الصفحة 51

مَقْرُبَةٍ مِنْ هذا المنظر، ينظرون وفي أعماقهم إكبارٌ وتعظيمٌ لهذه التضحية الغالية. وتقدّم أحدهم مِنْ حِجْر، اعتقاداً منه بأنّ الوقت غَيّر مِنْ نفسه شيئاً،  وقال له:

   ابرأ مِنْ عليٍّ وقد أَعِدُ لك معاوية جميع ما تريد إنْ فعلتَ، ولكنْ هيهات، فنفسيّة حِجْر أعظم مِنْ أنْ تزعزعها أهوالٌ وأهوالٌ.

   ثم التفتَ إلى أصحابه فقال: إذا قُتِلْتُ فلا تفكّوا عنِّي قيودي، ولا تغسِّلوا دمي، وادفنوني في ثيابي، فإنّي أرغب أنْ أُلاقِي معاوية غداً عند الحساب على حالتي.

   وتقدم إليه الجلاوزة ونفّذوا فيه أمر طاغيتهم.

   وانتهتْ حياة هذا العبد الصالح المجاهد في سبيل عقيدته.

   وأُخْبِرَ معاوية بذلك، فَغَمَّ وَعَلَتْهُ موجةُ حُزْنٍ، وتَمْتَمَ: ما أنا وحِجْر لولا أمر زيادٍ، وبقيتْ في نفسه لوعةٌ كانتْ تظهر عليه فيردِّد: (يومي مِنْ حِجْر بن عَدِي يومٌ طويلٌ)، وهكذا تأسفُ الطواغيتُ، ولكنْ حين لا ينفع الندم.

   وانعقد مجلس معاوية. وتوافد إليه الناس، فرحين مستبشرين، أو في الحقيقة يحاولون إظهار الفرحة وتصنع الاستبشار أمام معاوية بنصره الكبير، فقد تمكّنَ مِنْ سَحْق العناصر الكبيرة مِنْ مُعارِضيه في الكوفة، بقتل حِجْر وأصحابه.

   يا أمير المؤمنين: أَرَأَيْتَ صُنْع الله بأعدائك.

   وكتم معاويةُ في نفسه اللوعة، وطبع على شفتيه ظل ابتسامة، ولمْ يحاول أنْ يُجيب.


الصفحة 52

   فتقدّم آخرٌ إليه، يا معاوية: أصحاب أبي تراب لمْ يبقَ منهم بعد إلاّ النَزْر القليل، ولابدّ لزيادٍ أنْ يقتصَّ آثارهم، ويريح آل أبي سفيان مِنْ ظلهم. ولمْ يُجِبْ معاويةُ، فالصراع في أعماقه كبيرٌ وكبيرٌ.

   ويَلحُّ عليه قومُه بالحديث، وهو يحاوِل أنْ يلوذ بالصمتِ، وأخيراً قال: لقد أخبرني الجلاّدون بأنّ حِجْراً لمْ يطمئن حتّى قدّم ولدَه إلى القتل، وشاهد رأسه يتدحرج، هنالك تقدّم السيّاف بنفسه، أتعرفون لماذا فعل الرجل هذا الفعل وأقدم على هذا الأمر الخطير؟

   ووَجَمَ الجالسون عن الجواب. إنّه لإقدامٌ كبيرٌ جدّاً.

   ونظرات معاوية تدور عليهم، تكاد تعصرهم عصراً، ولمّا رأى أنّ الجواب خَمَدَ على أفواههم، قال: إنّه فعل ذلك؛ خشية أنْ تأخذَ الرقةُ الطفلَ ويسيطر الخوفُ على مشاعره، فنتمكّن من الاستيلاء عليه، والاستفادة مِنْ معلوماته، لأنّه كان واسطة الارتباط بين أقطاب المعارضة على صغر سِنّه.

   هذه هي التضحية في سبيل العقيدة.

   ثم التفت إلى جُلاّسِهِ وقال: ولمْ يكنْ هذا هو كلّ الموقف، لقد أخبرني الجلاّدون بِأنّ حِجْراً، وأصحابه حفروا بأنفسهم قبورهم ولبسوا أكفانهم، وتقدّموا للموت بقلوبٍ ثابتةٍ، إيماناً منهم بأنّهم وصاحبهم على الحقّ، وأنّ غيرهم على الباطل.

