الحلم واللطف والكرم والشجاعة، فضائل ينتمي بعضها إلى بعض، وقد ألممنا بشجاعة أبي الحسن، فلنذكر شيئاً عن حلمه الذي كان يجيء أبداً وهو قادر على غير الحلم!
حقّاً إنّه لو لم يكن له من مواقف الحلم إلّا صفحه عن أهل الجمل، وقد جاءوا بالفتنة الكبرى التي كانت تهدّد الإسلام.
وكانت سبباً لفتن دامية اصطبغ بها وجه الإسلام زمناً طويلاً، فصفح الإمام العظيم وتناسى كل ما كان من خصومه الألدة، وأعدائه الزرق.
وكان في طليعتهم مروان بن الحكم، وعبدالله بن الزبير.
وكان عبدالله بن الزبير يشتم الإمام عليّاً كرّم الله وجهه على رؤوس الأشهاد، ومع هذا فإنّه صفح عنه صفح الكريم العظيم، فلم يعاقب أحداً من أهل الجمل، ولا تعرّض لأحد من أهل البصرة بسوء، ولم يكتف بذلك بل أطلق مناديه في عسكره:
(أن لا يتبعوا موليّاً، ولا يجهزوا على جريح، ولا يقتلوا مستأسر ومن ألقى سلاحه فهو آمن!).
أجل إنّها سنّة عرفها من ابن عمّه الأعظم، ودرس تلقّاه من يوم فتح مكة!
حقّاً إنّ كل حلم وكلّ لطف وكل صفح يتصاغر عند حلمه يوم ملك عليه أهل الشام الشريعة ومنعوه وأصحابه من الماء، ثم ملكها عليهم وأشار عليه أصحابه أن يمنعهم واحدة بواحدة، فأجاب لا والله لا أُكافئهم بمثل فعلهم!
ولمّا ظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة، لم يزد على الإعراض عنه!
فرجل عرف بالشجاعة والبطولة تبلغ فيه السماحة النفسية والحلم إلى هذه الدرجة، بعد أن مكّنه الله من خصومه، لابدّ أن يكون طرازاً خاصّاً من الرجال.
لعلّ الأبطال الشجعان، المتسامحين، أقرب الناس إلى الإنسانية لما ركّب في طباعهم من الشمم والتسامي!
إنّ الأسد نفسه وهو أشد خلائق الله بطشاً إذا رأى الضّعف ترفع عن الإفتراس.
يروى أنّ أسداً فرّ من قفصه في فلورنسه، إحدى مدن إيطاليا، فذعر الناس وفرّوا من الشوارع، ورأته امرأة تحمل طفلها ولخوفها سقط منها الطفل، فدلّتها فطرة الأُمومة على التضرّع، فركعت ورفعت يديها فحاد عنها الأسد من غير أن يمسها أو يمس ابنها بسوء.
وهؤلاء الأبطال الحقيقيّون فيهم من شمم الأسد وتساميه فلا نعجبنّ إذا رأينا أبا الحسن والّذي لم يهزم في معركة، يضرب للناس المثل الأعلى في الإنسانية.
حقّاً إنّ أيصاءه لجيشه أن لا يتبعوا مدبراً، ولا يجهزوا على جريح، وعدم منعه الماء لعسكر معاوية يوم صفّين لمّا استولى عليه بعد ما منعوه منه أعظم دليل على الإنسانية التي لا تكلف فيها.
ومن آيات إنسانيته، أنّهم جاءوا عمر بامرأة أجهدها العطش فمرّت على راع واستسقته... فأبى أن يسقيها إلّا أن تمكّنه من نفسها... ففعلت فشاور عمر الناس في رجمها، فقال علي: (هذه مضطرّة إلى ذلك... فخلّ سبيلها!)(1) .
ومن إنسانيته أنّه فرض الرفق بالرعية على كل وال فلا إرهاق ولا استغلال ولو كانت الحكومة هي صاحبة الحقّ في المثال.
ومن إنسانيته، وصاياه المكررة لولاته: (أنصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم ، فإنّهم خزان الرعية، ولا تحسموا أحداً عن حاجة ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعنّ للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يحتملون عليها، ولا عبداً، ولا تضربنّ أحداً سوطاً لمكان درهم!).
