(10)
المسلمون ينقمون على عثمان ... والأمصار تتجمع
ورأى المسلمون أن عثمان قد عطل حداً من حدود الله عند ما لم يقتص من
عبيد الله بن عمر بن الخطاب للهرمزان ، وكان قد أسلم وقتله بأبيه فيما زعم
، ورأوه وقد حمى الحمى لإبل بني أمية ، ورأوه يستخلف أبناء الطلقاء
الإمارات الضخمة ، ورأوه يسرف على نفسه وعلى أسرته من بيت المال ، ورأوه
يشرّد من يشاء ويبعد من يشاء من صحابة الرسول ، ورأوه غيّر سنة الله في
كثير من المواطن ، فقد أقبل السعاة بإبل للصدقة فوهبها عثمان لبعض أبناء
الحكم بن العاص ، فسمع عبد الرحمن بن عوف بذلك فاسترّدها وقسمّها بين
المسلمين ، فكان أول من اجترأ على عثمان ، وتلقى الأمر عثمان واجماً كاظماً
غيظه لا يدري ما يفعل .
كان المسلمون يرون هذا كله ، فتزداد النقمة ، ويستولي الغضب ، ويتعالى
الإحتجاج ، وعثمان ساهٍ لاهٍ لا يستجيب لأحد ، ولا يغيّر ما يجب تغييره ،
نعم استجاب لأبناء عمومته فألقى الحبل على الغارب ، وفي ذلك إصرار على
التجاوز ، وإستهانة بأقدار الناس .
وكان الطامعون في الخلافة يباركون هذا المنحنى في سرائرهم ، وينكرونه
في علانيتهم ، وكلٌ يجرّ النار إلى قرصه .
211
وكان في طليعة هؤلاء طلحة والزبير فهما أشد الناس على عثمان ما في ذلك شك ؛ حتى قال
عثمان في طلحة : ويلي على ابن الحضرمية لقد أعطيته كذا وكذا ذهباً ، وهو اليوم يروم
دمي ، اللهم لا تمتعه بذلك . وأستتر طلحة بثوب صفيق عن أعين الناس حينما اشتد
الحصار بعثمان ، وأخذ يرمي السهام على دار عثمان ، وحينما وقف الحسن والحسين عليهما
السلام في باب الدار يمنعون الثوار عن عثمان ، ويحولون بينهم وبين دخول الدار عليه
، أخذ طلحة المهاجمين إلى دار بعض الأنصار فأصعدهم سطحها ، وتسوروا الدار على عثمان
وقتلوه .
وكان الزبير يحرض على قتل عثمان مجاهراً فيقول : اقتلوا عثمان فقد بدل سنتكم ،
فقيل له : إن ابنك يحامي عنه بالباب ، فقال : ما أكره أن يقتل عثمان ولو بُدئ بابني
؛ إن عثمان لجيفة على الصراط غداً . ولقد مهد الشيخان ـ طلحة والزبير ـ لقتل عثمان
في كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة ، حتى أسقطا هيبة الخليفة ، فلقد استولى طلحة
على بيت المال ، وعمل له مفاتيح وأمسك بها ، واشتد الناس على عثمان ، فذهب علىٌّ
عليه السلام فكسر باب البيت المالي ، ووزع المال على المسلمين ، فتفرق كثير منهم عن
شأن عثمان ، وبلغ ذلك عثمان فسّر به كثيراً .
وكان الزبير يمشي بين الناس في التأليب على عثمان ، ويأمر بقتله وهو أحد رجال
الشورى ، فيستمع منه هذا ، ويستجيب له ذاك ، حتى أدرك ما يريد .
وكانت عائشة أم المؤمنين تمتلك قلوب الناس وعواطفهم ، وتروي لهم وتحدثهم ،
وتجتمع إليهم فتألبهم ، وهم يسمعون منها ويستمعون إليها ، ويثقون بها ، ويعتمدون
عليها ، فهي زوج رسول الله
212
وهي ابنة خليفتهم الأول ، وكانت تقول محرضة على عثمان : اقتلوا نعثلاً فقد كفر .
ونعثل هذا أحد يهود المدينة ، وقد كان مفسداً فاستعارت اسمه لعثمان .
وحينما اشتد الحصار على عثمان ، وعلمت مصيره تهيأت للخروج إلى الحج ، فأسفر
عثمان لها مروان وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فقالا لها : لو أقمت فلعل الله يدفع
بك عن هذا الرجل ، فقالت لهما : قد قرنت ، وأوجبت عليّ الحج ، والله لا أفعل ، فقام
عنها مروان وصاحبه ، ومروان ينشد :
وحرَّقَ قيسٌ عليَّ البلادَ |
فلمَّا أن أضطَرمَت أَحجمَا |
ثم قالت عائشة : يا مروان إني في شك من صاحبك ، والله لوددت أنه في غرائري هذه
وأني أطيق حمله حتى ألقيه في البحر .
والتقت عائشة بعبد الله بن عباس فقالت : يا ابن عباس إياك أن ترّد عن هذا
الطاغية وأن تشكك الناس في أمره ، فقد بانت لهم مصائرهم ، وتحلبّوا من البلدان لأمر
قد حمّ .
وعبد الرحمن بن عوف رئيس مجلس الشورى الذي صفق على يد عثمان وبايعه نيابة عن
المسلمين ، يقاطع عثمان ، ويغضب عليه ، ولا يكلمه حتى الموت ، وينكر عليه ما أنكر
المسلمون ، ويتزايد على ذلك شدة وصرامة ، وقد وضحت الرؤية لديه في عثمان ، فيأتي
إلى الإمام علي حاملاً سيفه ، وهو يقول :
هلم يا علي أحمل سيفك لنجاهد عثمان فلا يلتفت إليه عليّ .
قال الطبري : كان عمرو بن العاص ممن يحرض على عثمان ويغري به ، ولقد خطب عثمان
يوماً في أواخر خلافته ، فصاح به
213
عمرو بن العاص : اتق الله يا عثمان ، فإنك قد ركبت أموراً وركبناها معك ، فتب إلى
الله نتب ؛ فناداه عثمان : وإنك ها هنا يا ابن النابغة ، قملَت والله جبتك منذ
نزعتُكَ عن العمل .
