وقعت الفاجعة التي لم يعرف تاريخ الإسلام قبل وقوعها شبيهاً لها!
ولو أطاع عثمان زوجه السيدة نائلة، وقرّب الإمام عليّاً (عليه السلام) ووثق به، وأقصى ولاته الذين هم أصل الشكوى، وأبعد مروان بن الحكم طريد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكان هناك أمل في تلافي الفتنة، لكنّه القدر:
إذا أراد الله أمراً بامرىءٍ أصمّ أُذنيه، وأعمى قلبه، حتى إذا أنفذ فيه أمره فلا تقل فيما جرى كيف جرى؟ |
|
وكان ذا عقل وسمع وبصر وسلّ منه عقله سلّ الشعر ردّ إليه عقله ليعتبر فكلّ شيء بقضاء، وقدر! |
أجل هو القدر الذي جرّ على الأُمة إعصاراً من الفتنة، ظلّ يهزّ كيانها ويزلزل أركانها فلا تستقر على حال، كان ذلك كلّه إيذاناً بأنّ الصراع بين الدين والدنيا قد بدأ...
وجاء الثوار وكلّهم يقول: لا يصلح لها ـ الخلافة ـ إلّا علي!، وكان يوم الجمعة فصعد الإمام علي المنبر، وكان أوّل من بايعه، صاحب اليد الشلّاء، كأنّما هو إنذار بالبلاء، فلا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم!... طلحة أوّل المبايعين، وهو أوّل الناكثين!
غدر! لقد كان طلحة طامعاً في الخلافة، وكان الزبير طمّاحاً إليها.
الزبير زوج أُخت عائشة أُمّ المؤمنين إنّه زوج أسماء وفي استطاعته أن يستغلّ هذه القرابة يناهض بها الإمام عليّاً الحجة الطاهرة هي المطالبة بدم عثمان!
أ ـ وطلحة كان مدخول الضمير من نحو عثمان قبل أن يقتله الثائرون وقد صرّح عثمان بذلك قائلاً: ويلي من طلحة أعطيته كذا وكذا ذهباً، وهو يروم دمي... اللّهمّ لا تمتّعه به، ولقّه عواقب بغيه! حتى قيل إنّه كان يقود بعض الثائرين إلى الدور المجاورة لدار الخليفة ليتسرّبوا منها إلى دار عثمان!
ب ـ معاوية يطالب بثأر عثمان ويدّعي أنّ الإمام عليّاً مقصّر في المطالبة بدم عثمان، ولمّا تولّى هو أغفل ذكر عثمان البتّة فيكتب الإمام علي لمعاوية واعظاً بعد وقعة الجمل:
سلام عليك! ... أمّا بعد
فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنّه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً، كان ذلك لله رضىً، وإن خرج عن أمرهم ردوه إلى ما خرج عنه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولّاه الله ما تولّى، وأصلاه جهنّم وساءت مصيراً.
وإنّ طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتهما، وكان نقضهما كردّهما، فجاهدتهما بعد ما أعذرت إليهما، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإنّ أحبّ الأُمور إليَّ قبولك العافية، وقد أكثرت في قتلة عثمان، فإن رجعت عن رأيك وخلافك ودخلت فيما دخل فيه المسلمون... ثم حاكمت القوم إنّي حملتك وإياهم على كتاب الله، أمّا تلك التي تريدها ـ أي الخلافة ـ فهي خدعة الصبي عن اللبن، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنني أبرأ قريش من دم عثمان، واعلم أنّك من الطلقاء ـ الذين اطلقوا يوم فتح مكة ـ الذين لا تحلّ لهم الخلافة، ولا يدخلون في الشورى، وقد بعثت إليك وإلى من قبلك (جرير بن عبدالله)، وهو من أهل الإيمان والهجرة فبايعه، ولا قوّة إلّا بالله.
فأجابه معاوية بالكتاب التالي:
سلام عليك ... أمّا بعد:
فلعمري لو بايعك الذين ذكرت وأنت بريء من دم عثمان، لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنّك أغريت بدم عثمان، وخذلت الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلّا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان!
فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، وإنّما كان الحجازيون هم الحكّام على الناس والحقّ فيهم، فلمّا فارقوه كان الحكام على الناس أهل الشام، ولعمري ما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على طلحة والزبير، إن كان بايعاك، فلم أُبايعك أنا، فأما فضلك على الإسلام، وقرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلست أدفعه.
فمن القراءة بين السطور ـ كما يقولون ـ ومن مناقشة ما وراء هذه الأقوال نرى أنّ معاوية مصمّم على نيل الخلافة عازم على القضاء على كل فكرة تحاول تركيز السلطة في الحجاز، وهو بالتالي يريد أن يثبّت الخلافة في بني أُمية، فكأنّه يترجم قول (مروان بن الحكم) وهو يكلّم الناس والخليفة محاصر:
ما شأنكم اجتمعتم كأنّكم جئتم لنهب، شاهت الوجوه... جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا... إرجعوا إلى منازلكم، فإنّا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدنا!
لقد كانت فكرة معاوية فكرة كل أموي، لم تعد المسألة عندهم مسألة خلافة، ولا شورى، إنّها قضية ملك، ويجب أن يظلّ خالداً في بني أُمية.
وكأنّ الرجل أخذت تراوده فكرة أبيه، إنّه لا جنّة ولا نار، إنّما هي دنيا وملك ليسلك إليه الرجل كل سبيل!
وهكذا بدأت الفتنة العمياء، في أُمور أخذها الناس على الخليفة أهمها:
أ ـ مخالفته بعض السنن التي اتبعها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأذان والصلاة.
ب ـ إدناؤه بعض الذين أقصاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المدينة من أقربائه.
ج ـ بذله العطاء لهؤلاء المقصين بسخاء.
د ـ تعيينه أبناء أُسرته في الولايات والمناصب.
هـ ـ منحه سفيان بن حرب مائتي ألف درهم من بيت المال.
و ـ منحه الحارث بن الحكم زوج بنته عائشة مائة ألف درهم من بيت المال.
ز ـ احتجازه الأموال والضياع.
ح ـ ضربه بعض الصحابة ضرب إيجاع وإهانة، على مرأى من الناس ومسمع!
ومهرت الفتنة باغتياله في داره وهو يقرأ القرآن، وجاء معاوية ينفخ في بوق الفتنة وهو يريدها مشبوبة الأوار، إلى أن يهدي الله فيبدّل القلوب غير القلوب والعقول غير العقول والضمائر غير الضمائر!
وكان على الإمام علي(عليه السلام) أن يعالج قلوباً مرضت، ونفوساً خبثت، وضمائر ماتت! وكفنت بأكفان الطمع، ودفنت في مقابر الحقد!
حكم قوامه العدل، وأساسه الإنسانية، والشجاعة الأدبية!
حكم يشير إليه قول الإمام كرم الله وجهه: أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم، فإنّهم خزان الرعية... ولا تحبسوا أحداً عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبه، ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابّة يعتملون عليها، ولا عبداً ولا تضربنّ أحداً سوطاً لمكان درهم!
أجل هذا هو المدخل إلى حكومة الإمام علي، فهل قالت العصور على كل ما تقدمت وتطورت ما هو أسمى من هذا؟!
إنصاف للناس، صبر على حوائجهم، وكل نظام هو لخدمة الرعية، إذن فليست الرعية وسيلة للحكم والسيطرة، بل الحكم والحكّام والولاة خدّام للرعية!
أرأيت أجمل، وأعظم وأنبل من هذه المبادىء؟!
وبعد هذا تصور ما شئت من عدل ورحمة وإنسانية فإنّك لواجد ذلك كله في حكومة الإمام علي.
أقاربه ليسوا مهملين من الرقابة، فليس لهم أن يستأثروا بشيء من أموال الرعية، وليس لهم أن يتعالوا على الناس، فأقرب الناس إليه كأبعدهم عنه:
أ ـ البنت.
ب ـ الإبن.
ج ـ والأخ!