***
ومن وصاياه في تحصيل الخراج والصدقات: (... إمض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم ولا تخدج بالتحية لهم، ثم تقول: (عباد الله، أرسلني إليكم وليّ الله وخليفته لآخذ منكم حقّ الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟ فإن قال قائل: (لا!) فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم، فانطلق معه من غير أن تخيفه وتتوعّده أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان له ماشية أو إبل، فلا تدخلها إلّا بإذنه، فإنّ أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها متسلّط عليه، ولا عنيف به، ولا تنفرنّ! بهيمة ولا تفزعها، ولا تسوءنّ صاحبها فيها، واصدع المال على صدعين، ثم خيّره، فإذا اختار، فلا تعرض لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يفي ما فيه وفاء حقّ الله في ماله، فاقبض حقّ الله منه فإن استقالك فأقله...).
فهذا الدستور الإنساني الرفيع يدلّ على نفس طبعت على الإنسانية والخير، والمحافظة على كرامة الإنسان وعدم تعقيد نفسيته بالظلم والحيف والإرهاق!
ننتقل إلى لون آخر من إنسانية الإمام علي، فقد كان يكتب إلى واليه: (تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة ومن حبب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلّا قليلاً، وإنّما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنّما يعوز أهلها إسراف الولاة في الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلّة انتفاعهم بالعِبر...).
من إنسانيته نصيحته للأشتر: اشر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان:
أ ـ إمّا أخ لك في الدين.
ب ـ وإمّا نظير لك في الخلق.
(تفرط فيهم الزلل، وتعرض لهم العلل، وتؤتي بأعلى أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم ووالي أمرهم عليك فوقك، والله فوق من ولّاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم...).
(ولا تندمنّ على عفو، ولا تتبجحنّ بعقوبة، ولا تسرعنّ إلى بادرة وجدت عنها مندوحة، ولا تقولنّ إنّي مؤمّر آمر فاطاع، فإنّ ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين وتقرّب من الغير، وإذا أحدث لك ممّا أنت فيه من سلطانك أُبّهة أو مخيّلة، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإنّ ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكفّ عنك من غربك، ويفيء إليك بما غرب عنك من عقلك، إيّاك ومساماة الله في عظمته، والتشبّه به في جبروته، فإنّ الله بذلّ كل جبّار وبهين كل مختال!... ).
فأنت إذا قرأت هذا وقفت أمام جبل من الأخلاق وكنز من الإنسانية وعوالم من التهذيب النفسي!
وإذا أردت أن تعلم ما هو أسمى من ذلك، فاسمع التهذيب والتأديب الذي يُؤدّب به ولاته، ليسمو بهم من مواطن الشبهات، ويرفعهم إلى أرقى مستوى من الإنسانية، فسر معي لنقرأ قوله لعثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة:
(أَمَّا بَعْدُ، يَابْنَ حُنَيْف، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَة، فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الاَْلْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْم، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هذَ الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ).
أرأيت سمو الإحساس الإنساني؟! إنّ قوماً عائلهم مجفو وغنيّهم مدعو لقوم ليس للإنسانية عندهم مكان، فطعامهم على ذوي الإحساس الإنساني المهذّب حرام!
هذا هو الإمام علي، يدخل إلى النفس البشرية، ويغوص في ضمير الحاكم، وإحساس الوالي، ليجعله يمثّل العدل الإلهي على الأرض، ويمثّل النزاهة السامية التي لا يتطرّق إليها الشك ولا تحوم حولها الشبهات!
فإذا وصل الوالي من التهذيب النفسي إلى هذه الدرجة، فقد بلغ المرتبة الإنسانية التي تجعله جديراً بأن يمثّل الإمام الأعظم قدّيس الإسلام!
ومن إنسانية علي التي كانت تجعل نفسه تحس بأخلاق الرجل إحساساً يكشف خبايا قلوبهم، كشفاً أعمق من الفراسة، وأسمى من التصوير، وأرق من تبادل الإحساس.
فاسمع وصفه للرجال بالإحساس الإنساني الذي لا يكذّب صاحبه فقد قال لابن عباس يوم أرسله إلى طلحة والزبير: (لا تلقينّ طلحة، فإنّك إن تلقه تلقه كالثور عاقصاً قرنه، يركب الصعب، ويقول هو الذلول، ولكن إلق الزبير فإنّه ألين عريكة فقل له: يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز وأنكرتني في العراق فما عدا ممّا بدا).
انظر إلى هذه النظرة الإنسانية البكر في قوله: (خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ!).
وقوله الذي يدل على لباب الإنسانية والترفّع والنبل، وقد مارس ذلك فعلاً:
(إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ).