ولم يكن عمرو بن العاص صاحب دين ، ولا رجل ورع وتقوى ، ولكنه ذو مآراب واطماع
ورجل فتنة ، وقد أورد أبو جعفر الطبري ما يؤيد ذلك ؛ قال :
كان عمرو بن العاص شديد التحريض والتأليب على عثمان ، وكان يقول : والله إن
كنت لإلقى الراعي فأحرضه على عثمان ، فضلاً عن الرؤساء والوجوه . فلما سُعّر الشر
بالمدينة خرج إلى منزله بفلسطين ، فبينا هو بقصره ومعه ابناه : عبد الله ومحمد ، إذ
مر بهم راكب من المدينة فسألوه عن عثمان ، فقال محصور ، فقال ابن العاص : أنا أبو
عبد الله : قد يضرط العير والمكواة في النار ، ثم مر بهم راكب آخر ، فسألوه عن
عثمان ، فقال : قتل عثمان ، فقال ابن العاص : أنا أبو عبد الله ، إذا نكأتُ قرحةً
أدميتها .
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار بمشهد وبمسمع
من الأحداث ، فلم تمتد لعثمان منهم يد مساعدة تذكر ، فما ذبوّا عنه ولا رفعوا كما
ينبغي لهم ، بل بقي الأكثر بين معارض كما رأيت ، وناقم كما شهدت ، ومتفرج على
الخطوب وهي تندلع كما يندلع اللهيب ، باستثناء جماعة من المهاجرين ينصحون حيناً
كالإمام علي عليه السلام ، ويذبون حيناً آخر كالحسن والحسين عليهما السلام وعبد
الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ؛ وقلة من الأنصار كزيد بن ثابت وكعب بن مالك وحسان
بن ثابت ، وأبي أسيد الساعدي وهم لم يغنوا شيئاً عن عثمان .
214
وكان الأدهى والأمر أن يكتب أصحاب النبي في المدينة إلى أصحاب النبي في الثغور
يستقدمونهم لجهاد عثمان حتى ورد قولهم : إنكم خرجتم تطلبون الجهاد ، وإنما الجهاد
وراءكم ، فارجعوا إلى المدينة لإقامة الدين والسنة .
ولم تكن الأمصار في منأى عن هذه المعارضة داخل المدينة ، فقد أسفروا إليها من
يمثلهم ، وكانت المناظرات بين عثمان وبينهم شديدة .
فقد سمع جبلة بن عمر وبعض قومه يردون السلام على عثمان ، فقال : أتردون على
رجل فعل كذا وكذ ، ثم أقبل نحو عثمان وفي يده جامعة من حديد فقال له « والله لأطرحن
هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه » فقال عثمان : أي بطانة ؟ فوالله إني لا
أتخير الناس ، فقال جبلة : « مروان تخيرته ، ومعاوية تخيرته ، وابن عامر تخيرته ،
وابن أبي سرح تخيرته ، منهم من نزل القرآن بذمّه ، وأباح رسول الله دمه » .
وكانت حجة جبلّة قوية ، وتشخيصه لإنكار الناس دقيقاً ، فسكت عثمان لا يدري ما
يقول ، فأردف جبلّة قائلاً : « والله لأقتلنك يا نعثل ، ولأحملنك على قلوص جرباء ،
ولأخرجنك إلى حرة الناس » .
وتسامع الناس بالحدث ، فلاقى هوى في نفوسهم ، فازدادوا سخطاً على عثمان ،
وتجرأوا عليه ؛ وكان أهل البصرة قد اختاروا رجلاً زاهداً من بني العنبر اسمه عامر
بن عبد القيس ، يمثلهم في النكير على عثمان ، فأدخل عليه ، وقال :
« يا أمير المؤمنين : إن أناساً من الصحابة اجتمعوا فنظروا في أعمالك ، فوجدوك
قد ركبت أموراً عظاماً ، فاتقِ الله عز وجل ، وتب إليه ، وانزع عنها » .
215
فالتفت عثمان إلى من حوله وقال : انظروا إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ،
ثم هو يجيء فيكلمني في المحقرات ، فوالله ما يدري أين الله .
وكانت هذه إستهانة بالرجل أيما إستهانة بالرجل؛ فقال العنبري : أنا لا أدري
أين الله ؟
فقال عثمان : نعم والله ما تدري أين الله . فقال الرجل : « بلى والله ؛ إني
لأدري أن الله بالمرصاد لك يا عثمان » وخرج الرجل من عثمان ساخطاً متبرماً ، وانتشر
حديثه في الآفاق .
ولم تكن البصرة وحدها قد أنكرت على عثمان أعماله ، فقد شاركتها الكوفة النكير
لا سيما في عهد سعيد بن العاص القائل : إن السواد بستان لقريش ، والعامل بخلاف
السنة ، والمنتهك لحرمة الإسلام ، فأنكر عليه أقواله وأعماله مالك الأشتر والنخع
بعامة ، ومالك بن كعب الأرحبي ، والأسود بن يزيد النخعي ، وعلقمة بن قيس ، وصعصعة
بن صوحان ، وزيد بن صوحان ، وثابت بن قيس الهمداني ، وكميل بن زياد النخعي ، وجندب
بن زهير الغامدي ، وجندب بن كعب الأزدي ، وعروة بن الجعد ، وعمرو بن الحمق الخزاعي
وغيرهم ، وهؤلاء شيوخ أهل الكوفة فقهاً ورواية وقراءة وزعامة وزهداً وتقشفاً ، فكتب
سعيد بن العاص بهم إلى عثمان ، فأمره بتسييرهم إلى الشام ، وكتب إلى معاوية :
إن نفراً من أهل الكوفة قد هموا بإثارة الفتنة ، وقد سيرتهم إليك فانههم ، فإن
أنست منهم رشداً فأحسن إليهم وارددهم إلى بلادهم .
فقدموا على معاوية ، وجرت بينه وبينهم أحداث وخطوب ، فكتب
216
لعثمان بإخراجهم من الشام خشية إفسادها ، فسيرهم عثمان إلى حمص ، وواليها عبد
الرحمن بن خالد بن الوليد ، فأغلظ لهم ، وأذاقهم سوء العذاب ، وعنفهم ، حتى ظن أنهم
قد أقلعوا عما هم عليه ، أو من أجل أن لا يتحمل جريرتهم ، فكتب إلى عثمان بردهم إلى
الكوفة ففعل بعد هن وهن ، وعادوا إلى الكوفة ، فأطلقوا ألسنتهم على عثمان .
وكانت مصر من أشد المعارضين لحكم عثمان وبطانة عثمان ، يؤلبها محمد بن أبي بكر
، ومحمد بن أبي حذيفة ، وقد صحت عزيمتهما في منابذة عثمان ، فسار محمد بن أبي بكر
فيمن سار إلى المدينة من المصريين ، وأقام محمد بن أبي حذيفة بمصر ، واستولى عليها
، وخلع ابن أبي سرح منها ، وكانت هذه الحركة منه فيها كثير من الجراءة على عثمان ،
والإستهانة بسلطانه .
