قوله للفقير: 'اكتب علي الارض حاجتك'
روى ابن عساكر الشافعي عن الأصبغ بن نباتة، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: جاء رجلٌ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ لي إليك حاجة فرفعتُها إلى اللَّه قبل أن أرفعها إليك، فإن أنتَ قضيتها حمدتُ اللَّه وشكرتُك، وإن أنتَ لم تَقضها حمدتُ اللَّه وعذرتُك!!
فقال له عليّ عليه السلام: 'اُكتب على الأرض فإنّي أكره أن أرى ذُلّ السؤال في وجهك'، فكتب: إنّي محتاج، فقال عليّ عليه السلام: 'عليّ بِحُلّة'، فاُتي بها، فأخذها الرجل فلبسها، ثمّ أنشأ يقول:
كسوتَني حُلّة تبلى محاسنها*** فسوف أكسوك من حُسن الثنا حُللا
إن نلت حُسن ثنائي نلت مكرمة*** ولست تبغي بما قد قلتُه بدلاً
إنّ الثناءَ ليحيي ذكر صاحبه*** كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في زهو تواقعه*** فكلّ عبد سيجزى بالذي عملا
فقال عليّ عليه السلام: 'علَيَّ بالدنانير'، فاُتي بمائة دينار، فدفعها إليه.
فقال الأصبغ: فقلتُ: يا أمير المؤمنين، حُلّة، ومائة دينار؟! قال: 'نعم، سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: انزلوا النّاس منازلهم، وهذه منزلة هذا الرجل عندي'. [ تاريخ دمشق لابن عساكر - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 246:3، ح 1311، وروى الحديث بعينه في كنز العمّال 324:3، على ما روى عنه فضائل الخمسة من الصحاح الستّة 28:3، ونحوه في أمالي الصدوق - المجلس 46: ح 10، والبحار 34:41].
وفي "البحار": جاء أعرابي إلى عليّ عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي مأخوذ بثلاث عِلل: عِلّة النفس، وعلّة الفقر، وعلّة الجهل. فأجاب أمير المؤمنين عليه السلام، وقال: 'يا أخا العرب، علّة النفس تعرض على الطبيب، وعلّةُ الجهل تعرض على العالم، وعلّةُ الفقر تعرض على الكريم'. فقال الأعرابي: أنت الكريم، وأنتَ العالم، وأنتَ الطبيب، فأمر أميرُ المؤمنين عليه السلام بأن يعطى له من بيت المال ثلاثة آلاف درهم، وقال: 'تنفق ألفاً بعلّة النفس، وألفاً بعلّة الجهل، وألفاً بعلّة الفقر'. [ البحار 43:41].
وفيه أيضاً: وسأله أعرابي شيئاً فأمر له بألف، فقال الوكيل: من ذهب أو فضّة؟ فقال عليه السلام: 'كلاهُما عِندي حَجَران، فأعط الأعرابي أنفعهما له'. [ المصدر المتقدّم: 32].
جميع ما غرس من النخل و ... أوقفه في سبيل الله
و روى ابن شهر آشوب: قال له رجل - ورأى عنده وسق نوى -: ما هذا يا أبا الحسن؟ قال: 'مائة ألف نخل إن شاء اللَّه'، فَغَرسه فلم يغادر منه نواة واحدة، فهو من أوقافه، ووقف مالاً بخيبر وبوادي القُرى، ووقف مال أبي نيزر والبُغَيبغة، وأرباحاً، واُرَينة، ورعداً، ورزيناً، ورباحاً على المؤمنين، وأمر بذلك أكثر وُلْدِ فاطمة من ذوي الأمانة والصلاح، وأخرج مائة عينِ بيَنْبُع وجعلها للحجيج وهو باقٍ إلى يومنا هذا. وحفر آباراً في طريق مكّة والكوفة، وبَنى مسجد الفتح في المدينة، وعند مقابل قبر حمزة، وفي الميقات، وفي الكوفة، وجامع البصرة، وفي عبّادان، وغير ذلك.
وعن الصادق عليه السلام: 'أنّه أعتق ألف نسمة من كدّ يده'. [ المناقب لابن شهرآشوب 123:2، والبحار 32:41].
يعطي سيفه في الحرب الي مشرك حين يسأله اياه
و في "البحار" أيضاً: عن أبي السعادات في "فضائل العترة": روي أنّ عليّاً عليه السلام كان يحارب رجلاً من المشركين، فقال المشرك: يابنَ أبي طالب، هَبْني سيفَك؟ فرماها إليه. فقال المشرك: عجباً - يابن أبي طالب - في مثل هذا الوقت تدفع إلَيَّ سيفكَ؟
فقال: 'يا هذا، ا نّك مددتَ يدَ المسألة إلَيَّ، وليس من الكرم أن يُرَدَّ السائل'، فرمى الكافرُ بنفسه إلى الأرض، وقال: هذه سيرة أهلُ الدين، فقبّل قدمه وأسلم. [ البحار 32:41].
انفاقه ثلاثمائة دينار في ثلاث ليال و نزول الآيأ "و رجال لا تلهيهم" في شأنه
وفيه أيضاً عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: 'اُتي رسول اللَّه ءصلى الله عليه و آله بمال وحُلل، وأصحابه حوله جلوس، فقسّمه عليهم حتّى لم تبق منه حُلّة ولا دينار، فلمّا فرغ منه جاء رجل من فقراء المهاجرين وكان غائباً، فلمّا رآه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: 'أيّكم يعطي هذا نصيبه ويؤثره على نفسه'، فسمعه عليّ عليه السلام فقال: 'نصيبي، فأعطاه إيّاه، فأخذه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأعطاه الرجل'. ثمّ قال: 'يا عليّ، إنّ اللَّه جعلك سبّاقاً للخير سخّاءً بنفسك عن المال، أنتَ يعسوبُ المؤمنين والمالُ يعسوب الظلمة، والظلمةُ همُ الّذين يحسدونك ويبغون عليك ويمنعوك حقّك بعدي'. [ البحار 60:36].
اعطي سهمه من الحلل الي الفقير، و قول رسول الله في ذلك
و من موارد سخائه ما رواه ابن شهر آشوب في المناقب من تصدق عليّ عليه السلام ثلاثمائة دينار في ثلاث ليال و نزل في شأنه عليه السلام قوله تعالى: 'رجالٌ لا تُلهيهم تجارة و لا بَيع عن ذكر اللَّه...' فقد ذكرناه بتفصيله في هذا المجلد الفصل 71 'علي عليه السلام و الاخلاص في العمل'، فراجعه.
و من موارد سخائه عليه السلام ما جرى بين الرجل وعليّ بن أبي طالب عليه السلام عند الكعبة - شرّف اللَّه زائرها - وهو المعروف بخبر الناقة، فنذكرها مع تفصيله:
روى الصدوق في "أماليه": عن خالد بن ربعي، قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام دخل مكّة في بعض حوائجه، فوجد أعرابيّاً متعلّقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: يا صاحب البيت، البيتُ بيتُك، والضيفُ ضيفك، ولكلّ ضيفٍ من ضيفهِ قرىً [ قُرى الضيف: إكرامه و ما يقدّم له].
فاجعل قراي منك الليلة المغفرة.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه: 'أما تسمعون كلام الأعرابي؟'. قالوا: نعم. فقال: 'اللَّه أكرمُ من أن يَرُدَّ ضيفه'.
قال: فلمّا كانت الليلة الثانية وجده متعلّقاً بذلك الركن، وهو يقول: يا عزيزاً في عزّك، فلا أعزّ منكَ في عزّك، أعزّني بعزّ عزّك في عزّ لا يعلم أحد كيف هو، أتوجّه إليك وأتوسّل إليك بحقّ محمّد وآل محمّد عليك أعطني ما لا يُعطيني أحدٌ غيرُك، واصرف عنّي ما لا يَصرفه أحدٌ غيرُك. قال: فقال أميرُ المؤمنين عليه السلام لأصحابه: 'هذا واللَّه الاسم الأكبر بالسريانيّة، أخبرني به حبيبي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، سأله الجنّة فأعطاه، وسأله صرف النّار، وقد صرفها عنه'.
قال: فلمّا كانت الليلة الثالثة، وجده هو متعلّق بذلك الركن، وهو يقول: يا مَن لا يحويه مكان، ولا يخلو منه مكان، بلا كيفيّة كان، ارزق الأعرابي أربعة آلاف درهم. قال: فتقدّم إليه أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: يا أعرابي، سألتَ ربّك القُرى فقرأك، وسألتَه الجنّة فأعطاك، وسألتَه أن يصرف عنك النّار وقد صرفها عنك، وفي هذه الليلة تسأله أربعة آلاف درهم؟'. قال الأعرابي: مَن أنتَ؟ قال: 'أنا عليّ بن أبي طالب'. قال الأعرابي: أنتَ واللَّهِ بُغيتي، وبك أنزلت حاجتي. قال: سل، يا أعرابي'. قال: اُريد ألف درهم للصداق، وألف درهم أقضي به دَيني، وألف درهم أشتري به داراً، وألف درهم أتعيّش منه. قال: 'أنصفت يا أعرابي، فإذا خرجت من مكّة فاسأل عن داري بمدينة الرسول'.
