يناديهم يوم الغدير نبيهم | بخم وأسمع بالنبي مناديا |
بأني مولاكم نعم ووليكم | فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا |
إلهك مولانا وأنت نبينا | ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا |
فقال له قم يا علي فإنني | رضيتك من بعدي إماما وهاديا |
وقد أسند ذلك إلى حسان سبط [ ابن ] الجوزي في الخصائص والفقيه حميد في المحاسن.
قالوا: ذلك لواقعة زيد بن حارثة حين قال له علي عليه السلام: تنازعني وأنا مولاك فشكى زيد ذلك إلى النبي فقال صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه. قلنا:
مات زيد قبل الغدير بسنتين كما أخرجه في جامع الأصول فلما لزمتهم بذلك الفضيحة إلى القيامة، نقلوا واقعة زيد إلى أسامة، وللقرينة الحالية من النزول في الهاجرة، وإقامة الرحال، والمقالية من الخطبة والتحريص وإثبات الولاية لنفسه أولى بمنع ذلك الاحتمال.
وحكى سبط [ ابن ] الجوزي في الباب الثالث من كتاب خواص الأئمة عن كتاب سر العالمين للغزالي حين أورد الغزالي حديث الغدير وبخ بخ عمر قال: هذا رضى وتسليم، وولاية وتحكيم، وبعد ذلك غلب الهوى، وحب الرئاسة، وعقود البنود، وازدحام الجنود، فحملهم على الخلاف، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا، فبئس ما يشترون انتهى كلامه وفيه تبصرة لذي بصيرة.
على أنه لو كان المراد واقعة زيد لم يحتج علي في الشورى بخبر الغدير في جملة فضائله بل كانوا قالوا وأي فضيلة لك في ذلك؟ وإنما هو لكذا وكذا، و لأن تهنئة عمر تبطل ذلك، ولو سلم أن السبب ذلك لكن جاز أن يعم كغيره من الآيات التي نزلت على أسباب ثم عمت.
إن قيل: فإذا كان معنى (مولى) فرض الطاعة فأطلقوه على الأب والمستأجر؟
قلنا: لا مانع منه لغة لولا أغلبية الاستعمال عرفا فإن الوالد أولى بتدبير ابنه و المستأجر أولى باستعمال أجيره.
اعترض المخالف بمنع صحة الحديث ودعوى العلم الضروري به ممنوعة لمخالفتنا قلنا: قد شرط المرتضى في قبول الضروري عدم سبق شبهة تمنع من اعتقاده وهو حق فإن اعتقاد أحد الضدين يمنع من اعتقاد الآخر والمخالف تمكنت في قلبه الشبهة فمنعته من ذلك.
قالوا: نجد الفرق بينه وبين الوقائع العظام. قلنا: يجوز التفاوت في الضروريات.
قالوا: لم ينقله مسلم والبخاري والواقدي، قلنا: عدم نقلهم لا يدل على بطلانه ولو نقلت الرواة كل خبر لم يختلفوا في خبر أصلا.
قالوا: لم يكن علي حاضرا يوم الغدير، بل كان في اليمن. قلنا: نقل حضوره كل من نقل الخبر ويعضده شعر حسان وبخبخة عمر.
قالوا: فنحن نقلنا تواتر فضائل الشيخين. قلنا: لا يلزم من ذكر الفضيلة فيهما ليستميلهما ثبوت إمامتهما كما ذكر فضائل غيرهما.
قالوا: نقلنا أخبارا في خلافتهما. قلنا: نجزم بردها لمناقضتها ما تواتر لعلي وامتناع التناقض في حديث النبي صلى الله عليه وآله.
إن قالوا: ليس الحكم بثبوت نقيضكم وحذف نقيضنا أولى من العكس.
قلنا: نحن وأنتم نقلنا نقيضا فما وقع فيه الخلف أولى بالحذف.
