بسم الله الرحمن الرحيم
أضع بين يديك ـ أيّها القارئ ـ كتاب (الإمام علي أسد الإسلام وقدّيسه) للأُستاذ روكس بن زائد العزيزي، الكتاب الذي اشترك في المباراة الكتابية عام 1376 هـ 1966 م حول شخصية أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) وإذا لم ينل الكتاب جائزة مالية مادّية فقد حاز على الجائزة الروحية المعنوية، وكون جوهرة أثمن من أُختها فليس معنى ذلك أنّ الأُولى تفقد قيمتها فلكلّ ورد رائحة، وتفضيل شيء على شيء لا يستلزم الهوان في المفضول، إضافة إلى أنّ لكلّ اجتهاد حكماً واتجاهاً خاصّاً.
وهذا الكتاب من أنفس الكتب وأمتعها، جمع فأوعى، وحلّل نفسيّة الإمام فأجاد التحليل، ووقف على خزائن درر الإمام وكلماته القصار فاختار أضوأها وأنورها.
قد عرفناك باختيارك مذ كا |
ن دليلاً على اللبيب اختياره |
واختيار المرء قطعة من عقله تدلّ على فضله ونبله، وإنّك لتقرأ من خلال تلك السطور وداعة الكاتب وطيب نفسه وطهارة قلبه وسلامة ذاته، وكيف انصهرت تلك النفس بحبّ الإمام وتبجله وتقديره وما الذي استلفت نظره من تلك الشخصية وما الذي استهواه من سيرتها حتى استطاع أن يصوّره هذا التصوير الرائع.
ولا عجب فشخصية الإمام تلتقي عندها قلوب العارفين والمنصفين وتلتفّ حولها آراء العلماء والمفكّرين.
كان اللقاء طيّباً وهو أوّل لقاء مع الأُستاذ روكس والّذي تعارفت فيه الوجوه وتعانقت فيه الأرواح حول شخصية الإمام أميرالمؤمنين فلولا ذلك لما كان هذا اللقاء المعطر بهذا الجو المشبع بالعواطف والظرائف، ولقد أدركت منذ أوّل التقائي بالعزيزي سبب تعلّقه بالإمام علي فقد بهرتني منه جلوة تلك النفس الطاهرة النقية والمثالية العالية من حسن السيرة التي دلّت على حسن السريرة. وكانت مظاهر الودّ والصفاء أوضح ما تكون بين المسلمين وبين أتباع عيسى، وقد أفاض القرآن الكريم في ذكر عيسى وولادته وفضل اُمّه العذراء مريم، ووصف مودّتهم للمسلمين وما في قلوبهم من رقّة ورأفة كما قال تعالى: (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (1) وبيّن أنّ في رهبانهم العلم والعبادة والتواضع فقال:
(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (2).وكلّنا يعلم كيف استقبل النجاشي ملك الحبشة وفد المسلمين المهاجرين وكيف أكرمهم وآواهم عنده وأطلق لهم الحرية في مزاولة شعائرهم ثم ردّ رسل المشركين خائبين.
ولقد قصّ علينا القرآن قصّة الحرب بين سابور ملك الفرس وهرقل حينما انتصر الأول على الثاني ففرح مشركوا مكّة واستاء المسلمون، فقال المشركون لأصحاب محمد: إنّكم أهل كتاب وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم الروم، فأنزل الله عزّوجلّ سورة في القرآن وهي سورة (الروم) لشرح كل هذا بقوله عزّوجلّ:
(الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )(3) .فكان هذا الوحي من السماء فيه تعزية وسلوة للمسلمين لما حزنوا لإخوانهم المسيحيين من أهل الكتاب بإخباره لهم أنّ الروم بعد بضع سنين ـ أي فيما دون العشرة ـ سيعودون ويغلب الروم فارساً إذ يدفعونهم عن بيت المقدس ويفرح المؤمنون يومئذٍ بنصر الله، وقد حدد القرآن زمان ذلك وحصره فكان الأمر فيه حسب ما قال سبحانه:
والإسلام يعترف بالمسيحية ديناً سابقاً ويكرّم المسيح ولا يجوّز الحطّ من كرامة سيدنا عيسى وأنّه ) عبدالله آتاه الكتاب وجعله نبيّاً وجعله مباركاً أين ما كان وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حيّاً وبرّاً بوالدته ولم يجعله جبّاراً شقيّاً فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً) كما جاء في سورة (مريم).
