الصفحة 37

وحِجر ذلك الصحابي الجريء، الذي وفد على الرسول مع أخيه فأسْلَمَ وحَسُنَ إسلامه، وتقرّب مِنَ الدعوة حتّى كانَ مِنْ أفاضل الصحابة.

وحِجْرٌ ذلك الإنسان الذي قال عنه الإمام أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام):

((يَا أَهْلَ الْكُوْفَةِ: سَيُقْتَلُ مِنْكُمْ سَبْعَةَ نَفَرٍ، هُمْ مِنْ خِيَارِكُمْ بِعَذْرَاء، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ أَصْحَابِ الأُخْدُوْدِ، وَمَا نَقَمُوْا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤْمِنُوْا بِاللهِ الْعَزِيْزِ الْحَمِيْدِ)).

وقال عنه الإمام الحسن (عليه السلام) مخاطِبَاً معاويةَ:

((أَلَسْتَ قَاتِلَ حِجْر وَأَصْحَابِهِ الْعَابِدِيْنَ الْمُجْتَبِيْنَ؟ الَّذِيْ كَانُوْا يَسْتَفْظَعُوْنَ الْبِدَعَ، وَيَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقَتَلْتَهُمْ ظُلْمَاً وَعُدْوَانَا مَنْ بَعْدِ مَا أَعْطَيْتَهُمْ الْمَوَاثِيْقَ الْغَلِيْظَةَ وَالْعُهُوْدَ الْمُؤَكَّدَةَ جُرْأَةً عَلَى اللهِ، وَاسْتِخْفَافَاً بِعَهْدِهِ)).

وتقول عائشةٌ لمعاويةَ بعد أنْ قُتِلَ حِجْر وأصحابه: (يا معاوية، قتلتَ حِجْراً وأصحابه، أَمَا واللهِ لقد بلغني أنَّه سَيُقْتَل بِعَذْرَاء سبعةُ رجال، يغضب اللهُ، وأهلُ السماء لهم).

وَلَعَلَّنَا لو تَتَبَّعْنَا ما قيل عَنْ مَكَانَةِ حِجْر وصلاحه وحسن إسلامه لضاق بِنَا المجال.

وهو إلى جانب هذا مِنْ كبار كِنْدَة، تلك القبيلة العظيمة الضاربة أطنابها في أرض العراق، وفي الكوفة خاصةً، وكانتْ الكوفةُ تتحدّث عَنْ حِجْرٍ، لأنَّهُ أحدُ رِجَالِهَا، ومِنَ المَرْمُوْقِيْنَ


الصفحة 38

بالجمال فيها، فقد كانوا يقولون: إنّ الجمال ينتهي في الكوفة إلى أربعة: أحدهم حِجْر، والى الخير والصلاح، وهو أحد أقطابه.

والكوفة عندما أفاقتْ على أصوات المعارضة للحكم الأموي، تهامستْ مَنْ تكون هذه الجماعة التي ألقت بنفسها في أُتُوْنٍ مِنْ نَارٍ؟ وتهادى إلى سماعها أَنّ حِجْراً، ورفقائه هم أقطاب المعارضة فحسبوا لهم ألْفَ حِسَاب.

وفي مرَّةٍ والمغيرة يخطب الناس في مسجد الكوفة فقال: مَنْ الإمامُ عليّ، ثمّ لَعَنَهُ، ولَعَنَ شيعتَه.

فقام إليه زيدٌ بن أَرْقَم قائلاً: يا مغيرة أَلَمْ تعلم أَنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نهى عَنْ سَبِّ الأَمْوَات، فَلِمَ تَسُبُّ عّلِيَّاً، وقد ماتَ.

