فهرس القسم الثالث

المنهج العبادي في خطوطه الأساسية

والى منهجه العبادي الملتزم أشار الإمام الباقر (عليه السلام) بقوله:

«.. وما ورد عليه أمران قط كلاهما لله رضى إلا أخذ بأشدهما على بدنه»(1).

وقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام) ذاته «.. وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر»(2).

وفي حديث ضرار بن ضمرة لمعاوية بن أبي سفيان حول شخصية الإمام (عليه السلام) تجسيد لهذه الحقيقة، فمما جاء في حديثه «.. كان والله صواماً بالنهار قواماً بالليل..».

توكل صادق ويقين راسخ:

وحيث أن التوكل على الله تعالى زاد المتقين، واليقين بالله شعار المؤمنين الصادقين يملأ قلوبهم بالثقة والاطمئنان والعزة والارتفاع على جميع عقبات الحياة.

فقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قائداً لأهل اليقين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويعسوباً للمتوكلين.

وهذه سيرته تتحفنا بالعديد من الشواهد في هذا المضمار: فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: كان لعلي (عليه السلام) غلام اسمه قنبر، وكان يحب علياً حباً شديداً، فإذا خرج علي (عليه السلام) خرج على إثره بالسيف فرآه ذات ليلة، فقال له: يا قنبر مالك؟

قال: جئت لأمشي خلفك، فإن الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين فخفت عليك.

قال: ويحك أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض؟

قال: لا بل من أهل الأرض.

قال (عليه السلام): إن أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلا بإذن الله عز وجل فارجع. فرجع(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن أمير المؤمنين جلس إلى حائط يقضي بين الناس.

فقال بعضهم: لا تقعد تحت هذا الحائط فإنه معور، فقال أمير المؤمنين: حراس أمرأ أجله.

فلما قام أمير المؤمنين (عليه السلام) سقط الحائط.

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) مما يفعل هذا وأشباهه، وهذا اليقين»(4).

وعن سعيد بن قيس الحمداني قال «نظرت يوماً في الحرب إلى رجل عليه ثوبان، فحركت فرسي فإذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام).

فقلت: يا أمير المؤمنين في مثل هذا الموضع؟

فقال: نعم يا سعيد بن قيس، إنه ليس من عبد إلا وله من الله عز وجل حافظ وواقية، معه ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل أو يقع في بئر، فإذا نزل القضاء خليا بينه وبين كل شيء»(5).

هذا هو علي (عليه السلام) في قوة يقينه بالله، وشدة توكله عليه سبحانه.

مصاديق من زهد الإمام (عليه السلام):

ولقد كان الزهد معلماً بارزاً من معالم شخصية الإمام (عليه السلام)، وسمة مميزة زينه الله تعالى به فعن عمار بن ياسر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي. «إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب منها، هي زينة الأبرار عند الله: الزهد في الدنيا، فجعلك لا ترزأ –تعيب– من الدنيا ولا ترزأ الدنيا منك شيئاً، ووهبك حب المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعاً، ويرضون بك إماماً»(6).

وقد كان من شواهد تلك الصفة التي حباه الله تعالى بها:

أن زهد الإمام (عليه السلام) عن كل لذاذات الحياة وزينتها وتوجه بكل وجوده نحو الآخرة، وعاش عيشة المساكين وأهل المتربة من رعيته.

لقد زهد الإمام (عليه السلام) بالدنيا وزخرفتها زهداً تاماً وصادقاً:

زهد في المال والسلطان، وكل ما يطمع به الطامعون.

فلقد عاش في بيت متواضع لا يختلف عما يسكنه الفقراء من الأمة، وكان يأكل الشعير تطحنه امرأته أو يطحنه بنفسه قبل خلافته وبعدها، حيث كانت تجيء الأموال إلى خزانة الدولة التي كان يضطلع بقيادتها من شرق الأرض وغربها. وغالباً ما كان يلبس أبسط أنواع الثياب، فكان ثمن قميصه ثلاثة دراهم.

وقد بقي ملتزماً بخطه في الزهد طوال حياته، فقد رفض أن يسكن القصر الذي كان معداً له في الكوفة حرصاً منه على التأسي بالمساكين(7).

