الصفحة 20
وَلْيرفع شعارَ (يا لِثَأْر عثمان) وليكنْ مِنْ قميصه المُدْمَى ما يُعْلِنُ الحربَ ويُلْهِبُ الفتنةَ، ويُثِيْرُها عِجَاجَةً تأكلُ الأخضرَ واليابسَ.
وفِعْلاً كانَ مَا أَرَاد..
وعمّار، وأَمْثَال عمّار لمْ يكونوا بالسُذَّج ولا المُغَفَّلِيْنَ، فقد عَرِفُوا الحقيقةَ الكامِنَةَ وراء ثورةِ طاغِيَةِ الأَمَوِيِّيْنَ، فالحقد الدفِيْن بين الهاشميين والأمويين لمْ تخمدْهُ الأَيّامُ، فهي جذوةٌ تأْكُلُ قلوبَ الحاقِدِين، وتَمْتَصُّ رُؤَاهُ.
وإذا كانتْ (صفينٌ) بعد حَفْنَةٍ مِنَ الأيّام، مرّت ثقيلةَ السير مَكْدُودَةَ الضوء، فقد تَفَتَّحَتْ الجِرَاحُ شموخاً، وَتَعَمْلَقَ الجِهاد عُنْفَاً.. وليس غير السيف بين هذين المُعَسْكَرَيْنِ حَكَمَاً.
ويَقِفُ عمَّارٌ ـ وهو الرجل الذي واكَبَ الأحداث، وعرف مقاصِدَها بِكُلِّ رَوِيَّةٍ ـ وسط قومه خاطِبَاً، ومُوَجِّهَاً:
(انهضوا معي عباد الله إلى قومٍ يزعمون أنّهم يطلبون بِدَمِ ظالمٍ، إنّما قتله الصالحون المُنْكِرُونَ للعُدْوَان، الآمرون بالإحسان. فقال هؤلاء الذين لا يُبَالُونَ إِذا سَلُمَتْ لهم دنياهم ولو دُرِسَ هذا الدين: لِمَ قَتَلْتُمُوه؟ فقلنا: لإحداثه، فقالوا: إنّه يُحْدِثُ شيئاً، وذلك لأنّه مَكَّنَهُم مِنَ الدنيا، فهم يأكلونها ويَرْعَوْنَهَا ولا يُبَالون لو انْهَدَمَتْ الجبالُ.
والله ما أظنُّهم يطلبون بِدَمٍ، ولكنّ القومَ ذاقوا الدنيا فاسْتَحَلُّوْهَا، واستمرؤها وعلموا أنّ صاحب الحق لو وَلِيَهُم لَحَالَ بَيْنَهُم وبين ما يأكلون ويَرْعَونَ مِنْها.
الصفحة 21
إنّ القوم لمْ يَكُنْ لهم سابقةٌ في الإسلام يستحِقُّون بها الطاعةَ والولايةَ، فَخَدَعُوا أتباعهم بأَنْ قالوا: قُتِلَ إمامُنَا مَظْلُومَاً، لِيَكُوْنُوا بِذلك جَبَابِرَةً وملوكاً، تلك مكيدةٌ قد بَلَغُوا بها ما تَرَوْنَ، ولولاها ما بَاَيَعُهم مِنَ الناس رجلٌ..
اللهمَّ إنْ تَنْصُرْنَا فَطَالَمَا نَصَرْتَ، وإنْ تَجْعَل لَهُمُ الأَمْرَ فَادَّخِرْ لهم بِمَا أَحْدَثُوا لِعِبَادِك العذابَ الأَليم...
ثمّ سَكَتَ بُرْهَةً، وَدَنَا مِنْ عمرو بن العاص، فقال: يا عمرو بِعْتَ دِيْنَك بمصر، فَتَبَّاً لَكَ! وطالما بَغَيْتَ للإسلام عِوَجَاً..
ثمّ قال: (اللهُمَّ إنّك تَعْلَمُ أَنِّي لو أَعْلَمُ أَنَّ رِضَاكَ في أَنْ اقْذِفَ بنفسي في هذا النهرِ لَفَعَلْتُ..
اللهمّ إنَّك تعلمُ أَنّي لو أعلم أَنَّ رِضَاك أنْ أَضَعَ ظُبَةَ سيفي في بَطْني، ثمّ انْحَنِي عليه حتّى يخرج مِنْ ظَهري لَفَعَلْتُ..
