قضايا تدل على حكمته وعدله

لا نريد أن نذكر أحكامه العجيبة التي تدلّ على عبقرية فذّة، وقد ذكرناها ونحن نذكر لمحات من إنسانيته.

لكنّا نذكر قضايا خصّه الله فيها بالحكمة والعدل، وفصل الخطاب، وقد أُلفت في ذلك الكتب والرسائل:

أ ـ أتى عليّاً وهو باليمن ثلاثة يختصمون في ولد، كلّهم يزعم أنّه وقع على أُمّه في طهر واحد في الجاهلية، فأُقرع بينهم، وألزم من خرجت له القرعة ثلثي الدية لصاحبيه فبلغ ذلك النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال: (الحمد لله الذي جعل فينا أهل البيت من يقضي على سنن داود).

ب ـ رفع إليه وهو باليمن خبر زيبة حفرت للأسد، فوقع فيها فوقف على شفير الزيبة رجل فزلّت قدمه ، فتعلّق بآخر وتعلّق الآخر بثالث، وتعلّق الثالث برابع، فافترسهم الأسد.

فقضى: أنّ الأول فريسة الأسد، وعلى أهله ثلث الدية للثاني وعلى أهل الثاني ثلثا الدية للثالث، وعلى أهل الثالث الدية كاملة للرابع، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: (لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء الله عزّ وجلّ فوق عرشه).

ج ـ ورفع إليه خبر جارية حملت جارية على عاتقها عبثاً ولعباً، فقرصت أُخرى الحاملة، فقمصت لقرصتها، فوقعت الراكبة، فاندقّت عنقها، وهلكت فقضى على القارصة بثلث الدية، وعلى القارصة بثلثها، وأسقط الثلث الباقي لركوب الواقعة عبثاً القامصة، وبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمضاه وشهد له بالصواب.

د ـ وأبطل الإمام علي (عليه السلام) دم رجل نفحته فرس لرجل من اليمن فقتلته، لمّا أقم صاحب الفرس البيّنة، أنّ الفرس انفلت من داره قهراً، ولم يفلته صاحبه.

هـ ـ واختصم رجلان للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في بقرة قتلت حماراً، فسأل عنها أبو بكر وعمر، فقالا: بهيمة قتلت بهيمة، لا شيء على ربّها، وقال علي بن أبي طالب: (إن كانت البقرة دخلت على الحمار في منامه فعلى ربّها قيمة الحمار لصاحبه، وإن كان الحمار دخل على البقرة في منامها فقتلته فلا غرم على صاحبها).

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (لقد قضى بينكما علي، بقضاء الله، ثم قال: الحمد لله الذي جعل فينا أهل البيت من يقضي على سنن داود في القضاء وفي رواية: الحمد لله الذي جعل منّا من يقضي بقضاء النبيين.

ومن الأُمور التي تتفرّع عن القضاء، وتدلّ على العبقرية والبداهة:

أ ـ المسألة المنبرية، فقد سُئل الإمام وهو على المنبر، عن بنتين وأبوين وزوجة فقال بغير روية: (ثمنها صار تسعاً!).

وهذه المسألة لو صحت لكانت مبنية على العول، هو إدخال النقص عند ضيق المال، عن السام المفروضة على جميع الورثة بنسبة سهامهم فهنا للزوجة الثمن، وللأبوين الثلث، وللبنتين الثلثان، فضاق المال عن السهام، لأنّ الثلث والثلثين تمّ بهما المال، فمن أين يؤخذ الثمن؟

فمن نفى العول قال ان النقص يدخل على البنتين، والفريضة من أربعة وعشرين للزوجة ثمنها ثلاثة، وللأبوين ثلثها ثمانية، والباقي ثلاثة عشر للبنتين، نقص من سهمهما ثلاثة).

ومن أثبت العول، قال: (يدخل النقص على الجميع، فيزاد على الأربعة والعشرين ثلاثة تصير سبعة وعشرين، للزوجة منها ثلاثة، وللأبوين ثمانية، وللبنتين ستة عشر، والثلاثة هي تُسع السبعة والعشرين، فهذا معنى قوله صار ثمنها تسعاً!

قال ابن أبي الحديد: (هذه المسألة لو فكّر الفرضي فيها طويلاً لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة واقتضبه ارتجالاً.

