تثاءبت احتجات الأنصار باهتة ، وتبخرّت أحلام المعارضة السياسية لبيعة أبي
بكر ذائبة ، ولكن الآهات لا تهدأ ، والزفرات لا ترقأ ، فقد انطلقت الشكوى
الحزينة لابنة صاحب الرسالة ، تزمجر في الاُفق ، فتهتز المدينة لها رقةً
حيناً ، وجزعاً حيناً اخر ؛ فالزهراء حبيبة محمد ، وديعته عند المسلمين ،
ولها حرمتها وقداستها ، وإذا بها ترسل ادلتها لمقالتها ، وتدلي بحججها
لظلامتها ، تطالب أبابكر ، بفدك نحلتها ، وبإرثها من أبيها ، وبسهم ذوي
القربى ، تحاجج بمنطق القرآن ، وتناظر بلغة الوحي ، فاغمط عيناً دون ذلك ،
ولجأ إلى المعاذير ، واخترع حديث : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما
تركناه صدقة » كما يرى ذلك طه حسين
(1)
.
وكان خبر واحد لا يفيد علماً ولا عملاً ، ولكنه أصر عليه ، فكذب
دعواها في النحلة مع الشهود ، وتصرفها زمن أبيها ، ووضع إلىد عليها ، وكلها
أمارات تصدق دعواها ، وحرمها الميراث ولم يحرم أزواج النبي من ذلك وانزل
سهم ذوي القربى ـ وهو حق خاص منصوص عليه في التنزيل ـ في حساب المسلمين
ببيت المال .
(1) ظ : محمد الدسوقي / أيام مع طه حسين / 128 +المؤلف / هكذا رأيتهم / 62.
120
نظرت الزهراء فإذا يدها صفر من كل شيء : فدك ، الميراث ، السهم
المفروض . فلا هي ترث أباها كالمسلمين ، ولا وضع يدها على فدك يحول دون
مصادرتها وفيها عمالها ورجالها ، ولا الحق الشرعي النازل من السماء يصل
إلىها ، وإذا بها رعية لا تملك شيئاً ، ومغتصبه لا تقدر على شيء ، ومنتهبة
لا فرصة لديها في استرداد حق أو استرجاع نصيب .
انتهت الحقوق المإلىة لديها الى زاوية حادة كما انتهت الحقوق القيادية
لزوجها إلى درب مسدود ، فعاد الاثنان علي وفاطمة متساويين في الحرمان
والاضطهاد ، ومتناظرين في المحنة والابتلاء .
واكبر الظن أن أبا بكر قد رد الزهراء في الميراث والنحلة وسهم ذوي
القربى ، لا تشكيكاً في صدقها ، فهو أعلم الناس بصدقها في قرارة نفسه دون
شك ، ولكنه احتاط لنفسه كثيراً ، ولمنصبه أكثر ، فما أراد أن يأخذ على نفسه
أمام المهاجرين والأنصار أنها صادقة ، إذ لو أخذ على نفسه ذلك لكان في أشد
الحرج وأعسر الضيق ، فما يدرينا ؛ فلعل الزهراء تأتيه غدا فتقول له إن أبي
قد نصّ على عليّ بالخلافة ، سمعتُ هذا ووعيت هذا ، فما هو موقفه يا ترى ؟
وقد حكم لها على نفسه بالأولى ، فما له لا يحكم لها في الآخرة ، إذن فليحسم
الأمر منذ لحظاته الأولى ، فالنبي لا يورث ، ولم ينحل الزهراء فدكاً
والشهاد ناقصة : زوجها يجرّ النار الى قرصه ، وأم أيمن أعجمية فيما يزعم
عمر ، والحسن / والحسين صبيان لا شهاد لهما ، أما وضع إلىد على فدك من قبل
الزهراء في حياة أبيها ، وتصرفها في ذلك جهاراً ، فأمر مغموض عليه ، أو
أريد أن يغمض عليه ، وأما سهم ذوي القربى فيضعه ببيت المال فالمأمور
بإعطائه رسول الله وقد مات ، وكأن الحكم قد نسخ وإلى
122
اليوم ، وعسى علي أن يستعين بالميراث والنحلة وسهم ذوي القربى ، فتتجمع حوله
الأنصار وذوو المأرب ، أو أنه ينفق ذلك بآراء معارضة ما ، أو مقاومة ما .
فما على أبي بكر إذن إلا أن يكفأ هذا الإناء بما فيه ، ويغلق هذه المقالة من
منافذها ، رضيت الزهراء أم غضبت ، شاء المسلمون أم أبوا ، أذن علي أم اعترض ،
فالسلطان فوق هذا كله ، فلا تردد ولا هوادة ، وهكذا كان .
هذا المال الطائل العريض من النحلة ، وهذا الحق المفروض من السماء ، وهذا
الشيء اليسير من الإرث ، لا حظ لفاطمة منه . فقد عاد أثراً بعد عين ، ورسماً بعد
وجود ، وتأريخاً مختلطاً قد يصدق وقد يكذب . وهذه القيادة لعلي يافعاً وشاباً
ومكتملاً في تثبيت الإسلام وإعلاء كلمته وتأسيس قواعده وأركانه ، عفّى عليها الدهر
، وجرى بها الحدثان ، فلا يذكره متنفس ، ولا يلهج باسمه متحدث ، فهو من فتيان هذه
الأمة ، وهو من شباب الإسلام ، ولا مكان له بين شيوخ قريش .
فالمصيبة ـ إذن ـ مشتركة بين الاثنين ، جردّت الزهراء من حقوقها المالية ،
وجرّد علي من شؤونه السياسية ، فعادا فرسي رهان في الشكوى ، ورضيعي لبان في المأساة
، ومع هذا فما اتخذ الأثنان موقف المسالم ، ولا مالا الى الهدوء والاطمئنان ، وإنما
ركبا الطريق الى المجاهدة ، وسلكا محجة العمل الواضح ، فعليٌّ لم يبايع أبا بكر
طيلة حياة الزهراء يناظر ويجادل ويستقل ، والزهراء تحتج بأبلغ صنوف الاحتجاج ،
تستعدي المسلمين تارة ، وتخترق مجتمعهم العائلي فتألب نساءهم تارة أخرى ، وتتناول
القيادة بالشكوى والصراع والمجابهة أحياناً.
122
ومن البديهي عقليا أن الزهراء كانت محقّة فيما أثارت من إنكار ، ومحقة أيضا
فيما أظهرت من ظلامة ، ومحقة كذلك فيما طالبت فيه من حقوق ، وذلك لأمرين مهمين :
الأول : ما عرفت به الزهراء من قداسة وتورّع في ذات الله ، فهي أبر
وأوفى من أن تدعّي ما ليس لها من الحقوق ، ولم تكن لتخالف أباها فيما جاء به من سنن
وفروض ، ولم تكن متظلمة باطلاً ، ولا معارضة جزافاً واعتسافاً ، فهي أورع من هذا
كله ، وهي أزهد بحطام الدنيا مما يظن ، قلّ ذلك الحطام أو كثر .
الثاني : لو كان هناك أدنى شبهة فيما عرضت ، لكان علي وهو أعلم الناس ـ
بالقرآن والسنة ـ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأفقههم وأفضلهم ، لكان قد
أبان لها وجهة النظر الشرعية وحكم السماء في دعواها ، ولكنه كان على العكس من ذلك
فقد ساندها وأيدّها وأظهر صدق ما جاءت به ، فعلم بالضرورة صحة ما طرحت ، وصدق ما
أدعت .
