نفس أكبر من الدنيا وأسمى من المطامع
ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا!
هذا قول من أقوال الإمام علي وهو صورة لعظمته النفسية!
يقيناً أنّ هذين البيتين التاليين من الشعر يصوران تلك النفس العالية أدق تصوير، كأنّ الذي قالهما رسم لنا صورة للنفس التي هي أكبر من الدنيا، وأسمى من المطامع:
بفلس لكان الفلس منهنّ أكثرا! علـــيَّ ثياب لو تابع جميعها
نفوس الورى كانت أجلّ وأكبرا ولي نفس حرّ لو تقاس بمثلها
أليس هو القائل: إنّما كنت جاراً قد جاوركم بدني أياماً!
وهذا دليل على أنّه كان يشعر بعمق أنّه من طينة غير طينة هؤلاء الذين لصقت بالمادة نفوسهم!
سئل في بعض حروبه: إذا جالت الخيل، أين نطلبك؟!
قال: حيث تركتموني، فإنّي لا أفر، ولا أتبع فاراً.
وذكر أنّ درعه كانت لا ظهر لها، فقالوا: إنّا نخاف عليك أن تؤتى من قبل ظهرك!
فقال: إذا أمكنت عدوي من ظهري، فلا أبقى الله عليه، إن أبقى علي!
فهذه نفس كان الشاعر قد وصفها بقوله:
وإنّي لمن قوم كأنّ نفوسنا
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما(1)
إنّه يعرف قدر نفسه:
أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب وكسرت نواجم القرون ربيعة ومضر!
بنا اهتديتم في الظلما ء وتسنّمتم العلياء، وبنا انفجرتم عن السرار!
أقمت لكم سنن الحق في جوار المضلة حيث تلتقون ولا دليل، وتُحتقرون ولا تميهون!
إنّ الرجل الذي يجرؤ على قول الحق لأكبر من الدنيا، وقد قال الإمام:
ما ترك لي قول الحق من صديق!
فالّذي يريد الدنيا يراوغ، وينافق، وقد قلنا يوماً إنّ الحياة الحقّ أصعب من الموت، فقد تحتاج الحياة من الذين يريدون الدنيا أن يسكتواعن قول الحق، والإمام علي لم يكن من هذا الطراز.
لقد كان همه ما ينفع الناس لأنّه كان يؤمن بذلك إيمانه بحقيقة خالدة:(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثالَ) (2).
ولهذا كان أكبر من الدنيا، وأسمى من المطامع، وقد زالت عن الناس دنياهم، وهلكت مطامعهم، وبقي ذكر الإمام خالداً، تنحني له الجباه وتعظّمه الشفاه!
الذي ينظر في حياة الإمام علي:
في زهده في تقشّفه، في تاضعه إلى حد أنّه يخصف نعله بيده ويطحن على الرحى، في بطولته ، في عبادته إلى درجة أنّه من أجل المحافظة على ورده يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلّي عليه ورده والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من ورده على ما يروي ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة.
يتعجّب، لا بل يتولّاه شيء من الحيرة يشبه الذهول، إذا رأى أنّه إمام مجدّد عبقري، لأنّه يؤمن بتطور الحياة، وأنّه ما عدا الحقائق الدينية الخالدة لا شيء فيها ثابت.
أ ـ فهو مجدّد في نظرته إلى العمل، فبعد أن كان العربي يترفّع عن العمل اليدوي، ترى الإمام عليّاً يعمل بيده ليرفع من قيمة العمل، ويرفع من قيمة العامل.
ب ـ مجدّد في كونه يسنّ للناس آداباً للحرب، فبعد أن كان من مفاخر رجال الحرب أن يسلكوا بمن يظفرون ويمثّلون، سنّ الإمام للحرب آداباً، فيوم طرد جيوش معاوية عن الماء لم يرد أن يمتهم من الظمأ فسنّ بذلك لوناً من آداب الحرب والفروسية لا تعرفه الحرب!
ج ـ جدّد في السياسة فبعد أن كان الناس يظنون أنّ السياسة هي الختل والمراوغة جعلها براعة في تطبيق الأحكام الدينية، والمثل الإنسانية الرفيعة العليا.