ومن إنسانيته أنّه كان يترفّع عن الشتم، ويطلب من أصحابه أن يترفّعوا عنه، لأنّه كان يؤمن أنّ السفاهة كاسمها، وأنّه لا يليق بالإنسان المهذّب أن يكون شتّاماً، مهما تكن الخصومة بينه وبين الناس حادّة والعداوة فتّالة.
(إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ! ).
فهل أكتفي بما ذكرت؟ لأنّي لو رمت أن أُتابع هذه النقطة وحدها، لأربت على ما هو مخصّص للكتاب من صفحات.
فقد وهب الله له العناصر الأساسية لمكوّنات الشخصية الإنسانية النبيلة:
أ – تواضع لا يعرف الغرور، ولا التعاظم، فهو بين رجاله كواحد منهم.
ب – وعدل بلغ بصاحبه حدّ الميزان الدقيق الحسّاس، دقّة إلى درجة أنّه ساوى بين نفسه وبين الناس في العطاء.
ج – وزهد لا يعرفه إلّا النسّاك المتبتّلون لله المنقطعون للعبادة، فلبس خشن، ومأكل جشب، لئلاّ ينسى الفقراء، ويظلّ ذاكراً فقراء رعيّته، ماراً بالتجربة النفسية التي يمرّون بها يومياً.
د – وحلم وصفح صغّر كل ما عرف عن حلماء العرب.
هـ - وشجاعة أدبية لا تعرف المواربة، ولا تفهم المراوغة والمداجاة.
و – شجاعة أزرت ببطولة كل بطل.
ز – وصفاء ذهن يوحي بأحكام عبقرية يقف عندها كل عبقري ذاهلاً.
ح – وجود شهد له به الذي فرض شتمه من على المنابر معاوية بن أبي سفيان: (لو ملك بيتاً من تبر وبيتاً من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه!).
ط – وثقة بالله لا يُعرف لها مثيل، فقد كان يكنس بيوت الأموال ويصلّي فيها، ويقول يا صفراء ويا بيضاء غرّي غيري، ولم يخلف ميراثاً، وكانت الدنيا كلها بيده عد الشام، ولم يعمل بآية النجوى غيره، وأعتق ألف عبد من يده، ولم يقل لسائل لا قط.
ومن إنسانيته التي لا تجارى، خبر المجنونة التي قامت عليها البيّنة في عهد عمر، أنّه فجر بها رجل، فأمر عمر بجلدها الحدّ، فمرّ بها علي فقال: (ما بال مجنونة آل فلان تقتل؟).
فقيل له: (إنّ رجلاً فجر بها وهرب، وقامت البيّنة عليها، فأمر عمر بجلدها!).
فقال: (ردّوها إليه وقولوا له أما علمت أنّ هذه مجنونة آل فلان، وأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد رفع القلم عن المجنون حتى يفيق، إنّها مغلوبة على عقلها، ونفسها فردّت إليه وقبل له ذلك فقال: (فرّج الله عنه، لقد كدت أهلك في جلدها!... ).
ومن ذلك قصة التي ولدت لستة أشهر:
وفي إرشاد المفيد: (روي عن يونس بن الحسن أنّ عمر أُتي بامرأة ولدت لستة أشهر، فهمّ برجمها، فقال له علي: (إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك، إنّ الله تعالى يقول: (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (2) ويقول جلّ قائلاً: (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (3) وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً، وكان الحمل فيها ستة أشهر، فخلى عمر سبيل المرأة، وثبت الحكم بذلك ، فعمل به الصحابة والتابعون، ومن أخذ عنهم إلى يومنا هذا!
ومن الأدلّة على إنسانيته، حادثة الحامل التي زنت.
روي أنّ عمر أُتي بحامل زنت، فأمر عمر برجمها، فقال له علي: (هب أنّ لك سبيلاً عليها، فأي سبيل لك على ما في بطنها والله تعالى يقول: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(4) فقال عمر: (لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن) ثم قال: (فما أصنع بها؟) قال: (احتط عليها حتى تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله، فأقم عليها الحد!).
ومن إنسانيته، أنّه كان يسقي بيده النخل لقوم من يهود المدينة، حتى مجلت يده، ويتصدّق بالاُجرة، ويشدّ على بطنه حجراً!).