قالوا: لم يكن لكم كثرة تفيد التواتر ابتداء. قلنا: لا نسلم عدمها، على أنكم شاركتمونا فيها وليس كل مقبول مشروط بالكثرة كالمحتف بالقرائن.
قالوا: وليس لكم أن تسندوا صحة هذا الخبر إلى الاجماع لاعتبار الإمام فيه عندكم، فلو أثبتم الإمام فيه عندكم لزم الدور. قلنا: هو من المتلقى بالقبول
قالوا: يجوز أن يعلم الإمام كذبه ويكتمه للخوف من إظهاره.
قلنا: مرادنا بالاجماع إطباق الخلق عليه وقد وقع فعلمت صحته ولأنه إن كان الحق كذبه فلا خوف على الإمام في إظهاره لموافقته طبع الجمهور المنكرين له إذ كان يريحهم من التعسف في تأويله.
قالوا: قلتم احتج به في المناشدة ولا نعلم صحة ذلك قلنا: علمت بالضرورة كما علم أصل الخبر.
قالوا: يجوز أن لا تصل المناشدة به إلى كل الصحابة، ولو وصلت لا نكره كلهم أو بعضهم. قلنا: لا يشك في حضور المعتبرين من الصحابة يوم الشورى وإذا لم ينكره أحدهم مع طمعهم في الإمرة فبالأولى أن لا ينكره غيرهم.
قالوا: قد يحصل الانكار ولم ينقل. قلنا: هو من الوقائع العظام فتتوفر الدواعي إلى نقلها لو وقعت.
قالوا: يجوز منهم ترك الانكار تقية. قلنا: لا يتصور خوف الأمير من قوم قليلين، وأراهم ما خافوا عند سلبه لمنصبه، مع اطلاعهم على موجبه.
قالوا: قلتم: مقدمة الخبر وهي (ألست أولى منكم بأنفسكم) تدل على الإمامة في تاليه، فنحن نمنع وصول المقدمة، قلنا: كل من نقله نقلها.
قالوا: لم يذكرها علي في الشورى، قلنا: لا نسلمه، وعدم نقلها عنه لا يدل على عدمها منه، ولجواز تركها للغناء عنها.
قالوا: ولو قالها فلا دلالة فيها على بناء تاليه عليها، لحسن التوكيد والاستفهام بعد، فإن من قال عند جماعة: (عبدي زيد حر) حسن الاستفهام منهم أن يقولوا وقت إشهادهم: أي عبيدك تريد؟ وحسن منه أن يقول عبدي الذي هو زيد.
قلنا: نمنع حسن الاستفهام إلا للغافل، ونمنع حسن التوكيد لامتناع فهم غير المذكور.
قلنا: إن مفعل مع وضعها للحدث لا تنفي؟ غيرها، وإلا لما أطلقت على باقي معاني مولى كالمعتق وغيره، وقد أجمع أهل اللغة على اشتراكها فيها، ولو وضعت مفعل للحدث لغة لا يمتنع وضعها للتفضيل عرفا.
على أن المبرد والفراء وابن الأنباري وغيرهم ذكروا أنها بمعنى أفعل التفضيل.
قالوا: لم يذكرها الخليل وأضرابه بمعنى أفعل التفضيل. قلنا: لا نسلم عدم ذكره، وعدم وجدانكم لا يدل على عدمه.
قالوا: الأصل عدمه. قلنا: فلا يلزم من عدمه بطلان نقل غيره، لجواز التسهل في تركه، والاكتفاء بنقل غيره، أو تركه لشهرته، على أنه لو صرح بإنكاره لم يبطل لكونه شهادة على نفي فكيف مع سكوته.
قالوا: من ذكره من أهل اللغة في التفسير ذكره مرسلا لم يسند إلى أصل قلنا: اكتفوا بإرساله لظهور الرواية.
قالوا: لو كان (مولى) بمعنى (أولى) لصح أن يقترن بإحداهما ما يقترن بالأخرى وليس كذلك إذ لا يقال مولى من فلان كما يقال أولى منه.
