قد تكون كلمة الرعية ثقيلة على السمع، إذا كان الراعي غير أبي الحسن، أمّا والراعي في مثل هذه الأمانة، وفي مثل هذا الخلق الأبوي فإننا لا نجد كلمة ألطف منها، ولا أرق منها في هذا المقام!
إنّ أبا الحسن رجل أعمال إنّه (عليه السلام) فيلسوف يسير في ظل تعاليمه، فلا يملأ آذاننا بالصخب والضجيج والأقوال الفارغة، وبعد أن تلهب الأكفّ تصفيقاً له والحناجر المأجورة تمجيداً لبلاغته يعود الجائع إلى بيته جائعاً، والمحروم ذليلاً.
أبو الحسن لا يطلب إلّا الحق: (كبر مقتاً عندالله أن تقولوا ما لا تفلعون!)
أبو الحسن أول من قال: إنّ أعظم الخيانة خيانة الأُمّة.
أبو الحسن أول من قال : إنّ الولاة هم خدّام للرعية، وليست الرعية إقطاعاً لهم (أنتم) خزان الرعية، ووكلاء الأُمّة، وسفراء الأئمّة.
فالرعية عند الإمام هي الغاية، وخدمتها غاية الغايات، فاسمع ما يقول:
وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارباً تغتنم اكلهم، فإنّهم صنفان:
أ ـ أخ لك في الدين.
ب ـ أو نظير لك في الخلق.
يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فاعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تُحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه!
الإمام لا يكتفي بهذا بل يدعو الوالي إلى الإتصال برعيته وأن لا يطيل الإحتجاب عنهم:
(فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْم بِالاُْمُورِ، وَالاِْحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دوُنَهُ فَيَصْغُرُ عِندَهُمْ الْكَبِيرُ، وَيَعْظَمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الاُْمُورِ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ).
(وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً، فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ، وَاعْدِلْ عَنكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ، فَإِنَّ فِي ذلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ، وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ فِيه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ).
(واعلم أنّه ليس شيء بأرعى إلى حسن ظن راع برعية من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عنهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك فإنّ حسن الظنّ يقطع نصباً طويلاً، وإنّ أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإنّ أحقّ من ساء ظنك به، لمن ساء بلاؤك عنده).
ألاحظت رأي الإمام في الرعية، وفي سياستها والإحسان إليها؟
أرأيت أنّ الإمام يرى في المسؤولين خدّاماً للشعب وأنّه لا قيمة حقيقية لهم إلّا بمقدار ما يوفّرون للشعب من السعادة من أجل هذا عذب في فمي لفظ الرعية مع أنّي لا اسيغه فلقد عذب من فم الإمام لأنّ الكلمة تحمل قلب الإمام الكبير كلّما رردها!
(أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاُْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلاِْنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالاِْلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الاِْعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ .
وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلاَْعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الاُْمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُم).
لا يكتفي الإمام بأن يجعل كل شيء لخدمة الشعب، ولا يكتفي بأن يكون الوالي والمسؤول وقفاً على إقامة شؤون رعيته بل يوجّه بانفاق المال على ذوي الحاجة:
(فانْظُرْ إِلَى مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ مَالِ اللهِ فَاصْرِفْهُ إِلَى مَنْ قِبَلَكَ مِنْ ذي الْعِيَالِ وَالْـمَجَاعَةِ، مُصِيباً بِهِ مَوَاضِعَ المَفَاقِرِ وَالْخَلاَّتِ، وَمَا فَضَلَ عَنْ ذلِكَ فَاحْمِلْهُ إِلَيْنَا لِنَقْسِمَهُ فِيمَنْ قِبَلَنَا).
لم يكتف الإمام بالذي ذكرنا بل ما يجب للرعية على راعيها وما يجب له عليها: )فأمّا حقكم عليَّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأدبيكم كيما تتعلموا .
وأمّا حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم!(.
فمن هنا، نرى أنّ الإمام قد سنّ أُموراً لم تكن واضحة المعالم قبله ووضع من المناهج الداشنة ما لم يحصل عليه الناس في أرقى الأُمم المتمدّنة إلّا بعد ثورات دامية وحروب تشيب لهولها الولدان.
فعاش حياته من أجل الشعب، واغتاله البائسون وهو يفكّر في ما يسعد الشعب!
سوابق الإمام علي لحقوق الإنسان
نلاحظ أنّ الإمام عليّاً قد صاغ المادة الأُولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ـ قبل أن يكون هنالك منظمة عالمية تضم مائة واثنين وعشرين دولة بأجيال عديدة ـ صاغها باسلوب إيجابي، يناجي به ضمير الإنسان، ويجعله في ثورة دائمة على الظلم والإستعباد!
فإذا كانت الأنظمة التي سنّها البشر تظل حبراً على ورق، لأنّها لا تجد المنفذين المخلصين، فإنّ الإمام عليّاً يضع في ضمير كل من يسمع صوته بذور العزّة والعظمة والشعور بالكرامة الإنسانية، فلا يذلّ ولا يتهاون في حقّ نفسه، ولا في حق سواه: (لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرّاً).
وإذا كان عمر بن الخطاب قد قال: (متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أُمهاتهم أحراراً؟) فإنّ الإمام قدّيس الإسلام أراد أن يضع في قلب كل إنسان ـ كائناً من كان الشعور بالعزّة والإحساس بالإنسانية، فلا يسمح لطاغية أن يلوث فطرة الله التي فطر عليها خلقه.