والمتتبع لسيرة الزهراء عليها السلام منذ أن ترعرعت يجدها سيرة نضرة متكاملة ،
أضفى عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برداً من الخلق المحمدي ، وأدّبها
بأدبه العظيم ، وبصّرها بأمور الدنيا والدين ، فهي بضعة منه ، وقطعة من كبده ،
وشجنة من جسده ، بل هي صورة من صوره الرائعة ، غذّاها بالحكمة ، وأصطفاها بالمنزلة
، يرضيه ما يرضيها ، ويغضبه ما يغضبها ، وذلك مضامين أحاديث نبوية شريف ، ولم يكن
النبي صلى لله عليه وآله وسلم ليوارب في دينه ، ولم يكن لينساق بعاطفة الأبوة ، فما
ينطق عن هوى ، ولا يصرّح عن عصبية ، وإنما يضع الأمور في نصابها ، ويتحدث في حدود
الشرع ، وهو أحق من أتبع ، وأصدق من نطق ،
123
وكذلك كانت ابنته منزهة عن الزلل ، وبعيدة عن الزيغ ، تقول صدقاً وتنطق حقاً .
قال ابن أبي الحديد : « سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد ؛
فقلت له : أكانت فاطمة صادقة ؟ قال : نعم ، قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدكاً
وهي عنده صادقة ؟ ، فتبسم وقال : لو أعطاها اليوم فدكا بمجرد دعواها لجاءت إليه
غداً ، وأدّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يمكنه الإعتذار والمدافعة
بشيء لأنه يكون قد أسجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدعي كائناً ما كان من غير حاجة
إلى بيّنة » .
وهنا يكمن جوهر القضية فيما يبدو ، فأراد أبو بكر إغلاق هذا الباب الواسع
فأخترع « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » فهجرته فاطمة حينئذٍ ، ولم تكلمه حتى ماتت
بإجماع المؤرخين إلا لماماً عند مرض الموت فيما سنعرفه فيما بعد .
حقاً لقد أعذرت الزهراء عليها السلام فيما حاججت به أبا بكر ، لقد جعلته يغصّ
بريقه ، ويتعثر بمعاذيره ، ولفتت إليها النظر العام في ظلامتها ، إذ اقتحمت عليه
مسجد رسول الله في تمام الأهبة ، فاحتجت وحرّضت واستصرخت وأبلت بلاءً حسناً ،
إحقاقاً للحق ، وإرضاءً للضمير ، وصونا لمعالم الدين من الإنحراف ، وإلا فهي أعلا
جانباً ، وأكرم محتداً ، وأطيب نفساً ، من أن تجنح للكلام جدلاً .
قال أغلب المؤرخين عن عائشة أم المؤمنين وعن سواها من نساء المسلمين : لما
سمعت فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدكاً والأرث وسهم ذوي القربى ، لاثت خمارها
على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها
، ما تخرم من مشية
124
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا فدخلت عليه وهو في حشد من المهاجرين
والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة فجلست ، ثم أنت أنةً أجهش لها القوم بالبكاء
فارتجّ المجلس ، ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم ، وهدأت فورتهم ، افتتحت
الكلام بحمد الله والثناء عليه ، والصلاة على رسوله أبيها صلى الله عليه وآله وسلم
فعاد القوم في بكائهم ، فلما أمسكوا عادت في كلامها وقالت :
« الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء بما قدّم ، من
عموم نعم ابتداها ، وسبوغ آلاء أسداها ، وتمام نعم والاها ، جم عن الأحصاء عددها ،
وتأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أبدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر
لاتصالها ، واستحمد الى الخلائق بإجزالها ، وثنى بالندب إلى أمثالها ، وأشهد أن لا
إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمن القلوب موصولها ،
وأنار في التفكر معقولها ؛ الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن
الأوهام كيفيته ، إبتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة
إمتثلها ، كوّنها بقدرته ، وذرأها بمشيئته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا
فائدة له في تصويرها ، إلا تثبيتاً لحكمته ، وتنبيهاً على طاعته ، وإظهاراً لقدرته
، وتعبّدا لبريته ، وإعزازاً لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على
معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته ، وحياشاً لهم إلى جنته ؛ وأشهد أن أبي محمد صلى
الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله ، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله ، وسماه قبل أن
اجتباه ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة
، وبنهاية العدم مقرونة ، علماً من الله بمآل الأمور ، وإحاطةً بحوادث الدهور ،
ومعرفة بمواقع المقدور ، ابتعثه الله تعالى إتماما لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ،
وإنفاذا لمقادير حتمه ، فرأى
125
الإمم فرقاً في أديانها ، عكفاً على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة لله مع
عرفانها ، فأنار الله تعالى بأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلمها ، وكشف عن
القلوب بهمها ، وجلى عن الأبصار غممها ، وقام في الناس بالهداية ، وأنقذهم من
الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم الى الصراط
المستقيم ، ثم قبضه إليه قبض رأفة واختيار ، ورغبة وإيثار ، فمحمد صلى الله عليه
وآله وسلم عن تعب هذه الدار في راحة قد حفّ بالملائكة والأبرار ، ورضوان الرب
الغفّار ، ومجاورة الملك الجبار صلى الله على أبي نبيه ، وأمينه على وحيه وصفيه ،
وخيرته من الخلق ورضيه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته » .
ثم التفتت الزهراء عليها السلام إلى أهل المجلس وقالت :
أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، وأمناء الله على أنفسكم ،
وبلغاؤه إلى الأمم ، وزعيم حق له فيكم ، وعهد قدّمه إليكم ، وبقية إستخلفها عليكم ،
كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بينة بصائره
، منكشفة سرائره ، متجلية ظواهره ، مغتبط به أشياعه ، قائد إلى رضوان الله اتباعه ،
مؤد إلى النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنورة ، وعزائمه المفسرة ، ومحارمه
المخدرة ، وبيناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة
، وشرائعه المكتوبة ، فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً
لكم عن الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ، ونماءً للرزق ، والصيام تثبيتا للإخلاص ،
والحج تشييداً للدين ، والعدل تنسيقاً للقلوب ، وطاعتنا نظاماً للملة ، وإمامتنا
أماناً من الفرقة ، والجهاد عزاً للإسلام ، وذلاً لأهل الكفر والنفاق ، والصبر
معونة على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة للعامة ، وبر
126
الوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منسأة في العمر ، والقصاص حقناً للدماء ،
والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس ،
والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس ، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة ، وترك
السرقة إيجاباً للعفة ، وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية (
أتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون
) (1) وأطيعوا
الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فـ ( إنما يخشى اللهَ من عباده
العلمؤا)
(2) .
ايها الناس : اعلموا اني فاطمة ، وأبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم ،أقول
عدواً وبدءاً ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل ما أفعل شططاً ، (
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين
رءوف رحيم )
(3) فإن تعزوه و تعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا
ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المعزي إليه ، فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة ، مائلاً
عن مدرجة المشركين ، ضارباً ثبجهم ، آخذاً بكظهم ، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة
والموعظة الحسنة ، يكسّر الأصنام ، وينكث الهام ، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر ،
وحتى تفرى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق
الشياطين ، وطاح وشيظ النفاق ، وأنحلّت عقدة الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الاخلاص ،
في نفر من البيض الخماص ، وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة
الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطىء الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون القِدّ ، أذلة
خاشئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فانقذكم الله تبارك
(1) سورة آل عمران ، الآية : 102.
(2) سورة فاطر ، الآية : 28.
(3) سورة التوبة ، الآيه 128.