اللهمّ إنِّي أعلمُ مِمَّا عَلَّمْتَنِي أَنِّي لا أَعْمَلُ عَمَلاً صالِحاً هذا اليوم هو أرضى مِنْ جِهاد هؤلاء الفاسِقين، ولو أَعْلَمُ اليوم عملاً هو أَرْضَى لك مِنْهُ لَفَعَلْتُه)..
ثمّ صَفّ جيشّه، ورفع رايتَه، وهو يُرْسِلُ نَظَرَاتِهِ في جيش الشام، والقوم حولَه مُنْصِتُونَ، ويَهُزُّ رَايَتَه، وَيَصِيْحُ ، وكَرِيْمَتُهُ البيضاء تَزِيْدُ في هَيْبَتِهِ:
(والّذِي نفسي بِيَدِهِ.. لقد قَاتَلْتُ بهذه الراية مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وها أَنَا ذَا أُقَاتِلُ بِهَا اليوم...
والّذي نفسي بِيَدِهِ.. لو ضربونا بِأَسْيَافِهِم، حتّى يَبْلُغُوْنَا سَعَفَاتِ هَجَرٍ، لَعَلِمْنَا أَنّا على حَقٍّ، وأنَّهُم على بَاطِلٍ).
الصفحة 22
وزَحَفَ إلى الحرب، يَرِفُّ بِرَايَتِهِ، وهو يجول وسطَ المعارِك، ويقول: إنَّ يومي لَقَرِيْبٌ..
ولَمْلَمَتْ الشمسُ أبْرَادَهَا على صورةٍ عنيفةٍ مِنَ الجهاد بين الحق والباطل في صِفِّيْن، ويسقط عمّارٌ مُضَرَّجَاً بدمائه، مُتَوَّجاً بجراحِهِ، وهو يطلب الماء، وَقُدِّمَ إليه ضَيَاحٌ مِنْ لَبَنٍ..
فصاح عمّارٌ، وهو في غَمْرَةِ الفرحة ـ وَإنْ كانَ يُصَارِعُ المَوتَ ـ :
(صدق حبيبي رسولُ الله، آخر شرابي مِنَ الدنيا ضَيَاحٌ مِنْ لَبَنٍ، ما أسعدني، وأنا أموتُ على الحقِّ، وعدوِّي على الباطِل).
وتَقِفُ أَنْفَاسُ البطلِ المجاهدِ في ساحةِ الجهادِ. ويَخْتِمُ الجُنْدِيُّ الباسِلُ حياتَه بينَ يَدَي العقيدة، رَبَطَ حاضِرَهَا بِمَاضِيهَا وطَرَّزَ سِلْسِلَتَهَا الزمنيّة بِكُلِّ ما يُشَرِّفُهَا.
بالأَمْسِ بَدَأَ الكفاحُ بين يَدَيْ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويختم اليوم البطولةَ بين يَدَيْ عَلِيٍّ (عليه السلام).. وهكذا تلتقي السلسلة، وهي وحدةٌ تُمَثِّلُ رائِعَ البطولةِ، وصدقَ الفِدَاءِ.
وتبقى ذِكْرَاهُ الغاليةُ ـ في البطولة والتضحية ـ نورٌ يستضيءُ به السائرون في رَكْبِ الكفاح عَنِ العقيدةِ.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ). صدق الله العلي العظيم.
مَالِكُ الأَشْتَر
الصفحة 24
الصفحة 25
كانَ مَجْلِسُ معاوية في هذه الليلة على غيرِ انتظامٍ، فقد كانتْ تسودُهُ الكآبةُ، ويبدو على معاوية شيءٌ مِنَ الاضْطِرَاب، وحَوْلَه أشياعُهُ وَمُرْتَزِقَتُهُ، وقد طفح عليهم الوُجُوْمُ، لقد أَحْكَمُوا الخُطَّةَ في إثارة الناس في مصر على وَالِي الإمام عَلِيٍّ (عليه السلام) محمّد بن أَبي بكر، بِحُجَّةِ الثأْرِ إلى دَمِ عثمان، حتماً سينتهي الأَمرُ بِقَتْلِ الوالي.