ولقد كانت صلة الإخاء بين الّذين اتبعوا محمّداً والّذين آمنوا بعيسى ما قصّه القرآن العظيم، وهناك مبادئ أوليّة بين الدينين، فهما معاً يصوّران جانباً كبيراً من الدعوة للفضيلة والخلق الرصين والتفاني في عمل الخير، وهما في تصوير الإنسانية ومبدأ الخليقة يكادان أن يكونا سواء فيما يقولان به.
خلق الله آدم وحواء وأسكنهما الجنّة وأوحى إليهما أن لا يسمعا إلى نزغ الشيطان فيأكلا من الشجرة فيخرجهما من الجنّة، والشيطان عدوّهما الذي أبى أن يسجد لآدم فيما أوحاه الله لمحمّد، ووسوس الشيطان لحواء وزيّن لها فزيّنت لآدم فأكلا من شجرة الخلد فبدت لهما سؤاتهما فاستغفرا ربّهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة.
وإنّك لتجد في القرآن من ذكر عيسى ومريم وإكرام الله لهما وتقديمه إيّاهما ما تشعر معه حقّ الشعور بهذا الإخاء، ففي سورة المائدة (116 ـ 117):
(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
وفي سورة آل عمران 52 ـ 55: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
إنّ المطبوع في الأذهان والمسموع به هو أنّ في المسيحية الشيء الكثير من الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام، وأنّ من أظهر أخلاقها مجانبة الشرّ والأذى وعدم الإعتداء والإستعلاء والتطاول والتكبّر فإذا ما حدّثنا التاريخ عن حوادث خرجت على هذه الأُسس وجانبت هذه المبادئ فليست المسؤولة عن ذلك المبادئ والشرائع والنهج الذي تضمّنته الدعوة وإنّما هي الظروف والسياسة والطغيان تغيّر من المسيحي مثل ما تغيّر من المسلم الحقيقة التي يريدها الإسلام والمسيحية وهل الديانات إلّا نظم جاءت لتكفّ الإنسان عن الإعتداء على أخيه الإنسان وتهذّب النفوس وتدعو إلى الفضيلة، وهل الدين إلّا قوّة روحية وأدبية لا يمكن الإستغناء عنها، فإنّ للدين أثراً ظاهراً في تأليف القلوب على اختلاف نزعاتها وألوانها وتباعد لغاتها وأوطانها ونرى أكثر المحافظين على أوامر الدين ممّن اتصفوا بحسن المعاشرة والمعاملة فلا يكذب إذا حدّث، ولا يخون إذا ائتمن، ولا يخلف إذا وعد، ولا يؤذي جاره خالفه في العقيدة أو لم يخالفه، ولا يسلب مالاً ولا يهتك عرضاً ولا يكون سبّاباً ولا نمّاماً ولا حقوداً ولا حسوداً.
إنّ الذي يقف على طبيعة الأديان كلّها ويفهم حقيقة تشريعها ومبادئها يشعر بوضوح وصراحة أنّها تستهدف في روحها الخير وصلاح الإنسان، وهي على رغم اختلاف ظروفها لتجتمع في تلك المرامي والأهداف الإنسانية وإلى جنب ذلك فهي يقظة روحية وفكرية.
وكثيرة هي الشواهد التي تدلّ على ما فعلت هذه المبادئ في تأليف القلوب وإحكام المودّة وروابط الإخاء والصداقة، ولماذا تذهب بعيداً وهذه قطعة من الشعر التي يودّع بها الإمام المجتهد الكبير الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء فيلسوف الفريكة أمين الريحاني إذ يقول:
سِرْ على اليمن والشرف أيّها الطاعن الذي |
ودع النفس والكلف أخذ القلب وانصرف |
ومنها:
فرحلتم مع الأسى ألَفتنا لَطائفٌ أين لبنان والعرا أنت تلك العصا التي(4) |
وبقينا مع الأسف وحّدت كل ما اختلف ق وأمريك والنجف قال خذها ولا تخف |
وهذا الشاعر القروي رشيد سليم الخوري أُنظر إليه كيف يحيّي عيد الفطر عند المسلمين إذ يقول:
أكرّم هذا العيد تكريم شاعر نعم إنّني أصبو إلى عيد أُمّة إلى علم من نسج عيسى وأحمد |
يتيه ـ بآيات النبيّ المعظّم محرّرة الأعناق من رقّ أعجم وآمنة(5) في هلّها أُخت مريم |
ومن قصيدة للدكتور نقولا فياض في المولد النبوي قال:
وما استقلالنا إلا ّ سبيلضرعت إلى السماء بحقّ عيسى |
لنبلغ في ذرى العليا مدانا وحقّك يا محمّد أن يصانا |
ومن أقوال أحمد شوقي بك أمير الشعراء في رائعته قوله:
عيسى سبيلك رحمة وسلامة ما كنت سفّاك الدماء ولا امرءً يا حامل الآلام عن هذا الورى أنت الذي جعل العباد جميعهم |
للعالمين وعصمة وسلام هان الضعاف عليه والأيتام كثرت عليه باسمك الآلام رحما، وباسمك تقطع الأرحام |
هذا إلى جانب دواوين كبيرة من الشعر ورسائل مطوّلة وكتب تجاوزت العدّ عمّا يحبّب للمسيحيين من المسلمين وما يحبّب للمسلمين من المسيحيين من الصفات والأخلاق.