127
وتعالى بابي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني ييهم
الرجال وذؤبان العرب ، و مردة أهل الكتاب
( كلّما أوقدوا ناراً
للحرب أطفاهاً الله ) (1) أو نجم قرن للشياطين ، أو فغرت فاغرة
من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفىء حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد
لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمرالله ، قريباً من رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ، سيداً في أولياء الله ، مشمراً ناصحاً ، مجداً كادحاً ،
وأنتم في بدهنية من العيش ، وادعون فاكهون امنون ، تتربصون بنا الدوائر ، وتتوكفون
الأخبار ، و تنكصون عند النزال ، وتفرون من القتال ، فلمّا اختيار الله لنبيه صلى
الله عليه وآله و سلم دار انبيائه ، ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل
جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر
في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ،
وللغرّة فيه ملاحظين ، ثم استهظكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم فألفاكم غضباباً ،
فوسمتم غير بلكم ، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح
لمّا يندمل ، والرسول لمّا يقبر ، إبتداراً زعمتم خوف الفتنة . (
class="i"> ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين )
فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وأنى توفكون ، وهذا كتاب الله بين أظهركم : أموره
ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، و أعلامه باهرة، وزواجره لائحة ، واوامره واضحة ، قد
خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تدبرون ، أم بغيره تحكمون (
بئس
للظالمين بدلاً )
(3) (
ومن يبتغ غير
(1) سورة المائدة ، الآية : 64.
(2) سورة التوبة ، الآية : 49.
(3) سورة الكهف ، الآية : 50.
128
الإسلم ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخسرين
)
(1) لم تلبثوا إلا ريثما تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ، ثم أخذتم تورون وقدتها
، وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغويّ ، وإطفاء نور الدين الجليّ ،
وإهماد سنن النبيّ الصفيّ ، وتسرون حسواً في ارتغاء ، وتمشون لأهله في الخمر
والضراء ، ونصبرمنكم على مثل حزّالمدى ، ووخز السنان في الحشا ، وأنتم الآن تزعمون
أن لا إرث لي .( أفحكم الجهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ
يوقنون )
(2) أفلا تعملون بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني
ابنته . ويهاً أيها المسلمون أأغلب على إرثي ، يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن
ترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئاً فرياً ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ،
ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول
( وورث سليمن داود
) وقال
فيما اقتص من خبر يحيي بن زكريا عليه السلام (
فهب لي من لدنك
ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب )
(4) وقال : (
واُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتب الله )
(5).
ايها بني قيلة ـ تريد الانصار ـ أأهضم تراث أبي ، وانتم بمرأى مني و مسمع،
ومنتدى ومجمع ، تلبكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذوو العدد والأداة والقوة ،
وعندكم السلاح والجنّة ، توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ،
وأنتم موصوفون
(1) سورة آل عمران ، الآية : 85.
(2) سورة المائدة ، الآية : 50.
(3) سورة النمل ، الآية : 16.
(4) سورة مريم ، الآيةان : 5 ،6.
(5) سورة الأنفال ،الآية : 75 .
129
بالكفاح ، معروفون بالخير والصلاح ، والنخبة التي انتخبت ، والخيرة التي أختيرت لنا
أهل البيت ، قاتلتم العرب ، وتحملتم الكد والتعب ، وناطحتم الاُم ، وكافحتم البهم ،
فلا نبرح وتبرحون ، نأمركم فتأمرون حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حلب الأيام
، وخضعت نعرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوت الهرج ،
واستوسق نظام الدين ، فأنّى حرتم بعد البيان ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد
الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان ، بؤساً لقوم ( نكثوا أيمنهم وهمّوا
بإخراج الرسول وهم بدءوكم أوّل مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين
)
(1) ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحق
بالبسط والقبض ، وركنتم إلى الدعة ، ونجوتم من الضيق بالسعة ، فمججتم ما وعيتم ،
ووسعتهم الذي تسوغتم فـ ( إن تكفروا أنتم ومن فى الأرض جميعاً فإنّ
الله لغنيّ حميد )
(2) ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة
التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتهاقلوبكم ، ولكنها فيضة النفس ، وبثة الصدر ،
ونفثة الغيظ ، وتقدمة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر ، نقبة الخف ، باقية
العار ، موسومة بغضب الله وشنار الأبد ، موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على
الأفئدة ، فبعين الله ما تفعلون ، (
وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب
ينقلبون )
(3) وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد (
اعملوا على مكانتكم إنّا عملون
) (4) .
فاجابها أبو بكر بقوله : « يا ابنة رسول الله لقد كان ابوك بالمومنين
(1) سورة التوبة ، الآية : 13.
(2) سورة إبراهيم ، الآية : 8 .
(3) سورة الشعراء ، الآية : 227.
(4) سورة هود ، الآية : 121 ،122.
130
عطوفاً كريماً رؤوفاً رحيماً ، وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً ، فإن
عزوناه وجدناه أباك دون النساء ، وأخاً إلفك دون ألاخلّاء ، آثره على كل حميم ،
وساعده في كل أمر جسيم ، لا يحبكم إلّا كلّ سعيد ، ولايبغضكم إلّا كلّ شقي ، فأنتم
عترة رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم الطيبون ، والخيرة المنتجبون ، على
الخيرأدلتنا ، وإلى الجنة مسالكنا ، وأنت يا خيرة النساء ، وابنة خير الأنبياء ،
صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقك ، ولا مصدودة عن صدقك ،
والله صلى الله عليه وآله و سلم يقول : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة
، ولا داراً ولا عقاراً ، وإنما نورث الكتاب والحكمة ، والعلم والنبوة ، وما لنا من
طعمة فلوليِّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمة » . وقد جعلنا ما حاولته في الكراع
والسلاح يقاتل بها المسلمون ، ويجاهدون الكفار ، ويجادلون المردة الفجار ، وذلك
بإجماع من المسلمين لم أنفرد به وحدي ، ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه
حالي ومالي هي لك ، وبين يديك ، لا تزوى عنك ، ولا تدّخر دونك ، وأنت سيدة اُمة
أبيك ، والشجرة الطيبة لبنيك ، لا يدفع مالك من فضلك ، ولا يوضع من فرعك وأصلك ،
وحكمك نافذ فيما ملكت يداي ، فهل ترين أني أخالف في ذلك أباك صلى الله عليه وآله و
سلم » . فقالت الزهراء عليها السلام :
« سبحان الله ما كان أبي رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم عن كتاب الله
صادفاً ، ولا لاحكامه مخالفاً ، بل كان يتبع أثره ، ويقتفي سوره ، أفتجمعون إلى
الغدر اعتلالاً عليه بالزور ، وهذا بعد و فاته شبيه بما بغى له من الغوائل
131
في حياته ، هذا كتاب الله حكماً عدلاً وناطقاُ فضلاً ، يقول : (
يرثنى ويرث من ال يعقوب )
(1)
ويقول : (
وورث سليمن داود )
(2)
فبين عزّ وجلّ فيما وزع من الاقساط ،
وشرع من الفرلئض والميراث ، وأباح من حظ الذكران والاناث ، ما أزاح علة
المبطلين ، وأزال التظني والشبهات في الغارين ، كلا (
بل سولت
لكم انفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون
)
(3)
وقال : (
يوصيكم الله في اولد كم للذكر مثل حظ الانثيين
)
(4)
وقال: : ( ان ترك خيراً الوصيه
للولدين والاقربين بالمعروف حقاً على المتقين )
(5)
وزعمتم
أن لا حطوة لي ، ولا إراث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصكم الله باية أخرج منها
ابي صلى الله عليه وآله و سلم . أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان ، أولست أنا
وابي من أهل ملة واحدة ، أم أنتم أعلم بخصوص القران وعمومه من ابي وابن عمي ،
فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ،
والموعد القيمامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذا تندمون (
لكل نبأ مستقروسوف تعلمون
)
(6)
(
من ياتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم
)
(7)
.
