الصفحة 107

الخاتمة


فهذه الفصول الثلاثة، وأما الخاتمة:

فاعلم أنّه إذا ثبت أنّ السعادة الأخروية لا تحصل إلاّ بولائه والبراءة من أعدائه، فلابد من اتباعه في شيء من أقواله وأفعاله، إذ المحبّة تستلزم الاتباع، قال الله سبحانه وتعالى:

(قُلْ اِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)(1).

وكل إنسان يكلّف(2) على نسبة حاله، وقدر قوّته وإمكانه، فالذي يريده الله العزيز الرحمن من الملك العظيم السلطان: العدل، وايتاء ذي القربى، والاحسان، قال الله تعالى:

(اِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاِْحْسَانِ وَاِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى)(3).

____________

1- آل عمران : 31 .

2- في "ب" : مكلّف .

3- النحل : 90 .


الصفحة 108
وحيث أنّ الحال ذلك فلنذكر الآن حينئذ شيئاً ممّا ورد في الترغيب إلى هذه الأفعال وبه نختم الرسالة إن شاء الله.

الأول: العدل; قال الله تعالى: (اِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاِْحْسَانِ)(1) وقال جلّ وعلا: (وَاِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)(2) وقال عزوجل: (وَأَقْسِطُوا اِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(3) وقال عزّ من قائل: (وَاِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)(4).

وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: السلطان العادل ظلّ الله في أرضه(5).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: عدل ساعة تعدل عبادة سبعين سنة بعد أداء الفرائض(6).

ويكفيك في معرفة أنّ العدل من أعظم الفضائل المقربة إلى الله تعالى حال فرعون وموسى عليه السّلام، فانّ الله عزوجل أنعم عليه بجميع أنواع النعم من الأمن والصحة والملك إلى غير ذلك من النعم غير المتناهية، وقابل على ذلك بأبلغ مراتب الكفر، وأنهى أحوال الشرك، وهو دعوى الألوهيّة مع نفيها عنه تعالى، كما حكى عنه سبحانه وتعالى: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِله غَيْرِي)(7).

ثمّ بعث إليه أنبياءه ورسله الذين همّ أخصّ خلقه وأقربهم إليه، ليعظوه ويزجروه عن ذلك، فغلظ عليهما في الكلام، وخاطبهما بما يخاطب به العوام، فرجعا إليه تعالى وشكيا منه، فقال لهما الحليم الكريم جلّ جلاله: (فَقُولاَ لَهُ قَوْلا لَيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)(8).

____________

1- النحل : 90 .

2- النساء : 58 .

3- الحجرات : 9 .

4- الأنعام : 152 .

5- كنز العمال 6 : 6 ح 14589 ، وفيه : السلطان العادل المتواضع ظل الله ورمحه في الأرض .

6- راجع البحار 75 : 352 ح 61 باب 81 ، وفيه : عبادة سبعين سنة قيام ليلها وصيام نهارها .

7- القصص: 38.

8- طه : 44 .


الصفحة 109
وبقي موسى عليه السّلام يدعو عليه أربعين سنة فلا يُستجاب له، فخاطب الله تعالى في ذلك، فقال جلّ جلاله: يا موسى ما دام آمناً لعبادي، عامراً لبلادي [لم اُجب] (1) فيه دعوة منادي(2).

ويكفيك في ارتفاع منزلة العدل عند الله تعالى وعلوّ شأنه، افتخار سيد المخلوقات، وأشرف الممكنات نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم بولادته في زمن أنوشيروان مع كفره، بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ولدت في زمن الملك العادل أنوشيروان(3).

وقال تعالى: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبَاً)(4) فالمقسط: العادل، والقاسط: الجائر، يقال: أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار، وقال تعالى: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار)(5).

وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: من ولّي أمور سبعة من المسلمين ولم يعدل فيهم جعل الله رأسه ورجليه في ثقب فأس من نار حتّى يفرغ من حساب الخلائق(6).

وقال أمير المؤمنين عليه السّلام: يؤتى يوم القيامة بالحاكم الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيُلقى في نار جهنّم، فيدور فيها كما يدور الرحى ثمّ يرتبط في قعرها.

وقال الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: (اِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)(7) قال: قنطرة على الصراط لا يجوزها عبدٌ بمظلمة(8).

وقال بعض الحكماء: السلطان الجائر الذي يغصب مال رعيّته، كمن يأخذ التراب من أساس داره ويبني به أعاليها(9).