ولمّا كانت شخصية الإمام علي تمثّل الجانب المشرق من الصفات الإسلامية وسيرته تحكي القدوة من الفضائل إلى جانب تلك الروائع من الأدب والحكمة والفلسفة فاق الهيام بعليّ عند أهل العلم والفنّ والأدب والخلق الرضي حدود التصوير ولا سيّما عند المسيحيين الّذين يفهمون من دينهم هذه المفاهيم المتجلّية في شخصية أميرالمؤمنين، لذلك كان عدد الذين يستظهرون (نهج البلاغة) من المسيحيين والّذين يحتفظون بآيات حكمه وآدابه كبيراً جدّاً في التاريخ القديم والتاريخ الحديث.
وطالما ضمّتني مجالس المسيحيين بلبنان وحين يمر ذكر الإمام في هذه المجالس تخفّ أرواحهم وتنتعش لذكراه نفوسهم فتحسّ بهذه النفوس وهي تكاد تذوب في حبّ علي وأولاده. وقد رأيت في دار الأُستاذ فارس الخوري مرّة لوحة فضية مهداة له من أحد عارفي فضله، وقال لي انّه يراها أعزّ ما لديه وقد كتبت عليها بالفضة ثلاث كلمات قصار من كلمات الإمام (عليه السلام):
الأُولى: (إقلع الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك).
الثانية: (قيمة كل امرء ما يحسن).
الثالثة: (ما رأيت نعمة موفورة إلّا وإلى جانبها حقّ مضيّع).
الحقّ أنّ كل كامل وفاضل لابدّ أن يرتاح لهذه الذات المقدّسة والشخصية الفذّة التي تتمثّل فيها الأخلاق بتمام معانيها فلا يعرف الفضل إلّا ذووه.
كتب الفيلسوف جبران خليل جبران فيلسوف لبنان حول الصورة التي رسمها للإمام بريشته ما نصه:
في عقيدتي أنّ ابن أبي طالب هو أول عربي لازم الروح الكلية وجاورها وسامرها وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها فردّدها على مسمع قوم لم يسمعوا بمثلها من ذي قبل فتاهوا بين مناهج بلاغته وظلمات ماضيهم.
فمن أعجب بها كان إعجابه موثوقاً بالفطرة ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية.
مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته، مات والصلاة بين شفتيه، مات وفي قلبه الشوق إلى ربّه ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره حتى قام من جيرانهم الفرس أُناس يدركون الفارق بين الجواهر والحصى.
مات قبل أن يبلّغ العالم رسالته كاملة وافية، غير أنّني أتمثّله مبتسماً قبل أن يغمض عينيه عن هذه الأرض.
مات شأن جميع الأنبياء والباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم وإلى قوم ليس بقومهم، في زمن ليس بزمنهم، ولكن لربّك شأن في ذلك وهو أعلم.
وكتب توماس كارليل في أبطاله فقال:
أمّا علي فلا يسعنا إلّا أن نحبّه ونتعشقه، فإنّه فتىً كبير النفس جليل القدر يفيض وجدانه رحمة وبرّاً، ويتلظّى فؤاده نجدة وحماسة. وكان أشجع من ليث ولكنّها شجاعة ممزوجة برقة ولطف ورأفة وحنان، جدير بها فرسان الصليب في القرون الوسطى.
وقد قُتل بالكوفة غيلة وإنّه لشدة عدله حَسِب كل إنسان عادلاً مثله.
وقال حينما اومر في قاتله: إن أعش فأنا ولي دمي، وإن أمت فاضربوه ضربة، وإن تعفو أقرب للتقوى.
