استقبل علي عليه السلام بيعة عثمان (رض) واجماً ، وقبل نتائجها ساخطاً
، فقد حققت قريش أغراضها في استبعاد أهل البيت ، وتبوأت مسلمة الفتح مكانة
جديدة لم تحلم بها ؛ ولم تكن بيعة عثمان رضاً لعامة المسلمين ، فمنهم من
رضي بها على مضض ، ومنهم من سخط عليها علانية ، ومنهم من تقبلها بقبول حسن
، ومنهم من أرغم على قبولها فتحرق غيظاً ، أما بنو أمية فتلقوها بالغبطة
والسرور ، فالبيت الأموي وحده هو الذي يقف في وجه البيت الهاشمي ، وقف ضده
في الجاهلية ، فليقف ضده في الإسلام ، والتأريخ يعيد نفسه .
وأما أهل المدينة من الأنصار ومن شايعهم فاستقبلوها بالكراهية والحذر
والقلق الشديد .
وأما قريش فقد اجتمعت ـ وليس لأول مرة ـ على نزع سلطان رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم من آل رسول الله فهي راضية مستبشرة مطمئنة ، بقي رجال
العقيدة الصلبة ، وأصحاب الكلمة النافذة ، فقد أنكروا حين لا يجدي الإنكار
، وقد عارضوا حيث لا تقدم المعارضة شيئاً لا تؤخر ، وقد قالوا ما شاؤوا أن
يقولوا فما نفع القول ، وكان أشدهم المقداد بن عمرو وعمار بن ياسر ، قال
المقداد ، وعثمان يبايع في المسجد النبوي :
« ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم » .
180
فنهره عبد الرحمن بن عوف قائلاً : « ما أنت وذاك يا مقداد » . فاضطرب
المقداد تأثراً وقال :
« أما وأيم الله يا عبد الرحمن ، لو أجد على قريش أنصاراً لقاتلتهم
كقتالي إياهم مع رسول الله يوم بدر » .
وصرخ عمار بن ياسر هادراً : « يا معشر قريش : أما إذا صرفتم هذا الأمر
عن أهل بيت نبيكم ، ها هنا مرة ، وها هنا مرة ، فما أنا بآمن عليكم أن
ينزعه الله فيضعه في غيركم ، كما نزعتموه من أهله ، ووضعتموه في غير أهله »
.
وذهب احتجاجهما أدراج الرياح ، وحاول سواهما النهوض للكلام فقطع عثمان
ذلك وأدلى بأول بيان رسمي له ، والخواطر الكئيبة تجول في نفسه ، وبوادر
الفرقة تظهر في الأفق ، وكأنه يريد أن يتدارك ما حدث أو سيحدث بالموعظة
وملحظ التزهيد :
« إنكم في دار قلعة ، وفي بقية أعمار ، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون
عليه ، فلقد أتيتم ، صبحتم أو مسيتم » . وحمل نفسه بخطواته المثقلة إلى
الدار حيث اجتمع بنو أمية في غمرة من الفرح والزهو والاستعلاء ؛ وفي
طليعتهم أبو سفيان بن حرب شيخ الأمويين ، والتفت إليهم قائلاً : أفي المجلس
من يحتشم ؟ قالوا : لا ، فقال كلمته الشهيرة : « يا بني أمية : تلقفوها
تلقف الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار ، وما زلت
أرجوها لكم ، ولتصيرن إلى صبيانكم » .
فتطاول من في المجلس لهذه الدعوة الخطيرة ، واشرأبت أعناقهم لهذا
النداء الصارخ ، وتطامنوا لهذا التصريح الإلحادي ، وكادت النشوة أن تذهب كل
مذهب ، لولا أن يتدارك الأمر عثمان فينهر أبا سفيان ؛
181
ولكن كلمته هذه انتشرت في الآفاق انتشار النار في الحطب الجزل ، وألفت لها سامعين
ومنفذين ، فيستقبلها المسلمون الغيارى بالأسف حيناً ، وبالتعليق السري حيناً آخر ،
وبالإنكار العلني أحياناً ، فقد أدرك الناس فداحة ما أقدموا عليه ، وأيقنوا بإفلات
الأمر ، وعلموا بما أنطوت عليه نيات القوم ، فبين متحمس صابر ، وبين متأفف ناقم ،
وبين متخاذل صامت ، والكل بين بين ، وكان هذا بعد فوات الأوان ، فقد عض عثمان
بناجذيه على السلطان ، وفوض أمور الدولة إلى بني أمية بعامة ، وإلى مروان بن الحكم
بخاصة .
وبدأ انتهاك حرمة الإسلام في مسيرة عثمان ، وظهر ما كان خافياً من تصرف ولاة
الأمور ، فالمانصب تقتسم بين المؤيدين والمقربين والأغمار ، والأموال تحتجن من حلها
ومشتبهها ، والأحكام يتلاعب فيها دونما الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ،
والإرتجال في اتخاذ القرار لا يمّت إلى سيرة الشيخين من قريب أو بعيد ، والمسلمون
بادئ الأمر بين هنات وهنات يقدمون رجلاً ويؤخرون آخرى والخليفه الجديد ينعم بالذهب
والفضة و يجور بالاقطاع والعقار ، حتى نسي المسلمون شظف العيش وعسر الحياة ، وحتى
انغمر شباب المسلمين بالبذخ والترف والإسراف ، فها هي الفتوح تتحفهم بالغنائم
والجواري ، وها هي المدينة تتراقص باللهو والحياة الفارهة ، وها هم أبناء المهاجرين
يتخذون الدور والقصور ، وها هم الأمويون في بلهنية من العيش والدعة ، حتى استفحل
الأمر ، وضاق الإناء بما فيه ، فبدأت تباشير المحنة وطلائع الفتنة تقترب من الخليفة
الذي لا يضع شيئاً ولا يرفع آخر إلا باستشارة مروان ، وقد يقضي مروان بما شاء دون
علم منه ، وعليٌّ عليه السلام يشاهد هذا كلّه ، ولا حول له ولا طول .
182
ولم يكن من علي عليه السلام خلاف لعثمان (رض) فقد اعتاد مرارة الصبر ، وشجا
التحمل والمكاره ، ولم يشأ أن يأخذ حقه بالعنف ، ولا استساغ أن يعلن الثورة ، وإنما
كان كأحد الناس بايع عثمان فيمن بايعه ، وصبر على أعماله فيمن صبروا ، وإعتزل حياة
الحكم والسلطان ، مؤثراً مصلحة الإسلام العليا ، وهي هدفه الأول والأخير ، يستشار
لماماً فيشير سداداً ، ويتجاهل فيحلم كاظماً ، وتنتهك الحرمات فيحتج غضباً ، وتستلب
حقوق المسلمين فيجاهر بالغضب لذلك ، ويتشاغل بنواضحه مرة ، وبمزارعه الموقوفة مرة
أخرى ، إلا أنه حريص كل الحرص على أداء رسالته فقهاً وإفتاءً ما وسعه إلى ذلك
السبيل ، كما حرص على النصح الكريم لعثمان في حدود لا تسمح له بأكثر مما أعطى ،
ولكن السيل الجارف أتى على كل القيم التي من شأنها أن ترتفع بالإنسان إلى مستوى
المسؤولية ؛ وكان مصدر هذا السيل المتدافع حاشية السلطان ، وأسرة السلطان ، وضعف
السلطان ، فاحتجزوا لأنفسهم كل شيء دون المسلمين ، إستصفوا الأموال وتقاسموا الفيء
، واستبدوا بمراكز الدولة المهمة ، ونبذوا كتاب الله ظهرياً ، فتذكر الناس قول عمر
عند الموت لعثمان : « كأني بك ؛ وقد قلدتك قريش هذا الأمر ، فحملت بني أمية ، وبني
أبي مُعيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفيء فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب ،
فذبحوك على فراشك » .