وقدم عليه مرةً خطباءُ الكوفة، فقام صعصعة بن صوحان ومدح عليّاً، فأمر المغيرة أنْ يُخْرِجُوْهُ ويقيموه على المصطبة؛ لِيَلْعَنَ عليّاً. فقال صعصعة: لعنَ اللهُ مَنْ لعنَ الله ولعنَ عليَّ ابن أبي طالبٍ. فأَخْبَرَ الجلاوزةُ المغيرةَ بذلك، فقال: أُقْسِمُ بالله لَتُقَيِّدُنَّهُ، فخرج صعصعة فقال: إنَّ هذا يأبى إلاّ علي بن أبي طالب، فالعنوه لعنه الله. فقال المغيرة: أخرجوه أخرج الله نفسه.

وكان المغيرة يقول: إنّ عليًا لمْ يُنْكِحْهُ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ابنَته حبّاً، ولكنّه أراد أنْ يُكافئ بذلك إحسان أبي طالب إليه.

وكأنّ الروايات الكثيرة الصحيحة لمْ تطرق آذان المغيرة ومَنْ على شاكلته، فقد قال رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

 

الصفحة 39

((مَنْ سَبَّ عَلِيَّاً فَقَدْ سَبَّنِيْ، وَمَنْ سَبَّنِيْ فَقَدْ سَبَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ سَبَّ اللهَ، كَبَّهُ اللهُ عَلَى مَنْخَرَيْهِ فِيْ النَّارِ)).

وقال رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

((مَنْ أَحَبَّ عَلِيَّاً أَحَبَّنِيْ، وَمَنْ أَبْغَضَ عَلِيَّاً فَقَدْ أَبْغَضَنِيْ)).

وقال رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

((يَا عَلِيُّ، لا يُحِبُّكَ إلاّ مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُكَ إلاّ مُنَافِقٌ))(1).

وكان حِجْرٌ وغيرُ حِجْرٍ مِنْ أقطاب المعارضة في المجلس، وكان هذا الموقف ثقيلاً عليهم لا يُطاق، فما كان مِنْه إلاّ أَنْ وقف بين الجماهير، وصرخ في وجه المغيرة غاضِباً، بحيث لَفَتَ انتباه الحاضرين أجمع، قال:

(إنَّك لا تدري أَيُّها الإنسان بِمَنْ تُوْلَعُ أَوَ هَرِمْتَ؟ مُرْ لنا بأعْطِيَاتِنَا وأرزاقنا، فإنَّك قد حَبِسْتَهَا عنّا، ولَمْ يكنْ ذلك لك، ولَمْ يكنْ يطمعُ في ذلك مَنْ كانَ قَبْلَكَ، وقد أصبحتَ مُوْلَعَاً بِذَمِّ أمير المؤمنين، وتقريظ المجرمين).

وكثُر اللَغَطُ وصاح الناسُ مِنْ كلّ جانبٍ حتّى اضطرّ المغيرةُ أنْ يهرب إلى القصر؛ ليستر نفسه فيه.

ويسمع معاوية بهذا كله، ويَحْرِقُ الأرمَ مِنْ هذه المعارضة، وصمَّم على مكافحتها، خشيةَ أنْ يسري الأمرُ في غير الكوفة، فأرسل زيادُ ابن أبيه ذلك الرجل القاسي الذي ما دَخَلَ اللينُ قلبَه، ولا عَرِفَ الرحمةَ يوماً.

ــــــــــــــــــــ

(1) راجع عَنْ مصادر هذه الروايات الغدير: 10/678 ـ 280.


الصفحة 40

وفي اليوم الذي وضع فيه زيادٌ قدمَه في الكوفة، أرسل خلف حِجْر بن عَدِي، وكان صديقه مِنْ قبل، وعندما قابله قال له: قد بلغني ما كنتَ تفعله بالمغيرة فيحمله منك، وإني والله لا أحتملك على مثل ذلك أبداً.. أرأيت ما كنتَ تعرفني به مِنْ حُبّ عليٍّ وَوُدَّهُ، فإنّ الله قد سلخه مِنْ صدري، فصيّره بغضاً وعداوةً، وما كنتَ تعرفني به مِنْ بغض معاوية وعداوته، فإنّ الله قد سَلَخَهُ مِنْ صدري فصيّره حبّاً ومودّةً..

