ودخل عليٌّ عليه السلام البصرة بعد المعركة بثلاثة أيام ، دخولَ
الخاشعين لا دخول الفاتحين ، فأمّن أهلها ، وأغضى عن مسيئها ، وتجاوز عن
بقايا المتمردين ، وأعرض عنهم صفحاً ، وكان يقول :
« سرت في أهل البصرة سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أهل
مكة » .
ونظر أصحابه في هذه السيرة العجيبة ، وبهتوا لهذا الرفق الهائل ، وغاض
بعضهم إعراضه عن الغنائم ، وإبقاؤه على الحرمات ، فلج بهم الأمر أن قالوا
للإمام : اقسم بيننا أهل البصرة نتخذهم رقيقاً » فأبى عليهم الإمام ذلك ،
وردّ ما ارتأوه بقوله : « لا فالقوم أمثالكم » . فاعترضوا : « كيف تُحل لنا
دماءَهم وتُحرّم علينا سبيهم ؟ » . فأجاب مطمئناً : كيف تحل لكم ذرية ضعيفة
فى دار هجرة و اسلام« وأبان لهم الحكم الشرعي المجهول في قتال أهل القبلة
وحرب المسلم مع المسلم فقال : « أما ما أجلب به القوم عليكم في معسكركم فهو
لكم مغنم . وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب ، فهو لأهله . وما كان
لهم من مال في أهليهم فهو ميراث على فرائض الله ، لا نصيب لكم في شيء منه »
.
وأثار هذا الحكم غضب جماعة من أنصاره ومقاتليه ، وأرادوا الاستيلاء
على المخلفات ، وأسر المقاتلين ، فاستعمل الإمام عليه السلام الاستدراج ،
فقال لهم : « اقترعوا ... هاتوا سهامكم » . وسألهم بلباقة
271
وعبقرية : « فأيكم يأخذ أمّه في سهمه ؟ اقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه
القرعة » .
فثاب الناس إلى صوابهم ، وقالوا : نستغفر الله يا أمير المؤمنين .
وبهذا النمط من الإقناع والمناظرة وسعة الصدر استطاع الإمام أن يحفظ التوازن
لدى أصحابه بعد ظفرهم ، وأن يجنب أعداءه الاضطهاد وحملات الانتقام.
وجاء عليٌّ عليه السلام إلى المسجد وجلس فيه للناس ، فبايعوه على كتاب الله
وسنة نبيه ، ونظر في بيت المال فقسمه على المسلمين . وأمن الجميع لعدله ونبله وعظيم
سيرته ، واطمأن حتى خصومه لهذا المنهج الجديد الذي لم يكونوا ليحلموا به .
وقد كان من همّ أمير المؤمنين و رعاية عائشة أم المؤمنين حتى في هذا الموقف ،
فركب لزيارتها في كوكبة من أصحابه ، وأنه لفي المدخل من دار عبد الله بن خلف وإذا
بصاحبة الدار صفية بنت الحارث بن أبي طلحة العبدري تجبهه بقولها : يا علي يا قاتل
الأحبة ، ويا مفرق الجماعة ، أيتم الله بنيك منك كما أيتمت بني عبد الله ( تعني
زوجها عبد الله بن خلف ) فلم يجبها عليٌّ بشيء حتى دخل على عائشة ، فلما إستقر به
المكان ، قال : جبهتنا صفية .
ودارت بين الإمام وعائشة بضع كلمات ، فلما انصرف الإمام تلقته صفية فأعادت
عليه مقالتها الأولى ، فأراد الإمام إفحامها ، فقال : ـ وهو يشير إلى أبواب الحجر
المغلقة في الدار ـ لقد هممت أن أفتح هذا الباب وأقتل من وراءه ، وأن أفتح هذا
الباب وأقتل من وراءه ، فلما سمعت صفية منه ذلك صعقت وأفسحت له في الطريق ، وكان في
تلك
272
الحجرات الجرحى من أصحاب عائشة ، وفيهم مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير وآخرون
، جمعتهم عائشة في الدار ، وأمرت بتمريضهم وعلاجهم ، وكان علي يعلم مكانهم ويعرض
عنهم .
وأراد عليّ عليه السلام إرجاع عائشة إلى دارها معزّزة مكرّمة ، فأرسل إليها
عبد الله بن عباس وقال له : أئتِ هذه المرأة لترجع لبيتها الذي أمرها الله أن تقرّ
فيه ، فجاءها ابن عباس واستأذن عليها فأبت أن تأذن له ، ودخل عليها بلا إذن ، فهو
مأمور من قبل الإمام ، ولا بد من تنفيذ أمره وجوباً دون تردد ، ومدّ يده إلى وسادة
وجلس عليها ؛ فقالت له عائشة : لقد أخطأت السنة مرتين ، دخلت بيتي بدون إذني ،
وجلست على متاعي بدون أمري ، فقال لها : نحن علمنّاك السنة يا عائشة ، والله ما هو
بيتك الذي أمرك الله أن تقري فيه .
ثم قال : إن أمير المؤمنين يأمرك أن ترحلي إلى بلدك الذي خرجت منه ، فقالت
بكراهية واستفزاز : رحم الله أمير المؤمنين ذلك عمر بن الخطاب ؛ فقال ابن عباس :
نعم وهذا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب أيضاً ؛ قالت : أبيتُ أبيتُ .
قال : ما كان إباؤك إلا فواق ناقة بكية ثم صرتِ لا تحلّين ولا تمّرين ، ولا
تأمرين ولا تنهين ، قال ابن عباس : فبكت حتى علا نحيبها ، ثم قالت : أرجع ، فإن
أبغض البلدان إلى بلدٌ أنتم فيه ، فقال لها ابن عباس : والله ما كان ذلك جزاؤنا منك
إذ جعلناك للمؤمنين أماً ، وجعلنا أباك لهم صديقاً ، فقالت : أتمنّ علي يا ابن عباس
برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها : نعم ، نمن عليك بمن لو كان منك
بمنزلته منا لمننت به علينا . وانتهى الحديث .
ولما رجع ابن عباس إلى أمير المؤمنين وأخبره بما كان من أمر
273
عائشة وأمره ، تلا أمير المؤمنين قوله تعالى : ( ذُرِيَّةَ بَعضُها
مِن بَعضٍ )
(1) .
ثم أمر أمير المؤمنين بتجهيز عائشة جهازاً حسناً ، وبعث معها رجالاً ونساءً ،
وتوجه بها الركب نحو المدينة بعدَّة و إعزاز و وصلت المدينة فلما استقربها المقام ،
جاء الناس للسلام عليها ، فكانت تصل الدموع بالدموع ، والأسى بالأسى ، وتبكي بكاءً
مراً حتى تبل خمارها ، فلا هي التي حققت أهدافها بتنحية علي من الخلافة ، ولا هي
التي حفظت رجالها من القتل والخزي ، وكانت تقول :
ليتني مت قبل يوم الجمل بعشرين عاماً .
