استقبل الضعفاء والمحرومون خلافة الإمام بالغبطة والسرور ، وتلقتها الطبقة
الأُرستقراطية من قريش بالحقد والكراهية ؛ وكان المناخ الاجتماعي في المدينة يضم
أهل الورع والتقوى يعتضد بهم الإمام ، ويضم أيضاً أهل النفاق والشقاق فيضيق بهم
الإمام ، وكان المسرح الإداري من ذي قبل يعجُّ ويضجُّ بأهل الطمع والأثرة ،
فالولايات تحتجن ، والمناصب يستولي عليها المقربون والأصهار ، وكان المناخ السياسي
مضطرباً أشد الإضطراب في واقعه ، وإن بدا أول الأمر متماسكاً بعض الشيء .
وتحشد الطامعون بالأمر يجمعون شتاتهم ويعلنون عصيانهم ، وكانت الحجاز والكوفة
والبصرة واليمن في طاعة الإمام حينما بويع له ، وكان أمر الشام لا يريد أن يستقيم
للإمام ، ففي الشام معاوية بن أبي سفيان ابن عم عثمان ، ومن الإمكان أن يتظاهر
طالباً بدم عثمان ، وأن يأوى إليه المردة من أعداء الإمام ، وأصحاب الدنيا ممن فارق
أو سيفارق الإمام ، وقد بدت علائم ذلك تظهر في الأفق تدريجياً وبانتظام ، فها هو
يترصد في البيعة بل يتلكأ عنها ، وها هو يدير أمره بدقة وحذر شديدين ، ويحكم أمره
بأناة وصبر طويلين ، وهو لا يتورع من الإغراء
242
والبهتان وتسخير المال ، وشراء الرجال إزاء السلطان كما سترى .
واستقبل الإمام تخطيطه في ضوء الإسلام وبهدي القرآن وأضواء السنة بكثير من
التقوى والورع ، فأسند الولاية لأصحابها ، وكان جديراً بأن يختار الأمثل فالأمثل
وقد فعل هذا بكل أمانة .
فما إن فرغ من البيعة حتى لبى نداء الضمير الإنساني في عزل ولاة عثمان ،
واستبدلهم بغيرهم من الصالحين والمؤهلين من أصحابه ، وكان الأنصار في حرمان أيام
الشيخين وعثمان ، فرّد إليهم الإعتبار السياسي من خلال كفاياتهم ، فاستعمل منهم
ثلاثة أعلام لثلاثة أمصار ؛ فأرسل قيس بن سعد بن عبادة والياً إلى مصر ، واستعمل
عثمان بن حنيف على البصرة ، وعيّن سهل بن حنيف والياً على الشام .
وعاد عليّ إلى قريش فأرسل خالد بن العاص بن المغيرة المخزومي إلى مكة والياً ،
وعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب عاملاً على اليمن .
وأقر بإشارة مالك الأشتر أبا موسى على الكوفة ، فبعث إليه بالبيعة ، وقيل أرسل
عمارة بن شهاب إلى الكوفة ، فلقيه في الطريق من أشار عليه بالرجوع لأن أهل الكوفة
لا يرضون بغير أبي موسى الأشعري أميراً ، وكان يتضاعف لهم ، ولا يهمه أمرهم .
وتوجه عمال الإمام إلى أقاليمهم ، فدخل عثمان بن حنيف البصرة ، فإرتحل عنها
عامل عثمان عبد الله بن عامر بن كريز ، وحمل معه ما في بيت المال جميعاً وأتى مكة ،
ودخل ابن عباس اليمن فرحل عنها عامل عثمان يعلى بن أمية ، واحتمل بيت المال وأتى
مكة . وسار قيس بن سعد بن عبادة إلى مصر ، ودخلها في غير جهد ولا مشقة وأخذ
243
البيعة لعلي عَليهِ السَّلام من أهلها . وذهب خالد بن العاص المخزومي إلى مكة فأبى
أهلها مبايعة علي وأخذوا عهده ورموه في زمزم . وتوجه سهل بن حنيف إلى الشام ،
فلقيته في حدودها خيول معاوية ، فسألوه عن شأنه ، فأخبرهم بأنه أمير الشام ، فقالوا
إن كنت أميراً من قبل عثمان قبل قتله فدونك إمرتك ، وإن كنت أميراً من قبل غيره
فارجع إلى من أرسلك .
والبحث العلمي يشكك في تعيين ابن حنيف على الشام أميراً ، وفيها معاوية ، وليس
كل ما روي يقطع بصحته كما سترى .
وكان الإمام قد أرسل إلى معاوية كتاباً يطلب فيه أن يبايع ، وأن يقبل إلى
المدينة في أشراف أهل الشام ، ولم يذكر في الكتاب عزله أو إقراره في ولايته . فلما
وصل الكتاب إلى معاوية لم يجب الإمام بشيء ، وأخذ يتربص بالأمر ، وأعجله الرسول على
الجواب فتلكأ ثم أرسل طوماراً إلى الإمام ، وكتب في أعلاه : من معاوية بن أبي سفيان
إلى علي بن أبي طالب ، وقدم الرسول المدينة وأشهر نفسه فيها ، وأوصل الطومار إلى
الإمام ، وفضّ الإمام الكتاب ولا شيء فيه إلا : « بسم الله الرحمن الرحيم » .
وأستأمن الرسول علياً فآمنه ، وكان من عبس ، فقال للإمام والناس تسمع : إني
تركت أهل الشام وقد صمموا أن يثأروا لعثمان ، ونصبوا قميصه للناس ، وليس عندهم إلا
السيف .
وكان المغيرة بن شعبة ـ فيما يزعم الرواة ـ قد أشار على عليّ عليه السلام
إبقاء معاوية على الشام حتى تتم بيعته ومن ثم يعزله ، فأبى ذلك الإمام ، كما أبى
إبقاء ولاة عثمان عموماً ، لأن دينه وورعه يمنعانه من ذلك ، وقال :
244
« والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي ، ولا وليّتُ هؤلاء ، ولا
مثلهم يُولى ... لا أدّهن في ديني ، ولا أعطي الدني من أمري » .
وكذلك أشار عبد الله بن عباس بمثل هذا « أبقه شهراً وأعزله دهراً » .
فأبى الإمام ذلك وقال بما معناه : عليك أن تشير وعليّ أن أرى ، فإذا عصيتك
فأطعني . فقال ابن عباس : « إن أيسر حالك عندي الطاعة » .
وكان عليٌّ عليه السلام صاحب حق وصاحب دين ، فلا يداخل أحداً في دينه ، ولا
يتنازل أبداً عن حقه ، فدعا إليه وجوه الناس وفيهم طلحة والزبير ، وجملة المهاجرين
والأنصار ، فأخبرهم بما عليه معاوية ، من خلع الطاعة ومفارقة الجماعة ، وانبأهم أن
الحل يتحدد بمقاومته عسكرياً قبل أن تستشري الفتنة ، وعلم الناس رأي الإمام ،
وعلموا أيضاً أنها الحرب ، وآخر الدواء الكي .