   وسكت معاوية عَنِ الحديث فقد عَلَتْه صفرةٌ داكِنةٌ، ثمّ زفرةٌ، وقال: لو كنتُ أملِك أمثال حِجْر في صحابتي عدداً


الصفحة 53

لتمكّنْتُ أنْ أفرض سيطرة الأمويين مِنْ أول الدنيا إلى آخرها، ولكنْ هيهاتَ وهيهاتَ.

   أينَ لي حِجْر وأمثال حِجْر يُضحّون بأنفسهم في سبيل عقيدتهم بكلّ صلابةٍ، كما نراهم يُضحّون.

   ثمّ يُغَيِّمُ في موجةِ حزنٍ، ويُتَمْتِم طويلاً يكاد لا يُسمَع، حتّى القريب منه، ثمّ يتعالى ذلك الصدى، وإذا به يقول: (إنّ يومي مِنْ حِجْر بن عَدِي يومٌ طويلٌ).


الصفحة 54


الصفحة 55

عَبْدُ اللهِ بْن بديل


الصفحة 56


الصفحة 57

   ونشر الليلُ أبراده، واجتمعتْ مجالس السحر تطوي وحشةَ المساء بحلوِ الحديث، وأهمّ الأخبار.. وكانتْ رَحْبَةُ الكوفة لمْ تَنْسَ بعد حلقاتِ الماضين، وقد جُمِعَتْ عليه الصحابة والتابعين وقد حَصَرَتْ أكثرهم حروب الأيّام، وصراع الحق والباطل، وحقد الأمويين على العلويين.

   ولمْ يكنْ ذلك الحِقد بالشيء البسيط الذي يمكنُ أنْ يُقتَلع فتخبو جذوتُه، إنّما عمقه أكثر ممّا يتصوّر، ويمكنُ أنْ نقف على مدى عمقِهِ، عندما نستمع إلى مطرف بن المغيرة بن شعبة ـ وأبوه أحد أعوان معاوية الأشدّاء ـ يقول:

   (وفدتْ مع أبي ـ المغيرة ـ إلى معاوية، فكان أبي يأتيه فيتحدّث عنده، ثمّ ينصرف إلَيّ، فيَذْكُرُ معاويةَ، ويَذْكُرُ عَقْلَهُ، ويعجب مِمّا يرى مِنْه.. حتّى إذا جاء ذات ليلة فأمسَكَ عَنِ العشاء، فرأيتُهُ مُغْتَمَّاً، فانتظرتُهُ ساعةً، وظننتُ أنّه لشيءٍ حَدَثَ فينا، أو في عملنا. فقلتُ له: مالي أراك مُغْتَمَّاً منذ الليلة؟ قال: يا بني إنّي جئتُ مِنْ عِنْد أخبث الناس، قلتُ له: وما ذاك؟ قال: ذهبتُ لمعاوية وقلتُ له  وقد خلوتُ به: إنّك قد بلغتَ مُنَاك يا أمير المؤمنين، فلو أظهرتَ عَدْلاً، وبَسَطْتَ خيراً، فإنّك قد كَبُرْتَ، ولو نظرتَ إلى إخوانك مِنْ بني هاشم، فوصلتَ


الصفحة 58

أرحامهم، فو الله ما عندهم اليوم شيءٌ تخافه. فقال لي: (هيهات هيهات، مَلَكَ أخو تَيْمٍ فَعَدَلَ، وفعل ما فعل، فو الله ما عدا أنْ هلك، فهلك ذِكْرُهُ، إلاّ أنْ يقول قائلٌ: أبو بكرٍ. ثمّ مَلَكَ أخو عَدِيّ، فاجتهد، وشَمّرَ عشر سنين فو الله ما عدا أنْ هلك، فهلك ذِكْرُهُ إلاّ أنْ يقول قائلٌ: عُمَر.. ثمّ مَلَكَ أخونا عثمان، فَمَلَكَ رجلٌ لمْ يكنْ أحدٌ في مثل نَسَبِهِ، فَعَمِلَ ما عَمِل، وعُمِلَ به، فو الله ما عدا أنْ هلك، فهلك ذِكْرُهُ، وذِكْرُ ما فُعِلَ بِهِ.. وإنّ أخا هاشم يُصرَخ به في كلّ يومٍ خمسُ مراتٍ أشهد أنّ محمداً رسولُ الله. فأيُّ عَمَلٍ يبقى مع هذا، لا أمّ لك، والله إلاّ دَفْنَاً، دَفْنَاً)..