ليس لأحدهم أن يستأثر بشيء لا حقّ له فيه، والناس كلّهم سواسية كأسنان المشط!
لعلّ من حسن حظّ الرعية في عهد الإمام علي، أنّ همّه كان منصرفاً إلى تنظيم البلاد وما يتفق مع مبادىء العدل، فلم يكن هناك تفكير في الدفاع الخارجي، ولا كان هنالك خوف من هجمات خارجية، إنّها الخلافات الداخلية، والإمام علي يريد أن يعالج ذلك كلّه بدستور الإسلام، لكنّ النفوس كان قد أصابها من مرض الطمع في المال، والحرص على جمعه.
كان قد أصابها الشره إلى الحكم والسيادة، وأخذ الوازع الديني والضمير الإجتماعي يخفت صوتهما في النفوس، وكان لابدّ للإمام علي بما عرف عنه من استقامة لا تعرف الإلتواء وصراحة لا تعرف المراوغة أن يواجه التحدي بما يعتقد أنّه الحق، وليس بهمه بعد ذلك أن يكون دمه الزكي ثمناً لهذا الحق!
أجل كانت خلافة الإمام وحكومة الإمام صراعاً بين أُسس العقيدة الدينية، والتطور الإجتماعي المادي!
فوقف الإمام سدّاً في وجه التيار الجارف الذي يريد أن يقسم الناس إلى طبقات، وقف يحاسب شريحاً قاضيه، على بنائه داراً بثمانين ديناراً وقد كان عطاؤه أو رزقه أو راتبه خمسمائة درهم!
وليس غريباً على هذا الحاكم الإنساني أن يكون العدل والرحمة والمساواة مجتمعة هي الدعائم التي يقوم عليها حكمه، وتبنى عليها حكومته.
لقد لام بعض الناس الإمام عليّاً في إحراقه الغلاة، ورأوا في ذلك ما يخالف المبدأ الذي وضعه للحكم، والأساس الذي سنّه لمعاملة الرعية من الرحمة، والرأفة والتسامح والصفح!
لكنّ الإمام الذي كان ينسى نفسه تسامحاً، لم يكن ليتسامح في معاملة قوم جدفوا على الله، ونسبوا إلى الإمام صفات الإلهية، وأبوا أن يتراجعوا عن ضلالتهم، ورفضوا أن يتوبوا ، وقد استتابهم مرات!
فلم يرد لبدعتهم المبتكرة تلك إلّا قصاصاً مبتكراً، وهو اجتهاد يجب أن يُقبل من الإمام علي، فكلّ جريمة لها عقوبة نصّ عليها الكتاب الحكيم ولو كانت جريتمهم تنطبق على حكم من أحكام القرآن لما خالف الإمام ذلك!
فليست جريمتهم ردّة، وليست شركاً، وليست كفراً بالتحديد الفقهي للكفر، إنّها تجديف على ذات الله، وقد اتّخذ الإمام وسيلة له، فلم ير الإمام لهذه البدعة الداشنة إلّا قصاصاً داشناً.
ألم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتل جماعة رجال ونساء ولو كانوا تحت أستار الكعبة لخبثهم وسوء أفعالهم!؟
صحيح أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأمر بإحراقهم!
لقد كان ذاك اجتهاداً من اجتهادات الإمام علي كرّم الله وجهه.
فلو كان الأمر إهانة لحقت بشخصه لتسامح بها ولكنّها إهانة، للعزّة الإلهية، فيجب أن يكون لها قصاص خاص!
ولقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا أيّها الناس ، لا تشكو عليّاً، فوالله إنّه لاُخيشن في ذات الله عزّوجلّ)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (علي مخشوشن في ذات الله).
فمن هنا، نرى أنّ الإمام عليّاً كرّم الله وجهه كان طرازاً خاصّاً في الحكم، ما جاء بعده من حافظ على مثالية الدين وصفائه!
مفتاح سياسة الإمام قوله (عليه السلام):
(لا أُداهن في دين ولا أُعطي الدنية في أمري!) .
(والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس! والله ما استغفل بالمكيدة، ولا استغمز بالشديدة...).