____________

1- كذا الظاهر، وفي النسخ: "أن اُجيب" 2- ارشاد القلوب 2: 391.

3- راجع البحار 15 : 250 ضمن حديث 1 باب 3 .

4- الجن : 15 .

5- البقرة : 270 .

6- البحار 75 : 345 ح 40 باب 81 باختلاف .

7- الفجر : 14 .

8- غوالي اللئالي 1: 364 ح53، وتفسير كنز الدقائق 14: 270، ونحوه في مجمع البيان 5: 487.

9- ارشاد القلوب 2: 391.


الصفحة 110
وكان كسرى قد فتح بابه، ورفع حجابه، وبسط إذنه لكلّ واصل إليه، فقال له رسول ملك الروم: لقد أقدرت عليك عدوّك بفتحك بابك، ورفعك حجابك، فقال: الحصن من عدوّي بعدلي، وإنّما انتصبت هذا المنصب، وجلست هذا المجلس لقضاء الحاجات، وكشف الظلامات، فاذا لم تصل الرعية إليّ فمتى أقضي الحاجة، وأكشف الظلامة؟(1)

[نصيحة الخضر عليه السّلام للمنصور]

وروى المظفري في تاريخه قال: لمّا حجّ المنصور في سنة أربع وأربعين ومائة نزل بدار الندوة، وكان يطوف ليلا ولا يُشعر به، فاذا طلع الصبح صلّى بالناس وراح في موكبه إلى منزله، فبينا هو ذات ليلة يطوف إذ سمع قائلا يقول: اللّهمّ إنّا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحقّ وأهله من الظلم.

قال: فملأ المنصور مسامعه منه، ثمّ استدعاه فقال له: ما هذا الذي سمعته منك؟ قال: إن آمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصلها، قال: أنت آمن على نفسك.

قال: أنت الذي دخله الطمع حتّى حال بينه وبين الحقّ، وحصول ما ظهر في الأرض من البغي والفساد، فإنّ الله سبحانه وتعالى استرعاك أمور المسلمين فأغفلتها، وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجصّ والآجر، وأبواباً من الحديد، وحجبة معهم السلاح.

واتّخذت وزراء ظلمة، وأعواناً فجرة، إن أحسنت لا يعينوك، وإن أسأت لا يردّوك، وقوّيتهم على ظلم الناس، ولم تأمرهم باغاثة المظلوم والجائع والعاري،

____________

1- ارشاد القلوب 2: 391.


الصفحة 111
فصاروا شركاءك في سلطانك.

وصانعهم العمال بالهدايا خوفاً منهم، فقالوا: هذا قد خان الله فما بالنا لا نخونه، فاختزنوا الأموال، وحالوا دون التمظلّم ودونك، فامتلأت بلاد الله فساداً وبغياً وظلماً، فما بقاء الإسلام وأهله على هذا.

وقد كنت أُسافر إلى بلاد الصين وبها ملك قد ذهب سمعه، فجعل يبكي، فقال وزراؤه: ما يبكيك؟ فقال: لست أبكي على نفسي ما نزل بي من ذهاب سمعي، ولكن لمظلوم يصرخ بالباب ولا أسمع نداءه، إن كان سمعي قد ذهب فبصري باق، نادوا في الناس لا يلبس ثوباً أحمر إلاّ مظلوم، وكان يركب الفيل في طرف كلّ نهار هل يرى مظلوماً، فلا يجده.

وهذا هو مشرك بالله، قد غلبت رأفته بالمشركين على شحّ نفسه، وأنت مؤمن بالله وابن عمّ رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شحّ نفسك، فانّك لن تجمع المال إلاّ لواحدة من ثلاث:

إن قلت: أنّك تجمعها لولدك، فقد أراك الله الطفل الصغير يخرج من بطن أمّه لا مال له فيعطيه الله، فلست بالذي تعطي بل الله سبحانه يعطي، وإن قلت: أجمعها لتشييد سلطاني، فقد أراك الله القدير عبراً في الذين تقدّموا ما أغنى عنهم ما جمعوا من الأموال، ولا ما أعدّوا من السلاح، وإن قلت: أجمعها لغاية هي أحسن من الغاية التي أنا فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه منزلة إلاّ العمل الصالح.