وهذه بعض المصاديق كما ترويها سيرته العطرة:

فعن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «كان أمير المؤمنين أشبه الناس طعمة برسول الله (صلى الله عليه وآله) يأكل الخبز والخل والزيت ويطعم الناس الخبز واللحم»(8).

وعن الباقر (عليه السلام) قال: «ولقد ولي خمس سنين وما وضع آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة، ولا أقطع قطيعاً ولا أورث بيضاً ولا حمراً»(9).

وعن عمرو بن عبد العزيز قال «ما علمنا أن أحداً كان في هذه الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أزهد من علي بن أبي طالب، ما وضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة»(10).

وعن الأحنف بن قيس قال: «دخلت على معاوية، فقدم إلي من الحلو والحامض، ما كثر تعجبي منه، ثم قال: قدموا ذاك اللون،

فقدموا لوناً ما أدري ما هو..!

فقلت: ما هذا؟

فقال: مصارين البط محشوة بالمخ ودهن الفستق قد ذر عليه السكر!!

قال الأحنف: فبكيت.

فقال معاوية: ما يبكيك؟

فقلت: لله در ابن أبي طالب، لقد جاد من نفسه بما لم تسمع به أنت ولا غيرك!

قال معاوية: وكيف؟

قلت: دخلت عليه ليلة عند إفطاره..

فقال لي: قم فتعش مع الحسن والحسين، ثم قام إلى الصلاة، فلما فرغ دعا بجراب مختوم بخاتمه، فأخرج منه شعيراً مطحوناً، ثم ختمه.

فقلت: يا أمير المؤمنين لم أعهدك بخيلاً، فكيف ختمت على هذا الشعير.

فقال: لم أختمه بخلاً، ولكن خفت أن يبسه الحسن والحسين بسمن أو أهالة!

فقلت: أحرام هو؟

قال: «لا، ولكن على أئمة الحق أن يتأسوا بأضعف رعيتهم في الأكل واللباس، ولا يتميزون عليهم بشيء لا يقدرون عليه ليراهم الفقير، فيرضى عن الله تعالى بما هو فيه، ويراهم الغني فيزداد شكراً وتواضعاً»(11).

وعن سويد بن غفلة قال: دخلت على علي (عليه السلام) بالكوفة، وبين يديه رغيف من شعير، وقدح من لبن، والرغيف يابس، فشق علي ذلك.

فقلت: لجارية له يقال لها فضة: ألا ترحمين هذا الشيخ، وتنخلين له هذا الشعير.

فقالت:.. إنه عهد إلينا ألا ننخل له طعاماً قط..!

فالتفت الإمام إلي.

وقال: ما تقول لها يا ابن غفلة، فأخبرته..

وقلت: يا أمير المؤمنين ارفق بنفسك.

فقال لي: ويحك يا سويد؟ ما شبع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهله من خبز بر ثلاثاً تباعاً حتى لقي الله، ولا نخل له طعام قط..»(12).

وعن سفيان الثوري عن عمرو بن قيس قال: روّي على علي (عليه السلام) أزار مرقوع، فعوتب في ذلك؟

فقال: يخشع له القلب ويقتدي به المؤمن(13).

وعن الغزالي يقول: «كان علي بن أبي طالب يمتنع من بيت المال حتى يبيع سيفه، ولا يكون له إلا قميص واحد في وقت الغسل ولا يجد غيره»(14).

هذا هو علي في شدة زهده ورغبته عن الدنيا وزخارفها، وفي عظيم اقتدائه برسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي مواساته لأهل المتربة من أمته (صلى الله عليه وآله)، فهل حدثك التاريخ عن زعيم كعلي (عليه السلام)؟ تجبى إليه الأموال من الشرق والغرب، وعاصمته الكوفة –تقع في أخصب أرض الله وأكثرها غنى يومذاك، بيد أنه يعيش أبسط عيش مواسياً لأقل الناس حظاً في العيش في هذه الحياة.. يأكل خبز الشعير دون أن يخرج نخالته.. ويكتفي بقميص واحد لا يجد غيره عند الغسل.. ويحرم على نفسه الأكل من بيت المال.. ويرقع مدرعته حتى يستحي من راقعها(15). مجسداً بذلك أرفع شعائر للزاهدين «.. فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوب طمرا، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهى وأوهن من عصفه مقرة»(16).

