فهرس القسم الثالث

شواهد من عبادة أمير المؤمنين (عليه السلام)

كحصيلة للإعداد الرسالي الذي حظي به الإمام علي من لدن أستاذه الرسول (صلى الله عليه وآله) –الأمر الذي تناولناه في مدخل هذه الرسالة– فقد طبعت شخصية الإمام علي (عليه السلام) بشخصية المصطفى (صلى الله عليه وآله) في جميع مقوماتها: عبادةً وفكراً ومواقف.

يسلك سبيله، يقتفي سنته ويقفو أثره، ومن أجدر بتجسيد سنة الرسول (صلى الله عليه وآله) كاملة في دنيا الواقع سوى علي (عليه السلام)؟ الذي صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) شخصيته وشكل جميع عناصرها وطبعها بالطابع الإلهي منذ نعومة أظفاره..

وإذ نعقد هذا الفصل للحديث عن عبادة الإمام (عليه السلام) ووسائل تعلقه بالله سبحانه، فسنعرض شواهد منها، لندرك السمو الشاهق الذي بلغه الإمام (عليه السلام) في مضمار الانشداد إلى الله واستلهام سنة الرسول (صلى الله عليه وآله) المطهرة في هذا المضمار:

صلاة وضراعة:

فكثرة تعاهده لأمر الصلاة والتضرع إلى الله سبحانه تعالى يشير عروة بن الزبير في حديث له عن أبي الدرداء:

قال: «شهدت علي بن أبي طالب بشويحطات(1) النجار، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممن يليه، واستتر بمغيلات(2) النخل، فافتقدته، وبعد عن مكانه، فقلت الحق بمنزله فإذا أنا بصوت حزين ونغم شجي، وهو يقول: «إلهي كم من موبقة حملت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك.

إلهي إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك».

فشغلني الصوت، واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعينه، فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغامر، ثم فرغ إلى الدعاء والبكاء، والبث والشكوى، فكان مما ناجى به الله تعالى أن قال: «إلهي أفكر في عفوك، فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك، فتعظم علي بليتي».

ثم قال «آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لاتنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته ولا يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء».

ثم قال «آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من لهبات لظى».

قال أبو الدرداء: ثم أمعن في البكاء، فلم أسمع له حسا، ولا حركة.

فقلت:غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر، فأتيته، فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته، فلم يتحرك، وزويته فلم ينزو.

فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون مات والله علي بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم.

فقالت فاطمة (عليها السلام): يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قصته؟

فأخبرتها الخبر.

فقالت: «هي والله – يا أبا الدرداء – الغشية التي تأخذه من خشية الله»

ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق، ونظر إلي وأنا أبكي فقال: مما بكاؤك يا أبا الدرداء؟

فقلت: مما أراه تنزله بنفسك.

فقال: يا أبا الدرداء، فكيف لو رأيتني، ودعى بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد أسلمني الأحباء ورفضني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية».

فقال أبو الدرداء: «فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله» (صلى الله عليه وآله)(3).

هذا شاهد من شواهد تعلق الإمام (عليه السلام) بالله تعالى وشدة انشداده إليه ورهبته منه.

ويبدو أن هذا ديدن علي (عليه السلام) كما يتجلى من قول الزهراء (عليها السلام) لأبي الدرداء: «هي والله الغشية التي تأخذه من خشية الله».

وهذه مزينة عند التوجه إلى الله تعالى في صلاته وضراعته، الأمر الذي ألفه أهل البيت (عليهم السلام) في علي (عليه السلام).

ومن أجل ذلك لم يفزعوا حين أنبأهم أبو الدرداء بموته –كما ظن هو– بل استفسروا عما رأى، فأعلمته الصديقة (عليها السلام) أن ما رآه هو المألوف من علي (عليه السلام) كل آن حين تأخذه الغشية لله تبارك وتعالى أثناء قيام الليل.

ولكثرة قيامه للعبادة ليلاً يحدثنا عبد الأعلى عن نوف البكالى..

قال: «بت ليلة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان يصلي الليل كله، ويخرج ساعة بعد ساعة، فينظر إلى السماء، ويتلو القرآن، فمر بي بعد هدوء من الليل فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟

قلت: بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين.

قال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء شعاراً، وقرضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم..»(4).

وهكذا كان علي (عليه السلام) في شدة تعلقه بالله، وعظيم تمسكه بمنهج الأنبياء (عليهم السلام). أنه ترجمة صادقة لعبادة محمد (صلى الله عليه وآله) وزهد المسيح (عليه السلام).

أرأيت كيف يندك وجوده على عتبة الخضوع لله والاستكانة له وطلب رضوانه؟

وحول التزامه بقيام صلاة الليل طول عمره الشريف يروي لنا أبو يعلى –في المسند– عنه (عليه السلام) قال: «ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الليل نور..

فقال ابن الكواء: ولا ليلة الهرير!؟

قال (عليه السلام): ولا ليلة الهرير(5).

