الصفحة 88
شبابه، وأنواره زاهيةٌ، وهواءه عَذِبٌ، سوى ظِلٍ مِنْ رَهْبَةٍ ورُعْبٍ، تُخَيِّمان على المكان، وحديثٌ خافتٌ يطفو على الشفاه يدور حول مصير هذا الأسير، الذي وقع في يَدَي والي الموصل بعد قتالٍ عنيفٍ.
وارتسم على وجه الكوفي أكثرُ مِنْ سؤالٍ، فَغَرَّ فاهُ: عجيبٌ هل قَبَضَ عبد الرحمن بن عثمان الثقفي على عمرو بن الحمق؟ فأجابه صاحبُه، والوجوم مسيطرٌ عليه: نعم، لقد قبض عليه بعد قتالٍ عنيفٍ.
ماذا سيعمل فيه. أَيَقتُله، أمْ سيبقِيه حيّاً. إنّ هذا العامل الذي يُعرف بابن أمِّ الحَكَم، قد وَلَغَ من حقد الأمويين ما يُهدِّد مصير هذا العبد الصالح على يده.
ـ ولماذا يا أبا الوليد؟
ـ لأنّه ابن أخت معاوية، ومُتَفَانٍ في حُبِّهِ.
وتحدَّثَ الكلُّ عن مصير عمرو، إنّ معاوية لنْ يتورّع عن إصدار الأمر بالقتل في حقِّه، والتمثيل به. وبات أكثر سُكّان الكوفة ينتظرون أخبار الموصل، ماذا تَحْمِل لهم، فقد كتب ابنُ أُمِّ الحَكَم إلى زيادٍ يسأله رأيه في عمرو، وقام هذا بدوره ليُسائل معاوية، وعمرو في سجنه يَلْقَى أعنفَ ألوان العذاب، ويُعاني من ظلم هذا العامِل ما يعجز عنه الحديث.
لقد كان عبد الرحمن يخرجه أغلب الأيّام، وهو يَرْسِفُ في قيوده إلى مجلسه، ويطلب منه البراءة من عليٍّ، والولاء لمعاوية، فما كان جوابه إلاّ السخرية والاستهزاء بسيِّده معاوية، وأميره
الصفحة 89
زيادٍ، وكان يَلْقَى جزاء هذه السُّخْرِيَة المُرَّة من هذا الطاغي. الضربَ والحَرْقَ، ونَتْفَ الشعر، وإعادته إلى السجن.
ومر عليه يوماً في سجنه صديقٌ له قد تعرّف عليه من أيّام الرسول الأعظم وقال له:
يا عمرو ما ضرَّك لو تُسالم هذا الطاغية، وتَحْقِن دَمَك، ودم زوجتك السجينة في دمشق.
فقال له عمرو: وماذا تريد أَأُسَالِمُ معاوية؟ إنّه يريد أنْ أتبرأ منْ رمز الدعاة إلى الله، وأنا الذي سمعتُ من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قولَه: ((إنّ علياً وقومه في الجنّة، ومعاوية وصحبه في النار)). لقد جاهدتُ مع عليٍّ في جميع وقائعه: الجمل، والنهروان، وصفِّين، عِلْمَاً مِنِّي بأنّه على الحقِّ، وكنتُ أتمنَّى الشهادة على يده، وما حصلتُ ذلك، وبقيتُ انتظر هذا اليوم، وتولّى معاوية الحُكْم، وجاهر بكلِّ ما يخالِفُ الإسلام. أَتَرَانِي أسكتُ على الباطل؟ وأغضي على هذه المخالفات التي يرتكِبُها معاوية وعامِلُه؟ إنّه خالَفَ القرآن، والعدالة في أحكامه، وأعماله. بماذا يُفسِّر المسلمون سكوتي، لا، والذي نفس عمرو بيده لا أسكُتُ عن ذلك حتى لو قُتِلْتُ، ثم حُييت، ثمّ قُتلتُ، وهكذا يُفْعَل بي عِدَّة مرّات، فأنا لا أمنعُ لساني عن المجاهرة بِنَقْدِهِم، ولا أُعطي من نفسي مجالاً للطعن بأمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام). كيف وهي قتلةٌ واحدةٌ ؟..