فرق عظيم بين أن نلوم المستعبدين المستبدين، ونصب عليهم سوط عذاب، وبين أن نزرع العزّة في النفوس، أنا لا أُنكر قيمة ما فاء به عمر بن الخطاب، ولا يمكن للتاريخ أن ينسى موقفه ممّن يستغلون مناصبهم ومناصب آبائهم ليتعالوا على الناس ويظلموهم، لكن الفرق بين قول أسد الإسلام وقول عمر بن الخطاب، كالفرق بين من يطعم الجائع وجبة من الطعام، وبين من يهيّيء للمحتاج عملاً شريفاً لمدى الحياة، يحفظ عليه كرامته، ويقيه من التسوّل، ويجعله سيّد نفسه!
فكلمة الإمام علي، إهابة بالإنسان أن يثور على ذلّه، ويطرح أغلال عبوديته، هي وثبة عبقرية تدوس الظلم والطغيان وتئدهما وأداً أبدياً!
في كلمة الإمام تقرير ضمني أنّ الحرية أثمن من الحياة نفسها، وأنّه ليس هنالك ما يستحق أن تبذل في سبيله الحياة رخيصة سوى الحرية التي وهبها الله للإنسان حقّاً طبيعياً، فلا يحق لإنسان مهما علت منزلته وارتفع سلطانه، وبلغت سيطرته، أن يعتدي عليها، أو يسلبها، لأنّ سلب الحرية معناه سلب الناس شرفهم، وما قيمة الحياة بلا شرف؟ إنّها أحقر من ميتة العبيد!
فكأنّما الإمام يقول: (إن حاول محاول أن يسلبك الحرية، فمعنى ذلك أنّه يحاول أن يعتدي على روح الله، وصورة الله في إنسانيتك، وإنّ الواجب يدعوك أن تدافع عن هذه الهبة المقدّسة، التي لا قيمة للحياة بدونها، لأنّها هي الشرف، والشرف أثمن من الحياة!
الإمام القدوة يعلّمنا الحرية، لأنّه يرى نفسه مسؤولاً عن صيانة حقوق الإنسان ـ كل إنسان ـ من أجل هذا فهو يقول، ويعمل بما يقول:
(الذليل عندي عزيز، حتى آخذ الحق له، والعزيز عندي ذليل، حتى آخذ الحق منه!)
فإذا كان الاعلان العالمي ـ بعد كل التطور الذي مرّ على ضمير البشرية ـ قد طلب أن يعامل السجين معاملة إنسانية، فإنّ الإمام قد فرض قبل صدور هذه الوثيقة الإنسانية العظمى بأجيال عديدة، أن يكون السجن وسيلة تهذيب، لا طريق إذلال، ومقدّمة وأد، وأوصى للسجين بالمأكل والمشرب والملبس في الصيف والشتاء، وتجاوز ذلك طالباً توفير ما يضمن له بعد خروجه من السجن ما يضمن له إنسانيته!
وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد طالب بالمساواة، فإنّ دستور الإمام ـ حتى للولاة ـ إنّما هو المساواة، التي تنمّ على الاخوّة والرفق بالناس:
إياك والاسئثار بما الناس فيه أسوة!
إنّ هذا المال ليس لي، وليس لك!
لا يسعنا أن نعطى امرءاً أكثر من حقه!
الإمام وهو بين يدي الله، يدعو بنيه ناسياً الموت، وأهوال الموت يدعوهم وعلى رأسهم الحسن (عليه السلام) ويفيض من نفسه في نفوسهم ذخيرة من العطف والرحمة التي يوجبها حقّ الإنسان على أخيه الإنسان!
الله الله في الفقراء والمساكين أشركوهم في معائشكم!
لقد كان الإمام (عليه السلام) نجماً يهتدى به، وقد قال عمر بن الخطاب ما يثبت قولنا: كنا ننظر إلى علي في أيّام النبي كما ننظر إلى النجم!
فهذا النجم كان منارة يهتدى به لولا المطامع الدنيوية، والأحقاد الجاهلية، والضغائن القبلية، والأفكار الضيقة التي تسيطر عليها العنجهية
فرحم الله أبا السبطين ما كان أعظمه!
لقد كان ريب النبي الوفي، وأخاه الصادق الأمين.
كان البطل المعلّم الفذّ.
كان المشرّع البارع، والمجتهد العبقري الذي نهل من معين عبقريته كل مجتهد.
كان منهلاً من الخير والنبل لا يغيض ولا ينضب.
كان الخليفة القدوة ، والإنسان العظيم، الذي سبق كل سابق إلى حقوق الإنسان!
كأنّ الله جل جلاله، قد صاغ نفس الإمام من السماحة والشجاعة الأدبية وجعل له قلباً نفخ فيه الرحمة والعدل، والشعور بالمسؤولية، فعاش إلى أن لقي ربّه عدوّاً للتعصب خصماً للأُفق الضيق والصدر الحرج.
فكم من مرة شاهد الناس أسد الإسلام وقدّيسه معتّماً بعمامته الخضرار يردد ما قاله مرة في مسجد النبي:
من آذى ذميّاً فقد آذاني!
وكأنّما هو قد اتخذ قول ابن عمه العظيم (محمد بن عبدالله)شعاراً:
الأنبياء اخوة أُمهاتهم شتى ودينهم واحد!
فما دام الأنبياء اخوة فأتباعهم يجب أن يكونوا اخوة، هذه هي السماحة النفسية في أروع معانيها.