وكأن عمر كان ينظر في مرآة الغيب لأعمال الرجل ، واستيلاء بني عمومته الأمويين
على كل شيء ، وما ينتظر هذا الاستيلاء من مصير محتوم للخليفة المحكوم ، وكان الأمر
كما تنبأ به عمر (رض) .
لقد نقم المسلمون على عثمان جملة من القرارات الجائرة في المال والتولية
والأثرة والإبعاد والتقريب والنفي واللامبالاة في كل شيء
183
مما ذكره جميع المؤرخين دون استثناء ، ومما يطول معه الكلام ، ولا يستوعبه البيان
الموجز .
لذا رأيت أن أشير إليه في بعض المظاهر العامة دون الدخول في التفصيلات المضنية
التي ارتسمت علائمها في التأريخ طيلة أيام عثمان في الحكم ، فلم تعد سراً حتى يذاع
، ولا لغزاً فيحل ، فهي من المتسالم عليه جملة وتفصيلاً ، والإشارة الهادفة إليه قد
تغني عن الإسهاب بما هو متواتر مشهور .
في طليعة ما نقم المسلمون على عثمان ومنه ، هذه الإجراءات التي أصنفها على
سبيل التنظير لا الحصر :
أولا : الأموال والفيء ؛ لم يسر عثمان على سنة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في بقسيم المال بالسوية ، ولا صرف الفيء في مستحقيه من
الرعية ، ولا راعى في ذلك سيرة أبي بكر في التسوية ، ولا سيرة عمر في التفاضل ،
وإنما خصّ بذلك أسرته ومقربيه دون مسوغ شرعي :
1 ـ إفتتح المسلمون أرمينية في عصره ، فأخذ خمس الغنائم كله ، وكان عظيماً ،
ووهبه إلى مروان بن الحكم ، فقال عبد الرحمن بن جنيد الجمحي بيته المشهور :
|
|
2 ـ افتتح المسلمون إفريقيا في عهده ، فأعطى عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخاه
من الرضاعة جميع ما أفاء الله به على المسلمين من الغنائم لتلك البلاد الواسعة .
وعبد الله هذا أسلم ظاهراً ، وكان يحرّف الوحي القرآني ، وارتد كافراً وعاد
إلى مكة ، وأهدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم دمه يوم الفتح ، وتشفع فيه
184
عثمان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسكت النبي بغية أن يقتله أحد المسلمين
فهو مهدور الدم ، وتواكل المسلمون بذلك ، فأخذه عثمان وانصرف على كراهية من النبي .
3 ـ قال ابن أبي الحديد : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصدق بموضع
سوق في المدينة يعرف بنهروان على المسلمين ، فأقطعه عثمان إلى الحرث بن الحكم شقيق
مروان ، وأقطع عثمان مروان فدكاً ، وكانت لفاطمة الزهراء عليها السلام .
4 ـ أعطى عثمان أبا سفيان بن حرب مائة ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه
لمروان بمائة ألف ، فاحتج زيد بن أرقم صاحب بيت المال ، وجاء بالمفاتيح ووضعها بين
يدي عثمان ، وقال : والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيراً عليه ؛ فقال عثمان
: ألق المفاتيح يا ابن أرقم فإنا سنجد غيرك ، فألقى زيد بن أرقم مفاتيح بيت المال .
5 ـ أتاه أبو موسى الأشعري بخراج العراق والسواد وكان مالاً عظيماً ، فوزعه
عثمان على بني أمية كله .
6 ـ حمى عثمان المراعي حول المدينة المنورة كلها ، ومنع عنها مواشي المسلمين ،
وأباحها لمواشي بني أمية خاصة .
7 ـ طلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد شيئاً من المال ، فأعطاه أربعمائة ألف
درهم من بيت مال المسلمين .
8 ـ أنكح عثمان الحرث بن مروان ابنته عائشة ، وأعطاه مائة ألف درهم من بيت
المال .
هذا ما كان معروفاً علناً لدى المسلمين كنماذج من البذخ والسرف بالمال والحقوق
، أما صلاته السرية وعطاياه من وراء الستار فكانت
185
تكلف بيت المال مئات الآلاف سنوياً ، وما كان يوصله مروان إلى الحاشية غير معدود
بالحساب فبيت المال بيد مروان .
ثانياً : في المجال السياسي والإداري ؛ اشتد غضب
المهاجرين والأنصار على مخالفة عثمان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قضى
من شؤون إدارية ، وأخرى سياسية كان أبرزها :
1 ـ ما تم من إرجاعه للحكم بن أبي العاص ، وكان يؤذي رسول الله ويشتمه ويحكي
مشيته مستهزئاً ، ويخلج بأنفه وفمه ويقلد بحركاته النبي ، فالتفت النبي إليه يوماً
وأبصر ما يصنع فقال : « كن هكذا » . فبقي إلى أن مات يختلج في مشيته وحركاته .
وأطلع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بعض حجر نسائه اختلاساً ،
فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضباً ، وقال : « من عذيري من هذه
الوزغة اللعين ، لو أدركته لفقأت عينه ، والله لا يساكنني وولده في بلد واحد » .
وأخرجهم جميعاً إلى الطائف ، فرده عثمان إلى المدينة جهاراً هو وولده وأسرته ،
فأنكر ذلك المسلمون ، وعظم عليهم كثيراً ، ولم يكتف عثمان بهذا القرار بل ولاّه
صدقات قضاعة فبلغت ثلاثين ألفاً فوهبها له .
وقد رفض أبو بكر وعمر إرجاع الحكم هذا إلى المدينة بشفاعة عثمان ، وقال كل
منهما : ما كنت لآوي طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
2 ـ وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن سعد بن أبي سرح بأنه : عدو
الله وعدو رسوله ، وأمر بقتله ولو وجد متعلقاً بأستار الكعبة ، فلما تولى عثمان
ولاه على مصر سنة خمس وعشرين وبقي فيها إلى سنة أربع وثلاثين حينما ثار عليه محمد
بن أبي حذيفة بن عتبة فتولى عنه إلى عسقلان ، وأقام فيها حتى قتل عثمان .
186
وكان ابن أبي سرح في مصر ، يعيش حياة الترف والبذخ ، ويحيا ليالي المجون
والخلاعة ، ويقتنص ما لذ وما طاب من غنائم المسلمين ، ويحتجز ذلك لنفسه ولحاشيته
طيلة عشر سنوات من الحكم الرخي اللذيذ .
3 ـ ولّى عثمان الوليد بن عقبة بن أبي معيط حاضرة الكوفة وكان يعرف هو وإخوته
بصبية النار ، وسبب ذلك أن النبي قد أمر بقتله وكان أسيراً في غزوة بدر ، فقال :
أأقتل دون قريش ؟ فمن للصبية يا محمد ؟ فقال النبي : النار .
والوليد أخ لعثمان من أمه ، وقد نشأ في أحضانه ، وأسلم يوم الفتح ظاهراً ،
وتولى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقات بني المصطلق ، وما لبث أن عاد إلى
المدينة ، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإرتداد هؤلاء عن الإسلام زوراً
وبهتاناً ، واستطلع النبي الحال فوجدهم بخلاف ذلك ، ونزل فيه قوله تعالى : (
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَإِ فَتَبَيّنُوا أَن
تُصِيبُوا قَومَا بِجَهَـلَةٍ فَتُصبِحُوا عَلَى مَا فَعَلتُم نَـدِمِينَ
)
(1) .
