(12)
المهمات القيادية السياسية والتعليمات
العسكرية لأمير المؤمنين


     وكان عليٌّ عليه السلام في تدبيره سياسة الدولة ، لا يكافح العصبية القبلية وحدها ، ولا يسوي القضية المالية فحسب ، ولا يعالج النفوس المتشتتة ليس غير ، وإنما أراد أن يعود بالإسلام إلى ينابيعه الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ابتعد الناس عن هذا العهد طيلة ثلاثين عاماً ، ومهمة العودة بالمسلمين إلى الإسلام الصحيح مهمة شاقة ، فقد اعتاد الناس حياة البذخ والترف ، وقد بدأت الدنيا تقترب منهم أو يقتربون منها ، بدأ حب الجاه والسلطان يشق طريقه إلى قلوب القوم ، وبدأ حب المال يسيطر على التفكير ، وبدأت الطباع جافة غليظة متغطرسة ، واستبد بالمسلمين الميل إلى الدعة ، والرضا بالهوان ، وكان لا بد للإمام أن يصلح هذا كله ، وأن يتدارك هذا كله ، وقد بدأ الإصلاح والتدارك بسيرته الذاتية ، فكان أحد المسلمين وإن كان أميرهم ، فلم يستأثر بفيء ، ولم يمل إلى رفاهية ، ولم يتكلف سعة ، بلف ضيّق على نفسه وأهله وولده كل التضييق ، ليتأسى به الفقير ولا يزري به فقره ، وكان حريضاً أن يشيع العدل بين الرعية فساوى بالعطاء ، ولم يجامل أحداً بالحباء ، وهو بين هذا وذاك يتفقد أهل الحاجة ، ويطعم الجائعين بنفسه ، ويتعهد ذوي العوز تعهداً حثيثاً ، وقد صدّق بهذا عمله قوله :

 


330

« أأقنع من نفسي ، بأن يقال : هذا أمير المؤمنين ، ولا أكون لهم أسوة بجشوبة العيش ومكاره الدهر » .
     وكان يخلو إلى نفسه آناء الليل وأطراف النهار متهجداً مصلياً مناجياً ربه ، فما إن يؤدي ما عليه للمسلمين ، حتى يتفرغ للعبادة تفرغاً تاماً ، وهو يقول : « إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك ، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك » .
     وهكذا تكون عبادة الأحرار ، قوة قلب وبصيرة نافذة . فإذا لاحت زبارج الدنيا خاطبها : إليك عني يا دنيا غري غيري فحبلك قصير » .
     وكانت هذه الشخصية الزاهدة يقظة متحركة صامدة تجمع إلى الزهد القوة والإدارة فكان تدبير الجيوش ، وإدارة شؤون الأقاليم ، وإلزام الأمراء والعمال والولاة بجوهر تعليماته الخالدة ، من أشتات مهمات الإمام التي جمعها الله له سيرة وقيادة ، فأعذر في التبليغ ، وأحسن صروف الآراء ، وبذلك جعل دولته نموذجاً فذاً للحكم الإسلامي الخالص الذي إتسم بالقوة والإسماح بوقت واحد ، ونأى عن الطغيان والجبروت والأثرة ، فقد التزم الإمام عليه السلام معايير التدبير المنظّم ، وأنس معالم التنظير الدقيق ، كل ذلك يجيء بعد فوضى في الحكم ، وعنتٍ من السلطان ، وتباين في الأهواء والآراء ، وطبيعي أن إمساك الأمر بروية وأناة في مثل هذه الظروف ينبعث عن حكمه متناهية .
     فمن وصية له عليه السلام لعسكره بصفين قبل لقاء أهل الشام ينهى فيها عن البغي ، ويمنع من قتل المدبر ، والإجهاز على الجريح ، ويأمر فيها بالتريث في الحرب وعدم الابتداء بها ، ويلزم جنده بالتغاضي عن تهييج النساء ، وإن سببن الأمراء أو شتمن الأعراض ، مما يعد منهجاً حربياً متميزاً ، قال :
 


331

« لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم ، فإنكم بحمد الله على حجة ، وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم ، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ، ولا تصيبوا معوراً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تهيجوا النساء بأذى ، وإن شتمن أعراضكم ، وسببن أمراءكم ، فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول ؛ إنا كّنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات ، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة ، فيعيّر بها وعقبه من بعده » .
     وهذه السنن الحربية التي خطط لها الإمام تنطلق من مبدأ الدفاع عن النفس ، ولا تنجرّ إلى إرادة شهوة الحرب ، وتنبعث من صميم تعاليم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في العفو والتغاضي ، وتنسجم وطبيعة النظام الإسلامي في التوصل إلى معالي الأمور ، والابتعاد عن توافه الأغراض .
     ولك في هذا المجال أن تنظر في وصيته لأحد قواد جيشه وهو معقل بن قيس الرياحي حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف مقدمة له :
     « اتقِ الله الذي لا بد لك من لقائه ، ولا منتهى لك دونه ، ولا تقاتلن إلا من قاتلك ، وسرّ البردين ، وغور بالناس ، ورفّه في السير ، ولا تسر أول الليل فإن الله جعله سكناً ، وقدره مقاماً لا ظعناً ، فأرح فيه بدنك ، وروّح ظهرك ، فإذا وقفت حين ينبطح السحر ، أو حين ينفجر الفجر ، فسر على بركة الله . فإذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطاً ، ولا تدنُ من القوم دنوَ من يريد أن ينشب الحرب ، ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب الناس ، حتى يأتيك أمري . ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والاعذار إليهم » .

 


332

     وهذه الوصية النادرة جامعة لشؤون تدبير الجيش المقاتل في مراقبة الله وتقواه ، وفي مسيرة وحركته وتوقفه عند مقامه ولدى ظعنه ، وفي اتخاذ الموقع المناسب دون الاقتراب الذي يؤدي إلى الحرب ، ودون التباعد الذي ينم عن الخور والضعف ، وأن تتحكم الضمائر دون الأحقاد ، فلا يدعو الشنآن إلى القتال قبل الدعوة إلى السلم ، والإعذار في الدعاء .
     هذه التعليمات لم تتجاوزها التعليمات الحربية العادلة القائمة على أسس الدراسات العسكرية المتطورة في الحروب العالمية العامة .
     والإمام لا يقف عند هذا الحد من التوجيه الناهض ، بل يتعداه إلى الإنضباط العسكري الدقيق في تقويم أمراء الجيوش ، واختيار الأصلح من قواد الحرب ، وإناطة القيادة العامة بالأكفاء من ذوي الخبرة والدراية بشؤون الحرب ، فهو يضع الأمور في نصابها ، ويعطي كل ذي حق حقه ، آخذاً بالحزم ، وصادعاً بالحقائق دون محاباة لأحد . فمن كتاب له عليه السلام إلى أميرين من أمراء الجيش ، وقد أمرّ عليهما مالكاً الأشتر ، قال : « وقد أمرّت عليكما وعلى من في حيّزكما مالك بن الحارث الأشتر ، فأسمعا له وأطيعا ، واجعلاه درعاً ومجناً ، فإنه ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته ، ولا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم ، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل » .
     ويتجاوز الإمام عليه السلام هذه الحدود إلى اختيار الموقع العسكري الأمثل ، والتدبير الحربي الأسلم ، والزمان القتالي الأولى ، فيرسم بذلك الخطط السليمة ، ويهيىء الفرص المتكافئة ، ويوجه نحو الإعتصام والمنعة ، ويحذر من الأنقسام والفرقة . فمن وصية له عليه السلام وصى بها جيشاً بعثه إلى العدو ، قال :

 


333

     « فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم ، فليكن معسكركم في قُبُل الاشراف ، أو سفاح الجبال ، أو أثناء الأنهار ، كيما يكون بكم ردءاً ، ودونكم مردّاً ، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين ، وأجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ، ومناكب الهضاب ، لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافةٍ أو أمن . واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم ، وعيون المقدمة طلائعهم ، وإياكم والتفرق ، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً ، وإذا ارتحلتم إرتحلتم جميعاً ، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة ، ولا تذوقوا النوم إلا غِراراً ، أو مضمضمة » .
     فإذا قامت الحرب على ساق ، والتقت حلقتا البطان ، وجدت علياً على رأس الجيش ، وذو الفقار بيده ، وهو يقول : « اللهم إليك أفضت القلوب ، ومدّت الأعناق ، وشخصت الأبصار ، ونقلت الأقدام ، وأنضيت الأبدان .
     « اللهم قد صرح مكنون الشنّان ، وجاشت مراجل الأضغان ، اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا ، وكثرة عدونا ، وتشتت أهوائنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين » .
     وهذا المجال متسع في إدارة الإمام العسكرية ، وما أوردناه كان على سبيل المثال والتنظير ، ليقاس عليه ما سواه :
     وإذ انتهى علي عليه السلام من هذا بقي عليه تدبير شؤون الأقاليم في اصطناع الولاة ، وإدارة اقتصاد البلاد في الصدقات والخراج ، وإقامة سنن العدل في المواساة والمساواة . وكان الإمام حريصاً على هذه القيم كل الحرص وأشدّه .
     فمن كتاب توجيهي لبعض عماله يدعوه فيه إلى الرفق فيما الرفق

 