ودبَّ اليأس إلى وجه الرجل، وغادر السجن، وترك عمرو يُعاني عذاب الأمويين، حتى ورد أمر معاوية لهذا الطاغي
الصفحة 90
فعقد المجلس له، وأُتِيَ به، وهو يَجُرُّ نَفْسَه جرّاً؛ لثقل الحديد الذي كُبِّلَ به، وأوقفه في حرارة الشمس، وهو الشيخ الذي ذَرَفَ على الثمانين، والناس مُحْتشِدون، كأَنّ على رُؤوسهم الطير، يستمِعون إلى حكم معاوية.
وارتقى عاملُ الموصل عبد الرحمن بن عثمان المِنْبَرَ، وأعلن أنّه سيقرأ كتاب معاوية، وامتدّتْ الأعناق إليه تتطلّع إلى الحكم، وأَرْهَفَتْ الآذان، وظلَّلَتْ المجلسَ سحابةُ حزنٍ قاتِمَة، ثُمّ قرأ الكتاب:
إلى عبد الرحمن بن عثمان الثقفي عامل أمير المؤمنين معاوية في الموصل: لقد أمر معاوية أنْ أكتب لك في أمر عمرو بن الحَمِق الخزاعي، الخارج على طاعة الأمويين، والموالي لأبي ترابٍ، فقد أمر بأنْ تُخَيِّرَهُ: إمّا أنْ يتبرَّأ من عليٍّ، ويسبَّه ويمدح الأمويين ويذكر مَحَاسِنَهم، وإمّا أنْ تَطْعَنَهُ تِسْعَ طعناتٍ؛ لأنّه زعم أنّه طعن عثمان تسع طعناتٍ بمشاقص معه، وابعث إلَيّ َبرأسه؛ لأُرسله إلى معاوية والسلام.
واصفرتْ الوجوه، وبلغتْ القلوب الحَنَاجِر، وراقبتْ العيون هذا الشيخ الأسير الذي يسمع الحُكْم على نفسه، وهو يقابله بمعنويّة عالية، أصْلَبُ من الحديد، فَلَمْ يُبْدِ عليه أيُّ اضطرابٍ.
ويصيح ابن أُمِّ الحَكَم بعمرو: أَجِبْ أَيَّ الأمرَيْن تختار؟.
ردَّ عمرو وهو ثابِتُ الجِنَان، قويُّ الشَكِيْمَة ـ: لقد خابتْ ظُنُونُكُم، وماتتْ آمالُكم: أمّا البراءة من عليٍّ فلا
الصفحة 91
لأَنِّي أعلم أنّه على الحقّ، وأنّ معاوية وصَحْبَه على الباطل، وأمّا القتل فأنا مُستعِدٌ له ومُتَقَبِّلُهُ، وسَأقِفُ غداً بين يدي الله ورسوله وعليٍّ، اقتصُّ ظُلامَتِي من طاغية الأمويين معاوية.
وتقدّم الجلاد إلى عمرو بن الحَمِق لينفّذ فيه أمر سيّده والمشاهدون يُكْبِرُوْنَ بطولتَه، فطلب منه أنْ يُمْهِلُهُ دقائق؛ كي يصلّي ركعتين. ولكنّ عبد الرحمن أمر جلاّده بأنْ يُنفِّذ أمره ولا يَدَعه يصلي، وكان ما أراد، ولفظ عمرو بن الحمق أنفاسه في الطعنة الثانية، وقفز هو مِنْ على سريره، وحزَّ رأسه، وأرسله إلى زيادٍ، ثمّ أرسل زيادٌ الرأسَ إلى معاوية.
وبلغ البريدُ معاويةَ، وهو في مجلسه، وَوُضِعَ رأسُ عمرو بن الحمق بين يديه، وقرأ كتاب زياد:
(لقد امتنع عمرو من البراءة من عليٍّ، فنفَّذْنا فيه أمرك).
