|
|
والمقصود بها هنا ما تحدث به الإمام (عليه السلام) عن أمور مستقبلية وشيكة الوقوع بعد عصره، منها ما يختص بأفراد معينين، ومنها ما يتعلق بمسيرة الأمة المسلمة كمجموع. وبطبيعة الحال إن ما طرحه الإمام (عليه السلام) من هذا القبيل كان قد تلقاه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مباشرة، أو وعاه بنفسه بما أعطاه الله من طاقة روحية هائلة تمنحه القدرة على استقراء المستقبل والاستشراف على حوادثه وقواه المؤثرة، والجوانب الإيجابية فيه والسلبية. ولقد رأينا في بداية هذا الفصل كيف أن الإمام (عليه السلام) يعلن على المنبر مراراً عن قدرته على كشف الكثير من أحداث المستقبل: «.. لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا نبأتكم بناعقها وقائدها، وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ويموت موتاً..»(1). وإذا تتبعنا الفكر المستقبلي الذي حفظته لنا سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) وجدناه –بالرغم من قلته بالقياس إلى غيره من أبواب فكر الإمام (عليه السلام)– آية على عظمة الإمام (عليه السلام) وسمو كيانه الروحي الذي أهله لمعرفة الكثير من أسرار المستقبل بما فيها من متغيرات في دنيا الأفراد والجماعات. وهذه جملة مما حفظ لنا المؤرخون في هذا المضمار: 1- عن سويد بن غفلة أن علياً (عليه السلام) خطب ذات يوم، فقام رجل من تحت منبره، فقال: - يا أمير المؤمنين، إني مررت بوادي القرى، فوجدت خالد بن عرفطة قد مات، فاستغفر له، فقال (عليه السلام): - والله ما مات، ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن حمار. فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال: - يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن حمار وإني لك شيعة ومحب، فقال: أنت حبيب بن حمار؟ قال: نعم. فقال له ثانية: والله إنك لحبيب بن حمار؟ فقال: أي والله! فقال (عليه السلام): أما والله إنك لحاملها ولتحملنها، ولتدخلن بها من هذا الباب، «وأشار إلى باب الفيل بمسجد الكوفة» قال ثابت الشمالي –الذي روى الحديث عن سويد بن غفلة. - فوالله ما مت حتى رأيت ابن زياد، وقد بعث عمر بن سعد إلى (حرب) الحسين بن علي (عليه السلام) وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته، وحبيب بن حمار صاحب رايته فدخل بها من باب الفيل(2). 2- عن إسماعيل بن رجاء قال: قام أعشى باهلة –وهو غلام يومئذ حدث– إلى علي عليه السلام وهو يخطب ويذكر الملاحم، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة! فقال علي (عليه السلام): إن كنت آثماً فيما قلت يا غلام، فرماك الله بغلام ثقيف، ثم سكت، فقام رجال، فقالوا: - ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟ قال: - غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك لله حرمة إلا انتهكها، يضرب عنق هذا الغلام بسيفه، فقالوا: - كم يملك يا أمير المؤمنين؟ قال: - عشرين إن بلغها، قالوا: - فيقتل قتلاً أم يموت موتاً؟ قال: - بل يموت حتف أنفه بداء البطن، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه. قال إسماعيل بن رجاء –راوي الحديث– فوالله لقد رأيت بعيني أعشى باهلة، أحضر في جملة الأسرى الذين أسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجاج (بن يوسف الثقفي) فقرعه، ووبخه واستنشده شعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب، ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس(3). 3- عن شمير بن سدير الأزدي قال: قال علي (عليه السلام) لعمرو بن الحمق الخزاعي. «يا عمرو إنك لمقتول بعدي وإن رأسك لمنقول وهو أول رأس ينقل في الإسلام، والويل لقاتلك! أما إنك لا تنزل بقوم إلا أسلموك برمتك. قال الأزدي – راوي الحديث– فوالله ما مضت الأيام حتى تنقل عمرو بن الحمق الخزاعي في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب خائفاً مذعوراً، حتى نزل في قومه من بني خزاعة، فأسلموه، فقتل، وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام، وهو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد(4). 4 - أخبار الإمام (عليه السلام) عن الضربة التي يضرب في رأسه فتخضب منها لحيته بسيف ابن ملجم المرادي. 5 - أخباره بامتلاك معاوية لأمر المسلمين بعده. 6 - أخباره عن قتل الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء. 7 - أخباره عن الحجاج بن يوسف الثقفي وما يكون من فعله. 8 - أخباره عن حركة عبد الله بن الزبير وفشله وقتله. 9 - وعن هلاك البصرة بالغرق مرة وبسيطرة الزنج عليها أخرى. 10 - وأخباره عن مقتل محمد صاحب النفس الزكية وأخيه إبراهيم بعد ثورتهم على العباسيين في عهد أبي جعفر المنصور. 11 - وعن قيام الدولة العلوية في المغرب، ودولة بني بويه في العراق. 12 - أخباره عبد الله بن العباس عن انتقال الحكم إلى أولاده وقيام الحكم العباسي. 13 - وعن خروج الإمام المهدي عجل الله فرجه وقيام دولة الإسلام المباركة(5). ومن نافلة القول أن نشير إلى أن نهج البلاغة ينطوي على الكثير من النصوص التي تناول الإمام (عليه السلام) فيها الحديث عن أمور مستقبلية، وقعت بعد عصره، وأخرى نعيش طرفاً منها(6).
|
|
1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2 ص286/ والبحار ج40 ص130 عن المنهج. 2 - شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة ج2 ص287. 3 - نفس المصدر ص289. أعشى باهلة: عامر بن الحارث. 4 - نفس المصدر ص290. 5 - دراسات في نهج البلاغة - محمد مهدي شمس الدين ط2. 1972 ص186 وما بعدها. وللاستزادة يراجع فصل المغيبات من نفس الكتاب ج2 ص286 وما بعدها من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ط1 سنة 1959. 6 - مثل خطب الملاحم رقم 101، 128، 138، 150، 158، 187، والخطب التي تتحدث عن آخر الزمان مثل 108، 103، 166. الملاحم: الوقائع العظيمة. |