د ـ ولعلّ أعظم أدلة العبقرية والتجديد ، نقله العاصمة من الجزيرة العربية إلى العراق فكأنّما هو قد نقل العرب من العقلية التقليدية إلى عقلية متطوّرة تألف التجديد ولا تعس التطور الذي هو سنّة الحياة.
فإذا كان الباحثون الإجتماعيون قد عدّوا نقل أتاتورك عاصمة بلاده القسطنطينية ذات التقاليد العريقة إلى أنقرة البلدة المطبوعة بالطابع القروي أجل إذا كان هؤلاء القوم عدّوا هذه الخطوة لزعيم الترك العثمانيين عبقرية في التجديد، فإنّ عبقرية أتاتورك تتضاءل أمام عبقرية الإمام، هذا ثار على تقاليد أمثلية وحضارية وأراد أن يحطمها بردّة إلى الريف، وكان في عمله هذا براعة لا شك فيها، فما يذكر أحد أنقرة إلّا ذكر أتاتورك لأنّه هو موجدها، أمّا الإمام علي فقد نقل القوم من فكرة قبلية ضيقة أقل أخطارها أنّها تهدد روح الإسلام الذي جاء ثورة على القبلية الضيقة: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(3).
فالّذي صنعه الإمام كان تجديداً عبقرياً، لا بل انقلاباً في العقلية في المجتمع، في كل أسباب الحياة، وهذا أقصى ما يصل إليه الزعيم من تطوير عقلية قومه.
ولعلّ أعظم ما يتحتّم على الزعيم الموفق، أن يدفع أُمّته إلى الرقي والتقدم، مجدداً في أساليب حياتها، فلا يسمح لها بالتخلّف والجمود ولاسيّما في ذلك العصر الذي لم يكن العالم فيه مرتبطاً بالمواصلات التي تسهل التطور على الناس شاءوا أم أبوا.
لم تكن فوائد هذا التجديد العبقري مقصورة على البلاء التي تولى حكمها الإمام الأعظم، بل أفاد من عبقريته خصومه السياسيون، فقد أصبح من السهل على معاوية أن يتّخذ من دمشق عاصمة له ويرسي فيها حكمه، جدد في أُسلوب الخطابة، فبعد أن كانت الخطب مجموعة من الحكم لا رابطة بينها تشبه القصيدة الجاهلية التي لا وحدة فيها في موضوعها ولا في تلاحم أجزائها، كانت خطبه تنبع من قلب كبير وعاطفة صادقة تنبض بالحيوية والصدق والإخلاص، وبما أنّها نابعة من قلب مخلص كانت تخاطب القلب والضمير باسلوب يرقى ذي جمل قصار، ويشتمل على كل ما يجب أن تشتمل عليه الخطب الناجحة من تكرار عبارات القسم والتوكيد، والأمر والنهي والإستفهام، فتشعر وأنت تقرأها بعد هذه المئين من السنين أنّ جوّاً من السحر يسيطر على نفسك فيمتد بك الخيال إلى أُولئك الذين كانوا يسمعون تلك الكلمات الحية، وتعجب كيف كانوا يستطيعون أن ينطلقوا من أمرها إن لم يكن الله قد ضرب على عقولهم وقلوبهم غشاوة: (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (4) فكان لهم قلوب عمي، ولهم عيون لا يبصرون بها، وآذان صمت عن كلمة الحق! فلا تسمعها، وإن سمعتها فلا تعيها!
هـ ـ جدّد في أُسلوبه التصويري البارع، فإذا تكلّم على الجاهلية توهمت أنّ ريشة رسام تخط أمامك الصور واضحة جليّة.
و ـ مجدّد في ابتكاراته العلمية التي تدل على أنّه سابق لزمانه وقد تعرض لهذه الناحية ـ معالي الحاج عبد المحسن شلاش ـ في الليلة السابعة من اسبوع الإمام بمحاضراته النفيسة المعنونة بـ (خلود الإمام) فلتراجع في الصفحة 176 ـ 217.
لله أنت لولا دعابة فيك!