ورمق معاويةُ الرأس طويلاً، وَرِعْدَةٌ خفيفةٌ مَشَتْ في أوصاله ثمّ تَمْتَمَ وقال: إنّي أخاف حتى أشباحهم، وأمر بأنْ يُحْمَل الرأس إلى السجن ليوضع أمام زوجته آمنة.
وهكذا تنتهي حياة هذا الصحابي الجليل الذي وقف مع النبي في بعض غزواته، ووقف إلى جنْب عليٍّ (عليه السلام) في جميع وقائعه، ورثاه الإمام الحسين وهو يكتب إلى معاوية. ((أَوَلَسْتَ قاتِل عمرو بن الحَمِق، صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) العبد الصالح الذي أبْلَتْهُ العبادة، فنحل جسمُه، واصفر لونُه، بعد ما آمنْتَه، وأعطيتَه من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيتَه طائراً
الصفحة 92
لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلْتَه جُرْأةً على ربّك، واستِخْفَافَاً بذلك العهد)).
رحمك الله يا عمرو، فقد أدّيتَ واجبك تجاه عقيدتك، ودافعتَ عنها دفاع الأبطال، وكان موقفك الرائع درساً للأجيال، تُعَرِّفُهُمْ كيف تكون التضحية عند الفدائي أَيْسَرَ من اليسير.
رَشِيْدُ الْهُجَرِي
الصفحة 94
الصفحة 95
وانتفض أبو أراكة فزعاً ورعباً، وعلتْ الدهشة وجهه وجفّ ريقُه، وخَفَتَ صوتُه، ثم أخذ يُدير طرفه في الجالسين كأنّه يستَنْجِد بهم، وحاول أنْ يصيح، ولكنّ الكلمات ماتتْ على شَفَتَيه. ماذا يرى وأيّ مصيبة حلّتْ به، وشدّ عينه بخطوات هذا القادِم، وهو يَقترب منه، ثمّ لمْ يَلبث أنْ وقف على رأسه، ولمْ يطقْ أبو أراكة الحديث، بل لاذَ بالصمت وعيناه قد تَسَمَّرَتْ بِخُطَى الطارق الجديد، وسرتْ في جسمه رعشةٌ خفيفة عندما لمح هذا الشخص المطارَد مِنْ قِبَلِ الوالي الأموي يَلِجُ دارَه.
ونهض أبو أراكة من مجلسه، والأرض تَمِيْدُ به، ودخل على زوجته، وأسنانه تَصْطَكُّ مِنَ الرعب، والصُفْرة قد غطّتْ وجهه المَتَجَعِّد، وهو يسحب رجلَيه سَحْبَاً.
وخفتْ إليه زوجته مندهِشة من حاله لتسأله عمّا دهاه؟.
ويَجذِب أنفاسه المُتَهَرِّئَة، وكأنّه يجمعها من هنا وهناك، ويحاوِل أنْ يُجيب زوجته فيخونه التعبيرُ، ويُتَمْتِمُ ثمّ يَبْلَع رِيْقَه ويستعيد أنفاسه مرةً ثانيةً، وثالثةً، ويبحثُ عن الكلمات الجامدة في جوفه، ثمّ يلتفتُ يمنةً ويسرةً، وهو يخشى عليها من الرقيب أنْ يختطفها، ويرسلها إلى حاكم الكوفة العنيد.
الصفحة 96
وتمدُّ زوجتُه أُذُنُهَا المشدوهة إلى فَمِ زوجها المرعوب فيهمس فيها، وهو يشدّ عليها بأطراف أصابعه قائلا: (إنّ رشيد الهجري) دخل بيتنا ليختفي فيه عن عيون الذين ضايقوه في الطريق.