لكنَّ النتيجةَ لمْ تُسْعِدْ معاويةُ بِقَدَرِ مَا أَرْبَكَتْهُ، فهو وإنْ كان قد خَطَّطَ لِقَتْلِ أَحَدَ السواعِد الشامِخَة لِعَلِيٍّ (عليه السلام) محمَّد بن أبي بَكْر، لكنْ ما ترامى إليه مِنَ الخبر أَخَذَ يَقَضُّ مَضْجَعَهُ.
فقد عرف أَنّ عليّاً (عليه السلام) قَرَّرَ إرسال مالك الأَشتر إلى مصر ليحميها مِنْ سَطْوَةِ مُعَاوِيَةَ وكتب إليه كتاباً جاء فيه:
((أَمَّا بَعْدُ فَإنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّيْنِ، وَأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الأَثِيْمِ وَأَسُدُّ بِهِ الثَغْرَ المَخُوْفَ، وَقَدْ كُنْتُ وَلَّيْتُ مُحَمَّد ابْنَ أَبِيْ بَكْرٍ مِصْرَ (فَخَرَجَتْ عَلَيْهِ خَوَارِجٌ..)).
ضَاقَ معاويةُ بِهَذَا البِنَاءِ؛ وَجَمَعَ أَهْلَ الرأْي مِنْ أَصْحَابِهِ؛ لِيُوَحِّدُوا رَأْيَهُم في هذا الموضوع، فإنَّ تَوْلِيَةَ الأشتر أَهَمُّ بكثير مِنْ أَمْرِ محمّد.. وهو بَعْد لَمْ يَغْرُبْ عَنْ بَالِه مَوْقِفُهُ أَمْس في صِفِّيْن وبلاءُه، وتضحيتُهُ، وتَفَانِيْهِ في سبيل الحقِّ.
كما لَمْ تَغْرُبْ عَنْه خطبتُهُ في ذلك اليوم، وهو على فَرَسٍ أَدْهَم
الصفحة 26
وقد استعد للقتال، وَبَعْدَ أَنْ حَمَدَ اللهَ وأَثْنَى عليه قال:
(ثُمَّ قد كانَ مِمَّا قضى اللهُ سبحانَهُ وقَدَّرَ، أَنْ سَاقَتْنَا المَقَادِيْرُ إلى أهلِ هذه البلدةِ مِنَ الأرض، فَلِفْتَ بيننا وبينَ عدوَّ اللهِ وعدوِّنَا، فنحنُ بحمدِ اللهِ ونِعَمِهِ وَمَنِّهِ وَفَضْلِهِ، قريرةَ أَعْيُنِنَا، طيِّبَةً أَنْفُسِنَا، نرجو بقتالهم حُسْنَ الثواب، والأمنَ والعِقَابَ، مَعَنَا ابنُ عَمِّ نَبِيِّنَا، وسيفٌ مِنْ سيوفِ اللهِ عَلِي بن أبي طالبٍ، صلى مع رسول الله، لمْ يسبِقْه إلى الصلاة ذِكْرٌ، حتّى كانَ شيْخَاً لمْ تكنْ له صَبْوَةٌ، ولا نبوةٌ، ولا هَفْوَةٌ، ولا سِقْطَةٌ. فقيهٌ في دينِ اللهِ تعالى، عالِمٌ بحدودِ اللهِ، ذو رأي أَصِيْلٍ، وصبرٍ جميلٍ، وعفافٍ قديمٍ. فاتَّقُوا اللهَ، وعليكم بالحَزْمِ والجِدِّ. واعلَمُوا أَنَّكم على الحقِّ، وأَنَّ القومَ على الباطل، إِنَّمَا تُقَاتِلُوْنَ معاويةَ، وأَنْتُمْ مع البَدْرِيِّيْنَ، وقريبٌ مِنْ مِائة بَدْرِي سِوَى مَنْ حولَكم مِنْ أَصْحَابِ محمّد، أكثرُ ما مَعَكُمْ راياتٌ قد كانتْ مع رسولِ اللهِ، فما يَشُكُّ في قِتَالِ هؤلاء إلاّ مَيِّتُ القلبِ، أنْتُمْ على إحْدَى الحُسْنَيَيْن: أَمَّا الفتحُ، وأَمَّا الشهادةُ، عَصَمَنَا اللهُ وَإِيّاكُمْ بِمَا عَصَمَ به مَنْ أَطَاعَهُ واتقَاهُ، وأَلْهَمَنَا وإيّاكُم طاعتَه وتَقْوَاهُ، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم).