334

به أجدر ، وإلى الحزم فيما الحزم به أنفع ، وإلى لين الجانب ، وخفض الجناح ، وبسط الوجه ، والمساواة بين الرعية حتى في النظرة واللحظة والإشارة والتحية ، لئلا يطمع قوي في حيفه ، ولا ييأس ضعيف من عدله ؛ ولا ينسى الإمام أن يمتدح العامل بما فيه من إقامته للدين ، وقمع الأثيم ، وسداد الثغر ، قال عليه السلام :
     « أما بعد فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين ، وأقمع به نخوة الأثيم ، وأسدّ به لهاة الثغر المخوف .
     فاستعن بالله على ما أهمك ، واخلط الشدة بضغث من اللين ، وارفق ما كان الرفق أرفق ، واعتزم بالشدة حين لا تغني عنك إلا الشدة .
     واخفض للرعية جناحك ، وابسط لهم وجهك ، وألن لهم ، جانبك ، وآسي بينهم في اللحظة ، والنظرة ، والإشارة ، والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ، ولا ييئس الضعفاء من عدلك والسلام » .
     وهكذا كان الإمام عليه السلام يراقب عماله ، وينكر عليهم التقصير ، يعنّفهم حيث يجد العنف بهم أجدر ، ويحرضهم حيث يجد التحريض أجدى ، فمن كتاب له إلى كميل بن زياد النخعي عامله على هيت ، وقد اجتاز به العدو مغيراً ، أبان فيه ميزان الحزم والكفاية للوالي ، في حفض ما فيه يديه ، والسيطرة على مصره ، وعدم تكلف ما كفي ، واليقظة والحذر من الأعداء ، والحرص على هيبة السلطان ، وكسر شوكة العدو ، قال عليه السلام :
     « أما بعد : فإن تضييع المرء ما وُلّي ، وتكلفه ما كفي ، لعجز حاضر ، ورأي متبر ، وإن تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا ، وتعطيلك مسالحك التي وليناك ـ ليس لها من يمنعها ولا يردّ الجيش عنها ـ لرأي

 


335

شعاع ، فقد صرت جسراً لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك ، غير شديد المنكب ، ولا مهيب الجانب ، ولا سادٍ ثغرة ، ولا كاسر لعدو شوكة ، ولا مغن عن أهل مصره ، ولا مجز عن أميره » .
     ومن كتاب له عليه السلام إلى قثم بن العباس عامله على مكة ، يوصيه بالحزم واليقظة ، ويلزمه بالقصد والإعتدال ، بعد أن أعلمه عينه بالمغرب أن معاوية وجه إلى الموسم طائفة من المخربين ، قال : « فأقم على ما في يديك قيام الطبيب الحازم ، والناصح اللبيب ، التابع لسلطانه ، المطيع لإمامه ، وإياك وما يعتذر منه ، ولا تكن عند النعماء بطراً ، ولا عند البأساء فشلاً . والسلام » .
     وقد بلغته عن بعض عماله بعض الهنات في احتجان المال ، وتجريد الأرض ، وخيانة الأمانة ، فكتب إليه محذّراً ومنذّراً ومحاسباً :
     « أما بعد : فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك ، وعصيت إمامك ، وأخزيت أمانتك ، بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك ، وأكلت ما تحت يديك ، فأرفع إليّ حسابك ، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس والسلام » .
     وكان الإمام عليه السلام حريصاً على توجيه عماله الوجه الذي يريده الله ، رأفة بالرعية ، ورعاية لسنن العدل ، فطالما كان يوصي عماله على الصدقات بوصايا جليلة منها :
     « انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له ، ولا تروعّن مسلماً ، ولا تجتازن عليه كارهاً ، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله ، فإذا قدمتَ على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار ، حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ... » .

 


336

     والإمام عليه السلام يوضح لعامل الصدقة في الصدقات حق الله وحق الناس وحقه ، فلا يتجاوز ذلك مستهيناً بالأمانة ، أو راتعاً في الخيانة ، فمن ذلك قوله عليه السلام :
     « وإن لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضاً ، وحقاً معلوماً ، وشركاء أهل مسكنة ، وضعفاء ذوي فاقة ، وإنّا موفوك حقك ، فوفهم حقوقهم ، وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة ، وبؤسي لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن السبيل . ومن استهان بالأمانة ، ورتع في الخيانة ، ولم ينزه نفسه ودينه عنها ، فقد أحلّ بنفسه الذلّ والخزي في الدنيا ، وهو في الآخرة أذلّ وأخزى وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة ، وأفظع الغش غش الأئمة » .
     ولم يكن الإمام عليه السلام متهاوناً في فروض الدين ، ولا متسامحاً في سنن العبادة ، بل كان حدباً على إقامتها ، مشفقاً من إضاعتها ، يوصي بذلك أمراء البلاد ، وقادة البعوث ، وولاة الأمور . فمن كتاب له في معنى الصلاة إليهم يقول :
     « أما بعد فصلوا بالناس الظهر حين تفيء الشمس مثل مريض العنز ، وصلوا بهم العصر والشمس بضاء حية في عضو من النهار حين يسار فيها فرسخان ، وصلوّا بهم المغرب حين يفطر الصائم ويدفع الحاج إلى منى ، وصلّوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل ، وصلّوا بهم الغداة والرجل يعرف وجه صاحبه ، وصلّوا بهم صلاة أضعفهم ، ولا تكونوا فتانين » .
     ولم يكن الإمام ليحتجن الرأي لنفسه ، أو يحتجز السر لذاته ، بل يشارك قيادته بذلك ، ويشاور مستشاريه به ، ويعرضه على ذوي الرأي

 


337

السديد ، وطالما نجده يعرض على أمراء الجيوش ما فيه تقويم الجيش ، ومن ذلك قوله :
     « ألا وإن لكم عندي ألا أحتجز دونكم سراً إلا في حرب ، ولا أطوي دونكم أمراً إلا في حكم ، ولا أدخر لكم حقاً عن محله ، ولا أقف به دون مقطعه ، وأن تكونوا عندي في الحق سواء ، فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة ، ولي عليكم الطاعة ، وألا تنكصوا عن دعوة ، ولا تفرطوا في صلاح ، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق ، فإن لم تستقيموا على ذلك ، ولم يكن أحد أهون عليّ ممن إعوجّ منكم ، ثم أعظم له العقوبة ، ولا يجد عندي فيها رخصة » .
     ويبدو جلياً مما تقدم مدى إحكام الإمام لأمره ، مع عماله وولاته توجيهاً وأمراً واستصلاحاً ، لا يدع فرصة إلا ويبين بها مقطع الحق ، ومشرع العدل في ضوء ما أستنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
     ولعل عهد الإمام إلى مالك الأشتر لما ولآه على مصر حين اضطرب الأمر على أميرها محمد بن أبي بكر يعد أطول عهد كتبه ، وأوفاه إدارياً وسياسياً ، وأجمعه للمحاسن .
     وهذا العهد من مفاخر التراث الإسلامي في مصادره ، ومن عيون التراث الإنساني في مقاطعه ، وهو صفحة من صحائف الإمام الخالدة في إدارة الحكم ، وشؤون السياسة ، وحقوق الراعي على الرعية ، وواجبات الرعية تجاه الراعي ، وبيان السنن ، وإحكام الفرائض ، وإعمار البلاد ، واستصلاح الناس ، وجهاد الأعداء ، واختيار الأكفاء ، وإشاعة العدل ، وحفظ النظام ، واستئصال شأفة الضلال .
     فقد ولاه الإمام مصر رئيساً لها ، وأناط به وزارة المالية : « جباية

 


338

خراجها » . ووزارة الدفاع « جهاد عدوها » . ووزارة الداخلية « استصلاح أهلها » ووزارة الزراعة والإعمار : « عمارة بلادها » في حين لم تكن هذه المصطلحات معروفة ، ولا هذا الاستيعاب مشاعاً .
     ولدى إلقاء الضوء على هذا العهد تجد الإمام فيه : قد أمر بتقوى الله ، وأن يكسر الوالي من نفسه عند الشهوات ،
     و « إشعار قلبه الرحمة للرعية ، والمحبة لهم ، واللطف بهم » . فلا يندم على عفو ، ولا يتبجح بعقوبة ، وأمره بأن ينصف الله والناس من نفسه ومن خاصة أهله ، وليكن أحب الأمور إليه أوسطها في الحق ، وأعمها في العدل ، وأمره بإبعاد من يطلب معايب الناس ، وأن لا يدخل في شؤونه بخيلاً ولا جباناً ولا حريصاً وعلل ذلك بأنها غرائز يجمعها سوء الظن بالله . وأمره بإبعاد وزراء السوء فإنهم أعوان الأئمة ، وإخوان الظلمة . واستخلاص خيرة الوزراء والحاشية ممن لا أصر له ولا وزر . وأمره بجعل خاصته أهل الورع والصدق ، ولا يكونن المحسن والمسيء بمنزلة سواء لديه ، ووجهه بالإحسان إلى الرعية وتخفيف المؤن عنهم ، وتعدي ذلك أن ألزمه بعلية القوم علماً وحكمة « وأكثر مدارسة العلماء ، ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك ، وإقامة ما استقام به الناس قبلك » .
     وما أوضحه الإمام فيما سبق دستور متكامل لكل رئيس دولة ، وحاكم أمة بالعدل ، في جعل الله نصب عينه سراً وعلناً ، واختيار وزراءه وقواده وأمراءه في ضوء ما القى الإمام من ملكات ، واصطفاء الديوان والحاشية والمرافقين ممن لا وزر فيه ، ولا سوابق مشينة لديه ، وأن يكون ذوو التخصص الدقيق هم أصحاب الرأي في شؤون البلاد .

