فهرس القسم الثالث

من أبعاد المعرفة

بمقدورنا بعد إيراد التوطئة المتعلقة بالحقل المعرفي عند أمير المؤمنين أن نقول أن تصوراً قد تكامل لدينا حول عمق المعرفة وشمولها عند الإمام (عليه السلام) فهو وريث رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمبين للأمة ما بعث به، ومرجعها في كل تساؤلاتها الفكرية الملحة كل ذلك حصيلة لإعداد مسبق من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشرنا لبعض مصاديقه فيما مضى من حديث.

بقي أن نشير في هذا الفصل إلى أبعاد المعرفة التي أسداها الإمام (عليه السلام) للإنسان: المسلم منه وغير المسلم.

ففكر علي (عليه السلام) وإن كان رسالياً هادفاً إلى خدمة الرسالة الإلهية وحملتها وعاملاً على دفع عجلة مسيرة الإسلام التاريخية إلى الأمام، فإنه يبقى منهلاً عذباً لتصيب منه الإنسانية بشتى نحلها واتجاهاتها الفكرية، وهو كفيل بهدايتها إلى الحق وإلى صراط مستقيم.

وقبل أن نطرح الخطوط العامة للجانب المعرفي عند الإمام (عليه السلام) جدير بنا أن نشير إلى أنه (عليه السلام) بالرغم مما طرحه في دنيا الفكر الإنساني من أبواب المعرفة المتعددة فإننا نظل عند قناعتنا من أن الإمام (عليه السلام) لم تسعفه الظروف الاجتماعية والسياسية على حد سواء أن يسدي للإنسان بالكثير مما عنده من معرفة.

فإذا أهملنا الظروف السياسية التي ألمت بالإمام (عليه السلام) ومنعته من أداء مهماته على الشكل المرجو من أجل مصلحة الرسالة والإنسان – فإن الظروف الاجتماعية لا تقل خطراً عن تلك الظروف، فالمجتمع الذي عايشه الإمام (عليه السلام) لم يكن في مستواه من ناحية الوعي قادراً على إدراك الإمام وأهميته ودوره الرسالي الخطير في حياة الناس، ولعل أبلغ شاهد على ذلك ما كان يواجهه الإمام (عليه السلام) من تساؤلات فجة واعتراضات تافهة حين يدعو قومه للإفادة مما يحمل من علم جمّ تلقاه من رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ونذكر بهذا الصدد بعض تلك المواقف التي تقطر سخفاً وبلادة: -فقد خاطب الناس مرة بقوله: سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لا تسألوني عن فئة تضل مائة أو تهدي مائة إلا نبأتكم بناعقها، وسائقها، ولو شئت لأخبرت كل واحد منكم بمخرجه ومدخله وجميع شأنه:

فقام إليه سنان بن أنس النخعي قائلاً:

أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر(1)!!

- وبينما كان الإمام (عليه السلام) يوماً يحدث قومه عن بعض حوادث المستقبل كبر على أعشى بأهله -عامر بن الحارث- ما تحدث به الإمام (عليه السلام) فقال له:

يا أمير المؤمنين ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة(2).

هذه بعض المواقف التي اتخذها البعض من الناس الذين عاصروا الإمام (عليه السلام) فأضاعوا أثمن فرصة مرت بالأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وبالرغم من ذلك كله فإننا ينبغي ألا نغفل ما كان ينطوي المجتمع عليه من طلاب المعرفة من أجل الوصول إلى الهدى والخير.

وكانت تلك الفئة واعية لحقيقة الإمام (عليه السلام) مؤمنة بقدرته الفائقة على طرح شتى أنواع الفكر الإسلامي في العقائد والتشريع وفي مختلف أبواب المعرفة الضرورية لمسيرة الإنسانية.

وقد قابل أمير المؤمنين (عليه السلام) أولي الألباب بنفس الثقة التي أولوها له، فخصهم بالكثير من ألوان الإعداد والتوجيه والتثقيف ليواصل المسيرة التي بدأها رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي خط الإمامة عبر التاريخ الإسلامي ابتداء بعلي (عليه السلام) وانتهاء بأبي القاسم المهدي (عليه السلام).

وقد بلغ بالإمام (عليه السلام) أن يكشف الكثير من أسرار المعرفة لأولئك المتقين الأفذاذ من الرجال(3).

وقد تعاهد الإمام (عليه السلام) أمر إعداد الحَمَلة الحقيقيين للرسالة الإلهية من بدأ الرسول (صلى الله عليه وآله) عملية إعدادهم أو غيرهم..

على أن الذي توفر للإمام (عليه السلام) طرحه من آراء ومبادئ وحكم ومفاهيم في ساحة الفكر الإنساني كفيل بعضه دون جميعه لإبراز عظمة الإمام (عليه السلام) وقدراته العلمية الفائقة.

وها نحن أولاً، نطرح صوراً من المعرفة عند الإمام (عليه السلام):

 

1 - شرح النهج ج2 ص286 - ونفس الرواية في البحار/ 40 باب 93 ص192 ولكنه يروي أن الرجل كان تميم بن أسامة التميمي. 

2 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2 ص289. 

3 - شرح نهج البلاغة ج2 ص286 وما بعدها.