قلنا: لا نسلم أن كل لفظة ترادف الأخرى، يصح أن يقترن بها ما يقترن بالأخرى، فإن صحة الاقتران من عوارض الألفاظ لا من لوازمها، فإن الأوتاد والجبال مترادفة ويقال ضربت الوتد وسرت في الجبل دون العكس فيهما.
قالوا: أهل اللغة قسمان قسم حملها على معنى القرب كما يقال فلان يلي كذا أي قريب منه، وقسم حملها على جميع معانيها فمن قال بحملها على معنى واحد منها، وهو ولاية النصرة خرق الاجماع.
قلنا: لا نسلم الحصر في القسمين، فإن منهم من جعلها للقدر المشترك، على أنا لا نسلم إجماع القسمين على ذلك، ومعنى القرب غير مراد هنا وإلا كسر لام
قالوا: قد كان الغدير بعد عام الفتح فأراد النبي صلى الله عليه وآله أن يبين به لمن هو قريب الاسلام عظم منزلة علي، ليذهب ما في نفوسهم من الحقد له، لقتله أقاربهم.
قلنا: لم يشك أحد من المسلمين وغيرهم في عظم منزلته من رسوله، لقيام الدين بسيفه دون غيره، فلم يحسن من النبي صلى الله عليه وآله مع شدة الحر، تعريف ما يعترف كل أحد به.
قالوا: إمامته عندكم ثابتة بالنص الجلي فلا فائدة بعده بالنص الخفي.
قلنا: لم يكن النص الجلي بمثل هذا الجمع العظيم، فقصد النبي صلى الله عليه وآله شهرته لقرب وفاته منه، فصار إظهاره مضيقا عليه، لمسيس الحاجة إليه.
قالوا: في القرآن لفظة أولى لغير الولاية (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه(1)) وفي العرف التلامذة أولى بالأستاذ، والرعية أولى بالسلطان.
قلنا: ذلك لا ينافي ما قلناه إذ معناه الذين اتبعوا إبراهيم أولى بالتصرف في خدمته دون غيرهم، وكذا الآخران.
وبالجملة فاللفظة لا تحتمل غير ما فهم منها الحاضرون، ولو تركت هذه الاعتراضات، وخلي العاقل عن النظر فيها، لم يفهم سوى ما ذكرناه، والماء الصافي إذا خضخض في منبعه تكدر، وإذا ترك صفا، فكذا في هذه ونحوها وبالله العصمة من ذلك، وهذه الوجوه وإن تكررت ألفاظها فإنما هي للاستيناس بها.
إذا شعرت بهذا الباب، فلنورد فيه شيئا مما شعرت أولوا الألباب فقال علي عليه السلام:
____________
(1) آل عمران: 68.
أنا البطل الذي لن تنكروه | ليوم كريهة أو يوم سلم |
وأوجب لي ولايته عليكم | رسول الله يوم غدير خم |
وقال كميت:
ويوم الدوح دوح غدير خم | أبان له الولاية لو أطيعا |
ولكن الرجال تبايعوها | فكم لك مثلها خطبا منيعا |
ولم أر مثل ذاك اليوم يوما | ولم أر مثله حقا أضيعا |
وروي أن ابن الكميت رأى النبي صلى الله عليه وآله في المنام فقال أنشدني قصيدة أبيك!
فلما وصل إلى هذا بكى بكاء شديدا وقال صلى الله عليه وآله: صدق أبوك رحمه الله، إي والله لم أر مثله حقا أضيعا.