ولم يُطل الإمام المقام بالبصرة ، ولا استهوته معالمها بعد هزيمتها ، بل
إستصلح جملة من أهلها ، وأذاق الناس طعم الرفاهية والعدل ، وآمنهم بعد خوف شديد ،
وولى عليها عبد الله بن عباس ، وارتحل إلى الكوفة ، فأمامه شوط بعيد يتدارك به شؤون
الدولة ، ويشرف به على أمور الرعية .
(1) سورة آل عمران ، الآية : 34 .
274
دخل أمير المؤمنين الكوفة في اليوم الثاني عشر من رجب سنة ست وثلاثين من
الهجرة ، وكان قد انتهى من حرب الناكثين ، فما عليه الآن ، وقد أمن شرق الدولة
الإسلامية في البصرة ، إلا أن يأمن غرب الدولة الإسلامية في الشام ، وجعل يعدّ
العدّة لحرب القاسطين ، وأشرف على إعداد الجيش بنفسه ، وانتدب لذلك خُلّصَ أصحابه ،
فكانت الدعوة قائمة على أشدّها أهبة وتسليحاً ومتابعةً .
وكان الكوفيون ثلاثة فرقاء ، فالفريق الأول هو الذي ناصره في حرب الجمل ،
والفريق الثاني هو الذي تخلف عنه فيها ممن كان يأمل نصرهم وينتظر مؤازرتهم ، ولكنهم
كانوا دون مستوى المسؤولية . والفريق الثالث هو الذي رابط في الكوفة دون نصره في
البصرة ، ودون خذلانه في الكوفة .
وكان الفريق الأول يحدب على استمرارية الإنتصار ، ويعمل على استدامة الظفر .
وكان الفريق الثاني يخشى اللوم والتعنيف ـ كما حدث ـ وفيه بعض الرؤساء ومشايخ
القبائل ، فاستحب أن يكفّر عما مضى إسترضاءً للإمام فهو يدعو للحرب . وكان الفريق
الثالث من السواد الأعظم منتظراً لأوامر الإمام ، وطوع إرادته ، وقد حلّ في
ظهرانيهم ، بغية أن يتدارك ما فاته ، ولئلا يحسب على الخوالف .
275
وكان نزول أمير المؤمنين الكوفة ضرورة تفرضها طبيعة الحياة السياسية المفكرّة
، فهو قد استخلف سهل بن حنيف على قلب الدولة الإسلامية : المدينة المنورة ، وهو قد
ولى عبيد الله بن العباس جنوب الدولة الإسلامية : اليمن ، وقد أرسلت مصر ولاءها
وحباءها وتجاوبت مع الوالي الجديد قيس بن سعد بن عبادة ، وقد التجأ فريق من
المنهزمين ، ونفر ممن رفض البيعة للإمام ، وآخرون من ذوي المطامع ، فالتحقوا بمكة ،
ممن لا يخاف كيدهم ، فقصارى ما يتمكنون منه الثرثرة والكراهية تارة ، وتزويد معاوية
بالأنباء تارة أخرى ، وقد سبق استتباب الأمر في البصرة ، فلم يبق أمام الإمام إلا
الشام ؛ وإقامة أمير المؤمنين في الكوفة تهيئ له رجال الكوفة وأبطال البصرة وسواد
السواد ، ومعه المهاجرون والأنصار ، وبقية أعيان بدر ، فالمرابطة في الكوفة والحالة
هذه تستقطب عدة إيجابيات في سياسة الإمام ، أهمها :
1 ـ الابتعاد بالفتن والحروب عن مدينة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
، وقد أقبلت ـ كما يراها الإمام ـ كقطع الليل المظلم .
2 ـ وتوسط الكوفة كيان الدولة الإسلامية يدعو إلى التمركز فيها سياسياً ،
والتجحفل فيها عسكرياً ، فالعراق في حدود طويلة مع الشام ، والعراقيون يريدون أن
يأمنوا كيد معاوية ، وقد نصروا علياً وهو قريب منهم ، والإعداد للمعركة القادمة عن
قرب خير من الإعداد لها عن بعد .
3 ـ الكوفة تمحض الولاء الخالص لأمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام وزعماء
الكوفة قد رغبوا بتأكيد أن ينزل الإمام فيهم ، فنزل الإمام فيها لا بقصر الأمارة ،
ولكن في دار ابن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي ، وأمه أم هاني بنت أبي طالب أخت
الإمام عليه السلام .
276
فكانت جملة هذه العوامل مدعاة من الوجهة السياسية والعسكرية أن يتخذ الإمام
الكوفة عاصمة له ريثما تستقر الحياة السياسية ويعطي رأيه فيما بعد ، ولكن سترى أن
الأقدار قد فرضت بقاء علي عليه السلام في الكوفة حتى استشهاده وما يدرينا فقد يكون
ذلك عن إرادة وتصميم مقصود إليه .
وقد علمت أن أمير المؤمنين كان قبل حركة الناكثين يتأهب لحرب أهل الشام ، وقد
أرجأ هذه الحرب خروج المتمردين ، فحول إتجاهه من الشام إلى البصرة ، ولما عادت
المياه إلى مجاريها نوعاً ما ، أعاد الكرة فيما خطط له أولاً ، وأصبح من السهل عليه
مجابهة أهل الشام وهو في الكوفة ، من مجابهتهم وهو في الحجاز والكوفة بعدُ قلب
الدولة جغرافياً .
وفي الشام خصم تأريخي عنيد للإسلام وأهل البيت ، وهو معاوية ، وهذه الخصومة
تأريخية تمتد جذورها إلى الجاهلية ، وتتحكم أصولها في فجر الدعوة الإسلامية وضحاها
، وهي تستمر حتى ظهر الإسلام وعصره ، بل إلى اختفاء الدولة الأموية في عام 132هـ .
باستثناء فترة حكم عمر بن عبد العزيز .