وكانت الأقطار الثلاثة : البصرة ، الكوفة ، مصر ، قد خلعت طاعة عثمان ، وتوافد
فرسانها إلى المدينة ، فاختلطوا بالناقمين على عثمان من المدينة ، وكان هوى أهل
البصرة في طلحة وقد توافدوا على المدينة بقيادة حكيم بن جبلة العبدي ، وعلى الجميع
حرقوص بن زهير السعدي ، وكان هوى أهل الكوفة منقسماً بين علي والزبير ، وقد خرجوا
بألفين من فرسانهم فيهم : مالك الأشتر وزيد بن صوحان ، وزياد بن النضر الحارثي ،
وعبد الله بن الأصم الغامدي .
وكان هوى أهل مصر في علي ، وخرجوا بألفين بإمارة أبي حرب الغافقي ، وعبد
الرحمن بن عديس البلوي ، وكنانة بن بشر الليثي ، وسودان بن حمران السكوني ، وقتيرة
بن وهب السكسكي . فنزل أهل البصرة ذا خشب ، ونزل أهل الكوفة الأعوص ، ونزل أهل مصر
المروة ؛ وكلها مواضع قرب المدينة ، فهم قد تجمعوا خارج المدينة ، وهم
217
يتطلعون أخبار المدينة ، وهم يتشاورون مع أهل المدينة .
ورأى جماعة من المهاجرين والأنصار الفتنة تقترب ، فأنكروا أعمال عثمان ،
ولاموا عماله ، وقرروا أن ينتزعوا علياً عَليهِ السَّلام من عزلته ، ليكون سفيرهم
إلى عثمان ، عسى أن يجعل الله على يديه فرجاً مما نزل بالمسلمين ، وقد أحسنوا بذلك
صنعاً ، فما امتنع علي عَليهِ السَّلام عن ذلك ، بل سعى إليه راغباً بالإصلاح بين
أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخل عليّ عَليهِ السَّلام على عثمان وبدأ معه
الحديث رقيقاً ممتعاً يثير الإعجاب ، وقال لعثمان :
« إن الناس ورائي ، وقد استسفروني بينك وبينهم ، والله ما أدري ما أقول لك ،
وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلك على أمر لا تعرفه ، إنك تعلم ما نعلم ، ما سبقناك
إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك . وقد رأيت
وسمعت وصحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل
الحق منك ؛ ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنك أقرب إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم رحماً ، ولقد نلت من صهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما
لم ينالا ، ولا سبقاك إلى شيء . فالله الله في نفسك ؛ فإنك والله ما تبصّر من عمى ،
ولا تعلم من جهل ، وإن الطريق لواضح بيّن ، وإن أعلام الدين لقائمة .
تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدي وهدى . فأقام سنة
معلومة ، وأمات بدعة متروكة . فوالله إن كلاً لبيّن ، وإن السنن القائمة لها أعلام
، وإن البدع القائمة لها أعلام ، وأن شر الناس عند الله إمام جائر ضَلَّ وضُلّ به ،
فأمات سنة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة . وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يقول :
« يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى
218
في جهنم فيدور كما تدور الرحى ، ثم يرتطم في غمرة جهنم » .
وإني أحذرك الله ، وأحذرك سطوته ونقماته ، فإن عذابه شديد أليم . وأحذرك أن
تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنه يقال : « يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها
القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبس أمورها عليها ، ويتركهم شيعاً فلا يبصرون
الحق لعلو الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً ، فلا تكونن لمروان
سيقة يسوقك حيث شاء » .
وسمع عثمان كلام علي ولم يستمع إلى نصحه ، فلفّ ودار في الجواب ، فكان حواراً
كالآتي :
قال عثمان لعلي : قد والله علمت ليقولن الذي قلت ، أما والله لو كنت مكاني ما
عنفتك ولا أسلمتك ولا عِبتُ عليك ، ولا جئت منكراً أن وصلتُ رحماً ، وسددت خلّة ،
وأويتُ ضائعاً ، ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولي ، أنشدك الله يا علي : هل تعلم أن
المغيرة بن شعبة ليس هناك ؟ قال : نعم . قال فتعلم أن عمر ولاه ؟ قال : نعم . قال
عثمان : فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته ؟ قال علي سأخبرك إن عمر بن
الخطاب كان كل من وليّ فإنما يطأ على صماخه ، إن بلغه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى
الغاية ، وأنت لا تفعل ، ضعفت ورققت على أقربائك .
قال عثمان : هم أقرباؤك أيضاً . فقال علي : لعمري إن رحمهم مني لقريبة ، ولكن
الفضل في غيرهم . قال عثمان : تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها فقد وليته ، فقال
علي : انشدك الله هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه ؟ قال :
نعم . فقال علي : فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها ، فيقول للناس هذا
219
أمر عثمان ، فيبلغك ولا تغيّر على معاوية .
وكانت هذه السفارة جديرة أن يفيد منها عثمان درساً قيماً ، فقد صور له الإمام
بإيجاز إنكار المعارضة في الفيء والتولية ، وكان الجواب أنهم رحم وأقرباء ، ولكنه
ما أفاد منها شيئاً ، ولا التفت إليها بل وجد في نفسه على الإمام ، ووجد في نفسه
ولسانه على الناس ، فخرج إلى المسجد ، وخطب خطبته النارية التي عنف بها كثيراً ،
وتطرف كثيراً ، وخالف فيها سجيته في اللين والرّقة ، فاستمع إليها الثائرون ،
وتفرقوا عنها مصممين على قتله دون شك ، فقد جلس على المنبر ، وقال بلهجة صارمة وحدة
غير متوقعة :
« أما بعد فإن لكل شيء آفة ، ولكل أمر عاهة ، وإن آفة هذه الأمة ، وعاهة هذه
النعمة عيابون طعانون ، يرونكم ما تحبون ، ويسرون ما تكرهون ، يقولون لكم ويقولون ،
أمثال النعام يتبعون أول ناعق ، أحب مواردها إليها البعيد ، لا يشربون إلا نغصاً ،
ولا يردون إلا عكراً ، لا يقوم لهم رائد ، وقد أعيتهم الأمور ، وتعذرت عليهم
المكاسب ، ألا فقد والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ، ولكنه وطأكم
برجله ، وضربكم بيده ، وقمصكم بلسانه ، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم ، ولنت لكم
وأوطأت لكم كنفي ، وكففت يدي ولساني عنكم ، فاجترأتم علي . أما والله لأنا أعز
نفراً ، وأقرب ناصراً ، وأكثر عدداً ، وأقمن إن قلت هلم أُتي إلي ، ولقد أعددت لكم
أقرانكم وأفضلت عليكم فضولاً ، وكشرت لكم عن نابي ، وأخرجتم مني خلقاً لم أكن أحسنه
، ومنطقاً لم أنطق به . فكفوا عليكم ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم ، فإني قد
كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا ، ألا فما تفقدون من
حقكم ، والله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ
220
من كان قبلي ، ولم تكونوا تختلفون عليه ، فَضَل فضلٌ من مال ، فمالي لا أصنع في
الفضل ما أريد ؟ فَلِم كنت إماماً » .