ب ـ المسألة الدينارية: وهي أنّ امرأة جاءت إليه وقد خرج من داره ليركب، فترك رجله في الركاب، فقالت: (يا أميرالمؤمنين، إنّ أخي قد مات وخلّف ستمائة دينار، وقد دفعوا لي منها ديناراً واحداً، وأسألك إنصافي، وإيصال حقّي إليَّ) فقال لها: (خلّف أخوك بنتين ولهما الثلثان أربعمائة، وخلّف أُمّاً لها السدس مائة، وخلّف زوجة لها الثمن خمسة وسبعون وخلّف معك اثني عشر أخاً لكلّ أخ ديناران، ولك دينار). قالت نعم، فلذلك سمّيت هذه المسألة بالدينارية.

وهذه المسألة لو صحّت لكانت مبنية على التعصيب، كما أنّ السابقة مبنية على العول، والتعصيب هو أخذ العصبة ما زاد من السهام المفروضة في الكتاب العزيز، والثابت عن أئمّة أهل البيت، بطلان التعصيب، بل يرد الزائد على ذوي السهام بنسبة سهامهم، ويجوز أن يكون (عليه السلام) قال للمرأة أنّ لها ذلك على المذهب الذي كان معروفاً في ذلك العصر، وإن كان لا يقول به!...

ج ـ رفعت إلى أميرالمؤمنين قضية خلاصتها، أنّ رجلين جلسا يتغدّيان مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة أرغفة، فلمّا وضعا الغداء بين أيديهما، مرّ بهما رجل فسلّم، فقالا اجلس للغداء، فجلس وأكل معهما، واستوفوا في أكلهم الأرغفة الثمانية، فقام الرجل وطرح إليهما ثمانية دراهم، وقال خذا هذا عوضاً عمّا أكلت لكما، ونلته من طعامكما، فتنازعا وقال صاحب خمسة الأرغفة، لي خمسة دراهم ولك ثلاثة، فقال صاحب ثلاثة الأرغفة، لا أرضى إلّا أن تكون الدراهم بيننا نصفين، وترافعا إلى أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، فقصّا عليه قصّتهما فقال لصاحب الأرغفة الثلاثة: (قد عرض عليك صاحبك ما عرض، وخبزه أكثر من خبزك، فأرض بالثلاثة)، فقال: لا والله لا رضيت منه إلّا بمرّ الحقّ، فقال علي: (ليس لك في مرّ الحقّ إلّا درهم واحد، وله سبعة) فقال الرجل: (سبحان الله يا أميرالمؤمنين! هو يعرض عليَّ ثلاثة فلم أرض، وأشرت بأخذها فلم أرض، وتقول لي الآن أنّه لا يجب لي في مرّ الحقّ إلّا درهم واحد).

فقال له علي: (عرض عليك صاحبك أن تأخذ الثلاثة صلحا، فقلت: لم أرض إلّا بمرّ الحقّ، ولا يجب لك بمرّ الحقّ إلّا واحد،فقال الرجل: فعرفني بالوجه في مرّ الحقّ حتى أقبله، فقال علي: أليس للثمانية أرغفة أربعة وعشرون ثلثاً؟ أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس، ولا يعلم الأكثر منكم أكلاً، ولا الأقل فتحملون في أكلكم على السواء!).

قال: بلى

قال: (فأكلت أنت ثمانية أثلاث، وإنّما لك تسعة أثلاث، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث وله خمسة عشر ثلثا أكل منها ثمانية ويبقى له سبعة وأكل لك واحداً من تسعة فلك واحد بواحدك، وله سبعة بسبعه).

فقال الرجل: رضيت الآن.

وقد روى هذه القصة غير واحد إلّا أنّ أحد الرواة قال : إنّ أميرالمؤمنين قال لهما: (إنّ هذا الأمر فيه دناءة، والخصومة غير جميلة فيه، والصلح أحسن! فقال صاحب الثلاثة لست أرضى إلّا بمرّ الحقّ!

فهذه القضايا تدل بداهة على ما وهب الله للإمام من صفاء العقل، وذكاء الرأي، وصفاء الحكمة، وخلوص النية، ونقاء الضمير، بحيث لا تلتاث عليه قضية، ممّا جعل عمر بن الخطاب يقول: (لولا علي لهلك عمر!).