لا نريد أن نبحث فصول هذه الخصومة في الجاهلية ، فليس في ذلك كبير أمر ، والذي
يعنينا أن نلقي ضوءاً كاشفاً عليها في ظل الإسلام ، فحينما صدع النبي صلى الله عليه
وآله وسلم برسالته ، وقف البيت الأموي بقيادة عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبي سفيان
بن حرب يناهضون الرسالة قولاً وعملاً ، ويحاربون النبي صلى الله عليه وآله وسلم
سراً وجهاراً ، فالأذى والإستهزاء والتكذيب منهم بعض مظاهر هذه المناهضة ، وتزعّمُ
المعارضه له بتأييد طواغيت قريش مظهر آخر منها ، وامتحان المستضعفين من المسلمين
277
والقسوة عليهم من بعض معالمها ، ومقاطعة بني هاشم وحصرهم في الشعب جزء لا يتجزأ من
المخطط العام لمجابهة الإسلام ، والتكتل مع قريش للهجوم على النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ليلة هجرته يسلط الأضواء على حقيقة ما يكَّن هذا البيت للإسلام من حقد
وكراهية ، حتى إذا هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة ، كانت
الحرب الكلامية واضطهاد المسلمين سبيلاً إلى مناوأة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في أفكاره وأنصاره ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، فالبيت الأموي صاحب العير وصاحب
النفير في معركة بدر الكبرى ، فالعير بقيادة أبي سفيان ، والنفير بقيادة عتبة وشيبة
ابني ربيعة ، وأبو سفيان قائد المشركين في أحد والخندق وسواهما ، تمرس في حرب
الإسلام ، ونشأ على عداء النبي وآله في مكر ودهاء وقوة ؛ وأسلم عند الفتح كارهاً ،
حينما لم يجد إلا القتل أو الإسلام ، وابنه معاوية معه في هذا كله ، تلقى عن جده
وأبيه وأمه صنوف العداء للإسلام ، فأمه هند لم تكن دون أبيه في كيد الإسلام ،
والإرصاد للمسلمين حتى ختمت أعمالها الوحشية بالتمثيل لحمزة بن عبد المطلب أشد
التمثيل لدى استشهاده في أحد ، مما لا عهد به للعرب في جاهلية أو إسلام . وأسلم
معاوية كرهاً يوم الفتح كما أسلم أبواه كرهاً ، وتوجّ بطوق الطلقاء كما توج أهل مكة
يوم الفتح .
ومضت الأيام سراعاً ، ولا قدم ولا قِدَم لمعاوية بالإسلام ، وإذا بعمر يوليه
الشام ولا يعزله عنها ، ويمهد له تمهيداً عجيباً ، وجاء عثمان فعزل كل ولاة عمر إلا
معاوية ، وكان معاوية رأس ولاته وزعيم مناصريه ، أوكل إليه تأديب المنفيين إلى
الشام من المعارضين ، وفسح له في الأمر فجمع إليه جميع أطراف الشام ، ومكنّه في
الأرض تمكين الجبارين ، فكان الحاكم المطلق دون العودة إلى عثمان ، وكان الآمر
278
المطاع دون الإستعانة برأي عثمان ، وكان القوة التشريعية والسلطة التنفذية والقدرة
القضائية في الشام .
واستمر في سلطانه هذا طلبة عشرين عاماً و هى مدة ولايته وكانت هذه المدة كفيلة
بأن تكسبه خبرة في الإدارة ، وأن تزيده معرفة بأولاع الناس ورغباتهم ، فساسهما معاً
، وكانا عوناً له في مطالبته بالخلافة تحت ستار المطالبة بدم عثمان ، ... واستصرخه
عثمان في محنته ، واستنجد به عند حصاره ، ولكنه تربّص به تربص الكائدين ، وأغمض عنه
بمكر ودهاء ، فما لبّى له دعوة ، ولا أغاثه بنصرة ، حتى قتل عثمان ، فرفع قميصه
طالباً بدمه ، وكان قديراً على حقن هذا الدم قبل إراقته .
وكانت سياسة معاوية في الشام سياسة مُلكِ لا سياسة دين ، يستصفي ما يشاء ومن
يشاء بما يشاء من القبائل بالمصاهرة تارة ، وبالأموال تارة ، وبهما وبالتقريب من
الإستشارة ، والتلويح بالولاية كلما دعت الحاجة إلى ذلك ، وكان يتألف رؤساء القوم
بالعطاء والحباء ، ويتعامل مع القادة بالاستضعاف المصطنع واللين ، ويسوس الرعية
بالحلم الزائف والرأفة الكاذبة ، حتى جمع حوله القلوب ، واستجابت له النفوس ، ولم
يقتصر بهذه السياسة على الشام ، وإنما تعدّى حدودها إلى العراق أيضاً ، فهو يغري
ويعد ، يغري بالأموال الطائلة ، ويعد بالمناصب الرفيعة ، يكاتب زعماء القبائل
والأشراف في الكوفة والبصرة سراً ، مرغباً تارة ومرهباً تارة أخرى ، ويستطلع أخبار
علي عليه السلام ، وأنباء جيشه أولاً بأول ، له عيونه وأمناؤه ، وله كيده ووسيلته ،
يشتري الضمائر ويؤلب الناس ، ويستهوي القادة ، حتى أطمأن لسياسته هذه ، فشحن أهل
الشام شحناً مريعاً في مظلومية عثمان ، وجرّد من نفسه وليَّ دمه جمع
279
شتات أمره في أناة وروية ، وتملك حياة الشاميين بتربص وانتظار ، فما استعجل مجابهة
الإمام ، ولا لبّى نداء أهل الشام في الزحف على العراق دون الحيطة التامة ، فهم
يتعجلونه وهو يستأني بهم ، وهم يستغيثون به وهو يهدئ نائرتهم ، حتى غلَى المرجل ،
واحتدم الغيظ ، وتلبد الأفق ، وهو بهذا قد كسب الوقت بلإعداد ، وكسب الضمائر
بالإستهواء .
فعليٌّ عليه السلام بإزاء خصم عنيد متربّص ، يعمل بحساب دقيق ، ويفكر بنظام
رتيب ، وهذا الخصم آمن مطمئن لم يدخل حرباً ، ولم يبذّر طاقة ، وأصحابه في دعة وقوة
، لم يرزأوا مالاً ، ولم يفقدوا رجالاً ، وهو في هذا التأهب وذلك الاطمئنان وإذا
بعلي عليه السلام يطلب منه البيعة ، وأن يأتيه بأشراف أهل الشام ، وكان رسوله إليه
جرير بن عبد الله البجلي ، حمّله برسالة تدعوه إلى الطاعة ، والدخول فيما دخل به
المسلمون ، فمبايعة الإمام بالخلافة في المدينة تلزم معاوية بالبيعة له وهو في
الشام قياساً منطقياً في لغة القوم .
إستغفل معاوية جريراً وكان متهماً ، فلم يكلمه بشيء ، ولم يرد عليه بشيء ،
واستمهله الجواب وأخذ يماطله ويطاوله ، ودعا أهل الشام للمشاورة ظاهراً ، ولتأكيد
مطالبته بدم عثمان واقعاً ، سلاحاً قوياً في وجه علي يغري به الأغمار ، فهو محرّض
لا مشاور ، وهو مقاتل لا مبايع ، حتى استطال الأمر شهوراً ، ثم دعا إليه جريراً
وأبلغه أن ليس لعلي عنده إلا السيف ، فرجع جرير بخفي حنين ، وقدم على أمير المؤمنين
، وعظم أمر الشام ، وصوّر له اجتماعهم على الطلب بدم عثمان ، فما حمد له عليٌّ عليه
السلام السفارة ، ولا رضي له مالك الأشتر التبليغ ، وأتهم بممالأة معاوية ،
وبتشجيعه على الاستهتار بالجواب ، فما أخذه أخذ حكيم مناظِر ، ولا جابهه مجابهة
الرسول الحصيف ، وكثرت
280
الألسن في النيل منه ، فأظهر غضباً ، وارتحل عن الكوفة ، ولحق بمعاوية ، وقيل استقر
بقرقيسيا معتزلاً ، فهدم عليّ عليه السلام داره في الكوفة .