ثم رنت بطرفها نحو الانصار وقالت :
يا معشر الفتية ، وأعضاد الملة ، وحضنة الاسلام ، ماهذه الغيميزة
(1) سورة مريم ، الايه : 6 .
(2) سورة النمل ، الاية : 16.
(3) سورة يوسف ، الاية :18.
(4) سورة النساء ، الاية : 11.
(5) سورة البقرة ، الاية : 180.
(6) سورة الانعام ، الاية : 67.
(7) سورة الزمر ، الاية : 40.
132
في حقي ، والسنة عن ظلامتي ، أما كان رسول الله الله صل الله عليه واليه وسلم
ابي يقول : « المرء يحفظ في ولده » سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالة ، ولكم
طاقة بما أحاول ، وقوة على ما أطلب وأزاول ، ، اتقولون مات محمد فخطب جليل ،
أستوسع وهنه ، وأستنهر فتقة ، واتفتق رتقه ، واظلمت الارض لغيبته ، واكتابت
خيرة الله لمصيبته ، وكسفت الشمس والقمر ، وانتثرت النجوم لمصيبته ، وأكدت
الامال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأريلت الحرمة عند مماته ، فتلك والله
النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى ، التي لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة ،
أعلن بها كتاب الله جلّ ثناوه في أفيتكم فى ممساكم ومصبحكم هتافاً وصراخاً
وتلاوة ، ولقبله ما حلت بانبياء الله ورسله ، حكم فصل ، وقضاء حتم (
وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افاين مات او قتل
انقلبتم على اعقبكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيرجزى الله
الشكرين )
(1)
فقال أبو بكر : « صدق الله وصدق رسوله ، وصدقت ابنته ، أنت معدنع الحمكة ،
ومطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، لا أبعد صوابك ، ولا أنكر خطابك ، هولاء
المسلمون بيني وبينك ، قلدّوني ما تقلدت ، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر
ولا مستبد ولا مستاثر ، وهم بذلك شهود » .
فالتفتت فاطمه عليه اسلام إلى الناس وقالت :
« معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل ، المغضية على الفصل القبيح الخاسر
( افلا يتدبرون القران ام على قلوب اقفالها
)
(2)
كللابل ران على قلوبكم ما أساتم من أعمالكم ، فاخذ بسمعكم وأبصاركم ،
(1) سورة ال عمران ، الاية :144.
(2) سورة محمد ، الاية : 24
.
133
لبئس ما تاولتم ، وساء ما به أشرتم ، وشر ما منه إعتضتم ، لتجدّن والله محمله
ثقيلاً ، وغبّه وبيلاً ، إذا كشف لكم الغطاء ، و بان ما وراء الضراء ، وبدا لكم
ما لم تكنوا تحتسبون ، وخسر هناك المبطلون )) .
ثم عطفت الزهراء على قبر النبي صل الله عليه واليه وسلم وأنشدّت :
|
|
قال صاحب بلاغات النساء : فما رأينا يوماً كان أكثر باكياً ولا باكية من
ذلك اليوم .
قال السيد المرتضى علم الهدى ( ت : 436ه) والشيخ الاكبر أبو جعفر محمد بن
الحسن الطوسى ( ت :460ه ) ثم انكفأت وأمير المومنين يتوقع رجوعها إليه ، ويتطلع
طلوعها عليه ، فلما استقرت بها الدار عتبت على أمير المومنين بكلام شجّي قالت
قي اخره :
« ما كففت قائلا ، ولا أغنيت طائلا ... ويلاي في كل شارق ، ويلاي في كل
غارب ، مات العمد ، ووهت العضد ، شكواي إلى أبى ، وعمدواي إلى ربي » .
فقال لها أمير المومنين عليه السلام : « لا ويل لك ، بل الويل لشانئك ،
نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة وبقية النبوة ، فما ونيت عن ديني ، ولا أخطات
مقدوري ، فان كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون ، وكفيلك مامون ، وما اعد لك أفضل
مما قطع عنك فاحتسبي ».
فقالت الزهراءعليها السلام : حسبي الله ، وأمسكت .
134
شقّت شكاية الزهراء عليها السلام عنان السماء ، وبلغت تخوم الارض ، فتزلزت
ضمائر الناس ، وتنهدت قلوب المومنين ، والزهراء غضبى فى منزلها ، تنتابها العلل
، وتفترسها الالام ، وتلح عليها الامراض ، وشاع بين المهاجرين والانصار غضبها و
إعرضها عن القوم ، وقد أظهرت هذا المعنى لنسائهم ، فنقلن كل مها ، وما تفوهت به
الى الرجال ، منكرة تقاعسهم عن نصرتها ، وقعودهم عن نجدتها فقد روى ابو بكر
أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن رجاله عن عبد الله بن الحسن عن أمه فاطمة بنت
الحسين بن على عليهما السلام ، وكذلك ابن ابي الحديد ، ذلك في « السقيفة » وهذا
في « شرح النهج » وسواهما من المورخين قالوا :
لما مرضت الزهراء عليها السلام المرض الذي توفيت فيه ، واشتدت عليها ،
اجتمعت اليها نساء المهاجرين والانصار ليعدنها ، فلسمن عليها وقلن لها : كيف
اصحبت من علتك يا بنت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فحمدت الزهراء الله
تعالى ، وصلت على ابيها ، ثم قالت : « أصحبت والله عائفة لدنياكن ، قاليةً
لرجالكن ، لفظتهم بعد أن عجمتهم ، وشناتهم بعد أن سبرتهم ، فقبحاً لغلول الحد
واللعب بعد الجد ، وقرع الصفاة ، وصدع القناة ، وخطل الاراء ، وزلل الاهمواء
ولـ ( لبئس ما قدمت لهم أنفُسُهُم ان
135
سخط الله عليهم وفى العذاب هم خالدين
)
(1) .
لا جرم والله لقد قلدتهم رقبتها ، وحملتهم أوقتها ، وشننت عليهم غارتها ،
فجدعاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين ، ويحهم أنى زعزعوها عن رواسى الرسالة ،
وقواعد النبوة والدلالة ، ومهبط الروح الامين ، والطبين بامور الدنيا والدين (
الا ذلك هو الخسران المبين ) (2)
وما الذي نقموا من ابي الحسن ؟ نقموا منه و الله نكير
سيفه ، وقلة مبالاته بحتفه ، وشدة وطاته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله
عزّ وجلّ ، وتاالله لو مالوا عن المحجة اللائحة ، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة
، لردهّم إليها حملهم عليها و تالله لو تكافوا عن زمام نبذه اليه رسول الله صلى
عليه و اله و سلم ، لا عتقلهم ، ولسار بهم سيراً سجحاً ، لا يكلم خشاشه ، و
لايكلّ سائره ، ولا يملّ راكبه ، ولا وردهم منهلاً صافياً روياً فضفاضاً ،
تطفح ضفتاه ، ولا يترنق
جانباه ، ولا صدرهم بطاناً ، ونصح لهم سراً وإعلاناً ، ولم يكن يتحلى من الغنى
بطائل ، ولا يحضى من الدنيا بنائل ، غير ري الناهل شبعة الكافل، ولبان لهم
الزاهد من الراغب ، والصادق من الكاذب ( ولو ان اهل القرى
ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركت من السماء والارض ولكن كذبوا فاخذنهم بما
كانوا يكسبون )
(3) . (
والذين ظلموا من
هولاء سيصيبهم سيات ما كسبوا وما هم بمعجزين
)
(4) . الا هلم
فاستمع ، وما عشت اراك الدهر عجباً (
وان تعجب
(1) سورة المائدة ، الاية : 80.