فابن عم النبي وختنه، الذي سجل القرآن الكريم بيده الشريفة لا يفهم التعصب، لأنّ التعصب ضيق في الآفاق النفسية وتحجر في القلب وإبعاد بالدين عن غرضه الأسمى، وهو إشاعة الخير والحب والإخاء بين البشر وتطهير للنفوس من رواسب الجاهلية العمي، وأحقادها الصم!
ألم يقل (كرّم الله وجهه) : (لو ثنيت لي الوسادة لحكمت في أهل التوراة بتوارتهم، وفي أهل الإنجيل بإنجيلهم، وفي أهل القرآن بقرآنهم، حتى تركت كل كتاب ينطق من نفسه!).
أليس قوله هذا دليلاً قاطعاً على أنّه لا يقر شيئاً اسمه التعصّب؟ أو مفاضلة بين الناس؟ فالمسلمون وغير المسلمين في نظر الإمام سواسية!
فكلّ الذي كافحت الإنسانية في سبيل الحصول عليه بإراقة أنهار الدماء هو عند الإمام من البديهات.
فلمّا بعث بعهده إلى (محمد بن أبي بكر) عندما ولاّه مصر، قال: (وأُوصيك بالعدل على أهل الذمة، وبانصاف المظلوم، وبالشدّة على الظالم وبالعفو عن الناس، والإحسان ما استطعت، وليكن القريب والبعيد عندك في الحق سواء).
ولعلّ أعظم دليل على أنّه خلق وهو عدو للتعصب، يؤمن بالمساواة، أنّه جعل دية النصراني مثل دية المسلم، وأنّه قال: (أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا!).
فإذا كان الجهلة في كل مذهب قد شوهوا جمال الأديان وروحانيتها فإنّ الإمام الأعظم قد جعل الدين اخوة إنسانية، ومعقلاً تلجأ إليه كرامة الإنسان من حيث هو إنسان! الإمام علي بفطرته المصفّاة ونفسه السمحة وقلبه الرحيم الكبير أدرك أنّ التعصب برصُ للنفس، وسرطان يفتك بروح الدين وامتهان لكرامة عباد الله من بني الإنسان، وتدمير لحقيقة الدين وجوهره، من أجل هذا كان الإمام علي حرباً على التعصب!
فحارب التعصب القبلي، لأنّه جاهلية تطفئ نور الضمير، حارب الجهل لأنه يقود إلى التعصب حارب الكبرياء والعجرفة، لأنّهما دعامتان من دعائم التعصب فالتعصب في رأي الإمام ـ ولا رأي سواه ـ مردّه إلى أصلين لا ثالث لهما:
أ ـ الجهل.
ب ـ والسفاهة.
قال الإمام: ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصّب لشيء من الأشياء إلّا عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تلبط بعقول السفهاء!
فإذا رأينا الإمام يتحمّس فإنّما هي حماسة في نصرة الفضيلة!
وما أعظم الفرق بين الحماسة للفضيلة، والتعصب الأرعن وليد السفاهة والجهل!
فاسمع ما يقول الإمام : )فَإنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبَكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الاَْفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الاُْمُورِ والاَْخْلاَقِ الرَّغِيبَةِ، وَالاَْحْلاَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالاْثَارِ الَمحْمُودَةِ وَالاَْخْذِ بِالْفَضْلِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ، وَالاِْنْصَافِ لِلْخَلْقِ، وَاجْتِنَابِ الْمفَاسدِ فِي الاْرْض).
الإمام يضرب لنا أروع الأمثلة التي تصكّ كل طاغية في الأرض وكل عتل زنيم، يضرب مثلاً في البراءة من التعصب الذي يتّخذه الطغاة دستوراً لهم في الحياة ليستروا ما هم فيه من عَمه وعمياة فيوحون إلى أتباعهم أنّ آراءهم مقدّسة، لا تقبل المناقشة وأنّهم لا يخطئون.
أمّا الإمام ـ عدو التعصب ـ فيقول:
لا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل فإنّي لست في نفسي بف وق أن اخطئ!
فباب مدينة العلم، الذي من علمه نهل كل عالم في الإسلام، وكل فقيه في الفقه، وكل متكلّم في علم الكلام، لا يتعصّب لآرائه ـ وإن كان له الحق في أن يتعصّب ـ .
الإمام عدو للطغيان الذي يقود إلى التعصّب فاسمعه يقول:
(ألاَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ، وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ، وَجَاحَدُوا اللهَ مَا صَنَعَ بِهمْ، فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ، وَدَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ!) أجل دعائم أركان الفتنة التي هي شرّ من القتل، والعياذ بالله!
الإمام يرى أنّ التعصب أصل لكل الشرور في الحياة، وهو المؤدّي إلى الظلم الذي هو أساس لخراب البلاد وهذا ما يقول كرم الله وجهه:
لو سلكتم الحق... وأضاء لكم الإسلام، لما ظُلم منكم مسلم ولا معاهد!
أمّا سماحة الإمام النفسية، فيصوّرها لنا وهو يتكلّم عن النبي وعن المسيح، فتجيء كلماته عسلاً مصفّى ثم على صفاء في النفس، وأريحية في الطبع، ونبل وعظمة في الخلق:
وَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ(صلّى الله عليه وآله) كَاف لَكَ فِي الاُْسْوَةِ، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا، وَفُطِمَ مِنْ رَضَاعِهَا، وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا.
وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ(عليه السلام): فَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ، وَيَلْبَسُ الْخَشِنَ، وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ، وَسِرَاجُهُ بَاللَّيْلِ الْقَمَرَ، وَظِلاَلُهُ مَشَارِقَ الاَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَفَاكِهَتُهُ وَرَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الاَْرْضُ لِلْبَهَائِمِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، وَلاَ وَلَدٌ يَحْزُنُهُ، وَلاَ مَالٌ يَلْفِتُهُ، وَلاَ طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ، وَخَادِمُهُ يَدَاهُ!
أمّا رأيه في اتباع المسيح فهو:
أولئك قوم اتّخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشا، وماءها طيباً، ثم قرضوا الدنيا على منهاج المسيح!
ولعلّ خير ما أختم به هذا الحديث قوله:
فلا تستصغرنّ عبداً من عبيد الله فربما يكون وليه وأنت لا تعلم!
وقوله:
فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره ما تكره لها، وارض من الناس ما ترضاه لهم من نفسك!
فما أسمى هذه النفس التي تطهّرت من مرض التعصّب، وسمت فوق صغائر الحياة!
هناك هبات يخصّ بها الله بعض عباده فقد خصّ الله الإمام عليّاً بخصائص كثيرة منها الحكمة والكلمات الجامعة وها نحن نورد نخبة من حكم الإمام وكلماته الجامعة التي سارت على كل شفة وكل لسان لما فيها من لباب التهذيب النفسي:
إيمان المرء يعرف بأمانه.
أدب المرء خير من ذهبه.
أداء الدَّين من الدِّين.
أحسن إلى المسيء تسد.
أخوك من واساك بنشب، لا من واساك بنسب.
بشّر نفسك بالظفر بعد الصبر.
بركة المال في أداء الزكاة.
بع الدنيا بالآخرة تربح.
بكاء المرء من خشية الله تعالى قرة عين.
بطن المرء عدوه.
بلاء الإنسان من اللسان.
بشاشة الوجه عطيّة ثانية.
تكاسل المرء في الصلاة ، ضعف في الإيمان.
تدارك في آخر العمر ما فاتك في أوّله.
ثلمة الدين موت العلماء.
ثبات الملك بالعدل.
ثواب الآخرة خير من نعيم الدنيا.
ثناء الرجل على معطيه مستزيد.
جد بما تجد.
جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة.
جودة الكلام في الإختصار.
جليس المرء مثله.
خف الله تأمن غيره.
خالف نفسك تسترح.
خير الأصحاب من يدلّك على الخير.
خليل المرء دليل عقله.
خوف الله يجلو القلوب.
خير المال ما انفق في سبيل الله.
دليل عقل المرء فعله، ودليل علمه قوله.
دوام السرور برؤية الإخوان.
دم على كظم الغيض تحمد عواقبك.
ذنب واحد كثير، وذكر ألف طاعة قليل.
ذكر الأولياء ينزل الرحمة.
ذكر الموت جلاء القلوب.
ذكر الشباب حسرة.
رؤية الحبيب جلاء العين.
رفاهية العيش في الأمن.
رسول الموت الولادة!
زوايا الدنيا مشحونة بالرزايا.
زيارة الضعفاء من التواضع.
زينة الباطل خير من زينة الظاهر.
سيرة المرء تنبئ عن سريرته.
سمو المرء التواضع.
شبيك ناعيك.
شحيح غني، أفقر من فقير سخي.
صدق المرء نجاته.
الصبر يورث الظفر.
صلاة الليل، بهاء النهار.
صلاح الإنسان في حفظ اللسان.
صاحب الأخيار تأمن الأشرار.
صمت الجاهل ستره.
صلاح الدين في الورع، وفساده في الطمع.
ضلّ من ركن إلى الأشرار.
طاب من وثق بالله.
طلب الأدب أولى من طلب الذهب.
ظلم المرء يصرعه.
ظلامة المظلوم لا تضيع.
عش قنعا تكن ملكا.
عيب الكلام تطويله.
عاقبة الظالم وخيمة.
غدرك من دلّك على الإساءة.
فاز من ظفر في الدين.
فخر المرء بفضله أولى من فخره بأصله.
فاز من سلم من شر نفسه.
فسدت نعمة من كفرها.
قبول الحق من الدين.
كلام الله دواء القلب.
كفران النعمة مزيلها.
كفى بالشيب داء.
كمال العلم في الحلم.
لين الكلام قيد القلوب.
من كثر كلامه كثر ملامه.
مجلس العلم روضة من رياض الجنة.
مصاحبة الأشرار ركوب البحر.
نسيان الموت صدأ القلب.
نم آمنا تكن في أمهد فراش.
نضرة الوجه في الصدق.
ولاية الأحمق سريعة الزوال.
وحدة المرء خير من جليس السوء.
هم السعيد آخرته وهم الشقي دنياه.
هلاك المرء في العجب.
هربك من نفسك أنفع من هربك من الأسد.
لا دين لمن لا مرءوة له.
يعمل النمّام في ساعة فتنة أشهر.
يسود المرء قومه بالإحسان إليهم.
* إذا أقبلت الدنيا على أحد، أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.
* خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم، وإن عشتم حنوا إليكم.
* إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه.
* أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم.
* إذا وصلت إليكم أطراف النعم، فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر.
* أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر إلّا ويد الله بيده يرفعه.
*من كفّارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب.
*ياابن آدم! إذا رأيت ربّك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره.
* ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه.
* إذا كنت في إدبار والموت في إقبال، فما أسرع الملتقى!
* فاعل الخير خير منه، وفاعل الشر شر منه.
* كن سمحاً ولا تكن مبذّراً وكن مقدّراً ولا تكن مقتّراً.