وقال عمرو بن العاص:
وضربته كبيعته بخم | معاقدها من الناس الرقاب |
هو النبأ العظيم وفلك نوح | وباب الله وانقطع الخطاب |
وقال الزاهي:
من قال أحمد في يوم الغدير له | بالنقل عن خبر بالصدق مأثور |
قم يا علي فكن بعدي لهم علما | واسعد بمنقلب في البعث محبور |
مولاهم أنت والموفي بأمرهم | نصا بوحي على الأفهام مسطور |
وذاك أن إله الحق قال له | بلغ وكن عند أمري خير مأمور |
فإن عصيت ولم تفعل فإنك ما | بلغت أمري ولم تصدع بتذكير |
وقال الصاحب:
وقالوا: عليا علا قلت لا | فإن العلى بعلي علا |
وما قلت فيه بقول الغلا | ة ولا كنت أحسبه مرسلا |
ولكن أقول بقول النبي | وقد جمع الخلق كل الملا |
ألا إن من كنت مولى له | يوالي عليا وإلا فلا |
تجلى الهدى يوم الغدير عن الشبه | وبرز إبريز البيان عن الشبه |
وأكمل رب العرش للناس دينهم | كما نزل القرآن فيه فأعربه |
وقام رسول الله في الجمع جاذبا | بضبع علي ذي التعالي على الشبه |
وقال ألا من كنت مولى لنفسه | فهذا له مولى فيا لك منقبه |
وقال الملك الصالح:
ويوم خم وقد قال النبي له | بين الحضور وشالت عضده يده |
من كنت مولى له هذا يكون له | مولى أتاني به أمر يؤكده |
من كان يخذله فالله يخذله | أو كان يعضده فالله يعضده |
وقال الجوهري:
أما أخذت عليكم إذ نزلت بكم | غدير خم عقودا بعد أيمان |
وقد جذبت بضبعي خير من وطئ | البطحاء من مضر العليا وعدنان |
وقلت والله يأبى أن أقصر أو | أعفي الرسالة من شرح وتبيان |
هذا علي لمولى من بعثت له | مولى وطابق سري فيه إعلاني |
هذا بن عمي ووالي منبري وأخي | ووارثي دون أصحابي وإخواني |
محل هذا إذا قايست من بدني | محل هارون من موسى بن عمران |
وقال السيد الحميري:
وقال في الناس النبي الذي | كان بما قيل له يصدع |
فقام مأمورا وفي كفه | كف علي لهم تلمع |
رافعها للناس أكرم بها | كفا وبالكف التي ترفع |
من كنت مولاه فهذا له | مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا |
وذكر ذلك في إحدى وعشرين موضعا من شعره ومنها:
قد قال يوم الدوح خير الورى | بوجهه للناس مستقبل |
من كنت مولاه فهذا له | مولى فلم يرضوا ولم يقبلوا |
لكن تواصوا لعلي الهدى | أن لا يوالوه وأن يخذلوا |
وقال العوني:
حتى لقد قال ابن خطاب له | لما تنوص(1) من هناك وقاما |
أصبحت مولاي ومولى كل من | صلى لرب العالمين وصاما |
وقال أبو تمام:
ويوم الغدير استوضح الحق أهله | بفيحاء ما فيها حجاب ولا ستر |
أقام رسول الله يدعوهم بها | ليقريهم عرف وينهاهم نكر |
يمد بضبعيه ويعلم أنه | ولي ومولاكم فهل لكم خبر |
وقال أبو نواس(2):
قام النبي بها يوم الغدير لهم | والله يشهد والأملاك والأمم |
حتى إذا أنكر الشيخان صاحبها | باتت تنازعها الذئبان والرخم |
وصيرت بينهم شورى كأنهم | لا يعلمون ولاة الأمر أين هم |
تالله ما جهل الأقوام موضعها | لكنهم ستروا وجه الذي علموا |
وقال محسن بن داود:
فيما نظرت إلى كلام محمد | يوم الغدير وقد أقيم المحمل |
من كنت مولاه فهذا حيدر | مولاه لا يرتاب فيه محصل |
نص النبي عليه نصا ظاهرا | بخلافة غراء لا تتأول |
وقال غيره:
وسماه مولى بإقرار من | لو اتبع الحق لم يجحد |
فملتم بها حسد الفضل منه | ومن يك مولى الورى يحسد |
فهذه نبذة من أقوال العلماء والشعراء، وكل خبير نحرير غني عن تطويل
____________
(1) أي شمخ برأسه وتنحى، ويحتمل أن يكون (تقوض) من تقوض الصفوف بمعنى تفرقت.