(2) سورة الزمر ، الاية : 15. ,
(3) سورة الاعراف ، الاية : 96.
(4) سورة الزمر ، الاية : 51.
136
فعجب قولهم
)
(1)
ليت شعري الى اي لجا لجاوا
، والى اي سناد استندوا ، وعلى اي عماد اعتمدوا ، وباي عروة تمسكوا ، وعلى اي
ذرية قدموا واحتنكموا.
(
لبئس المولى ولبئس العشير
)
(2)
(
بئس للظلمين بدلا
)
(3) .
استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم
يحسبون انهم يحسبون صنعاً (
الا انهم هم المفسدون ولكان لا
يشعرون
)
(4).
ويحهم (
افمن يهدى الى الحق احق ان يتبع امن لا يهدى الا
ان يهدى فما لكم كيف تحكمون
)
(5) .
اما لعمري لقد لقحت ، فنظرة ريثما تنتج ، ثم احتلبوا ملء القعب دماً
عبيطاً ، ذعافاً مبيداً ، واطمئنوا للفتنة جاشاً ، ابشروا بسيف صارم ، وسطوة
معتد غاشم ، وبهرج دائم شامل ، واستبداد من الظالمين ، يدع فياكم زهيداً ،
وجمعكم حصيداً ، فيا حسرة لكم ، واني بكم ، وقد عميت عليكم (
انلزمكموها وانتم لها كرهون
).
(6)
قال سويد بن غفلة : فاعادت النساء قولها على رجالهن ، فجاء اليها قوم من
لمهاجرين والانصار معتذرين ، وقالوا : يا سيدة النساء لو كان ابو الحسن ذكر لنا
هذا الامر من قبل ان يبرم العهد ، ويحكم
(1) سورة الرعد ، الاية : 5 .
(2) سورة الحج ، الاية 13 .
(3) سورة الكهف ، الاية : 50.
(4) سورة البقرة ، الاية : 12.
(5) سورة يونس ، الاية : 35 .
(6) سورة هود ، الاية : 28.
137
العقد ، لما عندلنا عنه الي عيره .
فقالت الزهراء : اليكم عني ، فلا عذر بعد تعذيركم ، ولا امر بعد تقصيركم .
وواضح ان الزهراء في هذه الخطبة لم تتطرق لحقوقها المالية ، وانما عرضت
جهاراً الى القضية الكبرى ، وهي خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، واحتجب
لها بامور او جزتها على النجو الاتي :
1 ـ تعنيفها للمهاجرين والانصار على ما اقدموا عليه من استبعاد على عن
الخلافة ، وهو ركن من اركان الرسالة ، والوريث الشرعي لقواعد النبوة ، والواعي
بعقله وبصيرته اسرار الواحي ، والخبير الفطن الحاذق بامور الدنيا والدين .
2 ـ او عزف هذا الاستبعاد للامام عليه السلام لما نقموا من الامام ، فسيفه
يقطر من دماء الطواغيت ، واقدامه يزري بالمترددين ، فهو لا يبالي بحتفه اوقع
على الموت ام وقع الموت عليه ، لانه شديد الولطاة على المشركين ، ينكل بهم ،
متمزاً في ذات الله لا يخشي في ذلك لومة لائم ، مستقيماً لا ينحرف ، ومعهتدلاً
لا يتاود.
3 ـ اوضحت الزهراء الخصائص القيادية التي توْهل الامام علي لقيادة الامة ،
فلو مال المسلمون عن الجادة ، وزالوا عن قبول الحخة ، لردهم اليها وحملهم عليها
، ولسار بهم سيرة رسول الله في الصغيرة والكبيرة ، فهو ممسك بزمام الامرفي
ضوءهدي الرسول وتعليماته .
4 ـ استظهرت الزهراء في هذا الاحتجاج ، وهذه المقارنة ، سيرة الامام لو
قدر له ان يتسلم السلطان ، فسيره باسجاح واسماح ومرونة دون شدّة ولا اضطراب ،
حتي يستهوي المسلمين بهداه ، فيواصلون
138
المسيرة امنين مطمئنين حتي الغاية القصوى ، فيوردهم بذالك النمير الصافي الروي
الفضفاض الغزير المتطامن الذي تطفح ضفتاه فتبعد القذى والشوائب ، فيعود مصدراً
نقياً ، ومورداً عذباً ، لا رنق فيه ولا غصة ، فيصدر المسلمون بطاناً ، وتفتح
لهم السماء بركاتها .
5 ـ وعطفت الزهراء باستظهار الخصائص النفسية ، والطبيعة السلوكية للامام
علي ، فهو ينصح للمسلمين في السر والعلن ، وهو يواسيهم في المكاره والمحن ، فلا
يحتجن لنفسه مالاً ، ولا يحتجز دونهم طائلاً ، زاهداً لا يحظى من الدينا بنائل
، إلا ما يفتات به لتقويم أوده ، وإقامة صلبه ، فعيشه الكفاف ، وحياته القناعة
، وبذلك يتميز عن الراغبين في الحكم لذاته ، والحائدين عن الصدق في إدارة دفة
الحكم .
6 ـ انحت الزهراءء باللائمة على قريش في ابتزازها أمر الخلافة دون
الالتجاء الي ركن وثيق ، أو التعلق بحبل متين ، فلا سناد ولا عماد سوى الاثرة
والاستئثار فاقد موا على ال الرسول واحتنكوا ضدهم ظالمين لهم ، وهم بذلك
يستبدلون الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطسهم إذ يحسبون أنهم
يحسنون صنعاً إلا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، فالحق احق ان يتبعّ .
7 ـ ولخصت الزهراء عليها السلام ما ينتظر للامة من الفتن ، وسفك الدماء ،
واستيلاء الفوضى ، فلا الحقوق مصونة ، ولا الحرمات بذمة ، ولا الاحكام عادلة ،
وانما هو السيف الصارم ، والسطوة للمعتدي الغاشم ، والهرج الدائم المستمر ،
واستبداد الظالمين ، فالفيء زهيد ، والجمع حصيد ، حيث لا تنفع الحسرة ، وقد
عميت عليهم من كل الجهات .
وكان لهذه الخطبة على وجازتها اثر أي في استنجاد الهمم ،
139
واستثارة العواطف ، وقد وضعت الزهراء فيها النقاط على الحروف ، فلم تكن
اعتباطية المنشا ، ولا عاطفية المصدر ، ولكنها الحجاج الصارخ في لغة القوم و
لقد عز على ابى بكر و عمر هذا المنجى و ساءتهم هذه المقالة فارادا امتصاص
النقمة عسى ان تعود المياه الى مجاريها كما يقال ، فتشاورا فيما بينهما ، فقرّ
الراي ان ينطلقا الى الزهراء عسى أن تغضي شيئاً ما ، إن لم ترضَ كل الرضا ،
فسارا إلى بيتها ، وإستأذنا على فاطمة ، فأبت وردّهما ثم استأذنا عليها فأبت
وردتهما ، فما كان منهما إلا أن ذهبا إلى علي عليه السلام يستعطفانه في الإذن
لهما ، فأعطاهما ذلك ، وهو المعروف بحيائه ورقتّه وصفائه ومروئته ، فقد أبت
مكوناته النفسية أن يردّهما أو يرفضهما ، وفاوض الزهراء بذلك وعرض عليها الأمر
، فقالت : البيتُ بيتك ، والحرة زوجتك ، فطارا فرحاً بهذا الإذن ، ودخلا على
الزهراء فسلما فلم تجب ، وقعدا أمامها في ذلة وخضوع ، فحولت بوجهها عنهما إلى
الحائط ، وألحّا في الكلام ، وألّحت بالسكوت ، وحرصا على السؤال ، فحرصت على
عدم الإجابة ، وأعاد أبو بكر حديث الإرض وسهم ذوي القربى وفدك ، فأعرضت عن
الخوض في ذلك ، وأضربت عنه صفحاً ، فهي أكبر من المال ، وأوسع قلباً من الأرض ،
فقد هُدرت كرامتها ، وجُرحت كبرياؤها ، وأستهين بقدرها ، وهي وديعة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض ، وألحف الشيخان في أن تكلمهما إلحافاً ،
وأصرا في ذلك إصراراً ، فقالت لهما ، بعيداً عن المناخ الذي كانا فيه :
« أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
تعرفانه وتعملان به ، فأجابها الشيخان نعم . قالت : نشدتكما الله ... ألم تسمعا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من
سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد
140
أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني » .
قالا : قد سمعناه من رسول الله .
فرفعت كفيها إلى السماء وقالت :
« فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت
رسول الله لأشكوكما إليه » .
فوقع كلامها منهما وقوع الصاعقة ، وقاما يتعثران بأذيال الخيبة ، وعلما
مدى غضب الزهراء ، وأجهش أبو بكر بالبكاء وكان رقيق القلب ، وأنّبه عمر على هذه
الرقة ، وزاد همّ أبي بكر وحزنه ، وتلاشى أمله ورجاؤه ، وطفق إلى المسلمين
ملتمساً أن يقيلوه من خلافتهم ، وكان التماسه هذا بعد فوات الأوان .
وما برحت الزهراء عليها السلام طريحة فراش ، وضجيعة متكأ ، تنتابها برحاء
المرض ، وتودي بزهرة شبابها لوعة الأسى ، وتخنق أنفاسها مرارة الألم ، حتى قرب
أجلها ، ودنا رحيلها ، وهي معصبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، يخشى
عليها ساعة بعد ساعة ، ولم يطل بها المقام بعد أبيها إلا ستة أشهر في أكثر
الروايات مدة ، وأطولها زمناً.
ثم استدعت علياً ، وأوصته بوصاياها الخاصة والعامة ، وقالت : « إني أنشدك
الله ألا يصليا على جنازتي ، ولا يقوما على قبري ، وأدفني بالليل ، ولا تعلم
أحداً » .
وكان هذا إمعاناً في النكير على القوم ، وإظهاراً للغضب والنقمة يؤكد ذلك
أيضاً البند الثالث من وصيتها الخطبة لأمير المؤمنين عليه السلام :
« أن لا يشهد أحداً جنازتها ، ممن كانت غاضبة عليهم ، وأن لا
141
يصلي عليها أحد منهم ، وأن يدفنها ليلاً ، إذا هدأت العيون ، ونامت
الأبصار ، وأن يعفي قبرها » .
وتوفيت الزهراء غروباً ، فضجت المدينة ضجة واحدة ، واجتمع الناس إلى
عليّ عليه السلام يريدون تشييعها ودفنها ، فخرج إليهم سلمان وقال : إن ابنة
رسول الله قد أخر إخراجها هذه العشية . ولما انصرف القوم غسّلها عليّ عليه
السلام ، وحنطها بفاضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلى عليها
، وأخرجها بعد هزيع من الليل ، ودفنها ليلاً سراً ، وعفّى قبرها .
واختلف في موضع قبرها ؛ فقيل في البقيع ، وقيل في الروضة بين قبر رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنبره ، وقيل إلى جنب رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أو في القرب منه وهو الأقرب في أكبر الظن ، لأن عليا عمّى
موضع القبر ، وصنع في البقيع عدة قبور للتغطية ، فأشكل عليهم موضع القبر
وموقعه ، وهو نفسه يشير إلى أنها في جوار أبيها كما سيأتي .
ووقف عليّ عليه السلام على قبر الزهراء عليها السلام ، وهو يرمقه
بطرفه ، ويحول وجهه إلى جهة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول ،
وهو يغصّ بالشجا ، والدموع تترقرق بين عينيه ، والحسن والحسين بين يديه :
« السلام عليك يا رسول الله ، عني وعن ابنتك النازلة في جوارك ،
والمختار الله لها سرعة اللحاق بك ؛ قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ، ورقّ
عنها تجلدي ، إلا أن في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع تعزّ ،
فلقد وسدتك في ملحود قبرك ، وفاضت بيين نحري وصدري نفسك ، بلى وفي كتاب
الله لي نعم القبول ، إنا لله وإنا إليه راجعون . قد أسترجعت الوديعة ،
وأخذت الرهينة ، واختلت الزهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله
، أما حزني فسرمد ،
142
وأما ليلي فمسهّد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ...
وستنبئك إبنتك بتضافر أمتك على هضمها ، فاحفها السؤال ، واستخبرها الحال ،
فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثّه سبيلاً ، وستقول ويحكم الله ،
والله خير الحاكمين . والسلام عليكما سلام مودّع لا قالٍ ولا سئم ، فإن
انصرف فلا عن ملالة ، وإن اقم عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين ... فبعين
الله تدفن ابنتك سراً ، ويهضم حقها ، وتمنع إرثها ، ولم يطل العهد ، ولم
يخلق منك الذكر ، إلى الله يا رسول الله المشتكى ، وفيك يا رسول الله أحسن
الغراء ، صلى الله عليك ، وعليك وعليها السلام والرضوان » .
قال الحاكم في المستدرك لما ماتت فاطمة قال علي بن أبي طالب :
|
|
وعاد عليّ عليه السلام إلى منزله يتجرع ألم فراق الزهراء ، ويعاني من
ضروب الوحشة ما شاء أن يعاني ، فقد كانت الزهراء سلوته بعد رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وليس رسول الله مما يسلى عنه ، وعطف إليه ولديه الحسن
والحسين ، وثلة صغيرة من بني هاشم والأنصار ، ونظر في الأفق البعيد ، فرأى
الأجدر به أن يبايع القوم ، فلقد قلّ ناصره بعد الزهراء ، وقد لاحت إمارات
الأرتداد في الأفق ، وعليّ أولى الناس بالغيرة على جوهر الإيمان ، وهو أكثر
الناس رفقاً ، وأمسهم رحماً بوشائج الناس ، وهو قد أبلغ في الإعذار إلى ربه
وإلى المسلمين وإلى نفسه في كشف ظلامته ، وتناهت أخبار هذا العزم إلى أبي
بكر ( رض ) فقصده إلى داره ، وأقبل مهرولاً إليه ، فاستقبله عليّ استقبال
الصديق ، وهش إليه أبو بكر ، وكأن
143
شيئاً لم يكن ، فعليّ حريص كل الحرص على مظاهر الكمال والأدب واللياقة ،
وهو أزهد الناس بالأثرة والنفع الخاص ، وهو أبعد الناس عن زبارج الدنيا
وزخارف الحياة ، وما عليه إلاّ أن يري القوم آداب الإسلام ، وملامح العرفان
، ونقاء السريرة ، فالتفت إلى أبي بكر ، وقال : « إنه لم يمنعنا من أن
نبايعك نفاسة عليك ، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً ، فاستبددتم
به علينا » .
وحتى في هذا الموقف الدقيق الذي شرح فيه صدره للألفة ، وفتح قلبه
ليتناسى الماضي القريب ، أكد حقّه في الأمر ، وأبان وجهة نظره في إيجاز
واقتضاب .