وقام حِجْر وخرج مِنْ عِنْدِهِ، وهو يحسب لهذا المجلس ألف حسابٍ، لِمَا يتضمّن مِنْ تهديدٍ وَوَعِيْدٍ مخفيٍّ مِنْ قِبَل الأمير الجديد، الفظّ الغليظ.

واجتمع حِجْر بإخوانه المؤمنين، وبدأوا يضعون خطةً لمحاسبة التيّار الأموي المُتَمَثِّل في الوالي وبِطَانَتِهِ، رغم الكابوس المُرْعِب الذي فَرَضَهُ زيادٌ على الكوفة.

وانتظرتْ المعارضةُ اللحظةَ المناسِبة التي تُعْلنها حرباً شعواء على هذا الوالي القاسي، وتهيّأتْ تلك اللحظة في أصيل يوم الجمعة، والناس مجتمعون في مسجد الكوفة، والأمير لا يَدَعُ مُناسَبةً، أو غير مناسبة إلاّ وشتم فيها عليّاً، وحِجْر ورفاق حِجْر يتحرقون غيظاً، وطالتْ الخطبة، وطال الحديث، والناس بين خائفٍ لا يريد أنْ يُحرِّك ساكِناً، أو مرتزِق يخشى قطع الأمل عنه.

ولكنّ حِجْراً ذلك الرجل الصلِب، الذي لا يهابُ الموتَ


الصفحة 41

دَفَعَهُ واجِبُهُ الديني لأنْ يُنَبِّهَ الرجلَ إلى وقت الفريضة بأنّه قد مَرَّ، وتأخَّرتْ الصلاةُ أكثر مِنْ عادتها.

فقام ووقف وأشار إلى زيادٍ أنّ الصلاة قد تأخّر موعدُها، فلا تَسْتَرْسِل في الخطبة، وتترك الواجب. ولكنّ زياداً لمْ يَعِرْ لحديثه أيَّ أهمِّيّة، بل استمرّ في الخُطبة، ولمْ ينفع معه تذكرةٌ مرّةً وثانيةً، بل استمرّ في الخطبة مِمّا اضطرَّه أنْ يأخُذ حَفْنَةً مِنْ حصى المسجد ويضرب بها وجهَ زيادٍ، ويلتفتُ إلى القوم ويصيح: شاهتْ الوجوه ذُلاًّ، يمنعكم زيادٌ صلاتَكم.

وكان هذا القدر كافياً في إثارة الناس وهياجهم، فقد وقف حِجْر وصلّى، وصلّى الناسُ معه، مِمّا اضطرّ زيادٌ أنْ ينزل مِنَ المنبر ويصلّي خائِباً فاشِلاً.

والى هنا، وقد توسعت الشُقّة بين الطرفين، وكانتْ هذه الحركة كافيةً لإثارة هذا الوالي القاسي، على مُعاقبة هذه المعارضة السافرة، التي يتزعَّمُهَا حِجْرٌ وجماعته.

وشمَّرَ زيادٌ عَنْ ساعديه لِكَبْح جِمَاح حِجْر وجماعته، لِيَقْبُرَها قبل أنْ يستفحِل أمرُها، فأخذ يُطارِد المعارضة، ويتّبع آثارها، وكان في مقدمة المطارَدِيْن حِجْر.

ودعا زيادٌ محمّدَ بن الأشعث، وقال له: لتأتِنِّي به، أو لأقطعنَّ كلّ نخلةٍ لك، وأهدم دورَك، ثُمّ لا تَسلم مِنّي، حتّى أُقطِّعُكَ إرْباً إرْباً.

وَجَدَّ الأشعث وصحبُه في طلب المعارضة، حتّى قبض عليهم، ومنهم حِجْر، وكانَ عددهم اثني عشر رجلاً، وأودعهم بالسجن


الصفحة 42

مُثْقَلِيْنَ بالحديد، ومُصَفَّدِيْنَ بالسلاسل.