وهم مروان بن الحكم أن يتكلم فنهره عثمان قائلاً :
« أسكت لاسَكّتَ ، دعني وأصحابي ، ما منطقك في هذا ؟ ألم أتقدم إليك أن لا
تنطق » .
فوجم الإمام علي والصحابة الذين معه من هذا المنطق ، وخرجوا آيسين من إصلاح
عثمان وصلاحه ؛ واعتزل عليُّ الفتنة لو استطاع إلى ذلك سبيلاً .
وتفاقم الأمر على عثمان ، فقد تألبت عليه الأمصار ، وقد أجلب عليه البعيد
والقريب ، وقد ملّ الناس وعده الماطل ووعيده النازل ، وقد ترك نصح بقية المهاجرين
والأنصار ، وقد نصحه علي عَليهِ السَّلام وبالغ في الجهد فما إنتصح ، فما عليه إلا
أن يشاور رجاله الأثيرين عنده والمقربين لديه ، وكان يلتقي عماله وولاته في الموسم
من كل عام فيسمع منهم ويسمعون منه ، فلما لقيهم سنة أربع وثلاثين جمعهم للمشورة ؛
وكان في طليعتهم : معاوية ، وعبد الله بن عامر ، وابن أبي سرح ، وسعيد بن العاص ،
فقال لهم عثمان :
« إن لكل أمير وزراء ونصحاء ، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ، وقد صنع الناس
ما قد رأيتم ، وطلبوا إليّ أعزل عمالي ، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون ،
فاجتهدوا رأيكم » .
وكان أمر هذا الشيخ عجباً في أوله وآخره ، كيف يترك رأي عليّ وذوي السابقة في
الإيمان والهجرة ، ويستند إلى هؤلاء ممن عرف بالغدر والمكر والدخل ، ممن لا يغنون
عن الحق شيئاً ، ولا يتألمون من الباطل إقترافاً وإجتراحاً ، وليسوا بأمناء على
دنيا ولا دين ، وممن نقم عليه الناس إستهتارهم و استئثارهم ، وهم الداء فكيف يتطلب
منهم الدواء .
222
ومهما يكن من أمر ، فقد أشار عليه معاوية أن يكفيه امراءُ الأجنادِ الناس ،
وأن يكفيه هو الشام .
وأشار ابن أبي سرح أن يعطي الناس المال ويتألفهم .
وأشار سعيد بن العاص عليه أن يقتل قادة المعارضة فإن لكل قوم قادة متى يهلكوا
يتفرقوا ، ولا يجتمع لهم أمر .
وأشار عبد الله بن عامر : أن يشغل الناس بالجهاد ويوجههم للثغور .
وبهذا الرأي الأخير عمل عثمان ، ورد العمال إلى أمصارهم ، وأمرهم بالشدة
وإرسالِ الناس إلى الغزو والحرب ، وأمرهم بتجهيز البعوث ، وحرمان الناس من
أُعطياتهم إن عصوا .
فاستقبل المسلمون ذلك بالنقمة ، ورأوا فيه شراً مستطيراً ، فلما دخلت سنة خمس
وثلاثين ، تكاتب أعداء عثمان وبني أمية في البلاد ، وحرّض بعضهم بعضاً على خلع
عثمان عن الخلافة ، وعزل عماله عن الأمصار على حد تعبير الطبري . وتداعى الناس لذلك
فدعا عثمان علياً وطلحة والزبير فحضروا وعنده معاوية فتكلم كلاماً لم يرضِ
المجتمعين ، فنهره علي فسكت مغضباً ، ورفق عثمان وهدّأ الموقف بتلبية طلب الجماعة
باسترداد ما أعطى لعبد الله بن خالد بن أسيد من مبلغ قدره خمسون ألف دينار لبيت
المال ، وماأعطى لمروان من مبلغ قدره خمسة عشر ألف دينار ، كبداية لردّ الظلامات
وإستصلاح الحال ، فهدأت الخواطر شيئاً ما ، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة . فقد
قدم المدينة ثائرون من الكوفة كما أسلفنا ، وتبعهم ثائرون من البصرة ، وإذا
بالمصريين يرسلون وفداً ضخماً في رجب سنة خمس وثلاثين ليناظر
223
عثمان ، والتقوا به في قرية خارج المدينة فناظروه وحكّموا المصحف بينه وبينهم ،
فأقنعهم عثمان ظاهراً ، وخرج إلى المسجد الجامع ، وخطب فأثنى على المصريين ، وانصرف
المصريون راضين أول الأمر .
واستنجد عثمان بعلي عَليهِ السَّلام ومحمد بن مسلمة ، فأنجداه بالوساطة
الكريمة ، ووعدهم برفع المظالم ، وقضاء الحوائج ، والإنتصاف من العمال والولاة ،
ولكن مروان أفسد الحال ، ورّد الناس ردّاً عنيفاً ، وكانت هنالك أحداث ومحاججات ،
وكان هناك غدر بالعهود والمواثيق ، حتى بلغ السيل الزبى ، فخرج المصريون في ستمائة
فارس فأتوا علياً ، فصاح بهم وطردهم ، وأتى البصريون طلحة فشايعهم بذلك ، وأتى
الكوفيون الزبير فمالئهم .
وتعقدت الأمور تعقداً عجيباً وسريعاً أيضاً ، فقد تداعى الثائرون من أهل
الأمصار بالمدينة ، ونادوا بالأمان لمن كفَ يده ، وحصروا عثمان في الدار ، فاستنجد
عثمان بأمراء الأجناد للمنع عنه ، والذب دونه ، فتراخى معاوية ، وتربص ابن أبي سرح
، وتثاقل عبد الله بن عامر ، وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو لنجدة عثمان ، فلما
انتهى الخبر إلى الثائرين ، جمعوا أمرهم ، واستقر رأيهم على خلع عثمان وعلى قتل
عثمان أيضاً .
وخرج عثمان يوم الجمعة يصلي بالناس ، فوعد وأوعد وهدد وأنذر ، ووعظ وذكر ،
فجبهه حكيم بن جبلة ، وقتيرة بن وهب ، وثار القوم بعثمان وحصبوه حتى صُرع مغشياً
عليه ، وأدخل داره ، واستقتل نفر دونه ، منهم : الحسن بن علي عليهما السلام ، وسعد
بن أبي وقاص ، وزيد بن ثابت كما يقول ابن أبي الحديد .