المقصود بالسياسة إدارة الملك وتدبيره، كما يتبادر إلى الذهن من هذا القول في أيامنا!
وعلى هذا الأساس نرى أنّ الفرق واضح بين السياسة والنهج الديني فالسياسة هي معالجة كل قضية تعرض بما يلائم الأحوال النفسية والإجتماعية والمحلية، فقد تعرض هذه الأُمور كلّها على الحاكم أن يلبس لكلّ حلّة لبوسها!
أمّا الدين فيستند إلى أحكام مقرّرة لا سبيل إلى تحريفها أو تبديلها.
فقد تتطلب السياسة تقلّباً وغدراً ومخاتلة ومكراً، ويعتبر الناس السياسي الماهر هو الذي يستطيع أن يواجه كل موقف بما يحتاج إليه من تلوّن ومراوغة!
أمّا الدين فلا يجيز الإنحراف عمّا قرّره الدين ولو قيد شعرة، لأنّ للدين حقائقه التي لا اختلاف لها، فإذا ساغ لنا أن نجعل للدين سياسة، فلا معدى لنا عن أن نعتبر الإخلاص والمهارة في تطبيق أحكام الدين هو النجاح الأعظم وقد كان الإمام أعظم ميراناً في تطبيق أحكام الدين، ومن هنا نعلم أنّه كان في تطبيق الشريعة المحمّدية على نفسه وعلى خاصّة أقاربه وعلى الناس، فذّاً من الأفذاذ. وبحقّ قال(عليه السلام): (ما ترك لي الحقّ من صديق! ).
فالرجل الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، الذي لا يعرف المصانعة ولا يفهم المجاملة، لأنّها ليست له في معجم هو من أسمى الساسة منهجاً ومن أعظمهم أُسلوباً لو لم تكن النفوس قد مرضت، والضمائر قد فسدت فلم يعد يرضيها أن ترى سائساً خشناً في ذات الله، الناس عنده سواسية كأسنان المشط فلا هبات لغير المستحقين، ولا زيادة في عطاء من مال الله ولقد قال (عليه السلام): قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها حاجز من تقوى الله!
أجل لقد انتقد المنتقدون سياسة أبي الحسن العظيم، انتقدوه من نقطتين سنبحث عنهما من وجهة النظر السياسية البحت:
أ ـ فقد انتقدوا سياسة الإمام لعدم إقراره معاوية بن أبي سفيان على ولاية الشام إلى أن يبايع، فكان عزله لمعاوية في زعمهم، هو الذي دعاه إلى رفع راية العصيان! فحارب الإمام (عليه السلام).
ب ـ عزله لقيس بن سعد عن ولاية مصر، وتوليته محمّداً بن أبي بكر مكانه.
يضاف إلى هاتين النقطتين الرئيستين:
1 ـ قبوله الخلافة في تلك الأحوال القائمة.
2 ـ وقبوله التحكيم.
صحيح أنّ المغيرة بن شعبة، وابن عباس، وزياد بن حنظلة التميمي أشاروا عليه بنقيض ذلك في شأن معاوية وغيره من العمّال، فكان جوابه صريحاً واضحاً: ( والله لا أُداهن في ديني، ولا أُعطي الدنيّة في أمري) .
فكان قوله مصداقاً لقول القائل: إنّي أشعر أنّ فيَّ قوّة عشرات الرجال لأنّ قلبي طاهر!
ومع هذا فلابدّ لنا أن نعود قليلاً لنفحص الأُمور النفسية بين بني أُميّة وبني هاشم، ونقمة معاوية الشخصية على الإمام علي(عليه السلام) لما تقدّم معنا، من أنّ الإمام علياّ هو الذي قتل حنظلة أخا معاوية والوليد خاله وعتبة جده في مقام واحد، يضاف إلى هذا ما كان بين الجبّين: هاشم وأُميّة من العداء، من يوم هاشم وأُميّة، وسبق هاشم له في المكارم والفضائل فساد قريشاً وكان أُميّة يحسده، ويعجر عن مجاراته،وينافسه فلا يأتي بشيء فتوارث أولاد أُميّة العداء لأولاد هاشم، فكان الحسد هو الدافع لبني أُميّة أن يعادوا بني هاشم، فلمّا جاء الإسلام كان بنوا أُميّة وبنوا مخزوم أول المناوئين للنبيّ والمكذّبين له، ولعل لهاشمية النبي أثراً في تلك المناوأة وذلك التكذيب!