فسمي يومئذ بالفاسق ، فقربه عثمان ، وأعلا منزلته ، وكان يجلس مع عثمان على
سريره ، وولاه الكوفة وعزل عنها سعد بن أبي وقاص ، فلما دخل على سعد ومعه كتاب
الولاية ، قال سعد : « والله لا أدري أكست بعدنا ، أم حمقنا بعدك » فقال الوليد : «
لا تجزعن أبا إسحاق ، إنه الملك يتغداه قوم ، ويتعشاه آخرون » وكان حرياً إلى أن
يكشف ما هو الواقع في الأمر فهو الملك لا أكثر ولا أقل فما كاس يوماً ولا حمق سعد .
(1) سورة الحجرات ، الآية : 6 .
187
وتسلم الوليد ولاية الكوفة ، وكان خليعاً ماجناً يتجاهر بالخمرة ، ولا يفيق من
السكر ، وهو إمام القوم وصلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات ثم تهوع بالمحراب ،
وأضاف إلى ذلك الأفاعيل وأتبعها بالأباطيل ، فضج أهل الكوفة عليه وعلى عثمان ،
وتشدد عليّ عليه السلام فأمر بإقامة حد السكر عليه ، وعزله عثمان بعد اللتيا والتي
، وأخلفه بسعيد بن العاص ، فكان أدهى وأمر ، وأنكى وأشر ، فجرت بينه وبين أهل
الكوفة خطوب انتهت بالثورة المسلحة على عثمان .
4 ـ أقر عثمان معاوية على الشام كلها بما فيها حمص وفلسطين ، فاستهتر بالحكم ،
وإستبد بالولاية ، وسار في الناس سيرة ملوك الروم حتى عدّ من الجبارين في الأرض ،
وعمد إلى بيت المال فانتهبه انتهاباً ، وأسرف على نفسه إسرافاً كثيراً ، وتحين إلى
شراء الضمائر بالمال ، وإمتلاك الذمم بالإمارات الصغيرة وخنق الأنفاس بالإرهاب وهو
يتصنع الحلم ، وبذر أموال المسلمين وهو يتظاهر بالكرم ، وبنى الخضراء وأنفق على
بنائها عائدات الفيء والخراج بملايين الدراهم أو الدنانير الذهبية ، وكان يكثر من
القول : « إن الأرض لله ، ونحن خلفاء الله في أرضه ، فما أخذناه من الأموال فهو لنا
، وما تركناه فهو جائز لنا » .
وأنكر المسلمون هذا القول ، وأنكروا منه تلك الأعمال التي أرتكبها مخالفاً بها
الشريعة ، وأنكروا منه التلاعب بحقوقهم والإعتداء على ممتلكاتهم ، والإستهانة
بأقدارهم ، وشكوه إلى عثمان فما غير ولا بدل ، ووسطوا له علياً ، فما استمع ولا
أقال .
5 ـ أطلق عثمان لبني أمية ومسلمة الفتح العنان في تخير آفاق الدنيا ، وتولي
شؤون الحكم ، فالوليد بن عقبة على الكوفة فسعيد بن العاص ، وعبد الله بن عامر بن
كريز ابن خالته على البصرة ، وعبد الله بن
188
سعد على مصر ، ويعلى بن أمية على اليمن ، وأضرابهم في الولايات الأخرى ممن لم
يكونوا في عداد المسلمين قَدماً وقُدماً ، فهم بين الناس من أغمار الناس ، وظل
أبناء المهاجرين والأنصار تبعاً لهم وعالة على أنفسهم ، لا يتمتعون بطائل ، ولا
ينعمون بنائل ، فهم من سواد الناس بلا عمل مناسب ، ولا مركز محسود ، واستبد أبناء
الطلقاء بكل شيء .
ثالثاً : ضعف السلطان ؛ كان أبو بكر (رض) ليناً في غير
ضعف ، وكان عمر (رض) شديدا في عنف وغير عنف ، وكان أبو بكر يمزج لينه بصرامة وحزم ،
وكان عمر يمزج شدته بصيحته ودرته ؛ وقد اعتاد الناس هذا اللون من الحكم ، فالحاكم
هو الآمر الناهي ؛ وحينما ولي عثمان (رض) أختلفت الحال ، فقد كان رفيقاً مع أسرته ،
متسامحاً مع حاشيته ، حتى عاد بين هذه الرقة وذلك التسامح ضعيفاً مستضعفاً ، ولم
يبق لعثمان في الحكم إلا الأسم ، وصار رمزاً شاخصاً للخلافة ليس غير ، وسيطر مروان
بن الحكم سيطرة تامة على السلطان ، فادار الحياة السياسية والإدارية كما يشاء وبما
يشاء ، حتى ظهر للعيان أن الخليفة محكوم عليه ، وأن الشؤون العليا للدولة يستبد بها
مروان استبداداً تاماً حتي قيل أن ختم عثمان الذى يمضى به الامور كان بيد مروان
وأفاق المسلمون على هذه الحقيقة ، فرأوا التولية والعزل يصدران عن مروان ، ورأوا
المال والفيء يقسم بإشارة مروان ، ورأوا الأوامر تنفذ عن رأي مروان ، ولم يكن مروان
محبباً للنفوس ، ولم يكن ورعاً في أمانته ، ولم يكن قديراً على إدارة دفة الحكم ،
وما زال المسلمون ينظرون إليه وإلى أبيه بأنه طريد رسول الله وابن طريده ، وما زالت
النظرة إلى مسلمة الفتح فيها كثير من الإستهانة ، فهو ليس هناك كما يقال .
وتوسع المسلمون في الفتوح ، وترامت أطراف الدولة ، وكثرت
189
الحاجة إلى الخبراء والإداريين ، وإذا بمروان يعيّن من يشاء ، ينصب من يشاء ويعزل
من يشاء . وكان المقربون لمروان أكثر الناس عائدية في المناصب والدواوين والإقطاع
ومراكز السلطة ، وكان المستهينون بمروان أبعد الناس عن الحباء والعطاء ومواطن القوة
، فتمتع المستغلون لمروان بما وسعهم من الأثرة والنفوذ والتقلّب بأحضان الإمتيازات
، وحرم المستضعفون من أبسط حقوقهم في الجاه والمال والمنافع ، وكان المستغلّون هم
القلة من الناس ، وكان المحرومون هم الأغلبية العظمى من المسلمين .
وأدرك المسلمون هذا التفاوت ، وعز عليهم هذا الاستئثار ، وجحفهم ذلك الاستبداد
، وكان مروان وراء ذلك كله أو جلّه ، فاستعانوا على تغيير ذلك بعلي ، فسفر بينهم
وبين عثمان ، فما استمع عثمان للنصح ، ولا استبعد مروان عن التسلط ، ونعت نائلة بنت
الفرافصة زوج عثمان على عثمان تفويض الأمر إلى مروان ، وطلبت إليه العمل بما يشير
عليه علي عليه السلام ، ولكن الرجل كان رحيماً بذوي رحمه ، رقيق القلب معهم ، كثير
الحدب عليهم ؛ فما غيّر ولا بدّل ، ولا أجاب ولا استجاب .
وتناهى إلى المسلمين كل ذلك ، وأكثر من كل ذلك ، فغضب منهم من غضب ، ونقم على
عثمان من نقم ، وتعكر الجو ، ودبت في النفوس بوادر الثأر لما يحدث ، وانطوى تفكير
الناس على كثير من التخطيط المنظم وغير المنظم ، وكانت الجمرة تتقد من وراء الرماد
.