224
وأقبل عليّ عَليهِ السَّلام ، وطلحة والزبير ، فدخلوا على عثمان يعودونه من
صرعته ، فأساء مروان لعلي فقام مغضباً هو ومن معه .
وتدهورت الحالة ، وساءت الأوضاع جداً ؛ فقد مُنِعَ عثمان من الصلاة ، وأقام
الثائرون أبا حرب الغافقي زعيم المصريين للصلاة ، ثم منعوا الماء عن عثمان حتى إشتد
به العطش هو واهله ، ثم إن أهل المدينة تفرقوا عنه ، ولزموا بيوتهم ، فكان لا يخرج
أحد منهم إلا بسيفه يمتنع به ، واستمر حصار عثمان أربعين يوماً كما يقول الطبري .
وزجر عليّ عَليهِ السَّلام الثائرين فقال : إن الذي تصنعون ليس صنيع المؤمنين
ولا صنيع الكافر ، وإن الفرس والروم ليأسرون فيطعمون ويسقون . واستطاع عليّ بالقوة
والزجر ، ولمكانته في النفوس ، أن يدخل الماء على عثمان ومن في الدار . وهي نجدةُ
ما بعدها نجدةٌ في عرف القوم .
وتداعى جماعة بني أمية لحماية عثمان ، واستقلت طائفة من أبناء المهاجرين
والأنصار في الدفاع عن عثمان ، وكان في طليعتهم الحسن والحسين عليهما السلام ، وعبد
الله بن عمر ، وعبد بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، وكان أميرهم ابن الزبير .
وكان علي عَليهِ السَّلام يدفع عن عثمان قدر المستطاع ، ولكن الثورة كانت
عارمة ، والمدينة محكومة بالثوار ، والثوار لا يحكمهم أحد ، واستجار به عثمان ،
وقال له : لك منزلة عند الناس ، وهم يسمعون منك ، وأحب أن تركب إليهم فتردهم عني ،
فإن في دخولهم عليّ وهناً
225
لأمري وجرأة عليّ ، فقال عليهِ السَّلام :
إني كلّمتك مرة بعد أخرى ، فكل ذلك تخرج وتقول ، وتعد ثم ترجع ، وهذا من فعل
مروان ومعاوية وابن عامر وعبد الله بن سعد ، فإنك أطعتهم وعصيتني .
فقال عثمان : فإني أعصيهم وأطيعك .
وتدارك عليٌّ ما استطاع من الفتنة ، فأمر الناس أن يركبوا معه ، فركب ثلاثون
من المهاجرين والأنصار ، فكلم عليّ الناس ، فاستمع إليه أغلبهم ، وأمر عثمان : بأن
يتكلم بكلام يسمعه الناس ، ويعدهم به بالتوبة ، وقال له عليّ :
« إن البلاد قد تمخضت عليك ، ولا آمن أن يجيء ركب من جهة أخرى ، فتقول لي يا
علي : إركب إليهم ، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك ، وإستخففت بحقك » .
فاستجاب عثمان لتوجيه علي عَليهِ السَّلام ، وخطب الناس ، ووعد بتنحية مروان
وذويه ، وتداعى الناس إلى باب عثمان ، لردّ الظلامات ودفع الحقوق كما وعد ، فنهاه
مروان عن ذلك ، واستقبل الناس بالزجر والسباب ، ورجع الناس خائبين .
ووجم الإمام علي لما حدث ، فقال :
« أي عباد الله ، يالله للمسلمين ، إني إن قعدت في بيتي قال لي : تركتني
وخذلتني ، وإن تكلمت فبلغت له ما يريد ، جاء مروان فتلعب به ، حتى صار له سيقة ،
يسوقه حيث يشاء ، بعد كبر السن وصحبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وقام مغضباً
من فوره حتى دخل على عثمان ، وقال له :
226
« أما يرضى مروان منك إلا أن يحرفك عن دينك وعقلك ، فأنت معه كجمل الضعينة
يقاد حيث يسار به ، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا عقله ، وإني لأراه يوردك
ولا يصبرك ، وما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أفسدت شرفك ، وغُلبت على رأيك
... ثم نهض .
وكان هذا آخر دخول لعلي على عثمان .
ولقد صح ما توقعه الإمام ، فقد سلّم عثمان الأمر كله إلى مروان ، فَتلعبَ به
مروان كما قال الإمام ، وأورده موارد الهلكة ولم يصدره ، فلم يكن ذا دين ، ولم يكن
ذا رأي ، ولم يكن ذا منزلة .
وتطورة الأحداث تطوراً سريعاً ، فالمصريون يكتشفون أنبوبة رصاص مع رسول عثمان
إلى مصر ، وفي الأنبوبة صحيفة تأمر الوالي بالقتل أو الصلب وبالنفي والتشريد لجملة
من المصريين ، وعثمان بين ذلك يثني على المصريين ويعد علياً بأن ينصف الناس من نفسه
ومن عماله ، ومروان يفسد الأمر عليه ، وعثمان يقول لعلي : لست آمن الناس على دمي
فارددهم عني ، فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي ومن غيري ، فيقول له علي
عَليهِ السَّلام :
« إن الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك ، وإنهم لا يرضون إلا بالرضا ، وقد
كنت أعطيتهم من قبل عهداً فلم تفِ به ، فلا تغرر في هذه المرة ، فإني معطيهم عنك
الحق » .
قال عثمان : إعطهم فوالله لأفين لهم . فما أعطاهم عثمان شيئاً ولا وفى لهم .
وعلم الثائرون أن لا شيء بيد عثمان ، لا عزل ولا منع ، ولا دفع مظلمة ، وإشتدّ
الحصار بعثمان ، وإشتدّ الثائرون بمطالبهم ، وإستعجل
227
الأمويون القتال ، واستعجل الثائرون القتال أيضاً ، فقد بلغهم أن الإمداد في طريقه
إلى المدينة ، وإذا وصل الإمداد من الأقطار إلى المدينة ، فسيدخلون حرباً مع أنصار
عثمان لا مع عثمان .