وتفغر الزوجة فاها مدهوشةً ذاهِلَةً، ثمّ تلطُم خدَّها، وتحاول أنْ تصرخ، فَيَكُمُّ زوجُها فمَها، ويهدّئ من خاطرها، وبعد لأْيً تستردّ أنْفاسها ويجلسان معاً للتفكير بتدبير الأمر بِحِنْكَةٍ وحَزمٍ، ويرسمان الخطة وينهض الزوج إلى رشيد يقول له وقد تحامل على نفسه:
ويحك ـ يا رشيد ـ قتلْتني، وأيتمتَ ولدي وأهلكتَ عائلتي.
قال رشيد: وما ذاك؟
قال أبو أراكة والغيظ يكاد يخنقه : لا تتجاهل ما صنعتَ بي؟ ألستَ مطلوباً لزيادٍ وإلى الأمويين، وعيونه تبحث عنك في كل مكان، فكيف تدخل عَلَيَّ في وَضَحِ النهار؟
قال رشيد: أرجو لا يكون قد رآني أحد يُخشى منه.
وحَمْلَقَ صاحب البيت في وجهه متعجِّباً، وغَمَزَ زوجته، وقال: وتسخر بي أيضاً.
ثمّ حملا عليه وأمسكاه، وأُدخِل بيتاً بعيداً عن الأنظارْ وأُغْلِقَ عليه بابُه خشيةَ أنْ يخرج فيفسد عليه أمره.
وعاد أبو أراكة إلى أصحابه في مجلسهم في رَحُبَة داره، والاضطراب بادٍ عليه، والتفتَ إليهم قائلا:
الصفحة 97
خُيِّلَ لي أنّ رجلاً شيخاً قد دخل داري آنفاً.
ولكنّ جُلاّسه أنكروا ذلك، وقالوا ما رأينا أحداً.
وكرر ذلك عليهم مرة ومرتين، وجُلاّسه يَنْفُون أنّهم رأوا أحداً يدخل داره.
ولكنّ هذا لم يكن كافياً لراحة أبي أراكة، فقام وجرَّ نفسه جرَّاً ـ والفزع يأخذ منه ـ إلى مجلس يتصيَّد فيه الأنباء؛ ليتعرَّف هل سبقه الخبرُ، فإذا علم بأنَّ النبأ طرق سمْعَ زيادٍ، يخبره بأنّه قادمٌ عليه ليُعَلِّمه بأنّ طَلِبَتَهُ في بيته، أوثقه كِتَافَاً وأنّه بانتظار مَنْ يَتَسَلَّمُهُ منه.
وطال الجلوس بالرجل في مجلس زيادٍ، ودبَّ الاطمئنان إليه بأنّ أحداً لمْ يعرف عن أمره شيئاً، ورغم هذا لمْ تتركْهُ أشباح الخوف، وغادر المجلس وفارقه، والاضطراب لم يفارقْهُ. وعاد أبو أراكة إلى بيته، وفي نفسه وجلٌ مُخَيِّمٌ رغم أنّه لمْ يرَ في مجلس الأمير ما يبعث على الخوف، واستقبلتْه زوجته، وهي تفتعل الابتسامة؛ لِتُخَفِّفَ مِن حزن زوجها، وخفّ إليها، وهو يردّ على ابتسامتها بابتسامةٍ ثقيلةٍ وقال لها:
قضيتُ وقتاً طويلاً في مجلس الأمير، فما شعرت بشيء يدل على وصول نبأ رشيد له.
وتقفز الفرحة على بسمات الزوجة، وترفع طرفاً إلى السماء، شاكرةً لها هذا اللطف. وسارع أبو أراكة الى مَخدَع رشيد ـ وهو يحاول أنْ يخفي خجله منه ـ والتقى به هاشّاً، خلافاً لعادته وابتدره.
الصفحة 98
ـ طاب يومك يا رشيد.
ـ وسعد يومك يا أبا أراكة.
وأحسّ رشيدٌ بأنّ ظِلاً من الطمأنينة قد ألمّ بصاحبه، وإنْ كانت سحابةٌ من التفكير تُخيِّم عليه، وحاول أنْ يبدِّد هذه السحابة بالاعتذار له عن مضايقته لهم، وموقفه معهم فقال: يا أبا أراكة أعتذر منك كثيراً لقد نغصَّتُ عليكم حياتكم اليوميّة وعرَّضتُكم لخطرٍ كبيرٍ، أمَا كفاني أنْ أكون أنا في خطرٍ، حتى أُشرك معي أحداً بهذا الأمر، أعتذِر منك يا أبا أراكة، وأُكرِّر اعتذاري.