أما معاوية فقد أسرّ حسواً بارتغاء ، وأسفر إلى علي كما أسفر إليه علي عليه
السلام ، وكان أبو مسلم الخولاني ممن يدعي العقل والدين والورع ، ممن أرسله معاوية
إلى الإمام ، ولكنه كان ناقص العقل رقيق الدين دون شك ، وكان فطير الرأي سفيه
القرار دون ريب ، فقد اعترض على معاوية اعتراض العارف ، فقال : علام تقاتل علياً
وليس لك فضله ولا سابقته في الإسلام ، ولكنه قبل من معاوية جوابه التقليدي المدخول
قبول الجاهل ، إذ قال له معاوية :
ليس لي فضل علي وسابقته ، وإنما أطالبه بدفع قتلة عثمان ، قال أبو مسلم :
فاكتب لي بذلك فإن أجابك فلا حرب ، وإن أبى قاتلناه على بصيرة ، فكان أبو مسلم
عارفاً باعتراضه ، ولكنه عاد مغفّلاً بمناورة معاوية له ، حتى قال : وإن أبى
قاتلناه على بصيرة ، وقد غاب عن ذهنه أن الإمام هو الذي يلي أمر الدماء ، وهو الذي
يحقق في مقتل عثمان ، ولكن على أن يبايع معاوية ويطيع ، ثم يحتكم إلى الإمام في دم
عثمان إن كان له ولياً حقاً .
ومهما يكن من أمر فقد كتب معاوية إلى الإمام كتاباً فيه من الصلف والغرور
والتطاول والإدّعاء وزج الناس في الحرب ما فيه ، وتهجم على أمير المؤمنين فاتهمه ،
ونصه في رواية البلاذري :
« من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ، أما بعد : فإن الله اصطفى
محمداً بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى خلقه . ثم اجتبى له من
المسلمين أعواناً أيدّه بهم ، فكانوا عنده على قدر
281
فضائلهم في الإسلام ، وكان أنصحهم لله ولرسوله خليفته ، ثم خليفة خليفته
، ثم الخليفة الثالث ، فكلهم حسدتَ ، وعلى كلهم بغيتَ ، عرفنا ذلك من نظرك
الشزر وقولك الهجر ، وتنفسك الصعداء ، وإبطائك عن الخلفاء في كل ذلك تقاد كما
يقاد الجمل المخشوش ، ولم تكن لأحدٍ أشدّ حسداً منك لابن عمّك . وكان أحقهم ألا
تفعل به ذلك لقرابته وفضله ، فقطعت رحمه ، وقبحّت حسنه ، أظهرت له العداوة ،
وأبطنت له الغش ، وألبّت الناس عليه ، حتى ضربت أباط الإبل إليه من كل وجه ،
وقيدت الخيل من كل أفق ، وشهر عليه السلاح في حرم رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ، فقتل معك في المحلة ، وأنت تسمع الهائعة لا تدرأ عنه بقول ولا فعل .
ولعمري يا ابن أبي طالب لو قمت في حقه مقاماً تنهى الناس فيه عنه ، وتقبح لهم
ما اهتبلوا منه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحداً ، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا
يعرفونك به من المجانبة له والبغي عليه . وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفان
ظنين ، إيواؤك قتلته ، فهم عضدك ويدك وأنصارك ، وقد بلغني أنك تنتفي من دم
عثمان وتتبرأ منه ، فان كنت صادقاً فادفع إلينا قتلته نقتلهم به ، ثم نحن أسرع
الناس إليك . وإلا فليكن بيننا وبينك السيف ، والذي لا إله غيره لنطلبن قتلة
عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أروحنا بالله .
والسلام » .
والطريف في هذا الكتاب أن يفتخر معاوية برسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم على عليّ عليه السلام وهو نفسه ، وعلي نفس محمد بصريح القرآن ، فهو أولى
بالفخر ، وأن يسمي معاوية لعلي عليه السلام أعوان محمد صلى الله عليه وآله وسلم
وأنصاره الذين أيدّ الله بهم الإسلام ، وعليٌّ عليه السلام أولهم ، وأقدمهم
سابقة ومناصرة ومجاهدة ، وأن يصنّف له الخلفاء وليس معاوية هناك ، وأن يتهمه
بحسدهم والبغي عليهم ، عسى أن تبدر من عليّ كلمة بحقهم
282
فيرفعها شعاراً كما رفع قميص عثمان شعاراً ، وأن يصمه بحسد عثمان والإجلاب عليه
والاتهام بقتله .
ويتضح من هذا الكتاب أن معاوية لا يريد إصلاحاً ولا صلاحاً بل اشتط به كل
الشطط لإيراء الحرب ، واتكأ في ذلك على أن علياً عليه السلام آوى قتلة عثمان ،
ولم يكن الأمر كذلك ، إذ كان علي عليه السلام يخذل الناس عن عثمان ، وينهاهم
ويزجرهم ، ونصح لعثمان ـ كما سبق ـ نصحاً أرضى به ربّه ونفسه حذر الفتنة .
وحقٌّ لعلي أن يقول لهذا ولأمثاله :
« أنزلني الدهر حتى قيل عليٌ ومعاوية » . فيا له من حرج في النفس ، ويا له
من مقياس عند الناس ، ويا له من هوان يتأثم منه التقي ، ويتحرج ذو الدين .
ومهما يكن من شيء فقد أنهى أبو مسلم الكتاب إلى أمير المؤمنين ، وجمع علي
عليه السلام الناس في المسجد ، وقرىء الكتاب ، فتنادى الناس من جوانب المسجد «
كلنا قتلة عثمان ، وكلنا كان منكراً لعمله » . واتضح لأبي مسلم أن علياً لا
يستطيع أن يسلم هذا الجمع من الناس ، فهم يحكمونه الآن وهو لا يحكم ، كما اتضح
له أن قاتليه رأوا في قتله صلاح أمر الدين ، فجعل أبو مسلم يردد ، مع وضوح
الأمر لديه إعذاراً : الآن طاب الضراب .