والحق أنه عمال عثمان قد غدروا بعثمان ، فقد تباطؤوا عنه دون شك ، وقد أسلموه
للقتل راغبين ، فكأنهم جميعاً قد تواطؤوا على ذلك ، ويمكن أن تكون تلك خطة مدروسة
مبرمجة يترأسها معاوية ، ليتسلم الحكم فيما بعد ، فيُقتل عثمان ويطالب هو بدم عثمان
، فيكون ولي الدم المسفوك ، وهكذا كان ، وإلا فما يدرينا ما مغزى قول معاوية لحبيب
بن مسلمة الفهري ، وهو يجهزه للخروج إلى نصرة عثمان ، فيأمره بالمرابطة حول المدينة
، ويعهد إليك مؤكداً أن لا يتقدم عن ذلك شبراً ، ويقول له :
« هذا أمري فلا تتقدم وتقول : يرى الحاضر ما لا يرى الغائب ، فأنا الحاضر وأنت
الغائب » .
وما بال المسلمين في الموسم لم يهبوا لنجدة عثمان وهو محصور ، وكان عثمان قد
أمر ابن عباس على الحج على الحج وكتب معه كتاباً يستنجد به الناس ، وما بال والي
مكة من قبل عثمان لم يسعفه بشيء على قرب المسافة .
لا أشك أن مؤامرة سرية بقيادة معاوية بن أبي سفيان كانت وراء هذا التقاعس
الغريب عن نصرة عثمان أو الدفاع عنه ، وكان الأمر يدار بخفاء وكتمان حتى يقتل عثمان
، وينهض من ينهض بطلب ثأره ، وقد كان الأمر هكذا ، فقد علم معاوية أن الناس لا
يعدلون بعلي أحداً ، وإذا كان كذلك كان الطلب بثأر عثمان ، وسيلة من الوسائل
للإستيلاء على الحكم ، وقد أنطلت هذه اللعبة على المغفّلين ، ورفع معاوية ـ فيما
228
بعد ـ قميص عثمان ، ولكنه بعد إستيلائه على الحكم لم يذكر عثمان بشيء ، ولا طالب
بدم عثمان ، بل لم يعرف حتى أبناء عثمان ، واستأثر بالملك وحده .
ومهما يكن من أمر ، فقد تَسَوَرَ الثائرون على عثمان الدار ، وقد دعاه رجل
يسمى نيار بن عياض الأسلمي ، وهو صحابي ، دعا عثمان ووعظه ونصحه وأعذر إليه ، وأمره
بخلع نفسه ، وإنه لفي ذلك إذ رمي بسهم أو حجر فقتل .
فنادى الثائرون : ادفع لنا يا عثمان قاتل صاحبنا فنقيد منه ، فقال عثمان : ما
أعرف له قاتلاً فأدفعه إليكم ، أأدفع إليكم رجلاً ذبّ عني وأنتم تريدون قتلي .
فاستشاط الثائرون غضباً ، واقتحموا الدار اقتحاماً مروعاً من غير بابها ، لأن
الإمام الحسن بن علي عليهما السَّلام كان مرابطاً في باب الدار يحامي عن عثمان ،
وهجم الثائرون هجوماً جنونياً على الدار ، ينهبون ما فيها ، ويحرقون أبوابها ، وخرج
أهل الدار يقاتلون ، فجرح عبد الله بن الزبير جراحات بليغة ، وصرع مروان حتى ظن به
الموت ، وقتل آخرون وهم يدافعون عن عثمان ، وانتهى الأمر بقتل عثمان بصورة شنيعة لا
أسيغ تفصيلها .
وبقتل عثمان فتح على المسلمين باب شر عظيم ، فقد أنقسم المسلمون شِيّعاً
وأحزاباً ، وتضعضعت هيبة الحكم ، ووهن سلطان الإسلام ، وأصبح حكم المدينة بيد
الثائرين لا طول لأحد فيها ولا حول .
وقد أوجز عليّ عَليهِ السَّلام أمر عثمان والناس بقوله :
229
« استأثر فأساء الأثرة ، وجزعتم فأسأتم الجزع ، ولله حكم واقع في المستأثِر
والجازع » (1) .
وهذا من أبلغ الكلام وأفصحه في تصوير الحال .
(1) ظ : في نصوص هذا الفصل ووقائعه التأريخية
والسياسية كلاً من :
ابن الأثير | الكامل في التأريخ + الأمين الحسيني العاملي الشقرائي | أعيان
الشيعة + البلاذري | أنساب الأشراف + الجاحظ | البيان والتبيين + إبن حجر | الصواعق
المحرقة + ابن أبي الحديد | شرح نهج البلاغة + هاشم معروف | سيرة الأئمة الأثني عشر
+ ابن خلدون | تأريخ ابن خلدون + إبن سعد | الطبقات + الطبراني | المعجم الكبير +
الصدوق | الخصال + الطبرسي | مجمع البيان + الطبري | تأريخ الرسل والملوك + طه حسين
| الفتنة الكبرى + إبن أبي طيفور | بلاغات النساء + عبد الفتاح عبد المقصود |
الإمام علي + أبو الفدا | المختصر في أخبار البشر + ابن قتيبة | الإمامة والسياسة +
قدامة بن جعفر | الخراج وصنعة الكتابة + القندوزي | ينابيع المودة + الدسوقي | أيام
طه حسين + المسعودي | التنبيه والأشراف + المفيد | الإرشاد + المفيد | الافصاح في
إقامة علي بن أبي طالب + أبو نعيم | حلية الأولياء + الواقدي | المغازي | اليعقوبي
| التأريخ .
الفصل الثالث
عليٌّ في قيادته للأمة
1 ـ الثورة ترشح الإمام للخلافة ... والإمام يستقرئ الغيب المجهول
2 ـ إستقبال خلافة الإمام بين المحرومين والارستقراطيين
3 ـ المتمردون في مجابهة الإمام متظاهرين بالثأر لعثمان
4 ـ قيادة الناكثين بين الترددّ وإقتحام مشارف البصرة
5 ـ حربُ الجمل ... وهزيمة المتمردين
6 ـ عليٌّ في البصرة ... وسيرة رسول الله (ص)
7 ـ عليٌّ يتخذّ الكوفة عاصمةً ... ويقدّم طلائعه إلى صفين
8 ـ معركة صفين ... وإنحياز الخوارج
9 ـ الوفاءُ بشأن التحكيم ... ومعركة النهروان
10 ـ معاوية والخوارج يقتسمان الأحداثَ الدموية
11 ـ ظواهر العدل الإجتماعي عند الإمام تقلب الموازين
12 ـ المهمات القيادة السياسية ... والتعليمات العسكرية لأمير المؤمنين
13 ـ تهذيب النفس الإنسانية لدى الإمام في إرادة الحكم الإسلامي
14 ـ عليٌّ ومناوؤه ... حتى إستشهاد الإمام عَليهِ السَّلام
232
233
إِستيقظت المدينة المنورة صبيحة مقتل عثمان (رض) شاحبة الظلال ، باهتة الألوان
، يسودها الفزع والقلق ، ويغشاها الهول والإضطراب . فالحدث خطير في أبعاده ، وجرأة
الثوار كبيرة فيما أقدمت عليه ، والناس في حيرة من أمرهم ، ينتاب بعضهم تأنيب
الضمير في خذلان عثمان ، ويستبشر آخرون بمقتل عثمان ، ويأسى سواهما لما حلّ بعثمان
، بينما يفكر نفرٌ يسير بمصير الإسلام وحرمة البلد الذي يحكمه الثائرون ، فالأهواء
ـ كما ترى ـ متباينة ، والوضع العام في شقاق مرير ، واللغط يشق عنان السماء .