وكان طلحة والزبير يقدّران أن الإمام سيوليهما على بعض الأقاليم ، وأنه محتاج
إليهما ، أو يستدفع خطرهما ، لأنهما من أصحاب الشورى ، وهما قد أسلما عثمان وخذلاه
، بل أعانا عليه وألبا حتى قتل ، وهما قد أقبلا على بيعة الإمام طائعين ، وأول يد
بايعته يد طلحة وكانت جذاء ، وتشاءم الناس من ذلك ، وكان الأمر كذلك .
صرح طلحة والزبير للإمام بطلب الولاية على المصرين : الكوفة والبصرة ، فأبى
عليهما الإمام ، وتلطف بهما برفق ، وقال :
« أحب أن تكونا معي أتجمل بكما ، فإني أستوحش لفراقكما » .
245
وأحسّ الشيخان أن لا مقام لهما مع عليّ ، وأنهما كبقية المسلمين وأن علياّ
سيستأنف معهما ومع غيرهما سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهما كغيرهما
من أعيان المهاجرين ، وأعلام الأنصار يسوسهم الإمام بالشدّة واليقين لا التسامح
واللين ؛ فأعرضا عن البصرة والكوفة ، وأستأذنا بالعمرة ، فقال علي عليه السلام :
ما العمرة تريدان وإنما تريدان الغدرة ونكث البيعة ، فحلفا بالله ما الخلاف
عليه ولا نكث بيعته يريدان ، وما رأيهما غير العمرة ، قال لهما : فأعيدا البيعة لي
ثانية ، فأعاداها بأشد ما يكون من الإيمان والمواثيق ، فأذن لهما ، فلما خرجا من
عنده ، قال الإمام لمن كان حاضراً : والله لا ترونهما إلا في فتنة يقتلان فيها .
قالوا : يا أمير المؤمنين فمر بردهما عليك ، قال الإمام : ليقضي الله أمراً
كان مفعولاً .
وخرج طلحة والزبير في طريقهما إلى مكة ، فلم يلقيا أحداً إلا قالا له :
ليس لعلي في أعناقنا بيعة ، وإنما بايعناه مكرهين ، فبلغ قولهما علياً عليه
السلام فقال :
« أبعدهما الله وأغرب دارهما ، أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث
مقتل ، ويأتيان من وردا عليه بأشأم يوم ، والله ما العمرة يريدان ، ولقد أتياني
بوجهي فاجرين ، ورجعا بوجهي غادرين ناكثين ، والله لا يلقياني بعد اليوم إلا في
كتيبة خشناء يقتلان فيها أنفسهما ، فبعداً لهما وسحقاً » .
وكان الإمام عليه السلام في هذا الحين يتجهز لحرب أهل الشام ،
246
وإنه لفي ذلك ، إذ بلغه إجتماع عائشة وطلحة والزبير في مكة ، وهم يريدون البصرة
بجمع ممن تخلف عن البيعة ، وولاة عثمان المعزولين ، وبني أمية ، وطواغيت قريش ،
ورعاع الناس ، فثنى عزمه عن لقاء أهل الشام ، وصحّ عنده التوجه حيث توجه الناكثون .
(3)
المتمرّدون في مجابهة الإمام متظاهرين بالثأر لعثمان
لم تقعد بعليّ عليه السلام حنكته السياسية ، ولم تعجزه مقدرته الإدارية عن
اتخاذ الاجراءات الكفيلة بخنق الأنفاس ، وكبت الحريات ، ومنع التصرف ، فقد كان
بامكانه إحتجاز طلحة والزبير في المدينة وصرفهما عن وجههما إلى مكة ، وقد كان
بمقدوره فرض الإقامة الجبرية عليهما ، ومتابعتهما أمنياً بالعيون ، ولكنه ذو سياسة
يتمحض عنها الإيمان بأدق معانيه ، وذو إدارة يلقي بثقلها الإسلام بأصدق مفاهيمه ،
فليس للضغط مستقر في منظوره ، ولا للإكراه سبيل إلى إدارته ، أراد أن يذيق الناس
مفهوم الحرية بأوسع معاييرها الفذة ، وأن يحمل الناس على سنن الإسلام وإن أرهقته ،
وأن يتجمل بالصبر تارة ، وبالأناة تارة أخرى في إمتصاص الأحداث وهو على بصيرة من
أمره ، وسيأتي في سياسته مع الخوارج ما يدل على ذلك .
والمنطق الإسلامي يقضي على علي عليه السلام أن يحكم بالظاهر ، فليس له إلى
القلوب سبيل وإن أدرك خفايا النيات ، واستقرأ الغيب المجهول ، وهو على صحة من
عزيمته وصدق من نيته ، يعلم بما يضمر طلحة والزبير من الغدر والنكث والخلاف ، ولكنه
تركهما ييممان شطر البيت الحرام لأنهما أظهرا العمرة وإن أرادا سواها .
وقد قصد مكة المكرمة ولاة عثمان المعزولون لأنها حرم آمن لا
248
يزعج من فيه ، فكان هناك يعلى بن أمية وعبد الله بن عامر ، وسعيد بن أبي العاص ،
وجملة من الأمويين بقيادة مروان بن الحكم ، وفر إلى هناك من أراد الإنحياز عن علي
عليه السلام ، والابتعاد عن الأحداث كعبد الله بن عمر وأمثاله ، واستقر هناك أعداء
عليّ من المقيمين بمكة ، والقادمين إليها من الآفاق ، وكان هناك من أزواج النبي صلى
الله عليه وآله وسلم عائشة وحفصة وأم سلمة في تأدية المناسك ، وقد أكملت عائشة أم
المؤمنين حجها ، وإنها لفي طريقها إلى المدينة وإذا بالأنباء تنعى إليها عثمان ،
وأخبرت ـ خطأ أو إختباراً ـ ببيعة طلحة ، فاهتزت لذلك طرباً وقالت : إيهاً ذا
الأصبع ، إيهاً يا ابن العم . وطلحة تيمي من رهط أبي بكر ، وما اكتفت بهذه الفرحة
بل أظهرت سروراً عظيماً بمقتل عثمان ، وقالت فيما قالت : أبعده الله .
ولكن الفرحة لم تتم لها إذا أنبأها بعض من في الطريق بحقيقة الأمر ، وأن علياً
عليه السلام قد بويع له بالخلافة ، فضاقت عليها الأرض بما رحبت ، وقالت :
ليت السماء أطبقت على الأرض ، ردوني فقد قتل عثمان مظلوماً . والله لأطلبن
بدمه ، وكان وليّ دم المقتول ، والقيم على امور المسلمين .
عادت السيدة عائشة إلى مكة ، وعمدت إلى حجر إسماعيل فاتخذت فيه ستراً ، وجعلت
منه مقراً ، واختلف إليها الناس فأسمعتهم من عذر عثمان ما أعجبهم ، وأظهرت من
المطالبة بالثأر له ما أحفظهم ، وكانت تقول :
« لقد غضبنا لكم من لسان عثمان وسوطه ، وعاتبناه حتى أعتب وتاب إلى الله ،
وقبل المسلمون منه ، ثم ثار به جماعة من الغوغاء والأعراب فماصوه موص الثوب الرخيص
حتى قتلوه ، واستحلوا بقتله
249
الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام » .
سمع الناس من عائشة هذا وأكثر من هذا ، فتأثروا بها ، فبينا هي تنعى على عثمان
أعماله ، وتنكر عليه أشد الإنكار ، وتدعوا إلى قتله ، وإذا بها تتظلم له ، وتتفجع
عليه ، فكان الناس أسرع إليها من إسراع الفراش إلى النار ، ومن إسراع النار في
الحطب الجزل .
واتخذت عائشة هيئة استشارية من عبد الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، ومروان
بن الحكم ، ويعلى بن أمية ، وعبد الله بن عامر ، وتوجهت بعلمين من أعلام الشورى هما
طلحة والزبير ، فكانت مثابة للناس ، ومأوى للمتمردين على علي عليه السلام .
وحقد عائشة على عليّ قديم منذ حديث الإفك ، إذ يقال إنه أشار على النبي
بطلاقها ، وأنه قال : إن النساء غيرها كثير . وكون علي عليه السلام أباً للذرية
الطاهرة من الزهراء ، والزهراء ابنة ضرّتها خديجة ، وخديجة أحب إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم منها ، وعليٌّ ذو المنهج الواضح بإلغاء الإمتيازات ، وعلي حبيب رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان يضايقها ذلك ، وعليّ قد هتف باسمه المعارضون
لإستخلاف أبيها . كل أولئك أسباب لموجدتها على عليّ عليه السلام ، ولا ذنب له في
ذلك ، ولكنها إمرأة سبقت إلى عاطفتها وتركت عقلها ، وإذا جاشت العواطف وتحركت
الأحاسيس الكامنة ، صمت منطق الرشد ، وتلاشى سلطان العقل .
قصدها والي عثمان على مكة وقال : ما ردّك يا أم المؤمنين ؟ قالت : ردي أن
عثمان قتل مظلوماً ، فاطلبوا بدم عثمان تعّزوا الإسلام .
إنها دعوة صريحة إلى النخوة ألفت آذاناً صاغية من رجال الحكم
250
البائد ، وأسماعاً واعية من دعاة التمرد على حكم الإمام الجديد ، وكأن عائشة كانت
تتكلم بتفويض من الشعب ، أو نيابة عن الأمة ، فانتشر حديث هذه الدعوة الجامحة في
الأمصار ، وامتد إلى آفاق الدنيا ، ووصلت الأنباء إلى علي في المدينة يحدو بها
الركبان ، وينقلها الحجيج بعد أن أدّوا مناسكهم .
وجهد المتمردون متظاهرين بالثأر لعثمان ، وتجمع حولهم الحاقدون على الإمام ،
وكان أمامهم عدة خيارات أهونها الصعب في تنفيذ المخطط ، فرأى بعضهم الغارة على
المدينة ، ورأى بعضهم الذهاب إلى الكوفة ، وقد أشفقوا من هذين الرأيين ، فعليّ عليه
السلام لهم بالمرصاد في المدينة ومعه المهاجرون والأنصار ، والكوفة من الأقاليم
الثائرة على عثمان ، ورجالها في قوتهم ضد عثمان ومن تكلم باسم عثمان ، فقرروا
الاتجاه إلى البصرة إذ زعم لهم عبد الله بن عامر ، أن فيها رجاله وصنائعه ، وكان قد
فرّ منها بعد عزله ، فاضطروا إلى الخيار الأخير إضطراراً فيه كثير من المغامرة ،
وانتدبوا الناس لذلك ، فاستجاب كل حاقد وإنتهازي موتور ، وأمدهم يعلى بن أمية
بالمال والسلاح ، وزودهم ابن عامر بالظهر والكراع ، وساروا في جحفل عدته ثلاثة آلاف
مقاتل ، يتقدمهم الأقطاب الثلاثة : عائشة ، طلحة ، الزبير .
وتوجهت أم سلمة لعائشة تنهاها فما استمعت ، بل حاولت جر حفصة وحملها على
الخروج ، فأجابت بادئ ذي بدء ، ولكن أخاها عبد الله ردّها ومنعها .
وبلغت الأنباء علياً عليه السلام ، فاستشار الناس ، فأشار عليه قوم بالخروج في
أثرهم ، وأشار آخرون بأن لا يتبعهم ولا يرصد لهم القتال ، فعمل بالرأي الأول ، ورفض
الأخير ، وقال :
251
« والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم ، حتى يصل إليها طالبها ،
ويختلها راصدها ، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه ، وبالسامع المطيع
العاصي المريب أبداً ، حتى يأتي عليَّ يومي . فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي ،
مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يوم الناس هذا »
.
وصحت عزيمته باتباع آثارهم ، فتحول قصده عن قتال أهل الشام ريثما ينتهي
ممن نكث البيعة ، وفارق الجمع ، فلم يكن له أن يبقى متأملاً وقد جدّ القوم ،
ولا متردداً وقد حث المتمردون خطاهم بالمسير نحو البصرة ، فتنتقض عليه الأقطار
واحدة بعد أخرى .
وكانت همّة المتمردين البصرة حتى إذا أدركوها وفتحوها ساروا إلى الكوفة
وفيهما المال والفيء ، وبهما السلاح والرجال ، ومن حولهما الثغور والحدود ، فما
ينتظر عليّ لو انتظر إلا أن تنتقض عليه الأطراف ، وتتجمع ضده الأشتات ، ومن
وراءهم معاوية وأهل الشام ، فلو قعد لضاعت الخلافة وانتهى كيان الإسلام ، فما
عليه إلا النهوض وهكذا فعل ، فاستنفر لذلك الناس في المدينة فنفروا خفافاً
وثقالاً ، وسار فيهم سيراً حثيثاً عسى أن يدرك المتمردين قبل دخول البصرة ،
فيحاججهم ويعظهم ويعذر إليهم ، عسى أن لا يكون قتال وسفك دماء .
وعلم المتمردون بذلك فساروا سيراً عنيفاً حتى سبقوا علياً إلى البصرة .
وسار موكب علي عليه السلام بالمهاجرين والأنصار حتى وصلوا إلى ذي قار
آملاً تدارك الموقف ما استطاع ، وقال :
252
« سأمسك الأمر ما استمسك ، فإذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكي » . وهكذا كان .
فقد كتب من هناك إلى أهل الكوفة : « أما بعد ، فإني قد خرجت من حيي هذا
إما ظالماً وأما مظلوماً ، وإما باغياً وإما مبغياً عليه ، وإني أذّكر الله من
بلغه كتابي هذا لما نفر إلي ، فإن كنتُ محسناً اعانتى و ان كنت مسيئاً استعتبني
» .
وكان حرياً بهذا الكتاب أن يستثير همم أهل الكوفة وأن يشحذ عزائمهم ، ووصل
الكتاب ، وإذا بالوالي على الكوفة يثبطهم ، ويدعو إلى اعتزال الفتنة فيما يزعم
، ذلك أبو موسى الأشعري ؛ فواعجباً : ممثل الإمام يخذّل عن الإمام ، وكان واجبه
الشرعي وموقعه الإداري والسياسي يدعوانه إلى نصرة الإمام بنفسه وبجنده ، أما أن
يبقى والياً ولا ينفذ الأوامر ويتمرد عليها فشيء جديد لم يعرف من ذي قبل .