صدقة الإمام (عليه السلام):

ولا نريد أن نذهب بعيداً في طرح الشواهد على تعاهد الإمام علي (عليه السلام) لأمر الصدقة، قبل أن نستقي من القرآن الكريم نماذج من صدقة الإمام (عليه السلام) عطرتها آيات الله تعالى بالثناء الجميل، ورسمت أبعاد الثواب الإلهي العظيم الذي لا يعلم مداه غير الله الذي أعده تبارك وتعالى لأمير المؤمنين (عليه السلام):

ففي حادثة إطعام علي (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) للمسكين واليتيم والأسير على مدى ثلاثة أيام وإيثارهم لهم على أنفسهم، واكتفائهم بالماء وهم في أيام صوم متتالية.. تنزلت آيات الله تعالى مسجلة أعظم مآثر علي (عليه السلام) في ضمير الوجود حيث ستبقى ترددها الآفاق والألسنة وصفحات المجد ما شاء الله تعالى.

(ويطعمون الطعام على حبة مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوما عبوساً قمطريراً. فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) (الإنسان/ 8–12).

وليس المهم في الأمر حجم ما قدمه الإمام (عليه السلام) لأولئك المحتاجين، فإن الكثير من الناس يبذلون أضعاف ذلك.

ولكن شتان بين من ينفق لوجه الله خالصاً دون شائبة، وبين من ينفق من أجل غرض دنيوي أو جاه أو ذكر يشاع بين الناس. كما أنه شتان بين من ينفق كل ما لديه وهو أحوج ما يكون إليه وبين من ينفق بعض ما لديه..

وهكذا يختلف التقويم عند الله تعالى بين ذا وذاك!

وفي حادثة تصدق علي (عليه السلام) بخاتمه على مسكين استبدت به الحاجة، فطاف على الناس فلم يجد من يسد خلته، فأشار إليه علي (عليه السلام) وهو يصلي في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنحه خاتماً في يده.

فنزل القرآن الكريم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مبينا فضل ما أقدم عليه الإمام (عليه السلام) واستعمل القرآن المناسبة لإرشاد الأمة إلى أن علياً (عليه السلام) مرجعها الفكري والعملي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (المائدة/ 55– 56).

وهذه الآية الكريمة من أكثر النصوص دلالة على أن العمل الصالح في منظور الله تبارك وتعالى إنما هو بدوافعه لا بحجم منافعه.

فليس المهم أن تعطي كثيراً، ولكن الأساس في الأمر نية العطاء فالتقييم الرباني إنما يدور مدار النية حيث تدور، فكلما اقتربت من الله تعالى وابتغيت رضوانه كان ثوابك أعظم وأجل..

ومن المناسب أن نطرح إضافة إلى ذلك مصاديق من سيرة الإمام (عليه السلام) في هذا المضمار مما روته كتب التاريخ.

فعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال «كان أمير المؤمنين يضرب بالمر –المسحاة– ويستخرج الأرضين، وأنه أعتق ألف مملوك من كديده»(17).

وعن أيوب بن عطية الحذاء قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قسم نبي الله الفيء، فأصاب علياً أرضاً، فاحتفر فيها عيناً، فخرج ماء ينبع كهيئة عنق البعير، فسماها ينبع، فجاء البشير يبشر. فقال (عليه السلام): بشر الوارث هي صدقة بتة بتلاء في حجيج بيت الله، وعابري سبيل الله لا تباع، ولا توهب ولا تورث فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً»(18).

وعن أحمد بن حنبل في الفضائل: أنه كانت غلة علي أربعين ألف دينار فجعلها صدقة»(19).

والحديث عن حرص الإمام (عليه السلام) على تعاهد أمر الصدقة في سبيل الله تعالى يذكرنا بالنفس السخية التي يمتاز بها أمير المؤمنين (عليه السلام).

فكثرة أدائه للصدقة وشدة بذله لها وإن كان يعكس صورة صادقة عن جود الإمام (عليه السلام) وسخائه، إلا أن سيرته العطرة تكشف إلى جانب ذلك وجهاً آخر من شخصية الإمام.