وبهذا فقد بلغ معاوية قصده ، فهدفه أن يجعل المترددين موقنين بمشروعية
طلبه للثأر المزعوم ، والغريب ـ كما هو متوقع ـ أن الحكم حينما صفا لمعاوية لم
يذكر عثمان ، ولا دم عثمان ، ولا ثأر عثمان ، ولا أبناء عثمان ، وكان كل ذلك
نسياً منسياً ، وإنما شهر كل ذلك سلاحاً في
283
وجه أمير المؤمنين طلباً للسلطان ليس غير .
وقد سفّه عليٌّ عليه السلام أحلام معاوية في هذا الكتاب ، وغيره من الكتب
، فردّه رداً عنيفاً ، جاء في جزء منه :
« وزعمتَ أني للخلفاء حسدتُ ، وعلى كلهم بغيتُ ، فأن كان ذلك كذلك فليست
الجناية عليك ليكون العذر لك ، وتلك شكاة ظاهر عنك عارها . وقلت إني أقاد كما
يقاد الفحل المخشوش حتى أبايع ، فلعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحتَ ، وأن تفضح
فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه ،
ولا مرتاباً في يقينه ، وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ، وأما ما كان من أمري وأمر
عثمان ، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه ، فأينّا كان أعدى له ، وأهدى إلى مقالته
، أمن بذل له نصرته فاستقعده وأستكفّه ، أمن استنصره فتراخى عنه ، وبث المنون
إليه حتى أتى قدره عليه ، وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثاً ، فإن
كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له فربَّ ملوم لا ذنب له ، وقد يستفيد الظنة
المتنصحُ ، وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله » .
وفي رسالة أخرى ردّه الإمام بقوله :
« وأما ما ذكرت من أنه ليس لي ولأصحابي إلا السيف ، فلقد أضحك بعد استعبار
، متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسيوف مخوفين ، فالبث
قليلاً يلحق الهيجا جمل ، وسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد ، وأنا مرقل
نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، شديد زمامهم ، ساطع
قتامهم ، متسربلين سربال الموت ، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم ، وقد صحبتهم ذرية
بدرية ، وسيوف هاشمية قد عرفت مواقع نصالها بأخيك
284
وخالك وجدك وأهلك وما هي من الظالمين ببعيد » .
وهكذا توالت الرسائل بين الإمام ومعاوية ، ومعاوية يكيد ويريد الحرب طلباً
للملك ، وعليٌ عليه السلام يريد الإصلاح واستقرار الإسلام ، وأخيراً كان لا بد
مما ليس منه بد ، فقد قدّم علي طلائعه إلى صفين ، وأمرهم أن لا يبدأوهم بقتال
حتى يأتيهم ، وسار علي عليه السلام ببقية جيشه حتى وصل إلى صفين . وسار معاوية
بجيوش الشام حتى انتهى إلى صفين أيضاً ، وكان وصول معاوية اسبق فاستولى على
الماء و اهتلك شريعه الفرات يريد أن يحلئ علياً و اصحابه عن الماء وجرت خطوب
كثيرة ، واشتد القتال على المشرعة فامتلكها علي عليه السلام ، وأراد أصحابه منع
أهل الشام الماء ، فأبى الإمام ذلك لأن دينه يمنعه ، فالماء من المباحات
المشتركة بين الناس ، عسى أن لا يتعجل حرباً ، ولا يسفك دماً ، يأتلف المخالف ،
ويعفو عن المسيء ، ويلتمس العذر للآخرين ، ولكن للحرب بوادر ، ولها مظاهر ، ما
نفع معها الجدل الهادىء ولا العنيف ، ولا أطفأ نائرتها التغاضي والصفح الجميل ،
وإنما قامت على ساق رغم الظروف السياسية المتينة التي سيّرها أمير المؤمنين
بحكمته ودرايته وتجربته لإخماد اللهيب ، ورغم الجهود التي أوجدها لإحلال الأمن
والسلام .
ذهبت كل المؤشرات الخيرة التي بذلها الإمام أدراج الرياح ، وحل محلها
العنت والتزمت والعدوان ، فاستمسك الإمام بالأمر ما استمسك ، فلما فلت الزمام
قامت الحرب .
(8)
معركة صفّين ... وإنحياز الخوارج
امتلك عليٌّ عليه السلام مشرعة الفرات في صفين فأباح الماء لأهل الشام كما
رأيت ، وقد أصبح جيشه وجهاً لوجه مع جيش معاوية ؛ وكان ذو الحجة من عام ستة
وثلاثين للهجرة ، ومحرم من عام سبعة وثلاثين مجالاً للمحاورة وسجالاً بالسفراء
، عسى أن يجديا نفعاً كما أراد عليٌّ عليه السلام ، فلم يعكر صفواً ، ولم يتصنع
غضباً ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويذكر أهل الشام بمنزلته وسابقته ،
وكان معاوية يشحنهم بدعوى الطلب بثأر عثمان ، وكثرت الرسل بين الطرفين ، وعلا
الإختصام والإحتجاج ، ولم يبلغ أحد من أحد شيئاً ، وكان لا بد بعد فشل الخصام
باللسان أن يتطور إلى الخصام بالسيف ، فكانت الكتيبة من جيش الإمام تخرج إلى
الكتيبة من جيش معاوية ، وكان الفريق من أهل الشام يقاتل الفريق من أهل العراق
، وكانت الحرب سجالاً نهاراً أو بعض النهار ويحجز بينهما الليل ، وكان لا بد
لهذه الحالة أن تتصاعد ، ولهذا الصراع أن يستحكم ، ولهذه المجابهة أن تتحفز ،
وما مضى شطر من صفر إلا استقتل هؤلاء وهؤلاء ، ودنا أولئك من أولاء ، فكانت
الحرب الطاحنة الشاملة التي يشيب لهولها الوليد .
وكان الجيشان على نحو من الكثرة والعدد ، فبين مبالغ فيه من المؤرخين ،
وبين معتدل ، فجيش علي مائة ألف مقاتل فيما يزعمون ،
286
وجيش معاوية سبعون ألف مقاتل فيما يزعمون .
جيش علي عليه السلام يشتمل على عدد كبير من المهاجرين والأنصار في طليعتهم
عمار بن ياسر الذي قال عنه النبي وله : « يا عمَّار تقتلك الفئة الباغية » .
وفيهم خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي سماه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
بذي الشهادتين ، وفيهم ابن التيهان الصحابي الجليل ، وفيهم هاشم بن عتبة
المرقال ، وقيس بن سعد بن عبادة ، والأحنف بن قيس ، ومالك الأشتر ، وجمهرة من
أعلام بدر وأعيان أحد ، وأمثالهم كثير .
وجيش معاوية يشتمل على جملة من رؤساء القبائل الشامية كذي الكلاع الحميري
، وعلى أبناء الذوات كعبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن خالد بن
الوليد ، وعلى طائفة من الموتورين والإنتهازيين كمروان بن الحكم وعمرو بن العاص
وأضرابهم .