ولم تَنْتَهِ الخطةُ إلى هذا الحدّ، فلا ينفع حقد الأمويين أنْ يبقى حِجْر وجماعته رهن السجن فحسب، بل لابُدّ لهم مِنْ صورةٍ ظاهريّةٍ، تبرز عليهم القتل والتلف.

وأشار زيادٌ إلى بعض جلاوزته؛ بأنْ يُنظّموا محضراً يتضمّن موقفَ حِجْرٍ وجماعته مِنَ العهد.

وكان ما أراد، فقد نظّم هذا المحضر بالسرعة، تلبيةً لعواطِف الأمير، وضمّ شهادة الكثير مِنْ وجوه الكوفة، الذين شرى ضميرهم بالمال، وعقيدتهم بالجاه، فتهالكوا على المَحضَر مُوَقِّعِيْنَ؛ لينالوا جزائهم مِنْ زيادٍ، والرضا عنهم مِنْ معاوية.

وألقى زيادٌ نظرةً على المَحضَر، فلمْ يعجبْه، فالتفتَ إلى مستشاره عمرو بن حريث قائلاً:

ما أظنُّ هذه شهادةً قاطعةً، وأُحب أنْ تكون الشهادة أقوى وأشد.

لقد كتبوا المَحضَر، وماذا كتبوا؟ فقد خَطَّتْ أقلامُهم ما نَصُّهُ:

(إنّ حِجْراً جمع إليه الجموع، وأظهر شَتْم الخليفة، وعَيْب زيادٍ، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين، وزعم أنّ هذا الأمر لا يصح إلاّ في آل أبي طالب، ووثب بالمصر، وأخرج عاملَ أمير المؤمنين، وأظهر عُذْرَ أبي تراب، ومنع الذمَّ عليه، والبراءة مِنْ عدوِّه وأهل حربه، وإنّ هؤلاء الذين معه همْ رؤوس أصحابه، وعلى مثل رأيه).


الصفحة 43

كانتْ هذه الشهادة. ولكنّ زياداً لمْ يرَ في هذه الكلمات كفايةً لتحقيق مأربه. وأظهر الغضب في وجه أحد مرتزقته، وهو أبو بردة بن أبي موسى، وتَلَكَّأَ الرجلُ وتَلَعْثَمَ، واضطرب مثل السعفة في مهبِّ الريح، وتقدّم لسيِّدِهِ يكسب رضاه، فكتب:

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

 

   (هذا ما شَهَدَ عليه أبو بردة بن أبي موسى لله ربّ العالمين، شَهَدَ أنّ حِجْر بن عَدِي خلع الطاعة، وفارق الجماعة، ولعن الخليفة، ودعا إلى الحرب، والفتنة، وجمع إليه الجموع؛ يدعوهم إلى نكث البيعة، وخلع أمير المؤمنين معاوية، وكفر بالله).

والى هنا قفزتْ البسمةُ على وجه زيادٍ، لقد رضا بهذا الأُسلوب وتهافتْ الموقِّعون يرسمون تواقيعهم على هذا المَحْضَر الخطير، حتّى بلغ عددهم ما يزيد على السبعين وفي طليعتهم: عمر بن سعد بن أبي وقّاص وشمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وزجر بن قيس، وكلهم مِنْ أعيان الكوفة.

   كان زياد يعتقد أنّ هذا المحضر يَحدّ مِنْ نشاط حِجْر، ويوقف ثورته على الحكم الأموي، وعرف غير حِجْر قصةَ المَحضَر وخطورته، ولكنّ هذا العبد الطاهر كان كالحديد، لا يلين ولا يتأثّر مِنْ كلّ هذه الأساليب، التي ستكون له ـ بعد زمانٍ ـ حبلَ المَقْصَلَةِ.

   ولا نستغرب مِنْ حِجْر صموده في وجه الطغيان، ولا نستعظِم


الصفحة 44

عليه صلابته، فقد سجل التأريخ له حياةً ملؤها البطولة، وهو الذي وقف في يوم الجمل، وصفّين، والنهروان، كما أنّه كان مع الجيش الإسلامي الذي فتح الشام إلى جانب المسلمين.