عمر بن الخطاب
في العظماء ناحية بكر يجهلها الناس، يظل العظيم يتمتع ببراءة الأطفال وبراءة الأطفال هذه هي التي تجعل من العظيم نسخة متفردة في محيطه، بل في الدنيا.
هذه البراءة هي التي توحي إليه بعبقرية البطولة، بعبقرية التجديد، وبعبقرية العبادة، بوثبات الخيال والذكاء الخارقة.
فبطولة الإمام ما عرف التاريخ لها مثيلا.
بطولة التجديد التي لا تعرف الجمود، ولا تقرّ بالتحجّر الذهني، بطولة العبادة إلى درجة أنّ المعارك الحربية لا تحول بينه وبين مناجاة خالقه مناجاة المحب والصديق الواثق بمن يحب.
قال أبو الدرداء: سمعت الإمام عليّاً يناجي ربّه في غسق الليل ثم انفجر بالبكاء، وخفي صوته، فلم أسمع له حسّاً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم، أوقظه لصلاة الفجر فأتيته وإذا هو كالخشبة الملقاة، حرّكته فلم يتحرّك، زويته فلم ينزو، فقلت: مات والله علي بن أبي طالب، فأقبلت مبادراً إلى منزله أنعاه إلى أهله فأخبرتهم فقالوا: هذه الغشية التي تأخذه كل يوم من خشية الله، وأقبلوا إليه وصبوا الماء على وجهه، أفاق ونظر إليَّ وأنا أبكي فقال:
كيف بك يا أبا الدرداء لو نظرت إليَّ وقد دعي بي إلى الحساب، وقد أيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ، وزبانية فظاظ؟! لكنت أشدّ رحمة لي بين يدي الجبّار الذي لا تخفى عليه خافية.
وقال الشريف الرضي في مقدّمة نهج البلاغة ـ والكلام هنا على الإمام علي (عليه السلام) ومن عجائبه التي انفرد بها وأمن المشاركة فيها، أنّ كلامه الوارد في الزهد والموعظة والتذكير والزواجر، إذا تأمله المتأمل، وفكر فيه النظر، وخلع من قلبه أنّه كلام مثله ممن عظم قدره، ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في أنّه كلام من لا حظ له غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، وقد قبع في كسر بيت، أو انقطع في سفح جبل، لا يسمع إلّا حسّه، ولا يرى إلّا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنّه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه، فيقطّ الرقاب ويجدّل الأبطال، ويعود به ينطف دماً، ويقطر مهجا، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد، وبدل الأبدال، وهذه من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد، وألّف بين الأشتات، وكثيراً ما أُذكر الإخوان بها وأستخرج عجبهم منها، وهي موضع للعبرة بها، والفكرة فيها.
أمّا هذه الدعابة التي أخذت عليه حجة عند العامة، فهي عبقرية العظماء وفطرة الأديب التي هي من مميزات الأديب الحق، وليست طعناً في مقومات الشخصية الفذة، وإن دلت الدعاية على شيء فإنّما هي دليل على سماحة النفس وسخائها فالمعروف عن الشجعان غالباً أن يكونوا بخلاء، فقد كان عبدالله بن الزبير شجاعاً وكان أبخل الناس، وكان الزبير أبوه شجاعاً، وكان شحيحاً، وكان طلحة شحيحاً شجاعاً، وكان عبدالملك بن مروان شجاعاً وكان شحيحاً يضرب به المثل في الشح وسمي رشح الحجر لبخله، وكان الإمام علي مثال السماحة والكرم بشهادة ألدّ أشهر أعدائه (معاوية) يوم قال لـ (محفن بن أبي محفن الضبي) يوم اتهم عليّاً بالبخل والجبن والعي.
أعلي كان أبخل الناس؟
والله لو كان لعليّ بيت من تبن وبيت من تبر لأنفق تبره قبل تبنه!
أعلي كان أجبن الناس؟
وهل وقف في الحروب دون رسول الله غير علي، وهل كانت وقعة بدر إلّا لعلي؟ وهل كانت وقعة أُحد إلّا لعلي؟
أعلي كان أعيى الناس؟ وهل سنّ الفصاحة لقريش غير علي!؟
فتلك الدعابة كانت دليلاً على موهبة الأديب، وعلى السماحة والكرم!