 


339

     وبحث الإمام في هذا العهد أمر طبقات الرعية ، وأصناف الناس ، وذوي المهن وأرباب الحرف والصناعات ، وأوصاه بكل صنف وطبقة بما يناسب ذلك ، وجمع هذه الأصناف بقوله عليه السلام :
     « واعلم أن الرعية أصناف ، ولا يصلح بعضها إلا ببعض ، ولا غنى لبعضها عن بعض ، فمنها جنود الله ، ومنها كتاب الخاصة والعامة ، ومنها قضاة العدل ، ومنها عمال الإنصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ، ومنها التجار وأهل الصناعات ، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة ، وكل قد سمى الله له سهمه ، ووضع على حده وفريضته في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عهداً منه عندنا محفوظاً » .
     ثم بدأ الإمام يفصل القول في حقوق هؤلاء جميعاً وواجباتهم مما لهم وعليهم ، فيما لم تتوصل إلى مفاهيمه أرقى الأمم ثقافة ، وأعرق الدول حضارة ، وأكثر المتحضرين سياسة .
     ولست بصدد الوقوف على جزئيات هذا العهد العظيم ، ولا بسبيل بيان كلياته الكبرى ، فهذا مما يطول معه الحديث ، ولا يستوعبه هذا البحث ، واكتفينا بما ألمعنا إليه ، بما يعد أفضل وثيقه عالمية لصيانة حقوق الإنسان مما لم يسبق إليه الإمام من قريب أو بعيد .
     ولم أكن لأتتبع جميع فصول هذا العهد الرائع ، ولكنني ألقيت عليك منه بعض الفقرات ، واستخلصت منه جملة من النظرات لتستكشف ما خفي عليك بما أظهرت ، وتستقرئ منه المجهول ، وتستدل بما ذكرت على ما لم أذكر .
     وأشير هنا أن الاستاذ توفيق الفكيلي رحمه الله ، قد شرح هذا

 


340

العهد شرحاً وافياً قبل أكثر من خمسين عاماً ، وسماه « الراعي والرعية » في جزأين ، وقد أحدث إصداره حينذاك ضجّة علمية ، لما إشتمل عليه من مُثُل وقِيم وأبعاد سياسية . ولا عجب في ذلك فهو نفحة من نفحات أمير المؤمنين عليه السلام ، وجذوة من قبسات أفكاره الرائدة .
     هذه هي هموم علي الكبرى ، وتلك هي تطلعاته الغراء ، في إقامة السنن ، وإرساء دعائم الحكم ، وتشييد أركان السياسة الإسلامية ، ولكن القدر لم يمهل علياً عليه السلام في استكمال المسيرة وتحقيق الأهداف .
 

(13)
تهذيب النفس الإنسانية لدى الإمام
في إدارة الحكم الإسلامي


     ولم تكن تطلعات الإمام القيادية تنحصر في تدبير الجيوش ، وإعداد البعوث ، وإدارة دفة الحكم ، وتعاهد الولاة والعمال ، ولكنه كان إلى جنب ذلك معنيّاً عناية خاصة بتهذيب النفس الإنسانية ، وإصلاح الذات عند المسلمين ، باعتبارهما النواة في خلق جيل جديد يواكب النهج الإسلامي الجديد في صقل الطباع وتيقظ الضمائر .
     تسلم عليٌّ عليه السلام الحكم فواجهته أحداث كبار جرّت إلى حروب كبار أيضاً ، فقد بُليَ بجبروت الناكثين ، وتهور المارقين ، وطغيان القاسطين ، فعالج ذلك بما رأيت وقرأت .
     ودهمته الأثرة وحب الشهوات ، وتطاول الناس بما فيهم الصحابة أو بعض الصحابة وقسط من أبناء المهاجرين والأنصار إلى المناصب الرفيعة والولايات الفارهة ، فولّى من له أهلية الحكم ، وعزل من لا يستقيم معه أمر الدين ، وفجأه إنحراف السلوك الوظيفي للفرد فأراد تقويمه والعودة به إلى الحضيرة الإسلامية ، وهذا يعني بذل الجهد الإضافي الحثيث ليعادل التوازن ، ويعالج تدهور الأولاع والرغبات كما يقول علماء النفس .

 


342

     فينتزع حب المال من النفوس ، وشهوة الحكم لدى الطالبين ، والتقوقع على الذات عند السواد . فقد بُلي الإمام بطبقة من الناس تستهويها شهرة الأسماء ـ مضافاً إلى ما تقدم ـ دون النظر في حقائق الأشياء ، وكان هذ الابتلاء يستوي به عليّة القوم ، وضعفة الرجال ، وأقرب الناس إليه ، وأبعدهم عنه .
     فهذا محمد ابن الحنفية وهو ابنه ، وهو في الذروة من الورع والحيطة ، قد يستعظم منزلة الزبير ، وسابقة طلحة ، وأمومة عائشة ، فتمتلكه الحيرة حيناً ، ويذهب به التساؤل حيناً آخر ، فيجبهه الإمام ببديهة صارمة تصادر الحيرة ، وتجيب عن التساؤل ، ويقول له :
     « يا بني إنك ملبوس عليك ، لا يعرف الحق بالرجال ، إعرف الحق تعرف أهله » .
     وكتب إليه عامله على المدينة سهل بن حنيف يخبره أن طائفة من أبنائها يرغبون عنه ، ويتسللون إلى الشام سراً أو علناً ، فكتب إليه الإمام يعزيه عن هؤلاء ، وينهاه عن إرغامهم على الطاعة ، وترك الحرية لهم في التنقل حيث شاؤوا فهم أصحاب دنيا ، لا أصحاب دين .
     ويخلص إليه أهل السواد ويقصدون الكوفة في شؤونهم ؛ فيخلو الإمام إلى رجل من أهل الرساتيق ويسأله عن حال قومه :
     « أخبرني عن ملوك فارس كم كانوا ؟ » .
     فيجيبه الفارسي :
     « كانت ملوكهم في هذه المملكة الآخرة اثنين وثلاثين ملكاً » .
     ويريد الإمام أن يقول كلمته لهذا المجتمع الغارق بأحلامه العابرة ، فيسأله :

 


343

     « فكيف كانت سيرتهم ؟ » فيقول الفارسي :
     « ما زالت سيرتهم في عظم أمرهم واحدة ، حتى ملكنا كسرى بن هرمز ، فأستأثر بالمال والأعمال ، وخالف أولينا ، وأخرب الذي للناس ، وعمّر الذي له ، واستخفّ بالناس ، فأوغر نفوس فارس ، وثاروا عليه فقتلوه » .
     فقال الإمام عليه السلام ، وهو يعني ما يقول :
     « إن الله عز وجل خلق الخلق بالحق ، ولا يرضى من أحد إلا بالحق ، وفي سلطان الله تذكرة مما خوّل الله » .
     وعناية الإمام في هذا الجانب تدعوه أن يذكّر الناس بالآخرة ، وطالما فعل ذلك ، وتدعوه أيضاً إلى تزهيدهم بالدنيا ، وطالما فعل ذلك أيضاً ، فهو يخطب بالناس في أكثر من موضع وموضع مؤكداً هذا الملحظ للعودة بالناس إلى الدين ، فقد قال في جملة ما قال من خطبة له :
     « أخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل ان تخرج منها أبدانكم ، ففيها أختبرتم ، ولغيرها خلقتم ، إن المرء إذا هلك قال الناس ما ترك ؟ وقالت الملائكة ما قدّم » .
     ولكن القوم قد تمكنت منهم الدنيا ، فعليّ عليه السلام يريد أن يدّبر أمر الدين ، وهم يريدون أن يدبروا أمر الدنيا ، فهما مختلفان . جاءه عبد الله بن زمعة يستميحه عطاءً إضافياً من بيت المال ، فنهره بقوله :
     « هذا المال ليس لي ، ولا لك ، إنما هو فيء المسلمين ، وجلب أسيافهم ، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم ، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم » .

 


344

     وكان عليّ عليه السلام يطبق هنا التوجيه بسيرة عملية صارمة ، عزف فيها عن السرف ، وجنح فيها إلى الزهد حتى توجه إلى من أراد أن يلتزم سيرته هذه ، فقال له : « إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره » .
     ويلحظه أحدهم وهو يرتعد برداً في قطيفة سملة ويقول للإمام : « يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً ، ثم أنت تفعل هذا بنفسك ؟ » .
     فيقول الإمام :
     « ما أرزأكم شيئاً . وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة » .
     وهذا أخوه عقيل بن أبي طالب ، يستميحه شيئاً فوق نصيبه من بيت المال ، فيقول له الإمام : « إذا خرج عطائي فهو لك » . فقال عقيل : « وما يبلغ مني عطاؤك » .
     فأسرَّها الإمام في نفسه ، ولقنه درساً بليغاً ، ليتعظ غيره بذلك ، فأحمى حديدة قربها منه فضجّ عقيل منها ، فقال الإمام :
     « ثكلتك الثواكل يا عقيل ، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه ، أتئن من أذى ، ولا أئن من لظى » .
     وبلغه أن قاضيه شريح بن الحارث قد اشترى لنفسه داراً ، فأراد استيقان الخبر ، حتى إذا صدق استدعى شريحاً ووعظه قائلا : « بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين ديناراً ، وكتبت كتاباً وأشهدت فيه شهوداً » . فقال شريح : « لقد كان ذلك يا أمير المؤمنين » .