   ودبّ اليأس إلى زياد عنْ استمالة حِجْر، وصمّم على تنفيذ خُطّته التي رسمها، فقد قبض على مجموعةٍ تضمُّ حِجْر وأُخوته في الجهاد، وأرسلهم إلى معاوية، ومعهم المَحضَر الذي يُثبِت نَكْث البيعة للخليفة الأموي.

   وكان زياد قد رحَّل هذه الصفوة إلى الشام على جِمالٍ غير موطَدة، وأوصى المُكلّفين بهم أنْ يَصُبّوا على هذه المجموعة أنواع التعذيب، ووصلتْ القافلة إلى (مرج عذراء) في الشام، وقد أنهك السير أجسامهم.

   وعلم معاوية بقدومهم: وكان في مجلسه، فداخله شيءٌ مِنَ الزهو، ولكنْ سرعان ما طفتْ على وجهه ظِلال غَيْمَة حُزْنٍ، تُرى ماذا خالج الطاغية؟. ولمّ جبهته بتأثّرٍ، وهو لا يرفع نظره عَنِ الكتاب ومَحضَر الشهود، وطال به التفكير، فحاول أحد البِطانة الذي رافق الأسرى مِنَ الكوفة تبديد هذه السحابة مِنْ وجه سيِّده فالتفتَ اليه قائلاً، وهو يَفْتَعِل ظِلّ ابتسامةٍ:

   يا أمير المؤمنين لقد أوصانا واليك زياد بأنْ نُضَيِّق الخناق على هؤلاء المسجونين، الذين خلعوا طاعة سيِّدنا معاوية في الطريق فأريناهم أنواع العذاب، وأثقلناهم بالحديد، وأتعبنا أجسامهم بالسفر، أَتُرِيدُ يا أبا يزيد أنْ تراهم، وقد أنزلناهم في خَرِبَة لا تقيهم مِنْ حَرٍّ أو بَرْدٍ، وسنذهب لجلبهم وإدخالهم عليك.


الصفحة 45

   وهنا أفاق معاوية مِنْ شِبْهِ ذُهُولٍ، والتفتَ إلى الكوفيّ وهو يَهْذر على هذا الجمع، لِيُدَلِّل كيف أدّى أمر سيِّده زياد، وصاح به كفى. كفى. لا أُريد أَنْ أرى حِجْر أو جماعته، دعوهم في سجنهم وأبعدوهم عَنْ وجهي لأرى فيهم رأيي.

   كان معاوية يتمتّع بشيءٍ مِنَ الدهاء والتفكير، وكان يعلم مكانةَ حِجْر، وصحابته عند المسلمين، وهو مِنْ أفاضل صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وما هي مكانته كانتْ عند الإمام علي (عليه السلام)، وما يتمتّع به مِنْ منزلةٍ عند المسلمين، وهو إذا أقدم على قَتْله فَمِنَ المؤكّد أنّ عملَه هذا سيُحدِث ردّ فعلٍ عكسيٍّ عند عامّة الناس، عَدَى المرتزِقة مِنْ حوالَيه التي تُحَبِّبُ له فعلته؛ لتغنم منه بالكثير مِنَ المال.

   والتفتَ إلى مُقَرَّبيه، والغضب بادٍ على قسماته، وقال: لقد فعلها ابن مرجانة، تخلّص مِنْ أمرهم، وألقاهم علينا.. وعاد إلى تفكيره ووجومه، وفجأةً انتفض، وكأنّه أفاق مِنْ غَفْوَةٍ وصاح بِكَاتِبِهِ: خُذْ القلم والقِرطَاس واكتب لزياد:

   (أمّا بعد فهمتُ ما ذكرتَ مِنْ أمر حِجْر وأصحابه، والشهادة عليهم، فأحياناً أرى أنّ قتلهم أفضل، وأحياناً أرى أنّ العفو عنهم أفضل مِنْ قَتْلِهِم، فماذا ترى والسلام).؟

