فهرس القسم الثالث

صور من الفكر العقائدي

للإمام (عليه السلام) باع طويل في طرح الصيغ المحددة للعقائد الإسلامية من خلال ما طرحه من خطب ورسائل ومواعظ ومناقشات.

والباحث فيما خلفه الإمام العظيم (عليه السلام) من ثروة فكرية يتجلى له بعمق أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أعطى للعقيدة الإسلامية ركائزها الأساسية على وجه الخصوص الكثير من الاهتمام والعناية، وأغلق الباب بوجه أي شذوذ وانحراف وعدول عن مضامينها الحقيقية بأسلوب واضح وجلي لا يمكن صرفه أو تأويله لأي معنى آخر غير ما أراده الإمام (عليه السلام). فالله تعالى وأسماؤه الحسنى وصفاته ذاته وصفات أفعاله، والرسالة والنبوة والوحي، والملائكة والإمامة والقضاء والقدر، والبعث والنشور وفلسفة الدنيا والجنة والحساب وسواها من أسس العقيدة والإسلامية قد طرحها الإمام (عليه السلام) في صيغ محددة نابضة بقوة الحجة والبرهان والوضوح.

ولو قدر للأمة المسلمة بجميع فرقها أن تنهل من المنهل العذب الرقراق الذي فجره علي (عليه السلام) في دنيا الفكر الإسلامي، لاجتمعت الكلمة وتوحد الصف والهدف، وما شهدت دنيا المسلمين أي لون من ألوان الشطحات والانحرافات المضلة التي جنح إليها رهط من أتباع المدارس الفكرية عند المسلمين.

وبقدر ما تسمح به محاولتنا لدراسة الخطوط العامة لما خلفه لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) من ثروة فكرية سنعرض نماذج من الفكر العقائدي الذي زين الإمام (عليه السلام) بها صفحات الفكر الإنساني بشكل عام:

وحدانية الله عز وجل:

«الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصى نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه(1).

أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة: فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه، فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال «فيم» فقد ضمنه، ومن قال «علام؟» فقد أخلى منه.

كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم.

مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه متوحد إذ لا سكن يستأنس به، ولا يستوحش لفقده، أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء، بلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها، أحال الأشياء لأوقاتها، ولأم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالماً بها قبل ابتدائها، محيطاً بحدودها وانتهائها، عارفاً بقرائنها وأحنائها...»(2).

«الأول لا شيء قبله، والآخر لا غاية له، ولا تقع الأوهام له على صفة، ولا تقعد القلوب منه على كيفية، ولا تناله التجزئة والتبعيض، ولا تحيط به الأبصار والقلوب..»(3).

«لم يولد سبحانه فيكون في العز مشاركاً، ولم يلد فيكون موروثاً هالكاً، ولم يتقدمه وقت ولا زمان، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن، والقضاء المبرم»(4).

«الحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسي أو عرش أو سماء أو أرض أو جان أو أنس، لا يدرك بوهم، ولا يقدر بفهم، ولا يشغله سائل، ولا ينقصه نائل، ولا ينظر بعين، ولا يحد بأين، ولا يوصف بالأزواج ولا يخلق بعلاج، ولا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس»(5).

هكذا حدد أمير المؤمنين (عليه السلام) مفهوم وحدانية الله سبحانه وتعالى، وهكذا عرف علي (عليه السلام) الله رب العالمين، ووصفه كما أراد الله تعالى أن يوصف به، فقد نزهه عن التشبيه والتجسيم والمكان والتجزئة والتبعيض وكل نقص، وأخرجه بوصفه عن كل صفة من صفات مخلوقاته، كما شاء الله تعالى أن يوصف، وكما علّم أولياءه أن ينعتوه.

الرسالة والنبوة:

وكما حدد الإمام أبعاد التوحيد وحقيقته، أعطى (عليه السلام) التحديد الموضوعي الشامل للنبوة والرسالة مبيناً فلسفتها وأهدافها، وموضحاً أن اللطف الإلهي بالعباد اقتضى إرسال الأنبياء (عليهم السلام) إلى الناس ليأخذوا بأيديهم إلى حيث الهدى والرشاد وسبيل الحقن بعد أن تنكروا لعهد الله إليهم، وخرجوا عن مقتضى الفطرة التي فطرهم الله عليها قال (عليه السلام):

«واصطفى سبحانه من ولده –من ولد آدم– أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم مني نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم الآيات المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصا تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة(6) أو محجة قائمة. رسل لاتقصر بهم قلة عددهم، ولا كثرة المكذبين لهم: من سابق سمي له من بعده، أو غابر عرفه من قبله: على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء وخلفت الأبناء.

إلى أن بعث الله سبحانه محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) لإنجاز عدته، وإتمام نبوته، مأخوذاً على النبيين، ميثاقه، مشهورة سماته، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة، بين مشبه لله بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مثير إلى غيره، فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانة من الجهالة..»(7).

«بعث الله رسله بما خصهم به من وحيه، وجعلهم حجة له على خلقه، لئلا تجب الحجة لهم بترك الأعذار إليهم، فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحق..»(8).