فأقام الأعرابي بمكّة اسبوعاً، وخرج في طلب أمير المؤمنين إلى مدينة الرسول صلى الله عليه و آله ونادى: مَن يدُلُّني على دار أمير المؤمنين عليّ؟
فقال الحسين بن عليّ من بين الصبيان: 'أنا اُدلُّكَ على دارِ أمير المؤمنين، وأنا ابنه الحسين بن عليّ'. فقال الأعرابي: مَن أبوك؟ قال: 'أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب'. قال: مَن اُمّك؟ قال: 'فاطمةُ الزهراء سيّدة نساء العالمين'. قال: مَن جدّك؟ قال: 'رسول اللَّه محمّد بن عبداللَّه بن عبدالمطّلب'. قال: مَن جدّتك؟ قال: 'خديجة بنت خويلد'. قال: مَن أخوك؟ قال: 'أبو محمّد الحسن بن عليّ'. قال: لقد أخذت الدنيا بطرفيها، امش إلى أمير المؤمنين، وقل له: إنّ الأعرابي صاحب الضمان بمكّة على الباب.
قال: فدخل الحسين بن عليّ عليه السلام، فقال: 'يا أبه، أعرابيُّ بالباب، يزعم أنّه صاحب الضمان بمكّة'.
قال: فقال: 'يا فاطمة، عندك شيء يأكله الأعرابي؟'. قالت: 'اللّهمّ لا'. قال: 'فَتَلَبَّس أمير المؤمنين عليه السلام وخرج وقال: ادعوا لي أبا عبداللَّه سلمان الفارسي'. قال: فدخل إليه سلمان الفارسي، فقال أمير المؤمنين: يا أبا عبداللَّه، اعرض الحديقة الّتي غرسها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لي على التجّار'. قال: فدخل سلمان إلى السوق وعرض الحديقة، فباعها باثني عشر ألف درهم، وأحضر المال وأحضر الأعرابي، فأعطاه أربعة آلاف درهم وأربعين درهماً نفقة، ووقع الخبر إلى سؤّال المدينة فاجتمعوا، ومضى رجلٌ من الأنصار إلى فاطمة عليهاالسلام فأخبرها بذلك، فقالت: 'آجرك اللَّه في ممشاك'، فجلس عليّ عليه السلام والدراهم مصبوبة بين يديه حتّى اجتمع إليه أصحابه، فقبض قبضةً قبضةً وجعل يعطي رجلاً رجلاً حتّى لم يبق معه درهم واحد. فلمّا أتى المنزل قالت له فاطمة: 'يابن عمّ، بعتَ الحائط الّذي غرسه لك والدي؟'. قال: 'نعم "بعته"، بخير منه عاجلاً وآجلاً'. قالت: 'فأين الثمن؟'. قال: 'دفعته إلى أعين استحييتُ أن اُذلّها بذلّ المسألة قبل أن أن تسألني'.
قالت فاطمة: 'أنا جائعة وابناي جائعان، ولا أشكُّ إلا وإنّك مثلنا في الجوع، لم يكن لنا منه درهم؟'، وأخذت بطرف ثوب عليّ عليه السلام، فقال عليّ عليه السلام: 'يا فاطمة، خلّيني'. فقالت: 'لا واللَّه أو يَحْكُمَ بيني وبينك أبي' [ لعلّ منازعة فاطمة عليهاالسلام إنّما كنت ظاهراً لظهور فضله عليه السلام على النّاس، أو لظهور الحكمة به فيما صدر عنه، أو لوجه من الوجوه لا نعرفه].
فهبط جبرئيل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا محمّد، ربُّك يقرؤك السلام، ويقول: اقرأ عليّاً منّي السلام، وقل لفاطمة: ليس لك أن تضربي على يديه، ولا تلزمي بثوبه'. فلمّا أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منزل عليّ وجد فاطمة ملازمة لعليّ عليه السلام فقال لها: 'يا بُنيّة، ما لَكِ ملازمة لعليّ؟'.
قالت: 'يا أبه، باع الحائط الّذي غرسته له بإثني عشر ألف درهم، لم يَحبس لنا درهماً نشتري به طعاماً'. فقال: 'يا بُنيّة، إنّ جبرئيل يقرؤني من ربّي السلام، ويقول: اقرأ عليّاً من ربّه السلام، وأمرني أن أقولَ لَكِ، ليس لكِ أن تضربي على يديه، ولا تلزمي بثوبه'. قالت فاطمة عليهاالسلام: 'فإنّي أستغفر اللَّه ولا أعودُ أبداً'. قالت فاطمة عليهاالسلام: 'فخرج أبي في ناحية وزوجي في ناحية، فما لبث أن أتى أبي ومعه سبعة دراهم هجريّة، فقال: يا فاطمة، أينَ ابنُ عمّي؟'. فقالت له: 'خرج'. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'هاكِ هذه الدراهم، فإذا جاء ابنُ عمّي فقولي له يبتاع لكم بها طعاماً'. فما لبثتُ إلا يسيراً حتّى جاء عليّ عليه السلام فقال: 'رجع ابنُ عمّي، فإنّي أجد رائحة طيّبة؟'. قالت: 'نعم، وقد دفع إلَيَّ شيئاً تبتاع به لنا طعاماً'. قال عليّ عليه السلام: 'هاتيه'، فدفعت إليه سبعة دراهم سوداً هجريّةً'.
فقال: 'بسم اللَّه، والحمد للَّه كثيراً طيّباً، وهذا من رزق اللَّه عزّ وجلّ'.
ثمّ قال: 'يا حسن، قُم معي، فأتيا السوق، فإذا هما برجل واقف وهو يقول: مَن يقرضُ المَليّ الوفيّ؟ قال: يا بُنيّ، نُعطيه؟'. قال: 'إي واللَّه، يا أبه'، فأعطاه عليّ عليه السلام الدراهم. فقال الحسن: 'يا أبتاه، أعطيتُه الدراهم كلّها؟'. قال: 'نعم - يا بنيّ - إنّ الّذي يعطي القليل قادر على أن يعطي الكثير'. [ إنّ إعطاءه عليه السلام الدراهم ولم يشتر الطعام إمّا يعلم إذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيه أو كان له ولاية في هذا، واللَّه العالم].
قال: فمضى عليّ بباب رجل يستقرض منه شيئاً فلقيه أعرابيّ ومعه ناقة، فقال: يا عليّ، اشترِ منّي هذه الناقة. قال: 'ليس معي ثمنها'. قال: فإنّي أنظرك به إلى القبض. قال: 'بِكَم، يا أعرابي؟'. قال: بمائة درهم. قال عليّ: 'خذها، يا حسن'، فأخذها. فمضى عليّ عليه السلام فلقيه أعرابي آخر، المثال واحد والثياب مختلفة، فقال: يا عليّ، تبيع الناقة؟ قال عليّ عليه السلام: 'وما تصنع بها؟'. قال: أغزو عليها أوّل غزوّة يغزوها ابنُ عمّك. قال: 'إن قبلتها فهي لك بلا ثمن'. قال: معي ثمنها، وبالثمن أشتريها، فبِكَم اشتريتها؟ قال: 'بمائة درهم'. قال الأعرابي: فلك سبعون ومائة درهم. قال عليّ عليه السلام: 'خذ السبعين والمائة، وسلّم الناقة والمائة للأعرابي الّذي باعنا الناقة، والسبعين لنا نبتاع بها شيئاً، فأخذ الحسن عليه السلام الدراهم وسلّم الناقة. قال عليّ عليه السلام: 'فمضيتُ أطلب الأعرابي الّذي ابتعت منه الناقة لاُعطيه ثمنها، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جالساً في مكان لم أره فيه قبل ذلك ولا بعده، على قارعة الطريق، فلمّا نظر النبيّ صلى الله عليه و آله إلَيَّ تبسّم ضاحكاً حتّى بدت نواجذه'. [ النواجذ: الأسنان، وفي البحار: النواجد - بالدال -، وفي لسان العرب إنّها نواجذ بالذالّ وهي أقطع الأضراس].
قال عليّ عليه السلام: 'أضحك اللَّه [ أضحك اللَّه سّنك: هي الّتي تبدو عند الضحك من الأسنان].
وبشّرك بيومك. [ بشّرك بيومك: يوم الشفاعة الّتي وعدها اللَّه تعالى له].
فقال: 'يا أبا الحسن، إنّك تطلب الأعرابي الّذي باعك الناقة لتوفيه الثمن؟ فقلت: إي واللَّه، فداك أبي واُمّي'. فقال: 'يا أبا الحسن، الّذي باعك الناقة جبرئيل، والّذي اشتراها منك ميكائيل، والناقة من نُوق الجنّة، والدراهم من عند ربّ العالمين عزّ وجلّ، فأنفقها في خير ولا تخف اقتاراً'. [ أمالي الصدوق - المجلس الحادي والسبعون: ح 10، والبحار 44:41].
عن تاريخ البلاذري وفضائل أحمد: أنّه كانت غَلّة عليّ عليه السلام أربعين ألف دينار، فجعلها صدقةً، وأنّه باع سيفه وقال: 'لو كان عندي عِشاءً ما بِعتُه'. البحار 26:41
الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه، فهو من حقوق النّاس، وقد أكّد عليه بأنحاء التأكيد، سواء بنحو الايجاب أو الندب. وذلك عن طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية وأنواع الإنفاق الواجب والصدقات المندوبة، وكذلك عن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك، وإنّما يريد بذلك رفع مستوى معيشة الطبقة الفقيرة، وإشاعة العدل والمساواة في المجتمع.
ومن ناحية اُخرى قد حدّ من تظاهر أهل الثروة بالتجمّل والزينة في مظاهر الحياة بما يقرّب من الإفراط، ويبتعد عن المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من النّاس، وذلك من خلال النهي عن الإسراف والتبذير 'كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ'. [ سورة الحشر: 7].
لقد كان أميرُ المؤمنين عليه السلام الحائز على قصب السبق في كلّ مشاريع الإنفاق، الواجب منها والمستحبّ، فهو عليه السلام السخيّ الّذي لا يُجارى، والكريم الّذي لا يُبارى، ولا يمكن لأحدٍ من أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أن يقف إلى جانبه أو يَصل إلى مقامه أو يدانيه في هذه القضيّة المباركة.