فأرسل عليٌّ عليه السلام من يؤنبه ويعنفه ويلومه ويزجره ، وكان الحسن بن
علي عليهما السلام ، وعمار بن ياسر ، ومحمد بن أبي بكر أول من أرسل ، وأخيراً
تم إرسال مالك الأشتر الذي توجه في الكوفة نحو قصر الإمارة وأغار عليه ، وأبو
موسى يخطب في الناس مخذّلاً عن الإمام ، فاستولى على القصر ، واحتاز بيت المال
، وأعلن عزل أبي موسى بقرظة بن كعب الأنصاري ، فخرج أبو موسى مدحوراً معزولاً
بعد خطوب يسيرة ، وقصد مكة فأقام بها .
ولم يكن أبو موسى مغفّلاً كما يصوره المؤرخون بل كان متغافلاً يظهر الورع
والسذاجة ، ويدّبر ما يريد من أمر بتؤدة وإحكام ، ولم يكن محتاطاً لدينه ـ كما
يريد أن يقال ذلك عنه ـ بل كان موغلاً في الإنحراف
253
عن أمير المؤمنين ، وقد يكون أيضاً ضالعاً بالمؤامرة ، فقد يصح أن يراسله طلحة
والزبير وعائشة يستنصرونه ، أو يطلبون إليه أن يخذل الناس عن الإمام ، وقد فعل
هذا بأبشع صورة ، فقد خان الأمانة ، وغدر بالأمة ، وخذل الحق ، ونصر الباطل ،
فأي إعتزال للفتنة هذا ، وأي مغفل من أعرق بالخلاف .
ومهما يكن من أمر ، فقد استجاب أهل الكوفة للإمام بتوجيه من الحسن بن علي
عليهما السلام ، وعمار بن ياسر رضي الله عنه ، ومالك الأشتر رحمه الله ، وخرج
إليه منهم جمع كثيف ، وهو بذي قار ، وكان حقاً ما قال لهم :
« إني اخترتكم والنزول بين أظهركم ، وفزعت إليكم لِما حدث ، فكونوا لدين
الله أعواناً وأنصاراً ، وانهضوا إلينا ، فالإصلاح ما نريد ، لتعود الأمة
إخواناً » .
وأضيف إلى جيش أمير المؤمنين من المهاجرين مثله من جيش الكوفة المقاتلين ،
وما كان عليّ عليه السلام يريد القتال إلا أن يحمل عليه ، بل كان يريد الإقناع
بالمحاججة ، ورد المتمردين بالتي هي أحسن ، قصداً إلى الإصلاح ، وتنفيذاً للأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد صرح الإمام عن هذه الملاحظ في عدة مواقف ، فقد
استوقفه بن رفاعة قائلاً : « أي شيء تريد ؟ وإلى أين تسير يا أمير المؤمنين » ؟
فقال الإمام : إن أريد إلا الإصلاح ، إن قبلوا منا ، وأجابونا إليه » .
قال ابن رفاعة : فإن لم يجيبونا ، قال الإمام : ندعهم بعذرهم ونصبر .
قال ابن رفاعة : فإن لم يرضوا ؛ قال الإمام : ندعهم ما تركونا .
254
قال ابن رفاعة : فإن لم يتركونا ؛ قال الإمام : امتنعنا منهم .
واستمع الحديث ابن غزية الأنصاري فهب قائلاً :
« والله لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول ، ولأنصرن الله كما سمانا
أنصاراً » .
وانتهت المحاورة بانتصار الإمام ، وسار جيشه يُرتَجز أمامه :
سِيروا أبابَيلَ ، وحثوا السَيرا |
إذ عزمَ السيرُ وقُولُوا خَيرا |
وقد أوضح علي عليه السلام نية أصحاب الجمل كما أوضح نيته ، وأبان فيهم ما
استتر على الناس من علم تلقّاه من الصادق الأمين ، فقد خطب وقال :
« أيها الناس إن عائشة سارت إلى البصرة ، ومعها طلحة والزبير ، وكل منهما
يرى الأمر له دون صاحبه ، أما طلحة فابن عمها ، وأما الزبير فختنها ، والله لو
ظفروا بما أرادوا ـ ولن ينالوا ذلك أبداً ـ ليضربن أحدهم عنق صاحبه بعد تنازع
شديد ، والله إن راكبة الجمل الأحمر ، ما تقطع عقبة ولا تحل عقدة إلا بمعصية
الله وسخطه ، حتى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة ، أي والله ليقتلن ثلثهم ،
وليهربن ثلثهم ، وليتوبن ثلثهم ، وإنها التي تنبحها كلاب الحوأب ، وإنهما
ليعلمان أنهما مخطئان ، ورب عالم قتله جهله ، ومعه علمه لا ينفعه ، وحسبنا الله
ونعم الوكيل ، فقد قامت الفتنة فيها الفئة الباغية ، أين المحتسبون ؟ أين
المؤمنون ؟ ما لي ولقريش ؟ أما والله لقد قتلتهم كافرين ، ولأقتلنهم مفتونين !
وما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أنا أدخلناها في حيّزنا ، والله لأبقرن الباطل
حتى يظهر الحق من خاصرته ، فقل لقريش فلتضج ضجيجها » . ثم نزل .
255
فالإمام بهذا الخطاب الصريح ، قد أبان اختلاف القوم على القيادة ، وأظهر
تردّي عائشة بالمعصية ، وأنبأ أنها صاحبة كلاب الحوأب بما أخبر رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وأجمل علم طلحة والزبير بخطأهما ، ومعهما علمهما لا
ينفعهما ، وصرح بقيام الفتنة ، ودعا لقمعها ، ونعى على قريش موجدتها عليه ، ولا
ذنب له مع عائشة إلا أن أدخلها في بني هاشم .
وأعلن الإمام الحرب بعد أن أعذر ، وأخذلها أهبتها ، حتى لا يؤخذ على حين
غرة ، ولا يبغت بمفاجأة ، وبهذا يكون قد أحكم أمره إحكاماً دقيقاً ، ومعه شيوخ
المهاجرين والأنصار من هم بصحة عزيمته ، ونفاذ بصيرته ، وصدق النية ، وسلامة
القصد ، وقوة الشكيمة .
عوامل غلابّة ، وبوادر ائتلاف وجماعة ، وهكذا كان علي وجيشه المتوجه إلى
البصرة . وكان جيش عائشة وطلحة والزبير يفتقر إلى هذه الخصائص وهو لا يتمتع بها
، ولم يكن ليوسم تحركاته بالصدق والبصيرة ، ولا ليتوج أعماله بالقصد والإعتدال
، وإنما هي الفرقة بأبرز صورها منذ اللحظة الأولى لمسيرة القوم ، فالتنازع حول
الصلاة والجماعة قائم ، والتنافس على إمارة الحرب وقيادة الجيش بلغ أشدّه ،
والتظاهر بالسلطان كلٌّ يدعيه لنفسه ، الفرقة ظاهرة مستحكمة ، والاختلاف متمكن
مستطير ، والنزاع يصل إلى حد الصراع .