فهل يعقل بعد هذا أن يبايع معاوية الإمام عليّاً بالخلافة، لو أقرّه على ولاية الشام؟
إنّ الإمام عليّاً كان أبعد نظراً وأحصف رأياً من الذين أشاروا عليه بإقرار معاوية على ولاية الشام!
أضف إلى ذلك أنّ معاوية كان قد قضى عشرين عاماً والياً على الشام ولا شك عندنا في أنّه كان قد هيأ الأُمور للإستقلال في ولايته تلك.
فجمع حوله ذوي الأضغان، و المطامع الحاقدة من قريش على الهاشميين.
وقد كان لابدّ من أن يهتبل الفرصة في مقتل عثمان ليبرز حقده المدفون! ويحول دون ثبات الإمام علي في الخلافة، لأنّ ثباته في الخلافة يعني افول نجم معاوية!
فلو أنّ الإمام عليّاً أقرّه على ولاية الشام، لكان إقراره إيّاه حجته العظمى على الإمام علي، لأنّ ذلك يكون شهادة حتمية بنزاهة معاوية، وسيجد معاوية من هذه الشهادة الضمنية منطلقاً يهاجم منه الإمام عليّاً، مضافاً إلى اتهامه الإمام عليّاً بمقتل عثمان بن عفان، والأدلّة تشير إلى أنّ معاوية كان شبه راض عن اغتيال عثمان ليجد الطريق ممهّداً له ليصل إلى الخلافة، ولو لم يكن الأمر كذلك لما توانى عن السير بجيشه لإنقاذ عثمان المحاصر في داره، ولكنّها المطامع قاتلها الله، يقيناً أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) كان ذروة الحكمة والحنكة السياسية يوم أمر بعزل معاوية، ولعلّ الإمام عليّاً أدرى الناس بما في ضمير معاوية، وبما يطمح إليه معاوية، فمن هنا نرى أنّ الذين ينتقدون الإمام من أجل عزله معاوية كانوا على خطأ بيّن!
أمّا النقطة الثانية، وهي عزله قيساً بن سعد وتولية محمد بن أبي بكر فيأخذونها عليه، لاعتقادهم أنّ فشل محمد كان ناجماً عن لينه وضعفه! والحقيقة أنّ ضمير الإمام لم يقبل أن يثبّت رجلاً كثرت الأراجيف والتهم حوله، وثبت عنده وهو القاضي النزيه أنّ رجلاً كثرت الإشاعات حوله، وحامت حوله التهم والشبهات، لا يجوز في حال أن يظلّ مسؤولاً يمثّل الخليفة.
كان قيس بن سعد بن عبادة صحابياً جليلاً وهو سيد الخزرج ويعدّ من دهاة العرب وأُمرائها وعرف بإخلاصه لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) وأكبر مناصيحه.
أرسله الإمام عاملاً على مصر فكان مثال العامل المخلص أمّا قصّة عزله فلو بحثنا عصر الإمام والظروف التي أحاطت به لرأينا أنّ من السياسة الحكيمة تنحيته عن مصر ولقد تقبّلها قيس بصدر رحب.
إنّ معاوية حاك الدسائس وأشاع الأكاذيب وبعث الأراجيف حول قيس بن سعد فكان يقول: لا تسبوا قيساً فإنّه لنا شيعة يأتينا بكيس نصيحة سرّاً، ثم زوّر كتاباً على لسان قيس له بالطاعة وجعل يقرأه على أهل الشام، من هذا شاع بين أهل الشام أنّ قيساً خرج عن طاعة علي ـ وقيس له مكانته إذ هو صحابي حضر المشاهد كلّها مع رسول الله ـ ثم استفحل الأمر وسرت هذه الإشاعة إلى جيش ال إمام وحتى أرجف فيه المرجفون، وجيش العراق يضم عناصر مختلفة وآراء متباينة.