ولعلّ الأوقاف الّتي أوقفها، والمساجد الّتي بناها، والآبار الّتي أحياها ووضعها في خدمة الآخرين، والطرق الّتي أصلحها، خير شاهد ودليل على ما نقول، بل إنّه عليه السلام كان سبّاقاً لكلّ إنفاق مشروع، الواجب منه والمستحبّ، وفقاً لميسور الحال واقتضاء الإمكان. [ لقد أشرنا إلى نماذج من هذه الإنفاقات في فصل "عليّ عليه السلام والسخاء والجود"].
كما أنّه عليه السلام لم يكن سخيّاً بماله وحسب، بل كان جواداً بنفسه المقدّسة في سبيل اللَّه حينما تعزّ النفوس ويضنّ بها.
قال ابن شهرآشوب في إنفاق عليّ عليه السلام في سبيل اللَّه: ولعليّ في ذلك فضائل؛ لأنّ الجود جودان: نفسي ومالي. قال اللَّه تعالى: 'وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ'. [ سورة التوبة: 41].
وقال النبيّ صلى الله عليه و آله: 'أجود النّاس من جاد بنفسه في سبيل اللَّه...'، فصار قوله: 'لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا' [ سورة الحديد: 10].
أليق بعليّ عليه السلام؛ لأنّه جمع بينهما ولم يجتمعا لغيره. [ المناقب لابن شهرآشوب 71:2، والبحار 24:41].
ممّا نزل في إنفاقه من القرآن الكريم
وقد نزلت في القرآن الكريم آيات كثيرة في إنفاق أمير المؤمنين عليّ بن أي طالب، وقد أشرنا إليها في فصول متعدّدة مفصّلاً، ونشير هنا إلى بعضها إجمالاً رعاية للاختصار وتتميماً للفصل:
1- قوله تعالى: 'الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ': ففي البحار عن الطبرسي والزمخشري و غيرهما عن ابن عبّاس، و كذا السيوطي في "الدرّ المنثور": عن ابن عبّاس، قال: نزلت هذه الآية: 'الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ...' في عليّ بن أبي طالب عليه السلام، كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً، وبالنهار درهماً، سرّاً وعلانية. [ البحار 62:36].
2- وقوله تعالى: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ'. [ سورة المائدة: 55].
عن ابن الصبّاغ المالكي عن ابن عبّاس، قال: أن علياً عليه السلام صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوماً فسأل سائل في المسجد فأعطاه عليّ عليه السلام خاتمه راكعاً، فنزلت آية: 'إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ...' الآية. [ الفصول المهمّة: 124].
3- و قوله تعالى: 'وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ' [ سورة الحشر: 9].
نزلت في عليّ بن أبي طالب حين أطعم جائعاً في ليلة ونام هو وفاطمة وولداهما الحسن والحسين عليهم السلام جائعين، فنزلت الآية في شأنهم.
وقد ذكرنا الحديث مفصّلاً في المجلد الاوّل في فصل 'عليّ عليه السلام و آية الايثار'.
4- و قوله تعالى: 'رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ' إلى قوله: 'بِغَيْرِ حِسَابٍ' [ سورة النور: 37 و 38].
نزلت في عليّ عليه السلام حيث أعطاه النبيّ صلى الله عليه و آله ثلاثمائة دينار هدية، فأعطى امرأة مائة دينار ليلة، وفي ليلة ثانية أعطى مائة دينار إلى رجل، وثالثة إلى رجل آخر، وقد ذكرنا الحديث بتمامه في فصل "عليّ عليه السلام والسخاء والجود".
5- قوله تعالى: 'وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَ ا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً'. [ سورة الإنسان 8 و 9].
فعن ابن المغازلي بسنده عن ليث بن أبي سليم، عن طاووس: نزلت الآيات في عليّ بن أبي طالب عليه السلام؛ وذلك أنّهم صاموا و فاطمة وخادمتهم، فلمّا كان عند الإفطار، وكانت عندهم ثلاثة أرغفة قال: فجلسوا ليأكلوا فأتاهم سائل، فقال: أطعموني فإنّي مسكين، فقام عليّ عليه السلام فأعطاه رغيفه، ثمّ جاء سائل فقال: أطعموا اليتيم، فأعطته فاطمة الرغيف، ثمّ جاء سائل، فقال: أطعموا الأسير، فقامت الخادمة فأعطته الرغيف، وباتوا ليلتهم طاوين، فشكر اللَّه لهم فأنزل هذه الآيات. [ المناقب لابن المغازلي الشافعي: 273].
لقد كان إنفاقه وإحسانه عليه السلام يعمّ الجميع حتّى الغرباء، بل حتّى من كان من أعدائه، فآية الإطعام في سورة هل أتى تقول: 'وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً'، والأسير هو المحارب من بلاد دار الحرب، ومع ذلك أنفق عليه وأفطر هو عليه السلام مع أهل داره على الماء.
6- و قوله تعالى: 'لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ'. [ سورة البقرة: 273].
في "البحار": عن ابن عبّاس، قال: لمّا أنزل اللَّه: 'لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ' الآية، بعث عبدالرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفّة حتّى أغناهم، وبعث عليّ بن أبي طالب عليه السلام في جوف الليل بوسق من تمر، فكان أحبّ الصدقتين إلى اللَّه صدقة عليّ عليه السلام، واُنزلت الآية، وسئل النبيّ صلى الله عليه و آله: أي الصدقة أفضل في سبيل اللَّه؟ فقال: 'جهد من مقلّ'. [ البحار 26:1].
7- و قوله تعالى: 'وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ'. [ سورة البقرة: 265].
في "تفسير العيّاشي": عن أبي بصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في هذه الآية، قال: 'عليّ أمير المؤمنين عليه السلام أفضلهم، وهو ممّن ينفق ماله ابتغاء مرضاة اللَّه'. [ تفسير العيّاشي 148:1].
وفيه أيضاً: عن سلام بن المستنير، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: في قوله تعالى: 'وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ' الآية، قال: 'اُنزلت في عليّ عليه السلام'. [ تفسير العيّاشي 148:1].
هناك كثير من الأخبار والروايات الّتي تتحدّث عن إنفاق أمير المؤمنين عليه السلام في سبيل اللَّه، وفيما يلي نشير إلى بعضها:
منها: في "المناقب": عن محمّد بن الصمّة، عن أبيه، عن عمّه، قال: رأيت في المدينة رجلاً على ظهره قربة، وفي يده صحفة يقول: 'اللّهمّ وليّ المؤمنين، وإله المؤمنين، وجار المؤمنين، أقبل قرباني الليلة، فما أمسيت أملك سوى ما في صحفتي وغير ما يواريني، فإنّك تعلم أنّي منعته نفسي مع شدّة سغبي في طلب القربة إليك غنماً. اللّهمّ، فلا تخلق وجهي، ولا تردّ دعوتي'، فأتيته حتّى عرفته، فإذا هو عليّ بن أبي طالب، فأتى رجلاً فأطعمه. [ مناقب ابن شهرآشوب 76:2].
ومنها: في "الكافي": عن الحارث الهمداني، قال: سامرت أمير المؤمنين عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين، عرضت لي حاجة. قال: 'فرأيتني لها أهلاً'. قلت: نعم، يا أمير المؤمنين. قال: 'جزاك اللَّه عنّي خيراً'، ثمّ قام إلى السراج فأغشاها وجلس. ثمّ قال: 'إنّما اغشيت السراج لئلا أرى ذلّ حاجتك في وجهك، فتكلّم فإنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: الحوائج أمانة من اللَّه في صدور العباد، فمن كتمها كتب له عبادة، ومَن أفشاها كان حقّاً على من سمعها أن يعينه'.
ومنها: في "البحار": روت الخاصّة والعامّة، منهم ابن شاهين المروزي، وشيرويه الديلمي، عن الخدري، وأبو هريرة: أنّ عليّاً عليه السلام أصبح ساغباً، فسأل فاطمة طعاماً، فقالت: 'ما كانت إلا ما أطعمتك منذ يومين، آثرت به على نفسي وعلى الحسن والحسين'. فقال: 'إلا أعلمتني فأتيتكم بشيء؟'. فقالت: 'يا أبا الحسن، إنّي لأستحيي من إلهي أن اُكلّفك ما لا تقدر عليه'.
فخرج واستقرض عن النبيّ صلى الله عليه و آله ديناراً، فخرج يشتري به شيئاً فاستقبله المقداد قائلاً: ما شاء اللَّه، فناوله عليّ عليه السلام الدنيار، ثمّ دخل المسجد فوضع رأسه فنام، فخرج النبيّ صلى الله عليه و آله فإذا هو به، فحرّكه، وقال: 'ما صنعت؟'، فأخبره، فقام وصلّى معه، فلمّا قضى النبيّ صلى الله عليه و آله صلاته قال: يا أبا الحسن، هل عندك شيء نفطر عليه فنميل معك؟'، فأطرق لا يحير جواباً حياءً منه، وكان اللَّه أوحى إليه أن يتعشّى تلك الليلة عند عليّ عليه السلام، فانطلقا حتّى دخلا على فاطمة وهي في مصلاها، وخلفها جفنة تفور دخاناً، فأخرجت فاطمة الجفنة فوضعتها بين أيديهما، فسأل عليّ عليه السلام: 'أنّى لكِ هذا؟'. قالت: 'هو من فضل اللَّه ورزقه 'إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ'. [ سورة آل عمران: 37].