   هكذا كان حقد البيت الأموي بالنسبة لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذين فضّلهم اللهُ على العالمين، وجعلهم مِنْ أهل بيتٍ، أذْهَبَ عنه الرِجْسَ، وطَهَّرَهُ تَطْهِيْرَاً..

   وسَكَتَ المُتَحَدِّثُ قليلاً، وهو كأنّه يستعرِض الأحداث في ذهنه، ويتذكرها وينتقي أكثرها عِبرةً..

   وضمّتْ الحلقة فيمنْ ضمّتْ عدداً يهمُّهم أخبار الأمجاد مِنْ مدرسة الإمام عليٍّ (عليه السلام) أولئك الذين بلغ بهم الإيمان بهذا البيت الطاهر إلى حدِّ التفاني.. وكان المتحدِّث يقطع أوصال الليل بالحكايات والعِبَر.

   وقال: ولْيكنْ حديثنا الليلة عَنْ بطل مِنْ الأبطال، ومؤمِنٍ رائعِ الإيمان ومجاهدٍ بين يَدَي الإمام عليٍّ (عليه السلام) سجّل تأريخه بأنصع صفحةٍ.


الصفحة 59

   هو: عبد الله بن بديل بن ورقاء بن عبد العزيز بن ربيعة الخزاعي..

سيّدٌ مِنْ سادات خزاعة، وبطلٌ مِنْ صفّين، وصحابيٌّ رافق القائد الأوّل، رسولَ الله في بعض غزواته: كحُنَيْن، والطائف وتبوك..

   وهو لمْ يتخطَّ عتبة الشباب إلاّ بقليلٍ، فقد حمل السلاح مجاهداً بين يدي الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثُمّ انحاز إلى ابن عمِّه عليّ بن أبي طالبٍ، يُتَابِعُهُ متابعةَ الظلّ.

   حتّى كان يوم صفّين، وابن بديل فارسٌ مُعلَّم لا يخفى أثره، فإنّ إيمانه بقضيته كانتْ أكبر مِنْ كلِّ شيءٍ لديه، فلا يَهُمّ إذنْ لو تعرّض لمخاطر الحرب، أو تعرّض للموت، ما دام هو الحقّ.

   وقبل أنْ تَلتَحِم الجيوش، وتلمع السيوف، وقف هذا الرجل المجاهد خطيباً في قومه، وسيفه مشهورٌ في يده:

   (ألا إنّ معاوية ادعى ما ليس له، ونازع الأمر أهلَه، ومَنْ ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحقّ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، وزيّنَ لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حبّ الفِتنة، ولبّس عليهم الأُمور، وزادهم رِجساً إلى رِجسهم، وأنتم والله على نورٍ، وبرهانٍ مبينٍ.. قاتِلوا الطغاة الجفاة، قاتلوهم ولا تَخْشَوهم، وكيف تخشوهم، وفي أيديكم كتابُ ربِّكم ظاهرٌ مبينٌ:( أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ )..


الصفحة 60

   لقد قاتَلْتُهُم مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والله ما همْ في هذه بأزكى ولا أتقى، ولا أَبَرَّ، انهضوا إلى عدوِّ الله، وعدوِّكم..).

   كانَ معاوية وصَحْب معاوية، وفي مقدَّمتهم عمرو بن العاص، على علمٍ أنّهم على الباطل، ولكنّ الدنيا، وعليها يتكالب المتكالِبون.