توجه ورهبة:

ولعظيم إقباله على الله تعالى يشير القشيري في تفسيره:

أنه كان (عليه السلام) إذا حضر وقت الصلاة تلون وتزلزل. فقيل له: ما لك؟

فيقول: جاء وقت أمانة عرضها الله تعالى على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان على ضعفه، فلا أدري أحسن إذا حملت أم لا(6).

ولع بالصلاة:

ولكثرة صلاته ما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال:

كان علي بن الحسين (عليه السلام) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، كما كان يفعل أمير المؤمنين (عليه السلام)(7).

وعن سليمان بن المغيرة عن أمه قالت: سألت أم سعيد سرية علي (عليه السلام) عن صلاة علي (عليه السلام) في شهر رمضان.

فقالت: رمضان وشوال سواء، يحيى الليل كله(8).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن علياً في آخر عمره يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة»(9).

عبادة الشاكرين:

ولقد عظم المعبود عز وجل في نفس الإمام (عليه السلام) فصارت عبادته تعبيراً عن الحب له والشوق إليه، واستشعار أهليته للعبادة دون سواه، ومن أجل ذلك كان علي (عليه السلام) لا يعبد الله خوفاً من عذابه، ولا طمعاً في جنته ولا فيما أعده من نعيم للمتقين، وإنما سما الإمام (عليه السلام) في علاقته بالله تعالى إلى أعلى الدرجات أسوة بأستاذه الرسول (صلى الله عليه وآله).

وقد كشف الإمام (عليه السلام) عن جوهر علاقته بالله تعالى وطبيعتها بقوله:

«إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك ولا طمعاً في ثوابك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(10).

فأعظم به من يقين، وأكرم به من إيمان!!

ولقد حدد الإمام (عليه السلام) ألوان العبادة في كلمة خالدة:

«أن قوماً عبدوا الله رغبةً، فتلك عبادة التجار، وأن قوماً عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وأن قوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار»(11).

وكانت عبادته (عليه السلام) من النوع الأخير، حيث تصدر كحصيلة للشعور بأهلية المعبود للعبادة واستحقاقه لها.

أما إيقاف العبادة على حصول الثواب فحسب، فهي عبادة من وصفهم الإمام (عليه السلام) بالتجار، الذين يبتغون الثمن وينتظرون التعويض..

وشتان بين هدف الشاكرين، وهدف التجار في ميزان الله تعالى وحسابه.

صلاة الرسول (صلى الله عليه وآله):

ولقد كانت صلاة علي (عليه السلام) –أسوة بسائر نشاطاته– كصلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كيفية الأداء والخشوع والانشداد والتعلق بالله تعالى فعن مطرف بن عبد الله قال: صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب.. فلما انصرفنا أخذ عمران بيد فقال: لقد صلى صلاة محمد، ولقد ذكرني صلاة محمد (صلى الله عليه وآله)(12).

تعاهدوا أمر الصلاة:

وإلى جانب تعاهد الإمام (عليه السلام) لأمر الصلاة فقد كان كثيراً ما يوصي أتباعه بتعاهد أمرها، وأدائها في أوقاتها وتعريفهم بأهميتها وأثرها في شخصية المسلم «تعاهدوا أمر الصلاة، وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقربوا بها فإنها -كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً-» ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا «ما سلككم في سقر؟ قالوا: لم نك من المصلين».

وإنها لتحت الذنوب حتّ(13) الورق، وتطلقها إطلاق الربق(14) وشبهها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحمة(15)، تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمسة مرات، فما عسى أن يبقى عليه من درن(16)؟

وقد عرف حقها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرة عين من ولد ولا مال.

يقول الله سبحانه:

(رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) (النور/ 37).

«فكان يأمر بها أهله ويصبر عليها نفسه»(17).

 

1 - الشوحط: شجر يتخذ منه القسي.

2 - المغيلات: النخل الوارف الظلال.

3 - بحار الأنوار ج41 ص11 - 12 نقلاً عن أمالي الصدوق والأنوار العلوية للشيخ جعفر النقدي ط2 ص115 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص389. 

4 - نفس المصدر ص16 عن الخصال للصدوق ونهج البلاغة باب الحكم رقم 104 مع اختلاف يسير في الألفاظ. 

5 - البحار ج41 ص17. ليلة الهرير : من ليالي صفين الحاسمة التي اشتبك الفريقان فيها طوال الليل دون هوادة. 

6 - نفس المصدر ص17. 

7 - نفس المصدر ص15. 

8 - نفس المصدر السابق ص 17. 

9 - نفس المصدر ص23 أشار إلى أنه عليه السلام مع تقدم سنه بقي ملتزماً بمنهجه في العبادة والإكثار في الصلاة. 

10 - بحار الأنوار ج41 ص14 وتذكرة الخواص لبسط ابن الجوزي ص144. 

11 - المصدر المتقدم. 

12 - أنساب الأشراف ج2 ص180 وفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج1 نقلاً عن البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم. 

13 - حتّ الورق عن الشجر: قشره.

14 - الربق: حبل فيه عدة عرى كل واحدة ربقة. 

15 - الحمة: عين ماء حار يستشفى فيها من المرض. 

16 - الدرن: الوسخ. 

17 - نهج البلاغة تبويب صبحي الصالح ص199.