 


345

     فنظر إليه الإمام نظرة اقتلعته من مكانه ، وقال له :
     يا شريح : أما أنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ، ولا يسألك عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصاً ، ويسلمك إلى قبرك خالصاً ، فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك ، أو نقدت الثمن من غير حلالك ، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة » .
     وكان منهج الإمام هذا حرياً بأن يصلح شيئاً من النفوس ، أو يخفف من غلوائها في الأقل من التهافت على الدنيا ، والانغماس بمباهجها ، ولكن هذا النهج أيضاً قد يرضي قوماً ، وقد يسخط آخرين ، قد يجمع حوله القليل ، وقد ينفضّ عنه الكثير ، وقد أدرك الإمام هذا الملحظ إدراكاً عميقاً ، فقال : « لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة ، ولو أسلمني الناس جميعاً لم أكن متضرعاً » .
     ولم يكن الإمام لتعجزه الحيلة في تحقيق المأرب وإدارة الحكم كما يديره غيره من الساسة ، ولكنه يعرض عن ذلك صفحاً ، وينأى عنه جانباً إذ التمس كل ذلك من الطريق المستقيم الذي استنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
     وهذه الإستقامة عند الإمام هي التي ذهبت به كل مذهب في الصرامة ، غير متهاود فيها ، ولا متهاون عنها ، حتى قال : « الضعيف الذليل عندي قويٌ حتى آخذ الحق له ، والقوي العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ الحق منه » .
     ولو قدر للإمام أن يطبق سياسته هذه بتفاصيلها ، ويمثل منهجه بمفرداته كافة ، لانتقل بالإسلام والمسلمين إلى عالم رحيب أوسع ، رأيت فيه من الخير العميم ما يذهل العقول ، ولكن الإمام غلب على

 


346

أمره بالفتن والمحن ، كما غلب على رأيه بالمعارضة الجافة ، حتى قيل أن علياً لا علم له بالحرب ، ولا صبر له على القتال ، وشواهد العيان تأبى ذلك ، ودلائل الحدثان تنفي هذا الزعم المتهافت .
     وهو بأزاء هذا السبيل ينادي أؤلئك : و يلكم أتتوقعون اماماً غيرى يطأبكم الطري وحتى صرح غير موة
     « لقد ملئتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدري غيظاً » .
     وحتى التفت إلى أهل الكوفة قائلاً : « وددت أن معاوية صارفني فيكم صرف الدينار بالدرهم ، فأعطاني واحداً وأخذ مني عشرة ، أمير أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه ، وأميركم يطيع الله وأنتم تعصونه » .
     لقد أفسدوا على الإمام رأيه بالعصيان ، حتى فقدوا مصداقية الإمتثال له ، وحتى طمع فيهم معاوية وجردّهم عن كل شيء ، وقادهم بل ساقهم بين يديه سوق الأماء ، حتى قيل أن معاوية أدهى من علي ، وبلغه ذلك فقال :
     « والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، وكل غدرة فجرة ، وكل فجرة كفرة ، وكل كفرة في النار » .
     وكان الإمام عليه السلام عازماً على تنقية الطباع وترويض الغرائز ، وكانت الأطماع تمتلك النفوس ، وكان التآمر المتتابع يحبك الدسائس لإفشال الإمام بمسيرته ، وإسقاط النظام في تطلعاته الإنسانية المتألقة ، فعليٌ عليه السلام كان يدبر أمر الدين بقوة وعزيمة ، وأعداؤه يدبرون أمر الدنيا بنهم وجشع ، وكان أمر الدين قد تضاءل ، وأمر الدنيا قد أقبل ، وكانت القلّة من المؤمنين أنصاراً للإمام في إقام الدين ، وكانت الكثرة

 


347

من أعوان معاوية عضده في بناء الدنيا ، والناس بعامة أبناء الدنيا ، ولا يلام المرء في حب أمه ، فتطاول الباطل على الحق حقبة قيادة الإمام للأمة ، وكان ظل الحق يكاد ينحسر ، وكان شبح الباطل قد أظل ، فشرق الإمام بغصته لهذه الظاهرة الشاذة ، فالباطل لا يدوم ولو دام دمّر ، وقد استدام معاكساً لمسيرة الإمام ، ومضاداً لثورة الإمام ، فأورث ذلك المسلمين ندماً مريراً ، وأورث الإسلام تعثراً مريعاً ، حتى ظن بالإمام الجزع حين قال : « متى ينطلق أشقاها فيخضب هذه من هذا » .
     مشيراً إلى كريمته ورأسه ...
     وظاهرة أخرى كانت تقلق الإمام وتزيد من آلامه ، فهو يرى البعوث قد تعثرت ، والفتوح قد توقفت ، ومسلمة الفتوح بعد كمسلمة الفتح من ذي قبل ، لا يعرفون من الإسلام إلا إسمه ، ولا يعون من الفرائض إلا طقوسها ، ولا يدركون من القرآن إلا قداسته ، كثرة كاثرة بلا جدوى ، وأمم دخلت في الإسلام على غرّة ، وتزايد نظري في أعداد المسلمين ، دون تطبيق عملي لمبادئ الإسلام ، ومتى استطاع الإمام أن يفرغ من إصلاح الداخل ، حتى يتفرغ لإصلاح الخارج ، وهو يرى جمهرة من المسلمين ، قد استهوتهم حياة الترف عند الفرس ، وحياة الإستهتار عند الروم ، فتزودوا ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ، واستلذوا بالقصور الشامخة والمراكب الفارهة ، وغضوا طرفاً عن المصلحة العليا ، وتأقلموا بحياة لم يألفوها من ذي قبل ، وتطلعوا إلى أجواء ما عرفوها في تأريخهم القريب ، فانتقلت نفوس العرب من الحمية والنضال إلى الدعة والعيش الرغيد ، وبدأ عليها التغيير إلى الأسوأ شيئاً فشيئاً ، فضعف سلطان الدين ، وقوي سلطان الدنيا ، وعاد علي عليه السلام في الميدان بثلة من الأولين وقليل من الآخرين يحاولون ولا يستطيعون ،

 


348

ويناضلون فلا يبلغون ، وقد تجاوز السيل الزبى .
     ومما زاد في حراجة موقف الإمام أن أسلس معاوية القياد للهوى ، وجدد لنفسه حياة تتلائم ومتطلبات النفوس الحالمة بالترف والمجون وأطايب النعم ، فتأنق بالمأكل والمشرب وصف الألوان بما لا عهد للعرب فيه ، وتزين بالحلل الثمينة متشبهاً بالروم والقياصرة ، ونهب من مال الله ومال المسلمين ما أرضى به جشع أهل الدنيا ، فصفت له الحياة ، وخضعت له الأعناق . وكان علي عليه السلام يدير حكماً إسلامياً خالصاً ، وكان معاوية يدير ملكاً هرقلياً ، يتألف الرجال بالمال ، ويبذر الفيء كما يشاء ، ويزيد من الشهوات كما تتطلب النفوس ، وعلي عليه السلام يقسم المال بالسوية ، ويتحرج من أدنى شيء ورعاً ، ويأخذ نفسه بشطف العيش ، ونشأ جيل متمرد من أبناء المسلمين ، فرأو الحياة بمباهجها مع معاوية ، واستفاق البداة فطلبوا الرفاهية عند معاوية ، فمال هؤلاء وهؤلاء إلى معاوية ، فاستقبلهم بالأحضان ، يغري الأشراف ، ويعتضد بالسواد ، وعاد مغرب الدولة الإسلامية عند معاوية بهذه الصورة ، وكان مشرق الدولة الإسلامية بيد علي عليه السلام لا يلين ولا يستلين ، فأتسق لمعاوية ما أراد ، وبُلي الإمام بتواكل أصحابه ، وخذلان أهل العراق حتى ملهّم وملّوه ، وحتى دعا ربّه تعالى أن يبدله خيراً منهم ، وأن يبدلهم شراً منه ، فأبدله الله خيراً ، وأبدلهم شراً ، وكانت المؤامرة الكبرى التي أطاحت بالإمام ونظام الإسلام معاً . تلك المؤامرة التي ساعد عليها الزمان والمكان ، وتولى تنفيذها المخططون من وراء الحدود العراقية ، وداخل الأراضي العراقية ، حتى فجعت الأمة بأمثل قائد جسد سيرة النبي وقيادته .

 


349

(14)
عليٌّ ومناوئوه ... حتى استشهاد الإمام


     كانت المؤشرات السياسية بعد النهروان تومي إلى تكتل ثلاث جبهات منظمّة معادية لأمير المؤمنين عليه السلام .
     الأولى تتمثل في معاوية بن أبي سفيان وأنصاره من الشاميين والأمويين ومن سار بركبهم من الحاقدين على الإمام والموترين منه .
     وتتمثل الثانية في الخوارج الذين فجعهم الإمام بقتلاهم جانب النهر ، فهم يثيرون القلق ، ويقاطعون الإمام ، ويتجرؤون دون مسوغ شرعي أو قانوني ، فيجبهون الإمام بشعارهم « لا حكم إلا لله » أو « الحكم لله لا لك يا علي » .
     وكان زعيم الخوارج صلفاً حينما يخاطب الإمام ، وقد رأى من سياسته عدم الإكراه واللجاج ، فيقول : « يا علي تب من خطيئتك ، وارجع عن قضيتك ، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا » .
     والإمام يجيب « قد أردتكم على هذا فعصيتموني » .
     ويتمادى حرقوص بن زهير مشيراً إلى التحكيم : « ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه » . ويحاججه الإمام في هذا المنطق ، ويردّ عليه بلغة الدين ، ويعود باللائمة على سواه ، فيقول : « ما هو ذنب ، ولكنه عجزٌ من الرأي ، وضعفٌ من الفعل ، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه ، ونهيتكم عنه » .