وكأنّ أبا أراكة على رغبةٍ من هذا الحديث، وهذا الاعتذار فالتفتَ إليه قائلاً:
يا رشيد.. أمَا كان الأجدر بك أنْ لا تُلْقِي بنفسك في هذه المآزِق، وهذه المَهلكة، فما أنت ومعارضة الأمويين، وأنت تعلم أنّ معاوية لا يترك الأمر بالْهَيِّن، وهو لا يهمُّه أنْ يَقتل نصف المسلمين في سبيل استقامة الحُكْم له، وإنّي أنصحك أنْ تُقلِع عن هذا الأمر، وتعود إلى بيتك ترعى أطفالك وتَحْتَضِن أهل بيتك، وتُكَحِّل عيونهم بسلامتك.
وسكت عن الحديث ـ كما سكت رشيد أيضاً ـ وشعر أبو أراكة بأنّ سكوتَ رشيد دليلُ قبول كلامه، فالتفتَ إليه وقال: أَتَعِدُنِي بأنْ تُقْلِع عن معارضة معاوية يا رشيد.؟
وضحك رشيدٌ في قرارة نفسه مِن سذاجة هذا الشخص الذي يكيل له النصائح، وهو لا يعلم ـ أو يعلم ويتغابى ـ
الصفحة 99
بأنّ على الرجال المخلصين واجباً لا يمكن الفرار منه، ذلك هو الواجب الديني، وكلمة الحق تُقَال مهما كلّفتْ قائلها.
والتفتَ رشيدٌ إلى مُضِيْفِهِ، وهو يتصنّع الهدوء وقال:
يا أبا أراكة: جزاك الله خيراً عن نصيحتك، ولكنْ أَمَا تشعر معي أنّ هذا الحكم الأموي القائم غَيَّرَ جميعَ معالمنا الإسلامية، وأفقدنا العدالة الاجتماعية، التي ضَحّى مِن أجلها ـ الغالي والنفيس ـ الرسولُ الأعظم، وابنُ عمِّه عليُّ بنُ أبي طالب، والكثيرُ من قادة المسلمين.
أَتَنْكُر ـ يا أبا أراكة ـ أنّ العهد الأموي هذا عندما مَدّّ جِنَاحه على المسلمين، ضرب بالإسلام وأحكامه عَرْض الحائط، وأصدر قوانين تنسجم وأهواء هذا البيت المعارِض لرسول الله مِن يومه الأوّل، ثمّ لا يرعوي عن ترك جميع ما نصَّ عليه القرآن، وما دلَّتْ عليه السُّنَّة، حتى صارتْ المصالح النَفْعِيَّة هي الأساس لإدارة أمور المسلمين..
وكان قد بلغ الحماس برشيد مَبْلَغاً، ارتفع صوتُه بحديثه وضاق أبو أراكة بهذا الحديث، وأخذ يَلْتَفِتُ يمنةً ويسرةً، ثمّ أشار إلى ضيفه بأنْ يُخْفِضُ صوته، لأنّه يخشى الرُقَبَاء، وقد اكتسى وجهُهُ بصفرةٍ فاقِعَةٍ.
وبصوت متقطِّع قال أبو أراكة:
هذا صحيحٌ، وقد أكون مؤيِّداً لك في بعضه ـ وقد فَاهَ بهذه الجملة همساً ـ ولكنْ ما أنت والدخول في هذا الأمر، أمَا كان في البلد غيرك يحمِلُ راية المعارضة بوجه الأمويين
الصفحة 100
أَمِنَ المُسْتَحْسَن أنْ تَجْلب اليُتْم ـ بفعلك هذا ـ على بيتك وأولادك؟ فهل يتواني زيادٌ ـ وهو الوالي القاسي ـ مِن صبِّ غضبه عليك، وتخسر حياتك وتُفْسِد أمر عائلتك؟!