* من أسرع إلى الناس بما يكرهون، قالوا فيه ما يعلمون!
* لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه.
* احذروا صولة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع.
* عيبك مستور ما أسعد جدك!
* السخاء ما كان ابتداء، فأمّا ما كان عن مسألة فحياء وتذمم!
* من حذّرك كمن بشّرك.
* من نصب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم.
* خذ الحكمة أنّى كانت، فإنّها تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج، فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن.
* قيمة كل امرئ ما يحسنه.
* بقيّة السيف أبقى عدداً، وأكثر ولداً.
* من ترك قول لا أدري، اصيبت مقاتله.
* رأي الشيخ، أحب إليَّ من جلد الغلام.
* إنّ هذه القلوب تملّ، كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم.
* عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي إيّاه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء!
* الدنيا دار ممر إلى دار مقر، والناس فيها رجلان:
أ ـ رجل باع فيها نفسه فأوبقها.
ب ـ ورجل ابتاع نفسه، فاعتقها!
* لا يكون الصديق صديقاً، حتى يحفظ أخاه في ثلاث:
أ ـ في نكبته.
ب ـ وغيبته.
ج ـ ووفاته!
* عاتب أخاك بالإحسان إليه.
* الهمّ نصف الهرم.
* المرء مخبوء تحت لسانه.
* لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
* الناس أعداء ما جهلوا.
* أصدقاؤك ثلاثة، وأعداؤك ثلاثة، فأصدقاؤك:
صديقك، وصديق صديقك، وعدو عدوك.
وأعداؤك: عدوك، وعدو صديقك، وصديق عدوك.
*ردوا الحجر من حيث جاء فإنّ الشر لا يدفعه إلّا الشر!
* ماء وجهك جامد، يقطره السؤال، فانظر عند من تقطره!
* من سلّ سيف البغي قتل به، ومن كابد الامور عطب، ومن اقتحم اللجج غرق، ومن دخل مداخل السوء اتّهم!
* من نظر في عيوب الناس فأنكرها، ثم رضيها لنفسه، فذاك الأحمق بعينه، ومن نظر في عيب نفسه، اشتغل عن عيب غيره!
* من صارع الحق صرعه.
* لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم.
* الولايات مضامير الرجال.
*القرابة إلى المودّة أحوج من المودة إلى القراءة.
* من أعطي أربعاً، لم يحرم أربعاً:
أ ـ من أُعطي الدعاء لم يحرم الإجابة.
ب ـ ومن أُعطي التوبة لم يحرم القبول.
ج ـ ومن أُعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة.
د ـ ومن أُعطي الشكر، لم يحرم الزيادة!
*منهومان لا يشبعان:
أ ـ طالب علم.
ب ـ وطالب مال.
* أمّا رأيه هذا، فما قرأته إلّا شعرت بشيء كثير من روعة التأمّل وجلال الهيبة:
لقد علق نياط هذا الإنسان بضعة، هي أعجب منه، وذلك القلب، وله مواد من الحكمة، وأضداد من خلافها.
فإن سنح له الرجال أذلّه الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس ، قتله الأسف، وإن عرض له الغضب، اشتدّ به الغيظ، وإن أسعده الرضى نسي التحفّظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمن استلبته الغيرة، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن عضّته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط به الشبع طظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط به مفسد.
مسكين ابن آدم! مكتوم الأجل، مكنون العلل، محفوظ العمل، تؤلمه البقّة، وتقتله الشرقة، وتُنته العرقة.
(... ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وخطره، وسمعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأثاب عليه...) مقدّمة ابن خلدون صفحة 581.
يُنسب للإمام علي شعر، وقد قرأنا ديواناً من الشعر منسوباً إليه، ونحن لا نستبعد أن يكون للإمام شعر، لأنّه لم يرد في القرآن الكريم تحريم للشعر، وما جاء في سورة الشعراء ليس تحريماً، لكنّه ذم لفئة خاصة من الشعراء تجعل شعرها وسيلة للإفساد أو هجاء الناس.
(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ * أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ )(1).