يقيناً أنّ رجلاً يتحلى بشجاعة علي ومنزلة علي الإجتماعية يصنع مثل هذا الصنيع ليتصدّق لهو إنسان فوق مستوى الإنسان، ويحق لنا منصفين أن نلقّبه قدّيس الإسلام العظيم وإمامه الأعظم!
ولولا شعور الناس بإنسانيته ما قال عمر: (لقد أُوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال، لأن تكون لي واحدة منها أحب إليَّ من حمر النعم:
أ – زوّجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ابنته وولدت له.
ب – وسدّ الأبواب إلّا بابه في المسجد.
ج – وأعطاه الراية يوم خيبر؟
ومن إنسانيته عفوه عن مبارزة يوم قطع رجل مبارزه ذاك.
فقد رُوي أنّ طلحة طلب المبارزة مراراً، فلم يجبه أحد، فقال: ( يا أصحاب محمد زعمتم أنّ قتلاكم في الجنة وقتلانا إلى النار، فهل أحد منكم يعبطني بسيفه النار، أو اعجله بسيفي إلى الجنة، كذبتم واللات والعزى لو تعلمون ذلك لخرج إليَّ بعضكم، فقام إليه علي بن أبي طالب فقال:
(والّذي نفسي بيده لا اُفارقك حتى اُعجلك بسيفي إلى النار أو تعجلني بسيفك إلى الجنّة فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال: (أُنشدك الله والرحم يا ابن العم فتركه، فكبّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ).
وقيل لعليّ: (ما منعك أن تجهز عليه؟) قال: (إنّ ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه!).
أجل إنّه الترفع والحياء وهما بعض صفات الإنسان الحق!
أو حيا إلى علي بما يصنعه الإنسان الذي ينتصر على نفسه ساعة الغضب!
كما يمتحن الذهب بالنار، يمتحن الرجل بالسلطة والمال لأنّ المال يفسد الرجال، والسلطة تغيّر طباعهم، لكنّ السلطة ما زادت الإمام (عليّاً) غير إنسانية ونبل وتواضع وزهد!
فالرجل الذي كانت الدنيا في يده عدا الشام لم يخلّف عند موته سوى ثمانمائة درهم!... لم يكن اختزنها إنّما أعدّها لخادم يشتريه لأهله، فمات قبل شرائه!
وأمواله التي وصلت إلى يده لم ينفقها في مأكل ولا ملبس، ولا مركب ولا شراء عبيد، ولا إماء، ولا بناء دار، ولا اقتناء عقار!
مات ولم يضع لبنة على لبنة، ولا تنعّم بشيء من لذّات الدنيا، كان يلبس الخشن ويأكل الجشب، ويعمل في أرضه، فيستنبط منها العيون ثم يقفها في سبيل الله ويصرف ما يصل إلى يده من مال في الفقراء والمساكين في سبيل الله وهو مع ذلك يريد من عمّاله في الأمصار أن يكونوا مثله، أو متشبّهين به على الأقل.
أجل، ومع أنّه كان قادراً على التنعّم بملاذ الدنيا، فهو يتركه زهداً وتعفّفاً، ومواساة للفقراء، وكان يقول: (ولو شئت لاهتديت إلى الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالقرص، ولا طمع له بالشبع!
لست أريد أن أذهب إلى الروايات المختلفة التي تنتهي كلّها إلى معنىً واحد، وحقيقة واحدة وهي أنّ زهد الإمام كان مثالاً فذاً.
أليس هو القائل: (والله لإن أبيت على حسك السعدان مسهّداً، أو أُجرّ في الأغلال مصفداً، أحبّ إليَّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وعاصياً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً، لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حؤولها، والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، ما لعليّ ونعيم يفنى ولذة لا تبقى؟!... ).
فهذه المحاسبة الدقيقة للنفس تدلّ على رجل وزن الدنيا بميزان أسمى من موازين البشر واعتباراتهم فأعرض عنها إعراض رجل رأى نفسه أسمى من الحياة ومن توافه الوجود التي يتهارش عليها الناس، سما فوق دنياه وهو قادر على أن يمدّ يده لما يشتهي وهذا هو الزهد في أعلى مراتبه وأشرف منازله!
انظر إلى ما يشهد به (أبو النوار) بياع الكرابيس، إذ يقول: (أتاني علي بن أبي طالب، ومعه غلام له فاشترى مني قميص كرابيس، فقال لغلامه: (اختر أيّهما شئت، فأخذ أحدهما، وأخذ علي الآخر فلبسه) ثم مد يده فقال: (اقطع الذي يفضل من قدر يدي، فقطعته، وكفّه ولبسه وذهب!).