أبداً لَمْ تَغْرُبْ عَنْ ذهن معاويةَ هذه الخطبة، وأمثالها، تلك التي هَدَرَ بها ابن الأَشتر مَحَرِّضَاً المسلمين، على معاويةَ ودافِعَاً على قِتَالِهِ، لأَنّه يعتقد جازِمَاً أنّه على الحقِّ، وأَنّ مَنْ يُعَادِي إمامَه على الباطلِِ.
الصفحة 27
مالِكُ الأشتر مِنْ الأَفراد القلائل الذين حملوا رايةَ الجهاد بإخلاصِ عقيدةٍ ضدَّ معاويةَ، ولمْ يكنْ بالجديد هذا مِنْه. فهو مِمَّنْ شايَعَ عَلِيَّاً، وصَاحَبَهُ، واختَصَّ بِهِ مِنْ يومِهِ الأَوّل.
وهو الذي يتحدّث في يومٍ مع أخيه، في عقيدة عمّارٍ بنِ ياسرٍ في فضل عليٍّ، وَيَذْكُر قَوْلَ الرسولِ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيه.
((يَا عَلِيُّ: لا يَعْرِفُ اللهَ إلاّ أَنَا وَأَنْتَ، وَلا يَعْرِفُنِيْ إِلاّ اللهُ وَأَنْتَ، وَلا يَعْرِفُكَ إِلاّ اللهُ وَأَنَا)).
وهذان المؤمنان هما خَيْرُ مَنْ وَعَى، وأدركا هذا الحديث وتَفَهَّمَا حقيقتَه، وآمَنَا به.
وهو إلى جانب هذا كما وَصَفَهُ الواصفون:
فارِسٌ لا يُقَابَل، وشجاعٌ أَرْهَقَ مُبَارِزِيْهِ، ومُحَنّكٌ يَخضعُ له أهلُ الرأي، وجَلَدٌ لا يُدَانِيْه جَلَدٌ، ومؤمنٌ بأمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام) إلى درجةِ الوثوقِ، وشديدُ التَحَقُقِ بِوَلائِهِ ونَصْرِهِ لَهُ.. حتّى أَنّ الإمام نفسَه قال بعد موته:
((رَحِمَ اللهُ مَالِكَاً، فَلَقَدْ كَانَ لِيَ كَمَا كُنْتُ لِرَسُوْلِ اللهِ ))(صلّى الله عليه وآله وسلّم)..
وهو كما وصفه الإمامُ لأَهْلِ مصر:
((فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْدَاً مِنْ عِبَادِ اللهِ، لا يَنَامُ أَيّامَ الْخَوْفِ وَلا يَنْكَلُ عَنِ الأَعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَوْعِ، أَشَدُّ عَلَى الفُجَّارِ مِنْ حَرِيْقِ النَّارِ.. فَاسْمَعُوْا لَهُ وَأَطِيْعُوا أَمْرَهُ، فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوْفِ اللهِ، لا كَلِيْل الظبة، وَلا نَابِيَ الضَرِيْبَة، فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ
الصفحة 28
تَنْفُرُوا فَانْفُرُوا، وَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقِيْمُوا فَأَقِيْمُوْا، فَإنَّهُ لا يُقَدِّمُ وَلا يَحْجُمُ، وَلا يُؤَخِّرُ، وَلا يَقْدِمُ إِلاّ عَنْ أَمْرِيْ، وَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِيْ لِنَصِيْحَتِهِ لَكُمْ، وَشِدَّةِ شَكِيْمَتِهِ عَلى عَدُوِّكُمْ..)).
وأَقْبَلَ السَّحَرَ، وَعَيْنَا معاويةَ لَمْ تغمضْ، يرتاعُ كُلَّمَا مرَّ على ذِهْنِهِ شيءٌ مِنْ أقوال عليٍّ في حقِّ الأَشْتَر، ويَلْتَاعُ، كلَّما تذكّر قولاً للأَشتر في حَقِّ عليٍّ، وهو ما بين هذا وهذا قَلْبٌ جَازِعٌ وفِكْرٌ مُتَمَزِّقٌ.