(2) أبو فراس، خ.
وبالجملة لو أمكن إنكار هذا الحديث، لم يعلم صحة كل حديث، وقد روى أن يوم الغدير شهد فيه لعلي ستون ألفا وقيل ستة وثمانون ألفا من الأمصار والقبائل المتفرقات، وإذا بلغ الخبر دون هذا انتظم في سلك المتواترات، فالمرتاب فيه ممن طبع على فؤاده، جزاء لانحرافه عن الحق وعناده.
وقد ذكر الرازي والقزويني والنيشابوري والطبرسي والطوسي وأبو نعيم أنه لما شاع ذلك في البلاد، أتى الحارث إلى النبي صلى الله عليه وآله وقال: يا رسول الله هذا شئ منك أم من الله؟ فقال صلى الله عليه وآله: والله إنه من أمر الله تعالى فولى يريد راحلته، فقال حينئذ: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فرماه الله تعالى بحجر على هامته فخرج من دبره فقتله، فأنزل الله تعالى حينئذ: (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع(1)).
وروى معاوية بن عمار عن الصادق عليه السلام أن رجلا قال: إنما هو شئ يتقوله فأنزل الله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين)(2).
وفي الحديث أنه لما نص على علي بالإمامة في ابتداء الأمر، جاءه قوم من قريش وقالوا: يا رسول الله الناس قريبوا عهد بالاسلام، ولا يرضوا أن تكون النبوة فيك، والإمامة في علي ابن عمك، فقال صلى الله عليه وآله: ما فعلته برأيي فأتخير فيه، ولكن الله أمرني به وفرضه علي، قالوا: فأشرك معه رجلا من قريش لئلا تخالف الناس عليك، فنزلت: (لئن أشركت ليحبطن عملك، ولتكونن من الخاسرين(3)). ونحوه خبر آخر عن الصادق عليه السلام.
____________
(1) المعارج: 2.
(2) الحاقة: 46.
(3) الزمر: 65.
وقد روى أبان بن تغلب أن الصادق عليه السلام قال: إن أبا بكر وعمر هزا رأسهما وقالا: لا نسلم له أبدا فسمعهما رجل فأعلم النبي صلى الله عليه وآله بذلك، فأحضرهما فأنكرا قولهما، فنزلت قوله تعالى (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر - إلى قوله - فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما(3)) قال الصادق عليه السلام: والله توليا وماتا وما تابا. وروي عن الباقر عليه السلام نحو ذلك.
ومن هذا وغيره استحقا العذاب واللعن في الدنيا والآخرة، كما قال و فعل الحارث الفهري وقد أسلفناه.
وفي المقنع أن سالما مولى أبي حذيفة، وأبا عبيدة لما رأيا النبي صلى الله عليه وآله رافعه قال بعضهم: انظروا إلى عينيه تدوران كأنهما عينا مجنون، فنزلت (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين(4).
تذنيب:
إن قيل: إن الإمامة إن كانت ركنا في الدين، فقد أخل لله ورسوله بها
____________
(1) القيامة: 16.
(2) يونس: 15.
(3) براءة: 75.
(4) القلم: 52.
قلنا: هي ركن من بعد موت النبي صلى الله عليه وآله لقيامه مقامه، فلا تأخير عن الحاجة ولا شك أن دين النبي صلى الله عليه وآله إنما تكمل تدريجا بحسب الحوادث، أو أنه كمل قبل فرض التكليف، والميتون قبل الغدير كمل الدين لهم بالنبي صلى الله عليه وآله، والخطاب للحاضرين، وليس فيه تكميل الدين لغيرهم.
على أن النبي صلى الله عليه وآله نص على علي في مواضع شتى في مبدأ الأمر، وسيأتي شئ منها في آخر هذا الباب.