 


350

     هذا نموذج من لجاج زعيم الخوارج المقتول بالنهروان ، وأمثاله وأمثال ذلك كثير .
     والجبهة الثالثة جبهة المنافقين والمتربصين الدائرين بالإمام عليه السلام ممن اعتضدوا بعشائرهم ، واهتبلوا الفرص مع معاوية فكاتبهم سراً ، وأغدق عليهم بالمال وأغرقهم بالطرف ، فشايعوه خفية ، وعملوا لحسابه بإمعان ، ويمثلهم الأشعث بن قيس الكندي ، ويلتفّ حوله رعيل من المتمردين والوصوليين ممن لا ذمام لهم ، ولا أمل في صلاحهم ، فقد جبلوا على الإنتهازية ، ومردوا على النفاق ، وحليت الدنيا بأعينهم ، وراقهم زبرجها ، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله العظيم .
     هذه الجبهات الثلاث فيما أحسب ، قد التقت أهدافها في إرادة التخلص من أمير المؤمنين ، وأجمعت أمرها لتدبير قتله أو اغتياله ، وقد حدث هذا بالفعل ، وتم لهم ما أرادوا فرادى ومجتمعين ، وأمير المؤمنين بسبيل العودة إلى صفين ، يعدّ لها العدة ، ويهيئ لها ما استطاع من قوة .
     ولم يكن أمير المؤمنين بمنأى عن أبعاد هذه المؤامرة ، ولا ببعيد عن إبرامها ، فقد لاحت أشراطها في الأفق القريب ، وهو موعود بالقتل اغتيالاً على يد شقيق عاقر ناقة صالح بما أخبره به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطالما قال اثناء وضوئه مراراً : لتخضبن هذه من هذا ، مشيراً إلى كريمته ورأسه الشريف .
     وقد ذهب إلى أبعد من هذا ، فكان ينشد في رمضان الذي قتل فيه هذه الأبيات :


351

أشدد حَيازيمكَ للمَوتِ

ولا تَجزَع من المَوتِ

كَمَا أضحَكَـكَ الدَهرُ

 

فإنَّ الموتَ لاقِيكَـا

إذا حـلّ بواديِكَـا

كَذَاكَ الدَهرُ يَبكِيكَا


     وكان رعيل من الخوارج يشهدون الموسم في الحج ، فتذاكروا ـ بزعمهم ـ شؤون المسلمين ، وذكروا أمير المؤمنين ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، وائتمروا فيما بينهم ، أن يريحوا الناس من هؤلاء الثلاثة ، وأن يثأروا من عليّ بخاصة لإخوانهم من الخوارج في النهروان .
     وانتدب عبد الرحمن بن ملجم المرادي لقتل أمير المؤمنين ، وانتدب الحجاج بن عبد الله الصريمي لقتل معاوية ، وانتدب عمرو بن بكير لقتل عمرو بن العاص ، وإتعدوّا لذلك وقتاً معيناً لتنفيذ الاغتيال في اليوم التاسع عشر من رمضان فجراً عند خروجهم لصلاة الفجر من شهر رمضان لعام أربعين من الهجرة .
     وأقام هؤلاء بمكة يتذاكرون الموعد ، ويحبكون الخطة ، مصممين على التنفيذ ، حتى إعتمروا في رجب وتفرقوا لأداء المهمّة .
     أما صاحب معاوية ، فأقدم عليه ولم يبلغ منه شيئاً ، ولا أصاب منه مقتلاً ، فقبض عليه وقتل .
     وأما صاحب ابن العاص ، فأقدم عليه ولم يصبه ، وكان قد مرض أو تمارض ، فأناب صاحب شرطته خارجة بن حذافة العدوي ، فقتل واجتمع عمرو بن العاص بالقاتل ، فقال : إنما أردت عمراً ، فقال عمرو : ولكن الله أراد خارجة . وقتله .
     وأما عبد الرحمن بن ملجم ، فذهب إلى الكوفة ، وأقام بها يوثق

 


352

الصلات بأعداء أمير المؤمنين ، فكان يجتمع بالأشعث بن قيس تارة ، ويتعد مع اثنين من الخوارج هما شبيب بن بحران ووردان بن مجالد تارة أخرى ، وكان الأشعث متحمساً للفتك بأمير المؤمنين ، وعبد الرحمن بن ملجم في ضيافته ، يتعهده بالألطاف ، ويبرّه في المأكل والمشرب .
     ويروي أبو الفرج الأصبهاني أن الأشعث كلم الإمام في أمر ، فأغلظ له الإمام وانتهره ، فعرض له الأشعث أنه سيفتك به ، وفهم الإمام تعريضه فقال :
     « أبالموت تخوفني وتهددني ، فوالله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع الموت عليّ » . وكان الإمام يستصغر قدر الأشعث ، ويحتقر ذكره .
     وحانت ساعة الإغتيال ، فالتفت الأشعث إلى ابن ملجم وقال : النجاء النجاء بحاجتك فقد فضحك الصبح . مما يعني أن الأشعث كان ظالعاً بالمؤامرة مع الخوارج وسواهم دون شك ، في إيوائه لابن ملجم ، وفي تهديده للإمام ، وفي علمه بالتوقيت ، وفي إعجاله لابن ملجم على تنفيذ الاغتيال .
     وأحسب أن الأشعث هذا ، وأمثال الأشعث ممن لم يذكر التأريخ أسماءهم ، كانوا يدبرون لهذا الاغتيال ، بالاتفاق مع معاوية ، ومعاوية يبذل لهم الأموال الطائلة يشتري بذلك دينهم وولاءهم وضمائرهم إن كانت لهم ضمائر ، حتى أن قلهاوزن يذهب : أن قتل الإمام علي قد تم على عدة بين ابن ملجم ومعاوية ونسبه إلى الطبري . ولا مانع لدى معاوية أن يستعين بابن ملجم والأشعث وسواهما لقتل الإمام .
     وهناك نص أدبي يرويه أغلب المؤرخين ، وهو عبارة عن أبيات

 


353

لأبي الأسود الدؤلي صاحب الإمام ، قد وجهها إلى معاوية ، ينسب فيها قتل الإمام لمعاوية وأنصاره ، يقول :

ألا أبلغ معاوية بن حـرب

أفي شهر الصيام فجعتمونا

قتلتم خير من ركب المطايا

ومن لبس النعال ومن حذاها

 

فلا قرّت عيون الشامتينـا

بخير الناس طراً أجمعينـا

وذللها ، ومن ركب السفينا

ومن قرأ المثاني والمئينـا


     ومما يتقدم يبدو أن المؤامرة قد أشرف على تنفيذها هذا الثلاثي الذي شكّل الجبهات الثلاث المعادية لأمير المؤمنين ، وأن الخوارج لم يستقلّوا بذلك وحدهم ، وإن كان لهم أمر التنفيذ .
     ومهما يكن من أمر ، فقد خرج الإمام لصلاة الصبح وهو ينادي بالمسلمين : الصلاة الصلاة ، بما رواه أبو الفرج عن أبي مخنف عن عبد الله بن محمد الأزدي ، قال : إني لأصلي في تلك الليلة بالمسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر كانوا يصّلون في ذلك الشهر من أول الليل إلى آخره ، إذ نظرتُ إلى رجال يصّلون قريباً من السدّة ، قياماً وركوعاً لا يسأمون إذ خرج عليهم : علي بن أبي طالب عند الفجر ، فأقبل ينادي : الصلاة الصلاة ، وبعدها رأيت بريق السيف ، وسمعت قائلاً يقول : الحكم لله لا لك ياعلي . ثم رأيت بريق سيف آخر ، وسمعت قائلاً يقول : لا يفوتنكم الرجل ، وكان الأشعث بن قيس قال لابن ملجم : النجاء لحاجتك قبل أن يفضحك الفجر .
     هذه رواية شاهد عيان للحادثة ، وغير هذه الرواية يتفق معها .
     وقد عقب أبو الفرج على الرواية بقوله : « فأما بريق السيف الأول فإنه كان سيف شبيب بن بحران ، وقد ضرب الإمام فأخطأه ، ووقعت ضربته في الطاق ، وأما بريق السيف الثاني فإنه ابن ملجم ضربه على

 


354

رأسه ، فأثبت الضربة في وسط رأسه » .
     وكان ابن ملجم قد أمهل الإمام في صلاته الركعة الأولى ، وقام الإمام الى الثانية ، وأهوى الإمام إلى السجود ، وحينما رفع جبهته من السجدة الثانية ، أهوى عليه بالسيف ، فعممه على رأسه ، وبلغت ضربته الدماغ ، وهو يقول : « الحكم لله يا علي لا لك » والإمام فيما يروي المؤرخون يقول : « فزت ورب الكعبة » .
     وكذلك يروون أن آخر كلام سمع منه قبل أن يموت هو تلاوته لقوله تعالى : ( فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرّةٍ خَيراً يَرَهُ * وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (1) .
     واضطرب الناس في مسجد الكوفة عند سماع أمير المؤمنين يقول : لا يفوتنكم الرجل ، فشدوا على ابن ملجم من كل مكان فقبض عليه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وصرعه وأخذ السيف منه ، وأدخل على أمير المؤمنين فقال : « النفس بالنفس » إن أنا متُ فاقتلوه ، وإن سلمت رأيت فيه رأيي » .
     فقال ابن ملجم : لقد اشتريت سيفي بألف ، وسممته بألف ، فإن خانني فأبعده الله ، وأحدق الناس بابن ملجم يريدون قتله ، وهم يقولون : يا عدو الله ماذا صنعت ، لقد أهلكت أمة محمد ، وقتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساكت لا يتكلم .
     واستدعى أهل الكوفة الأطباء للنظر في جرح الإمام ، وفي طليعتهم الجراح العربي المعروف أثير بن عمرو بن هاني ، وكان يداوي الجراحات الصعبة ، فلما نظر في جرح الإمام بكى وقال :


(1) الزلزلة : 7 ، 8 .