وكلّما حاول السِّمَارُ أَنْ يُخفِّفُوا مِنْ قَلَقِهِ، فَشِلَتْ المحاولاتُ وتبدَّدَتْ الخططُ، لا شيءَ يُخفِّفُ مِنْ لَوْعَةِ أَبي يزيد إلاّ أَنْ يدفعَ عَنْه هذا الخطر، ويُبْعِد الأَشتر عَنْ مِصْرَ، فله في تلك الدنيا مطامعٌ، وله فيها مآربٌ.. وكيف السبيل ولابُدَّ مِنْ إيجاد السبيل، ولماذا لا يشري ضمائرَ المُرْتَزَقَةِ، والذين يعمدون للباطل فَيَغْتَرِفُوا مِنْهُ.
والْتَفِتْ إلى ابن العَاص، وهذا لا يَقُلُّ طمعاً بولاية مِصْر وَخِرَاجِ مصر، وحُكْمِ مصر، وإذا كان أَمر الأشتر قد أقَضَّ مَضْجَعَ معاويةَ، ففي الوقتِ نفسهِ أَرَّقَ ابنَ العاص، فقد بذل جُهْداً لدى معاوية، حتّى دَفَعَهُ على إثارةِ مصر على ابن أَبِي بَكْر، صاحبِ عليٍّ وَأَحَدَ سَوَاعِدِهِ.
أمّا الآنَ، فإنّ ابن الأَشتر الغايةُ القصوى. الرجل الذي لا تُلْوَى له شَكِيْمَةٌ في المواقف العارِمة، والقائدُ الذي لا يَلِيْنُ في سبيل عقيدته، فلابُدَّ مِنْ حَزْمٍ وَجِدٍّ.
والْتَقَتْ الغايتان، أو بالأَصح: مَطَامِحُ الرَجُلَيْنِ. ولابُدَّ
الصفحة 29
مِنْ حَزْمٍ وَجِدٍّ لِيَكُوْنَ الأَشتر، وإمامه أَبي تُرَاب ومحمّد بن أَبي بَكْر في ظُلْمَةٍ مِنْ أَمْرِ مِصْرَ.
وَصَرَخَ معاويةُ في ابن العاص، وهو يمسحُ عَرَقَهُ مِنْ على جَبْهَتِهِ الْمُثْقَلَةُ بالهمومِ: تكلّم يا أبا محمّد، هل انتهيتَ إلى رأيٍ؟ أينَ دَهَاءُكَ، يحْسِدُنِيْ الناسُ عليك، وأَنتَ في الزَخَمِ لا حس..
ويُزْعِجُ هذا التأنيب ابن العاص، أَبداً لمْ يكنْ في يومٍ لمعاويةَ في مَعْزِلٍ، إنّما معه على طولٍ.. وليس له في غير معاوية ملجأٌ.. فَعَلِيّ لا يجمع مَنْ حَوْلَهُ إلاّ الذين أَخلصوا لدينهم، وبذلوا نفوسهم لعقيدتهم. أمّا الذين لا دين لهم فلا مجالَ لهم عِنْدَ عَلِيٍّ.
وابن العاص لا دينَ له كما يقولُ هو نفسه، فقد نَقَلَتْ الروايةُ: إنّ ابنَ العاص لمّا حضرتْه الوفاةُ أَخَذَ يبكي، فقال له ابنُهُ: لِمَ تبكي أَجَزَعَاً مِنَ الموت؟ قال: لا واللهِ، ولكنْ لِمَا بَعْدَهُ، قال: قد كُنْتَ على خيرٍ فجعل يُذَكِّرُهُ صُحْبَةَ رسولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَفُتُوْحَهُ الشام، فقال عمرو: تَرَكْتُ أَفْضَلَ مِنْ ذلك كُلِّهِ، شهادةَ أَنْ لا إله إلاّ اللهُ(1).