   ووصل الكتاب إلى والي الكوفة، وكاد يُصْعَق مِنْ هول الدهشة، لقد أرسلهم ليتخلّصَ منهم، ويأبى معاوية أنْ ينفذ فيهم أمره، كان ينتظر أنْ يُفْضَّ فيهم أمره، كان ينتظر أنْ يفضّ الكتاب، ويقرأ خبرهم فإذا


الصفحة 46

بمعاوية يقول: أنا في حَيرة مِنْ أمرهم، فكتب إلى معاوية عاجلاً:

   (أمّا بعد: فقد قرأتُ كتابك، وفهمتُ رأيك في حِجْر وأصحابه، فعجبتُ لاشتباه الأمر عليك فيهم، مع شهادة أهل مصرهم عليهم، وهم أعلم بهم، فإنْ كانتْ لك حاجةٌ في هذا المصر، فلا تَرُدَّنَّ حِجْراً وأصحابه إليّ، والسلام).

   وقد لمس زيادٌ نقطة الضعف في معاوية، فثبّت في كتابه قوله (فإنْ كانتْ لك حاجةٌ في هذا المصر) ويكفي أنّ معاوية إذا قرأ هذه العبارة سينهار، وينفذ فيهم أمره..

   وكان كما اعتقد، فما أنْ وقع نظر معاوية على هذه الفقرة مِنْ كتاب زيادٍ حتّى اربَدّ وجهُه واضطرب، ثمّ صاح لا حاجة بالإطالة في أمرهم اقتلوهم، اقتلوهم إلاّ أنْ يتبرّأوا مِنْ أبي تُراب.

   وهرعتْ الجلاوزة إلى (مرج عذراء)، واستقبلهم القوم بقلوبٍ كلها الإيمان، وعقيدةٍ صادقةٍ يبعثها الإخلاص.

   أُخِذ حِجْر وجماعته إلى (مرج عذراء) وسيوف البغي مسلولةً على رؤوسهم، حتّى وصلوا تلك القرية، فالتَفَتَ حِجْر إلى الأشجار الباسقِة، والخضرة اليانِعَة، التي تحيط بهذه القرية فحدثتْه نفسه بأشياء وأشياء، وسأل عنها فقالوا له: (مرج عذراء) فالتَفَتَ إلى أصحابه، وقد ارْتَسَمَ عليهم العَجَبُ وقال: الحمد لله، أَمَا والله إنّي لأَوّلُ مُسلمٍ ذَكَرَ اللهَ فيها وسبَّحَهُ، وأَوّلُ مُسلِمٍ


الصفحة 47

نَبَحَ عليه كلابُها في سبيل الله، ثمّ أنا اليوم أُحْمَل إليها أيضاً مُصَفَّداً بالحديد.

   ثم قال لإخوانه: قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((يَا حِجْرُ تُقْتَلُ فِيْ مَحَبَّةِ عَلَيٍّ صَبْرَاً، فَإذَا وَصَلَ رَأْسُكَ إِلَى الأَرْضِ مَادَتْ وَأَنْبَعَتْ عَيْنُ مَاءٍ، فَغَسَلَتْ الرَّأْسَ)).

   ومضى حِجْر يُحدّث إخوانه في العقيدة، عَنْ فضيلة الجهاد والصبر على الموت، والمثابرة على المجاهرة في الحقِّ، واسْتَمَعَ الصفوةُ الطيِّبون حديثَ حِجْر، وقلوبهم تشعُّ بالإيمان، وتنبضُ بالعقيدة، وهم لا يبالون أنْ وقعوا على الموت، أو وقع الموت عليهم، ما داموا على الحقِّ.

   وأقبل جلاوزة معاوية، وسيوفهم مسلولةٌ، تقطُرُ حِقداً وبُغضاً، واستقبلهم القوم بصدورٍ رَحِبَةً، ووجوهٍ ضاحكةً مستبشِرةً.