وهنا يبدو فرق ما بين الحزبين : حزب متطامن مستقيم على بصيرة من الأمر
يتمثل بالإمام وجيشه ، وحزب متناحر مستهين ، تحدو به الأطماع ، ويتطلع إلى
المناصب ، لا تستقيم له الرؤية يتمثل بعائشة وطلحة والزبير وجيشهم ، وفرقٌ ما
بين المعسكرين كما ترى ، فالأول يقود بالضرورة إلى النصر ، والثاني يدفع إلى
الهزيمة دون شك .
(4)
قيادة الناكثين بين التردد واقتحام البصرة
سار جيش المتمردين والناكثين نحو البصرة ، وكانت قيادته مترددة حائرة ،
تتنازع بينها الإمارة تارة ، وتتناوب بينها الصلاة تارة ، فعبد الله بن الزبير
يدعو للسلام على أبيه بالإمارة ، ومحمد بن طلحة يدعو للسلام على أبيه بالإمارة
أيضاً ، وعائشة قلقة بين هذا وذاك ، فتولى ابن أختها عبد الله بن الزبير أمر
الصلاة ، وهو قرار فيه كثير من الإستبداد والتحدي لمكان أبيه ووجود طلحة .
وعائشة نفسها تستولي عليها الذكريات المريرة فترجع ـ كالحالمة حيناً والمتيقظة
حيناً آخر ـ إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى قوله لنسائه :
أيتكن صاحبة الجمل الأدبب ، تنبحها كلاب الحوأب ؟ » .
وإذا بكلاب الحؤاب تنبحها بشراسة ، وتفجأها بعواء كالزئير ، وتجزع لذلك
جزعاً متواصلاً ثقيلاً ، وتلهث لهاثاً متسارعاً ، وتصرخ بمن حولها : ردّوني
ردّوني ، أنا والله صاحبة كلاب الحوأب ، فيجيئها عبد الله بن الزبير ملفقاً لها
شهادة زور عريضة من خمسين أعرابياً من بني عامر يحلفون لها بالله أن هذا الماء
ليس بماء الحوأب ، وأن الكلاب ليست بكلاب الحوأب ، فكانت أول شهادة زور في
الإسلام كما يقول المؤرخون .
ويستمع طلحة والزبير وسواهما من المتمردين إلى هذه الشهادة ،
257
ويتذكرون قول الرسول لبعض نسائه في هذا الشأن فلا ينكر ذلك منكر ، ويغمضون على
الأمر ، وهم يشاهدون مصاديق قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكذب شهادة
الزور .
وتسير الأحداث سيراً متلاحقاً ، فيصل الجيش المتمرد أطراف البصرة ، ويصل
علي عليه السلام وجيشه الطرف الآخر ، وكان الإمام قد أرسل إليهم القعقاع بن
عمرو سفيراً ومستطلعاً ، يستقرىء له خبرهم ، ويعلم علمهم ، ويسألهم عما يريدون
.
واستأذن القعقاع على عائشة ، وسألها عما أقدمها إلى البصرة ؟ قالت : إصلاح
بين الناس . فسألها أن تدعو له طلحة والزبير ليناظرهما وهي شاهدة ، فأستجابت
وأرسلت إليهما فحضرا ، قال لهما القعقاع :
إني سألت أم المؤمنين عما أقدمها ، فقالت : إصلاح بين الناس ، أفأنتما
متابعان لها أم مخالفان عنها ؟ قالا : متابعان : فقال القعقاع : فأنبآني عن هذا
الإصلاح الذي تريدون ، فإن كان خيراً وافقناكم عليه ، وإن كان شراً إجتنبناه ،
قالا : قتل عثمان مظلوماً ، ولا يستقيم الأمر إذا لم يقم الحد على قاتليه . قال
القعقاع فإنكم : قد قتلتم من قتلة عثمان ستمائة رجل في البصرة إلا رجلاً واحداً
هو حرقوص بن زهير ، غضب له قومه فخالفوا عنكم ، وغضب لمن قُتل قومهم ، فتفرقت
عنكم مضر وربيعة ، وفسد الأمر بينكم وبين كثير من الناس ، ولو مضيتم في الأمصار
تفعلون فيها مثل ما فعلتم في البصرة يفسد الأمر فساداً لاصلاح بعده .
قالت عائشة : فأنت تقول ماذا ؟ قال القعقاع : أقول إن هذا أمر دواؤه
التسكين واجتماع الشمل حتى إذا صلح الأمر ، وهدأت النائرة ، وأمن الناس ،
واطمأن بعضهم إلى بعض إلى بعض نظرنا في أمر الذين أحدثوا هذه
258
الفتنة . فأظهر القوم استحسان كلامه ، وقالوا : إنا قد رضينا منك رأيك ، فأن
قبل عليٌّ بمثل هذا الرأي صالحناه عليه .
ورجع القعقاع فيما يقول بعض المؤرخين إلى الإمام فأنبأه بحديث القوم ،
فسرّ الإمام بذلك سروراً عظيماً .
وكان حديث القوم مع القعقاع ـ إن صح ـ لا يستقيم عملياً ، فقد تجاوز القوم
الحدّ في سفك الدماء بالبصرة قبل سفارته ، وقد ينبغي أن نذكر أن جيش المتمردين
قد إقتحم مشارف البصرة ، وأُقحمت البصرة بالحرب جهاراً ، وأهلكت طلائع الجيش
الحرث والنسل ، وقد سمي ذلك بيوم الجمل الأصغر ، فقد بعثت عائشة بابن عامر إلى
البصرة يتألف فيها صنائعه ، فاجتمع له جيش سرّي يضمن لجيش الناكثين النصرة
والحماية ، ويكون له ظهرياً إن هو اقتحم البصرة ، ولم يكن عثمان بن حنيف والي
البصرة لتخفى عليه هذه المكائد ، فقد كان متنبهاً لها ، ومتحصناً قدر المستطاع
، وتأهب للحرب حسب الإمكان ، وأراد أن يخبر أهل البصرة بحديث القوم ، فبعث من
يخطب بالمسجد قائلاً :
« أيها الناس : إن هؤلاء القوم قد جاؤوكم ؛ إن كانوا جاؤوكم خائفين ، فقد
جاؤوا من المكان الذي يأمن فيه الطير ، وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان فما
نحن بقتلة عثمان ... أطيعوني فردّوهم » .
فكان اللغط كثيراً ، وكان الرد على هذا الخطاب : أن القوم إنما فزعوا
إلينا ليستعينوا بنا على قتلة عثمان ، فعلم ابن حنيف أن هذا أمر دبر بليل ،
فتوسل بالرسل والأسفار إلى القوم فأرسل عمران بن حصين ، وأبا الأسود الدؤلي
يستطلعان ما عزم عليه النفير ، ووصل السفيران فاستئذنا على عائشة وقالا :
259
« يا أم المؤمنين : إن أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك ، فهل أنت
مخبرتنا ؟ » فتعللت بالجواب بإرادة الإصلاح ، فقالا : « فهل معك عهد من رسول
الله في هذا المسير » .