قال: فوضع النبيّ صلى الله عليه و آله كفّه المبارك بين كتفي عليّ، ثمّ قال: 'يا عليّ، هذا بدل دينارك'، ثمّ استعبر النبيّ صلى الله عليه و آله باكياً، وقال: 'الحمد للَّه الّذي لم يمتني حتّى رأيت في ابنتي ما رأى زكريّاً لمريم'. [ البحار 30:41].
قال عليّ عليه السلام في قوله تعالى: 'وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرضِ هَوْناً'، 'فينا نزلت هذه الآية'.
المناقب لابن شهرآشوب 104:2
و الآية في سورة الفرقان: 63
في مفهوم التواضع ومدحه و كذا الكبر و آفاته
التواضع ضد الكبر فهو بمعنى إظهار الخشوع والخضوع والذلّ والافتقار إلى اللَّه تعالى عند ملاحظة عظمته وعند تجدّد نعمه أو تذكّرها، والتنكّر للنفس يمنع من أن يرى لِذاتها مزيّة على الغير، وتلزمه أفعال وأقوال موجبة لاستعظام الغير وإكرامه، ولايظنّ أحدٌ أنّ التواضع يوجب الذلّة، بل يوجب الرفعة ويزيد صاحبه كثرة في الأموال والأولاد والأعوان في الدنيا والآخرة، وقد ورد في مدحه وحسنه الكثير من القرآن والسنّة. قال تعالى: 'وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرضِ هَوْناً'. [ سورة الفرقان: 63].
وجاء في "الكافي": عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأصحابه: 'إنّ الصدقة تزيد صاحبها كثرةً، فتصدّقوا يرحمكم اللَّه، وإنّ التواضع يزيد صاحبه رفعةً، فتواضعوا يرحمكم اللَّه، وإنّ العفو يزيد صاحبه عزّاً، فاعفوا يعزّكم اللَّه'. [ الكافي 121:2].
وفيه أيضاً: عن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'سمعته يقول: إنّ في السماء ملكين موكّلين بالعباد، فمن تواضع للَّه رفعاه، ومَن تكبّر وضعاه'. [ المصدر المتقدّم: 122؛ راجع: مرآة العقول 247:8].
امّا الكِبر هو: الركون إلى رؤية النفس فوق الغير، وبعبارة اُخرى: هو عزّة وعظيم يوجب رؤية النفس فوق الغير، واعتقاد الإنسان المزية والرجحان له على غيره، وبه ينفصل عن العُجب؛ إذ العُجب مجرّد استعظام النفس من دون اعتبار رؤيتها فوق الغير، فالعُجب سبب الكبر، والكبر من نتائج الُعجب.
والكبر أمرٌ باطني يقتضي أعمالاً في الظاهر، وتسمّى تلك الأعمال الظاهرة الصادرة من الكبر تكبّراً، ولذا من تعزّز ورأى نفسه باطناً فوق الغير من دون صدور فعل على جوارحه يقال له: كبر، وإذا ظهرت الأعمال يقال له: تكبّر.
وبالجملة فإنّ هذه الأفعال توجب تحقير الغير، والاستنكاف عن مرافقته ومصاحبته، والإباء عن الجلوس بجنبه، وانتظار الفرد أن يبدأ الغير بالسلام عليه، والاستنكاف من قبول وعظه، وتعنيفه في إرشاده ونصحه، وغير ذلك من الصفات السيّئة، كالاختيال في المشي ء، وجرّ الثياب، وغيرها من المظاهر الّتي قد تتغيّر مفاهيمها بحسب الزمان والمكان والعادات، وهذه الأفعال المعبّر عنها بالتكبّر قد تصدر عن الحقد أو الحسد أو الرياء، وإن لم تكن في النفس عزّة وتعظّم.
والكبر آفة عظيمة، وبه هلك خواصّ النّاس فضلاً عن غيرهم من العوامّ، وهو الحجاب الأعظم المانع من الوصول إلى أخلاق المؤمنين، وأعظم التكبّر التكبّر على اللَّه تعالى بالامتناع عن قبول الحقّ والإذعان له بالعبادة، ولذا ورد في الآيات والأخبار ذمّه، قال اللَّه تعالى: 'يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ' [ سورة غافر: 35].
وقال تعالى: 'فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُنكِرَةٌ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ'. [ سورة النحل: 22].
وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: 'مَن تكبّر على النّاس ذلّ'. [ دستور معالم الحكم: 27، والإعجاز الإيجاز: 34].
وفي "الكافي": عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهماالسلام، قالا: 'لا يدخل الجنّة مَن في قلبه مثقال ذرّة من كبر'. [ اُصول الكافي 310:2].
وفيه أيضاً: عن أبان، عن حكيم، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن أدنى الإلحاد، فقال: 'إنّ الكبر أدناه'. [ المصدر المتقدّم: 309].
والأخبار في ذلك كثيرة، سيأتي بعضها.
أمر اللَّه تعالى نبيّه الخاتم صلى الله عليه و آله بالتواضع للمؤمنين: 'وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ'. [ سورة الشعراء: 215].
وكان أمير المؤمنين عليه السلام كأخيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مقتدياً بسيرته؛ إذ كان متواضعاً للمؤمنين في كلّ حالاته في قدرته وضعفه الظاهريّين، وفي عزلته وحكومته، وفي حربه وسلمه...، وفيما يلي بعض ما جاء عن سيرته في التواضع:
نقل ابن أبي الحديد المعتزلي عن صالح بيّاع الأكسية: إنّ جدّته لَقيتْ عليّاً عليه السلام بالكوفة ومعه تمرٌ يحمله، فسلّمت عليه، وقالت له: أعطني - يا أمير المؤمنين - هذا التمر أحمله عنك إلى بيتك؟ فقال عليه السلام: 'أبو العِيال أحقُّ بحمله'. قالت: ثمّ قال لي: 'ألا تأكلين منه؟'. فقلت: لا اُريد. قالت: فانطلق به إلى منزله، ثمّ رجع مرتدياً بتلك الشملة، وفيها قشور التمر، فصلّى بالنّاس فيها الجمعة. [ شرح ابن أبي الحديد 202:2، والبحار 138:41].
وفي "المناقب" عن ابن بطة، و عن أحمد: أنّ عليّاً عليه السلام اشترى تمراً فحمله في طرف ردائه، فتبادر الناس إلى حمله، وقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن نحمله. فقال عليه السلام: 'ربُّ العِيال أحقّ بحمله'. [ المناقب لابن شهرآشوب 104:2].
وفي "شرح ابن أبي الحديد": عن عنبسة العابد، عن عبداللَّه بن الحسين بن الحسن، قال: أعتق عليّ عليه السلام في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ألف مملوك ممّا مجلت [ والمجل: بثور تكون في اليد من شدّة العمل. و مجلت يداه الى عملت يداه].
يداه، وعرق جبينه، ولقد ولي الخلافة وأتته الأموال، فما كان حلواه إلا التمر، ولا ثيابه إلا الكرابيس.
وفيه أيضاً: عن حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمّد عليهماالسلام، قال: 'ابتاع عليّ عليه السلام في خلافته قميصاً سَملاً [ السمل: الخلق من الثياب].
بأربعة دراهم، ثمّ دعا الخيّاط، فمدّ كُمّ القميص، وأمره بقطع ما جاوز الأصابع'. [ شرح ابن أبي الحديد 202:2، وهامش الغارات 92:1].
و عن ابن شهر آشوب عن أبي طالب المكّي: كان عليّ عليه السلام يحمل التمر والملح بيده، ويقول:
'لا يَنقُصُ الكامل من كماله*** ما جرَّ من نفعٍ إلى عياله'
[ المناقب لابن شهرآشوب 104:2].
وعنه أيضاً: عن الأصبغ، عن عليّ عليه السلام في قوله تعالى: 'وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرضِ هَوْناً' [ سورة الفرقان: 63].
قال عليه السلام: 'فينا نزلت هذه الآية'. [ المناقب لابن شهرآشوب 104:2، والبحار 54:41].
وعنه أيضاً: كان عليّ عليه السلام يمشي في خمسة حافياً، ويعلّق نعليه بيده اليسرى: يوم الفطر، والنحر، ويوم الجمعة، وعند العيادة، وتشييع الجنازة، ويقول: 'إنّها مواضع اللَّه واُحبُّ أن أكون فيها حافياً'. [ المصدر المتقدّم: 104، والبحار 54:41].
وعنه أيضاً عن زاذان: أنّه كان عليه السلام يمشي في الأسواق وحده، و|هو في| ذاك يُرشد الضالّ، ويعين الضعيف، ويمرّ بالبيّاع والبقّال فيفتح عليه القرآن، ويقرأ: 'تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ'. [ سورة القصص: 83].
[ المناقب لابن شهرآشوب 104:2، والبحار 54:41].
وعنه أيضاً: عن هاشم بن سالم، عن أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام، قال: 'خرج أمير المؤمنين عليه السلام على أصحابه وهو راكبٌ فمشوا معه، التفت إليهم، فقال: 'ألَكُم حاجة؟'. قالوا: لا - يا أمير المؤمنين - ولكنّا نُحبّ أن نَمشي معك. فقال لهم: 'انصرفوا وارجعوا، النعال خلف أعقاب الرجال مفسدة القلوب'.
وفي "البحار" روى عن عليّ عليه السلام هكذا: 'انصرفوا، فإنّ مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب، ومذلّة للماشي'.
قال: وركب مرّة اُخرى فمشوا خلفه، فقال: 'انصرفوا، فإنّ خفق النعال خلف أعقاب الرجال مفسدة لقلوب النوكى'. [ البحار 55:41، والمناقب 104:2، والنوكى: جمع الانوك: الأحمق].