فكان لزاماً على الإمام سياسياً، أن يستدعي قيساً إليه ويعزله عن مصر مع علمه بسلامة نيّته.
أمّا هزيمة محمد بن أبي بكر فلعلّ مراوغة قيس هي التي مهّدت لها، وهيأت تربتها!
ولعلّ إرسال الإمام الأشتر إلى مصر دليل براعة في السياسة لا حد لها، لكن ماذا يصنع الإمام إذا كان جنود العسل قد فتكت بالأشتر وهو في طريقه إلى مصر؟!
يقيناً أنّ استقدام الإمام لقيس ـ إن كان قيس يضمر للإمام خيراً، أفضل من إبقائه في مصر!
لكن هي الأُمور إن أدبرت عادت ـ كما قال صاحب كليلة ودمنة ـ عاد سعي الرجل وبالاً عليه.
أمّا قبوله الخلافة فقد كان بإلحاح يشبه الإرغام من القوم وقضية التحكيم، لم يقبلها راضياً، ولا قبل ممثّله أبا موسى الأشعري مختاراً، وليس في هذا شيء من ضعف السياسة وسوء التقدير!
إذن ليست القضية ضعف سياسة، ولا هي سوء تقدير، لكنّه عصر تحوّل وجند فسد، ورواسب جاهلية استيقطت، وأحقاد وترات أموية فارت!
مثل أعلى يصارع المطامع.
أهناك سياسة تتفوق على هذه السياسة؟ ورأي يتميز على هذا الرأي؟
ألم ينه (عمر بن الخطاب) عن الخروج إلى حرب الروم والفرس بنفسه؟
إنّك متى تسر إلى هذا العدوّ بنفسك فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كائنة دون أقصى بلادهم... ليس بعدك مرجع يرجعون إليه فابعث إليهم رجلاً مجرّباً... فإن أظهره الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأُخرى كنت ردءاً للناس، ومثابة للمسلمين!
فهل وراء هذا الرأي في السياسة العملية والحربية رأي؟
ألم يصوّب غير الإمام رأي عمر بالخروج إلى حرب الروم والفرس بنفسه؟ وبيّن لهم الإمام زيف ما أشاروا به؟
ألم يعجب (عمر) بالرأي الحازم والمشورة الناصحة والسياسة البارعة ويكرر القول وينسّقه إعجاباً به.
أفليس من السياسة الحكيمة معرفة المسؤول بالرجال؟
فاسمع ما يقول لابن عباس وقد أرسله إلى طلحة والزبير: (لا تلقين طلحة، فإنّك إن تلقه تلقه كالثور عاقصاً قرنه، يركب الصعب، ويقول هو الذلول، لكن إلق الزبير فإنّه ألين عريكة فقل له: يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز، وأنكرتني بالعراق... فما عدا ممّا بدا؟).
ومن براعته في سياسة الحكم، أنّه كان يبث عيونه في أنحاء البلاد لينقلوا له ما يجري في البلاد بدقّة، وهو أقصى ما تصفه أرقى الأُمم سياسة، وليس غرضه من ذلك التجسّس بل معرفة أحوال الناس ليعالج كل خلل في حينه، وبما يستحقّ من العناية.
ومن براعته في السياسة ، أنّه كان يعرف نفسية الجماهير وعقلياتها فوصف العامة بكلمة جامعة مانعة: إنّهم أتباع كل ناعقّ هم الذين إذا اجتمعوا ضرّوا، وإذا تفرّقوا نفعوا!
مساكين الذين أنكروا على الإمام علي(عليه السلام) حسن السياسة وحصافة التصرف، لقد كان يدرك بواطن الأُمور ويعمل على علاج ما مرض منها، وتقويم ما اعوج منها مستلهماً أوامر الدين ونواهيه!