يا هذا هل تعاقب من عصاك إلاّ بالقتل، فكيف تصنع بالله الذي لا يعاقب بالقتل بل بأليم العذاب، وهو يعلم منك ما أضمره قلبك، وعقدت عليه جوارحك، فماذا تقول إذا كنت بين يديه للحساب عرياناً، هل يغني عنك ما كنت فيه شيئاً؟

قال: فبكى المنصور بكاءً شديداً وقال: يا ليتني لم أُخلق ولم أك شيئاً، ثمّ قال: ما الحيلة فيما خُوّلْت؟ قال: عليك بالأعلام العلماء المراشدين، قال: فرّوا منّي، قال: فرّوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقك، ولكن افتح الباب،

الصفحة 112
وسهّل الحجاب، وخذ الشيء ممّا حلّ وطاب، وانتصف للمظلوم من الظالم، وأنا ضامن عمّن هرب إليك أن يعود إليك، فيعاونك على أمرك.

فقال المنصور: اللّهمّ وفّقني لأن أعمل بما قال هذا الرجل، ثمّ حضر المؤذّنون وأقاموا الصّلاة، فلمّا فرغ من صلاته قال: عليّ بالرجل، فطلبوه فلم يجدوا له أثراً، فقيل: إنّه كان الخضر عليه السّلام(1).

الثاني: الإحسان; وهو التفضّل والمعروف، قال الله تبارك وتعالى: (اِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(2) وقال جلّ جلاله: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ اِلَيْكَ)(3).

وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: صنايع المعروف تقي مصارع السوء(4).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ البيوت التي يمتاز فيها المعروف تضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض(5).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: خياركم سمحاؤكم(6).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: الخلق كلّهم عباد الله، فأحبّ خلقه إليه أنفعهم لعباده(7).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ لله سبحانه عباداً خلقهم لقضاء حوائج الناس آلى على نفسه أن لا يعذّبهم بالنار، فاذا كان يوم القيامة وُضعت لهم منابر من نور يقدّسون الله عزوجل والناس في الحساب(8).

ومرّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بيهودي يحتطب، فقال لأصحابه: إنّ هذا اليهودي تلدغه

____________

1- ارشاد القلوب 2: 392، عنه البحار 75: 351 ح60، ونحوه في شرح النهج لابن أبي الحديد 18: 287، عن عيون الأخبار لابن قتيبة.

2- البقرة : 195 .

3- القصص : 77 .

4- الترغيب والترهيب 2: 30 ح4، والبحار 96: 181 ح28، وارشاد القلوب 2: 394.

5- ارشاد القلوب 2: 394.

6- ارشاد القلوب 2: 394، والبحار 73 : 307 ح 34 باب 136 عن أبي عبد الله عليه السّلام .

7- راجع الوسائل 11 : 566 ح 9 باب 22 ، والكافي 2 : 164 ح 6 باختلاف يسير، وفي ارشاد القلوب 2: 394.

8- ارشاد القلوب 2: 394.


الصفحة 113
اليوم أفعى فيموت، فلمّا كان آخر النهار رجع اليهودي والحطب على رأسه كعادته، فقال الجماعة: يا رسول الله ما عهدناك تخبرنا بما لم يكن.

فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: وما ذاك؟ قالوا: إنّك أخبرت اليوم بأنّ هذا اليهودي تلدغه أفعى ويموت، وقد رجع سالماً، فقال: عليّ به، فأحضره إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال له: يا يهودي ضع الحطب وحلّه، فحلّه فرأى فيه أفعى.

فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا يهودي ما صنعت اليوم من المعروف؟ قال: إنّي لم أصنع شيئاً منه غير أنّي خرجت ومعي كعكتان، فأكلت إحداهما، ثمّ سألني سائل فدفعت إليه الأخرى، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: تلك الكعكة خلّصتك من شرّ هذه الأفعى، فأسلم على يده(1).

وروى إسحاق بن عمار قال: كنت بين يدي الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام عند مقام إبراهيم [الخليل] (2)، فقال لي: يا ابن عمار من طاف بهذا البيت طوافاً واحداً كتب الله له ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيّئة، وأعتق عنه ألف نسمة، وغرس له ألف شجرة في الجنّة.

قال: قلت: هذا كلّه لمن طاف طوافاً واحداً؟ فقال عليه السّلام: نعم، ألا أُخبرك بأفضل منه؟ قلت: بلى يا ابن رسول الله، قال: قضاء حاجة المؤمن أفضل من طواف وطواف حتّى عدّ عشرة(3).