وفي "النهج": قال عليّ عليه السلام - ولقد لقيه عند مسيره إلى الشام "صفّين" دهاقين الأنبار فَتَرجّلوا له، واشتدّوا بين يديه -: 'ما هذا الّذي صَنَعْتُموهُ؟'. فقالوا: خُلقٌ مِنّا نُعَظِّمُ بِهِ اُمراؤنا. فقال عليه السلام: 'وَاللَّهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهذَا أُمَرَاؤُكُمْ! وَإِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ عَلَى أَ نْفُسِكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ، وَتَشْقَوْنَ بِهِ فِي آخِرَتِكُمْ. وَمَا أخْسَرَ الْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا الْعِقَابُ، وَأَرْبَحَ الدَّعَةَ مَعَهَا الْأَمَانُ مِنَ النَّارِ'. [ نهج البلاغة: قصار الحكم 37، ونحوه في المناقب لابن شهرآشوب 104:2، والبحار 52:41].
أقول في توضيح الخبر: أنّه نهض الإسلام والقرآن بالبشر نهضة حرّة عميقة مقرونة بالعلم والمعرفة، فرفع العرب من حضيض الجهالة فصاروا اُمّة عالمة حرّة بطبعهم المنزّه عن التشريفات الملوكيّة المصنوعة في فارس والروم، وهذا هو سرّ تقدّم المسلمين في القرون الهجرية الاُولى ونشر الإسلام في بلاد فارس والروم المكبّلة بقيود التشريفات ومراسيم الاُبّهة منذ قرون، فكان من شأن الإسلام تحرير النّاس عن هذه القيود الثقيلة، وكان الإمام عليه السلام مع ضيق الوقت وعدم اتّساعه، ومع أنّه على اُهبة سفر مهيب ومتوجّه إلى مقصدٍ هائلٍ وهو معركة صفّين الدامية، يفتح مدرسة جديدة في محيط الإسلام، ويبدأ تعليمات عالية إنسانيّة في هذه الجمل القصار الوجيزة، نلخّصها بما يلي:
1- التشريفات والمراسيم الباطلة بهذه الصور ممّا لا ينتفع به الاُمراء نفعاً عقلانياً للدنيا والآخرة، فهي من اللهو الباطل الممقوت.
2- تحمّل هذه المشاقّ مبغوض في الإسلام وموجب لعذاب الآخرة.
3- أخسر المشاقّ ما يتبعها العقاب، وأربح الاستراحة الاشتغال بما فيه أمان من النّار. [ شرح النهج للخوئي رحمه الله 70:21].
في الخبر: بكى عليّ عليه السلام يوماً، فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: 'لم يأتني ضيف منذ سبعة أيّام، أخاف أن يكون اللَّه قد أهانني'.
جامع السعادات 117:2
الضيافة ممدوحة في الإسلام، وأجرها جميلٌ، وثوابها جزيل، وفضلها عظيم، وثمرها كثير، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'الضيف إذا جاء فنزل بالقوم، جاء برزقه معه من السماء، فإذا أكل غفر اللَّه لهم بنزوله'. [ جامع السعادات 116:2].
وقال صلى الله عليه و آله أيضاً: 'كلّ بيت لا يدخل فيه الضيف لا تدخله الملائكة'. [ جامع السعادات 116:2].
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'ما من مؤمن يحبّ الضيف إلا ويقوم من قبره ووجهه كالقمر ليلة البدر فينظر أهل الجمع، فيقولون: ما هذا إلا نبيّ مرسل! فيقول ملك: هذا مؤمن يُحبّ الضيف، ويُكرم الضيف، ولا سبيل له إلا أن يدخل الجنّة'. [ المصدر المتقدّم: 117].
منها: ما رواه الكليني بسنده عن عبداللَّه بن القدّاح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'دخل رجلان على أمير المؤمنين عليه السلام فألقى لكلّ واحد منهما وسادة فقعد عليها أحدهما وأبى الآخر، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'اقعد عليها، فإنّه لا يأبى الكرامة إلا حمار'.
ثمّ قال: 'قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إذ أتاكم كريمُ قومٍ فاكرموه'. [ اُصول الكافي 659:2، كتاب العِشرة - باب إكرام الكريم، ح 1، والبحار 53:40].
وفي "المناقب" خبر: رؤي أمير المؤمنين عليه السلام حزيناً فقيل له: ممّ حزنك؟ قال: 'لسبع أتت لم يضف إلينا ضيف'. [ المناقب لابن شهرآشوب 73:2].
وعن ابن شهرآشوب: عن ابن عبّاس، وأبي هريرة: روى جماعة عن عاصم بن كليب، عن أبيه، واللفظ عن أبي هريرة: أنّه جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فشكا إليه الجوع، فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى أزواجه فقلن: ما عندنا إلا الماء، فقال عليه السلام: 'مَن لهذا الرجل الليلة؟'. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'أنا يا رسول اللَّه'، وأتى فاطمة وسألها: ما عندك يا بنت رسول اللَّه؟'. فقالت: 'ما عندنا إلا قوت الصبية لكنّا نؤثر به ضيفنا'. فقال عليّ عليه السلام: 'يا بنت محمّد، نوّمي الصبية، واطفئي المصباح'، وجعلا يمضغان بألسنتهما، ولمّا فرغ من الأكل أتت فاطمة عليهاالسلام بسراج فوجدت الجفنة مملوءة من فضل اللَّه، فلمّا أصبح صلّى مع النبيّ صلى الله عليه و آله، فلمّا سلّم النبي صلى الله عليه و آله من صلاته نظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام وبكى بكاءً شديداً، وقال: 'يا أمير المؤمنين، لقد عجب الربّ من فعلكم البارحة'، اقرأ: 'وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ' أي مجاعة، 'وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ' يعني عليّاً وفاطمة والحسن والحسين 'فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ'. [ سورة الحشر: 9].
[ تفسير مجمع البيان 260:9].
ومن كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري - وهو عامله على البصرة - وقد بلغه أنّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها: 'فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ. وَمَا ظَنَنْتُ أَ نَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ. فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنَتَ بِطِيب وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ'، الحديث. [ نهج البلاغة: 956، الكتاب 45].
ويستفاد من كتاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى عثمان بن حنيف اُمور منها:
1- ينبغي أن لا تقتصر الدعوة إلى المأدبة على الأغنياء، بل يجب أن تعمّ الفقراء أيضاً.
2- أن لاتتجاوز الضيافة الحدّالمتعارف لدى النّاس،وأن تكون بعيدة عن التكلّف المقيت.
3- أن لا تؤدّي تلبية الدعوة إلى سوء الظنّ والتهمة للإنسان.
4- على مسؤولي الدولة أن يراعوا هذه الاُمور أكثر من غيرهم في تلبية الدعوات، لئلا يكونواً غرضاً لسهام الاتّهام، مراعين شروط الإمام عليه السلام في تقبّل الدعوة.
وفي "الخصال" وفي "صحيفة الإمام الرضا عليه السلام": بإسناده، قال: حدّثني أبي الحسين بن عليّ عليهماالسلام، قال: 'دعا رجل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال له: أجبتك على أن تضمن لي ثلاث خصال. قال: وما هي، يا أمير المؤمنين؟ قال: 'أن لا تُدخل علَيَّ شيئاً من خارج، ولا تدّخر عنّي شيئاً في البيت، ولا تجحف بالعيال'. قال: ذلك لك، فأجابه عليّ عليه السلام. [ الخصال للشيخ الصدوق رحمه الله 189:1، باب الثلاثة، ح 26، وصحيفة الإمام الرضا عليه السلام: 246، ح 155، طبع مدرسة الإمام المهدي "عج" - قم].
وفي تفسير الإمام الحسن بن عليّ العسكري عليهماالسلام، أنّه قال: 'أعرف النّاس بحقوق إخوانه، وأشدّهم قضاءً لها، أعظمهم عند اللَّه شأناً، ومَن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند اللَّه من الصدّيقين، ومن شيعة عليّ بن أبي طالب عليه السلام حقّاً، ثمّ قال:
ولقد ورد على أمير المؤمنين عليه السلام أخوانٌ له مؤمنان أبٌ وابنٌ، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين أيديهما ثمّ أمر بطعام فاُحضر، فأكلا منه، ثمّ جاء قنبر بطشت وإبريق خشب ومنديل لِلْيُبس، وجاء ليصبّ على يد الرجل ماءً، فوثب أمير المؤمنين عليه السلام، فأخذ الإبريق ليصبّ على يد الرجل فتمرّغ الرجل في التراب، وقال: يا أمير المؤمنين، اللَّه يراني وأنتَ تصبّ على يدي؟
قال: اقعد، واغسل يدك، فإنّ عزّ وجلّ يراك، وأخاك الّذي لا يتميّز منك ولا ينفصل عنك [ في نسخة: 'ولا يتفضّل عنك'].
ويزيد بذلك في خدمه [ في نسخة: 'في خدمته'].
في الجنّة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلى حسب ذلك في ممالكيه فيها، فقعد الرجل. فقال له عليّ عليه السلام: 'أقسمت بعظيم حقّي الّذي عرفته و نحلته وتواضعك للَّه حتّى جازاك عنه بأن تدنيني لما شرّفك به من خدمتي لك لمّا غسلت مطمئناً كما كنت تغسل لو كان الصابّ عليك قنبراً، ففعل الرجل ذلك.
فلمّا فرغ ناول الإبريق محمّد بن الحنفيّة، وقال: با بُنيّ، لو كان هذا الإبن حضرني دون أبيه لصببت على يده، ولكنّ اللَّه عزّ وجلّ يأبى أن يُسوّي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، لكن قد صبّ الأب على الأب فليصبّ الابن على الابن، فصبّ محمّد بن الحنفيّة على الابن'.
