع في دراسته للمجتمع وتحديد المؤثرات فيه بزمن طويل، مما يستحق أن يحمل بجدارة لقب مؤسس علم الاجتماع والواضع للبناته الأولى، مع اختلاف على الرؤية والمنهج.

 

1 - راجع الحلقة الثانية من هذا الكتاب (الفصل الأول) لملاحظة النصوص بهذا الصدد.

2 - نهج البلاغة رقم 129.

النهمة: المبالغة في الحرص وشدة الشهوة.

الحائف: الظالم.

المقاطع: حدود الله.

الدول: المال.

والمراد بالحائف بالدول: الظالم في توزيع المال حيث يفضل قوماً على قوم في العطاء.

3 - نفس المصدر رقم 73 في باب المختار من كلامه (عليه السلام).

4 - يراجع عهد الإمام (عليه السلام) إلى مالك الأشتر واليه على مصر في نهج البلاغة رقم 53 في باب الكتب.

5 - نفس المصدر.