ودخل عليّ بن يقطين رحمه الله على الامام الكاظم عليه السّلام وكان قد حجّ في تلك السنة وهو يومئذ وزير الرشيد، فقال له: يا ابن رسول الله أوصني بحاجة، فقال له عليه السّلام: إضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثاً.

فقال له: يا مولاي وما هي؟ فقال: إضمن أنّه لا يقف على باب هذا الجبار أحد

____________

1- الكافي 4: 5 ح3، عنه البحار 4: 121 ح67، وارشاد القلوب 2: 394.

2- أثبتناه من "ب" .

3- الكافي 2: 194 ح8، عنه البحار 74: 326 ح97، وفي ارشاد القلوب 2: 394.


الصفحة 114
من شيعتنا أو من أهل بيتنا إلاّ قضيت حاجته، أضمن لك أنّه لا يظلّ رأسك سقف سجن، ولا يصيب جسدك حدّ سيف، ولا تمسّك النار يوم القيامة(1).

الثالث: إيتاء ذي القربى; وهي صلة الذريّة العلويّة، فانّ الله تعالى أكّد الوصية فيهم، وجعل مودّتهم أجر الرسالة بقوله تعالى: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً اِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(2).

وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّي شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاؤوا بذنوب أهل الدنيا: رجل نصر ديني(3)، ورجل بذل ماله لذريّتي عند المضيق، ورجل سعى في قضاء حوائج ذريّتي إذا طُردوا وشرّدوا، ورجل أحبّ ذريّتي باللسان والقلب(4).

وقال الصادق عليه السّلام: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أيّها الخلائق أنصتوا فانّ محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم يكلّمكم، فتنصت الخلائق، فيقوم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقول: يا معشر الخلائق من كان له يدٌ أو منّة أو معروف فليقم حتّى أُكافيه.

فيقولون: وأيّ يد وأيّ منّة وأيّ معروف لنا، بل اليد والمنّة والمعروف لله ولرسوله على جميع الخلائق، فيقول صلّى الله عليه وآله وسلّم: من آوى أحداً من أهل بيتي، أو برّهم، أو كساهم من عرى، أو أشبع جائعهم فليقم حتّى أُكافيه.

فيقوم أُناسٌ قد فعلوا ذلك، فيأتي النداء من عند الله تعالى: يا محمّد يا حبيبي قد جعلت مكافاتهم إليك، فأسكنهم حيث شئت من الجنّة، فيسكنهم في الوسيلة، لا يحجبون عن محمد وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين(5).

____________

1- ارشاد القلوب 2: 395، وفي البحار 48: 136 ح10.

2- الشورى : 23 .

3- في "ب" : ذريتي .

4- الكافي 4: 60 ح9، من لا يحضره الفقيه 2: 65 ح1726، الخصال 196 ح1 باب 4، ارشاد القلوب 2: 352.

5- من لا يحضره الفقيه 2: 65 ح1727، والوسائل 11: 556 ح3، وارشاد القلوب 2: 353.


الصفحة 115

[حكاية عبد الله بن المبارك]

وذكر ابن الجوزي، وكان حنبلي المذهب، في كتاب تذكرة الخواص، إنّ عبدالله بن المبارك كان يحجّ سنة ويغزو سنة، وداوم على ذلك خمسين سنة، فخرج في بعض سنيّ الحجّ، وأخذ معه خمسمائة دينار إلى موقف الجمال بالكوفة ليشتري جمالا للحج.

فرأى امرأة علويّة على بعض المزابل تنتف ريش بطّة ميّتة، فقال: فتقدّمت إليها وقلت: لم تفعلين هذا؟ فقالت: يا عبد الله لا تسأل عمّا لا يعنيك، قال: فوقع من كلامها في خاطري شيء، فألححت عليها.

فقالت: يا عبد الله قد ألجأتني أن أكشف سرّي إليك، أنا امرأة علويّة ولي أربع بنات يتامى مات أباهنّ من قريب، وهذا اليوم الرابع ما أكلنا شيئاً وقد حلّت لنا الميتة، فأخذت هذه البطّة أُصلحها وأحملها إلى بناتي ليأكلنها.

قال: فقلت في نفسي: ويحك يا ابن المبارك أين أنت عن هذه الفرصة، [فقلت] (1) افتحي أزارك، فصببت الدراهم في إزارها وهي مطرقة لا تلتفت.