وحبّ الإمام للعدل، وتقديسه إيّاه، جعله يقف أمام قاضي الحكومة مدّعياً بدرع له على خصم يهودي، ولمّا لم تتوافر له الأدلة خسر الدعوى فلم يتبرّم، ولم يتذمّر، ولولا إقرار اليهودي بصحة أدعاء الإمام، ما تراجع القاضي عن حكمه.

ولتقديسه العدالة، باشر تنفيذ الحدّ بنفسه على والي الكوفة ـ الوليد بن عقبة بن أبي معيطـ ـ يوم ثبت أنّه يتعاطة الخمر!

 

 

سداد الرأي وصدق الفراسة عند الإمام علي

 

إنّ عبقرية الرجل تظهر في سداد رأيه وحسن تدبيرة، وصدق فراسته وقد كان الإمام على الذروة من هذه الأُمور.

ولعلّ من خير ما يشير إلى سداد رأيه وحسن تدبيرة أنّه هو الذي أشار على عمر بن الخطّاب بالخطّة المحكمة يوم انتهى إلى المسلمين بالكوفة أنّ جموعاً كثيرة تحتشد في فارس لغزوهم، فأنهوا الخبر إلى عمر، فاضطرب لذلك وفزع فزعاً شديداً فاستشار المسلمين فيما يصنع:

أ ـ فأشار عليه طلحة بالمسير بنفسه.

ب ـ وقال عثمان: (أرى أن تشخص أهل الشام من شامهم، وأهل اليمن يمنهم، وتسير أنت في أهل هذين الحرمين، وأهل المصرين الكوفة والبصرة فتلتقي جميع المشركين بجميع المؤمنين).

فقال علي: (إنّك إن أشخصت أهل الشام من شامهم، سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل هذين الحرمين انتقضت عليك العرب من أطرافها، فأمّا ذكرك كثرة العجم، ورهبتك من جموعهم فإنّا لم نكن نقاتل على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالكثرة وإنّما كنّا نقاتل بالبصيرة، وإنّ الأعاجم إذا نظروا إليك قالوا: هذا رجل العرب فإن قطعتموه فقد قطعتم العرب، وكان أشد لكلبهم، ولكنّي أرى أن تقرّ هؤلاء في أمصارهم، وتكتب إلى أهل البصرة، فليتفرقوا على ثلاث فرق:

1ـ فلتقم فرقة منهم على ذراريهم.

2 ـ ولتقم فرقة منهم على أهل عهدهم لئلا ينتقضوا.

3 ـ ولتسر فرقة منهم إلى إخوانهم مدداً لهم).

فقال عمر: أجل هذا الرأي، وقد كنت أحبّ أن أُتابع عليه.

وجعل يكرر قول علي وينسّقه إعجاباً به واختياراً له.

وهناك دليل آخر على سداد رأيه وبعد غوره، وهو نقل عاصمة الخلافة من الجزيرة إلى العراب، إنّ هذا العمل يدل على عبقرية البطل المجدّد الذي لا يرهب التجديد ولا يخاف الإنبعاث في حياة الأُمة، وقد كان صنيعه تجديداً كليّاً يكاد يكون ثورة على جفاف الجزيرة العربية وشحّها المخيف وفقرها المرهب، وخرابها البائس، إلى رفاهية العراق وعظمة موارده، وسعة ثروته وحلال عمارته.

كان صنيع الإمام علي يدلّ على عبقرية فذّة، فهو يسبق الزمن ولا يجعل الزمن يسوقه إلى التطور الحتمي.

أفاد من ذلك أن جعل للعراق شخصية متميزة، وجعل للإسلام سلطة رهيبة لأنّه أقامه في مركز إنبراطورية عظيمة كان أهلها ينظرون إلى العرب على أنّهم عنصر دليل متخلّف عن ركب الحضارة، نازل عن مرتبة الإنسانية فلو لم يكن للإمام علي من مزيّة غير هذه المزيّة لحقّ للإسلام أن يقدّسوه ما تعاقب الجديدان، وحقّ لأهل العراق خاصة أن ينحنوا إجلالاً لهذا الألمعي الأيهم! الذي أبرز بلادهم عاصمة لدولة سحقت أعظم انبراطوريتين عرفهما ذلك الزمن.