يجوز أن نتهم إنساناً بالعجز في السياسة، والخطل في الرأي والإدراة إذا كانت تغمّ عليه مسألة، أمّا والإمام مدرك كل صغيرة وكبيرة، حتى ما يجول في ضمائر الناس بدليل قوله: (انّ قريشاً اختارت لنفسها، فأبت أن تجمع لبني هاشم بين النبوّة والخلافة) .
أجل إنّ الإمام لم تفته صغيرة أو كبيرة!
لكن ماذا يستطيع كل مهندسي العالم أن يصنعوه في جبل ينهار؟
لقد كان المجتمع العربي ينهار يتطوّر بسرعة وكان ذلك المهندس العظيم الإمام علي يرى ذلك الجبل يزحف إلى الإنهيار، فلا النصح أفاد ولا الإرشاد نفع فإذا الإمام يلمس موطن الداء الذي لا دواء له:
(إنّ الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول:
إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً... وما كانت في غيرها من قريش تداولتموها بينكم! ) .
حقّاً إنّ الإمام كان في موقف لا يدع له خياراً:
أ ـ امّا أن يسوس البلاد سياسة دينية يؤمن بها أشدّ الإيمان ويراها خير السياسات.
ب ـ وامّا أن يسوسها رياسة ملكية دنيوية تقرّب زمرة من الناس على حساب العدالة الإجتماعية والاخوة الإنسانية، والمساواة الدينية.
فما كان للإمام إلّا أن يختار الأُولى، ولو دفع في سبيل مبادئه دمه الغالي ثمناً وهو متوجّه بقلبه إلى الله ليقيم الصلاة.
فلقيه ابن ملجم البائس في حياته ومماته، وطعنه تلك الطعنة التي أودت بحياته مهراً لقطام التي اشترطت عليه ذلك، وقد خلّد ابن أبي ميّاس الواقعة بقوله:
ولم أر مهراً ساقه ذو سماحة ثلاثة آلافٍ وعبد وقينة فلا مهر أغلى من علي وإن علا |
|
كمهر قطام من فصيح وأعجم وضرب علي بالحسام المسمّم ولا فتك إلّا دون فتك ابن ملجم! |
وخلاصة ما نريد أن نقول: إنّ الذين يوجّهون للإمام النقد في سياسته، إمّا جاهلون لشخصية الإمام وهم معذورون، وإمّا متناقضون مع نفوسهم ومع الحقيقة، فهم يريدونه إماماً يقيم ما اعوجّ بحكم تطوّر الزمن، ومطامع الناس، وضغائنهم وأحقادهم ومنافستهم وتراتهم، ويريدونه في الوقت نفسه مراوغاً يدجّن أوامر الدين وزواجره على ما يتطلّبه الزمن، ويقتضيه العصر، فما أبعد ذلك عن سجيّة الإمام العادل، والإنسان الفاضل، والفارس المعلّم، والخطيب الملهم، والأديب المتفوّق!
ليس بنا من حاجة إلى الخوض في تحديد الفقر قديماً، والتفريق بين منازله، ولا نريد إيضاح الفرق بين الفقير والمسكين، فإنّما غرضنا مُنصبّ على ما عالج به الإمام الكريم حالة القوم الذين ساءت أحوالهم المعاشية، صحيح أنّ القرآن الكريم جاء بما فيه إصلاح لحالتهم:
(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (
1) .فالزكاة أو الصدقة علاج من العلاجات الإجتماعية لمعضلة الفقر التي تؤذي النفوس والعقول والمجتمعات الإنسانية.
والحثّ على العمل في القرآن الكريم علاج للفقر.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (
2) .(وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (
3).فلم يكن الإمام علي ليشذّ عمّا رسمه الكتاب الحكيم، ولكنّه مع هذا اجتهد على ضوء ما جاء في القرآن الحكيم، وصكّ الذين خلت قلوبهم من الرحمة واستباحوا ما ليس لهم فيه حق، صكّهم صكّاً عنيفاً بقوله:
أ ـ ما جاع فقير، إلّا بما متّع به غني.
ب ـ وما رأيت نعمة موفورة إلّا وإلى جانبها حق مضيّع!