   وهلعتْ عيونُ الحاقدين، وهم يرَونَ هذه الصفوة لا يرهبها نذيرُ الموت، ولا يأخذ بِلُبِّهِمْ لَمْعُ السيوف، وإذا كان الكبار مِنْهم لا يهابون القتل في سبيل العقيدة والكرامة، فهذا أمرٌ غيرُ مُسْتَغْرَبٍ، ولكنَّ الذي يجلب الأنظار هو التفاني الرائع، الذي تجسّد في هذه المجموعة، وحتّى في الصغار أيضا، وتَقَبُّلُهُمْ للموت وهم في عُمْرِ الورود، تَعْبِقُ أشذاؤهم وتَشُعُّ أوراقهم.

   فقد كان مع هذه الصفوة التي أرسلها زياد لقمةً لسيوف الأمويين، شابٌّ قد لَمّعَتْ وجْنَتَيْهِ حمرةُ الشباب ونضارةُ الصبا، ذلك هو (همام) فَلَذَة كَبِد حِجْر، فقد لازم أباه بأمرٍ مِنْ زياد، أصابه قسطٌ مِنَ العذاب مِمّا أصاب أباه وإخوانه. وقابل الفتى


الصفحة 48

هذه الأيام القاسية كما يتحمّلها أيّ رجلٍ كبيرٍ، يحمِل في جَنْبَيه عقيدةً وإيماناً.

   وعرض الجلاوزة المرتزِقة أمر معاوية بالقتل على هذه الصفوة، فلم تطفوا على قسماتهم علائم الدهشة والاستغراب، وكأنّهم على موعدٍ مع الحديث، ثم عرض الجلاوزة عَرْضَ معاوية عليهم أَنْ يعفيهم عَنِ القتل، إنْ تَبَرَّؤوا مِنْ موالاة عليّ بن أبي طالبٍ.

   إنّ معاوية لا يهمّه أمر الدين، بِقَدْرِ ما يهمّه البراءةُ مِنْ موالاة عليٍّ، فحقده على بيت رسول الله حقدٌ قديمٌ، تثيره نعرات الجاهليّة؛ لذا قرّر أنْ يطلق سراح كلَّ مَنْ يتبرّأ مِنْ عليٍّ، إذْ جعل المقياس الديني هو البراءة مِنْ ابن عمِّ رسول الله وسبِّه، والنيل منه ومِنْ آله. وكأنّه تناسى معاوية ما رُوِيَ عَنِ الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ كلَّ مَنْ شَتَمَ واحداً مِنْ أصحابه، فهو دجّال، وعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين.

ولكنّ هذا الرجل الحاقِد، كان لا يستقر حتّى يَبُح في شتم عليٍّ (عليه السلام) لأَنّه لا يطيق اسم عليٍّ، وذِكْرَهُ.

   فقد نقلتْ المصادر: أنّ معاوية سمع مرّة أَنّ عبد الله بن العباس بن عبد المطلب قد رُزِقَ ولداً، فهنَّاه، وسأله عَنِ اسمه وكنيته؟

فقال له: سَمَّيْتُهُ عليّاً، وكنيته أبو الحسن..

   فأَرْبَدَ وجه معاوية، وغضب غضباً شديداً، والتفتَ إلى عبد الله بن العبّاس، وهو يصيح، لا تجمع علينا الاسم والكنية، إنْ كان ولابدّ، فاحذف أحدها.


الصفحة 49

   هكذا كان برغم الأمويين مع عليٍّ وآل عليّ، وهو يقول: حتّى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير.

   فعرض الجلاوزة طلبهم على هؤلاء المحكومين بالإعدام وخابتْ الظنون، وتهشّمتْ الآمال، فقد أنكر حِجْر وجماعته هذا الطلب منهم، وأمطروهم بوابلٍ مِنْ شتْمِ الأمويين.