كان فولتير من أعظم أُدباء فرنسا، وكانت الدعابة لا تفارقه.
وكان برناردشو أعظم من عرفت بريطانيا من الكتّاب في عصرنا.
وكان أبرع ما عرف عنه تلك الدعابة الفذة.
وكان فولتير العرب الجاحظ فذا في أُدباء العربية وكانت الدعابة عنصراً أساسياً فيه.
فهل يعاب أميرالأدب الإمام علي أنّ فيه دعابة تشير إلى أسمى مراتب المواهب الأدبية ، وتشير إلى السماحة والجود والكرم.
يغضي حياء ويغضى من مهابته |
|
فلا يكلّم إلّا حين يبتسم! |
إنّ طلاقة الوجه صفة من صفات الإنسان الطيّب.
فكيف تصبح في علي بن أبي طالب سبّة؟!
أجل طلاقة الوجه هي إشراقة الضمير، الدعابة الحلوة هي صفة القلب الكبير.
جاء في (عبقرية عمر) للعقاد قال:
استأذن (عمر) على النبي يوماً وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهنّ، فلمّا استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب.
فدخل والنبي يضحك!
قال عمر: أضحك الله سنّك يا رسول الله ... كأنّه يسأله عن سبب ضحكه، فقال (عليه السلام): عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي لما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.
قال عمر: فأنت يا رسول الله أحقّ أن يهبن، ثم التفت إليهنّ يقول أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
قلن: نعم، أنت أغلظ وأفظّ من رسول الله!
إنّ الدعابة دليل على نفس خيّرة، فما أدري لماذا تعاب على الإمام علي؟
روت السيدة عائشة أنّها طبخت له (عليه السلام) ـ النبي ـ حريرة ودعت سورة أن تأكل منها، فأبت، فعزمت عليها لتأكلن، أو لتلطخن وجهها، فلم تأكل، فوضعت يدها في الحريرة ولطختها بها، وضحك النبي (عليه السلام) وهو يضع الحريرة بيده لسودة ويقول لها: لطّخي أنت وجهها ففعلت! رواها العقاد.
يا سبحان الله! حتى النبي الكريم يمزح ويضحك ويقبل المزاح والدعابة.
أمّا علي بن أبي طالب فدعابته محسوبة عليه، وطلاقه وجهه منتقدة.
إنّ العصر الحديث وعلم النفس الحديث حكماً بأنّ طلاقة الوجه تدل على انطلاق الروح وصفاء القلب!
فتحية لدعابة ابن أبي طالب التي تدل على قلب كبير، وموهبة أدبية ممتازة ونفس تسامت فوق كل منغّصات الحياة!
وأراد عمرو بن العاص الإنتقاص من الإمام فأشاع بين أهل الشام أنّ عليّاً فيه دعابة فبلغ ذلك الإمام (عليه السلام) فقال:
عجباً لابن النابغة يزعم لأهل الشام أنّ فيَّ دعابة، وأنّي امرؤ تلعابة أُعافس وأُمارس، لقد كان باطلاً ونطق إثماً، أمّا وشر القول الكذب إنّه ليقول فيكذب وعد فيخلف ويُسأل فيلحف.
اما والله إنّه ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنّه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة.
الإمام علي لا يعالج المشكلات بالمواعظ والخطب!
آلت إليه الخلافة وقد أصبح المجتمع منقسماً فعلاً إلى طبقتين:
أ ـ طبقة غنية مترفة.
ب ـ وطبقة بائسة فقيرة .
والإمام إنسان بافطرة، أديب بالطبيعة، يعلم أنّ الإنسان الجائع المرغم على الجوع، لا يرى الله ـ كما يقول غاندي ـ من خلال معدته الجائعة.
الإمام يدرك أعمق الإدراك أنّ الإنسان الذي فرض عليه الجوع لا يمكن أن يكون ذا فضيلة ولو وعظته الأنبياء، وزجرته الملائكة!
الإنسان الذي فرض عليه الفقر والجوع، مخلوق سلبت منه إنسانيته وذلّ، والإمام عدو للذل ألم يقل الإمام:
الذليل عندي عزيز، حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه.