فمن سداد رأي الإمام علي ومن عظمة شخصيته اكتسب العراق تلك الشخصية المتميّزة وانصهرت عناصره المتباينة الأجناس والمعتقدات والمشارب في إطار من العظمة، بينما كان الإستيلاء على غير العراق واتخاذه عاصمة لغير الإمام تدميراً لشخصيته الأصلية ووأداً لمميزاته الخاصّة!

ومن سداد رأيه أنّه كان يرى أنّ عمارة الأرض والمملكة متقدّمة على جميع الخراج لذلك رأيناه يطلب التخفيف عن المتضرّرين، ولعلّ أبلغ دليل على ذلك هو عهده للأشتر الذي تقدّمت الإشارة إليه.

أمّا سداد رأيه في أُمور الحرب، فيدلّ على أنّه خلق ليكون قائداً من أعظم القادة، فلنر رأيه في ساحة الحرب: (فقدّموا الدارع، وأخّروا الحاسر، وعضّوا على الأضراس، فإنّه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنّه أمور للأسنّة، وغضّوا الأبصار، فإنّه أربط للجأش، وأسكن للقلوب وأميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ولا تجعلوها إلّا في أيدي شجعانكم).

وممّا يدلّ على سداد رأيه في سياسة الحرب ما نقتطفه من وصية وصى بها جيشاً بعثه إلى العدو: (فإذا نزلتم بعدو، أو نزل بكم، فليكن معسكركم في قبيل الاشراف، وسفاح الجبال، أو أثناء النهار، كيما يكون لكم ردء، ودونكم مردّاً، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد، أو اثنين واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال، ومناكب الهضاب، لئلاّ يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن، واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم، وإيّاكم والتفرّق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة، ولا تذوقوا النوم إلّا غراراً أو مضمضة!

أجل لقد كان في سداد رأيه طرازاً خاصاً، وكان مجدّداً إلى أبعد حدود التجديد، ولبطولته لم يكن يرهب الجهر برأيه، فلم يكن يداجي ولا يجابي فقد واجه الجماهير بقوله: (إنّي والله لعالم بما يصلحكم ويقوّم أودكم، ولكنّي لا أرى إصلاحكم بافساد نفسي) ومن كلامه: (إنّ في العدل لسعَة ، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق!).

ومن سداد رأيه أنّه هو الذي أشار على عمر باتخاذ الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي، وهو الذي أشار عليه بترك حلي الكعبة، لمّا أراد أخذه، وتجهيز جيوش المسلمين به اعتقاداً بأنّ ذلك أعظم أجراً من تركه على الكعبة فوضّح له أنّ النصوص الواردة في القرآن تقسّم الأموال إلى أربعة أقسام:

أ ـ قسم بين الورثة في الفرائض.

ب ـ قسم الفيء ويقسمه على مستحقيه.

ج ـ وقد وضعه الله حيث وضعه.

د ـ والصدقات ومنها حلي الكعبة.

فلمّا سمع عمر قول الإمام علي قال: (لولاك لافتضحنا!) وترك الحلي بحاله.

أمّا فراسته، فقد دلّته على أُمور كثيرة، كانت تقع كما يتصورها، من ذلك فراسته في طلحة والزبير بعد أن بايعاه. وفراسته في قريش عامة فإنّه علم بفراسته وسداد رأيه أنّ قريش لن تنصره، ولن تتّفق كلمتها عليه، ودلّته فراسته على فشل التحكيم، ولكنّ أصحابه أرغموه على قبوله وقبول الحكم نفسه.

 

عصر الإمام

نستطيع أن نقسم عصر الإمام إلى أربع فترات:

أ ـ فترة الجاهلية ـ في نشأته.

ب ـ فترة طفولة الإسلام ـ في شبابه.

ج ـ فترة الخلفاء الثلاثة: أبي بكر، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان.

د ـ وفترة خلافته.

والجاهلية، كما يصوّرها الإمام مخاطباً العرب:

(إنّهم كانوا في شرّ دار، منيخون بين حجارة خشن، وحيات صمّ، يشربون الماء الكدر، ويأكلون الجشب، ويسفكون دمائهم، ويقطعون أرحامهم، الأصنام فيهم منصوبة، والآثام بهم معصوبة).