   فقد نقلتْ الرواية: إنّ معاوية طلب إلى ابن العاص أنْ يُسَوِّي صفوفَ أهل الشام، فقال له عمرو: على أنَّ لي حكمي، إنْ قَتَلَ اللهُ ابن أبي طالب، واستوثقت لك البلاد. فقال معاوية: أليس حكمك في مصر؟ قال ابن العاص: وهل مصر تكون عِوَضَاً عَنِ الجنّة، وقتل ابن أبي طالب ثمناً لعذاب النّار، الذي( لاَ يُفَتّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ )؟ فقال معاوية: إنّ لك حُكْمَكَ أبا عبد الله إنْ قُتِلَ ابن أبي طالب، رويداً لا يسمع أهل الشام كلامك).

   وهذا الحوار الذي يحتوي المقايضة بين معاوية وابن العاص، ويعطينا صورةً واضحةً عَنْ مدى إيمان الرجلين بقضيَّتِهم المُفْتَعَلَةِ، ألا وهي الثأر لعثمان، فلم يكنْ موضوع عثمان إلاّ جسراً نَصَبَهُ معاويةُ وبِطَانَتُهُ، مِنْ أجل البلوغ إلى أهدافهم، ومطامعهم الدنيويّة.

   في حين أنّنا نلمَسُ في أصحاب الإمام عليٍّ الإيمانَ الصحيح، والصدق والإخلاص في أقوالهم، وأفعالهم، وهمْ مِنْ أجل هذا لا يبالون، أَوَقَعَ الموتُ عليهم، أَمْ وقعوا على الموتِ..


الصفحة 61

   وابن بديل، عندما يندفع هذا الاندفاع لم يكنْ إلاّ مثلاً حياً لأصحاب عليٍّ (عليه السلام) الذي عَرَفوا أبا الحسنين حقّ معرفتِه، وأنّ القتال إلى جانبه واجبٌ، لأنّه إمامُ زمانِهِم، وبيعتُهُ في رَقَبَتِهِم.

   بالإضافة إلى أنّ هذه الصفوة مِنْ أصحاب عليٍّ (عليه السلام) كانوا ـ في الحقيقة ـ مِثالاً رائعاً في وفائهم، وإيمانهم، ونستطيعُ أنْ نلمسَ الصورةَ الرائعةَ، التي أبرزها أحد أصحاب عليٍّ ـ وأيضاً ـ في صِفّين.

   ذلك هو: أثال بن حجل بن عامر المذحجي، فقد نادى الأشتر يوماً مِنْ أيّام صِفِّين في أصحابه: أَمَا مِنْ رجلٍ يَشْرِي نفسَه لله؟. فخرج أثال بن حجل بن عامر، فنادى بين العسكريين: هل مِنْ مُبَارِز؟.

   فدعا معاوية ـ وهو لا يعرفه ـ أباه حجل بن بن عامر ـ وكان مِنْ أصحابه، فقال: دونك الرجل.. فبرز كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، فبدره الشيخُ بِطَعْنَةٍ، وطعنه الغلامُ، وانتسبا فإذا هو ابنه، فنزلا، فاعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه وبَكَيَا، فقال له الأبُ: يا بُنَي، هَلُمَّ إلى الدنيا ؟ فقال له الغلام: يا أبي هَلُمَّ إلى الآخرة.. ثُمّ قال: يا أبتِ، والله لو كان مِنْ رأيي الانصراف إلى أهل الشام، لوجب عليك أنْ يكون مِنْ رأيك لي أنْ تَنْهاني، وَاسَوْأَتَاه. فماذا أقول لعليٍّ وللمؤمنين الصالحين ؟ كُنْ على ما أنت عليه، وأنا على ما أنا عليه.


الصفحة 62

   فانصرف حجل إلى صفِّ الشام، وانصرف ابنُه أثال إلى أهل العراق، فَخَبَّرَ كلُّ واحدٍ منهما أصحابه.