وكان مروان يسمع ويرى ، فما تغير موقفه ، ولا نظر في أمره وأمر الخليفة
المحكوم ، بل ازداد إمعاناً في الأثرة ، وتولى تسفيه آراء المعارضة لدى عثمان ،
وأمّن له عثمان ، وأيد بنو أمية ، وتراكم السوء
190
على السوء ، وتعقدت الأحوال حراجة ، واندفع المرجفون بعثمان في المدينة يستقبلون
المرجفين به في الأمصار ، يسمعون منهم ويستمعون إليهم ، وعثمان في غفلة أو تغافل
مما يراد به ومنه ، حتى انتقض عليه الداخل ؛ وتألب عليه الخارج ، واستحكمت بوادر
الفتنة ، وبدت علائم الثورة ، فقد وعن المسلمون أن الخليفة مسيّر لا مخيّر ، وأن
مروان وحده وليّ الأمر ، وأن الكتب تصدر عن مروان بختم عثمان ، وأن الحرمات تنتهك
بإرادة مروان ، فمروان كل شيء عند عثمان ، ولا شيء لعثمان مع مروان .
وقد صور أمير المؤمنين إثرة عثمان ، واستئثار بني أمية خير تصوير ، وعزا إلى
ذلك انتقاض أمر عثمان فقال : « إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله
ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع ، إلى أن إنتكث
فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته » .
وقد أشار علي عليه السلام مضافاً لما تقدم إلى حياة الرفاهية ، ومصادر الثروة
، ودواعي البطنة ، مما تقدم بعض ذكره ، ويأتي بعضه الآخر ، وهذا ما جرّ إلى الدواهي
التي افتتن بها الصحابة ، وتوجهوا معها إلى اكتناز الأموال ، وتبني الإقطاع ، وتعدد
الضياع ، وتملك العقار ، مما لم يكن من نظام الإسلام في شيء ، ولا من سنة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم التي ألفها الناس ، ولا من سيرة الشيخين التي اتسمت بالكفاف ،
وهذا الملحظ هو الظاهرة الرابعة التي سنتحدث عنها .
رابعاً : التفاوت الطبقي وتضخم الملكية الفردية ؛ أطلق
عثمان العنان للملكية أن تتضخم ، وللثروة أن تتكاثر ، وللإستقراطية القرشية أن
191
تتحكم في المال ، وقد مهدّ لهذا الحدث بقرارين مهمين ما كانا من ذي قبل :
الأول
: سماحه لكبار الصحابة من المهاجرين
والأنصار أن يتنقلوا بين الأقاليم والبلدان ، وألغى الحضر السياسي الذي اتخذه
الشيخان عليهم من ذي قبل في مغادرة المدينة .
الثاني : وسع عثمان على ذوي الثروة بأن لهم الحق
المشروع بنقل فيئهم إلى حيث يقيمون من البلاد ، وكان أثر هذا أن تم استبدال مال
بمال ، وضياع بضياع ، وعقار بعقار ، وتنافس الصحابة في ذلك ، فمن أراد بيع أرض
في الحجاز تم له ذلك بشراء أرض في العراق ، ومن رغب بتضخم ماله في الحجاز ، باع
سهمه من فيئه في الأقاليم واستثمره فيما يشاء ، وكان هذا يستدعي الأيدي العاملة
والطبقة الناهضة بالمهمات الجديدة ، وما إن وضع هذا القرار موضع التنفيذ حتى
رأينا الصحابة يسارعون باستبدال ما كان لهم من أراضٍ في الأقاليم المفتوحة ،
بالأراضي في الحجاز والعراق واليمامة ، وكانت مهمة استصلاحها زراعياً تلقى على
عاتق أولئك النفر من الموالي والرقيق والأسارى ، فانتشروا في بلاد العرب ،
وحققوا لأمراء العرب ما أرادوا حرثاً واستثماراً وعائدية أملاك عريضة ، ونجم عن
ذلك تسرب تقاليد لم تكن ، وحضارات لم تعرف ، إلى إلى هذه البلاد وتلك ، وكثر
العبيد والموالى فافسدوا ذائقة العرب فى عاداتهم فانتثر الترف و البذخ وشاع
الغناء والمجون ، فانتقل المسلمون من مناخ الدعة إلى الإضطراب ، ومن حياة
الكفاف إلى الإسراف ، ومن الإعتماد على النفس ولأبناء في إدارة الأعمال إلى
التوكل على الرقيق الذي أضحى يدير شؤونهم ، ويشرف على حياتهم ، ويتولى زراعة
أرضهم ، وخدمة نسائهم ، وتصريف أموالهم .
192
كان من شأن القرار الأول لعثمان أن تفتحت عيون المسلمين على حياة جديدة في
الأمصار المفتوحة ، وما كان كل المسلمين يستطيع أن يتطلع لهذه الحياة ، بل كان
أكثرهم قدرة على السياحة والإستثمار والتجارة أن يتمتع بها ناعماً فارهاً ،
وكان جملة من الصحابة قد بارك هذا المناخ الجديد ، ونقل معه رؤوس الأموال
فأبتاع بها ما شاء من متاع في الأرض والعمارة ، وألحق بذلك ما شاء من الرقيق
القائم بهذا العمل أو ذاك ، فتحرك في النفوس ما كان هادئاً من الترف والرخاء ،
وتماشى الزهو والبطر في الإستزادة من الذهب والفضة والعقار ، وإذا بالأموال
تنمي الأموال ، وإذا بالثراء يضاف إلى الثراء ، فإزداد الشر وإزداد النكر ،
ووقف فقراء المسلمين ينظرون إلى كل هذا ولا يملكون شيئاً منه ، ويتابعون هذا
التحول الخطير ولا يزودون بلماضة فيه ، فيسارعون إلى النقمة ، ويتحولون إلى
الإنكار ، فتنطوي الصدور على الاحقاد والأوغار ، وتشتمل الأفكار على ابتداع
الخطط والمؤامرات ، عسى أن ينعموا بالمساواة ، أو يهتبلوا الفرصة بالمواساة ،
ولم يكن هذا ولا ذاك .
وكان من شأن القرار الثاني أن يدعم القرار الأول في كل جزئياته المتناثرة
هنا وهناك ، فالمال في الحجاز غير الأرض في العراق ، والإستثمار بخيبر غير
الإستثمار بالطائف ، والتقوقع في مكان واحد غير الإنتشار في الأقاليم المفتوحة
، والسبق إلى التنافس غير الجمود والقناعة ، إتسعت الملكية الخاصة ، وتطورت
الثروة المشروعة وغير المشروعة ، وتهامس الناس هنا وهناك عن مصادر هذا الثراء
الفاحش ، وموارد هذا الإستئثار القائم ، وهناك الطبقات المحرومة من الأعراب
وصغار الملاكين ، وهناك المستضعفون من المسلمين الزاهدين ، وهناك من لا نصيب له
بتجارة ، ولا عهد له بزراعة ، وهناك أكثر من هذا كله ،
193
من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص ، وكان من شأن هذا أن يألب الناس على
صاحب القرارين ، وأن يوجه عنايتهم إلى التغيير ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً .
ولم يكن المجتمع ليغفر هذا التفاوت الطبقي ، فقد عهد رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وهو يحقق العدل الاجتماعي ، كما عهد صحابته زاهدين في حطام
الدنيا ، ونظر في أهل بيته فوجدهم مواسين بما لديهم من فضول أموالهم البؤساء
والفقراء ، أما هذا التمحض للمال ، والتفرغ التام للدنيا ، فلم يخطر على بال
أحد منهم ، وعسى أن يكون مظهر إرتداد عن منهج الشرع المستقيم ، وأن يبدو مظهر
جزع وفزع لدى السواد الأعظم من الناس ، ككان صغار المسلمين يتهافتون على الحروف
، ويتنافسون على الفتوح ، وكان كبارهم يتنافسون على تشييد القصور ، وإحتجان
الأرباح ، ومن أمثلة مظاهر هذا الترف المسرف ، وهذا الإسراف المترف ما يذكره
المؤرخون مجمعين عليه قالوا :
فلما بنى عثمان قصره ( طمار والزوراء ) صنع طعاماً نفيساً ، ودعا إليه
الناس ، وكان فيهم عبد الرحمن بن عوف الذي صفق على يديه مبايعاً له على كتاب
الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين ؛ فلما نظر عبد الرحمن إلى عظمة البناء ، وألوان
الطعام ، قال : يا ابن عفان : لقد صدقنا عليك ، ما كنا نكذب فيك ، وإني أستعيذ
بالله من بيعتك ، فغضب عثمان ، وقال : أخرجه عني يا غلام ، فأخرجوه ، وأمر
الناس ألا يجالسوه ، فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس ، كان يأتيه فيتعلم منه
القرآن والفرائض ، ومرض عبد الرحمن فعاده عثمان ، وكلّمه فلم يكلّمه حتى مات .
وعبد الرحمن هذا المنكر على عثمان بذخه في القصور ، لم ينكر
194
على نفسه تلك الثروة الهائلة التي تمتع فيها بما شاء في الحياة ، وترك منها
ميراثاً عظيماً ، فكان له ألف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، وكان يزدرع في الجرف
على عشرين ناضحاً وترك أربع زوجات ، كان نصيب كل واحد منهن من الثمن يقوّم ما
بين ثمانين ألف دينار إلى مائة ألف دينار . وذهب بعض المؤرخين أن عبد الرحمن بن
عوف ترك من الذهب ما يقطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك من الضياع
والأراضي ما لا يقدر بثمن ، ومن جياد الخيل مائة فرس لا نظير لها عند العرب .
وطلحة بن عبيد الله كان أول من استنبت القمح في الحجاز ، ولم مات كانت
تركته ثلاثين مليون من الدراهم ، وكان النقد السائل منها مائتي ألف دينار ،
ومليونين من الدراهم الفضية ، وكان سائرها عروضاً وعقاراً كما يرى ذلك أبن سعد
في الطبقات ، ومع هذا الثراء الفاحش فإنه اقترض من عثمان خمسين ألفاً ، فقال
لعثمان : قد حضر مالك ، فأرسل من يقبضه . قال عثمان : هو لك معونة على مروءتك ،
ووصله أيضاً بمائتي ألف ، ولعل ذلك أول البداية في الثروة الهائلة التي عززّها
عثمان بكثير من العقود والصفقات التجارية ، فقد ذكر المؤرخون أن بين عثمان
وطلحة مبايعات على مستوى رفيع ، يبيع طلحة ويشتري عثمان في الحجاز ، ويبيع
عثمان ويشتري طلحة في العراق .
والزبير بن العوام ذو السيف الذي طالما جلى الكرب عن وجه رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم كان ذا ثروة طائلة ، وغنى مستفيض ، فله ضياع في البصرة ،
وضياع في السواد من أرض العراق ، وخطط في الفسطاط وخطط في الاسكندرية ، وكانت
له عروض ضخمة ، وغلاّت متزايدة ، وكانت تركة الزبير تركة جبّارة تتراوح بين
خمسة وثلاثين مليوناً ، واثنين
195
وخمسين مليوناً ، وهي أرقام خيالية يذكرها المؤرخون بكثير من التأكيد ، فمن
قائل إنها خمسة وثلاثون مليوناً ، ومن قائل إنها أربعون مليوناً ، ومن قائل
إنها اثنان وخمسون مليوناً ، ولا ندري أكان ذلك الميراث دراهم أو دنانير .
وهذا الذي قد اعتزل الفتنة فيما زعم ، ولم ينصر الحق وهو الأمثل به ، ولم
يخذل الباطل وهو من واجبه ، أعني به : سعد بن أبي وقاص ، فقد رثى لحاله
المؤرخون ، واعتبروه ذا ثروة متواضعة إذ ترك ما بين مائتي ألف وثلاثمائة ألف ،
وهو شيء يسير بالنسبة لما ترك أصحاب الشورى كما رأيت قريباً .
كان رأي الناس أن المسؤول عن هذا الثراء المقيت هو عثمان ، لأنه فتح له
الأبواب ، وخص به طبقة دون طبقة ، فأضيف ذلك إلى ما نُقم عليه به من ذي قبل .
(9)
سياسة عثمان من الصحابة والمعارضة
لم تكن السياسة المالية التي انتهجها عثمان وحدها مما نقم بها عليه الناس
، ولم تكن الأثرة في السلطان وإدارة التولية والعزل وحدها مما أخذ به المسلمون
عثمان ، ولم يكن ضعف السلطان أيضاً ، ولا التفاوت الطبقي وتضخم الملكية الخاصة
مما أجلب على عثمان فحسب ، فهناك عامل مهم نشأ في ظلال ذلك ، وترعرع في أحضان
هذه السياسة بمجموعها ، هو عامل الإنتقام من الخصوم تارة ، والنفي والتشريد
لمعارضيه تارة أخرى ، ولست أدري هل يجوز للحاكم الانتقام والثأر لنفسه بمجرد
نصحه والإنكار عليه ؟ وما هو الحد الذي يباح للسلطان في تغريب معارضيه ؟ ونفي
المنكرين عليه عن ديارهم وأوطانهم ؛ وما هو حق الولاة في خنق الأنفاس وكبت
الحريات ، ومؤاخذة الناقمين بآرائهم ؟ هذا إذا كان الحاكم حاكماً بتفويض من
الشعب ، وكيف به إذا كان ـ فيما يزعم ـ متجلبباً برداء ألبسه الله إياه ؟ وقد
كان عثمان يقترف كل ذلك ، وولاة عثمان يقترفون ذلك وأكثر من ذلك ، فالبصري ينفى
إلى الشام ، والكوفي ينفى إلى الحجاز ، والمكي ينفى إلى الربذة ، ولستُ بإزاء
إحصاء ذلك فقد يطول ذكره ، ولكني بسبيل متابعة ما نقمه المسلمون على عثمان تجاه
ثلاثة من كبار الصحابة إنشقوا على حكمه ، ونعوا عليه تصرفاته بكثير من الإصرار
، وهؤلاء
197
الثلاثة هم : أبو ذر الغفاري ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، ولكل
حديثه الخاص به ، ولكل عقابه الذي إبتكره عثمان .
أولاً : أبو ذر الغفاري :
هو جندب بن جنادة ، ممن سبق إلى الإسلام ، وكان في بداية نشأته بأرض كنانة
يلفحهُ حرّها ومناخها الجاف ، ويعصره زمهريرها وبردها القارس ، عاش في شظف من
القوت لا يكاد يسد رمقه ، وتقلب في مكاره الدهر حتى ألفها ، أسلم في مكة طائعاً
، وهاجر إلى المدينة راغباً و شهد مع رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم
المشاهد كلها وكان الى جنب علي عليه السلام في حياة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وبعد وفاته ، ومن السابقين إلى موالاته والقول بإمامته ، وكان حبيباً
لرسول الله ، مقدماً عنده ، مشهوراً بصدقه وصراحته ، معروفاً باستقامة الفطرة ،
وصفاء السجية ، حتى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
« ما أقلت الغبراء ، ولا أظلت الخضراء رجلاً أصدق لهجة من أبي ذر » .
وما ذلك إلا لصرامته في الحق ، وجديته في الصدق ، فهو لا يخشى أحداً ، ولا
يجامل أحداً ، ولا تأخذه في الله لومة لائم .