وقال في كلام آخر: (والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين، وتزعزت سواري اليقين، واختلف النجر وتشتّت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر فالهدى خامل، والعمى شامل، عصي الرحمن، ونصر الشيطان، وخذل الإيمان فانهارت دعائمه، وتنكّرت معالمه، ودرست سبله، وعفت شوكته أطاعوا الشيطان فملكوا مسالكه، ووردوا مناهله، في فتن داستهم بأخفائها ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون في شر دار، وشر جيران، نوهم سهود، وكحلهم دموع بأرض عالمها ملجم، وجاهلا مكرّم!).

فهذا التصوير البارع لوضع بائس اقتصادياً، واجتماعياً، وروحياً وسياسياً، لم يستطع أن يؤثّر في تلك الشخصية الفذّة، بل على النقيض من ذلك أكسب الإمام حصانة ضد تلك الموبقات التي عرفت بها الجاهلية، وتسامى فوق محيطه، ولم يؤد الضريبة للعصر الذي صوّره لنا بهذه العبارات تصويراً بارعاً تعجز عنه ريشة الرسّام الماهر!

أمّا فترة طفولة الإسلام، فقد شهد فيها صراع الدين الجديد لعالم من الأصنام كان الإمام أسداً في الصراع، وقدّيساً في العبادة، حتى كأنّه خلق للعبادة فاسمع منه ذلك البيان الذي يقطر بلاغة: (ألا وإنّ الخطايا خيل شمس، حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها فتقحّمت بهم النار، ألا وإنّ التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنّة).

أمّا دفاعه عن الإسلام فقد مرّ بنا ما صنع في نصرة الإسلام في المواقع كلّها، فزرع له دفاعه عن الإسلام وقتاله في سبيل زرعه في النفوس بذراً له في القلوب ذحولاً وتراث لهم لم تزدها الأيّام إلّا اتّقاداً في القلوب والتهاباً في الضمائر، أجل ناصر الإسلام والنبيّ حتى وهو طفل حتى لقب بالقضيم.

ولقد قال له النبي: تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله.

روى النسائي في الخصائص بسنده عن أبي سعيد الخدري: (كنّا جلوساً ننتظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج إلينا وقد انقطع شسع نعله، فرمى به إلى علي فقال: (إنّ منكم رجلاً يقاتل الناس على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) قال أبو بكر؟ أنا؟ قال: لا!، قال عمر: أنا؟ قال: لا!، ولكن خاصف النعل).

أمّا الفترة التي عاصر بها الخلفاء الثلاثة فكانت فترة ظهرت فيها غيريّة الإمام وتساميه فوق ذاته البشرية لمصلحة الإسلام!

أجل فأيّ مجاهدة للنفس تعرّض لها الإمام وهو يعتقد أنّ الخلافة حقّ من حقوقه للأسباب التالية:

1 ـ انّه أحبّ الناس إلى الرسول، وحسبك برجل يأتمنه النبي على أعزّ شيء عنده أعني أحبّ بناته إليه (فاطمة الزهراء).

2 ـ قول النبي: (من كنت مولاه فعليّ مولاه!) وقوله: (علي منّي وأنا منه).

3 ـ حديث جمع النبي عشيرته إذ قال: (إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا).

4 ـ النص على إمامته يوم الغدير حين رجع من حجّة الوداع ومعه ما يزيد على مائة ألف فخطبهم وقال في خطبته، وقد رفعه للناس، وأخذ بضبعيه فرفعهما حتى بان للناس إبطاهما، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!

قالوا: بلى!

قال: من كنت مولاه، فعليّ مولاه! اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، وأعن من أعانه، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار!).

ثم أفرده بخيمته وأمر الناس بمبايعته بإمرة المؤمنين حتى النساء ومنهم نساؤه!

5 ـ نصره النبي في صغره.

6 ـ فداؤه النبي بنفسه في صغره.

7 ـ نضاله في سبيل الإسلام.

كل هذه الأُمور كانت تؤكد له أنّ المسلمين لن يتجاهلوا حقّه في الخلافة.

لكنه لمّا رأى أنّ إصراره على المطالبة بحقّه يضعضع أركان الإسلام الفتي (فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقّي، مستأثراً عليَّ منذ قبض الله نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يوم الناس هذا).