قال: ومضيت إلى المنزل، ونزع الله من قلبي شهوة الحج في ذلك العام، ثمّ تجهّزت إلى بلادي وأقمت حتّى حجّ الناس وعادوا، فخرجت أتلقّى جيراني وأصحابي، فجعلت كلّ من أقول له: قبل الله حجّك وسعيك، يقول: وأنت قبل الله حجّك وشكر سعيك، إنّنا قد اجتمعنا بك في مكان كذا وكذا.

وأكثر عليّ الناس في هذا القول، فبتّ متفكّراً فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام وهو يقول لي: يا عبد الله أغثت ملهوفة من ولدي، فسألت الله عزوجل أن يخلق على صورتك ملكاً يحجّ عنك كلّ عام إلى يوم القيامة، فإن شئت أن تحجّ وإن شئت لا تحجّ(2).

____________

1- أثبتناه من المصدر.

2- تذكرة الخواص : 328 ، عنه كشف اليقين : 485 ، وفي البحار 42 : 11 ضمن حديث 12 باب 115 ، وارشاد القلوب 2: 353، وفي ينابيع المودّة: 467.


الصفحة 116

[حكاية العلويّة وهداية المجوسي بسببها]

وذكر ابن الجوزي أيضاً، قال: كان ببلخ رجل من العلويين نازلا بها وله زوجة وبنات، فتوفّي، قالت المرأة: فخرجت بالبنات إلى سمرقند خوفاً من شماتة الأعداء، واتّفق وصولي في شدّة البرد، فأدخلت البنات مسجداً ومضيت لأحتال في القوت.

فرأيت الناس مجتمعين على شيخ، فسألت عنه فقيل: هذا شيخ البلد، فشرحت له الحال، فقال: أقيمي البيّنة أنّك علويّة، ولم يلتفت إليّ، فيأست منه وعُدْت إلى المسجد، فرأيت في طريقي شيخاً جالساً على دكّة وحوله جماعة.

فقلت: من هذا؟ فقيل: ضامن البلد وهو مجوسيّ، فقلت: عسى أن يكون لنا عنده فرج، فحدّثته حديثي وما جرى لي مع شيخ البلد، فصاح بخادم له: فخرج فقال: قل لسيّدتك تلبس ثيابها، فدخل وخرجت امرأته ومعها جوارها، فقال لها: اذهبي مع المرأة إلى المسجد الفلاني، و [احملي] (1) بناتها إلى الدار.

فجاءت معي وحملت البنات، فجئنا وقد أفرد لنا مقاماً في داره وأدخلنا الحمام، وكسانا ثياباً فاخرة، وجاءنا بألوان الطعام وبتنا بأطيب ليلة.

فلمّا كان نصف الليل رأى شيخ البلد المسلم في منامه كأنّ القيامة قد قامت، واللواء على رأس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإذا قصر من الزمرّد الأخضر، فقال: لمن هذا القصر؟ فقيل: لرجل مسلم موحّد.

فتقدّم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله تُعرض عنّي وأنا رجل مسلم، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: أقم البيّنة عندي أنّك مسلم، فتحيّر الشيخ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: نسيت قولك للعلويّة، وهذا القصر للشيخ الذي هي في داره.

____________

1- أثبتناه من المصدر، وفي النسخ: "احمل".


الصفحة 117
فانتبه الشيخ وهو يلطم ويبكي، وبثّ غلمانه في البلد، وخرج بنفسه يدور على العلويّة، فأُخبر أنّها في دار المجوسيّ.

فجاء إليه وقال: أين العلويّة؟ قال: عندي، قال: أُريدها، فقال: ما إلى هذا سبيل، فقال: هذا ألف دينار وسلّمهنّ إليّ، فقال: لا والله ولا مائة ألف دينار، فلمّا ألحّ عليه قال له: المنام الذي رأيته أنت رأيته أنا أيضاً، والقصر الذي رأيته لي أُعِدّ، وأنت تدلّ على إسلامك.

والله ما نمت أنا ولا أحد في داري حتّى أسلمنا كلّنا على يد العلويّة، وعادت بركتها علينا، ورأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يقول لي: القصر لك ولأهلك بما فعلت مع العلويّة، وأنت من أهل الجنّة، خلقكم الله عزوجل مؤمنين في القدم(1).

هذا آخر ما أردنا إيراده في هذه الرسالة حسب ما شرطناه من ترك الاكثار والاطالة، نجزت الرسالة، والله المحمود على كلّ حالة.