تذنيب آخر:
قد سلف [ أن ] لفظة مولى مرادفة للأولى، لأن النبي صلى الله عليه وآله قال: ألست أولى، ثم قال: فمن كنت مولاه فعلي له مولى، وقال الله تعالى: (النار مولاكم)(2) وذكر ذلك أبو عبيدة وابن قتيبة ولبيد في قوله: (مولى المخافة خلفها وأمامها(3)) والأخطل في قوله) فأصبحت مولاها من الناس كلهم)(4) وذكر ذلك القول في كتاب معاني القرآن وابن الأنباري في كتاب مشكل القرآن.
وقد روي أن ابن مسعود قرأ: (إنما مولاكم الله ورسوله)(5) وقد فهم كل من حضر أن المراد بالمولى الإمامة، ولو أراد غيرها لما أقرهم النبي صلى الله عليه وآله عليها إذ نوهوا في أشعارهم بها، وكذا القيام في ذلك الحر الشديد، والتهنئة والبخبخة وقد استعفى النبي صلى الله عليه وآله ثلاثا فلم يعفه، وخاف أن يقتله الناس، فبشره بالعصمة منهم.
____________
(1) المائدة: 3.
(2) يريد قوله تعالى: (مأواكم النار هي مولاكم) في سورة الحديد: 15.
(3) أوله: فغدت كلا الفرجين تحسب أنه.
(4) وبعده: وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا.
(5) يريد قوله تعالى: إنما وليكم الله ورسوله في المائدة: 58.
جواب: لا محال في ذلك، وتكون الفائدة فهم الحاضرين شدة التأكيد من الرب المجيد، ليعلمهم أنه لا بدل له ولا عنه محيد، ويماثله ما فعله النبي صلى الله عليه وآله من إرساله لأبي بكر بسورة براءة وذلك بأمر الله لعموم الآية ثم أمره الله بعزله لينبه به على عدم صلاحه، ولو لم يبعثه أولا لم يكن فيه من التأكيد، ما كان في بعثه وعزله، وأما لفظ (ألست) فهي للتقرير والايجاب، منه:
ألستم خير من ركب المطايا | وأندى العالمين بطون راح |
وفي يوم الغدير نصب موسى يوشع وعيسى شمعون وسليمان آصف فأمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وآله أن ينصب فيه عليا وهذا يسقط كل ما يهولون به من أنه أراد غير معنى الإمامة.
تذنيب آخر:
قال الجوزي لأبي هارون الخارجي أمروا - الناس - بخمسة فعملوا بأربع:
الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، وتركوا الخامسة وهي الولاية لعلي قال الخارجي وإنها لمفترضة؟ قال: نعم، قال الخارجي: فقد كفر الناس إذا قال فما ذنبي أنا؟
ومنها قوله صلى الله عليه وآله حين خرج إلى تبوك فقال المنافقون: إنما خلفه استثقالا به، فلحقه فأخبره فقال صلى الله عليه وآله: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، ولا يرتاب عاقل أن منزلة هارون من موسى أعظم من غيره من أصحابه، فكذا علي من النبي صلى الله عليه وآله فهو أولى بالإمامة من غيره.
وقد أخرج صاحب جامع الأصول في صحيح النسائي عن علي عليه السلام (كان لي من النبي صلى الله عليه وآله منزلة لم تكن لأحد) ولو عرف النبي صلى الله عليه وآله مسد غيره عنه مما عساه يعرض من أعدائه في المدينة، لاستخلف غيره، ولو عرف مسد غيره في غزواته، لاستخلفه دائما ولو علم في تبوك حربا لم يتركه.
فلما استخلفه في آخر مرة ولم يعزله عمت خلافته الأيام والأنام، وهذا أقوى من استدلالهم على خلافة أبي بكر بصلاته لو ثبتت.
قالوا: إنما كان قول النبي صلى الله عليه وآله ذلك فيه تسلية له، فلا يدل على خلافته قلنا: لا، بل ذلك دال على فضيلته، فلا وجه لتخصيصه بتسليته، ولئن سلم فهو دليل على عظم شفقته، لكبر منزلته الموجبة لاستحقاق إمامته، وأنتم جعلتم قول النبي صلى الله عليه وآله لأبي بكر: لا تحزن، دليلا على كبر منزلته.