وقال ابن إسحاق الموصلي كما روى البيهقي في (المحاسن) والصبان في (الإسعاف):
عدي وتيم لا أحاول ذكرهم وما يعتريني في علي ورهطه يقولون ما بال النصارى تحبّهم فقلت لهم إنّي لأحسب حبّهم |
بسوء ولكنّي محبّ لهاشم إذا ذكروا في الله لومة لآئم وأهل النهى من أعرب وأعاجم سَرَى في قلوب الناس حتى البهائم |
وبين يدينا ملحمة الأديب الصحفي عبد المسيح الأنطاكي صاحب جريدة (العمران) المصرية وهي أكبر ملحمة نظمت في الشعر العربي وتحتوي على 5595 بيتاً، عدّد فيها فضائل الإمام وأخلاقه وبطولته وسرد الحوادث التاريخية في عصره وقد أسماها (العلوية المباركة).
وهذا الأديب اللبناني بولس سلامة عبّر عن رأيه في هذا الإمام في رائعته التي كان عنوانها (علي والحسين) ثم أعقبها بملحمته التي أسماها (عيد الغدير).
ومن تقدمة هذه الملحمة تعرف ما للإمام من منزلة من قلوب المسيحيين بسبب هذه الفضيلة التي أشرت إليها إذ يقول:
إنّ هذا الإمام يذكره المسلمون فيقولون: كرّم الله وجهه، وعليه السلام ويذكره النصارى في مجالسهم فيتمثّلون بحكمه ويخشعون لتقواه، ويتمثّل به الزهّاد في الصوامع فيزدادون زهداً وفتوناً، وينظر إليه المفكّر فيستضيء بهذا القطب الوضّاء، ويتطلّع إليه الكاتب الألمعي فيأتمّ ببيانه، ويعتمده الفقيه المدره فيسترشد بأحكامه.
أمّا الخطيب فحسبه أن يقف في السفح ويرفع الرأس إلى هذا الطود الشامخ لتنهل عليه الآيات من عل، وينطلق لسانه بالكلام العربي المبين الذي رسّخ قواعده أبو الحسن.
ويقرأ الجبان سيرة علي فتنهدر في صدره النخوة وتستهويه البطولة إذ لم تشهد الغبراء ولم تظلّ أشجع من ابن أبي طالب، فعلى ذلك الساعد الأجدل اعتمد الإسلام يوم كان وليداً، فعليّ هو بطل بدر وخيبر والخندق وحنين.
وأعجب من بطولته الجسدية بطولته النفسية فلم يُر أصبر منه على المكاره إذ كانت حياته موصولة الآلام منذ فتح عينيه على النور في الكعبة حتى أغمضهما على الحق في مسجد الكوفة.
وبعد فلِمَ تجادلني في أبي حسن أو لم تقم خلال العصور فئات من الناس تؤلّه الرجل.
ولا ريب أنّها الضلالة الكبرى ولكنّها ضلالة تدلّك على الحق إذ تدلّك على مبلغ افتتنان الناس بهذه الشخصية العظمى.
وقال في مقدمة رائعته التي أسماها (علي والحسين):
في عتق الشاعر العربي دين للإسلام ، سواء كان الأديب مسلماً أو مسيحياً إذ أنّه لم يجر قلم بالفصاحة إلّا وعليه رشاش من غيث القرآن الكريم ولم يكتحل جفن بسحر البيان إلّا وقد أشرف من باب رجب على هذه المروج الخضر التي تعهّدها الإسلام بالماء والظلال. وأول من يطل عليك من هذه الجنان بعد الرسول هو سيّد البلغاء وفارس الإسلام وسدرة المنتهى في الكمال الإنساني علي بن أبي طالب.
أجل لا غرابة إذا طلع علينا الأديب الكبير الأُستاذ روكس العزيزي بمؤلفه الرائع وبحثه الرصين بعقوده الدرّية وسلاسله الذهبية. فالعزيزي له شهرته الواسعة الأطراف، المعمورة النواحي بالإجلال والإكبار في العالم العربي وهذه بحوثه ومؤلفاته الأدبية تزدان بها الصحف والمجلات، وهي ولم تزل تصابحنا وتماسينا يترشفها الرأي العام والفكر العالي وتتذوقها الطبقات المتأدّبة.