ومن الشعر المنسوب إليه:
لكل اجتماع من خليلين فرقة أرى علل الدنيا عليَّ كثيرة وإنّ افتقادي واحداً بعد واحد |
|
وإنّ الذي دون الفراق قليل وصاحبها حتى الممات عليل دليل على أن لا يدوم خليل! |
ومن شعره يوم مقتل عمار بن ياسر بصفين:
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي أراك بصيراً بالذين احبّهم |
|
أرحني فقد أفنيت كل خليل كأنّك تنحو نحوهم بدليل |
وقال في مدح السفر والحثً عليه وهو يدل على ما في طبيعة العربي من حب المغامرة:
تغرب عن الأوطان في طلب العلى تفرج هم واكتساب معيشة فإن قيل في الأسفار ذلّ ومحنة فموت الفتى خير له من مقامه |
|
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد وعلم وآداب وصحبة ماجد! وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد بدار هوان بين واش وحاسد! |
ومن الديوان المنسوب إلى الإمام:
إنّ الذين بنوا فطال بناؤهم جرت الرياح على محل ديارهم |
|
واستمتعوا بالمال والأولاد فكأنّهم كانوا على ميعاد |
ومن شعره:
أبني إنّ من الرجال بهيمة فطن لكلّ رزية في ماله |
|
في صورة الرجل السميع المبصر وإذا اصيب بدينه لم يشعر |
ومما ينسب إليه:
حلاوة دنياك مسمومة فكن موسرا شئت أم معسرا إذا تمّ أمر بدا نقصه |
|
فما تأكل الشهد إلّا بسم فما تقطع الدهر إلّا بهم توقّع زوالاً إذا قيل تم |
ومنه:
إذا النائبات بلغن المدى وحلّ البلاء وقلّ العزا |
|
وكادت لهنّ تذوب المهج فعند التناهي يكون الفرج |
ومنه:
هوّن الأمر تعش في راحة ليس أمر المرء سهلاً كله تطلب الراحة في دار العنا |
|
قلما هونته الاّ يهون إنّما الأمر سهول وحزون خاب من يطلب شيئاً لا يكون |
ومنه:
أصم عن الكلم المحفظات وإنّي لأترك جلّ المقال إذا ما اجتررت سفاه السفيه ولا تغترر برواء الرجال فكم من فتى يعجب الناظرين ينام إذا حضر المكرمات |
|
واحلم والحلم بي أشبه لئلاّ اجاب بما أكره علي فإنّي إذن أسفه وإن زخرفوا لك أو موّهوا له ألسن وله أوجه وعند الدناءة يستنبه |
ومنه:
إلام تجر أذيال التصابي بلال الشيب في فوديك نادى |
|
وشيبك قد نفى برد الشباب بأعلى الصوت حيّ على الذهاب |
إذا كان الشعر هو الإحساس، والعاطفة الصادقة فالإمام شاعر، وإذا كان الشعر كذباً ونفاقاً، فما أبعد الشعر عن الإمام وما أبعده عن الشعر!
يستدل الذين يريدون أ، ينفوا الشاعرية عن الإمام أنّه لمّا تعرّض الإسلام لهجاء مناوئه من قريش، قيل للنبي الكريم أن يأذن للإمام علي في هجائهم، وأنّ النبي أجابهم: (ليس بذاك!) ومعنى هذا عندنا، أنّ الإمام عليّاً ما خُلق للهجاء، ولا ينبغي له أن يكون هجّاءً، وليس في هذا القول ما ينفي الشاعرية عن الإمام.
وعندنا أنّ من أعظم الأدلة على أنّ الإمام كان معروفاً بين القوم بصدق النظر في الشعر، ونقده وقرضه انّهم رشّحوه للرد على المناوئين للإسلام، وهو موقف له خطره العظيم، لكن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي يعرف للإمام علي (عليه السلام) مقامه، أراد أن ينزّهه عن هذا الموقف، الذي يكثر فيه الوقوع في أعراض الناس، وليس الإمام من هذا المستوى، ولا من هذا الطراز من الناس إذاً فجواب النبي للقوم لا يدل على أنّ الإمام ليس بشاعر!
هنالك دليل حاسم على تفوّق الإمام في تذوّق الشعر وسداد الكم في التفريق بين جيده ورديئه فقد سئل:
من أشعر الناس؟
فأجاب: إنّ القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها ولا يكون القيم بالتفضيل إلّا على التغليب!
فهذا قول رجل بصير يدرك ما بين اتجاهات الشعر والشعراء من متاهات تضلّل من يريد الحكم الصائب، والإمام الذي خلق قاضياً نزيهاً بالفطرة، لا يريد أن تكون أحكامه مجازفات كأحكام العرب التي مرّت بنا ومررنا بها ونحن نتلقّى تلك الأحكام المشغلة بالمجازفات والكثير من المغالطات، يوم قالوا:
أبرع بيت قالته العرب، قول الهذلي:
والنفس راغبة إذا رغبتها |
|
وإذا تردّ إلى قليل تقنع! |
وأرثى بيت قول عبدة:
فما كان قيس هلكه هلك واحد |
|
ولكنّه بنيان قوم تهدّما! |
وأصدق بيت قالته العرب قول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه |
|
لا يذهب العُرف بين الله والناس! |
والأم بيت قالته العرب، قول القائل:
تلقى بكل بلاد إن حللت بها |
|
أهلا بأهل وجيرانا بجيران! |
وأخنث بيت قالته العرب، قول الأعشى:
قالت هريرة لما جئت زائرها |
|
ويلي عليك وويلي منك يا رجل! |
وأجود بيت قالته العرب في الحرب، قول طفيل الغنوي:
بحي إذا قيل (اركبوا) لم يقل له |
|
عواد بر ـ يخشون الردى ـ أين نركب؟ |
وأجود بيت في الصبر قول نافع بن خليفة:
ومن خير ما فينا من الأمر أنّنا |
|
متى ما نواف مواطن الصبر نصبر! |
وأبلغ بهم التحكم والشطط، أن حكموا لبعض الشعراء بالإجادة والتفوّق والحكمة، من أجل نصف بيت من الشعر، فقالوا: إنّ أعظم نصف بيت قالته العرب، هو قول الهذلي:
والدهر ليس بمعتب من يجزع!
فأنت ترى أنّ القوم اعتبروا كل بيت من الشعر موضوعاً، وقصيدة وحكموا عليه، كأنّهم استعرضوا كل ما قالت العرب في هذا الباب!
ألم يقولوا إنّ أغزل بيت قالته العرب هو قول جرير:
إنّ العيون التي في طرفها حور |
|
قتلننا ثم لم يورين قتلانا! |
وعادوا فقالوا أغزل بيت قالته العرب هو قول بثينة:
لكلّ حديث بينهنّ بشاشة |
|
وكل قتيل عندهنّ شهيد! |
أجل قالوا هذا وخبطوا مثل هذا الخبط، الذي تنزّه عنه الإمام فكان قوله الذي تقدّم أول تصنيف للشعر أخذ به العصر الحديث من حيث تقسيم الشعر إلى مدارس وأغراض!