وذلك ممّا اعتنى بجمعه وترتيبه وتلخيصه وتهذيبه المولى السيد الحسيب النسيب، حاوي حقائق الأصول، جامع المنقول والمعقول، العالم العامل، المحقق الكامل، القدوة العلاّمة، نجل الرسالة والامامة، أنموذج سلف الطاهرين، عين أعيان الخلف الباقين، جلال الملّة والحق والدين، المخصوص بألطاف ربّ العالمين، أدام الله ميامن أيّامه على كافة المؤمنين، بحرمة سيّدنا محمد النبي وعترته الطيبين الطاهرين.

____________

1- تذكرة الخواص : 330 ، عنه كشف اليقين : 486 ، وفي البحار 42 : 12 ضمن حديث 12 باب 115 ، وارشاد القلوب 2: 354، وينابيع المودّة: 468.


الصفحة 118
[قد اتّفق الفراغ من تسويد هذه الرسالة الشريفة على يد الحقير الفقير الجاني محمد حسين بن أبي طالب الحسيني الاصفهاني في العشر الأول من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وستّين ومائتين بعد الألف من الهجرة الشريفة النبويّة في بلدة اصبهان.

اللّهمّ اعف عن خطيئاتنا وآثامنا، وارزقنا التقوى، واجعلنا من المتمسّكين بولاية محمد وآله.]

الصفحة 119

فهرس المصادر


1 ـ اثبات الهداة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملي، الطبعة الثالثة عام 1366ش، دار الكتب الإسلامية.

2 ـ اختيار معرفة الرجال للطوسي، طبع عام1404 هـ.ق مؤسسة آل البيت عليهم السّلام.

3 ـ الأربعون حديثاً عن أربعين شيخاً من أربعين صحابياً، عليّ بن عبيد الله بن بابويه، الطبعة الأولى عام 1408 هـ.ق، مؤسسة الامام المهدي عليه السّلام.

4 ـ ارشاد القلوب للديلمي، انتشارات اُسوة.

5 ـ الارشاد للشيخ المفيد، الطبعة الثالثة عام 1399 هـ.ق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

6 ـ أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات.

7 ـ أمالي الصدوق، الطبعة الخامسة عام 1400 هـ.ق مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

8 ـ أمالي الطوسي، الطبعة الأولى عام 1414 هـ.ق مؤسسة البعثة.

9 ـ بحار الأنوار للمجلسي، الطبعة الثالثة عام 1403 هـ.ق دار احياء التراث العربي.

10 ـ بشارة المصطفى لشيعة المرتضى، محمد بن أبي القاسم الطبري، الطبعة الثانية عام 1383 هـ.ق منشورات المكتبة الحيدرية في النجف الأشرف.


الصفحة 120
11 ـ تاريخ الطبري، محمد بن جرير، الطبعة الثانية عام 1408 هـ.ق دار الكتب العلمية.

12 ـ تذكرة الخواص لابن الجوزي، منشورات الرضي.

13 ـ ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لابن عساكر، دار التعارف للمطبوعات.

14 ـ الترغيب والترهيب للمنذري، المكتبة المصريّة.

15 ـ تعليقة أمل الآمل، الميرزا عبد الله أفندي الاصفهاني، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي.

16 ـ تنقيح المقال في علم الرجال، العلاّمة عبد الله المامقاني، مكتبة المرتضويّة.

17 ـ جامع الرواة، محمّد بن عليّ الأردبيلي، منشورات مكتبة آية الله العظمى السيد المرعشي.

18 ـ الجامع في الرجال، آية الله موسى بن عبد الله الزنجاني، مطبعة النصر قم، عام 1394 هـ .ق.

19 ـ حلية الأولياء لأبي نعيم الاصفهاني.

20 ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، دار الأضواء.

21 ـ روضات الجنّات، الميرزا محمّد باقر الخوانساري، نشر مكتبة اسماعيليان.

22 ـ روضة الواعظين، محمد بن الفتال النيشابوري، من منشورات الرضي.

23 ـ رياض العلماء وحياض الفضلاء، الميرزا عبد الله الأفندي الاصفهاني.

24 ـ السنن الكبرى للبيهقي، طبعة حيدر آباد دكن.

25 ـ شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار للقاضي النعمان المغربي، الطبعة الأولى عام 1414 هـ.ق دار الثقلين.