أقول: لا غرابة إذا طلع علينا العزيزي بهذا الكتاب فهو من المسيحيين الذين يعشقون الفضيلة وعلي قدوة لهذه الفضيلة، ولا أُبالغ إذا قلت إنّ مشروع المباراة الكتابية عن الإمام كان العزيزي أكثر من عاضدني وساعدني بداعي تلك المثل، فقد كانت رسائله أمتع للنفس من لقاء الحبيب وأعذب من نسمات الفجر وأجمل من الزهر وكانت تبعث في النفس روح الأمل ومواصلة العمل فقد قام بنشرة عن فكرة المباراة عن الكتابة عن شخصية الإمام في صحف الأردن، وحمل دار الإذاعة الأردنية على إذاعة النداء الذي وجهناه إلى أعلام الفكر للإشتراك في الكتابة عن علي)عليه السلام) ثم تجشّم عناء السفر وحضوره في المهرجان الكبير الذي عقد في كربلاء المقدسة ـ مدينة الحسين بن علي (عليه السلام) ـ وأسهم بالإلقاء والتحدث عن الإمام بكلمة نفيسة عذبة موجزة تشبه المعجزة فللّه درك يا أبا عادل.
واسلم بدعاء المخلص
جواد شبّر
أمين سر اللجنة
أحببت الإمام عليّاً كرّم الله وجهه، من اليوم الذي قرأت فيه سيرته الخصبة، وحياته النبيلة، وقد كنت أحسّ بأنّ انقسام الناس فيه دليل على العظمة!
وكم كنت أودّ أن أُسجّل انطباعاتي عنه فأتهيّب، كالّذي يريد أن يخوض البحر، وهو يرى البحر للمرّة الأُولى في حياته!
أو كالّذي يحاول أن يحلّق في الجو وهو يجهل الطيران!
هذا هو الشعور الذي كان يخامرني كلّما مددت يدي إلى القلم!
كنت في الخامسة والعشرين من عمري يوم كتبت مقالاً عنوانه( قدّيس الإسلام).
قرأته على صديق لي، فقال: (هذا شعر! لكن ثق بأنّك لن ترضي النصاري، ولا تُعجب المسلمين! ستكون متّهماً على أي حال!...).
وطويت المقال وها أنذا بعد أكثر من خمس وثلاثين سنة أشعر بأنّ سحر هذه الشخصية يجذبني لأكتب، فإذا كتبت شيئاً يستحقّ القراءة، فإنّما أكتب بوحي من أسد الإسلام وقدّيسة.
المؤلّف
تحيّة خالدة أسد الإسلام!
تحيّة خالدة قديس الإسلام!
تحيّة خالدة أبا الحسن!
تحيّة أيّها الرجل العظيم.
تحيّة لبطولتك.
تحيّة لإنسانيتك.
تحيّة لبلاغتك.
تحيّة لتسامحك.
تحيّة لصبرك.
تحيّة لحكمتك.
تحيّة لصراحتك.
تحيّة لعدلك.
تحيّة خالدة لهذه المزايا التي اجتمعت في شخصيتك الفذّة.
لتكون إنساناً عظيماً، انقسم الناس فيه:
أ ـ بين معظّم مخلص في تعظيمه.
ب ـ مؤلّه مغرق في تكريمه.
ج ـ شاتم ناقم، متحامل في حقده، مفتر عليك في تأثيمه وتحريمه!
بتواضع عميق أتقدّم إليك يا أبا الحسن وبشيء كثير من التهيب أتقدم بهذا البحث إلى لجنة العلماء التي ألمَّ كل عضو من أعضائها بكلّ دقائق الموضوع أشدّ الإلمام.
هي تحيّة إعجاب!
بل هدية إعجاب يا أبا الحسن، والهدية لا ترد وإن تفهت، ولا سيّما إذا كانت مجرّدة من الأغراض، إلّا الإعجاب الشديد بانسانيّتك وبطولتك وعظمتك.
***
فلقد كنت مثالاً فذّاً في الإنسانية والبطولة، والإنسانيون الأبطال يحبّون أن يخاطبهم الناس إلى القلب، بلا تكلف!
فتنازل واقبل منّي هذه التحيّة، فأنت عظيم حقّاً، ولو لم تكن كذلك ما استطاع تأثيرك أن يمتدّ إلى قلمي، ويحرّكه بعد أجيال متطاولة، فأنا لست مسلماً ولست من شيعتك يا أسد الإسلام وقدّيسه، لكنّي أحد الّذين يعظّمون البطولة ويعبون بالعبقرية، ويقدّسون الإنسانية! ... .
***
فلا دخل للعاطفة الدينية فيما أكتب!
فأنت إنسان تعذّب في سبيل مثله الأعلى، ومن حقّه على كل مفكّر أن يسجّل ما في حياتك الخصبة، من أسرار العظمة.