فمن هنا نعلم أنّ الإمام كان شاعراً من طراز خاص، وإن كنّا نبخس بقية الشعراء حظّهم من الإجادة والتفوّق، ولا نريد أن نحصر الشعر في النصائح والحكم، لأنّنا نرى أنّ الشعر إحساس أصيل وعواطف صادقة، وكل من عبّر عن إحساس أصيل وعواطف صادقة باسلوب فني فهو عندنا شاعر ونرى أنّ هذا القياس ينطبق على أشعار الإمام انطباقاً تامّاً!
من الأقوال الخالدة: لا يصح إلّا الصحيح!
وهذا القول يظل جديداً وخالداً.
لقد نسبوا إلى الإمام علي (علم الجفر)، وقالوا إنّه هو علم النجوم والأزباج، والأزباج فرع من فروع علم الهيئة(2).
وقالوا إنّ فيه إخباراً عن الأُمور الغيبية.
أنكر بعض الباحثين هذه النقطة وعقد الخطيب المفوّة جواد شبّر فصلاً في كتابه اللطيف (قبس من حياة أمير المؤمنين عليه السلام) عنوانه (العالم الربّاني) ذكر فيه أُموراً تشير إلى علم الإمام بالهيئة، وأنّه أوّل من دعا إلى ريادة الفضاء.
يقيناً، انّه لو صح هذا أو لم يصح فإنّه لا يزيد عظمة الإمام شيئاً ولا ينقصها.
فالناس يعدّون الرجل عظيماً إذا تفوّق في أحد المجالات، وقد رأينا تفوّق الإمام في كل مجال، وأنّه سبق عصره بمئات السنين، وأنّ الأجيال المقبلة ستكشف في شخصيته الفذّة عناصر جديدة من العظمة وفي علومه وخطبه أسراراً تحيّرهم لكنّ نسبة اطلاعه على الغيب، هذه نفاها الإمام (عليه السلام) نفسه يوم قال بعض أصحابه: لقد أُعطيت علم الغيب.
فضحك الإمام (عليه السلام) وقال للرجل: ليس بعلم غيب هو تعلّم من ذي علم، إنّما علم الغيب علم الساعة، وما عدّد الله سبحانه بقوله:
)َما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة لقمان: 34.
فالنفوس المتسامية لها وثبات تكشف أمامها أسرار لا تستطيع النفوس المتثاقلة أن تصل إليها.
وسواء أكان ضحك الإمام تواضعاً، أم كان نفياً باتاً، فإنّه لم يرد أن يفتنن أصحابه به، وينسبوا إليه اموراً يراها من حق الله وحده.
ونحن نكتفي في هذا المقام بشهادة الشيخ الرئيس ابن سينا القائل:
كان علي من العلوم في المحل الذي لا تحلّق إليه البشر!
وهذه الشهادة من صاحب تلك العقلية الجبارة كافية أن تشير لمنزلة الإمام العلمية السامية.
ومهما ينكر المنكرون على الإمام، فإنّهم لا يستطيعون أن ينكروا هذه الأُمور:
أ ـ إنّ جميع الفرق الإسلامية مدينة للإمام علي من اليوم الذي برزت فيه للوجود.
ب ـ إنّه إمام الفقه والشريعة.
ج ـ إنّه إمام البلاغة وهو الذي سنّ البلاغة لقريش.
د ـ إنّه مبتكر لعلم النحو.
هـ ـ إنّه الخطيب المفوّه الذي لا يجارى وحسبه شهادة، نهجه الخالد المخلّد.
و ـ إنّه مبتكر في أُمور كثيرة.
ز ـ إنّه سابق لعصره، وإنّه له أفكاراً في التنظيم الإجتماعي ومكافحة الفقر وحقوق الإنسان لم يتوصل العصر إلى ما هو مما يعالج المشكلة، ويعالج ما يتصل بها من الأمراض النفسية في المجتمع.
ح ـ إنّ له من الكلمات الجامعة ما يدلّ على عبقرية لا حدّ لها.
ط ـ إنّ له من الآراء الحيّة التي لا تموت حظاً غير منقوص.
ي ـ إنّه الفارس الذي لم ينهزم أمام خصم.
ك ـ إنّه الكريم الجواد الذي يجاري البحر فيضاً والريح كرما.
ل ـ إنّه الرحيم الذي يرقّ رقّة الأنبياء ويرحم رحمة أطباء الإنسانية، الذين خلقوا أُساة لضعف البشر ومسكنة بني الإنسان.
حقّاً إنّي لا أُريد أن تلصق بالإمام أساطير وخرافات، لا تزيد في قيمة الإمام، فأنا أنظر إلى عظمة الإمام من خلال ما حقّق للإنسانية من الإطمئنان، وما حقّق للمجتمع من عدالة اجتماعية، وما حقّق للعلوم من ابتكارات، وما حقّق للغة العربية من اسس التنظيم والخلود!
يقيناً إنّ كل مثقف عربي، كل كاتب عربي، كل شاعر عربي، كل خطيب عربي مدين للإمام علي، فإذا كان كل مسلم في الدنيا مدين للقرآن الكريم في تكون عقليته وتفكيره فإنّ كل مثقف عربي مدين لنهج البلاغة في تقويم قلمه.