ففي هذا الموقف الذي ليس في الحياة ما هو أدقّ منه وأخطر، يتسامى الإمام فوق ذاته البشرية، وأبو سفيان يعرض عليه مناصرته له لتنحية أبي بكر عن الخلافة قائلاً: (فوالله لئن شئت لأملؤها خيلاً ورجلاً).

فردّ عليه الإمام: (إنّك والله ما أردت بهذا إلّا الفتنة، وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شرّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك).

ثم يقول الإمام: (حتى كنت أنا الذي أبيت، لقرب عهد الناس بالكفر، مخافة الفرقة بين المسلمين!).

أجل رجل يقول هذا بعد أن يسمع من فاطمة الزهراء بعد أن رفضت مطالبتها بـ (فدك) إنّه في ذروة النزاهة النفسية.

لقد عادت الزهراء (عليها السلام) من عند الخليفة كسيرة الخاطر فلمّا استقرّت بها الدار قالت: (يا ابن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة الأجدل، فخانك ريش الأعزل، هذا ابن أبي قحافة ابتزني نحيلة أبي، وبلغه ابنيّ، لقد أجهد في خصامي وألفيته الألد في كلامي، حتى حبستني قبلة نصرها، والمهاجرة وصلها، وغضت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع، ولا مانع، ولا ناصر، ولا شافع، خرجت كاظمة وعدت راغمة، أضرعت خدك يوم أضعت جدك، افترست الذئاب وافترشت التراب، ما كففت قائلاً ولا أغنيت طائلاً ولا خيار لي، ليتني مت قبل منيتي، ودون ذلتي، عذيري الله منك عادياً، وفيك حامياً، وبلاي في كل شارق، وبلاي في كل غارب مات العمد، ووهت العضد، شكواي إلى أبي، وعدواي إلى ربّي، اللّهمّ إنّك أشدّ قوة وحولا، وأحدّ بأساً وتنكيلاً!).

موقفان لا يستطيع أن ينتصر الإنسان على نفسه فيهما إلّا إذا كان من طراز الإمام علي كرّم الله وجهه! القائل: (وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً، ما لم يكن شاكّاً في دينه!).

أجل هذا هو الرجل العظيم الذي كذّبه قوم، وألّهه آخرون، وأحبه قوم لما عرفوا من مزاياه الغرّ.

وعلى كل هذا فقد كان أبو الحسن مخلصاً، فما انحرف عن النصح، ولا حاد عن مناصرة الحق، ولا مال عن نصح الخلفاء بسيرية نقيّة، وطويّة لا تعرف الغشّ، ونحن نعتقد أنّه لو لم يفسد المفسدون مفعول نصائحه ويعطلوا إرشاداته لعثمان بن عفان لمّا وقعت الكارثة التي ظلت دعائم الإسلام ترتجف من هولها، لأنّها أوّل جرأة سافرة على مقام الخلافة، بصرف النظر عن اغتيال عمر بن الخطّاب!

ويقول المؤرخون الثقات إنّ أقارب عثمان تخلوا عنه وقت الشدّة، وهربوا إلى الشام، لكن عليّاً وأولاده ومواليه دافعوا عنه دفاعاً مشهوداً، بحيث لم يستطع المتآمرون أن يتغلّبوا عليهم إلّا بعد جهد عظيم.

أمّا خلافته فقد كان المتوقّع كما يقول سيديو SEDILLOT المؤرّخ الفرنسي المشهور: (إنّ الكلّ سيطأطىء هامته أمام هذه العظمة المتلألئة النقية غير أنّه قدّر غير ذلك).

وسرّ ذلك كما نرى أنّ الشخصية العربية كانت قد تمزّقت بين أخلاق الجاهلية التي صوّرها الإمام، وبين مطالب الإسلام، بين الأحقاد القبلية التي كان الإسلام قد وأدها شيئاً من الوأد ولم يجهز عليها، لأنّه ليس من المعقول طبيعياً، أن تنقل أُمّة من حال إلى حال في مثل هذه الفترة الزمنية الوجيزة، مع انعدام الوسائل التي لدينا في هذا العصر! فهذه الأُسر التي رأت في الإسلام ذلاً لها لم تنس أحقادها، وتلك الأُسر التي وترها الإمام في سبيل نشر الدعوة، ما زالت تحنّ إلى اليوم المواتي والفرصة السانحة لتأخذ بثأرها.