355

     اعهد عهدك يا أمير المؤمنين فإن ضربة اللعين قد وصلت أم رأسك .
     فأستقبل الإمام النبأ باليقين والصبر الجميل ، وكان الإمام في هذه اللحظات الحرجة متيقظاً تماماً فلم ينسَ النصح لأمة محمد ، والتفت إلى أبنائه قائلاً من وصيته عند الموت :
     « الله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم ، الله الله فيما ملكت أيمانكم فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر ما أوصى به قال : أوصيكم بالضعيفين مما ملكت أيمانكم » .
     ومضى عليه السلام يقول : قولوا للناس حسناً كما أمركم الله ، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى ذلك غيركم ، وتدعون فلا يستجاب لكم ، وعليكم بالتواضع والتباذل ، وإياكم والتقاطع والتفرق ، وتهاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان » .
     وأوصاهم بأداء الصلاة وتلاوة القرآن .
     وجمع إليه بنيه وأوصاهم بإطاعة الحسن والحسين لأنهما إمامان قاما أو قعدا ، ونصّ على إمامة ولده الحسن عليه السلام .
     وظل الإمام يعاني من ضربته تلك حتى قضى نحبه صابراً شهيداً محتسباً ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان عام أربعين من الهجرة .
     ومضى علي عليه السلام شهيد عظمته ، وقتيل مبادئه الصارمة ، لم يخلف بيضاء ولا صفراء (1) .


(1) ظ : في نصوص الفصل الثاني ووقائعه كلاً من :
     ابن الأثير | الكامل في التأريخ + الأمين العاملي | أعيان الشيعة + البلاذري | فتوح البلدان + ابن حجر | الصواعق + ابن أبي الحديد | شرح النهج + هاشم =


356

     وجلل الحزن الجزيرة العربية والأقاليم الإسلامية ، وتجاوب صدى الفاجعة في آفاق الدنيا ، فبكاه القريب والبعيد ، وحمل نعشه ليلاً الحسن والحسين وخلص أصحابه إلى النجف الأشرف من ظهر الكوفة ، ودفن بين الذكوات البيض حيث مرقده الشريف وحيث ضريحه المقدس اليوم .
     وبلغت وفاته عائشة فقالت :

فَألقَت عَصاها وإستقرَّ بها النَوى

 

كَمَا قرّ عَينَاً بالأيابِ المُسافِرُ

     ولست أعلم أكانت أم المؤمنين شامتة أم مؤبنّة .


=
     معروف | سيرة الأئمة الاثني عشر + الجاحظ | البيان والتبيان + الخطيب البغدادي | تأريخ بغداد + ابن خلدون | المقدمة + الصدوق | الخصال والأمالي + الطبرسي | الاحتجاج + الطبري | التأريخ + طه حسين | الفتنة الكبرى + عبد الفتاح عبد المقصود | الإمام علي بن أبي طالب + جورج جرداق | صوت العدالة الانسانية + العقاد | عبقرية الإمام + الأصبهاني | مقاتل الطالبيين + توفيق الفكيكي | الراعي والرعية + توماس كارليل | الأبطال + المسعودي | مروج الذهب + المفيد | الأرشاد + ابن النديم | الفهرست + نصر بن مزاحم | وقعة صفيّن + نوري جعفر | علي ومناوؤه + ابن هشام | السيرة النبوية .


357

قصيدة الشيخ علي الصغير
في أمير المؤمنين الإمام علي عَليهِ السَّلام


     جرت العادة في هذه الموسوعة أن تختم كل كتاب بإحدى قصائد المؤلف . وآثرنا نشر قصيدة والد المؤلف سماحة العلامة الشاعر الشيخ علي الصغير رحمه الله ، وقد ألقيت في مهرجان الغدير الخالد في جامع الخضراء في النجف الأشرف في 18 | 12 | 1370 هـ بحضور الإمام محمد الحسين كاشف الغطاء وبقية المراجع العظام والعلماء الأعلام ، والشباب العراقي المتحفز ، فكان لها صدى كبير في ظروف اجتماعية معينّة ونشرت في شعراء الغري للأستاذ علي الخاقاني 6 | 497 | عام 1953 م .

 

ولاك من الله إيمانها

وحبك فرضٌ بهذى الرقاب

وآي المودة تنزيلها

وأنت من الذكر أمُّ الكتاب

فإن جهلتك نفوس الطغام

وإنك من أنفس المؤمنين

وإنك ميزان أعمالها

فدع أمة حزبها الظالمون

فأنت بحق وصيُّ النبيّ

 

ونهجك للحق قرآنها

وإن يأب ذلك طغيانها

بحبك صرّح تبيانها

ومن ( سورة الدهر ) إنسانها

فإنك في النفس عرفانها

هداها اليقين وإيمانها

إذا خف في الحشر ميزانها

لنا شأننا ولها شانُها

وصرّح في ذاك فرقانها

* * *


 

358

علمت بأن ولاك السفين

وقلت هو البحر طامي العباب

فقلت لنفسي هنا مرفأٌ

وهذي السفينة آل النبي

فسرت على أسمك نحو الرشاد

وهللت باسمك حيث الصلاة

وبالرغم أنت فصول الأذان

ووجهك قبلة أهل الولاءِ

فإن كفرت أمة في ولاك

فقد عبدوا الشركَ طاغوتهم

وقد نسبوا الهجر للمصطفى

 

وحبُّك في الحشر ربانها

إذا فاض في البعث طوفانها

وهذي النجاة وشطآنها

ستنجيك إن هاج طغيانها

إذا ضل في الغي حيرانها

ولاكَ ... وإنك أركانها

وإن أرغمت فيك آذانها

وإن يأب ذلك عدوانها

فقدما تمركز كفرانها

إلها ومن قبل أوثانها

وذاك على الله بهتانها

* * *

هدى المتقين وللعاطفات

وهل يستطيع بأن يرتقي

ولكنها ثورةٌ في الفؤاد

حببتك في المهد عند الرضاع

وغنيت باسمك عند الشباب

ونظمت حبي اغرودةً

وناجيت حبك من فرحتي

وناديت صحبي هنا السلسبيل

هنا كوثر الخلد فلتستقي

فجاءتك باسم شباب الولاء (1)

فنظمت قلبي في باقةٍ

وقلت هو العيد (عيد الغدير)

 

خضوع ببابك أوزانها

لمعناك في الشعر شيطانها

وزمجرةٌ ثار بركانها

فتغذو ولاءَك ألبانها

فمن لحن قدسك ألحانها

فهذا فؤادي ديوانها

فزالت من النفس أحزانها

هنا العاطفات وميدانها

ليروِ بذلك ظمآنها

تحييك في الحب شبانها

من الحب تهتز أغصانها

وخير الهدية اثمانها


(1) يشير إلى الحفل الذي القيت فيه القصيدة وقد أقامه شباب شعراء الإمام الحسين العرب في مسجد الخضراء في النجف الأشرف .


359

فقدمت قلبي قربانه

 

وحبك للنفس قربانها

* * *

على قدس مجدك تهفو السنين

وفي الذر والكون في ظلمة

ولحت على العين فاستبشرت

وطفت على الروح فاستنشقت

فمن لطف معناك أشواقها

فلولاك حاربها كفرها

فأنت إلى الله عنوانها

 

وتعشق ذكرك أزمانها

تجليت فازدان كيوانها

بك العين إذ أنت إنسانها

ولاك وإنك سلطانها

ومن قدس ذاتك إيمانها

عن الحق غياً وطغيانها

وأنت على الحق برهانها

* * *

ومذ لحت في الكون فاستبشرت

فقد كنت في العرش نوراً لها

تدرجت من عالم مشرق

ولولا وجودك في آدم

فقد كنت من روحه توبة

ولدت بمكة في بيته

ونلت الشهادة في مسجد

ومت وفي شفتيك الصلاة

ولم تك تشغل عن فرضها

وكم لك في الحرب تكبيرة

نديمك فيها إله السماء

كلا مسجديك وسوح الجهاد

 

سهول البطاح وكثبانها

وأمناً به سار ركبانها

ذكا لم تدنسك أدرانها

فطينته ساء جثمانها

فأنت من الله غفرانها

فخرت لذلك أوثانها

وخانك في ذاك شيطانها

ليرضى بذلك ديانها

إذا أسعر الحرب فرسانها

كأن المحاريب ميدانها

إذا اشغل القوم ندمانها

لصدق العبادة برهانها

* * *

حياتك سفر إلى العارفين

وذاتك في كتب المرسلين

 

يخلد بالنور عنوانها

يضيق عن العقل تبيانها


 

360

فعن وصفها ضل أحبارها

فخبر إنجيلها عن علاك

فهل أنت معجزة المرسلين

وهل أنت من سرهم آية

 

وفي فهمها حار رهبانـها

وبشر في ذاك فرقانــها

وهل أنت في الأمر ثعبانها

إذا اتضحت زاد كتمانـها

النجف الأشرف

علي الصغير


 