هذا البدويُّ الذي عركته الصحراء بمناخها ، ووهبته البادية صلابة طبيعتها
؛ إصطرع أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع حياة التقشف والزهد فألفها ،
وذاق مرارة العسر فأساغها ، ورأى النبي عليهماالسلام يشدّ حجر المجاعة على بطنه
فيستن بسنته ، ويرى من سياسة أبي بكر وعمر (رض) في المال ما يعجبه حيناً ، أو
يناقشه حيناً آخر ، ولكن ما يراه كان ملائماً لفطرته النقية بضم بعضه إلى بعضه
الآخر ، وإذا به يفجأ في عصر عثمان
198
بالممتلكات العريضة لطلحة والزبير في الحجاز والعراقيين ومصر ، وينظر بذخ
معاوية وسرفه في المال والبناء في الشام ، ويشاهد مروان بن الحكم يحتجز من
الفيء ما لا يوفيه الحساب ، ويلفي ابن أبي سرح يتمتع بخمس إفريقيا كله ، وينظر
عثمان بجزل العطاء دون بصيرة ، فيعطي الحارث بن الحكم طريد رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم ثلاثمائة ألف درهم ، ويعطي زيد بن ثابت مائة ألف درهم ، ويعطي
هذا وذاك مئات الألوف بغير مقياس يقيده ، ولا ميزان يزن به حقائق الأشياء ،
وينظر ثروة ابن عوف ذهباً وفضة وكراعاً وماشية وعقاراً ، ويلاحظ ترف طلحة في
التأنق والعبيد والإماء وعائدات خيبر ، ويستمع لأنباء ممتلكات الزبير في العراق
والفسطاط ضياعاً وإقطاعاً ، فيبهت لهذا كله ، وينكره أشد الإنكار ، ويتلو قوله
تعالى : ( وَالذينَ يَكنزونَ الذّهبَ وَالفضةَ وَلاَ
يُنفقونهَا في سَبيلِ الله فَبشرهُم بِعذابٍ أَليمٍ )
(1) .
ويشكو مروان نكير أبي ذر لعثمان ، وينهاه عثمان عن ذلك فيحتج قائلاً : أي
أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، لأن أرضي الله بسخط عثمان ، أحب إليّ من أن
أرضي عثمان بسخط الله .
وتشيع هذه المقالة في الآفاق ، وتتوتر العلاقة ببين أبي ذر وعثمان ، ويكثر
نقد أبي ذر ويزداد غضب عثمان ، ويقول أبو ذر ويجيب عثمان ، وتتعالى صيحات أبي
ذر فيجزع عثمان ، ويحاول إليه السبيل فيجده مغلقاً .
فقد كان كعب الأحبار يحتل الصدارة من مجلس عثمان ، فيقول أبو ذر لعثمان
وكعب حاضر : لا ينبغي لمن أدى الزكاة أن يقنع حتى يطعم الجائع ، ويعطي السائل ،
ويبّر الجيران ؛ فيقول كعب : من أدى
(1) سورة التوبة ، الآية : 34 .
199
الفريضة فحسبه ؛ فغضب أبو ذر ، وقال لكعب : أتعلمنا ديننا يا ابن اليهودية .
فأثار ذلك عثمان ، وأمره أن يلحق بالشام ، وألتحق أبو ذر بالشام برقابة مشددة
من معاوية ، وأنكر على معاوية في الشام ، ما أنكره على عثمان في المدينة ، وكان
معاوية يقول : المال مال الله ، ونحن أمناء الله على ماله . وما أراد أبو ذر أن
يجبهه بأنه قد خان الأمانة ، ولكنه جبهه بأنه قال : إنما هو مال المسلمين .
وكان الناس يجتمعون في الشام إلى هذا الصحابي الجليل ، فيقول : ويلٌ
للأغنياء من الفقراء . وكثرت تصريحات أبي ذر في هذا المجال ، حتى إذا بنى
معاوية قصر الخضراء ، قال له أبو ذر : « إن كنت إنما بنيتها من مال المسلمين
فهي الخيانة ، وإن كنت إنما بنيتها من مالك فإنما هو السرف » .
وأدرك معاوية أن أبا ذر بإشاعته المفاهيم الإسلامية في المال وسواه سيفسد
عليه الشام فيما يزعم ، فكتب إلى عثمان : إن كانت لك حاجة في الشام فسير عنها
أبا ذر ، فما كان من عثمان إلا أن استجاب لهذا النداء ، وكتب إلى معاوية :
أن أحمل إليّ جندباً على أغلظ مركب وأوعره ، فحمله على أشد مركب ، ووصل
المدينة أبو ذر ، وقد تساقط لحم فخذيه كما يقول المؤرخون ، وأدخل على عثمان
فقال له : لا أنعم الله بك علينا يا جنيدب ؛ فقال أبو ذر : أنا جندب وسماني
رسول الله عبد الله ، فاخترت اسم رسول الله الذي سماني به على اسمي ، فقال له
عثمان ، أنت الذي تزعم أنا نقول : يد الله مغلولة ، وأن الله فقير ونحن أغنياء
، فقال أبو ذر : لو كنتم لا تقولون ذلك لأنفقتم مال الله على عباده ؛ وأنا أشهد
أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :
200
« إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً ، جعلوا مال الله دولاً ، وعباده
خولاً ، ودينه دخلاً » .
فقال عثمان لمن كان حاضراً : أسمعتم ذلك من رسول الله ؟ فأنكروا سماعه ،
فاستدعى عثمان علياً وسأله ، فقال الإمام علي عليه السلام إني لم أسمع ذلك من
رسول الله ، ولكن أبا ذرّ صادق فيما يقول ، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يقول فيه :
« ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر » .
فقال كل من حضر : أما هذا فقد سمعناه من رسول الله .
ولم يجد عثمان في هذا سبيلاً على أبي ذر ، فعمد إلى سياسته في النفي
والتغريب ، فأمر أبا ذر بالرحيل إلى الربذة منقطعاً عن الناس ، ومنع الناس من
توديعه ، وأشرف مروان بن الحكم على تنفيذ الأمر ، فلم يخرج إلى توديعه إلا
الإمام علي عليه السلام وأخوه عقيل ، وابناه الحسن والحسين عليه السلام وعمار
بن ياسر ، وكان مشهد الوداع مثيراً ، إذ تكلم كل واحد من المودعين بما يناسبه ،
وقال علي أمير المؤمنين :
« يا أبا ذر ، إنك غضبت لله فارجُ من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم
، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب منهم بما خفتهم
عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عما منعوك ، لا يؤنسك إلا الحق ،
ولا يوحشك إلا الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبوك ، ولو قرضت منها لآمنوك » .
وانتهى المطاف بمعارضة أبي ذر أن عاش ما بقي من حياته شريداً في الربذة ،
حتى أدركه الموت غريباً لا يجد كفناً ، وشهدت وفاته عصابة
201
من المؤمنين من أهل الكوفة فيهم مالك الأشتر ، وحجر بن عدي الكندي
وسواهما ، تولى هؤلاء غسله وكفنه والصلاة عليه ودفنه في تلك المفازة ،
وحملوا زوجته وابنته إلى المدينة ، فتذكر الناس قول الصادق الأمين صلى الله
عليه وآله وسلم :
« يا أبا ذر ؛ تعيش وحدك ، وتدفن وحدك ، وتحشر وحدك ، ويسعد فيك ناس
من أهل العراق يتولون غسلك ، ومواراتك في قبرك » .
وكان نفي أبي ذر وموته وحيداً في غربته ، أول شرارة حقيقية كبرى
اندلعت فيها الثورة على عثمان ، وإن لم تكن أول شرارة ، فهي أورى شرارة
قدحاً .