قالوا: استخلف على المدينة ابن أم مكتوم أحد عشر مرة وهو لا يصلح للإمامة لكف بصره، قلنا كفى بعلي شرفا توليته وعزل غيره، ولولا أن الله أراد لعلي إبراز فضيلته، لم يذكر الناصب عزل غيره في حجته.
وإذا أراد الله نشر فضيلة | طويت أتاح لها لسان حسود |
قالوا: هارون مات قبل موسى، فلم يكن له إمامة بعده، فكذا علي بعد النبي صلى الله عليه وآله. قلنا: دلالته على أفضلية علي عليه السلام توجب الخلافة له بعد النبي صلى الله عليه وآله ولو عاش هارون لكان خليفة له إذ لو عزله لكان لانحطاط منزلته ولا موجب لها.
ولا يلزم من نفي خلافة هارون لمانع الموت نفي خلافة المشبه به، فإن قال أحد لوكيله (أعط زيدا كذا إذا حضرك وأنزل عمرا منزلته) فإذا لم يأت زيد لم يمنع عمرو، وقد عاش علي بعد النبي صلى الله عليه وآله فهو خليفة له.
وقول النبي صلى الله عليه وآله: لا نبي بعدي دال على أنه يفارق هارون في هذه الخصلة وإلا لخلا الاستثناء عن الفائدة.
قالوا: أخوة موسى لهارون بالقرابة، وليست أخوة النبي صلى الله عليه وآله لعلي بالقرابة فكيف يشبه به، قلنا: لا شك أنه من المجاز لأجل المشاكلة، وهو مشهور قال تعالى: (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها(1)) والمقصود
____________
(1) الزخرف: 48.
قالوا: لم يحصل من خلافة هارون إلا الفتنة العظيمة بعبادة العجل، ومثله في خلافة علي حيث قامت الفتن بقتال الفرق الثلاث، حتى وهن الاسلام، وطعنت الأعداء فيه بمسئ الكلام، فلم لا يكون التشبيه لهذه الوصمة الواقعة في الأنام.
قلنا: ليس وقوع الفتنة عند خلافة هارون بسبب هارون، وإن كانت عندها وقد أضاف الله في الوحي الإلهي زيادة الرجس إلى السورة، والنفور إلى النبي صلى الله عليه وآله وإنما حصلت بالسامري وقد قال هارون (إنما فتنتم به(1)).
ولو كان ذلك هو المراد لم يكن في قول النبي صلى الله عليه وآله تسلية لعلي لأنه حينئذ إعلام له بأنه سبب المحنة، وموجب الفتنة.
وأي رذيلة في قتال الفرق الثلاث، وقد بشره النبي صلى الله عليه وآله بها، ومدحه عليها، فقد نقل الفراء في كتابه شرح السنة مسندا إلى الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فقال أبو بكر: أنا؟ قال: لا، قال عمر: أنا. قال: لا، ولكن خاصف النعل وكان علي عليه السلام يخصف نعل النبي صلى الله عليه وآله.
وأخرج البخاري قول النبي صلى الله عليه وآله: طوبى لمن قتلهم وقتلوه، وأخرج صاحب الوسيلة في المجلد الخامس دخول علي على النبي صلى الله عليه وآله في منزل أم سلمة وقوله لها: هذا علي أخي، لحمه من لحمي، ودمه من دمي، وعيبة علمي ومحيي سنتي يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بعدي، اسمعي يا أم سلمة واشهدي لو أن رجلا عبد الله ألف عام ثم لقيه وهو يبغض عليا وعترته [ أ ] كبه الله على أم رأسه في النار.
ونقل خطيب دمشق الشافعي عن الشافعي: أخذ المسلمون قتال المشركين
____________
(1) طه: 90.