عقلية الإمام الدينية التي لا تراوغ ولا تداهن، وضميره القضائي الذي لا يجابي حتى أعز الناس، وأقرب المقرّبين: البنت، والإبن، والأخ الشقيق!

هذه كلّها أمست غريبة على الطبيعة العربية التي قفزت عن الحكومة الدينية المثالية إلى حكومة شبه دنيوية تقتني الضياع والخيل، وتهب القطائع للمقرّبين، الأمر الذي أثار ضمير أبي ذرّ الغفاري فجاهر بمهاجمة الوضع الجديد الذي رأى فيه انحرافاً عن نقاء الإسلام.

وضاق أتباع الخليفة بأبي ذرّ ذرعاً، ولعلّهم هم الذين أشاروا على عثمان بنفيه وقد فعل، ولمّا نفي أبو ذرّ إلى الربذة، أمر عثمان أن لا يشيّعه أحد من الناس، فبلغ علي بن أبي طالب (عليه السلام) فبكى وقال أهكذا يصنع بصاحب رسول الله؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون! ثم نهض ومعه الحسن والحسين وعبدالله والفضل وقثم وعبيد الله وبنو العباس، حتى لحقوا أبا ذر فتبعوه، فلمّا بصر بهم حنّ إليهم وبكى، وقال: (بأبي وجوها إذا رأيتها ذكرت بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشملتني البركة برؤيتها) ثم رفع يديه إلى السماء وقال: (اللّهمّ إنّي احبّهم ولو قطّعت إرباً إربا! في محبتهم ما زلت عنها ابتغاء وجهك، والدار الآخرة، فارجعوا رحمكم الله، والله أسأل أن يخلفني فيكم أحسن الخلافة، فودّعه القوم، ورجعوا وهم يبكون على فراقه.

وحكى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن رواية الواقدي، أنّ أبا ذرّ، دخل على عثمان بعد رجوعه من الشام، قال له عثمان في جملة كلام دار بينهما، أنت الذي تزعم أنّا نقول: (يد الله مغلولة، وإنّ الله فقير، ونحن أغنياء!).

فقال: (لو كنتم لا تقولون هذا، لأنفقتم مال الله على عباده!).

فغضب عليه عثمان، وقال: (أشيروا عليَّ في هذا الشيخ الكذّاب) فتكلّم علي وكان حاضراً، فقال: (اشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (1) .

قال: (فأجابه عثمان بجواب غليظ، وأجابه علي بمثله، ولم نذكر الجوابين تذمماً منهما!).

لا نريد أن نطيل الوقفة عند هذه النقطة، غير أنّنا نرى من واجبنا أن نصوّر البركان الذي كان يتوقّع أقل هزّة لينفجر في خلافة الإمام!

وهذه الطاقة من الغزو والنهب في الجاهلية التي وجّهها الإسلام إلى العزّة والمجد والفتح، عادت إلى التدمير الداخلي أيّام الفتنة الكبرى، وظلّ مدّها، ترتفع أثباجه إلى أن وجد البركان له متنفّساً:

أ ـ فالأمويّون الذين يذكرون ساداتهم الذين صرعهم الإمام مدافعاً عن الإسلام، وهم يدافعون عن الأصنام، ويذكرون أنّ خلافة الإمام ستجرّدهم من أكثر الأوهام!

ب ـ الخوارج الذين ما زالوا يذكرون قتلاهم في النهروان.

ج ـ وفئات المنافسين الشخصيين الذين قصروا عن شأو الإمام يؤرثون الأحقاد ويلهبون الضغائن.

د ـ أصحاب القطائع والمطامع الذين كانوا يرون زهد الإمام وتجرّده وغيريّته تهديداً صامتاً ناطقاً سوف يردّهم إلى الحقّ صاغرين!

أُمور كلّها جعلت الإستقرار مستحيلاً، وكانت تنذر بالخاتمة الفاجعة التي انتهت بها حياة الإمام، وكانت أشنع ضربة حلّت بالإسلام، لأنّها أقصت عن الحكم وجهاً من أنبل الوجوه، وقلباً من أنقى القلوب، وضميراً من أطهر الضمائر التي عرفها الإسلام يوم وجوده إلى اليوم، وإلى أن تبدّل الأرض غير الأرض وتتساقط الكواكب والنجوم.

 

الهوامش

1 ـ غافر: 28.