   وقال حجل في ذلك:

إنّ  حـجل بـنَ عـامِرٍ iiوأثالا      أصـبحا يُـضْرَبَانِ في iiالأمثالِ
أقْـبَلَ الفارسُ المُدَجَّجُ في iiالنقع      أثــالُ يـدعو يُـريد iiنِـزَالي
دونَ  أهلِ العراقِ يَخْطُرُ كالفَحْلِ      عـلـى ظَـهْرِ هَـيْكَلٍ iiذيـال
فَـدَعَانِيْ  لَـهُ ابنُ هندٍ iiومازَالَ      قَـلِيْلاً  فـي صَـحْبِهِ iiأَمْـثَالِي
فَـتَـنَاوَلْتُهُ  بِـبَـادِرَةِ iiالـرُمْحِ      وَأَهْــوَى  بـأسـمر iiعـسال
فـأطعنا  وذاك مِنْ حَدَثِ iiالدهر      عـظيمٌ،  فـتىً بشيخ iiبجال(1)
شَـاجِراً بـالقناةِ صـدر iiأبـيه      وعـزيزٌ  عَـلَيَّ طـعن iiأثـال
لا  أُبـالي حينَ اعترضتُ iiأثالا      وأثــال كـذاك لـيس يُـبَالِي
فـافـترقْنا  عـلـى iiالـسلامة      والـنفسُ  يَـقِيْهَا مؤخّرُ iiالآجالِ
لا  يـراني عـلى الهدى iiوأراه      مِـنْ هُـدَاي على سبيل iiضَلالِ

   وانتهى الشعرُ إلى أصحاب عليٍّ (عليه السلام) فردّ عليه ولدُهُ أثال قائلاً:

إنَّ طَـعْنِيْ وَسْطَ العَجَاجَةِ iiحِجْلاً      لـمْ  يكنْ في الذي نَوَيْتُ iiعقوقا
كـنتُ  أرجو به الثواب مِنْ iiالله      وكَـوْنِي مَـعَ الـنبيِّ iiرفـيقا..
لمْ  أزل أنصر العراق على iiالشا      م أرانــي بِـفْعْلِ ذاك iiحـقيقا
قال أهلُ العراقِ إذْ عَظُمَ الخطبُ      ونــقّ  الـمـبارزون iiنـقيقاً
مِـنْ فتىً يَسْلُكُ الطريقَ إلى iiالله      فـكنْتُ الـذي سَـلَكْتُ iiالطريقا
حاسرُ الرأسِ لا أُريد سوى iiالمو      ت أرى الأعـظمَ الـجليلَ iiدقيقا

ـــــــــــــــــ

(1) البجال: الكبير.


الصفحة 63

فـإذا  فـارسٌ تَـقَحَّمَ في iiالرو      ع حـذباً مثل السحوق عَتِيْقَا(1)
فـبداني حـجلٌ بـبادرة iiالطعن      ومــا كـنتُ قـبلها iiمـسبوقا
فـتـلقّيتُهُ بِـعَـالِيَة iiالـرمْـحِ      كـلانـا يُـطَـاوِلُ iiالـعـيُّوقا
أَحْـمُدُ  الله ذا الـجلالة iiوالقدرة      حـمـداً  يُـزيـدُني iiتـوفـيقا
إذ  كـففتُ الـسنانَ عنه ولمْ iiاد      ن  فـتيلاً مـنه، ولا تفروقا(2)
قـلت لـلشيخ: لستُ أكفر iiنعما      ك لـطيف الـغذاء iiوالتفنيقا(3)
غـيرَ  أَنِّي أخافُ أنْ تدخل iiالنا      ر، فـلا تعصني، وكُنْ لي رَفِيْقَا
وكـذا قـال لـي فغرّب iiتغريباً      وشـرّقتُ راجِـعاً iiتـشريقا(4)

   ولعلّنا لَمَسْنَا في أبيات أثال مدى الإيمان بعقيدته، وهو مُطْمَئِنٌ تمام الاطمئنان أنّه على الحقّ، ويرجو الثواب مِنْ وراء جهاده هذا.