ومهما يكن من أمر فقد دخل في بيعة الرجل ، ودخل معه من امتنع عن ذلك ،
وكان هذا أول الهدوء الذي دخل على أبي بكر ، وأول العزوف لعلي عن قيادة
الحكم ، وكان عليّ من خلال هذا وذاك عيبة نصح ، وخزانة أمانة ، وكنز معرفة
، يُسأل فيجيب ، ويُستشار فيشير ، ويُؤتمن فيوّفي كلما حزب بالمسلمين أمر ،
وكلما فجأهم حدث ، وكلما تعثرت الخلافة في مسيرتها ، ولم يكن ذلك جديداً
على عليّ عليه السلام ، فهو أول متخرج في مدرسة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وهو أول منظّر لها علمياً وعملياً ، وهو بعد وفيّ كل الوفاء
لمبادئ هذه المدرسة روحاً وإنسانية ، وهو حدب على إعلاء كلمتها وإبقاء
عطائها ، وانتشار مناهجها ، حتى ولو كان ذلك على حسابه الخاص .
يالها من بصيرة نافذة ، ونية صادقة ، جعلته في مصاف الخالدين .
144
عصفت أعاصير الثورة المضادّة للإسلام عند بيعة أبي بكر ( رض ) وهبت
رياح الردّة والإنتكاس لدى تسلمه السلطة ، فكان المرتّدون يغشون أطراف
الجزيرة العربية بعامة ، ويحتلون غربيها وجنوبيها بخاصة .
وكان مصطلح الإرتداد ، يعني جماعة المتنبئين الكذبة من جهة ، ويشير
إلى الممتنعين عن أداء الزكاة من جهة أخرى ، فكان الأسّود العنسي ، وطليحة
الأسدي ، ومسيلمة الكذاب يدعّون النبوّة زوراً وبهتاناً ، وكان بنو حنيفة
وطوائف من العرب يمتنعون عن دفع الزكاة . وكان الملحظ الأخير متأطراً
بثلاثة مظاهر :
الأول : إلغاء فرض الزكاة فلا تدفع باعتبارها
أثاوة لا تعرفها العرب .
الثاني : التوقف من دفع الزكاة حتى يتجلى أمر
القائمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : دفع الزكاة ولكن لغير الخليفة الرسمي
، فهي موقوفة كما تشير إليه بعض النصوص ، حتى قال قائلهم : أين الذي بخبختم
له في الغدير ، ومعنى هذا احتجاز الزكاة وتسليمها إلى الإمام علي عليه
السلام .
وكان ادعاء النبوة حيناً ، ومنع الزكاة حيناً آخر ، يشكّلان خطراً لا
145
على البيعة فحسب بل على الإسلام والنظام الجديد كله .
وكان على أبي بكر وقيادته التهيؤ لذلك في مجابهة جدّية لا هوادة معها
، وإعداد القوة الكافية لهذا الخرق الكبير ، فيظمّت البعوث ، وسيرّت الجيوش
، وتناخى المسلمون لذلك ، وقامت المعارك على قدم وساق ، كان فيها النصر
المحتم للإسلام دون شك .
وكان لا بد أن تحصل جملة من التجاوزات لطيش القادة ، وفتك المتسلطين ،
كما حصل هذا المعنى لخالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة وعشيرته الأقربين
، دون مسوّغ شرعي ، فهم مسلمون صالحون ما بدلوا ولا غيروا ، مما أغضب عمر
بن الخطاب غضباً شديداً ، وهم بخالد ومعاقبته ، ولكنه جوبه بعفو أبي بكر
وصفحه .
وكان على علي عليه السلام ، وهو القائد المجرب والإمام المحنّك ، أن
ينظر لما حوله من الأحداث الجديدة بعين اليقظة والحذر ، وأن يتدارك من
الخطر ما عسى أن يحصل ، وهذا وذاك يقتضيان منه التريث في شأن حقوقه في
قيادة الأمة ، فالإسلام الآن في محنة حقيقية ، والدعوات الضالة تريد
إقتلاعه من الجذور ، فتجاوز عن كثير من الإساءات الأساسية التي وجهت إليه ،
ونصح للإسلام بكل ما يستطيع ، إبقاءً للشهادة ، وتحوطاً للمسلمين ، وحرصاً
على وحدة الكلمة .
كان على علي عليه السلام الانشغال بالأهم عن المهم ، والإلتفات إلى
الحق العام دون حقه الخاص ، وهذا شأن الصديقين ودعاة الحق ، وهكذا كان ، إذ
أن ما حدث للعرب من الإرتداد ، وما صاحب بعضهم من منع الزكاة ، حريّ بأن
يجر على الإسلام من الوهن والضعف ، والله أعلم بحقيقته لو ترك دون مجابهة .
146
فما أراد عليّ بنفسيته المتألقة النقض والإبرام ، ولا حاول الأخذ
والردّ ، وإنما أبقى الأمور على طبيعتها ، وترك السياسة على سجيتها ،
ناصحاً حيناً ، وموجهاً حيناً آخر . وما يدرينا فلعله رمق الأفق ، وتطلع
إلى ما فيه من تناقض ، وأدرك ما عليه الناس من الفوضى ، وما تهيأه الأقدار
من الظروف الشاقة على الإسلام ، وما تفرزه النفوس القلقة من الأحقاد ،
فألقى حبلها على غاربها في حدود أحقيّته بالأمر ، وإضطلاعه بالمسؤولية ، إذ
لا يطاع لقصير أمر ، وقد سبق السيف العذل كما يقال .
وما علمنا مشاركة علي عليه السلام في هذه الأحداث الجسام قائداً أو
محارباً ، إما اعتزالاً لها ، أو منعاً من التحرك باتجاهها كما هو الظاهر ،
فقد كان هو وأمثاله من عليّة المهاجرين قد ضرب النطاق حولهم في عدم الغزو
أو السفر أو الإرتياد ، فعليهم أن يحيط بهم سور المدينة وحده ، لا يختلفون
إلى الناس ، ولا يختلف الناس إليهم ، فقد كفاهم من الجهاد ما جاهدوا بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
كانت هذه سياسة القوم ، وكان على عليّ عليه السلام أن ينفذها راغباً
أو راهباً .
وقد قسم عليّ حياته على أنحاء في إدارة شؤون آخرته ودنياه :
1 ـ التفرغ لجمع القرآن تنزيلاً وتأويلاً .
2 ـ الدعوة إلى الإسلام من خلال بيان تعليماته ، ونشر أحكامه .
3 ـ الخروج إلى ينبع وأطراف المدينة للمزارعة والمساقاة .
4 ـ التواري عن المناخ القيادي ، فهو أحد الناس له ما لهم وعليه ما
عليهم .
147
لم يتجاوز عليّ عليه السلام هذه المحاور في أكبر الظن ، وما كان
ليتجاوزها ولا أن يخرج عنها وهو الناقد البصير ، إذ وجد نفسه محاطاً
بالعيون والأرصاد خشية كرّته في المطالبة بالأمر .
وما كان لعلي عليه السلام وهو الزاهد المجاهد أن يقوم بحركة ما يكون
ضحيتها الإسلام في كيانه واستقراره ، ويكون وقودها الخيرة الصالحة من
أتباعه ومؤيديه ، بل ذهب إلى ما هو خليق به في صيانة الإسلام ، والإبقاء
على أعيان الصحابة من الإستئصال والفناء ، ولم يمنعه هذا من شرح قضيته ،
وإعلان مظلوميته بالوسائل السلمية ، إيذاناً بالحق لا رغبة في متاع أو
سلطان ، وترجماناً لمعالم الطريق في الهداية والتبصر لا حباً للمعارضة
والتذمر .
ولم تكن تخفى هذه الحقائق على أعلام المهاجرين وأعيان الأنصار ، ولم
يكن بمنأى عن ادراكها الحزب الحاكم بأقطابه الثلاثة ، فوقف بعضهم منه موقف
المنتظر الراصد ، ووقف بعضهم الآخر موقف المترصد الرقيب ، وسلم من بين هذين
الرجل الذي إستحب تولية المستضعفين في الأرض ، وتهيأة رائدي عدالة السماء
في الأرض ، وإنعاش أصحاب الحقوق الضائعة في الأرض ، ليقيم حقاً ، ويدحض
باطلاً ليس غير ، وسدر عنه من سار بركاب الحكم لا يلوي على شيء من تلك
الموازين .