وأشفق رشيدٌ على هذا المخلوق الضعيف الذي مَلَكَهُ حبُّ الدنيا، فسكتَ على الباطل، وحاول أنْ يُسَكِّتَ غيرَه.
ما أكثر أمثال أبي أراكة مِن ضِعَاف القلوب، يكتمون الواقع خشيةَ غضب السلطان، وهم على علمٍ مِنْ بُطْلانه وَزَيْفِه.
واعتقد صاحِبُنا: أنَّ سكوت رشيد يدل على تقبّل حديثه، فتشجَّع على الاسترسال، وعاد للحديث ثانيةً قائلا:
يا رشيد أَعَلِمْتَ أنَّ معاوية كتب إلى وُلاتِهِ في سائر الأقطار يأمرهم بأنْ لا يجيزوا أَحَداً مِن شيعة عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) وأهل بيته شهادةً، وإنّ مَنْ قامتْ عليه البيِّنة بِمَحبّته له، يُمْحَى اسمه مِنَ الديوان، ويسقط عطاؤه، ورزقه، ويُنَكَّل به، وَيَهْدُم داره.. وعلى هذا الأساس أخذ زيادٌ وأضْرَابُهُ الناس على الظن والتهمة، ووضع في رقابهم السيف، وشدَّد النكير عليهم، بحيث أصبح الفرد يخشى حتى مِنْ ظِلِّه، ثمّ في هذا الجو المحفوف بالمخاطر تُعْلِنُ معارضتك بهذه اللهجة الصريحة؟!.. بالله عليك إلاّ ما تركتَ هذا الأمر، وانْزَوَيْتَ في قَعْرِ دارك ترعى أطفالك، وتحتضن بيتك، وبذلك تريح نفسك، ومُحِبِّيْكَ.
وضاق رشيدٌ ذرعاً بهذا البيت، وانحبستْ أنفاسه من هذا الرجل، وتأكّد له، أنّ بقاءه فيه، سَيُمِيْتُ الرجولة في قلب مُجِيْرِهِ
الصفحة 101
خوفاً وفزعاً، ولا يمكنه الصمود للحوادث، وربّما انهار أمام عيون الوالي الطاغية، فصمَّمَ على مغادرة البيت.
وحدَّثَ أبا أراكة بفكرة مغادرته، فانكشفتْ أساريره، وارتاح لهذا النبأ، وما أنْ مالتْ الشمس للمغيب حتى وقف أبو أراكة أمامه وكأنّه يذكِّره بفكرته:
رشيد لا تظن أنِّي أَمْسِكُ عليك هذا البيت، لو لا قسوة زيادٍ، وأَخْذُهُ الناسَ على الظن والتهمة، وإنّي أخشى على عِيَالِي مِنَ اليُتْمِ.
ومع الظلام ترك رشيدٌ البيت، وبَقِيَتْ صورته متجسِّمة في ذهن أبي أراكة، كلّما خطرتْ ـ في يقظةٍ وحلمٍ ـ تزحفُ معها أشباح الموت، فَيَلْتَاعُ ويَضطرِب. وكان يتجنَّب أنْ يجالس أصحابه، خشيةَ أنْ تَفْلِتُ مِن لسانه كلمةً تدلُّ على أَنَّ هذا المطلوب للوالي الأموي قد اختفى عنده، بُرْهَةً وَجِيْزَةً مِنَ الوقت.
ومضيتْ أيّام وتَبِعَتْهَا أيّام، وزيادٌ لا يلين عَن مطالبة شَرِطَتِهِ بالقبض على هذا الإنسان الخَطِرِ على الحكم الأموي، وأخيراً وفي غسق الليل انْقَضَّتْ عليه أيْدِي الجلاوزة، حين كان يحاوِلُ فيه رشيدٌ أنْ يغيِّر مكانه، وانتشر الخبر، وتسابق الناس إلى مجلس زيادٍ مع إشراقة الشمس؛ لتعرف ما يكون أمر هذا المعارِض العنيف.