إمام عدو للفقر، يستعيذ بالله منه، ويطلب من الناس أن يستعيذوا بالله منه، ويصفه بأشنع الأوصاف:
الفقر يخرس الفطين عن حجته!
الفقر هو الموت الأكبر.
قال لابنه محمد بن الحنفية:
يا بني ، أخاف عليك الفقر، فاستعذ بالله منه، فإنّ الفقر منقصة للدين ، مدهشة للعقل داعية للمقت.
كان يتوجه إلى الله أن يحميه من الفقر!
(اللَّهُمَّ صُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ، وَلاَتَبْذُلْ جَاهِيَ بِالاِْقْتَارِ، فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِي رِزْقِكَ، وَأَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ، وَأُبْتَلَى بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي، وَأُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْمَنَعَنِي، وَأَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذلِكَ كُلِّهِ وَلِيُّ
الاِْعْطَاءِ والْمَنْعِ،إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ).فالإمام ليس من الجامدين الذين يقولون إنّ الفقر نعمة، هو يرى فيه بؤساً وذلاً إجتماعياً، ويرى في الغنى مجداً إجتماعياً.
الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة!
(أَلاَ وإِنَّ مِنَ النِّعَم سَعَةَ الْمَالِ، وَأَفْضَلُ مِن سَعَةِ الْمَالِ صِحّةُ الْبَدَنِ، وَأَفْضَلُ مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ تَقْوَى الْقَلْب، أَلاَ وإِنَّ مِنَ الْبَلاَءِ الْفَاقَةَ، وَأَشَدُّ مِنَ الْفَاقَةِ مَرَضُ الْبَدَنِ، وَأشدُّ مِنْ مَرَضِ الْبَدَنِ مَرَضُ الْقَلْبِ).
إمام يعلم أنّ النبي بشر الفقراء من أُمته بالجنّة على شرط، أن يكون أحصرهم الجهاد عن الكسب، يعلم أنّ الآية الكريمة لم تثن على الفقراء من حيث هو فقر، ولكنها خصته في حالة معينة:(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ )(5).
لو كان الإمام من الجامدين الحرفيين يعد الفقر نعمة، ولم يتنكر له ولم يحاربه ولم يعالج مشكلته لما تقدم معنا في بحث (الإمام ومشكلة الفقر).
أجل لقد كان الإمام عدوا للجمود والحرفية، وقد رأينا من اجتهاداته ما أقره عليه النبي، ورأينا من اجتهاداته ما هو منسجم مع روح الكتاب بعيد عن الجمود والحرفية.
أ ـ في قضية الزانية التي أوجب على من يريد رجمها أن لا يكون مطالباً بحد من حدود الله.
ب ـ في قضية الرجل الذي فجر وهو بعيد عن أهله، فأوجب عليه الحد لا الرجم!
ج ـ في قضية العطشى ! التي كادت ترجم لو لم يتداركها الله بالإمام.
د ـ في قضية المجنونة التي انتزعها من أيدي الموكلين بإقامة الحد عليها.
كان يرى في الدين صداقة الله تعالى، فالمؤمن فرح وكذا كان الإمام علي الذي عيب عليه فرحه في الله.
لقد كان يأتم بابن عمه (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يقول لقومه:
لا تحدّثوني عن أصحابي شيئاً، فإنّي أُحبّ أن أخرج إليكم وأنا منشرح الصدر!
كان إلى فطرته الإنسانية، الخيّرة شديد التأثّر بأخلاق ابن عمه:
جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله حظه من الفيء وأخذ مكاناً في الصف وكان النبي يوزع على الناس، وبعد أن أتمّ التوزيع، اندفع الأعرابي نحوه بخشونة وغلظة، وجذبه من جماع ثوبه وهو يقول:
يا محمد! زدني! فإنّ المال مال الله، وليس مال أبيك.
ابتسم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في غبطة، ورضى عظيم، وقال وهو يهز رأسه: صدقت يا أعرابي! المال مال الله.
امتعض عمر بن الخطاب وقال: دعني يا رسول الله أضرب عنقه!