فأُرتج عليها الجواب . وقد يقال بأنها قالت : « إن عثمان قتل مظلوماً ،
لقد غضبنا لكم من السوط والعصا ، أفلا نغضب لقتل عثمان ، فرد عليها أبو الأسود
« وما أنتِ ومن عصانا وسوطنا ، وأنت حبيس رسول الله أمرك أن تقرّي في بيتك ،
فجئت تضربين الناس بعضهم ببعض ، فقالت : وهل أحد يقاتلني ؟ فقال أبو الأسود :
أي والله لتقاتلين قتالاً أهونه لشديد ، أو قال : قتالاً أهونه أن تندر فيه
الرؤوس » .
وكان أبو الأسود صادقاً فيما قال ـ كما سترى ـ وناصحاً غاية النصح ، ولئن
نصح لها أبو الأسود في هذا الموقف ، فقد نصح لها جارية بن قدامة السعدي في موقف
آخر ، وأبلغ في النصح ، وأعذر في القول ، وشدد في النكير ، وقال :
« يا أم المؤمنين ، والله لقتل عثمان أهون من خروجك على هذا الجمل الملعون
عرضة للسلاح ، لقد كان لك من الله ستر وحرمة ، فهتكت سترك وأبحت حرمك ، وإن من
رأى قتالك فقد رأى قتلك ، فإن كنت قد أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك ، وإن كنت
مستكرهة فاستعيني بالناس » .
ومهما يكن من أمر فقد ترك الرسولان عائشة وقصدا طلحة وسألاه :
ما أقدمك ؟ فقال طلحة : الطلب بدم عثمان . فقال أبو الأسود :
« يا أبا محمد قتلتم عثمان غير مؤامرين لنا في قتله ، وبايعتم علياً
260
غير مؤامرين لنا في بيعته ، ولم نغضب لعثمان إذ قتل ، ولم نغضب لعلي إذ بويع ،
ثم بدا لكم فأردتم خلع علي ، ونحن على الأمر الأول ، فعليكم المخرج مما دخلتم
فيه » .
وقال عمران بن حصين « يا طلحة : إنكم قتلتم عثمان ، ولم نغضب له إذ لم
تغضبوا ، ثم بايعتم علياً وبايعنا من بايعتم ، فإن كان قتل عثمان صواباً
فمسيركم لماذا ؟ وإن كان خطأ فحظكم منه الأوفر » .
وبدرهما طلحة بقوله : « يا هذان : إن صاحبكما لا يرى أن معه في هذا الأمر
غيره ، وليس على هذا بايعناه » . فخرجا منه وقال أبو الأسود لعمران :
« أما هذا فقد صرح أنه إنما غضب للملك يا عمران » .
وقصدا الزبير ، فسبقهما بقوله : « إن طلحة وإياي كروح في جسدين . وقد كانت
منا في عثمان فلتات احتجنا فيها إلى المعاذير ، ولو إستقبلنا من أمرنا ما
إستدبرناه نصرناه » .
ويروي ابن أبي الحديد أنهما قالا غير مواربين :
« بلغنا أن في مصركم دراهم ودنانير فأتينا لأستخلاصها » ورجع الرسولان إلى
عثمان بن حنيف ، فقال أبو الأسود :
يا ابنَ حنيفٍ قد أُتيتَ فأنفرِ |
وطاعن القوم وجالد وأصبرِ |
وإبرُز لهم مستَلئماً فشمّرِ
فقال ابن حنيف : إنا لله وإنا إليه راجعون ، دارت رحى الإسلام ورب الكعبة
.
ويرى الطبري أن عثمان بن حنيف عامل أمير المؤمنين على البصرة قد قصدهم
بنفسه ، وقال لهم مجتمعين :
261
ما الذي نقمتم على عليّ حتى خرجتم عليه تقاتلوه ؟
فقالوا : لأنه ليس بأولى بالخلافة منا ، وقد صنع ما صنع .
فقال لهم : إن الرجل قد أمرني أن أسألكم ، واكتب إليه بجوابكم ، وطلب
منهم أن يصلي بالناس حتى يأتي جوابه ، فوافقوا على ذلك ، ولم يلبثوا إلا
يومين حتى وثبوا عليه فقاتلوه ، وأخذوه أسيراً ، ولولا خوف الأنصار من رهطه
لقتلوه ، ومع ذلك فقد مثلوا به حياً ، ونتفوا شعر حاجبيه ولحيته وأشفار
عينيه .
ويرى ابن قتيبة : أن المتمردين إتفقوا مع عثمان بعد معارك ذهب ضحيتها
عدد كبير من الصالحين : أن لعثمان دار الإمارة والمسجد وبيت المال ، وأن
ينزل أصحابه حيث شاؤوا بالبصرة ، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن يقيما في
البصرة إلى أن يدخلها عليٌّ عليه السلام ، فإذا اجتمعت كلمتهم بعد دخوله
واتفقوا ، كفاهم الله شر الفتنة ، وإن لم تتفق كلمتهم فلكل فريق أن يصنع ما
يريد .
وانصرف عثمان إلى عمله مطمئناً ، وتفرق أنصاره في أعمالهم ، فغدر طلحة
والزبير ، وهاجموا الوالي مباغتة في ليلة مظلمة ممطرة ، فقتلوا الحرس ومن
في الدار حتى بلغ عدد القتلى أربعين رجلاً ، واستولوا على بيت المال ، وأخذ
عثمان بن حنيف أسيراً ، ونتف مروان شعر وجهه ورأسه .
وتمت سيطرة المتمردين على البصرة ، فلما جاء وقت صلاة الفجر ـ فيما
يذكره اليعقوبي في تأريخه ـ تنازع طلحة والزبير على الصلاة ، وجذب كل منهما
الآخر من المصلى ، واستمر النزاع بينهما حتى كاد أن يفوت وقتها ، فصاح
الناس : الصلاة الصلاة يا أصحاب
262
محمد ، وهي سخرية لاذعة بالقوم ، وتناهى النبأ إلى عائشة فحسمت النزاع ،
وأمرت أن يصلي بالناس محمد بن طلحة يوماً ، وعبد الله بن الزبير يوماً .
ويبدو من الأحداث أن عثمان بن حنيف كان راغباً في السلم حتى يأتيه أمر
الإمام ، وكان يدفع الحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وكان قد أكثر من
المناظرة والمحاورة والمحاولة مع القوم حتى تمت الهدنة إلى حين قدوم الإمام
، ولكن المتمردين بادروا الحرب ليلاً ، فقتلوا ـ كما يرى المسعودي ـ سبعين
رجلاً من أنصار ابن حنيف ، منهم خمسون رجلاً قتلوا صبراً ، وجرحوا عدداً
كبيراً من الناس ، ومثلّوا بآخرين .