وأُدْخِلَ رشيدًٌ مقيداً وامتدّتْ الأعناق، وزحفتْ الأبصار تستقبل هذا الإنسان، وهو يَرْسِفُ في وثاقة بين يدي زيادٍ، وسادَ سكونٌ عميق، كان له رهبةٌ في نفوس الجالسين.
الصفحة 102
ونطق زيادٌ، وهو يكاد يَبْلَعُهُ مِن التحديق فيه. ثمّ نَطَقَ، وهو يَصُكُّ على أسنانه مِنَ الغيظ.
إيهٍ يا رشيد، قُمْ واخطب الناس، واذكر فضائل بني أُميّة، أعْلِنْ براءتك من عليٍّ، ومن معارضتك لآل أبي سفيان، وإلاّ فبيْني وبيْنك السيف.
وطفرتْ ضحكةٌ ساخِرَةٌ على ثَغْرِ رشيدٍ، امْتَعَضَ منها زيادٌ واستشاط غضباً، وصرخ به: ما يضحكك يا كافر؟
وبكلّ جُرأةٍ وصَبْرٍ قال:
يضحِكُني ـ يا زياد ـ طلبُك مِنِّي أنْ أتبرّأ من عليِّ بن أبي طالب، ابن عمّ الرسول، وزوج بضعته الطاهرة، والكاشِف عن وجهه الكُرْبَة، والحاكِم بالسويّة والعدالة.
وقَطَبَ زيادٌ، وصرخ مُحْتَدِمَاً: كفى لا تُثْقِلْ أسماعنا بذكر مَنْ لا نحب، إذا كنتَ مُصِرَّاً على قولك، فسوف تُقْتَلُ.
فأمْعَنَ رشيدٌ في ضِحكةٍ ساخِرَةٍ، مزّقتْ قلب زيادٍ حِقْداً، ثمّ التَفَتَ إليه رابط الجأش، ثابت الجنان قائلا:
زياد، إنّ الذي يبلغ به هذا الحد مِنَ المعارضة، يَحْسِبُ لموقفه معكم ألف حساب، وإنّ العقاب الذي ستُنْزِلُهُ بي مِن قَتْلٍ وتعذيبٍ، قد وضعْتُهُ نُصْبَ عَيْنَيَّ، مِنَ الساعة التي رأيتُ فيها معاوية يتربّع على دَسْتِ الحُكْم، فيمسخ معالم الإسلام ويشوِّه حقائقه، بأحكامه التي لا تستنِد إلى قرآنٍ، أو سُنَّةٍ، فالموت أهون عليّ ـ يا بن مرجانة ـ مِنْ أنْ أرى هذا الوضع الفاسد تتحكَّمون به، وسنقِفُ غداً بين يدي الله، ونَرَى وتَرَوْن.
الصفحة 103
ويملأ كلام رشيد أسماع زيادٍ، ويضيق به، ويسأم، وترتَسِمُ على ملامحه صُوَر من الحقد والغيظ، ويلتفتُ إلى أحدِ جَلاّديه وبلهجةٍ كلُّها القَسْوة والشماتة، يأمر بقطع يَدَي الأسير، ورجليه. ليَنْعَمَ بتعذيبه.
ثمّ يلتفتُ إلى جُلاّسه مُتَشَفِّيَاً ـ وعلى شَفَتَيه يلصق ظِلَّ ضِحكةٍ صفراء عارضةٍ ـ قائلاً: لا أُريد هذا الرجل يموت براحةٍ، فَلْيَتَعَذَّب، وأُشْفِي قلبي بأَنِيْنِهِ، أليس كذلك؟.