   وكلّ أصحاب عليٍّ (عليه السلام) على وتيرةٍ واحدةٍ، لا فرق بين الصغير والكبير منهم، فإذا ما رأينا أثال، وهو غلام يافع، كما تشير الرواية إلى ذلك، فلا نستغرب بعد ذلك على ابن بديل ـ وهو الصورة المثلى للإنسان المجاهد، وهو القائد لجيش المشاة لعليٍّ (عليه السلام) ـ أنْ يضجر مِنْ طول الانتظار للقتال، وأخوه عبد الرحمن إلى جانبه، فيُكَلِّم الإمام في البراز فيوافق، وبرز وزحف ومَنْ مَعَهُ مِنْ جيشه، وعليه درعان، ويحمِلُ سَيْفَيْنِ، وهو يُنْشِدُ:

ــــــــــــــــــــ

(1) الحذب: الضخم. السحوق: النخلة الطويلة.

(2) التفروق: قمع التمر.

(3) التفنيق: التنعيم.

(4) راجع شرح النهج ـ ابن أبي الحديد: 2/448 ـ 449.


الصفحة 64

لـمْ  يـبقَ غير الصبر iiوالتوكّل      والتِّرس، والرمح، وسيف مصقل
تـم الـتمشّي في الرعيل iiالأوّل      مَشْيَ  الجمال في حياض iiالمنهل

وحمل ابن بديل ومعه الأبطال الذين بايعوه على الموت يشقون الصفوف يطلبون معاوية، وهو يدفع بإخوانه المقاتلين إلى حيث معاوية، يبغي قتله، وشعر ابنُ أبي سفيان بالخطر فصاح بالجموع المحتشِّدة حوله: ويْلَكُم، الصخر والحجارة إذا عجزتم عَنِ السلاح. فَرَضَخَهُ الناسُ بالصخر والحجارة، حتّى أثخنوه فسقط ، فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه.

   وجاء معاوية ووقف عليه، وأراد أنْ يُمثِّل به، ومنعه بعضُ مَنْ رافقه، فقال: اكشفوا عَنْ وجهه،فأنّا لا نُمثِّل به قد وهبناه، فكشفوا عَنْ وجهه، فقال معاوية: هذا كبش القوم وربِّ الكعبة، اللهمّ اظفرني بالأشتر، والله ما مَثَل هذا إلاّ كما قال الشاعر:

أَخُوْ الحَرْب إنْ عَضَّتْ بِهِ الحَرْبُ عَضَّهَا      وإنْ  شَـمَّرتْ عَـنْ سَاقِهَا الحربُ شَمّرَا
وَيَـحْمِي إذَا مَـا الـمَوْتُ كـانَ iiلِـقَاؤُهُ      قَـدَى الـشِّبْر يَـحْمِي الأنف أنْ iiيَتَأَخّرا
كـلـيثٍ هِـزَبْرٍ كـانَ يَـحْمِي ذِمَـارُهُ      رَمَـتْـهُ  الـمنايا قَـصْرهَا iiفَـتَقَطَّرَا..

وَمَسْحَةٌ مِنْ إعجابً وذهولً رَفَّتْ على سُحْنَة معاوية، وعيناه مَشْرُوْدَتَانِ إلى ابن بديل، وقد مزّقَتْهُ السيوف والحجارة، ثمّ


الصفحة 65

انكفأ، وهو يقول: إنّ نساء خزاعة، لو قدرتْ على أنْ تقاتلني ـ فضلاً عن رجالها ـ لفعلت، فكيف بهذا البطل!!

وبلغ النبأ إلى الإمام علي (عليه السلام)، فأسرع إلى ساحة المعركة يكشف المحاربين عَنْ طريقه، حتّى وصل إلى جثمان ابن بديل ووقف عليه متاثِّراً، وهو يشدّ جراحه، واحدةً تلو الأُخرى ثمّ قال:

(جَزَاكُمْ اللهُ خَيْرَاً، أَدَّيْتُمْ مَا عَلَيْكُمْ، وَبَقِيَ مَا عَلَيْنَا).

   وإلى جانب آخر مِنَ المعركة كان أخوه عبد الرحمن بن بديل قد وقع قتيلاً في تلك الحملة.

   وهكذا تلاقتْ أرواحهما، متعانِقةً تصعد إلى بارئها راضيةً مرضيَةً، وهو جزاء المجاهدين..