كانت شخصية أمير المؤمنين تتجلى كلمّا أدلهمّ الخطب ، ونفسيته تتألق
كلما ازداد النكر والغدر ، وعقليته تتفوق كلما هبطت المطامع بالعقول ، فبدا
مناراً شامخاً لا تهزّه العواصف ، وكوكباً هادياً لا تحجبه الأستار ، يتمتع
بالهيبة من العدو والصديق ، ويتجلبب بالعزّة لدى القريب والبعيد ، يُلتجأ
إليه في الشدائد فيشق غمارها بثاقب رأيه ،
148
ويلتمس عند المحن فيكشف ظلمتها بحديد نظره ، مرتفعاً بمستواه القيادي عن
صغائر الأمور ، متواضعاً في نفسه عند مواضع الزهو والفخر ، تحسبه مطمئناً
وهو يضطرب تحرقاً على الإسلام ، وتخاله مضطرباً وهو أثبت من الجبال الرواسي
، لم يألف الدنيا ولم تألفه الدنيا ، كان وكده كلمة التوحيد ، وكان شغله
توحيد الكلمة ، وإن ظل جليس بيته حيناً ، ورهين مزرعته حيناً آخر .
وكانت ضخامة تضحيته في هذا الملحظ تتناسب وضخامة الأحداث ، فما كان
المسلمون لينشغلوا بمنحى الردّة ، وحروب الردّة ، ونتائج الردّة ، وينشغل
عليّ بطلب الحكم وإيثار السلطان ، فقد نشأت نفسه وترعرت في نصرة دين الله ،
وقد صحت عزيمته وقويت شكيمته في الذود عن دين الله ، فليتناس عليّ حقه إذن
ولو إلى حين ، وليضرب صفحاً عن هذا الحق المضيع فقد أباه قومه عليه دون
مسوغ واع ، ولكنه نكير سيفه على المشركين ، وشدة وقعته على قريش ، وقد
تألبت القلوب عليه ، ولا سبيل إلى صفائها ، وقد كرهت القبائل صولته وجولته
في صدر الإسلام ، ولا أمل في التحبب إلى نفوسها ، وذو الفقار يقطر من دماء
فتيانهم في بدر وأحد ، ورؤوس أبطالهم تندر بسيف علي في المشاهد كلها .
هذا هو السبب الحقيقي الأول في الإغماض عنه ، والتنكر له ، وتر القلوب
، وأوغر النفوس ، والجاهلية هي هي في أحقادها ، وأنى تنزع هذه الأحقاد ،
وتنسى تلكم الأوغار ، وعليّ هو هو في صلابته ، وذلك السيف بيده ، وإن عادوا
عاد .
وناحية ثانية ليست أقل أهمية من الأولى ، كونه امتداداً لنبوة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجدوا من محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا
النضال المستمر ، والحمل
149
على الطريق المستقيم ، وهذه الدنيا تلقي بزهرتها في أحضانهم ، وتزجر
بنعيمها بين ظهرانيهم ، فليس لهم إذن مع علي إلا النضال نفسه ، والزهد نفسه
، والحمل على الجادّة نفسها ، والنفوس أميل إلى الترف والبذخ والدعة منها
إلى القصد والاعتدال والمجاهدة .
وظاهرة ثالثة توازي ما تقدم إلا وهي حب الرئاسة والإنفراد بالأمر
والإستيلاء على السلطة ، وتلك طبيعة قريش في أُرستقراطيتها ، وذلك منهجها
في إثرتها ، وعليّ في مقتبل العمر وعنفوان الشباب ، وعسى أن تطول مدته
ويتمهل الزمن ، وإذا حدث ذلك فقد رسخ حكمه ، واستقر نظامه ، ولا أمل في
العودة إلى الوراء .
كل أولئك وسواء كان وراء إقصائه عن المرجعية في الدين .
فإذا أضفنا إلى ذلك قرب العهد بالجاهلية ، وضعف الوازع الديني ،
وإنشقاق الأنصار فيما بينهم ، وإشفاق المهاجرين من ضياع الفرصة ، وقد فجأ
الإسلام حدث الشقاق ، ودهم المسلمين خطر الإرتداد ، وجدنا الأمثل بأمير
المؤمنين أن يسلّم للأمر الواقع راضياً وساخطاً ، راضياً بقدر الله وقضائه
، ساخطاً على تجاهل قدره وهوان منزلته ، ولكن هذا وذاك لم يمنعه من
الإعتداد بنفسه إعتداداً شامخاً ، ولم يبخل من أجله بتسخير مواهبه ومعارفه
، فنصب ذاته علماً للدين ، فما استطاعوا أن يصرفوا الأنظار عنه ، فكانت
معضلات المسائل وأمهات المشاكل تنتظر حلوله الدقيقة ، حتى قال أبو بكر في
أكثر من موضع :
« بأبي يا أبا الحسن يا فرّاج الكروب ومزيل الهم » .
ولم تمنعه عزلته الظاهرية عن إقامة السنن وإبانة الفروض ، فكان
150
الشاخص لذلك ساء ولاة الأمر أم لم يُساؤوا ، بل وقد يذهبون إليه يلتمسون
عنده المخرج فيما لا يجدون فيه مخرجاً ، وقد يلجؤون إليه أيضاً في بيان
أحكام القرآن ، وكشف غوامض التنزيل ، وما أكثر ما حدث ذلك ، وكان إلى جانب
هذا معنياً بجمع القرآن مرتباً حسب نزوله ، ومفسراً له حق تفسيره ، مشيراً
إلى عامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، ومفصله ومجمله ، ومبينه ومبهمه ، ومحكمه
ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وعزائمه ورخصه ، وعبره وأمثاله ، وسننه وآدابه
، حتى أملى ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن ، وكان أول من عني بذلك ،
فإليه يرجع علم التفسير ، ومنه انطلقت علوم القرآن ، وبه قامت سنن الكتاب .
وكان هذا الاتجاه مما تمليه عليه مصلحة الإسلام ، ومما يقتضيه تسيير العلم
.
وكان القضاء والإفتاء من الظواهر الكبرى التي اختص بها في عهد الشيخين
، فكم من مبهمة قد أبانها ، وكم من معضلة قد حللها ، وكم من مسألة كان
إستنباطه فيها هو القول الفصل .
ولم يغب عن بال جملة من المسلمين قول الرسول : « أقضاكم علي » فكان
يوكل إليه القضاء فيما لا بد منه ، وفي القضاء والإفتاء فرض عليّ وجوده
العلمي رغم الضباب الكثيف المهيأ لحجب مسيرته العلمية أيضاً ، وكتب التأريخ
والأحاديث والصحاح مليئة بجزء كبير من هذا الملحظ في حياته أيام الشيخين ،
حتى قال عمر محذراً ومعلناً بوقت واحد : « لا يفتينّ أحدُكم في المسجد
وعليٌّ حاضر » .
وانتشر فقه عليّ في الحلال والحرام ، وبرز في الفروض والميراث ، وتميز
بالحدود والديات ، وهناك مئات الجزئيات لهذا الملاك متناثرة في آثار السنن والحديث ، تكشف ، عن مقدرة الرجل الفقهية مما أجمع
عليه أهل الإسلام ، لم يشاركه أحد في ذلك ، فكانوا عيالاً عليه ، وتبعاً له ، فيما
استجد من مسائل ، وفيما درس من أحكام ، وفيما احتاجوا إليه من علم.