من الواجب على كل مفكّر حر الفكر من أي دين أو لون أن يسجّل لك أنّك كنت أعظم من المتاعب، وأكبر من الصعوبات وأسمى من الخصومات.
أجل من حقّك على كل قلم مخلص أن يؤدّي حقّك! أجل من حقّ البطل أن يُمَجَّد، ومن حقّ الصادق أن يعظّم، ومن حق الإنسان أن يحيّى إجلالاً لإنسانيته، فما كان بطل إنساناً، لكنّك أبا الحسن كنت رجلاً بل أسداً، وإنساناً!
اجتمعت المنافسة الحاقدة، والغيرة الموتورة، والحسد القاتل، والأنانية التي لا تعرف الله ولا تخضع لوازع من ضمير.
اجتمعت هذه كلّها، واتّفقت على أن تصوّر قدّيس الإسلام (أبا الحسن) متّهماً في أبشع جريمة عرفتها طفولة الإسلام.
(إغتيال إمام المسلمين في داره، وترويع حرمه، وتلطيخ قرآنه بدمه)
وهكذا سرت الإشاعة المغرضة سريان النار في الهشيم، في ليلة عاصفة!
وإذا أردت أن تقتل عدوّك، فسلّط عليه إشاعة بين العامة! وهكذا حمل كل عامي تهمة لا سبيل إلى البراءة منها!
(قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذبا!
فما اعتذارك في قول إذا قيلا!)ما أشنع أحكام العامّة الحاسمة المبرمة!
ما كنت بالقاتل، ولا كنت بالمتآمر، فهناك ألف دليل على أنّك دافعت وأخلصت في الدفاع وحاميت، ولكن إذا حلّ القضاء عاد سعي الرجل وإخلاصه وبالاً عليه.
لقد أخلصت النصيحة، فجاء المغرضون يسوقون الخليفة إلى الهاوية.
أما روى الطبري أنّ (عمرو بن العاص) كان شديد التحريض والتأليب على (عثمان) وكان يقول: (والله إنّي كنت لألقى الراعي فاحرّضه على (عثمان) فضلاً عن الرؤساء والوجوه، فلمّا سعر الشرّ بالمدينة خرج إلى منزله بفلسطين، فبينما هو بقصره ومعه إبناه إذ مرّ به راكب من المدينة فسألوه عن عثمان فقال محصور، (عمرو) أنا أبو عبدالله. (العير يضرط والمكواة بالنار).
أجل لم تبايع، لأنّك لم تستشر، ولم يرع لك حق، فقلت بصراحة لا غمغمة فيها إذ قلت في اليوم الثاني من السقيفة بعد البيعة العامة لأبي بكر: (أفسدت علينا أمرنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقّاً!).
فاتّخذ الذين أرجفوا بأنّ لك يدا في اغتيال الخليفة، قولتك هذه حجّة عليك وهي حجّة لك لو أنصفوا.
أما كان الأجدر أن يذكروا قولك:
(فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد (صلّى الله عليه وآله)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدما تكون المصيبة فيه عليَّ أعظم من فوت ولايتكم) .أجل لو عرفوا قيمة الإخلاص لاتخذوا قولك هذا دليلاً وأعظم دليل على أنّك الغيور على الإسلام هذه الغيرة لا يمكن أن يرضى عن ثلمة فيه!
ما قدّروا إعراضك عن الذين بذلوا لك نصرتهم متبرعين، فكان جوابك:
(حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإسلام) .ما علموا أنّك يوم أمسكت يدك عن البية، لم تصنع ذلك أنانية منك، بل قلت:
(اللّهمّ أنت تعلم، أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الطعام، لكن لنرد المعالم في دينك، ونظهر الصلاح في بلادك).فإذا كان الناس قد فسّروا إخلاصك على غير ما أردت، فلا عليك أبا الحسن! إنّ كل شيء في الحياة ممكن إلّا إرضاء الحاسد.
وإنّ كل شيء ممكن إلّا إقناع الذي يحسدك على سمعة حسنة، أو فضيلة ممازة، وقد كانت سمعتك الطيبة يا أسد الإسلام، وفضائلك الممتازة يا قدّيس الإسلام، من شجاعة وبطولة وكرم ووفاء تثير حولك عاصفة من الحسد الذي لا سبيل إلى وأده، ولا طريقة إلى تلافيه!