ثمّ قال الحسن بن عليّ العسكري عليه السلام: 'فمن اتّبع عليّاً عليه السلام على ذلك فهو الشيعي حقّاً'. [ تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام: 325، طبع مدرسة الإمام المهدي "عج"، والبحار 55:41].
قال الرضا عن آبائه:، قال: 'قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: مَن أحبّني وجدني عند مماته بحيث يحبّ، ومَن أبغضه وجدني عند مماته بحيث يكره'. البحار 188:6
كلمة حول حضور الأئمّة عند المحتضر
ورد في الأخبار المستفيضة، بل المتواترة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعليّاً وفاطمة والأئمّة المعصومين عليهم السلام من ولدهما يحضرون عند المحتضر، وهذا من عقائد الإماميّة وخصائصهم، وقد أخذوا هذا الاعتقاد عن أهل البيت عليهم السلام.
والجدير بالذكر أنّ الأخبار والأحاديث الّتي شاهدتها في هذا الباب مختلفة في تعابيرها، يظهر من بعضها أنّهم عليهم السلام يتمثّلون للمحتضر، كقول الصادق عليه السلام: 'ويمثّل له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين و...'. ومن بعضها: أنّ المحتضر يراهم ويعرفهم كقول عليّ عليه السلام: 'يا حارث، لتعرفني عند الممات، وعند الصراط، وعند الحوض، وعند المقاسمة'. وكذا قول الصادق والباقر عليهماالسلام: 'حرام على روح أن تفارق جسدها حتّى ترى الخمسة: محمّدا صلى الله عليه و آله وعليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً'. وكذا قول الصادق عليه السلام أيضاً: 'رآه وربّ الكعبة'، قالها ثلاثاً.
ويظهر من أكثرهم أنّهم عليهم السلام يحضرون عند الميّت بأنفسهم الشريفة وأشخاصهم العينيّة، ويبشّرونه ويلقّنونه ويجلسون عند رأسه وعند رجليه، ويُعرّفونه لجبرئيل عليه السلام، كقول النبيّ صلى الله عليه و آله: 'يا عليّ، إنّ محبّيك يفرحون في ثلاثة مواطن: عند خروج أنفسهم وأنت هناك تشهدهم...'.
وقول الصادق عليه السلام: 'ما يموت موال لنا إلا ويحضره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين و...'، وقول موسى بن جعفر عليهماالسلام: 'لا بدّ لنا من حضور جنائزكم في أي بلد كان...'.
فإنّ هذه الأخبار دالّة بصراحةٍ على حضورهم عند المحتضر، وإنكانت كيفيّة حضورهم عليهم السلام مجهولة لنا، ويكفينا فيه الإيمان به إجمالاً وفقاً للروايات، كما هو شأن سائر أخبار الغيب الواردة في الكتاب والسنّة.
بعض كلمات علمائنا حول حضور عليّ والأئمّة عند المحتضر
قال الشيخ المفيد: هذا باب قد أجمع عليه أهل الإمامة، وتواتر به الخبر عن الصادقين من الأئمّة عليهم السلام، وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال للحارث الهمداني:
يا حار همدان من يمت يرني*** من مؤمن أو منافق قُبلا
يعرفني طرفُه وأعرفه*** بعينه واسمه وما فعلا
إلى آخر أشعاره. [ أوائل المقالات في المذاهب والمختارات: 48].
وقال العلامة المجلسي: اعلم أنّ حضور النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام عند الموت ممّا قد وردت به الأخبار المستفيضة، وقد اشتهر بين الشيعة غاية الاشتهار، وإنكار مثل ذلك لمحض استبعاد الأوهام ليس من طريقة الأخيار، وأمّا نحو حضورهم وكيفيّته فلا يلزم الفحص عنه، بل يكفي فيه وأمثاله الإيمان به مجملاً على ما صدر عنهم عليهم السلام. [ البحار 200:6].
وقال الشيخ الحرّ العاملي: والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى، وقد تجاوزت حدّ التواتر ودلالتها قطعيّة. [ الفصول المهمّة: 113، نقلاً عن كتاب الإمام عليّ عليه السلام: 312].
وقال العلامة الطباطبائي: وهذا المعنى مرويّ عن أئمّة أهل البيت بطرق كثيرة جدّاً. [ تفسير الميزان 100:10].
روى الكليني رحمه الله: بإسناده عن أبان بن عثمان، عن عقبة أنّه سمع أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: 'إنّ الرجل إذا وقعت نفسه في صدره يرى'.
قلت: جُعلتُ فداك، وما يرى؟ قال: 'يرى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيقول له رسول اللَّه: أنا رسول اللَّه أبشر، ثمّ يرى عليّ بن أبي طالب عليه السلام فيقول: أنا عليّ بن أبي طالب الّذي كنت تحبّه، تحبّ أن أنفعك اليوم' الحديث. [ الكافي 133:3].
وعنه أيضاً: عن سدير الصيرفي، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: جُعلت فداك - يابن رسول اللَّه -: هل يُكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: 'لا واللَّه، إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك، فيقول له ملك الموت: ياوليّ اللَّه، لا تجزع، فوالّذي بعث محمّداً صلى الله عليه و آله لأنا أبرُّ بك وأشفق عليك من ولد رحيم لو حضرك، افتح عينك فانظر، قال: ويمثل له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من ذرّيّتهم عليهم السلام، فيقال له: هذا رسول اللَّه وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة عليهم السلام رفقاؤك. قال: فيفتح عينه، فينظر فينادي روحه مناد من قِبل ربّ العزّة، فيقول: 'يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ' [ سورة الفجر: 27].
إلى محمّد وأهل بيته، 'ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً' بالولاية، 'مَرْضِيَّةً' [ سورة الفجر: 28].
بالثواب، 'فَادْخُلِي فِي عِبَادِي' [ سورة الفجر: 29].
يعني محمّداً وأهل بيته، 'وَادْخُلِي جَنَّتِي' [ سورة الفجر: 30].
فما شيء أحبّ إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي'. [ الكافي 127:3، وتفسير البرهان 46:4].
و عن ابن شهر آشوب عن زريق، عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: 'لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا' [ سورة يونس: 64].
قال: 'هو أن يبشّراه بالجنّة عند الموت'، يعني محمّداً صلى الله عليه و آله وعليّاً عليه السلام. [ المناقب لابن شهرآشوب 223:3، والبحار 191:6].
وعنه أيضاً: عن الفضيل بن يسار، عن الباقرين عليهماالسلام، قالا: 'حرام على روح أن تفارق جسدها حتّى ترى محمّداً وعليّاً وحسناً وحسيناً بحيث تقرّ عينها'. [ المصدر المتقدّم 223:2، والبحار 191:6].
وفي "البحار": عن "بشارة المصطفى" بالإسناد عن أبي جعفر، عن آبائه عليهم السلام، عن النبيّ صلى الله عليه و آله، قال: 'والّذي نفسي بيده، لا تفارق روح جسد صاحبها حتّى تأكل من ثمار الجنّة، أو من شجرة الزقوم، وحين ترى ملك الموت تراني وترى عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً عليهم السلام، فإن كان يُحبّنا قلت: يا ملك الموت، ارفق به، إنّه كان يحبّني ويحبّ أهل بيتي، وإن كان يُبغضنا، قلت: يا ملك الموت، شدّد عليه إنّه كان يبغضني ويبغض أهل بيتي'. [ البحار 194:6].
وفيه أيضاً: عن "تفسير الفرات"، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهماالسلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'يا عليّ، إنّ فيك مثلاً من عيسى بن مريم عليه السلام؛ قال اللَّه تعالى: 'وَإِن مِن أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً'. [ سورة النساء: 159].
يا عليّ، إنّه لا يموت رجل يفتري على عيسى بن مريم عليه السلام حتّى يؤمن به قبل موته ويقول فيه الحقّ، حيث لا ينفعه ذلك شيئاً، وإنّك على مثله، لا يموت عدوّك حتّى يراك عند الموت فتكون عليه غيظاً وحزناً حتّى يقرّ بالحقّ من أمرك ويقول فيك الحقّ، ويقرّ بولايتك حيث لا ينفعه ذلك شيئاً، وأمّا وليّك فإنّه يراك عند الموت فتكون له شفيعاً ومبشّراً وقرّة عين'. [ المصدر المتقدّم: 194].
وفي "الكافي": عن يحيى بن سابور، قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول في الميّت تدمع عينه عند الموت، فقال: 'ذلك عند معاينة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيرى ما يسرّه'، ثمّ قال: 'أما ترى الرجل يرى ما يسرّه وما يحبّ فتدمع عينه لذلك ويضحك؟'. [ الكافي 133:3، والبحار 182:6، ونحوه في المناقب لابن شهرآشوب 224:3].
وفيه أيضاً: بسنده عن عبدالرحيم، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: حدّثني صالح بن ميثم، عن عباية الأسدي أنّه سمع عليّاً عليه السلام يقول: 'واللَّه لا يبغضني عبدٌ أبداً يموت على بغضي إلا رآني عند موته حيث يكره، ولا يحبّني عبد أبداً فيموت على حبّي إلا رآني عند موته حيث يحبّ'، فقال أبو جعفر: 'نعم، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله باليمين'. [ الكافي 132:3، وقوله عليه السلام: 'ورسول اللَّه باليمين'، يعني يرى المحتضر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على يمينه].