فقد كان (عليه السلام) أسخى من الغيث على الأمة التي عايشها لا أقصد بهذا جوده بنفسه من أجل حفظ الرسالة ومسيرة الإسلام التاريخية، ذاك الذي يتجلى عبر البطولات التي أبداها (عليه السلام) في حروب الإسلام كلها، فحديث كهذا.. يتطلب بمفرده سفراً كاملاً!، وإنما نقصد ما يتعلق بالسخاء بالمال(20).

فلقد اعترف بجود الإمام (عليه السلام) وسخائه أشد الناس عداوة له: معاوية بن أبي سفيان الذي ما برح ينسج الأكاذيب والافتراءات لتشويه سمعة الإمام (عليه السلام) غير أنه لم يستطع أن ينكر فضيلة الجود عند علي (عليه السلام) فقد قال له يوماً مخفي ابن مخفي الضبي: جئتك من عند أبخل الناس فقال ابن أبي سفيان: ويحك كيف تقول أنه أبخل الناس، لو ملك بيتاً من تبر –ذهب– وبيتاً من تبن لأنفذ تبره قبل تبنه(21).

ويقول الشعبي يصف الإمام (عليه السلام): كان أسخى الناس، كان على الخلق الذي يحبه الله: السخاء والجود، ما قال لا لسائل قط(22).

الجهاد في سبيل الله:

وحياة علي أمير المؤمنين (عليه السلام) كلها جهاد في سبيل الله تعالى في مرحلة الدعوة، وبعد قيام الدولة الإسلامية، وإذا كان قد وقى الرسول (صلى الله عليه وآله) بنفسه وفداه بوجوده وتعرض لأخطر تآمر جاهلي على حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند مبيته على فراشه في ليلة الهجرة المباركة، من أجل أن يصرف عنه شر عتاة الجاهلية. فإن علياً قد تحولت حياته بعد الهجرة إلى المدينة المنورة إلى حلقات متسلسلة من ذلك النوع الجهادي العظيم، فقد كان حامل لواء الزحف الإسلامي في كل غزوات أخيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وطليعة المجاهدين في ساحات الجهاد، وكلما حزبت الأمور وحمي الوطيس انتدبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكشف زحف العدو عن حياض المسلمين..

وكانت كل مواقفه الجهادية من النوع المصيري الذي يحمي الرسالة ويكشف عنها خطر التصفية المحقق والإجهاز الخطير على وجودها، تجلي ذلك في بدر حين صفى الكثير من رؤوس الوثنيين وملأ بها ساحة المعركة.

وفي «أحد» حين أطبق جيش الضلال على معسكر الإيمان وكانت الغلبة للعدو، نهض الإمام (عليه السلام) بدور عرقلة تقدمهم حيث بادر إلى تصفية حملة الألوية من بني عبد الدار واحداً تلو الآخر.

وفي غزوة الأحزاب حين بلغت القلوب الحناجر وبلغ الضيق والهلع بالمسلمين كل مبلغ نهض الإمام بالأمر وأرهب العدو وأعاد للمسلمين الثقة بالنفس حين قتل أبرز قوادهم عمرو بن ود العامري.

حيث كان قتل العامري حداً فاصلاً بين المعسكرين إذ تلاه انهزام جيش الأحزاب مع ما امتاز به من ضخامة في العدد والعدة..

وعلي (عليه السلام) هو الذي اقتحم حصون خيبر ودخل عليهم عنوة، ففتح الله على يديه حصون اليهود الرهيبة.

وكم سطر لك من بطولات علي (عليه السلام) وصفحات جهاده المشرقة التي تشع بالمجد والعزّة والإخلاص(23)؟

فدونك تاريخ الإسلام في عصره الأول: في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنعم النظر في صفحاته كي تحدثك بفضل علي (عليه السلام) على الإسلام رسالةً، وأمةً، وتاريخاً.

على أن الجانب العبادي في جهاد علي (عليه السلام) ليس في حجم البطولات وعدد المعارك التي خاض غمارها، فحسب وإنما في صدق النية وحجم الإخلاص الذي امتلأ به قلب علي (عليه السلام) وهو يخوض تلك الحروب ببسالة فائقة وشجاعة نادرة وصمود لا يرد.

ومن أجل ذلك كان القرآن الكريم يثني على تلك الروح التي كان يحملها أمير المؤمنين عبر كفاحه من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض.