ولَمْ يكنْ هذا فقط، فقد دَخَلَ عليه ابنُ عَبَّاس، وهو مريضٌ فقال له: كيف أَصْبَحْتَ؟ قال: أَصْبَحْتُ وقد أَصْلَحْتُ مِنْ دُنْيَايَ قليلاً، وأفْسَدْتُ مِنْ ديني كثيراً، فلو كان ما أَصْلَحْتُ هو ما أَفْسَدْتُ لَفُزْتُ، ولو كان ينفعني أَنْ أَطْلُبُ طَلَبْتُ، ولو كانَ يُنْجِنِيْ أَنْ أَهْرُبُ هَرَبْتُ..(2).
ــــــــــــــــــــــ
(1 ـ 2) نقل هذا الذهبي في تأريخ الإسلام: 1/239 وأبو يوسف الكندي في الولاة والقضاة: 33.
الصفحة 30
وكلَّ شَيْءٍ يهونُ إلاّ الأَشتر، فإنّه معروفٌ عِنْدَهُمْ، قوَّةُ هذا المُخْلِص، وجُرْأَتُهُ في ذات الله، ولو وَصَلَ مصر، ووضع فيها قَدَمَهُ، لمْ يَبْقَ لآلِ أبي سفيان أيُّ أَمَلٍ فيها..
وعمرو خيرُ مَنْ يَعْرِفُ أُسْلُوبَ المُؤَامَرَاتِ، وَطُرُقَهَا.. وقد شدّ معاويةُ آمالَهُ على ما ينتهي إليه فِكْرُ هذا الرجل.
ومعاويةُ يَخْطِبُ: أَيُّهَا الناس، إنَّ عليّاً قد وجَّهَ الأشتر إلى مِصْرَ، فادعوا اللهَ أَنْ يَكْفِيْكُمُوْهُ، فكانوا يًدْعُونَ عليه في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ حتّى ماتَ الأشتر.
وَمَرَّ السَّحَرُ، وأقبلَ الفجرُ، وكؤوسُ الخَمْرَةِ تَلْعَبُ في رأَْسِ الرَّجُلَيْنِ، وَكُلَّمَا تَوَغَّلا في أَمْرِ هذا الوالي الجَدِيْدِ ازدادا احْتِسَاءً وَوُلُوْغَاً بِالخَمْرَةِ..
وأخيراً اهتدى ابنُ العاص لرأيٍ وصاح بِفَرَحٍ، والخمرةُ تَدْأَبُ في رَأْسِهِ قال: إِنّ فلاناً وهو صاحبُ حاجةٍ عِنْدَكَ احْمِلْهُ على اغْتِيَالِهِ.
ولمْ يَمْضِ حتّى كانَ رسولُ معاويةَ على وَشَكِ الانطِلاق يَحْمِلُ معه رسالتَه إلى ذلك الشخص، يقول فيه:
إنّ الأشتر قد وُلِّيَ مِصْرَ، فإنْ كَفَيْتَنِيْهِ لَمْ آخُذْ مِنْكَ خِرَاجَاً ما بَقِيْتَ، فَاحْتَلْ في هلاكِهِ مِا قَدِرْتَ عليه.
وأكَّدَ على الرسول أَنْ يَجِدَّ السيرَ، ولا يَضَعَ رَحْلَهُ إلاّ في دارِ صاحبِهِ.
وساعةُ الانتظارِ عُمْرٌ ـ كما يقولون ـ: ولكنّ ابنَ العاص كانَ مُتَأَكِّدَاً أَنَّ الذي اختاره لِلْمُهِمَّةِ يقوم بتنفيذها مهما كَلَّفَهُ
الصفحة 31
الأَمر، ففي بعض الروايات إنّ الذي دَسَّ السُّمَّ للأَشتر هو مولى عَمْرو.
ولَمْ تَمُرُّ الأَيَّامُ دون أنْ تَحْمِلُ البشائرَ لمعاويةَ، والعزاءَ لِعَلِيٍّ (عليه السلام) فقد سُمَّ الأَشتر، بِأَيِّ لَوْنٍ كَانَ. واحتضنتْ مدينةُ (القَلْزَم) في مصر جِثْمَان التابِعِيِّ العظيم، في عام 37 مِنَ الهجرة.