   وسكتَ المتحدِّث، حيث انقضى مِنَ الليل أكثره، وتعرف السامرون، ولكنّ ذكرى ابن بديل بقِيَتْ كضوء القمر، ينعش الليل بأنواره مِنَ الدهور


الصفحة 66


الصفحة 67

مَيْثًمُ التمَّار


الصفحة 68


الصفحة 69

 

   في مساءٍ ضاحِكٍ مِنْ ليالي الكوفة العامِرة، والناس تتحدّث عَنْ أيّامها وحروبها، وفي مجلسٍ لبني أسد، وقد احتشد القوم فيه يقضون عمر النهار، مرّ فارسٌ وقورٌ عليه طهارة الصالحين وسيماء الزعماء، فاستَقْبله زعيم بني أسد حبيب بن مظاهر، حتّى التقتْ أعناق فرسيهما، وتحدّثا طويلاً، وكأنّ الفراق قد زادهما شوقاً للاجتماع، وتساءلتْ العيون عَنِ القادم؟ فقيل:

إنّه ميثم بن يحيى التمّار صاحب أمير المؤمنين ومِنْ مدرسته الخالدة (عليه السلام) وأمينه على أسراره، يلتقي بزميله في الولاء حبيب بن مظاهر، فزحفتْ الأسماع لهما تَسْتَرِق حديثهما، وكلّها لهفةٌ؛ لمعرفة ما يدور بينهما.

قال حبيبٌ وابتسامة هادئة تتهادى على شفتيه:

   (لكأنِّي بشيخٍ أصلع، ضخم البطن، يبيع البطِّيخ عند دار الرزق، قد صلب في حبّ أهل بيت نَبِيِّه، وتُبْقَر بطنُه على الخشبة).

   وأشرق وجه ميثم، وهو يستمِع إلى حديث صاحبه وقال:

   (وكأنِّي برجلٍ أحمر له ضفيرتان، يخرج لنصرة ابن بنت نَبِيِّه فَيُقْتَل ويُجَال برأسه بالكوفة).


الصفحة 70

   وافترق الفارِسان كلّ إلى جِهَةٍ.

   وحملق الجالسون، وزموا شفاههم، وحبسوها على بسمةٍ ساخِرَةٍ كادتْ تنطلق لولا احترامهم للزعيم، وضيفه.

   وانطلقتْ البسمة الساخرة واضحةً، بعد أنْ غابا عَنِ المجلس وتَهَامَسَ القوم، وقالوا فيما قالوا: (ما رأينا أحداً أكذب مِنْ هذين الفارِسَيْن).

   وبينما هم يتحدّثون بهذا ونحوه إذْ أقبل عليهم شيخٌ وقورٌ ذو هيبةٍ وجلالةٍ، فطلب صاحبيه ميثماً وحبيباً، فقيل له إنّهما افترقا وأعادا عليه حديثهما بالتفصيل فضحك، وقال:

   (رحم الله ميثماً إنّه نسي أنْ يقول ويزداد في عَطاء الذي يجيء بالرأس مائة درهم) ثمُّ ترك المجلس وذَهَبَ.

   وتعالتْ التمتمات، والابتسامات مِنْ جديدٍ، وقال بعضهم: هذا والله أكذبهم.. وتساءل مَنْ يعرفه؟ فقيل له إنّه: رشيد الهجري.

   وتفرّق المجلس على حديث هؤلاء الثلاثة، والشكُّ يُخَامِر مَنْ يخامر منهم، وموجةٌ مِنْ استهزاءٍ تطفو على وجوه البعض، مِنْ أُولئك الذين لا يعرفون علاقة هذه الصفوة بالإمام، أو يعرفونها ولا يعرفون واقع الإمام، وتجسّد هذا اللغط حتّى انقلب إلى سؤالٍ واستفهامٍ، قال احدهم يخاطِبُ صاحبه: أرأيتهم كيف أصبحوا يُخْبِرُون بالمُغَيّبات؟ وكأنِّي بهم عَنْ قريب يدّعون النبوّةَ.

   ودارتْ ضِحْكَةٌ ساخِرةٌ وسط القوم، وعلا صوت مِنْ