فها هو القرآن الكريم يثني على علي (عليه السلام) يوم فدى بنفسه رسول الله (صلى الله عليه وآله) «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله» (البقرة 207) ويكشف بعمق عن صدق نية الإمام (عليه السلام)(24).

وها هو كتاب الله العزيز يقطع بأن جهاد علي (عليه السلام) وبطولاته وتضحياته كانت من أجل الله وإعلاء كلمته في دنيا الناس، ولا يمكن أن تقرن بأي لون من ألوان العمل الآخر. فبسبب الثمن الباهظ الذي يتطلبه الجهاد، وبسبب الدافع الإيماني المخلص الذي لا تشوبه شائبة راحت آيات الله تعالى تحدد الموقع الرفيع الذي يحتله علي (عليه السلام) في دنيا المتقين.

(أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين) (التوبة/ 109).

فعلى أثر حوار تفاخري بين طلحة بن شيبة والعباس بن عبد المطلب، قال فيه طلحة: أنا أولى الناس بالبيت لأن المفتاح بيدي.

فقال العباس: أنا أولى، أنا صاحب السقاية والقائم عليها!

وفيما كانا يتفاخران حرَّ الإمام (عليه السلام) فافتخر عليهما بقوله: «لقد صليت قبل الناس أنا صاحب الجهاد» فنزل قول الله تعالى في ذلك كاشفاً عن المستوى العظــــيم الذي تبوأه علي (عليه السلام) من ناحـــية عمله الإســـلامي: ضخامةً وإخلاصاً(25)، بعداً وجوهراً.

 

1 - مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب المازندراني. 

2 - نهج البلاغة من كتاب إلى عثمان بن حنيف رقم 45 ص416. 

3 - بحار الأنوار ج41 ص1 نقلاً عن التوحيد للصدوق. 

4 - نفس المصدر ص6 نقلاً عن أصول الكافي. 

5 - نفس المصدر. 

6 - مناقب آل أبي طالب ج2 ص94 ط1 المطبعة العلمية قم. 

7 - علي وحقوق الإنسان، جورج جرداق ص75 ط. 197 بيروت. 

8 - بحار الأنوار ج4 ص330 عن المحاسن. 

9 - مناقب ابن شهر آشوب ج51 ص36. 

10 - تذكرة الخواص ص117. 

11 - نفس المصدر ص118: يبسه: يضع عليه السمن، والإهالة الشحم أو ما أذيب منه ونحوهما من أدام. 

12 - تذكرة الخواص ص120. 

13 - نفس المصدر والإمام علي بن أبي طالب - محمد رضا ص12. 

14 - مناقب ابن شهر آشوب ج1 ص366 عن الإحياء للغزالي. 

15 - للاستزادة من شواهد زهد الإمام (عليه السلام) راجع بحار الأنوار/ 40 وتذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي، ومناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب المازندراني ج1 وغيرهم. 

16 - كتابة إلى عثمان بن حنيف رقم النص في نهج البلاغة 45 باب الرسائل، التبر، فتات الذهب والفضة قبل الصياغة. الوفر: المال. الطمر: الثوب. الخلق البالي. إتان دبرة: التي عقر ظهرها فقل أكلها. 

17 - البحار ج41 ص77 عن الكافي ج5. 

18 - نفس المصدر ص40 عن الكافي ج7. 

19 - المناقب - لابن شهر أشوب ص346 والبحار ج1/ 41 ص43 عن كشف المحجة لابن طاووس. 

20 - مررنا مروراً عابراً على مواقف الإمام وبطولاته العسكرية في القسم الأول فراجع.

21 - شرح النهج ج1 ص22. 

22 - نفس المصدر. 

23 - راجع الحلقة الأولى من دراستنا أمير المؤمنين (عليه السلام) فصل بأس في الحرب. 

24 - راجع تفسير الآية في الكشاف للزمخشري والواحدي في أسباب النزول وابن الأثير في أسد الغابة - يشري - يبيع. 

25 - تفسير الطبري عن أنس ج10 ص59 وأسباب النزول للواحدي ص182 والقرطبي في تفسيره ج8 ص91 والرازي في تفسيره والنسفي والسيوطي وسواهم، نقلاً عن فضائل الخمسة ج1 ص279.