خاتمة المطاف ونتائج البحث


     أعتقد أنني ـ بعد هذا التحقيق العلمي الدقيق ـ قد وفيت ببعض كلمات البحث الأكاديمية ، بأسلوب يسير ، وبفهم بديهي ، لم أذهب مذاهب القوم في الاستنباط فلسفياً ، ولم أجنح للعبارات المغلقة أو المبهمة ، ولم أتكلف نصاً عميق الدلالة ، بل حاولت خلافه هذا كله ، فجاء العرض بكل بساطة وسماح ، وكان البحث في سلامة من التعنت والأيهام ، واضحاً وضوح الألق في الأديم الصافي ، ومشرقاً إشراق الشمس على البطحاء ، لا أريد بذلك ثناء أو مديحاً ، بل أريد صدقاً وحقيقة ، وذلك سبيل النهج الموضوعي الخالص .
     كان هذا الكتاب حصيلة ممارسة فكرية وتأريخية ذاتية في سيرة الامام علي عليه السلام وقيادته النابعة من معين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي بعدُ تمثل الاسلام في مصادره وموارده تمثيلاً منقطع النظير ، فما رأينا علياً عليه السلام مطيعاً لهوى النفس ، ولا سائراً بركاب التأرجح بين الحق والباطل ، فهو مع الحق والحق معه كما عبر عن ذلك منقذ الانسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وما لمسنا علياً مندفعاً لنصرة هذا الدين بدوافع عصبية أو إقليمية ، بل كان ذلك عن بصيرة نافذة أريد بها وجه الله تعالى وحده . وما شاهدنا علياً عليه السلام منتصراً لنفسه على حساب دينه وعقيدته والمسلمين ، بل واجهنا صبره على الأذى ، وتجرعه مرارة الغيظ ،

 


362

وسكوته عن أثباج قيادته العليا ، لئلا يتأثر الاسلام بشيء ، والناس قريبو العهد بالجاهلية ، فصبر وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، يرى تراثه نهباً ، على حد تعبيره ، وما أدركنا علياً عليه السلام ، متمتعاً بنعيم الدنيا ، ولا مسرفاً في ملبسه وطعامه ، بل أدركناه يلبس الخشن من الثياب ، ويأكل الجشب من الطعام ، إن هي إلا كسيرات من خبز الشعير ، تداف في ملج أو لبن قارض ، زهداً بالترف والعيش الرغيد ، ولو شاء لأهتدى السبيل إلى مصفى هذا العسل ، ولباب ذلك القمح ، ونسائج الحرير ، ولكنها نفسه يروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الفزع الأكبر « ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع ، ولا طمع له بالقرص » كما جاء ذلك في كتابه لأبن حنيف واليه على البصرة . ولقد رأيناه يرتعد من البرد في رحبة الكوفة ، وعليه مدرعة إستحيا من راقعها فهي بالية متهرأة ، لئلا يرزأ المسلمين بشيء من المال الذي جعل له الله فيه حقاً مشروعاً « إن هي إلا قطيفتي التي جئت بها من المدينة » كما قال ذلك لابن عباس .
     ولقد خبرناه في قيادته للأمة لم يضع حجراً على حجر ، ولا لبنة فوق لبنة ، وإنما نزل ضيفاً في الكوفة على ابن أخته جعدة بن أبي هبيرة المخزومي ، وأبى أن يسكن في قصر الأمارة ، ووصفه بأنه قصر الخِبال ، وما داره الاثرية الموجودة اليوم جنوبي قصر الأمارة في الكوفة إلا دار ابن أخته ليس غير .
     ولقد درسناه وهو يساوي في العطاء بين الناس ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، لم يؤثر قرابة ، ولا ميز رحماً ، ولا فضل أسباطاً وحفدة هو والحسن والحسين وعقيل أخوه ، وعبد الله بن جعفر زوج عقيلة بني هاشم « زينب » ابنة أمير المؤمنين على حد سواء مع الأعرابي والمولى والمهاجري والأنصاري .

 


363

     ولقد أخذ ولاته وعماله بالشدة والنصح والتأديب ، فما حابى أحداً ، ولا تهاون مع أحد .
     ولقد حرب الناكثين والقاسطين والمارقين بصلابة وشجاعة في ذات الله ، كما حارب بالملحظ نفسه في بدر وأحد والأحزاب وخيبر وذات السلاسل ومشاهد رسول الله كلها ، قاذفاً بنفسه في لهوات الحرب ، مباشراً القتال بسيفيه ورمحيه ، وما رأينا قائداً في تأريخ الحروب ينزل ساحة الميدان مقاتلاً سوى أمير المؤمنين عليه السلام ، فالقائد عادة يأمر ويشرف ، ويخطط ويبرمج ، أما عليٌّ عليه السلام ، فقد جمع إلى ذلك مباشرة الحرب ، ومنازلة الأقران ، وكانت له ضربتان في المبارزة طولاً وعرضاً ، فأذا ضرب طولاً قطّ ، وإذا ضرب ضرب عرضاً قَدَّ ، وهذا شأن الأبطال المعدودين ، وأنى يعد معه سواه و « لا فتى إلا عليٌّ ، ولا سيفَ إلا ذو الفقار » ولا تعجب من ذلك فقد خاض المعارك في سبيل الله أربعين عاماً ، وهو القائل عن ذلك « نهضتُ بها ولم أبلغ العشرين ، وها أنا ذا قد ذَرّفتُ على الستين » فللّه درهُ .
     ولقد مات عليٌّ ولم يترك بيضاء ولا صفراء إلا سبعمائة درهم من عطائه ، أراد بها شراء من يخدم زوجته على ما قال ذلك ولده الامام الحسن عليه السلام لدى تقلده الامامة في خطبة له .
     وفي هذا الضوء وغيره ، ومن خلاله وسواه ، كان هذا الكتاب في ثلاثة فصول رئيسية ، إبتعدت عن الهذر والهذيان ، ونأت عن العاطفة والتعصب الأعمى ، وحققت الواقعية النوعية في جميع الأبعاد ، رؤيةً ونظريةً وتمحيصاً ورأياً ، فما إستندت إلى المراسيل التأريخية ، ولا تجنّت على المصادر ، ولا إفتأتت على الحقائق ، سبرت وحللت ودرست وقارنت ، لا رائد لها سوى السيرة كما كانت ، ولا هدف إلا

 


364

تصوير قيادة الامام عليه السلام كما هي ، عسى أن تكون قاربت ذلك ، فلا إحاطة للانسان والباحث والمفكر بتراث هذا الانسان العظيم ، ولا قِبلَ للكاتب الموضوعي على إستيعاب روافد هذا البحر المحيط ، فهو عليّ ابن أبي طالب وكفى .
     إنها ـ إذن ـ نفحات من عبير سيرته ، وشذرات من كنوز قيادته ، وما لا يدرك كلّه ، لا يترك كله .
     تحدثنا في الفصل الأول ، وعنوانه « عليٌّ في عصر النبوة » عن سيرة الامام في عهد الرسول الأعظم في ثلاثة عشر بحثاً مكثفاً ، إستوعبت حياة أمير المؤمنين من ميلاده حتى الهجرة النبوية ، وعرضت بتركيز موجز لإعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام إعداداً خاصاً تربوياً ورسالياً منذ نعومة أظفاره حتى النصر المبين في معركة « بدر الكبرى » وتناولت سيرة الامام علي عليه السلام في عنفوان شبابه وهو يتوجّه بالزهد والايثار والمواساة بأدق معاني هذه الكلمات وأصدقها ، ودرست علياً عليه السلام بأعتباره فارس المهمات الحربية الصعبة ، وأكدت على تحركه المستميت نضالياً في مشاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها ، بما أعتبر بها فارس العرب الأول دون منازع ، ولحظت تسلّمه الراية العظمى في كل الفتوح الألهية بأمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما في ذلك من التأكيد على كونه الامام والقائد ، والمرجع ، فهو أميرٌ لا يُؤَمرُ عليه ، وهو مستخلفٌ والرعيةُ سواه . وأبرزت موقع الامام في فتح مكة عملياً ، وهو إلى جنب النبيّ يكسر الأصنام ، ويطوّح بالأوثان ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة أعدائه هي السفلى . وحققت القول في الأنباء التي كدرت صفو فتح مكة ، بتحرك هوازن وثقيف ، ونشوب معركة « حُنين » الفاصلة في نتائجها على يد أمير المؤمنين عليه السلام وهو يذود الكتائب ، ويحمي

 


365

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعيد النصر للمسلمين . ولمست علياً عليه السلام رفيق النبي الأمين في حربه وسلمه ، في مظاهر عديدة أشار إليها البحث لما وآحذرَ الاطالة .
     وتناول الفصل في بحثه العاشر أحداث حجة الوداع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووقائع النص على إستخلاف عليٌّ عليه السلام في بيعة الغدير ، بروح رياضية ، وعرض أصيل ، ونتائج علمية .
     وكان البحث الحادي عشر مخصصاً للوسائل والأساليب التي شرّعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يمهد أمر الخلافة للامام تصريحاً لا تلمحياً ، ونصاً لا إجتهاداً ، بما بلّغ به رسالة ربه ، وهو يلتحق بالرفيق الأعلى وكان البحث الثاني عشر من الفصل متحدثاً عن قيادة قريش الثلاثية برئاسة أبي بكر (رض) وعضوية عمر بن الخطاب (رض) وعضوية أبي عبيدة بن الجراح ، وهي تقتحم مؤامرة السقيفة ، وتبعد أهل البيت عن الخلافة ، بتخطيط محكم ، وقرار عاجل ، وإحاطة شاملة .
     وكان آخر بحث من الفصل متحدثاً عن بيعة أبي بكر (رض) وما صاحبها من المفاجأة ، وما رافقها من المعارضة ، وما تكلم به قادة المسلمين ، ورجال الأمة ، إستنكاراً من جهة ، شجباً صامتاً من جهة أخرى ، وبين بين ، حتى تمت مرجعية الصحابة بديلاً متداعياً عن مرجعية أهل البيت عليهم السلام .
     وكان الفصل الثاني بعنوان : « عليٌّ بين الشيخين وعثمان » وقد إنتظم في أحد عشر بحثاً رئيسياً ، ضغط الأحداث ، وسلط الضوء الكاشف بحدود على الوقائع ، وأبان مظلومية عليِّ والزهراء عليهما السلام ، وتناول خطب الزهراء بالذات ، وإحتجاجها الصارخ ، وهما يتصاعدان في الأفق البهيم ، وعطف على الثورة المضادة للاسلام وأعاصير الردة ،