26 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، الطبعة الثانية عام 1385 دار احياء الكتب العربية.

27 ـ شواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحاكم الحسكاني، الطبعة الأولى عام 1411 هـ.ق منشورات وزارة الثقافة والارشاد الإسلامي.

28 ـ صحيح البخاري، محمد بن اسماعيل البخاري، الطبعة الأولى عام 1407 هـ.ق دار القلم.


الصفحة 121
29 ـ صحيح الترمذي (الجامع الصحيح)، محمد بن عيسى بن سورة، دار احياء التراث العربي.

30 ـ طبقات أعلام الشيعة، آغا بزرك الطهراني.

31 ـ الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، عليّ بن موسى بن طاوس طبع عام 1400 هـ.ق مطبعة خيام.

32 ـ العدد القوية لدفع المخاوف اليومية للحلّي، الطبعة الأولى عام 1408 هـ.ق مطبعة سيد الشهداء.

33 ـ عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب امام الأبرار لابن البطريق، طبع عام 1407 هـ.ق مؤسسة النشر الإسلامي.

34 ـ غوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الاحسائي، مطبعة سيد الشهداء.

35 ـ فرحة الغري، عبد الكريم بن طاوس، منشورات الرضي.

36 ـ الفوائد الرضوية، الشيخ عباس القمي.

37 ـ الفهرست للشيخ منتجب الدين الرازي، طبع عام 1366 هـ .ش، نشر مكتبة آية الله المرعشي.

38 ـ القاموس المحيط، الفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة.

39 ـ الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، طبع عام 1365 هـ.ش، دار الكتب الإسلامية.

40 ـ كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام للحافظ الگنجي الشافعي، الطبعة الثالثة عام 1404 هـ.ق دار احياء تراث أهل البيت عليهم السّلام.

41 ـ كشف الغمة في معرفة الأئمة للأربلي، الطبعة الثانية عام 1405 هـ.ق دار الأضواء.

42 ـ كنز الدقائق، محمّد المشهدي، مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة.

43 ـ كنزالعمال في سنن الأقوال والأفعال للهندي، طبع عام 1399 هـ.ق مؤسسة الرسالة.

44 ـ كنز الفوائد للكراجكي، طبع عام 1369 هـ.ش مكتبة مصطفوي (طبعة حجرية).

45 ـ كنز الفوائد للكراجكي، منشورات مكتبة مصطفوي.


الصفحة 122
46 ـ لسان العرب لابن منظور، الطبعة الأولى عام 1410 هـ.ق وزارة الثقافة والارشاد الإسلامي.

47 ـ لسان الميزان، ابن حجر العسقلاني، الطبعة الاُولى عام 1416، دار احياء التراث العربي.

48 ـ مائة منقبة لابن شاذان، الطبعة الثانية عام 1413 هـ.ق انتشارات انصاريان.

49 ـ مرآة الكتب، العلاّمة التبريزي، الطبعة الاُولى عام 1414، نشر مكتبة آية الله العظمى السيد المرعشي.

50 ـ مستدركات علم رجال الحديث، الشيخ علي النمازي الشاهرودي، المطبعة الحيدرية، طهران.

51 ـ معاني الأخبار، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، مؤسسة النشر الإسلامي.

52 ـ معجم البلدان لياقوت الحموي، طبع عام 1399 هـ.ق دار احياء التراث العربي.

53 ـ معجم رجال الحديث، السيّد الخوئي، الطبعة الخامسة.

54 ـ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

55 ـ المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة.

56 ـ مقاتل الطالبيين لأبي فرج الاصفهاني، الطبعة الأولى عام 1414 هـ.ق منشورات الرضي.

57 ـ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب، مؤسسة انتشارات علامة.

58 ـ مناقب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لابن المغازلي، الطبعة الثانية عام 1402 هـ.ق، المكتبة الإسلامية.

59 ـ المناقب للخوارزمي، الطبعة الثانية عام 1414 هـ.ق مؤسسة النشر الإسلامي.

60 ـ المنجد في اللغة، لوئيس معلوف.

61 ـ نهج البلاغة، للشريف الرضي.

62 ـ نهج الحق وكشف الصدق، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي الطبعة الرابعة عام 1414 هـ.ق دار الهجرة.

63 ـ وسائل الشيعة للحر العاملي، دار احياء التراث العربي.

64 ـ ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي، منشورات الشريف الرضي.