وفيه أيضاً: عن عمّار بن مروان، قال: حدّثني مَن سمع أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: 'منكم واللَّه يقبل، ولكم واللَّه يغفر، إنّه ليس بين أحدكم وبين أن يغتبط ويرى السرور وقرّة العين إلا أن تبلغ نفسه هاهنا'، وأومأ بيده إلى حلقه، ثمّ قال: 'إنّه إذا كان ذلك واحتضر، حضره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعليّ عليه السلام، وجبرئيل، وملك الموت عليهماالسلام، فيدنو منه عليّ عليه السلام فيقول: يا رسول اللَّه، إنّ هذا كان يُحبّنا أهل البيت، فأحبّه، ويقول رسول اللَّه: يا جبرئيل، إنّ هذا كان يحبّ اللَّه ورسوله وأهل بيت رسوله، فأحبّه، ويقول جبرئيل لملك الموت: إنّ هذا كان يحبّ اللَّه ورسوله وأهل بيت رسوله، فأحبّه وأرفق به، الحديث. [ الكافي 131:3].
وفيه أيضاً، وفي "تفسير العيّاشي": عن عقبة بن خالد، قال: دخلت أنا والمعلّى على أبي عبداللَّه عليه السلام فقال: 'يا عقبة، لا يقبل اللَّه من العباد يوم القيامة إلا هذا الدين الّذي أنتم عليه، وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقرّ به عينيه إلا أن يبلغ نفسه إلى هذه' - وأومأ بيده إلى الوريد - ثمّ اتّكأ وغمزني المعلّى أن سله، فقلت: يابن رسول اللَّه، إذا بلغت نفسه إلى هذه فأيّ شيء يرى؟ فقال في آخرها: 'يا عقبة'. فقلت: لبّيك وسعديك. فقال: 'أبيتَ إلا أن تعلم'. فقلت: 'نعم - يابن رسول اللَّه - إنّما ديني مع دينك، فإذا ذهب ديني كان ذلك، فكيف لي بك - يابن رسول اللَّه - كلّ ساعة، وبكيتُ فرقّ لي. فقال: 'يراهما واللَّه'. فقلت: بأبي واُمّي، مَن هما؟ قال: 'ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعليّ عليه السلام. يا عقبة، لن تموت نفس مؤمنة أبداً حتّى تراهما'، الحديث. [ المصدر المتقدّم: 128، وتفسير العيّاشي 125:2، ولفظ الحديث من تفسير العيّاشي].
في "تفسير العيّاشي": عن أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لأبي جعفرءعليه السلام: ما يصنع بأحد عند الموت؟ قال: 'أما واللَّه - يا أبا حمزة - ما بين أحدكم وبين أن يرى مكانه من اللَّه ومكانه منّا يقرّ به عينه، إلا أن يبلغ نفسه هاهنا - ثمّ أهوى بيده إلى نحره - ألا اُبشّرك يا أبا حمزة؟'. فقلت: بلى، جعلت فداك. فقال: 'إذا كان ذلك أتاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعليّ عليه السلام معه، يقعد عند رأسه فقال له - إذا كان ذلك - رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أما تعرفني؟ أنا رسول اللَّه، هلمّ إلينا، فما أمامك خيرٌ لك ممّا خلّفت، أمّا ما كنت تخاف فقد أمنته، وأمّا ما كنت ترجو فقد هجمت عليه. أيّتها الروح، اخرجي إلى روح اللَّه ورضوانه، ويقول له عليّ عليه السلام مثل قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله'. [ تفسير العيّاشي 126:2، والبحار 178:6].
عن الأصبغ بن نباتة، قال: فدخل الحارث الهمداني على أميرالمؤمنين عليه السلام في نفرٍ من الشيعة و كنت فيهم فجعل الحارث يتئد في مشيته و يخبط الأرض محجة [ أتّاد في مشيته: تمهّل و تأنّى. و الخبط: الضرب الشديد و المحجة: العصا المعوجة].
و كان مريضاً فاقبل عليه عليّ عليه السلام فقال: كيف تجدك يا حارث؟ فقال: نال الدهر يا أميرالمؤمنين منّي و زادني أوباً غليلاً "في نسخة: اوباراً و غليلاً". [ الأوار: بالضم، حرارة الشمس و حرارة العطش، و الغليل: الحقد و الضغن و حرارة الحبّ و الحزن].
اختصام أصحابك ببابك.
قال عليه السلام: و فيم خصومتهم؟ قال: فيك فمن مفرط منهم غال، و مقتصد قال، و من متردد مرتاب لا يدري أيقدم أم يحجم [ أحجم عنه: كفّ].
فقال عليه السلام: 'حسبك يا أخا همدان، ألا إنّ خير شيعتيى النمط الأوسط إليهم يرجع الغالي و بهم يلحق التالي، الى ان قال عليه السلام: و اُبشّرك - يا حارث - لتعرفني عند الممات، وعند الصراط، وعند الحوض، وعند المقاسمة'.
قال الحارث: وما المقاسمة؟ قال: 'مقاسمة النّار اُقاسمها قسمة صحيحة، أقول: هذا وليّي، فاتركيه، وهذا عدوّي، فخذيه'.
قال جميل بن صالح: وأنشدني أبو هاشم السيّد الحميري رحمه الله فيما تضمّنه هذا الخبر:
قول عليّ لحارث عجب*** كم ثمّ اُعجوبة له حملا
يا حار همدان من يمت يرني*** من مؤمن أو منافق قُبلا
يعرفني طرفُهُ وأعرفُهُ*** بنعته واسمه وما عملا
وأنت عند الصراط تعرفني*** فلا تخف عثرة ولا زللا
اُسقيك من بارد على ظمأ*** تخاله في الحلاوة العسلا
أقول للنّار حين توقف للعرض*** دعيه لا تقتلي الرجلا
دعيه لا تقربيه إنّ له*** حبلاً بحبل الوصيّ متّصلا
[ في كشف الغمّة: 'تعرض للعرض'].
[ وفيه وفي أمالي المفيد: 'لا تقربي'].
[ كشف الغمّة - باب المناقب 546:1، وأمالي المفيد - المجلس الأوّل: 3، ح 3، والبحار 178:6].
وفي "البحار": عن أبي الحسن داود البكري، قال: سمعت عليّ بن دعبل بن عليّ الخزاعي، يقول: لمّا حضر أبي الوفاة تغيّر لونه، وانعقد لسانه، واسودّ وجهه، فكدت الرجوع عن مذهبه، فرأيته بعد ثلاث في ما يرى النائم وعليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء، فقلت له: يا أبه، ما فعل اللَّه بك؟
فقال: يا بُنيّ، إنّ الّذي رأيته من اسوداد وجهي، وانعقاد لساني، كان من شربي الخمر في دار الدنيا، ولم أزل كذلك حتّى لقيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء، فقال لي: 'أنت دعبل؟'. قلت: نعم، يا رسول اللَّه. قال: 'فأنشدني قولك في أولادي'. فأنشدته قولي:
لا أضحك اللَّه سنّ الدهر إن ضحكت*** وآل أحمد مظلومون قد قهروا
مشرّدون نفوا عن عقر دارهم*** كأنّهم قد جنوا ما ليس يغتفرُ
قال: فقال لي: 'أحسنت'، وشفّع فيَّ، وأعطاني ثيابه، وها هي، وأشار إلى ثياب بدنه. [ البحار 241:49].
وفي "كشف الغمّة وغيره": عن الحسين بن عون، قال: دخلت على السيّد ابن محمّد الحميري عائداً في علّته الّتي مات فيها، فوجدته يُساق به [ أي تنزع روحه].
ووجدت عنده جماعة من جيرانه، وكانوا عثمانيّة، وكان السيّد جميل الوجه، رحب الجبهة، عريض ما بين السالفين، فبدت في وجهه نكتة سوداء مثل النقطة من المداد، ثمّ لم تزل تنمي وتزيد حتّى طبَّقت وجهه بسوادها، فاغتمّ لذلك مَن حضره من الشيعة، وظهر من الناصبة سرور وشماتة، فلم يلبث بذلك إلا قليلاً حتّى بدت في ذلك المكان من وجهه لمعة بيضاء، فلم تزل تزيد أيضاً وتنمي حتّى اصفرّ وجهه وأشرق وافترّ ضاحكاً، وقال:
كذب الزاعمون أنّ عليّاً*** لم ينجّي محبّه من هنات
[ الهنات: خصال الشرّ].
قد وربّي دخلت جنّة عدن*** وعفا لي الإله عن سيّئاتي
فابشروا اليوم أولياء عليّ*** وتولّوا الوصيّ حتّى الممات
ثمّ من بعده تولّوا بنيه*** واحداً بعد واحد بالصفات
ثمّ قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه حقّاً حقّاً، أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه حقّاً حقّاً، أشهد أنّ عليّاً أمير المؤمنين حقّاً حقّاً، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، ثمّ أغمض عينه لنفسه، فكأنّما كانت روحه ذبالة [ الذبالة: الفتيلة].
طفيت، أو حصاة سقطت. [ كشف الغمّة وترجمة المناقب 548:1، والبحار 192:6، وفي المناقب لابن شهرآشوب 224:3، رواه مع تفاوت يسير].
وروى العلامة الأميني رحمه الله عن رجال "الكشي" ص185، و"أمالي ابن الشيخ" ص311، و "بشارة المصطفى"، عن أبي سعيد محمّد بن رشيد الهروي، قال: إنّ السيّد اسودّ وجهه عند الموت، فقال: هكذا يفعل بأوليائكم يا أمير المؤمنين؟ قال: فابيضّ وجهه كأنّه القمر ليلة البدر.