وتمثل هذه الأسماء قيادة الجيشين ، وأركان الحرب فيهما ، والتقى الجيشان
فكانت ملحمة كبرى ، استمرت أياماً طويلة وليالي ، ندرت فيها الرؤوس ، وطاحت
الأيدي ، وتهاوت الأجساد ، وزهقت الأرواح ، حتى إذا كانت ليلة الهرير كانت ليلة
فاصلة في القتال ، هبت فيها رياح النصر مع أمير المؤمنين ، وعليّ عليه السلام
يلتجىء إلى مسيرته من ربيعة ، فتستقتل دونه استقتالاً مريراً ، وتتحالف أفخاذها
على الموت ، وقائلهم يقول : « لا عذر لكم عند العرب إن أصيب أمير المؤمنين وهو
فيكم » وتُبلي همدان بلاءً حسناً ، أهونه أن تقاتل في صبر وحمية وإباء ، فيرتجّ
الميدان وتزلزل البيد .
وميمنة أمير المؤمنين يقودها مالك الأشتر من نصر إلى نصر ، وهاشم بن عتبة
بن أبي وقاص يرقل بالراية إرقالاً ، ويستنزل الظفر
287
استنزالاً بحد السيوف ، ويقول :
أعورُ يبغي أهلَهُ محلاّ وعالجَ الحياةَ حَتى ملاّ |
قد أكثرَ القولَ وما أقـلاّ لا بدَّ أن يَفـلَّ أو يُفَّـلا |
أشلُهُم بذي الكعوبِ شلاّ
وعمار بن ياسر يصرخ في المقاتلين ، ويهيب بالمرقال والأشتر قائلاً : «
الجنة تحت ظلال الأسنة » « غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه » ... وهو يرتجز
مزمجراً :
نَحنُ ضَرَبناكُم على تَنزيلِهِ ضَرباً يزيلُ الهامَ عن مَقيلِهِ |
واليومَ نضربُكُم على تَأويـلِهِ ويُذهلُ الخَليـلَ عن خَليـلِهِ |
أو يَرجعُ الحَقّ إلى سَبيلِهِ
ويقاتل عمارٌ عمرو بن العاص ، وينظر إلى رايته الضالة فيقول :
والله لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ثلاث مرات ، وهذه الرابعة وما هي بأبرّهن .
وهو القائل بين الصفين : والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا
أنا على الحق ، وأنهم على الباطل .
ويستقتل ويقتل هو وصاحب اللواء هاشم المرقال ، ويستسقي عند مصرعه ، فيسقى
لبناً فيكبر ويقول :
« أنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن آخر زادي من الدنيا ضياح
من لبن » .
وحينما يقتل عمار ، ينادي خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين معرّضاً بأصحاب
معاوية : الآن استبانت الضلالة ، لأنه وأمثاله من الصحابة يروون الحديث
المتواتر عن النبي :
288
« يا عمار تقتلك الفئة الباغية » .
وقد شاع هذا الحديث في صفوف الشاميين ، ورواه لهم : عمرو بن العاص وسواه
منهم ؛ فلما قتل عمار ، اشتد الخطب على معاوية والتجأ إلى المرواغة وتزييف
الحقائق ، فقال : ما نحن قتلنا عماراً ، وإنما قتله الذي أخرجوه ، فردّهم
الإمام علي رداً بديهياً وقال على سبيل الإنكار ، فرسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قتل عبيدة لأنه أخرجه إلى بدر ، وقتل حمزة لأنه أخرجه إلى أحد ، وقتل
جعفراً لأنه أخرجه إلى مؤتة .
وقتل في اشتداد القتال وعند مصرع عمار وذو الكلاع الحميري من أهل الشام ،
وكان يستقصي أخبار عمار فيوهمه معاوية بأنه سيلتحق بنا ويقاتل علياً ، وكان ذو
الكلاع ينظر عاقبه عمار ، ولكنهما قتلا بوقت واحد ، فقال معاوية : لست أعلم
بأيهما أشد فرحاً بقتل عمار أو بقتل ذي الكلاع ، لأنه حاذر أنه يلتحق بعلي مع
قبيلته لو أدرك مصرع عمار .
وقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، قتله بغيه وتطاوله ، واستوهبت زوجته
جثته فلم يمتنع الإمام من ذلك .
ونجا عمرو بن العاص ، حينما برز إليه الإمام علي عليه السلام فحينما أدركه
كشف سوأته ، فصرف الإمام بوجهه عنه ، وغض طرفاً ، وعيّر عمرو بذلك كثيراً حتى
من معاوية فما أكترث .
وتداعت صفوف أهل الشام في الإنهزام والفرار والقتل ن وبدا عليهم الخذلان
التام ، وكاد معاوية أن يفر لولا أن تذكر قول ابن الاطنابة ، وقد أعدت له فرس
للفرار :
أبت لي همتي وأبى بلائـي وإجشامي على المِكروهِ نَفسي |
وَأخذُ الحمدِ بالثمنِ الربيـحِ وضَربي هامةِ البطلِ المُشيحِ |
289
|
|
ويزعم المؤرخون أن جيش معاوية قد تضعضع بش كل لا يمكن إلتأمه ، وأن أركان
حربه يلوذون بالفرار ، وأن الأشتر يزحف بالكتائب حتى يصل إلى فسطاط معاوية ،
ومن خلفه الجيش العراقي يتجحفل بهجومه الكاسح على مقرّ قيادة الجيش الشامي ،
وهنا يستنجد معاوية بعمرو بن العاص ، فيدبران المكيدة برفع المصاحف ، وإذا
بمنادي أهل الشام يقول :
« هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته ، اللهَ اللهَ في
العرب ، الله الله في الإسلام ، الله الله في الثغور . من لثغور الشام إذا هلك
أهل الشام ؟ ومن لثغور العراق إذا تفانى أهل العراق » .
وكانت ليلة الهرير بما صاحبها من إنتصار ساحق لأهل العراق ، وإندحار شامل
لجيش الشام مقدمة التفكير في هذه المكيدة .
ولم تكن هذه الخديعة الكبرى وليدة ساعتها ، ولا بنت ليلتها ، وإنما سبقها
عمل مستمر وكيد قائم على قدم وساق من قبل معاوية وقيادته ، فلقد ملّ معاوية
الحرب الخاسرة التي يخوضها ، وقد أُخذَ عليه بالمخنق بها ، ولا أمل له بالنصر
أو الخلاص فما هي إلا السقوط في المعركة أو الهزيمة الكبرى ، لا سيما بعد تناثر
آلاف القتلى التي مني بها جيشه ، فقد ذكر المؤرخون أن قتلى أهل الشام قد بلغوا
خمسة وأربعين ألفاً ، كما أن قتلى أهل العراق قد بلغوا خمسة وعشرين ألفاً ، وهب
أن هذا العدد من المعسكرين مبالغ فيه ، فلو تنزلنا معه إلى نصفه لكان عدداً
هائلاً ، وخسارة فادحة .