وتناهت الأخبار بهذا إلى أمير المؤمنين ، وكان يأمل أن يتراجع
المتمردون عن الحرب ، وكان يميل إلى إصلاحهم متجنباً الفرقة وسفك الدماء ،
ولما يئس من هذا الملحظ ، نهض إلى البصرة في جيشه مسرعاً عسى أن يتدارك
الأمر بنفسه ، ولكن القوم كانوا قد استولوا على البصرة ، وأكثروا فيها
الفساد ، فأسرع الإمام لئلا يبلغ السيل الزبى ، فزحف إليها زحفاً عسكرياً
منظماً يصفه المسعودي في مروج الذهب وصفاً دقيقاً برواية المنذر بن الجارود
العبدي ، ونحن نجملها لترى قيادة الإمام في رجاله ، مقارناً بينها وبين
قيادة أصحاب الجمل من الموتورين والحاقدين على الإسلام والإمام ، قال :
« إن علياً لما قدم البصرة دخلها مما يلي الطفّ وأتى الزواية ، فخرجتُ
أنظر إليه ، فورد موكب من نحو ألف فارس ، يتقدمهم فارس على فرس أشهب ، عليه
قلنسوة وثياب بيض ، متقلد سيفاً ، معه راية وتيجان يغلب عليها البياض
والصفرة ، مدججين بالحديد والسلاح ،
263
فقلت من هذا ؟ لي : إنه أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وهؤلاء الأنصار وغيرهم .
ثم تلاه فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض ، متقلد سيفاً ، متنكب
قوساً ، معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس ، فقلت من هذا ؟ فقيل هذا
خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين .
ثم مرّ بنا فارس آخر على فرس كميت ، معتم بعمامة صفراء من تحتها
قلنسوة بيضاء ، وعليه قباء أبيض مصقول ، متقلد سيفاً ، متنكب قوساً في نحو
ألف فارس ، فقلت من هذا ؟ فقيل لي : أبو قتادة بن ربعي .
ثم مرّ بنا فارس على فرس أشهب عليه ثياب بيض ، وعمامة سوداء قد سدلها
بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينة ووقار ، رافع صوته بقراءة
القرآن ، ومعه راية بيضاء وألفٌ من الناس مختلفو التيجان ، حوله مشيخة
وكهول وشبان ، كأنما قد وقفوا للحساب ، قد أثر السجود في جباههم ، فقيل لي
: هذا عمار بن ياسر في عدة من المهاجرين والأنصار وأتباعهم .
ومرّ بنا فارس آخر على فرس أشقر تخط رجلاه في الأرض في ألف من الناس ،
فقيل لي : هذا قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري في الأنصار وأبنائهم وغيرهم من
قحطان .
ومرّ بنا موكبٌ فيه خلق كثير من الناس ، عليهم السلاح والحديد مختلفو
الرايات ، يتقدمهم رجل شديد الساعدين ، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى
فوق ، كأنما على رؤوسهم الطير ، وفي مسيرتهم شاب حسن الوجه ، فقيل لي هذا
علي بن أبي طالب ، وهذان الحسن والحسين
264
عن يمينه وشماله ، وهذا محمد ابن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى ،
والذين خلفه : عبد الله بن جعفر ، وولد عقيل ، وفتيان بني هاشم ، والشيوخ
الذين معه أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فساروا حتى نزلوا الموضع
المعروف بالزاوية ، فصلى عليّ عليه السلام أربع ركعات ، ثم عفّر خديه على
التربة ، وقد خالط ذلك دموعه ، ورفع يديه وقال :
« اللهم رب السماوات وما أظلت ، والأرض وما أقلّت ، ورب العرش العظيم
، هذه البصرة أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرها ، اللهم أنزلنا فيها خير
منزل وأنت خير المنزلين ، اللهم : هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي ، وبغوا عليّ
، ونكثوا بيعتي ، اللهم : احقن دماء المسلمين » .
ونزل عليّ عليه السلام في معسكره ، وأسفر لأهل الجمل الرسل والمبعوثين
طالباً حقن الدماء ، وسلامة الناس ، ووحدة المسلمين ، فأبوا إلا القتال ،
فما بدأهم بقتال ، ولم يشهر السلاح ، بل أمر أصحابه بالتريث والصبر ، ولكن
القوم تألبوا وشجع بعضهم بعضاً ، واندلعت الحرب .
265
كان عليّ عليه السلام راغباً بالسلم ، مؤثراً الصلح ، فلمّا علم نية
القوم بإرادة الحرب ، أراد أن يعذر لله وللمسلمين ولنفسه ، وشاء أن يستعمل
آخر ما يجد إليه سبيلاً بإلقاء الحجة ، فأمر أحد أصحابه أن يبرز بين الصفين
ـ وقد تأهبت القوى جميعاً ـ وبين يديه كتاب الله يدعوهم للعمل بما فيه
والرجوع إليه ؛ وامتثل الرجل الأمر ، ورفع القرآن بكلتا يديه ، ودعاهم إلى
ما فيه ، فأتته السهام كشآبيب المطر حتى سقط قتيلاً ، وحُمل إلى أمير
المؤمنين فاسترجع وترحم عليه . وابتدر عمار بن ياسر رحمه الله القوم واعظاً
ومؤنباً ومذكراً فقال :
« أيها الناس ما أنصفتم نبيكم صنتم عقائلكم في خدورها ، وأبرزتم
عقيلته للسيوف » .
ورشق عمار ومن معه بالنبل ، وأصيب من أصيب من أصحابه ، وقتل أخ لعبد
الله بن بديل ، فحمله أخوه إلى أمير المؤمنين ، وتأمل عليٌّ عليه السلام
هنيئة ، فرأى وقدر وفكر ، فلم يجد بداً مما ليس منه بد ، وخرج بين الصفين ،
واستدعى طلحة والزبير فخرجا إليه ، وقال لهما :
ألم تبايعاني ، قالا : بايعناك كارهين ، ولست أحق بهذا الأمر منا .
واوضح لهما كذب الدعوى ، فما إستكره الإمام أحداً على البيعة ، ثم
إلتفت إلى طلحة وقال : أحرزت عرسك ، وخرجت بعرس
266
رسول الله تعرضها لما تتعرض له . وقال للزبير : كنا نعدك من آل عبد المطلب
حتى نشأ ابنك ابن السوء ، ففرّق بيننا ؛ وقال له : أتذكر قول رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم لك . ستقاتله وأنت ظالم له ، فقال الزبير : الآن ذكرت
ذلك ، ولو ذكرته قبل اليوم ما خرجت عليك .
وكان الأمثل بالزبير أن ينحاز إلى علي عليه السلام بعد هذا التذكير ،
ولكنه أخلد إلى نفسه ، واتبع هواه ، وما حكم عقله في هذا الأمر الخطير ،
فقيل أنه إعتزل الحرب فوراً حتى انتهى حيث لقي مصرعه على يد ابن جرموز غيلة
، وقرائن الأحوال لا تساعد على صحة هذا القول ، إذ لا يمكن أن يعتزل الزبير
القتال وحده لو شاء ذلك ، وهو رأس من رؤوس القوم ، أفلا يتبعه في هذا
القرار أحد من المقاتلين الذين يرون فضله ومنزلته .
والذي أميل إليه أن الزبير قد باشر الحرب بنفسه ، وأن عبد الله بن
الزبير قد وصمه بالجبن بعد اجتماعه بعلي عليه السلام ، وقال له : فررت من
سيوف بني عبد المطلب ، فإنها طوال حداد ، تحملها فتية أنجاد ، فغيّر قراره
هذا التحدي له من ولده ، فأحفظه وأغضبه ، وقال لابنه : ويلك إني حلفت لعلي
أن لا أقاتله ، فقال له ابنه : وما أكثر ما يكفّر الناس عن أيمانهم ، فأعتق
غلامك ، وأمضِ لجهاد عدوك ، فكفر الزبير عن يمينه وقاتل علياً ، حتى إذا
هوى الجمل انهزم الزبير فيمن إنهزم من الناس ، حتى وصل إلى وادي السباع ،
فقتله ابن جرموز غيلة .