وترتفع الأصوات الناقِمة باهتةً مُثْقلةً بالخِزْي مِنْ هنا وهناك، مِنْ أطراف مجلس الأمير، وتهتزُّ الرؤوس المُنْحَنِيَة بِذُلِّ العبوديّة مُؤَيِّدَةَ الظلم والغَدر، وتنطلِقُ الأفواه المُكَهْرَبَة بِتَيَّارِ الطمع، وهي تَتَلَعْثَمُ خجلاً: فعلاً يا أمير، فلْيُعَذَّب مُحِب أبي ترابٍ كما تشاء، ولْنَفْْرح بِفَرَحِكَ، أطال الله بقاك!!!
ويرميهم حبيبُ أبي ترابٍ، وأسيرُ زيادٍ رشيدُ الهجري بنظرةٍ كلها سُخْرِيَة وازدراء.. ولقد عرف رشيد، وعرف من هو قبله، ومن هو بعده طبيعةَ جُلاّس السلطان، وآكلة خوانه والمستفيدين منه، والمنتفِعِين في حكمه، إنّهم يسبِّحون بحمده ويهلِّلُون بذكره، ويكبِّرون بأعماله، ولو أنّها تمثِّل الظلم والحقد والعَداء.
ولمْ يبقَ خفيّاً على أحدٍ، أنّ أمثال هؤلاء ـ لا أكثر ـ مِنْ شِفَاهٍ تُردِّد ما يقوله الحاكم، وأَيْدٍ تُنَفِّذ مآربه، طمعاً في دنيا، ورغبةً في جاهٍ وحرصاً على نفعٍ.
أبداً، لم يتعجّب رشيدٌ من مَنْظر هذه الطبقة التي تَحُفُّ بزيادٍ
الصفحة 104
وهي هي، كانتْ تحفُّ بالولاة مِن أعداء زيادٍ قبل هذا اليوم، ولمْ يكنْ عليه بالجديد هذا اللون مِن النفاقْ فهم يَنْعَقُوْنَ مع كلِّ نَاعِقٍ.. أداةٌ طَيِّعَةٌ لكلّ والِيّ وكلّ أمير، وكلّ زعيم.. وهو مِن أُولئك الذين عرفوا المجتمع، ووقفوا على حقيقة تكوينه العقائدي، ولمْ يستغرِب أبداً مطاردة القوم له، لأنّه مِن مدرسة الإمام عليٍّ (عليه السلام) الذي ما عرف الباطل إليه طريقاً، ولا طرفة عينٍ..
ولهذا لمْ يتأثَّر رشيدٌ عندما يسمع الأصوات ترتَفِع في مجلس زيادٍ، وهي تُردِّد رغبتَه. نعم يا أمير، فلْيُعَذَّب شيعة أبي ترابٍ كما تشاء، ونفرح بِفَرَحِكَ..
وضاق الوالي الغاضِب بِرَشِيْدٍ، وخاف أنْ يُمَزِّق هذا الأسير الجوَّ الإرهابي الذي اصْطَنَعَهُ في مَجْلسه؛ ليبعثَ الرعبَ والخوفَ في نفوس أهل الكوفة، فَيَنْهَدِم تخطيطه، فأشار إلى الجلاّد أَنْ يقطع رأسَه؛ لِيُرِيْحَ نفسَه مِن شَرِّه.
ولكنَّ شيخاً طاعِنَا في السنِّ ـ مِمَّنْ يجلس على مّقْرُبَةٍ مِنَ الأمير ـ قام وهو يتوكّأ على عصاه، حتّى إذا وقف قِبَالة زيادٍ، التَفَتَ إليه بكلماته المُرْتَعِشَة: سَلَّمَ اللهُ الأميرَ، لا تقتلْ الرجل فيستريح، دعْه يعاني الألمَ والشقاء، اتركه بهذه الحالة زَمَنَاً عَلَنَاً؛ نشفي غَلِيْلَنَا منه كما تَعَذَّبَ عثمان..
ولمْ يسكتْ رشيد. كل ما يَلُمّ به من أذى، وتعذيب، بل يستقبِلُ كلّ ذلك بصبرٍ وثباتٍ، واستمرّ يُمَزّقُ الأمويين، ويَذْكُرُ مَثَالِبَهُم وحقدهم على آل محمّد، وعدائهم الصارخ للإسلام.