***
ابتسامة رقيقة عذبة، تدلّ على أنّك تلقى طرازاً خاصّاً من البشر، طمع على اللطف والإنسانية، غير مخيّر.
وهيبة تصغير عندها هيبة الاُسود، هي هيبة الواثق بنفسه، المعتمد على ربّه.
وبشاشة تدل على طفولة القلب التي ترافق العظماء دائماً، تلك الطفولة التي لا تعرف الجبن، ولا تفهم الخوف، ولا تتهيب التجديد.
طفولة قلب لا تعرف النفاق، ولا تفهم المواربة، ولا تؤمن بالخداع!
وكيف لا يكون كذلك الرجل الذي ما عرف الإسلام له نظيراً، ولعلّ من الإلهام أن يدعى (حيدرة) ثم يسمّى (عليّاً).
هذا هو الأنزع البطين.
ربعة من الرجال، إلى القصر أقرب، وإلى السمن، هو أدعج العيني، أنجل ، في عينه لين، أزج الحاجبين، حسن الوجه، من أحسن الناس وجهاً، يميل إلى السمرة، كثير التبسّم، أصلع ليس في رأسه شعر إلّا من خلفه، ناتىء الجبهة، له خفاف من خلفه، كأنّه إكليل، وكأنّ عنقه إبريق فضة، كثّ اللحية، لحية زانت صدره، لا يغيّر شبيه.
(ومن هوى الصدق في قولي وعادته).
رغبت عن شعر في الرأس مكذوب!)
كان أرقب، عريض ما بين المنكبين، لمنكبيه مشاش كمشاش السبع الضاري، (وفي رواية) عظيم المشاش كمشاش السبع الضاري، لا يبين عضده من ساعده ادمجت إدماجاً، عبل الذراعين شئن الكفين، (وفي رواية) رقيق الأصابع، شديد ساعد اليد لا يمسك بذراع رجل قط إلّا أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس، ضخم البطن، أقرى الظهر، عريض الصدر، كثير شعره ضخم الكسور، عظيم الكراديس، غليظ العضلات، حمش الساقين، ضخم عضلة الذراع، دقيق مستدقّها، ضخم عضلة الساق، دقيق مستدقها، إذا مشى تكفّأ، وإذا مشى إلى الحرب هرول، قوي شجاع، منصور على من لاقاه، أيّده الله بالعزّ والنصر!
في البيت الحرام، بمكة المكرمة، يوم الجمعة ثالث عشر رجب الحرام، بعد عام الفيل بثلاثين عاماً، سمع استهلال الإمام علي، فدعي (حيدرة)! لأب نبيل هو شيخ البطحاء ولأُمّ شريفة هي فاطمة بنت أسد بن هاشم، فكان أوّل هاشمي ولد بين هاشميين، فكانت أُمّ الإمام علي للرسول بمنزلة الأُم لأنّه ربّي في حجرها وهو ابن ثماني سنين، وكان شاكراً لبرّها ويسمّيها أُمّي!
ولمّا توفيت، كفّنها الرسول بقميصه، وأمر من يحفر قبرها، فلمّا بلغوا لحدها حفره بيده وأضجع قفيه، وقال: (اللّهمّ ! اغفر لأُمّي فاطمة بنت أسد، ولقّنها حجتها، ووسّع عليها مدخلها) فقيل يا رسول الله: (رأيناك صنعت شيئاً لم تصنعه بأحد قبلها!).
فقال: (البستها قميصي لتلبس من ثياب الجنّة، واضجعت في قبرها ليوسّعه الله عليها، وتأمن من ضغطة القبر، إنّها كانت من أحسن خلق الله صنعاً إليَّ بعد أبي طالب... ).
كانت ولادته في البيت الحرام إيذاناً بأنّ الأصنام قد هّزمت إلى الأبد!
جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد قوله: (أمّا شجاعة علي، فإنّه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة، يُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذي ما فرّ قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلّا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأُولى إلى ثانية، إذا علا قدّ، وإذا اعترض قط، ولا دعي إلى مبارزة فنكل، وهذا كلّه من الأُمور العجيبة التي لم تتفق لغير علي بن أبي طالب.
وكان يقول: (ما بارزت أحداً، إلّا أعانني على نفسه)، وكانت العرب تفتخر بوقوفها في مقابلته في الحرب.