 


366

ونظر إلى أبي بكر وهو يقدس علياً ولكنه يعهد إلى عمر ، ولمس سيرة عمر متكأ على أمير المؤمنين ، ورأى عمر يتناسى علياً وينص على عثمان حصراً في تعيين مجلس الشورى ، ويتسلم عثمان السلطة فيقابل بالكراهية بيعةً وسياسة ، وينقم عليه المسلمون فيتفاقم الخطب ، ولا ناصر له من أتباعه ، حتى يتشحط بدمه صريعاً . فكان البحث الأول في إحتجاج الأنصار فرادى وجماعات مع هنٍ وهنّ ، وإمتناع أمير المؤمنين عن البيعة في جملة من الصحابة الرساليين ، ورعيل من بني هاشم ، وتبعه البحث الثاني متحدثاً عن ظلامة الزهراء في إنعطاف تأريخي خطير يدعمه القرآن والسنة ، وكانت شكوى الزهراء وخطبها يشعان عنان السماء في البحث الثالث ، وجاء البحث الرابع معالجاً لظروف الثورة المضادة للاسلام في إتجاه معاكس ، فيه الاحتجاج حيناً ، والمعارضة حيناً آخر ، بما سمي بحروب الردة ، فكانت بلاءً منصبّاً على الأمة في مختلف الأفتراضات الواقعية منها والمغلّفة بستار مهلهل رقيق .
     ووجدنا أبا بكر (رض) في بحث خاص يقدس علياً عليه السلام حتى ليطيل النظر في وجهه ، لأن النظر إلى وجه عليٍّ عبادة فيما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وليته نظر إلى قلب عليّ فوجد ما فيه من وجد ، ولمس ما في شغافه من ألم وأسى ، ولكنه أغمض عن ذلك كله ، وعهد إلى عمر(رض) في الخلافة في مسلسل محكم لأقصاء أمير المؤمنين عن القيادة .
     وجاء عمر إليها واثقاً من نفسه ، ومستنداً إلى أمير المؤمنين في معضلاته ومتكأ عليه في الفتاوى والمشكلات والرأي والإشارة والمشاورة ، بما صوره تصويراً دقيقاً المبحث السادس « سيرة عمر وإتكاؤه على أمير المؤمنين » ودنا أجل عمر فعيّن مجلساً للشورى برئاسة

 


367

عبد الرحمن بن عوف ، رشح فيه عثمان بما رسم وخطط تعييناً وتعيناً ، وأقصى علياً في رؤية واضحة لا أبهام فيها ولا غموض ، وبويع عثمان فأستقبل المسلمون بيعته بالكراهية والسخط ، وزاد في الطين بلة بسياسته من الصحابة لا سيما أبي ذر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود بما مثلّه البحثان الثامن والتاسع في تكثيف وموضوعية .
     ونقم المسلمون على عثمان سياسته المالية ، وسياسته العمالية في تعيين الولاة ، وإستئثاره بالفيء ، وتسليط مروان على مرافق الدولة ، وإستهتار عماله بحقوق المسلمين ، وضعف شخصيته ، وتداعي هيبة الخلافة ، فتجمعت الأمصار ، وكثر اللغط ، وغدر مروان ، فكان التغيير الجذري بثورة المسلمين مصريين وعراقيين وحجازيين ، وأمسك معاوية بجيشه السوري المنظم عن نصرته ، وتربص حتى مصرعه ، فكان له ما أراد ، إذ أجهز الثائرون على عثمان من كل صوب وحدب ، وقتل طعيناً وأنصاره بمشهد وبمسمع ، ومنتدى ومجمع ، لم يحركوا ساكناً ، إلا لماضة من إحتجاج مصطنع ، لا يسمن ولا يغني من جوع .
     ولقد نصح له عليّ عليه السلام ما أستطاع إلى ذلك سبيلاً ، وقد إستجاب له عثمان بحدود معيّنة ، ولكن مروان أفسد على عثمان رأيه ، فكانت الفتنة بما صورناه في البحث تصويراً فاعلاً نابضاً بوقائع الأمور الصادقة دون أية إضافة أو تزيّد .
     وكان الفصل الثالث بعنوان : « عليّ في قيادته للأمّة » في أربعة عشر مبحثاً ، لا أستطيع الوفاء بأنجازاتها العلمية ، فيها العرض الصادق ، والاجتهاد المتميّز ، والحقائق الناصعة ، والأضواء الكاشفة ، والتأريخ الصقيل الخالص ، والتقييم الموضوعي الرائد ، والمناخ الانساني

 


368

المتطور ، والقيادة المتموجة بين البعد السياسي والملحظ الديني مما رسخ أصول الحكم الإسلامي في ذروة تعليماته الفذة ، وقرارته الحضارية في العدل الاجتماعي ، والمساواة البشرية ، مما قلب المفاهيم الخاطئة ، وإستبدالها بموازين جديدة عادت بالاسلام إلى ينابيعه الأولى ، وبالمسلمين إلى عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم .
     ولمحت الدراسة إلى ما أبلتي به الامام من الخصوم والأعداء ، وهو في غمرة من الآلام النفسية حتى إستشهاده ، مما عبرّت عنه المباحث التي أكتفي بذكرها دون التفصيل ، وبعنواناتها دون التعليق ، وأدع تقييم ذلك للقارىء يحكم له أو عليه ، هذه البحوث هي كما وردت :
     1 ـ الثورة ترشح الامام للخلافة ، والامام يستقرىء الغيب المجهول .
     2 ـ إستقبال خلافة الامام بين المحرومين والأرستقراطيين .
     3 ـ المتمردون في مجابهة الامام متظاهرين بالثأر لعثمان .
     4 ـ قيادة الناكثين بين التردد وإقتحام مشارف البصرة .
     5 ـ حرب الجمل وهزيمة المتمردين .
     6 ـ عليٌّ في البصرة ومسيرة رسول الله .
     7 ـ عليٌّ يتخذ الكوفة عاصمة ، ويقدّم طلائعه إلى صفّين .
     8 ـ معركة صفين وإنحياز الخوارج .
     9 ـ الوفاء بشأن التحكيم ومعركة النهروان .
     10 ـ معاوية والخوارج يقتسمان الأحداث الدموية .
     11 ـ ظواهر العدل الاجتماعي عند الامام تقلب الموازين .

 


369

     12 ـ المهمات القيادية السياسية والتعليمات العسكرية لأمير المؤمنين .
     13 ـ تهذيب النفس الانسانية لدى الامام في إرادة الحكم الأسلامي .
     14 ـ عليٌّ ومناوؤه حتى إستشهاد الامام .
     وكل ما أخلص إليه في هذا الفصل : أن الامام إستقبل الأحداث وجهاً لوجه ، وأرسى المفهوم الاسلامي المشرق للحكم والحاكم ، فلم يكن مهادناً في ذات الله ، ولا متخاذلاً في أمر الله ، ولا مجاملاً في تنفيذ حكم الله ، وقد كلفّه هذا الاتجاه المستقيم كثيراً من العناء والبلاء ، حتى خاض غمار ثلاثة حروب دامية ، ما إنتصر بها لنفسه ، وإنما إنتصر بها لمبدئه .
     ولقد إحتاط لنفسه ودينه وللمسلمين ، فما عطل حكماً ، ولا إحتجن مالاً ، ولم يسرف في شيء أبداً ، فأحتفل به المحرومون ، ورفضه الأرستقراطيون ، وسير من القيم والمثل العليا ما جعله في مصاف الخالدين . وزهد في الحياة بما جعله كأحد الناس له ما لهم وعليه ما عليهم ، وطبق سنن العدل والمساواة حتى إبتعد عنه الأنتهازيون ، وإختلف عليه الأقربون ، وبقي في كوكبة قليلة من القادة والأنصار ، وأبقى على فئة صالحة من الرساليين ، وتفرق عنه الناس يميناً وشمالاً ، وهو القائل : « ما أبقى لي الحقّ من صديق » .
     وإحتضن معاوية أصحاب المطامع ، وإشترى الذمم والضمائر ، ولكنه الباطل الذي يتلاشى في جولته أمام الحق في صولته ، فالامام خالدٌ ما دامت السماوات والأرض ، ومناوؤه في مزبلة التأريخ تُصبُّ

 


370

عليهم لعنة الأجيال ، ورحم الله الشيخ عبد الحميد السماوي حيث يقول :

وهذا عَلِيٌّ . . والأهـازيجُ باسـمِهِ

أعيدوا « ابن هندٍ » إن وَجَدتُم رُفَاتَهُ

 

تَشُقُّ الفَضَا النائي . . فهاتوا معاويا

رُفاتاً . . وإلاّ فأنشـروها مخازيـا

 

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

النجف الأشرف

محمد حسين علي الصغير


***