«فبعث الله محمداً (صلى الله عليه وآله) بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بينه وأحكمه، ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه، وليقروا به بعد إذ جحدوه وليثبتوه بعد إذ أنكروه، فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أرآهم من قدرته، وخوفهم من سطوته وكيف محق من محق بالمثلاث، واحتصد بالنقمات..»(9).

خط الإمامة في دنيا الإسلام:

ويجلي الإمام (عليه السلام) حقيقة خط الإمامة وضرورته في دنيا المسلمين ويحدد مرامي الأئمة (عليهم السلام) ويرشد الأمة المسلمة إليهم باعتبارهم الامتداد الحقيقي للرسالة، والحملة الحقيقيين لرسالة الله تعالى وهدية للعالمين بعد رسوله (صلى الله عليه وآله)، بهم يقام الحق وتحمى الشريعة ويصان الدين، وتحفظ كلمة الله تعالى.. وتبلغ الأمة الهدى والخير، وبسواهم يكون الضلال والانحراف والضياع يقول (عليه السلام):

- «.. لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمة أحد ولا يسوي بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً: هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله، ونقل إلى منتقله»(10).

«إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ـ لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة في غيرهم»(11).

وبعد هذا التحديد الدقيق للإمامة وللأئمة، يحذر (عليه السلام) من مغبة نكران الأئمة والتنكر لهم «.. وإنما الأئمة قوام الله على خلقه وعرفاؤه على عباده، ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه..»(12).

ويحذر من مغبة نكرانهم في مسيرة الحياة الإسلامية حيث يوضح بكل جلاء أن الحق لا يحصل بسواهم وأن الهدى لا وجود له إلا بمتابعتهم «فأين تذهبون، وأنى تؤفكون، والأعلام قائمة، والآيات واضحة، والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم، وكيف تعمهون، وبينكم عترة نبيكم، وهم أزمة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم وردود إليهم العطاش..»(13).

ثم يشير الإمام (عليه السلام) إلى أن خط الإمامة مصاحب لمسيرة الأمة، وأرض الله لا تخلو من حجة من آل محمد (صلى الله عليه وآله) يحمل الهدى للناس:

«إلا أن مثل آل محمد (صلى الله عليه وآله) كمثل نجوم السماء: إذ حوى نجم طلع نجم، فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع وأراكم ما كنتم تأملون»(14).

ونكتفي بهذه النماذج من الفكر العقائدي الذي طرحه الإمام (عليه السلام) في ساحة الفكر الإسلامي، ومن شاء الاستزادة فدونه نهج البلاغة فإنه ينبوع لا ينضب يمد المتتبع بشتى ضروب المعرفة في مضمار العقيدة وسواها.

 

1 - فطر الخلائق: ابتدعها على غير مثال سابق.

وتد: ثبّت.

الميدان: التحرك بالتمايل.

2 - نهج البلاغة رقم الخطبة 1. 

لا عن حدث: لا عن إيجاد موجد.

المزايلة: المفارقة والاختلاف.

الروية: التفكير.

أجال: ردد أو أدار.

همامة: اهتمام الأمر وانشغال بال.

لأم: قرن.

غرز الغرائز: أودع فيها الطباع.

قرائن: جمع قرونة وهي النفس.

الأحناء: الجوانب.

لا تقعد القلوب منه على كيفية: أي ليست له كيفية فتحكم بها.

3 - نفس المصدر رقم 85. 

4 - نهج البلاغة رقم 182. 

يتعاوره: تطرأ عليه الزيادة والنقصان.

5 - نفس المصدر والخطبة.

وهم: تفكير وتوهم.

النائل: العطاء.

أين: إشارة للمكان.

6 - الميثاق: العهد.

الأنداد: الأمثال وهم المعبودون من دون الله.

اجتالتهم: أبعدتهم عن هدفهم.

واتر: جعل بين كل نبي وآخر فترة.

ليستأدوهم: ليطلبوا الأداء منهم.

وصب: تعب.

7 - نهج البلاغة رقم النص 1 «باب الخطب».

نسلت القرون: تتابعت.

المحجة: الطريق الواضحة المستقيمة.

إنجاز عدته: وعده الله تعالى بإرسال محمد (صلى الله عليه وآله).

السمات: العلامات التي بشر بها النبيون السابقون لرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله).

ملحد في اسم الله: يخرج به عن حقيقة مسماه.

8 - نفس المصدر نص 144. 

9 - نفس المصدر رقم 147. 

تجلى: ظهر بآيات لا برؤيته المباشرة.

المثلاث: العقوبات.

10 - خطبة رقم 2 من نهج البلاغة.

الغالي: المغالي المبالغ الذي يتجاوز الحد في الإفراط.

11 - نفس المصدر رقم 144. 

12 - نفس المصدر رقم 152. 

13 - نهج البلاغة رقم النص 87. 

تؤفكون: تصرفون عن الحق.

المنار: جمع منارة.

يتاه بكم: الحيرة والضلال.

تعمهون: تتحيرون.

العترة: النسل.

ردوهم وردود إليهم العطاش: هلموا إلى بحار علومهم مسرعين كإسراع الإبل العطش إلى الماء.

14 - نفس المصدر رقم 100. 

حوى نجم: غاب.