ازداد وجه الرسول إشراقاً، وازدادت إبتسامته تألقاً وقال:
دعه يا عمر! فإنّ لصاحب الحق مقالاً!
بمثل هذه الروح كان الإمام علي يواجه الأُمور، كان خشناً في ذات الله ولكنّه لم يعرف الجمود عند الحروف والكلمات.
من أجل هذا خسر الإسلام باغتيال الإمام علي شيئاً كثيراً كان في استطاعته أن يهبه للإسلام لو امتدت به الأيّام!
روح علي!
ابتسامة علي
رجولة علي
فهمه للدين ولروح الدين تجعل عليّاً خالداً!
إذا قرأنا ما أثبت الشريف الرضي من عهد الإمام للأشتر رأينا رجلاً فذّاً ومنظّماً ممتازاً، لا تفوته مشكلة من مشاكل المجتمع الذي يعيش فيه ولا يدع مشكلة بلا حل.
1 ـ مشكلة اختيار الحاكم ـ القاضي .
2 ـ مشكلة اختيار القائد وسياسة الجيش.
3 ـ مشكلة طبقات الشعب.
4 ـ مشكلة الفلاحين.
5 ـ مشكلة العمال.
6 ـ مشكلة التجار.
7 ـ مشكلة ذوي الدخل المحدود والمرضى والزمنى.
فإذا كان خريجوا الجامعات الذين يناط بهم حل مشكلة واحدة من هذه المشاكل يفشلون على كثرة أعوانهم ومساعديهم فإنّ الرجل الفذّ، والمنظّم الممتارز بسط كل هذه المحيرات ونظر إليها من جميع زواياها ووصف لها الدواء الصحيح.
والإمام أوّل من عد القضاء والحكم والولاية أمانة وكأنّما هو يذكر كل مسؤول بالآية الكريمة: )إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً). سورة الأحزاب : 71.
وانطلاقاً من الآية الكريمة يقرر للمسؤول في شخص الأشتر ما يلي: إنّ عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة!
أمّا المسؤول فيجب أن يُختبر قبل أن يُولّى:
ثم انظر في أُمور عمالك فولّهم اختياراً، ولا تولّهم محاباة وأثره، فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة. ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك.
وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنّهم أكرم أخلاقاً، وأصحّ أعراضاً، وأقلّ في المطامع إسرافاً، وأبلغ في عواقب الأُمور نظراً.
اُنظر إلى الحكمة في اختيار الرجال، فهو يريدهم من الذين نبتوا في بيوت تأصلت فيها الأخلاق الكريمة، ونحن نلاحظ أُمّة الإنكليز لا تولي مناصب القضاء إلّا لأبناء البيوتات المشهورة في أصالتها، لأنّ الذي نشأ نشأة فاضلة ـ إذا كان عاقلاً ـ يخجل من نفسه أن ينحدر إلى مستوى لا يليق بأصله وتربيته العالية.
الإمام يريد أن يكون المسؤول مصداقاً لقول الشاعر:
عليك منك إذا أخليت مرتقب |
|
لم تأت في السرّ ما لم تات إعلانا! |
ذكر (سلامة موسى) الكاتب المصري المشهور ـ وهو من أكثر الكتّاب والمفكرين نقمة على الإستعمار الانكليزي ـ ذكر أنّ اللورد كرومير(CROMER) أفلين بارينغ ـ عميد انكلترا في مصر كان ينفق في سبيل تثبيت أقدام الإستعمار البريطاني نحو اثني عشر مليوناً من الجنيهات سنوياً، لا يقدّم لأُمته بها حساباً، وأنّه كان يعيش في حياتيه الخاصة بتقشف يشبه تقشف الزاهدين المخلصين مع هذا فإنّه اضطر قبل سفره أن يطلب من أهله اجور سفره برقياً.
فكأنّ الإمام كان يريد أن يكون كل مسؤول في عهده نموذجاً حيّاً لمكارم الأخلاق.