ولم يكن الزبير ليرتدع في التذكير ، وقد سفك دماء المسلمين في الجمل
الأصغر ، ولم يكن ليستجيب للحق ، ومعاوية يخادعه بلقب أمير المؤمنين وأخذ
البيعة له من أهل الشام ، ولم يكن الزبير ليترك الجيش ويعتزل ، وهو يعمل
بإشارة ابنه عبد الله في الطوارىء كافة ، ولم يكن
267
الزبير ليبصر طريقه وقد أعمته شهوة السلطان ، واستهواه الحكم العقيم ، ولو
ثاب إلى الهدى لالتحق بأمير المؤمنين معلناً ندمه وتوبته ، ومكفّراً عن
سيئاته وأخطائه ، ولكنه ركب رأسه ، وأغمض على الحوب العظيم .
وقد رأيت نهاية أمير الجيش الزبير ، أما أميره الثاني طلحة ، فحينما
صكت الحرب أسنانها ، واختلط الحابل بالنابل ، قصده مروان بن الحكم فرماه
بسهم أصاب أكحله فقطعه ، وقال : لا طالبت بثأر عثمان بعد اليوم ، وقال لبعض
ولد عثمان : لقد كفيتك ثار أبيك من طلحة ، وهوى طلحة في المعركة جريحاً ،
وأخذه نزف الدم ، فلم يستطيع الفرار ، وقال لغلامه : ألا موضع أستجير به ؟
فيقول له غلامه : قد أدركك القوم ، فقال طلحة : ما رأيت مصرع شيخ من قريش
أضيع من مصرعي . ومات طلحة في المعركة على تلك الحال .
وأما أم المؤمنين عائشة ، فقد ركبت الجمل ، وأدرعت بهودجها ، وقد قامت
الحرب على ساق ، وهي تحرض الناس على القتال وسط المعركة ، تدفع بهؤلاء
وتستصرخ أولئك ، وتحرك آخرين ، حتى حمي الوطيس وندرت الرؤوس ، وتناثرت
الأيدي ، وتهاوت الأجساد حول الجمل ، وكان جمل عائشة راية أهل البصرة
يلوذون به كما يلوذ الجيش برايته الكبرى ، والناس تتهافت على خطام الجمل ،
وكلما أمسكه أحد قتل ، حتى تغافى حوله مئات القواد والعسكريين ، ومرتجز
عائشة يقول :
يا أمنَّا عائشُ لا تراعي |
كلُّ بنيِكِ بطلُ المصاعِ |
وهي تلتفت إلى من على يمينها تشجعه ، وإلى من على يسارها مباركة ، ومن
إلى جنبها محمسة ، عتى ملّت من الحرب ، فأخرجت يدها من الهودج تحمل بدرة من
الدنانير ، ونادت بأعلى صوتها : من يأتيني برأس الأصلع ( تريد بذلك عليّاً
) وله هذه البدرة ، فضجّ العسكر
268
ضجة واحدة ، وأمعن في قتال ذريع .
وكان الجيشان يستقتلان بضراوة عجيبة ، والنصر ترفرف أعلامه فوق رؤوس
فرسان الإمام ، فصاح علي عليه السلام : اعقروا الجمل فإن في بقائه فناء
العرب .
وفي رواية : اعقروا الجمل فإنه شيطان ، فانتدب لذلك محمد ابن الحنفية
نجل الإمام وحمل عليه في طائفة من المقاتلين الأشداء ، فعقروا الجمل بعد
خطوب كثيرة ، فخر الجمل إلى جنبه ، وهوى إلى الأرض وله ضجيج وعجيج لم يسمع
الناس بمثلهما ، وبعقر الجمل إنهزم جيش عائشة لا يلوي على شيء ، وفرّ
بالصحراء فكان كالجراد المنتشر ، وأمر الإمام محمد بن أبي بكر وعمار بن
ياسر بحمل الهودج بعد أن بقيت عائشة وحدها في الميدان ؛ ويقول الإمام لابن
أبي بكر : أدرك أختك حتى لا تصاب بأذى ، فيدخل رأسه في الهودج ، فتسأله من
أنت ؟ فيقول : أنا أخوك أقرب الناس منك وأبغضهم إليك ، فتقول : ابن
الخثعمية ، فيقول : نعم أخوك محمد ؛ يقول لك أمير المؤمنين هل أصابك شيء ،
فتقول مشقص في عضدي ، فينتزعه محمد ، ويأتي الإمام فيقف على هودجها ،
ويضربه برمح أو قضيب ، ويقول : كيف رأيت صنيع الله يا أخت أرم ؟ يا حميراء
ألم يأمرك رسول الله أن تقري في بيتك ؟ والله ما أنصفك الذين صانوا عقائلهم
وأبرزوك ، فتقول :
يا ابن أبي طالب ملكت فأسجح .
ويسجح الإمام ، ويأمر محمداً أخاها أن يدخلها داراً من دور البصرة ،
فيحملها أخوها ، وينزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي .
وانتهت المعركة بآلاف القتلى من المعسكرين ، وبهزيمة
269
المتمردين هزيمة شنعاء ، وبمقتل رؤوسهم الكبيرة .
وطمع بعض أصحاب الإمام بالغنائم فنهاهم عن ذلك ، وأمرهم أن لا يجهزوا
على جريح ، ولا يتبعوا فارّاً ، ولا يغضبوا امرأة ، ولا يدخلوا داراً ، ولا
يهتكوا ستراً ، ولم يقسم بين أصحابه غنيمة إلا ما أجلب به أهل البصرة
للقتال وفي ساحة الحرب . وقال : ليس في هذه الحرب مغنم لمنتصر ، وأرسل من
ينادي في أهل البصرة : من عرف شيئاً فليأخذه . وحاول بعض المتطرفين قتل
عائشة فأنكر عليه الإمام ووضعها في حراسة مكثفّة ، وأراد بعض المقاتلين أسر
المنهزمين فردّهم الإمام عن ذلك .
ووقف عليّ عليه السلام بين قتلاه فترحم عليهم ، ووقف على المتمردين
فخاطبهم بمثل ما خاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل القليب ببدر .
ووجم الإمام لما أصاب الطرفين من قتل وفناء ، وتوجه إلى الله :
أشكو إليك عجري وبجري شفيتُ نفسي وقتلتُ معشري وكان القتلى يعدون
بالآلاف ، ففقدت قريش طائفة من رجالها المعدودين ، واستولى الحزن على كثير
من بيوتات البصرة التي فقدت أحبّتها وأعزّتها ، وتناول الثكل مجموعة من دور
الكوفة .
وكم كان بود أمير المؤمنين ، أن يقاتل بهؤلاء وهؤلاء أبناء الطلقاء من
جهة ، وأعداء الإسلام من جهة أخرى ، ولكن المقادير جرت بغير هذا التقدير .