ولمّا افتخر حسّان بقتل عمرو بن عبد ود في شعر له، ردّ عليه فتى من بني عامر فقال من أبيات:
(كذبتم وبيت الله لا تقتلوننا بسيف ابن عبدالله أحمد في الوغى (عليّ) الذي في الفخر طال بناؤه |
|
ولكن بسيف الهاشميين فافخروا بكفّ علي نلتم ذاك فاقصروا فلا تكثروا الدعوى علينا فتحقروا |
وكان أهل قتلاه يفتخرون بأنّ قتلاهم صرعوا بسيف علي بن أبي طالب لا بسيف غيره.
ولعلّ أروع مواقف البطولة والشجاعة مبيته على الفراش ليلة الغار وقد أحاط النفر من قريش بالدار ليفتكوا بمن في الفراش! فلا وهت همته، ولا خارت عزيمته، ولا تطرّق الخوف إلى قلبه!
أمّا سيره بالفواطم من مكة بعد الهجرة، وليس معه من يشدّ له إزراً أو يحمي من الطعن له ظهراً، ولا صدراً، ولم يكن معه سوى ابن أُمّ أيمن، وأبي واقد الليثي، وهما لا يغنيان شيئاً، فلحقه ثمانية فرسان من قريش أمامهم جناح مولى حرب بن أُمية، فأهوى إليه جناح بالسيف، وجناح فارس وعلي راجل فحاد علي عن ضربته، وضربه لمّا انحنى على كتفه، فقطعه نصفين، حتى وصلت الضربة إلى قربوس فرسه، وانهزم الباقون!
أمّا يوم بدر فقد قتل الوليد بن عتبة، وشرك في قتل عتبة، وقتل جماعة من أبطال قريش.
وفي يوم أُحد أباد أصحاب اللواء جميعهم على أصح الروايات وأصدقها، ولمّا فرّ القوم عن النبي لم يثبت للدفاع عنه إلّا الإمام علي!
ويوم جبن المسلمون كلّهم عن مبارزة عمرو بن عبد ود، لم ينهد له إلّا الإمام علي، وبقتله انكسرت شوكة أعداء المسلمين وباءوا بالخذلان!
ماذا أعدّد من مواقفه؟
فيوم خيبر.
ويوم حنين، تلك الغزوة التي فرّ فيها الناس هرباً عن النبي ولم يثبت معه سوى عشرة، تسعة منهم من قريش علي أحدهم!
وفي يوم الجمل لم يسمع بمثل ما صنع علي بن أبي طالب.
ومن شجاعته الخارقة للعادة موقفه في صفّين يوم الهرير، قال بعض الرواة: (فوالله الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، ما سمعنا برئيس قوم منذ خلق الله السموات والأرض أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب علي، إنّه قتل في ما ذكر العادّون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب، يخرج بسيفه منحنياً، فيقول معذرة إلى الله وإليكم من هذا، فكنّا نأخذه ونقومه ثم يتناوله من أيدينا فيقتحم في عرض الصف، فلا والله ما لبث أشدّ نكاية منه بعدوّه).
وأمر (عليه السلام) بالجمل أن يحرق، ثم يذرّى في الريح وقال (عليه السلام): (لعنه الله من دابة، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل). ثم قرأ: (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (6).
حقّاً إنّي لأجدني عاجزاً عن تعداد مناقبه في الشجاعة، ولو أردت أن أُعدد كل ما ذكر عنه لكنت كمن يريد أن يقول إنّ الشمس منيرة والقمر زاهر، فماذا عساني أن أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ويكفي أن نذكر قوله كرّم الله وجهه يوم قيل له: (يا أميرالمؤمنين ألا تعدّ فرساً للفرّ والكرّ؟) فقال: (أمّا أنا فلا أفرّ ومن فرّ منّي فلا أطلبه!).
ولعل أعظم شهادة لشجاعته أن يكون صاحب الراية:
***
أ – في غزوة ودّان وهي أول غزوة حمل فيها راية في الإسلام مع النبي (صلى الله عليه وآله).
ب - في بدر وهي البطشة الكبرى.
ج – وفي يوم أُحد جمعت له الراية واللواء.
د – وفي الغزوات التالية: حمراء الأسد، والحديبية، وحنين، وذات السلاسل، وفي غزوة بني النظير، وغزوة خيبر!
الهوامش
1ـ الحديد: 27.
2ـ المائدة: 82.
3ـ الروم: 1 ـ 5.
4ـ العصا: آية النبيّ موسى بن عمران(عليه السلام) التي أبطل بها سحر السحرة ولقفت ما يأفكون. والكتمان اقتباس من القرآن.
5ـ آمنة بنت وهب أُمّ النبيّ محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).
6ـ طه: 97.