وكما أوجب أن يكون للمسؤول حصانة تقيه عبث العابثين، من ذوي النفوذ، أو ممّن هم فوقه، وأوجب أن تكون أرزاقهم كافية كيلا تشره نفوسهم إلى طمع أو رشوة: (ثم أسبغ عليهم الأرزاق ، فإنّ ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجّة عليهم إن خالفوك، أو ثلموا أمانتك).
أجل كما أوجب لهم ذلك، فرض عليهم الرقابة والتفتيش، ولعلّه أوّل من صنع ذلك، فأصبح عمله سنة في مراقبة المسؤولين:
(ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لاُِمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الاَْمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ.
وَتَحَفَّظْ مِنَ الاَْعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَة اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اكْتَفَيْتَ بِذلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِيانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ).
هذا النموذج الفذّ في أصالة الرأي يؤيده أيضا قوله:
(ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علّته وتقلّ معه حاجته إلى الناس
).بعد أن رسم لنا هذه الصورة النموذجية للحاكم والقاضي تناول القائد:
(فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لله وَلِرَسُولِهِ وَلاِِمَامِكَ، وَأَطْهَرَهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِىءُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَى الاَْقْوِيَاءِ، وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ
الضَّعْفُ).وبعد أن يذكر صفات القائد وما يجب أن يكون عليه من الشجاعة والصبر على المكاره والسماحة والسخاء، والحلم والنجدة والمروءة، ليكون قدوة لجنوده يوصي بما لم يسبقه إليه في السياسة سابق:
)ثم تفقد امورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْلى ذَوُوالْبَلاَءِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ، وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ، إِنْ شَاءَ اللهُ
).أرأيت أبرع من الإمام في علم النفس العملي؟
(ثم اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ مَا أَبْلى، وَلاَ تَضُمَّنَّ(6) بَلاَءَ امْرِىء إِلَى غَيْرِهِ، وَلاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ!).
(وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِىء إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ صَغِيراً، وَلاَضَعَةُ امْرِىء إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ يَلاَئِهِ مَاكَانَ عَظيِماً).
الإمام العظيم يخشى على الرجل المحارب أن يكون موزّع النفس، خائفاً على أهله من غائلة الجوع فاسمع ما يقول:
)وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدو(.
ثم يتقدم الإمام من طبقات الشعب ليحل مشكلة كل طبقة بما يضمن لها الحياة الكريمة ويساعدها على الإستمرار في خدمة المجتمع الإنساني، فالتفت أوّل ما التفت إلى الفلاحين، الفلاحة التي كانت في زمانه دعامة المجتمع لأنّ اعتماد الحياة العامة كان على الفلاحة، فإذا أُصيبت طبقة الفلاحين بشلل شلّ المجتمع بأسره.
فاسمع ما يقول الرجل الفذّ، والمنظّم الممتاز:
(وَتفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صلاَحِهِ وَصلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاََنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ ـ وأهل الخراج هم الفلاّحون ـ ).
ويوصي بهذه الطبقة التي لا يعرف التاريخ أشدّ منها بؤساً وكدحاً، ولا أشدّ منها إيماناً وثقة بالله، لأنّها بعد كل أتعابها تكل أمرها لله، لأنّها عاجزة عن التحكم في عناصر الطبيعة التي لها بعد الله القول الفصل في الخصب والمحل، فهو يوصي بهذه الطبقة خيراً ويحذّره من خراب الأرض الذي هو نتيجة طبيعية لإعواز أهلها، لأنّ خراب الأرض دمار للمجتمع.
(وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الاَْرْضِ مِنْ إِعْوَازِ(7) أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لاِِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَر).
أمّا طبقة العمال، فلم يحوجها الرجل الفذّ، والمنظّم الممتاز، بل نداء الإنسانية العادل إلى ثورة ولا إلى اعتصاب، ولا إلى تعرّض أبنائها للسجون لتنال حقوقها أو بعض حقوقها، بل سنّ لها تشريعاً إنسانياً في منتهى الروعة لأنّه أوجب للعامل حقّا لا يذلّه ولا يحطّم نفسه فأنشأ الإمام بيتاً سمّاه (بيت القصص) يلقي الناس فيهم رقاعهم.
(فَفَرِّغْ لاُِولئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُع، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ِ).