هاتان العبارتان صورتا مشكلة الفقر بأبشع صورها، فلم يبق إلّا العلاج، فقد عالجها بما رسمه بنفسه من الإقبال على العمل، إلى درجة مجلت معها يداه وهو يسقي، ولم يترفّع أن يطحن على الرحى بيده الكريمة.
وما اكتنز لنفسه مالاً، ولا أقام لبنة على لبنة.
وكان من الزهد كما قال:
( لأروضنّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها) .فبعد أن عمل ليكون قدوة، وبعد أن زهد حتى لم يدع مجالاً لما وراء زهده حارب الإحتكار الذي هو من أسباب الفقر:
( واعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ـ يعني التجار ـ ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البيعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة، فامنع من الإحتكار ) .
ثم تخيّر رجال الحكم من الأُمناء وأهل التجربة وأهل البيوتات الصالحة وذوي الضمائر الحيّة، لأنّ في وجود مثل هؤلاء الرجال ما يضمن العدل، واطمئنان النفوس.
فاسمع ما يوصي به واليه الأشتر: (وتوخ ـ الولاة ـ أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدّمة، فإنّهم أكرم أخلاقاً، وأصح أعراضاً، وأقلّ في المطامع إسرافاً، وأبلغ في عواقب الأُمور) .
وقال: (وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمة، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم... فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسنّة فيهلك الأُمة) .
ويقول: (ولكنّني آسى أن يلي أمر هذه الأُمّة سفهاؤها وفجّارها، فيتّخذون مال الله دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً!) .
أما توزيعه للمال فقد روت كتب التاريخ الموثوق بها أنّه كان يوزّع ما في بيت المال ويكنسه ويصلّي فيه. مساوياً نفسه وأقرب المقرّبين إليه بعامة الناس!
فمن هنا نرى أنّه وضع الأُسس للنظام العادل، الذي يقتلع جذور النقمة من نفوس الفقراء، وهذا العلاج النفسي، لم تتمكن أرقى دساتير العالم اليوم من التوصّل إليه، فلقد أشبعت نظمنا العصرية البطون، لكنّها لم تتمكّن من علاج النفوس الناقمة، والدساتير العصرية لمّا تدرك بعد، أنّه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان!
فالناس كل الناس تهمهم المساواة أولاً، ويهمّهم أن يروا حاكمهم قدوة لهم، ولا سيّما الأُمم السامية عامة والأُمّة العربية خاصة.
أنا لا أقول إنّ الإمام علماً انتزع آفة الفقر من الدنيا، لكنّي أستطيع أن أقول إنّه عالج نفوس الفقراء علاجاً وفّر لهم ما يحتاجون إليه من الإطمئنان الروحي، وهم يرون إمامهم لا يميّز نفسه ولا أحبّ أحبّائه إليه منهم بشيء. ووفّر لهم ما يحتاجون إليه ممّا يقيم أودهم، ويسمو بهم عن شظف ما كانت تعانيه الطبقة الفقيرة في الجاهلية من بؤس وحرمان، وما كانت عليه قبل إمامته، ولنا في الآية الكريمة خير دليل على بؤس الفقراء وتدنّي مستوى حياتهم، حتى ألجأهم فقرهم إلى قتل أولادهم خشية الإملاق:
(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) (4) .
(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (5).
فمن هنا يتبيّن لنا أنّ الأُسلوب الذي اختطّه الإمام لعلاج النفوس بادئاً في المساواة بنفسه في عطائه في ملابسه، في مسكنه، في مأكله، في محاربة الإحتكار، في اختيار الولاة في محاربة الإثراء الفاحش على حساب العامة، كان له أعظم الأثر في أصلاح المجتمع!
حقّاً إنّه لو لم تعجّل المؤامرة الجائرة في اغتيال الإمام (عليه السلام) لوصل المجتمع إلى حالة من الطمأنينة النفسية عجيبة!
الهوامش
1 ـ التوبة: 60.
2 ـ الملك: 15.
3 ـ المزمل: 20.
4 ـ الإسراء: 31.
5 ـ النساء: 151.