كان بين أهل العراق عدد لا يستهان به من رؤساء القبائل ممن استهواهم
معاوية بالمال والوعود وكان في طليعتهم الأشعث بن قيس
290
الكندي الذي قال عنه ابن أبي الحديد : « كل وهن لحق بخلافة أمير المؤمنين
فمصدره الأشعث بن قيس » .
وهذا يعني أن الأشعث ومن على شاكلته من أهل الدنيا لم يخلصوا النية للإمام
، ولم ينصحوا له سراً ولا علانية ، فهم أهل هوى لا أهل ورع ، والهوى يقود صاحبه
إلى الضلال لا الهدى ، فكان هؤلاء يريدون الموادعة ، ولا يريدون نصراً لعلي
عليه السلام ، يسير بعده بسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان جيش الإمام مزيجاً من أقوام أخلص بعضهم إخلاصاً فذّاً ، وغدر بعضهم
غدراً مبيّناً ، ووقف آخرون موقف المحايد المستفيد . فمن تابعه من المهاجرين
والأنصار ومن إتبعوهم بإحسان يقاتلون ببصيرة نافذة ، ودوافع دينية محضة لأنهم
يرون الحق مع علي وعلياً مع الحق ، وكذلك كان خيار أهل الكوفة ، وجملة من أهل
البصرة . وأما من لحق به من أهل الجمل فكان فيهم المنهزم والدخيل والمعتزل .
ولم يكن إخلاصهم للإمام خالصاً ؛ وهناك طائفة كبيرة من الإنتهازيين والوصوليين
يظهرون الولاء لأمير المؤمنين ويضمرون الكيد له ، يغازلون معاوية سراً ،
ويشايعون علياً علناً ، وليس من الصعب على معاوية استدراج هؤلاء لأغراضه ،
وإستقطابهم في مخططاته الكبرى ، فما إن رفعت المصاحف حتى انتقض جيش الإمام على
نفسه ، وطلبوا إلى الإمام إيقاف الحرب ، وأحاط به أكثر من عشرين ألفاً شاهري
السيوف ، وقد يقال بأن بعضهم طلب من الإمام القبول بحكم القرآن وإلا لحق بعثمان
، والإمام كان يقاتل من أجل حكم القرآن ، ونظام القرآن ، وأوضح لهم أن معاوية
وأشياعه ليسوا بأهل دين وإنما هم طلاب ملك ودنيا ، وأنها خديعة الطفل عن اللبن
، فكان أشد الناس عليه الأشعث بن قيس
291
وأضرابه في جماعة من الغوغائيين ، تنادوا بالتحكيم ، واكثروا اللغط
في الجيش ، وفتّوا في عضد الإمام حتى ألجأوه إلى التحكيم كرهاً .
وقد تكون لهذا الأمر أبعاده التّآمرية المنظّمة من قبل معاوية
والمندسين في جيش الإمام من أنصاره ، فما أسرع ما استجاب العراقيون للتحكيم
دون رويّة ودراية ، وما أسرع ما نهض الأشعث بالمهمة بدّقة متناهية ، وما
أسرع ما تجمع حول الإمام من لا يستطيع أن يتفاهم معهم ، فأكرهوا الإمام على
كفّ القتال مع غضب قيادته ، ومعارضة أصحاب الجباه السود الذين غضبوا على
التحكيم حتى ثاروا بالأشعث وأرادوا قتله .
وقد كان الإمام عليه السلام برماً بهذا الخليط العجيب من أصحابه ،
وهذا المناخ الجديد في تسيير الأمور جزافاً ، فهو محكوم عليه بهذا النفر ،
يمتلكون عليه أمره ، ولا يملك أمرهم ، وقد أوضح لهم بلين وأناة تارة ، وشدة
وغضب تارة أخرى أن معاوية كره حد السيف ، وأنه على أبواب الهزيمة ، وليس هو
ولا أصحابه بأهل قرآن حتى يحكم بينهم القرآن ، فما استمعوا لهذا ، وركبوا
رؤوسهم عناداً وخلافاً وفرقة ، فأوعز الإمام للاشتر بالكف عن القتال وإيقاف
الحرب ، فاستمهله فواق ناقة ليأتيه برأس معاوية ، ولكن الأشعث ورجاله
المشبوهين قد أحدقوا بالإمام وهددوه بالقتل إن استمرت الحرب ، فوقفت الحرب
.
ونظر عليٌّ عليه السلام إلى المأساة تتجدد عليه ، وإلى السواد يغالبه
على أمره ، ولم يترك الإمام ليدبّر الأمر بحكمته ، ولا أن يسير بالحرب إلى
أهدافها القريبة ، ولا أن يأخذ بكظم الباطل فيصرعه ، مُنِيَ بهؤلاء
الغوغائيين وذوي المآرب الخفيّة والجليّة ، وذهبوا إلى التحكيم دون إحكام
للأمر ، وما تركوا للإمام فرصة من يمثله في هذا التحكيم ،
292
وأشرأبت العصبية القبلية بعنقها المهزوز لتفرض أبا موسى الأشعري ممثلاً عنه
في هذه المحنة ، وأبو موسى هو صاحبه بالأمس الذي خذّل عنه الكوفيين ، وأراد
الإمام ابن عباس أو الأشتر للتمثيل ، ولكن الأشعث أبى ذلك ، فكان الأشعري
ممثل الإمام ، وكان عمرو بن العاص ممثل معاوية ، وكان الإمام مكرهاً بقبول
الهدنة ، ومكرهاً في اختيار ممثله ، وسارت الأمور كما شاء أعداؤه ، فتولى
الأمر من ليس جديراً به ، ولم يستطع الإمام حتى ترشيح الأحنف بن قيس ليكون
تالياً لأبي موسى .
وهكذا اجتمع الفريقان بعد خطوب وخطوب ، فكتبوا صحيفة بوضع الحرب ،
وتشخيص الحكمين ، وتحديد الزمان والمكان ، للبتّ في الأمر ، وتأليب
المسلمين على من خالف بنود هذه الصحيفة ، وكان جوهرها : « أننا ننزل عند
حكم الله ، وبيننا كتاب الله فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي
ما أحيا ، ونميت ما أمات » كان هذا لب الحكومة ، وفحوى الصحيفة ، وفيها : «
فما لم يجداه في كتاب الله ، عملا فيه بالسنة الجامعة غير المفرّقة » .