وبَلَغَ الخبرُ أَسْمَاعَ معاويةَ، فَنَادَى بالناس، واجتمعوا إليه، فقامَ فِيْهِمْ خَطِيْبَاً، وقال فِيْمَا قال:
أَمّا بَعْدُ: فإنَّه كانَتْ لِعَلِيٍّ بن أَبي طالبٍ يَدَانِ، قُطِعَتْ إِحْدَاهَا يَوْمَ صِفِّيْن وهو عمّارٌ بنُ ياسر، وقُطِعَتْ الأُخْرَى اليوم وهو مَالِكُ الأَشتر..
كما بلغ الخبرُ أَسْمَاعَ عَلِيٍّ (عليه السلام) فقال:
((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ، اللَّهُمَّ إِنِّيْ احْتَسَبْتُهُ عِنْدَكَ، فَإِنَّ مَوْتَهُ مِنْ مَصَائِبِ الدَّهْرِ..
ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللهُ مَالِكَاً، فَقَدْ كَانَ وَفِيٌّ بِعَهْدِهِ، وَقَضَى نَحْبَهُ، وَلَقِيَ رَبَّهُ، مَعَ إِنّا قَدْ وَطَّنَّا أَنْفُسَنَا أَنْ نَصْبِرَ عَلَى كُلِّ مُصِيْبَةٍ بَعْدَ مُصَابِنَا بِرَسُوْلِ اللهِ (صَلَّى اللهَ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَم المَصَائِبِ)).
ذكرتْ الروايةُ: دخل جماعةٌ على الإمام حينَ بَلَغَهُ مَوْتُ الأَشتر فَوَجَدُوْهُ يَتَلَهَّفُ وَيَتَأَسَّفُ عليه، ثُمَّ قال:
((لِلَّهِ دَرُّ مَالِك، وَمَا مَالِكٌ لَوْ كَانَ مِنْ جَبَلٍ لَكَانَ فِنْدَا(1) وَلَوْ كَانَ مِنْ حَجَرٍ لَكَانَ صَلْدَا، أَمَا وَاللهِ لَيَهُدَّنَّ مَوْتُكَ عَالَمَاً
ـــــــــــــــــــــ
(1) الفِنْد، بالكسر: القطعة العظيمة من الجبل.
الصفحة 32
وَلَيَفْرَحَنَّ عَالَمَاً، عَلَى مِثْلِ مَالِكٍ فَلْيَبْكِ البَوَاكِي وَهَلْ مَوْجُوْدٌ كَمَالِكٍ؟)).
يقولُ عَلْقَمَةُ بنُ قيس النَخْعِي: فما زالَ عليٌّ يَتَلَهَّفُ، وَيَتَأَسَّفُ حتّى ظَنَنَّا أَنَّه المصابُ دوننا، وعرف ذلك في وجهه أيّاماً..
وإِذا كان مالك قد طوى القبرُ أَضلاعَه عليه، وَرَقَصَ معاويةُ جَذْلانَاً، وَفَرِحَاً؛ بِمَا نَالَهُ مِنْ بُغْيَتِهِ، وَتَعَمْلَقَتْ أَطماعُ ابن العاصِ تركضُ إلى مصر لِتَتَرَبَّعَ على عرش حُكْمِهِ.
لكنّه لمْ يُخْمَدُ ذِكْرُهُ، ولمْ يَهْدَأُ عِطْرَ سيرتِهِ، فقد استمرَّ يَشُقُّ السنينَ كالقمر، لا تُغَيِّبُ أَنْوارَه حَفْنَةُ سَحَابٍ.
وانْطَمَرَ ذِكْرُ معاويةَ، بطل آل أَبي سفيان، وانْمَحَتْ آثَارُهُمْ، ولمْ يَبْقَ لهمْ إلاّ السبُّ واللعْنُ.
فرَحِمَ اللهُ مالِكَاً، ورفعَ ذِكراه نوراً يضيءُ دروبَ الحريّةِ والصمود والعقيدة.
حِجْرُ بنُ عَدِيٍّ
الصفحة 34
الصفحة 35
اشتدَّتْ المعارضةُ ضدّ الحكم الأمويّ في الكوفة، وباتَ اللَغَطُ يَعُمُّ حتّى القصر الأمويّ فيها، ولمْ يَسْلَم الوالي مِنْ رِذَاذ هذا الحديث، وحتّى مِنْ أقرب مُجَالِسِيْهِ، وكان المَغِيْرَة بن شُعْبَة ـ وهو والٍ لمعاوية عليها حينذاك ـ قد بلغ به الضعف، حتّى لمْ يتمكّنْ مِنْ إدارة القصر فَضْلاً عَنِ المدينة..