   ولكن رُسُل معاوية قد تعلّموا مِنْ سيِّدهم المباغتةَ والمجامَلةَ، فلمّا لمْ يَرَوا بُدَّاً مِنْهم أمروا حِجْراً، وإخوانه بأنْ يحفروا لأنفسهم قبوراً.

   وطفحتْ البشرى على وجه هذا العبد الصالح، وشكر الله على هذه النعمة، وما أنْ أَتَمّ الجميع عملهم مِنْ حفر قبورهم، اعتقد جماعةُ معاوية أنّ هذا الأمر سيبعث فيهم حبّ البقاء، فكرّروا عليهم عرض معاوية بالبراءة مِنْ عليٍّ فسخِروا مِنْهم، وضحكوا عليهم.

   وقدّموا لحِجْرٍ، وصحبه، وولده أكفانهم فلبسوها استعداداً للموت، وصلّوا ركعتين، وما أنْ أتمَّ حِجْرٌ حتّى تقدّم له السيّاف  ـ وولده يقف قبالته ـ لا يدريان مِنْ سيكون أوّلهما ضحيةً، الأب، أم الابن، وقبل أنْ يرفع السيّاف يدَه أشار إليه حِجْر، فسأله أحدهم عمّا يريد؟ قال له حِجْر: إذا كنتَ قد أمرتَ بقتل ولدي أمْ لا.. قال: نعم إلاّ إذا تبرّأ مِنْ عليٍّ، فالتفتَ حِجْر إلى السيّاف، طالِبَاً أنْ يُنفِّذ الحكم بولده قبله، وكان ما أراد.

   كلُّ شيءٍ يمكن التغلّب عليه إلاّ العاطفة، وكلُّ عاطفةٍ يمكن السيطرة عليها، إلاّ عاطفة الأُبوّة والبنوّة. ليس مِنَ السهل أنْ


الصفحة 50

يرى الأَبُ فَلَذَةَ كَبِدِهِ يَلْتَهِمُهُ السيف، وهو راضٍ بهذا، ولكنّ حِجْر فضّل هذا الموقف، وسيطر على أعصابه، وتغلب على عاطفتِهِ في سبيل عقيدته. لماذا؟

   لقد سُئِلَ حِجْر، وهو في خِضَمّ الصراع النفسي عَنْ هذا الدافع الداخلي الذي حدا به إلى مثل هذا الطلب العنيف، فأجاب بكلّ صلابةٍ وإيمانٍ: (خفتُ أنْ يرى ولدي هولَ السيف على عنقي، فيرجع عَنْ ولاية عليٍّ (عليه السلام) فلا نجتمع في دار المُقام، التي وعد الله بها الصابرين).

وتدحرج رأس الفتى أمام عين والده، وتلوّى الجسد اليافِع يبحث في الأرض مِنْ ثُقْل المأساة، والأب الصابر يرمق هذا المنظَر المؤلِم، ويرفع يديه للسماء شاكِراً هذه النعمة. نعمةَ الجهاد والصبر.. إنّ ولده ذَهَبَ، ولمْ يتقاعس عَنْ عقيدته، ويزحَف المُثْقَل بالحديد إلى الرأس، ينفض عنه الترابَ والدمَ، ويطبع على جبينه قبلةً، يُوْدِعُهَا كَلِمَاً في أعماق الإنسان مِنْ لوعةٍ (بيّض الله وجهك كما بيّضتَ وجهي عِنْد رسول الله).

ما أثبت العقيدة عند حِجْر، وما أركزها في نفسه. منظرٌ داميٌّ تنهار أمامه العواطفُ البشرية، ويتهادى على عتبته الكبرياء، ولكنّ حِجْراً مِنْ نوعٍ آخر، يتمتّع بقابليّةٍ عاليةٍ تكاد تكون فريدةً، لمْ يتمتّع بها إلاّ الصالحون مِنْ عباد الله، واطمأنّ الرجل بعد هذا، وقفزتْ على ثغره ابتسامة الإيمان، وانجابتْ عَنْ صدره ظلمةٌ، كانتْ تنخَر في أعماقه. وجلاوزة معاوية على