ماذا أقول أو ماذا يقول البشر كافة، والحاكمون جميعاً، في رجل يعرض سيفه للبيع يشتري له إزاراً؟
أجل يعرض سيفه للبيع والدنيا كلّها بيده، إلّا ما كان من الشام ، وتهزّ الأريحية من يرى تلك العفّة النفسية ويسمع كلمات أبي الحسن كأنّها آنية من وراء الغيب: (من يشتري منّي سيفي هذا؟ فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته!) درس بليغ وعظة أبلغ للّذين تكون السلطة سبباً في ثرائهم، وفي احتجازهم للأموال.
وتلامس الكلمات المخلصة قلب أحد الذين يسمعون نداء التسامي والتجرّد فيقول: (نحن نسلفك ثمن الإزار!).
الرجل العظيم، والإمام الأعظم، قدّيس الإسلام وأسده، كان ثوبه مرقوعاً بجلد تارة وبليف اُخرى ونعلاه من ليف، وكان يلبس الكرابيس حتى قال مرة: (والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحيت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك؟!).
فقلت: (اعزب عنّي، فعند الصباح يحمد القوم السرى!).
وهل وراء زهد الذي يرى الدنيا أهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ويرى الإمرة نفسها لا تساوي نعلاً قيمتها ثلاثة دراهم إلّا أن يقيم حقّاً، أو يدفع باطلاً، كما ذكر لابن عباس، وهو سائر إلى البصرة!
أمّا تواضعه فحسبك منه مفتاحاً لتلك الشخصية العظمى أن يدعو غلامه لاختيار أحد القميصين، فيأخذ هو الآخر!
أن يعمل بيده الأعمال التي يقوم بها الخدم ونحوهم، في محيط احتقر فيه العمل!
الذي يدقّق في أحوال الزاهدين، يرى أن زهدهم في أغلب الأحيان يرتد إلى نفوسهم من غير أن يشعروا، فيغترّوا على الناس، وهم مخلصون كأنّما هم يعتقدون أنّ ما تساموا هم عنه، يجب أن يتسامى عنه جميع الناس فيتوهّم الناس أنّ الزاهدين بخلاء، فإذا صدق هذا القياس على بعض الناس، فإنّه لا يمكن أن يصدق على أبي الحسن!
تكفي شهادة أشدّ خصومه لدداً، وأعنف أعدائه زرقة (معاوية بن أبي سفيان) الذي قال: (لو ملك ـ أي الإمام ـ بيتاً من تبر وبيتاً من تبن لأنفق تبره قبل تبنه!) والفضل ما شهدت به الأعداء!
فمن هنا ترى أنّه جمع في نفسه محاسبة النفس بأدقّ ما تكون المحاسبة لكنّه كان يريد أن يرى الناس في رفاهيته فلم يكن يبخل بشيء من مال إلى درجة أنّه كان يوزع كل ما في بيت المال.
والكريم السخي إنسان غيري ينسى نفسه ويجود بها، فقد كان الإمام يؤثر على نفسه ويجود بها! وحسبنا دليلاً على ذلك إيثاره النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن نفسه ونومه في فراسه.
يجود بالنفس إن شحّ الضنين بها |
|
والجود بالنفس أقصى غاية الجود |
وحسبه شهادة النبي له بالسماحة والجود، قول النبي: (أقدم أُمّتي سلماً وأكثرهم علماً، وأصحّهم ديناً، وأفضلهم يقيناً، وأكملهم علماً، وأسمحهم كفاً، وأشجعهم قليباً علي (عليه السلام) وهو الإمام على أُمتي).
ألممنا ببعض مناقب الإمام، وها نحن أولاء نتعرّض إلى عدله ، قال ابن الأثير في اُسد الغابة: (إنّ زهده وعدله لا يمكن استقصاؤهما!).
يروى أنّه جاءه من أصفهان رغيف، فقسمه سبعة أجزاء كما قسم المال وجعل على كل جزء جزءً!
ومن عدله أنّه ساوى بين الناس في العطاء، وأخذ كواحد منهم.
ومن عدله أنّه ناقش خازنه على زقّ عسل في بيت المال استقرض منه ولده شيئاً يسيراً، ولم يجاب أخاه عقيلاً في شيء يزيده به عن عطائه!