وما أعدت قول اليازجي العظيم إلّا ازددت اقتناعاً بما أقول، قال إبراهيم اليازجي: ما اتقنت الكتابة إلّا بدرس القرآن ونهج البلاغة، وإبراهيم اليازجي إذا أردنا أن نحكم على رجل من رجال القلم بالنسبة إلى كل علوم اللغة العربية مجتمعة لا نجد في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من يتفوّق عليه، وإن كان ف ي كل علم من علومها على انفراد يوجد من ينافسه ويتفوق عليه.
إذا كان اليازجي يقول هذا، فإنّ كل مثقف عربي مدين لنهج البلاغة وللإمام علي في استقامة نهجه الكتابي، وانطلاقاً من هذه النقطة فنحن لا نعدّ كاتباً أو أديباً عربياً مثقفاً ثقافة عربية اصيلة إن لم يقرأ القرآن ونهج البلاغة قراءات عميقة متواصلة.
فالذي يريد أن يفهم المجتمع العربي والعقلية العربية لابدّ له من قراءة نهج البلاغة والذي يريد أن يفهم اسلوب الحكم في البلاد العربية يحتاج إلى نهج البلاغة.
الفقيه الذي يرغب في أن يكون نافذ الفكر، مستنير البصيرة، هو في أقصى الحاجة إلى نهج البلاغة.
رجل الوعظ المسلم الذي يريد أن يكون واسع الآفاق محتاج إلى نهج البلاغة، وإن لم يفعل، فإنّه ظلام لنفسه، قليل الإحترام لعقله قرأت شيئاً اسمه (تشريح شرح نهج البلاغة) فشعرت باشفاق على عقلية الرجل وذكرت حالاً قول ابن العميد على كتب الجاحظ:
كتب الجاحظ تعلّم العقل أوّلاً والأدب ثانياً.
ونهج البلاغة في اعتقادي يعلّم العقل أوّلاً والأدب ثانياً وأساليب كل فن من الكتابة والخطابة ثالثاً، ويطلّع منه الإنسان على أُمور لا أعتقد أنها توجد في كتاب واحد كلّها مجتمعة.
قال الشيخ محمد عبده وهو يذكر نهج البلاغة: فأجدر بالطالبين لنفائس اللغة والطامعين في التدرّج لمراقيها أن يجعلوا هذا الكتاب أهمّ محفوظهم، وأفضل مأثورهم، مع تفهّم معانيه في الأغراض التي جاءت لأجلها، وتأمّل ألفاظه في المعاني التي صيغت للدلالة عليها، ليصيبوا بذلك أفضل غاية وينتهوا إلى خير نهاية.
وبعد فأنا أنظر إلى الكتاب على اعتبار أنّه كنز ثمين لا غنى لمتأدّب عنه، وانظر إلى صاحب هذا الكتاب، فأرى أنّه طوّق جيد اللغة العربية بمنّة لا تزول حتى تزول الأرض ومن عليها.
وعندي أنّه إذا ثبت كل ما في نهج البلاغة للإمام علي، فهو معجزة أدبية وإذا أراد النافون أن ينفوه عنه وينسبوه إلى جامع الكتاب، فتكون معجزة الإمام أعظم، إذ يستطيع حبّه أن يملي على محبيه أن يأتوا بمثل هذه الدرر الغوالي!
فاثباته نهج البلاغة للإمام ونفيه عنه يثبت عظمة الإمام الخالدة، ولا ينفى الدين الذي للإمام على مثقفي العرب كافة.
أبا الحسن!
أ
يّها الإمام العظيمهذه انطباعات كانت تجول في خاطري نحوك من زمن بعيد!
حاولت أن اصوّر فيها نفسك الكبيرة شجاعتك وعلمك سخاءك وجودك.
كتبت ما أشعر به أنّه حق، واعتمدت على المراجع التي وثقت بها، ولا أقول إنّي اطّلعت على ما كُتب عنك لأنّه شيء كثير وكثير!
فإن نالت منك القبول ياأيها الإمام العظيم فحسبي ذلك.
إنّها كلمة لم يعوزها الإخلاص، ويقيناأنّ الكلمة التي تخرج من القلب لن تجد مستقرّاً لها إلّا القلب.
سيقول بعض الذين ما تعوّدوا الصدق والإخلاص المجرّدين: إنّ العزيزي متحمّس للإمام كأنّه من الشيعة، الحقّ إنّي لست شيعيّاً ولست مسلماً بل أنا عربي نصراني كاثوليكي، ومن هنا تعلّمت أن أقول ما أعتقد حقّاً، كائنة ما كانت نتائجه وأنا فوق هذا أعتقد أنّ العظيم كل عظيم ليس ملكاً لفرقة ولا هو حكرة لدين أو مذهب، فأنا كما قال البحتري:
وأراني من بعدُ أُكلف بالأشراف |
|
طرّاً من كل سنخ وأس |
***
الهوامش
1 - الشعراء: 224 ـ 227.
2 ـ وقد ألّف العرب كتباً في هذا الموضوع دعيت بهذا الإسم ويعني كتاب الجداول وأشهر من وضعوا فيه المؤلفات:
أ ـ ابن حمّاد الأندلسي.
ب ـ ابن الشاطر الدمشقي.
ج ـ أبو حنيفة الدنيوري.
د ـ أبو معشر البلخي.
هـ ـ الوع بك محمد بن شاهرفه.
و ـ محمد الطوسي.
ز ـ وقد ألّف ابن يونس المصري كتاب (الزيج الكبير الحاكمي) نزولاً عند رغبة العزيز أبو الحاكم صاحب مصر، ونشره اكوين دي برسفلي بباريس سنة 1804.