وكان كل هذا حبراً على ورق ، وبيتاً من ثلج ، فكتاب الله يدعو إلى
قتال الفئة الباغية صراحة حتى تفيء إلى أمر الله ، وسنّة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم تؤخذ من علي عليه السلام فهو وريثها الشرعي ، والسنّة
لا تهادن باطلاً ، ولا تدفع حقاً ، ولا تؤوي باغياً ، وواضح من نصوص
الصحيفة التي كتبت دون مراجعة الإمام أن كتابّها لم يحكموا الأمر ، وإنما
أوقفوا الحرب ، وقد تناست هذه الصحيفة أهم ما قامت عليه الحرب : امتناع
معاوية عن بيعة الإمام أولاً ، ومطالبة معاوية بدم عثمان ثانياً .
293
وقد طوي هذان الموضوعان المهمان طياً عجيباً ، فكانت الصحيفة تنبي عن
مكر وغدر عظيمين ذهب ضحيتهما كيان الإسلام .
وهنا بدرت شعيرة الخوارج « لا حكم إلا الله » واعترضوا على تحكيم
الرجال في دين الله . وكان شعار الإمام كما أرادوا استمرار القتال للفئة
الباغية وجوهره « لا حكم إلا لله » ما في ذلك شك ، ولكنه كان مغلوباً على
أمره ، فرفق بهم ، ورآهم قلة لا تغني مع الكثرة الساحقة ، فنصح لهم وأمرهم
بالهدوء ، وهدأوا حيناً ما ، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة كما سنرى .
وقد ضاق الإمام ذرعاً بأصحابه ، فألقى الحبل على الغارب ، وأبان لهم :
أن إمامهم يطيع الله وهم يعصونه ، وأن إمام أهل الشام يعصي الله وهم
يطيعونه ، وتمثل بقول دريد بن الصمة :
|
|
إستكره عليّ عليه السلام على ترك القتال ، وإستكره أيضاً على قبول
الحكومة ، وإستكره أيضاً ولم يشاور في كتابة الصحيفة ، وأنكر الخوارج
التحكيم ، واعتزلوا الفريقين ، وأنحازوا إلى حروراء ، ولم يدخلوا الكوفة
بعد الحرب ، وكان هناك جدل وتطاول وإحتجاج بين الذين اتبعوا الإمام مسلمين
، وبين هؤلاء الخارجين ؛ وكان عليٌّ عليه السلام يصرح بأنه استكره على ترك
القتال ، وإنما الناس أرادوا العافية وكرهوا القتال ، وأراد الإمام أن يرجع
الخوارج إلى الجماعة ، وأن يجنبهم سوء المنقلب ، وأن يستصلح القسم الأوفر
منهم ، فكانت مناظرات انتصر الإمام في أغلبها ، وأصلح ما استطاع منهم ،
وأبان أن الله قد حكمّ في
294
الصيد الناس ، وحكمّ في الشقاق الناس ، وكانت آية التحكيم في كل منهما
سبيلاً إلى إعذاره عندهم ، وقالوا قد محوتَ أنك أمير المؤمنين ، كأنك شككت
في إمرتك لهم ، فأبان أن رسول الله محا في صحيفة الحديبية وصفه بأنه رسول
الله ، وهو رسول الله حقاً ، فثاب منهم جماعة ، ورجع آخرون ، ودخلوا الكوفة
، وأصرت طائفة كبيرة منهم على العناد ، فأرسل الإمام إليهم ابن عباس
استصلاحاً لشأنهم ، وأمره بأن لا يحاججهم بالقرآن فإنه حمّال ذو وجوه ،
وإنما يحاججهم بالسنة ، فناظرهم ابن عباس بهما مناظرة مقنعة ، فثاب إلى
الرد منهم جماعة تقدر بألفين أو ثلاثة آلاف ، وعادوا مع ابن عباس إلى
الكوفة .
وحينما أنكر الخوارج تحكيم الرجلين ؛ أبان لهم الإمام بأنه أخذ عليهما
العهد أن يحكما بما في كتاب الله ، فإن حكما بذلك فالحكم لله ، وإن خالفا
عما في كتاب الله فلا حكم لهما ولا طاعة .
وقد تأثر القوم بما ساقه الإمام من الحجج الدامغة ، فانصاعت منهم
طائفة كبيرة ، فقال لهم الإمام : « ادخلوا مصركم رحمكم الله » . فدخل القوم
بانتظار أمر الحكمين ، ودفع الإمام بالتي هي أحسن ، ودعا إلى سبيل ربه
بالحكمة والموعظة الحسنة .
وعاد علي عليه السلام إلى الكوفة ، ومعه جمهرة لا يستهان بها من هؤلاء
، قد إعتقد بأنه أصلحهم أو أقنعهم أو أفحمهم ، ولكن قسماً منهم لم يكن كذلك
، فما لبثوا أن حكموا في المسجد يقاطعون خطب الإمام بشعارهم : « لا حكم إلا
لله » فكان يقول : « كلمة حق أُرِيدَ بها باطل » إذ لا بد للناس من حاكم
بأمر الله .
وقد ظهرت معارضة هؤلاء في الكوفة على أشدّها حتى خرج بعضهم منها
منابذاً ومغاضباً ، وترك لهم الإمام الحرية وقال :
295
إن سكتوا تركناهم ، وإن تكلموا حاججناهم ، وإن أحدثوا فساداً قاتلناهم
» .
وكان السكوت حيناً ، والإحتجاج حيناً آخر ، والقتال أخيراً لأنهم
أفسدوا في الأرض .
ومحنة هؤلاء الذين طلبوا الحق فأخطأوه ، أنهم لا تهدأ لهم ثائرة ، ولا
تخبو لهم نائرة ، وهم أصحاب جباه سود من كثرة السجود ، وهذه محنة أخرى ،
يخدع فيها الجاهل ، ويتأثم عندها العارف ، ولهم في الليل دويٌ كدوي النحل
في قراءة القرآن ، وتلك محنة ثالثة توهم بأنهم أهل عبادة ، وهم غلاظ شداد
في هذا كله ، ولقد أخطأوا السبيل إلى الهدى فساقتهم الهلكة سوقاً ، وأسلمهم
القدر إلى المصير المحتوم : القتل حيناً ، والتشريد حيناً آخر ، وأسلموا
أنفسهم هم لقطع السابلة حيناً ، وللإفساد في الأرض حيناً آخر ، ولسفك
الدماء في غير حلّها ثالثة . والإمام في هذا الوسط المحموم يعمل نهاره
جاهداً ، ويسهر ليله مفكراً ، يأسى لهؤلاء ، ويكافح أولئك ، وينصح ما
استطاع نصحاً ، وهو مع ذلك يمنحهم الحرية بأوسع مفاهيمها ، ولا يحرم أحداً
عطاءً ، ولا يفرض على أحد إقامة ، ولا يكره أحداً على قتال ، وهم بين ذلك
يتربصون به .