فالإمام علي لا يعرف المحاباة لقوي، ولا يقبل حسيفاً لضعيف، وهو الذي انتزع القطائع التي وزّعت قبل خلافته على الرؤساء والمقرّبين، وأعادها إلى بيت المال، ليصير توزيعها بالعدل والمساواة على مستحقّيها. ومن أقواله في هذا الشأن:
(والله لو وجدته قد تزوّج به النساء، وملك به الإمام لرددته، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق!
ومن عدله أنّه لم يتسامح في الحقّ العام.
ذكر الطبري عن بعض الأسانيد قال: (رأيت عليّا (عليه السلام) خارجاً من همدان، فرأى فئتين يقتتلان ففرق بينهما، ثم مضى فسمع صوتاً: (يا غوثا بالله) فخرج يحضر نحوه حتى سمعت خفق نعله، وهو يقول: (أتاك الغوث!) فإذا رجل يلازم رجلاً، فقال: (يا أميرالمؤمنين.. بعت هذا ثوباً بتسعة دراهم وشرطت عليه ألاّ يعطيني مغموزاً ولا مقطوعاً، فأتمنته بهذه الدراهم ليبدلها لي، فأبى فلزمته فلطمني) فقال: (إبدله) ثم قال: (بينتك على اللطمة) قال فأتاه بالبينة، قال: (دونك فاقتص) قال: (إنّي عفوت يا أميرالمؤمنين) قال: (إنّما أردت أن أحتاط في حقك..) ثم ضرب الرجل تسع درات، وقال: (هذا حقّ السلطان).
فالإمام علي لا يفرط في الحقّ الخاص، ولا في الحقّ العام!
قد ظلمه قوم بقولهم إنّه فرّط في دم عثمان، والحقّ أنّهم كانوا ظالمين أو متحاملين، فقد تحدّث الإمام مرة في أمر القود من قتلة عثمان، فإذا بجيش يبلغ عشرة آلاف يشرعون الرماح ويجهرون بأنّهم (كلّهم قتلة عثمان) فمن شاء القود، فليأخذه منهم أجمعين.
فكان الإمام يقول لمن طلبوا منه إقامة الحدود: (إنّي لست أجهل ما تعلمون، ولكنّي كيف أصنع بقوم يملكوننا، ولا نملكهم، هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم بينكم يسومونكم ما شاؤوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء ممّا تريدون؟...).
ومن قوله (عليه السلام): (إنّ هذا الأمر أمر جاهلية، وإنّ لهؤلاء القوم مادة، وإنّ الناس من هذا الأمر الذي يطلبون على امور:
أ ـ فرقة ترى ما ترون.
ب ـ فرقة ترى ما لا ترون.
ج ـ وفرقة لا ترى هذا، ولا هذا! حتى تهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق ، فاهدأوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا!
فأنت ترى أنّ الإمام مع عدله كان حكيماً، وأنّ الذين اتّهموه بالتفريط قوم أرادوا التحامل والوقيعة ليس غير.
ولعلّ أعظم دليل على أنّه قسطاس في العدل موقفه من بنته حين استعارت عقداً من بيت المال.
ومن كتاب له إلى أحد عمّاله وقد تصرّف بشيء من مال المسلمين: (والله لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كان لهما عندي هوادة ولا ظفراً منّي بإرادة حتى آخذ الحق منهما).
ومن عدله الذي جعله يرى الدين شكيمة لمطامع الدنيا، فيترفّع عن كل مغنم لا ينسجم والخلق الكريم، وقد صحّ عنه أنّه قال: (لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب).
وصح عنه: (قد يرى الحوّل القلب وجه الحيلة، ودونها حاجز من تقوى الله، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين).
أجل إنّه طود من الأخلاق السامية، لا يميل به عن العدل مطمع مهما جلّ وعظم!
فمن عدله أنّه لمّا كان والياً على اليمن أبى على بعض الصحابة أن يركبوا إبل الصدقة، وقال لهم: (إنّما لكم منها سهم كما للمسلمين، ثم لام العامل الذي أذن لهم أن يركبوها في غيبته، وهو منصرف إلى الحجّ، وشاعت هذه القصة لأنّ اُناساً شكوه إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) فأنكر شكواهم منه، وقال: ( لقد علمت أنّه جيش في سبيل الله!).
الهوامش
1 ـ عبقرية الإمام ـ للعقاد.
2 ـ الأحقاف: 15.
3 ـ البقرة: 233.
4 ـ الأنعام: 164.