فأنشأ يقول:
اُحبّ الّذي من مات من أهل وُدّه*** تلقّاه بالبُشرى لدى الموت يضحك
ومن مات يهوى غيره من عدوّه*** فليس له إلا إلى النّار مسلك
أبا حسن أفديك نفسي واُسرتي*** ومالي وما أصبحت في الأرض أملك
أبا حسن إنّي بفضلك عارف*** وإنّي بحبل من هواك لممسك
وأنت وصيّ المصطفى وابن عمّه*** فإنّا نعادي مبغضيك ونترك
ولاح لحاني في عليّ وحزبه*** فقلت لحاك اللَّه إنّك أعفك
[ الأعفك: الأحمق].
مواليك ناج مؤمن بين الهدى*** وقاليك معروف بالضلاة مشرك
[ الغدير 274:2].
وروى ابن شهرآشوب رحمه الله في "المناقب": عن الإمام موسى بن جعفر عليهماالسلام، في حديث طويل: قال عليه السلام لمحمّد بن عليّ النيشابوري: 'عرّف أصحابك واقرأهم منّي السلام، وقل لهم: إنّي ومن يجري مجراي من الأئمّة عليهم السلام لا بدّ لنا من حضور جنائزكم في أيّ بلد كنتم، فاتّقوا اللَّه في أنفسكم'. [ نذكر هنا الحديث بطوله، وإن كان خارجاً عن مقالتنا، لكنّا نذكره بشارة لمحبّي أهل البيت عليهم السلام.
عن أبي عليّ بن راشد وغيره - في خبر طويل -: أنّه اجتمعت العصابة الشيعة بنيشابور واختاروا محمّد بن عليّ النيشابوري، رفعوا إليه ثلاثين ألف دينار وخمسين ألف درهم وألفي شقّة من الثياب، وأتت شطيطة بدرهم صحيح وشقّة خام |الخام: نسيج من القطن| من غزل يدها تساوي أربعة دراهم. فقالت: إنّ اللَّه لا يستحيي من الحقّ.
قال: فثنيت درهمها، وجاءوا بجزء فيه مسائل مل ء سبعين ورقة في كلّ ورقة مسألة، وباقي الورق بياض ليكتب الجواب تحتها. وقد خرمت كلّ ورقتين بثلاث حُزُم |حزم الشي ء: شدّه، والحزم - بضمّتين - جمع الحزام، ما يشدّ به وسط الشي ء|، وختم عليها بثلاث خواتيم، على كلّ حزام خاتم، وقالوا: ادفع إلى الإمام ليلة، وخذ منه في غد، فإن وجدت الجزء صحيح الخواتيم فاكسر منها خمسة، وانظره هل أجاب عن المسائل، وإن لم تنكسر الخواتيم فهو الإمام المستحقّ للمال، فادفع إليه، وإلا فردّ إلينا أموالنا.
فدخل علي بن راشد على الأفطح عبداللَّه بن جعفر وجرّبه وخرج عنه قائلاً: ربّ، اهدني إلى سواء الصراط، قال: فبينما أنا واقف، إذا أنا بغلام يقول: أجب مَن تريد.
فأتى بي دار موسى بن جعفر عليه السلام، فلمّا رآني قال لي: 'لِم تقنط يا أبا جعفر؟ ولِمَ تفزع إلى اليهود والنصارى، فأنا حجّة اللَّه ووليّه، ألم يعرفك أبوحمزة على باب مسجد جدّي؟ وقد أجبتك عمّا في الجزء من المسائل بجميع ما تحتاج إليه منذ أمس، فجئني به وبدرهم شطيطة الّذي وزنه درهم ودانقان الّذي في الكيس الّذي فيه أربعمائة للوازواري والشقة الّتي في رزمة الأخوين البلخيّين'.
قال: فطار عقلي من مقاله، وأتيت بما أمرني ووضعت ذلك قِبله، فأخذ درهم شطيطة وإزارها ثمّ استقبلني، وقال: 'إنّ اللَّه لا يستحيي من الحقّ. يا أبا جعفر، أبلغ شطيطة سلامي وأعطها هذه الصُرّة'، وكانت أربعين درهماً، ثمّ قال: 'وأهديت لك شقّة من أكفاني من قطن قريتنا صيداء قرية فاطمة عليهاالسلام، وغزل اُختي حليمة ابنة أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام'.
ثمّ قال: 'وقل لها ستعيشين تسعة عشر يوماً من وصول أبي جعفر ووصول الشقّة والدراهم، فانفقي على نفسك منها ستّة عشر درهماً، واجعلي أربعة وعشرين صدقة منك وما يلزم عنك، وأنا أتولّى الصلاة عليك، فإذا رأيتني - يا أبا جعفر - فاكتم عليَّ فإنّه أبقى لنفسك'.
ثمّ قال: 'واردد الأموال إلى أصحابها، وافكك هذه الخواتيم عن الجزء، وانظر هل أجبناك عن المسائل أم لا، من قبل أن تجيئنا بالجزء'. فوجدت الخواتيم صحيحة، ففتحت منها واحداً من وسطها، فوجدت فيه مكتوباً: ما يقول العالم عليه السلام في رجل قال: نذرت للَّه لأعتقنّ كلّ مملوك كان في رقّي قديماً وكان له جماعة من العبيد؟
الجواب بخطّه عليه السلام: 'ليعتقنّ من كان في ملكه من قبل ستّة أشهر، والدليل على صحّة ذلك قوله تعالى: 'وَالْقَمَر قَدَّرْناهُ' الآية والحديث: من ليس له من ستّة أشهر'.
وفككت الختم الثاني فوجدت ما تحته: ما يقول العالم في رجل قال: واللَّه، لأتصدّقنّ بمال كثير فيما يتصدّق؟
الجواب تحته بخطّه عليه السلام: 'إن كان الّذي حلف من أرباب شياه فليتصدّق بأربع وثمانين شاة، وإن كان من أصحاب النعم فليتصدّق بأربع وثمانين بعيراً، وإن كان من أرباب الدراهم فليتصدّق بأربع وثمانين درهماً، والدليل عليه قوله تعالى: 'وَلَقَدَ نَصَرَكُمُ اللَّه في مَواطِنَ كَثِيرَة'.
فعدت مواطن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل نزول تلك الآية فكانت أربعة وثمانين موطناً'.
فكسرت الختم الثالث فوجدت تحته مكتوباً: ما يقول العالم في رجل نبش قبر ميّت، وقطع رأس الميّت، وأخذ الكفن؟
الجواب بخطّه عليه السلام: 'يقطع السارق لأخذ الكفن من وراء الجزر، ويلزم مائة دينار لقطع رأس الميّت؛ لأنّا جعلناه بمنزلة الجنين في بطن اُمّه قبل أن ينفخ فيه الروح، فجعلنا في النطفة عشرين ديناراً'، إلى آخر المسألة.
فلمّا وافى خراسان وجد الّذين ردّ عليهم أموالهم ارتدّوا إلى الفطحيّة، وشطيطة على الحقّ، فبلّغها سلامه، وأعطاها صرّته وشقّته، فعاشت كما قال عليه السلام، فلمّا توفّيت شطيطة جاء الإمام عليه السلام على بعير له. فلمّا فرغ من تجهيزها ركب بعيره وانثنى نحو البريّة وقال: 'عرّف أصحابك، واقرأهم منّي السلام، وقل لهم: إنّي ومن يجري مجراي من الأئمّة عليهم السلام لا بدّ لنا من حضور جنائزكم في أي بلد كنتم، فاتّقوا اللَّه في أنفسكم'. راجع المناقب لابن شهرآشوب 291:4].
وفي "البحار" عن "دعوات الراوندي": عن محمّد بن عليّ عليهماالسلام، قال: مرض رجل من أصحاب الرضا عليه السلام فعاده، فقال: 'كيف تجدك؟'، قال: لقيت الموت بعدك - يريد ما لقيه من شدّة مرضه -. قال: 'كيف لقيته؟'، قال: شديداً أليماً. قال: 'ما لقيته، إنّما لقيت ما يبدؤك به، ويعرّفك بعض حاله، إنّما النّاس رجلان: مستريح بالموت، ومستراح منه، فجدّد الإيمان باللَّه وبالولاية تكن مستريحاً'. ففعل الرجل ذلك، ثمّ قال: يابن رسول اللَّه، هذه ملائكة ربّي بالتحيّات والتحف يسلّمون عليك، وهم قيام بين يديك، فأذن لهم في الجلوس. فقال الرضا عليه السلام: 'اجلسوا ملائكة ربّي'. ثمّ قال للمريض: 'سلهم اُمروا بالقيام بحضرتي'. فقال المريض: سألتهم فذكروا أنّه لو حضرك كلّ من خلقه اللَّه من ملائكته لقاموا لك ولم يجلسوا حتّى تأذن لهم، هكذا أمرهم اللَّه عزّ وجلّ، ثمّ غمّض الرجل عينيه، وقال: السلام عليك يابن رسول اللَّه، هذا شخصك مائل لي مع أشخاص محمّد ومن بعده من الأئمّة عليهم السلام. وقضى الرجل. [ البحار 194:6].
ندامة خطّاب الجهني عند الاحتضار
وفي "الكافي": عن أبي يعفور، قال: كان خطّاب الجهني خليطاً لنا، وكان شديد النصب لآل محمّد، وكان يصحب نجدة الحروري [ الحروريّة: طائفة من الخوارج منسوبة إلى حروراء، وهي قرية بالكوفة، ونجدة رئيسهم].
قال: فدخلت عليه أعوده للخلطة والتقيّة، فإذا هو مغمى عليه في حدّ الموت فسمعته يقول: ما لي ولك يا عليّ، فأخبرت بذلك أبا عبداللَّه عليه السلام، فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: 'رآه وربّ الكعبة، رآه وربّ الكعبة، رآه وربّ الكعبة' [ الكافي 133:4، والبحار 199:6]
يعني رأى اميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.