ويتلفّت بعد ذلك إلى التجّار وذوي الصناعات فيوصي بهم خيراً:
(ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِه، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَجُلاَّبُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، وَحَيْثُ لاَ يَلْتَئِمُ(8) النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا، وَلاَ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لاَ تُخْشَى غَائِلَتُهُ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي مََوَاشِي بِلاَدِكَ).
لاحظ هذه الدقّة ـ فإنّهم سلم لا تخاف بائقته ـ هي نظرة الفطرة الصافية التي لا تخون صاحبها : إنّها الحكمة الطبيعية، فالتجار الذين لا يطمحون إلى السلطة لا يريدون أن يتعكّر الأمن، هم عون للسلطة ما دامت السلطة لا تمدّ يدها إلى أموالهم بالإستصفاء والإختلاس.
عجيب أمر هذا الإنسان العظيم، إنّه يدرك عقلية كل طبقة من طبقات المجتمع، يغوص في وجدان كل فئة غوص المتخصّص البارع، فلو أنّنا جمعنا حشداً من ذوي الإختصاص أن يضعوا لنا برامج كل في دائرة اختصاصه، لما جاءونا بمثل ما جاءنا به الإمام:
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى |
|
إلى قول قوم: (أنت بالغيب عالم!) |
ما أليق هذا القول فيك أب
ا الحسن ! رحم الله المتنبي لو رآك ساعة لما ذكر ممدوحه هذا!أمّا ذوي الدخل المحدود والمرضى والزمنى فلا نعرف من اهتمّ بهم من المسؤولين قبل الإمام، فاسمع صرخته المدوية من أجلهم التي تدل على أنّ الإمام كان يقظة للضمير الإنساني:
(ثُمَّ، اللهَ! اللهَ! فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ من َالْمَسَاكِين وَالْـمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظْ لله مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الاِْسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَد، فإِنَّ لِلاَْقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلاَْدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهَ(9) لاِِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ، فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ).
انظر إلى الخلق الإنساني الرفيع! الإمام لا يطلب لهؤلاء الناس سد الحاجة الجسيمة وحدها، بل يوجب الإهتمام بهم، الإهتمام الذي يشعرهم بأنّهم يأخذون حقاً لهم لا منّة ولا حسنة تحطّم نفوسهم وتشعرهم بالذلّ، يريد أن يشعروا أنّهم اخوان لنا لا نلقي إليهم النفايات، ويريد أن يظلّوا على ثقة من أنّ مجتمعهم يرعاهم لأنّه يمنحهم بعض حقهم، وأنّهم ليسوا عالة على أحد! هذا هو الإنسان العظيم، والمنظّم الممتاز، لا تصعّر خدك لهم، وتفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون، وتحتقره الرجال، هذه النظرية الإنسانية الرفيعة يوجب على المسؤول أن يتفقّد أُمور الناس فلا استدعاء ولا شهادة مختار، ولا وساطة وجيه، أنت مسؤول فتفقّد، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أُمورهم، ثم اعمل فيهم بالاعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقّه إليه، وتعهّد أهل الشيم وذوي الرقة في السن ممّن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كلّه ثقيل، وقد يخفّفه الله على أقوام طلبوا العافية فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم!
أجل طالب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بكل هذا، لكنّ الإمام العظيم سبق بنظرته الإنسانية إلى ذلك فأوجب إيجاباً، ولم يطالب به مطالبة!
فللّه أنت أبا الحسن، من رجل فذّ ومنظّم ممتاز!
الهوامش
1 - البيت للمتنبي في رثاء جدته لأُمّه، وقد قال الواحدي: لو أنّه قال كأنّ نفوسهم لكان أوجه لاعادة الضمير على لفظ الغيبة، لكنه قال: كأنّ نفوسنا لأنّهم هم القوم الذين عناهم، ولأنّ هذا أمدح.
2 - الرعد: 17.
3 - سبأ: 28.
4 - الكهف: 11.
5 - البقرة: 273.
6 ـ في ب، د: لا تضيفنّ.
7 ـ الاعواز: الفقر والحاجة.
8 ـ لا يلتئم: لا يجتمع.
9 ـ التافه: الحقير.