والحاجة الآنية أن لا بد للناس من إمام يخلف الخليفة المقتول ، وقائد تلتقي
برحابه أفئدة الناس ، والأمر كله في المدينة لأبي حرب الغافقى زعيم المصريين ، يؤم
الناس في الصلاة ، ويتصدر القيادة الثائرة ، ويشرف على إدارة الحكم العرفي دون
كفاية أو خبرة ، وينظر في الناس وهم يلتفون حول طلحة والزبير تارة ، ويهتفون باسم
الإمام علي تارة أخرى ، ولا رأي سوى هذين .
ولكن أصابع الاتهام تشير إلى طلحة والزبير بكثير من الحذر والشفقة ، تحذر
منهما ، وتشفق على المسلمين من إمارتهما ، فكلٌ منهما
234
قد أجلب على عثمان حتى قتل ، وقد حاولا رفع هذه التهمة بكثير من الدوران الذي لم
يخفَ على الناس قريبهم وبعيدهم ، فهما صاحبا عثمان بالأمس ، كثّرا عليه ، وخذّلا
عنه ، وألبّا الناس وأسلماه ، فهما في حرج من نصب أنفسهما ، وترشيح ذاتيهما لمقامه
.
وكان المصريون ـ وهم زعماء الثورة ضد عثمان ـ أكثر الناس حذراً ، وأشدّهم
تحرزاً ، فضيقوا على طلحة والزبير فسحة الأمل ، وبادروا إلى إتخاذ القرار المناسب ،
وتوجهوا إلى أهل الحل والعقد من بقية المهاجرين والأنصار في المدينة ، وقالوا : يا
أهل المدينة : إنكم أهل الشورى ، وأنتم تعقدون الإمامة ، فانظروا رجلاً تنصبونه
ونحن لكم تبع » .
فهتف الناس في ذلك الحشد « عليّ لنا رضى ، نحن به راضون » .
قالوا ذلك جميعاً بما فيهم طلحة والزبير ، لم ينافس علياً أحد في الترشيح ،
ولم ترشح الجماهير سواه للخلافة ، وقال ممثلهم عمار بن ياسر :
« أيها الناس : إنا لن نألوكم خيراً وأنفسنا إن شاء الله ، وإن علياً من قد
علمتم ، وما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الأمر منه ، ولا أولى به » .
ورضي الناس بهذا العرض وأمنوا عليه ، وانطلقوا إلى أمير المؤمنين وهو في عزلته
، وقالوا :
« يا أبا الحسن : إن هذا الرجل قد قتل ، ولا بد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم
أحداً أحق بهذا الأمر منك ، ولا أقدم سابقة ، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم » .
235
وتأبّى عليٌّ على القوم ، ورّد الطلب برفق وأناة قائلاً : « دعوني والتمسوا
غيري ، فأنا لكم وزيراً خير مني لكم أميراً » .
وازداد الإصرار ، وتكرر الطلب ، فعاود عليّ الامتناع قائلاً : « اتركوني فأنا
كأحدكم ، بل أنا أسمعكم وأطوعكم لم وليتموه أمركم » .
وكان عليّ عَليهِ السَّلام زاهداً في الخلافة ، وهو يتطلع إلى الأفق البعيد
فيجد المناخ السياسي مضطرباً ، ويلحظ الناس في اندفاع وغضب ، ويشاهد أولي الأمر بين
رغبة ورهبة ، ويرى الوازع الديني ضعيفاً ، والعنف الثوري قائماً ، فيقول لهم : « لا
حاجة لي في أمركم أيها الناس ، أنا معكم ، فمن اخترتم فقد رضيت به » . ويعجب الجمع
من هذا الإباء ، ويعزّ عليهم هذا الرفض القاطع ، ويشعر الإمام بحيرة القوم ، فيعلل
لهم سبب امتناعه ، ويوضح علة إصراره :
« دعوني والتمسوا غيري إيها الناس ، إنا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان ،
لا تثبت عليه العقول ، ولا تقوم له القلوب » .
وهنا يتجلى البعد السياسي الحصين عند الإمام ، فهو يغوص إلى الأعماق ، وهو
يستقرئ الغيب المجهول ، وهو يتوجس من الأحداث القادمة ، ويستخرج دغلها وغشها
ودناءتها ، وهو ينفذ إلى خفايا القلوب ويسبر أغوارها فلم يكن ليعجبه الحكم ، وهو
مجهول المعالم ، ولم تكن تستهويه الخلافة وهي محفوفة بالتنازع ، وما كان ليستسلم
لأهواء الناس وهي مشبوبة العواطف ، وإنما كان يريد أن يخضع لمنطق العقل ويخضع الناس
له ، ويحكم بسلطان المنطق ويحمل الناس عليه ، وهو الآن يشاهد الثورة جامحة لا تني ،
والاندفاع هادراً لا يهدأ ، والمدينة
236
يحكمها الثوار ، والناس تقترب من الفتنة ، وهو يريد أن يغير هذه الظواهر ، فيقطع
مادة الثورة ، ويحمل الناس على الجادة ، ويستقبل بالأمر السبيل المستقيم ، ولكن
الناس لم يتركوه ، وانثالوا عليه ، وتمسكوا به :
« فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتى لقد
وطئ الحسنان ، وشق عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم » .
هكذا صور الحال بدقة متناهية ، فما هذا الإصرار من الناس إلا إستنفاراً لا
مناص عنه ، وما هذه الغضبة الصارخة إلا نتيجة الألم الدفين ، وما هذا التصوير
البليغ إلا بياناً للحال ، فهو بين أن يستجيب للثقة النابعة من الصميم ، وبين أن
يتنكب مزلقة النوازل القادمة ، وبين أن يلقي حبلها على غاربها ...
خيارات أهونها الصعب ؛ وبينا هو في هذا التفكير الجدي ، وإذا بالأشتر يندفع
قائلاً :
« ننشدك الله ، ألا ترى ما نرى ، ألا ترى ما حدث في الإسلام ، ألا ترى الفتنة
، ألا تخاف الله » .