وكانتْ المعارضةُ قد تمثَّلَتْ بصحابةِ عليٍّ (عليه السلام)، أولئك النفر الذين لا تَأْخُذُهُمْ في الله لَوْمَةُ لائِمٍ.
إذْ كان مِنَ الصعب عليها أَنْ ترى أَنَّ أَموالَ المسلمين تُجْبَى لِسَدِّ نَهَمَ معاويةَ، الذي يوزِّعها على الباطل كَيْفَمَا شاء.
وكان مِنَ الصعب عليها أنْ ترى أَنَّ الأحكامَ المُرْتَجَلَةَ الجائِرة تُنَفَّذُ في حقِّ المسلمين، لا تستنِد في أُصولِها على القرآن، أو السنّة.
وكان مِنَ الصعبِ عليها أنْ ترى الخلافةَ الإسلاميّةَ، في طريقِهَا إلى مَلِكٍ عَضُوْضٍ، يتقلّبُ به معاوية وآله مِنْ دونِ مُنَازِعٍ.
وكان مِنَ الصعب عليها أنْ ترى دولةَ الإسلام الفَتِيَّةَ، تنقلَّبُ إلى حُكْمٍ قَبَلِيٍّ بَحْت، تتحكَّمُ فيه أَهواءُ (أُسرةٍ مُعَيَّنَةٍ) ما كانتْ في يوم من الأيّام تعرفُ اللهَ، وتَخْلُصُ لرسوله، وتَفِي لأُمَّتِهِ، وقد قالها صريحةٌ سيِّدُهَا وَزَعِيْمُهَا أبو سفيان، يوم صارتْ الخلافةُ لعثمان:
الصفحة 36
صارتْ إليك بعد تيمٍ وعديٍّ، فَأَدِرْهَا كالكرةِ، واجْعَل أَوْتَادَهَا بَنِي أُمَيَّة فإنَّمَا هو المُلْك، ولا أَدْرِي ما جنّة ولا نار.
كانتْ المعارضةُ ترى كلَّ هذا، وتجد كلَّ هذه المُفَارَقَاتِ، وهي التي بين جَنْبَيْهَا روحُ عليٍّ وعدالتُهُ، فكانتْ لا تتمكَّنُ أَنْ تَغْضِي على الباطل، فصمَّمَتْ على المُجَاهَرَة بذلك مهما كلَّفَهَا الأمرُ، وفعلاً اتَّقَدَتْ أوَّلُ شَرَارَةٍ للمعارضة بصورتها الواضحة، عندما أمر معاويةُ المغيرةَ بأَنْ يُرْسِلْ لَهُ أموالاً مِنْ خِراجِ العراق، وحاول أنْ ينفّذ الوالي أمر سيّدَه، فشمّرتْ المعارضة سواعدَها له، ومسكتْ القافلةُ التي تحمِل الأموال، وهي بعدُ لمْ تغادر الكوفة إلاّ قليلاً. وعلم المغيرةُ بذلك، ولكنَّ المعارضةَ أبتْ أنْ تلينَ لطلب الوالي، سواءً كان بالقوة، أو بالتوسل، لا بعد أنْ أرجعَ الأموال إلى الكوفة، ووزَّعها على الناس.
وبلغ معاويةَ هذه التظاهرةُ عليه، وموقفُ المعارضة منه وإفلاسه مِنْ خِراج العراق، وخاصةً الكوفة، وكَتَمَ في نفسه أمراً، وإنْ كان لمْ يتمكّنْ مِنْ تبديد سحابةَ الغيظ والحنق، التي ظهرتْ على سِحْنَتِهِ فقد لازمتْه أيَّاماً طويلةً، وهو يفكِّر في اجتثاث الخطر عنه مهما كلّفه الأمر.
أمّا المعارضة فكانتْ تضمُّ جمعاً من المسلمين يتزعَّمهم عشرةُ رجالٍ مِنْ خيرة صحابة الإمام عليٍّ (عليه السلام)، وكانَ المُبْرَزُ فيهم هو حِجْر بن عَدِي.