وكان توديع الإمام علي عليه السلام لأبي ذر أول ما نجم بين علي وعثمان
من نقمة وسخط وغضب ؛ فحينما عاد أمير المؤمنين من تشييع أبي ذر ، وزجره
لمروان زجراً عنيفاً ، قيل له : إن عثمان عليك غضبان لتشييعك أبا ذر ،
فأجاب علي بسخرية لاذعة : « غضب الخيل على اللجم » .
واستدعاه عثمان فقال له : « ما حملك على ما صنعت بمروان ، واجترأت
عليّ ، ورددت رسولي وأمري » .
فقال عليّ : « أما مروان فاستقبلني يردّني فرددتّه عن ردّي » .
فقال عثمان : « أو لم يبلغك أنني نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشييعه ؟ »
فاستنكر الإمام عليه السلام هذا ، وقال مصرّحاً :
« أو كل ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة الله ورسوله الحق بخلافه ،
إتبعنا فيه أمرك » . فأبان علي عليه السلام : أن لا طاعة لمخلوق في معصية
202
الخالق ، وأن تشييع المؤمن أمر مندوب إليه في الشريعة ، وإن غضب لذلك
السلطان .
وتطورت المحاورة فيما بينهما ، ولوّح عثمان بمشروعية شتم مروان للإمام
، فقال علي عليه السلام : « وأما أنا فوالله : لئن شتمني ، لأشتمنك أنت
مثلها بما لا أكذب فيه ، ولا أقول إلا حقاً » .
وهنا بَدَهُ عليّ عثمان بالمجابهة له ، لأن مروان ليس في عداده ، فلو
شتمه مروان لشتم عثمان بالحق لا يتزيد عليه ، فضاق صدر عثمان وقال :
« ولم لا يشتمك إذا شتمته فوالله ما أنت عندي بأفضل منه » . فنهره
عليّ وزجره عن هذا التسرع في الرد ، وقال : « ألي تقول هذا القول ، وبمروان
تعدلني ، فأنا والله أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، وأمي أفضل من أمك » .
فصعق عثمان ، وما حار جواباً ، وغص بريقه على مضض .
هذه الشرارة التي إنقدحت بين علي وعثمان ، كان بنو أمية وراء إذكائها
، يغذون الفرقة ، ويزدرعون الإحن والأحقاد ، حتى كادت الأمور تتعقد إلى
غاية قصوى ، لولا أن يتداركها أبو الحسن بحلمه المعهود ، وقد أنكر المسلمون
هذا وغيره على عثمان .
ثانياً : عبد الله بن مسعود :
وهو صحابي قديم من هذيل ، التقى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في
شعاب مكة ، وكان يرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط ، فاستسقاه النبي وصاحبه
لبناً ، فأبى ذلك لأنه مؤتمن على مال غيره ، قال له النبي : فهل عندك شاة
لم ينزُ عليها الفحل ؟ فدفع إليه عبد الله شاة عجفاء ، فمسح النبي
203
على ضرعها ، فاحتفل لبناً ، فاحتلب منه وشرب ، وشرب أبو بكر ، فأعجب النبي
بأمانته ، وأعجب عبد الله بكرامته ، واستيقظ من غفوته ، وأسرع فيمن أسرع
للإسلام ، ونزع إلى القرآن فحفظ منه الكثير ، وجهر به في مكة ، وأوذي في
سبيل الله ، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وشهد المشاهد كلها مع النبي
، وهو الذي أجهز على أبي جهل فاحتز رأسه وأتى به النبي في بدر ، ولازم
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملازمة جادّة ، وأخذ عنه القرآن ، واشتهر
بتفسيره ، وورد عن النبي أنه قال : « من أحب أن يأخذ القرآن غضاً طرياً
فليأخذه من ابن أم عبد » .
وتولى خدمة النبي في سفره وحضره ، وكانت منزلته لديه جليلة ، ورآه
الصحابة يتسلق شجرة فضحكوا من دقة ساقيه ، فامتعظ النبي من ذلك ، وقال :
« إنهما لأثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد » .
واستعمل عمر عمار بن ياسر أميراً على الكوفة ، وبعث معه عبد الله
معلماً ووزيراً ، وقال إنه آثرهم به على نفسه ، وتولى بيت المال في ولاية
سعد وظل عليه حتى ولاية الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، فاستقرضه الوليد من
بيت المال شيئاً فأقرضه ، وطالبه بالمال فمطل له ، وألح عليه ابن مسعود ،
فشكاه الوليد إلى عثمان ، فكتب له عثمان :
« إنما أنت خازن لنا ، فلا تعرض للوليد فيما أخذ من بيت المال » .
فألقى ابن مسعود المفاتيح ، واعتزل في داره ، وبدأت معارضته لعثمان
منكراً ما يشاهد من أحداث ، ومعرضاً بما رآه من بدع ، فقد كان يخطب كل خميس
فيقول :
« إن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله
وسلم
204
وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في
النار » .
وكان الوليد يرى في قوله تعريضاً بعثمان ، فيزود عثمان بما يطعنه به ،
ويستزيد من عنده ما يشاء ، لا يتحرج من ذلك ولا يتأثم ، حتى أوغر صدر عثمان
منه ، فأشخصه إلى المدينة ، ودخلها وعثمان يخطب ، فقال عند دخوله المسجد :
« ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح » .
وكان هذا من عثمان استهزاء أي استهزاء ، وإهانة ما بعدها إهانة ،
واستخفاف بمكانة الرجل ، فرّد عليه ابن مسعود : لست كذلك ، ولكني صاحب رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ويوم بيعة الرضوان . وكان موقف عبد
الله فيهما عظيماً ؛ وأنكرت عائشة تهجم عثمان على عبد الله وقالت : « أي
عثمان : أتقول هذا لصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » .
وأمر عثمان بإخراجه ، فأخرج من المسجد بعنف وقسوة ، وضربت به الأرض ،
فانكسر بعض أضلاعه . فعظم ذلك على المسلمين ، واستنكر الإمام علي ذلك ،
والتفت إلى عثمان قائلاً : « تفعل هذا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم عن قول الوليد » . فقال عثمان : ما من قول الوليد فعلت هذا ، ولكن
أرسلت زبيد بن كثير ، فسمعه يحل دمي . فقال علي عليه السلام : زبيد غير ثقة
.
ثم أمر عليٌّ بحمل ابن مسعود إلى منزله ، وهو يعالج أضلاعه ، حتى إذا
برئ ، رغب أن يخرج إلى الشام غازياً ، فمنعه عثمان بإشارة مروان قائلاً :
إنه أفسد عليك الكوفة ، فلا تدعه يفسد عليك الشام .
وما اكتفى عثمان بهذا الحجز بل قطع عن الرجل عطاءه من بيت
205
المال ، فعاش متكففاً فقيراً ، وازدادت الحال سوءاً بينه وبين عثمان ،
فجاهر بالمعارضة حتى لزم فراش المرض الطويل ، فلما دنا أجله خفّ عثمان
لعيادته متطلباً عفوه ورضاه ، ولكن الرجل ظل حانقاً محتجاً متبرماً حتى آخر
لحظة من حياته ، وجرت بينهما المحاورة الآتية :
قال عثمان له : يا أبا عبد الرحمن ما تشتكي ؟
قال ابن مسعود : ذنوبي .
قال عثمان : فما تشتهي ؟
قال ابن مسعود : رحمة ربي .
قال عثمان : ألا أدعو لك طبيباً ؟
فقال ابن مسعود : الطبيب أمرضني .
وحاول عثمان استرضاءه ، وقال له : أفلا آمر لك بعطائك ؟
فقال ابن مسعود : منعتنيه وأنا محتاج له ، وتعطينيه وأنا مستغنٍ عنه .