وكان صوت الأشتر جريئاً يستأهل التفكير ، ومجلجلاً يقطع الصمت ، وعنيفاً يدعو
إلى الحسم ، وضع الإمام أمام مسؤوليته القيادية ، ليتدارك أمر الإسلام ، ويقطع دابر
الفتنة ، فانطلق الإمام يستجيب معللاً ومقرراً :
« قد أجبتكم لما أرى منكم ، ألا فاعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم » .
237
وكانت الاستجابة مقترنة بحملهم على سبيل رسول الله ليس غير ، وهو ما يعلمه
الإمام .
استبشر الناس بهذا القرار الحاسم ، ووافقوا على النهج الذي يختطه الإمام ،
وهبوا لمبايعته ، ولكنه أبى وقال : « إن كان لا بد من ذلك ففي المسجد ، فإن بيعتي
لا تكون خفياً ، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين ، وفي ملأ وجماعة » .
وكأن علياً أراد ببيعته الإصحار لا الإسرار حتى لا يدعي أحد الإكراه ، وكأنه
أراد المهاجرين والأنصار حتى لا يتخلف أحد ، وكأنه أراد كما في بعض المرويات أهل
بدر بخاصة ، فلم يبق بدري إلا أتى علياً ، وقالوا له جميعاً :
ما نرى أحداً أحق بها منك يا أبا الحسن . وكان ما قالوا عين الصواب فهم يعرفون
عليّا وسابقته . وقد جاؤوا بعلي عليه السلام إلى المسجد النبوي ، وتمت بيعته جهاراً
على كتاب الله وسنة نبيه ، فقال علي : « اللهم إشهد عليهم » .
وكانت البيعة رضا للمهاجرين والأنصار ، وبمباركة أهل بدر خاصة ، وكانت رضا
للثوار من الأمصار والأقاليم ، وتخلف عن البيعة من طمع بالخلافة ، أو انحرف عن
الإمام ، أو أظهر الاعتزال ، وهم جماعة يعدون بالأصابع ، فما ألح عليهم الإمام ،
وفي طليعتهم سعد بن أبي وقاص ، فقد أبى أن يبايع وقال للإمام « ما عليك مني من باس
» وعبد الله بن عمر بن الخطاب أبى أن يبايع فطلب إليه الإمام أن يقدم كفيلاً ، فما
وجد كفيلاً أو أبى أن يقدم كفيلاً ، فقال الإمام : خلوه وأنا كفيله ، والتفت إليه
قائلاً : « ما علمتك إلا سيىء الخلق صغيراً وكبيراً »
238
وأبى البيعة زيد بن ثابت وهو عثماني الرأي فيما يزعم ، ومحمد بن مسلمة وهو يحب أن
يعتزل فيما يرى ، وأسامة بن زيد ، وقد انحرف عن الإمام منذ أن أمّر ، والبيت الأموي
بعامة وفي طليعتهم مروان بن الحكم ولم يكن هناك ، وحسان بن ثابت الذي هنأ الإمام
بالغدير في حياة النبي ، وانحرف عنه ، وحرضّ الناس عليه .
ما استكره الإمام أحداً على البيعة ، وكف عنهم ، وأبى أن يعرض لهم أحد بسوء ،
فما كانت البيعة لينقصها هذا العدد الضئيل ، وهي ليست من الضعف بأن يؤثر عليها هذا
النفر المحدود .
تمت البيعة لعلي عَليهِ السَّلام ، وكانت رضا لعامة المسلمين إلا هذا النفر
الشاذ ، وكان حرياً أن تستقيم له الأمور ، لأنه ما أرادها ولكنها أرادته ، وما تزين
بها ولكنها إزدانت به ، فهو أكبر منها قدراً ، وأعلى منزلة . والجدير بالذكر أن
الإمام قد أوجز الحال فيها على الشكل الآتي :
« بسطتم يدي فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثم تداككتم عليّ تداك الإبل الهيم
على حياضها يوم ورودها ، حتى انقطعت النعل ، وسقطت الرداء ، ووطىء الضعيف ، وبلغ من
سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها
العليل ، وحسرت إليها الكعاب » .
وقد تمت البيعة لأمير المؤمنين بعد مقتل عثمان بخمسة أيام وكان أمام أمير
المؤمنين جملة من المشكلات المهمة ، والقضايا العاجلة التي يجب أن يبتّ فيها فوراً
، وقد يطول الحديث عنها ، ولكنه حسم قضيتين مهمتين :
239
الأولى : سياسة الحكم الجديد ، فقال في أول خطاب رسمي له :
« أيها الناس إنما أنا رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم ، وإني حاملكم على
منهج نبيكم ، ومنفّذ فيكم ما أمرت به » .
وقد وضح المنهج الإسلامي في اتجاه علي عَليهِ السَّلام وهو أنه كأحد المسلمين
لا أكثر ولا أقل إلا أنه قائدهم ، وهو المنهج الديمقراطي الحديث بعينه هذا اليوم .
والثاني أنه يحملهم على منهج النبي وسبيلة لا تأخذه في ذلك لومة لائم .
الثانية
: إصلاح ما أفسده عثمان من المال ، واسترجاع
ما اقطعه بغير حق ، فقد خطب الإمام في اليوم الثاني لبيعته وقال :
« ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في
بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته وقد تزوج به النساء ،
ومُلِكَ به الإماء لرددته إلى حاله ، فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل ،
فالجور عليه أضيق » .
ثم نفّذ الإمام ما قال ، وأمر بقبض كل سلاح تقوّى به عثمان على المسلمين ،
وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة ، وأن ترتجع الأموال التي أجاز بها
عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها ، وبالكف عن أموال عثمان الخاصة به .
وقد وضحت سياسة الإمام في الحكم بأنه سائر على منهج رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم لا يحيد عنه ، وفي المال بأن يعود لبيت المال .
وهنا تنبه أصحاب المطامع والمآرب والإمتيازات السابقة أن لا حياة لهم مع
الإمام ، فقد قال الإمام مباشرة :
240
« فأنتم عباد الله ، والمال مال الله ، يقسم بينكم بالسوية ، ولا فضل فيه لأحد
على أحد ، للمتقين عند الله أحسن الجزاء ، فإذا كان الغد فاغدوا علينا إن شاء الله
، ولا يتخلفنّ أحد منكم عربي أو عجمي كان من أهل العطاء » .
وقد تحركت في هذا الإعلان الصريح مكائد القلوب ، واستوحشت منه ضمائر أهل الطمع
، وتنكر له أصحاب الملايين .
فبدأت الفتن تترى كقطع الليل المظلم ، وعليّ في أول الطريق .