قال عثمان : يكون لولدك .
فقال ابن مسعود : رزقهم على الله .
واستعطفه عثمان فقال : « فاستغفر لي يا أبا عبد الرحمن » .
فردّه ابن مسعود بداهة : أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي .
فظل عثمان باهتاً ، وتولى عنه مسرعاً .
وأوصى ابن مسعود أن لا يحضر جنازته عثمان ، ولا يصلي عليه ، ومات ابن
مسعود فلم يؤذن أحد عثمان بموته ، وصلى عليه عمار بن
206
ياسر ، ودفن في كثير من الكتمان ، ومرّ عثمان من الغد بقبر جديد ، فسأل عنه
، فقيل إنه قبر ابن مسعود ، فقال : سبقتموني به ، فقال عمار : إنه عهد إلي
بذلك وأوصى أن لا تصلي عليه ، فحقدها عثمان على عمار ، والتفت إلى الحاضرين
قائلاً : رفعتم والله أيديكم عن خير من بقي . فلذعه الزبير منشداً :
لا ألفينّكَ بعدَ الموتِ تندبُني |
وفي حياتِي ما زودتَني زادا |
ثالثاً : عمار بن ياسر
حليف بني مخزوم ، كان من أوائل المسلمين ، وهو أحد المستضعفين في
الأرض مع أبويه : ياسر وسمية ، عذبوا جميعاً في ذات الله ، حرًقوا بالنار ،
وعرضوا لشمس مكة المحرقة ، وضربوا بالسياط ، فمات أبوه تعذيباً ، ورميت أمه
بحربة كانت فيها روحها الطاهرة ، وكان عذابهم يستدر عطف النبي صلى الله
عليه وآله وسلم ، ويستنزل رحمته حتى قال : « اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت
» . هاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلى الى القبلتين ، وله فضيلة كبرى
، فهو من القلائل الذين اتخذوا من بيوتهم في مكة مساجد ، فكان له مسجد في
بيته يصلي فيه ، وهو الذي فاق أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بناء
مسجده في المدينة ، فكان المسلمون يحمل كل منهم لبنة لبنة ، وكان عمار يحمل
لبنتين لبنتين ، وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبلى
في اليمامة بلاءً حسناً ، وولاه عمر أميراً على الكوفة ، فكان مثال الوالي
النزيه ، وكان من السابقين إلى أمير المؤمنين ، ينفّذ أمره ، ويتبع خطاه ،
وقد نقم على عثمان فيمن نقم : تصرفه اللامحدود في بيت المال ، وأنكر عليه
سياسة التولية لقرابته وأسرته ، بلا كفاية في الإدارة ، ولا أمانة على
المال ، ولا وازع من تقوى الله تعالى ، وجاهر عمّار في معارضة عثمان بتغيير
السنن ، ووضع الأمور
207
في غير مواضعها ، وأنكر التصرف الكيفي في الأموال ؛ فقد أخذ عثمان عقد جوهر
نفيساً من بيت المال وحلّى به ابنته ، فغضب المسلمون ونالوا من عثمان ،
واستهجنوا استطالته لذلك حتى أحرج ، فخطب ثائراً وقال :
« لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف قوم » . فقال أمير
المؤمنين عَليهِ السَّلام : « إذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه » .
وقال عمّار : أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك . فقال عثمان : أعليّ
يا ابن المتكاء تجترئ ؟ خذوه ، فأخذ وأدخل على عثمان في داره ، فضربه ضرباً
موجعاً حتى غشي عليه ، وحمل إلى منزل أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وهو مغشي عليه ، ففاتته صلاة الظهر والعصر والمغرب ، فلما أفاق صلى
قضاءً وقال :
الحمد لله ليست هذه أول مرة أوذينا فيها في الله .
واحتجت عائشة على هذا العقاب العرفي ، وأنكرت هذا الإجراء التعسفي ،
وأخرجت شيئاً من شعر رسول الله وثوباً من ثيابه ، ونعلاً من نعاله ، وقالت
:
هذا شعر النبي وثوبه ونعله لم يبل ، وعثمان أبلى سنتّه .
فضج الناس بالبكاء ، وارتج على عثمان حتى لا يدري ما يقول .
وكتب المسلمون كتاباً لعثمان ، استعرضوا فيه أعمال عثمان ، وسوء حالة
الرعية ، وظلم الولاة ، واحتجان بيت المال ، واختاروا عمّاراً أن يوصله
لعثمان ، فأوصله إليه ، ففضّه وقرأ شطراً منه ، وقال له : أين أصحاب الكتاب
؟ فقال عمار : تفرقوا خوفاً منك ، فقال عثمان : أعليّ تقدم من بينهم ؟ فقال
عمار :
لأني أنصحهم لك ، فجبهه عثمان : كذبت يا ابن سمية !!
208
فقال عمّار : والله أنا ابن سمية وأبي ياسر ، فغضب عثمان ، وألبه عليه
مروان ، وقال لعثمان : إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك الناس ، ولو قتلته
هابك من وراءه ، فتناول عثمان عصا فضرب بها عماراً ، وأمر غلمانه فطرحوه
أرضاً ، وقام عثمان فرفسه برجليه ، على مذاكيره ، وركله ركلاً شديداً ،
فأصيب بفتق ورضوض وغشي عليه ، وأخرجوه من الدار وألقوه طريحاً في الطريق
العام .
وأنكر المسلمون ذلك ، وعظم عليهم ، وثار هشام بن الوليد بن المغيرة
المخزومي ، وقال لعثمان : أما والله لئن مات لأقتلن به رجلاً من بني أمية
عظيم الشأن . وكأنه يقصد عثمان بذلك .
وأفاق عمار ، فجاشت نفسه بذكرياتها المريرة ، فتذكر ما كان يلقاه على
يد طواغيت قريش ، فصبر على ذلك ، ولكنه أذكى شرارة في نفوس المسلمين لم
تخبُ حتى حين .
ولم يكن أبو ذر وابن مسعود وعمار زعماء للمعارضة وحدهم فلست بصددها ،
ولكني بصدد موقف الإمام علي عَليهِ السّلام من عثمان وسنأتي علية ، بل أضف
إليهم عائشة أم المؤمنين التي نادت : اقتلوا نعثلاً قتله الله ، اقتلوا
نعثلاً فقد كفر ؛ وطلحة والزبير أيضاً كانا يترصدان به دائرة السوء ، وحتى
البيت الأموي كان به من يمثل هذه المعارضة ، فهذا محمد بن أبي حذيفة ، جده
لأبيه عتبة فارس المشركين ببدر ، وهو ابن خال معاوية ، وهو ربيب عثمان في
بيته ، وقد وجد نفسه صفر الكف من ولايات عثمان ، وقد غضب لذلك وهاجر إلى
مصر ، فكان يحرض الناس على عثمان تحريضاً مرّاً ، يلقى الرجل عائداً من غزو
الروم فيسأله : أمن الجهاد قدمت ؟ فيقول : نعم ، فيشير ابن أبي حذيفة إلى
جهة الحجاز قائلاً : « أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقاً » ويتساءل
209
المسؤول : فأي جهاد تعني ؟ فيقول : جهاد عثمان .
وكان المصريون والكوفيون والبصريون أشد الناس معارضة لعثمان ، وكان
جملة من المهاجرين والأنصار في المدينة يقعون بعثمان ، وتألب الجميع على
عثمان ، فكانت النهاية المفجعة التي تنبأ بها عمر لعثمان .
ولقد بليّ عليّ محنة أية محنة ستراها بعد حين .