الصفحة 178
ويجيبه أحدهم وهو يلتفتُ يمنةً ويسرةً فكأنّه يُحاذِر أنْ يتصيّد حديثه أحد: إنّ آمال معاوية طويلة عريضة لا تنتهي إلى حدٍ.. إنّه لا يستقر حتّى يجتثَّ الجذور العلويّة المناوِئَة للأمويين، فأحقاد (بدر) لا تزال ريّانة الصدى في أعماقه، وذكريات (حنين) حيّةً ناميةً في ذهنه، تحزّ في نفسه وتثير في دخيلته اللوعة، ألا تراه لا يستقرّ في مجلسه إلاّ ويَغْرَق في الضحك، يصفّق فرحاً، ويرقص جَذَلاً، يأمر بقرع الطبول ونقر الدفوف، ويتمادى في فرحته، فيأمر بنثر الأموال على الجالسين، لقد سل القدر من عينيه سهماً كان يأخذ عليه نورَ حياته.
والتفتَ ثالث من الجالسين إليهم، وقد بدا مذعوراً غاضباً وحاول إن يتكلّم فخانتْه الكلمات، وأخيراً تمكّن من دفع بعض العبارات، مضطربةً تهتزّ من خوفٍ: يا قوم اتركوا هذا الحديث، ما لنا والدخول في أمر معاوية وعلي. أمَا تعلمون أنّ لمعاوية عيوناً، وآذاناً منتشرةً في كلّ مكان، وإنّ سجن الأمويين لا يطاق.
وخيّم على الجالسين صمتٌ ووجومٌ، وكأن المتكلم نقلهم لنفس السجن، وطال الصمتُ. وبدتْ على وجوه البعض منهم خطوط ألم وجزع، لقد أوغل ابن أبي سفيان في عداء علي (عليه السلام) ومحاربة أصحابه، رغم أنّه على علم من مكانة علي (عليه السلام) لكنّ الأسلوب الوحيد الذي اتخذوه في قلب الوضع في صالح الأمويين هو أُسلوب العنف والإرهاب.
الصفحة 179
فقد كتب معاوية إلى عماله في كل مكان إنْ لا يجيروا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وكل من تقوم عليه البينة أنّه يحب عليّاً وأهل بيته يُمحى من الديوان، ويسقط عطائه ورزقه، ومَن اتُّهم بموالاة علي، أو مَنْ يساعد هؤلاء المحبين عليّاً، فيُنَكّل به، وتُهْدَم داره، وتُسْبَى عِيَالُه.
وهذه الحرب النفسيّة من جهةٍ، والمطاردة العنيفة مِن جهةٍ أُخرى كانتْ لها أثر في تقوية مركزهم.
فلقد قيل لمروان بن الحكم: مالكم تسبّون عليّاً على المنابر بهذا الشكل وهذا الأسلوب؟
فيردّ الصَلِفُ بكلّ صراحة: إنّه لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بذلك!!
وليس هذا فحسب، بل إنّ ابن العاص يُعَدِّد فضائل علي في كتاب يردّ به على معاوية، فيقول:
(وأمّا ما نسبتَ أبا الحسن، أخا رسول الله، ووصيّه إلى البغي والحسد على عثمان. وسمّيْتَ الصحابة فَسَقَة، فهذا كَذِبٌ وغُوَايَة، ويحك يا معاوية، أمَا علِمْتَ أنّ أبا الحسن بذل نفسه بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبات على فراشه، وهو صاحب السبق إلى الإسلام والهجرة، وقد قال فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، هو منّي وأنا منه، وهو منّي بمنزلة هارون، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، وقال فيه يوم الغدير: ((ألاَ مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه. اللهمّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَن عاداه، وانْصُر مَن نَصَره، واخْذُل مَن خذله)).
لكنّ الملك، ومعاوية يتهالك على المُلك، ويريدها ملكاً
الصفحة 180
عضوضاً، ولا يبالي إذا كان الحكم متهرّءاً والإسلام مخذولاً.
وقبل أنْ يتفرّق المجلس، إذْ بصديقٍ أقبل عليهم، يخبرهم أنّ معاوية في مجلسه، وقد طلب محمّد بن أبي حذيفة؛ ليزفّ إليه خبر مقتل إمامه علي..
ورغم أن محمداً لا يبتعد عن معاوية، فهو قريبٌ له، لكنّه مِمّن عرف عليّاً حقّ المعرفة، ولازمه ملازمةَ الظل، وعُدّ من أصحابه الخُلّص، وهو بعد هذا ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، ولقد وُلد بأرض الحبشة عند هجرة أبيه أبو حذيفة، من فضلاء المهاجرين، شهد مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كلّ غزواته، وقُتل يوم اليمامة، واختصّ محمّد بصحبةِ علي، وكان من أشد الناس تأليباً على عثمان، وكان يُنكر عليه جمعه للأمويين، وتوزيع أموال المسلمين عليهم.
وولِيَ محمّد مصر من قبل الإمام علي، وثم وَلِيَها قيس بن عبادة ثم (وليها الأشتر، ثم وليها محمّد بن أبي بكر، ومحمّد ابن أبي حذيفة لم يتغيّر على الإمام علي، بقي في مصر.
وزحف عمرو العاص بِجُنْده على مصر لاحتلالها، وضعفتْ مقاومة ابن أبي بكر أمام قوّة الأمويين الهائلة، وأُلقِي القبض على محمد.
وعمرو بن العاص وبطانته، بلغ بهم الحقد على الإمام علي وصحابته بحيث لم يحفظوا لأَحَدٍ من الصحابة قداسةً، فقد حكموا على محمد بن أبي بكر بالقتل، والحرق، ونفذ ابن العاص ـ وهو الناقم ـ حكمَه القاسي دون أنْ يحفظ لأبي بكر حرمةً، فقد قُتل وأُدخِل في جِلد حِمار ثم أُحرق.
الصفحة 181
وتشتّتَ شمل أصحاب ابن أبي بكر، وكان من بينهم محمد ابن أبي حذيفة.
واضطر الرجل المجاهد أنْ يتسلّل من مصر رغم عيون ابن العاص، الذي كان يعلم وجود ابن أبي حذيفة في الجيش، وإنّ هذا خير هديّة يقدِّمها لمعاوية، لأنّه من صحابة علي، ولا يهمّه أنْ يكون من أقربائه.
ودخل الشام متخفّياً، يُغَيّر من سيمائه ما أمكنه، ومن مشخّصاته ما استطاع. ولكنّ عيون معاوية لا تخفى عليها خافيةٌ، واتصلت بصورة عاجِلَة بمعاوية. فرقص لهذا النبأ وأعطى للمُخْبِرين جوائزهم.
وتمّ إلقاء القبض على محمد بن أبي حذيفة، وأُحضر بين يدي معاوية.
ولمعاوية رَحِمٌ من محمد ـ كما تقول الرواة ـ ولكنّه لا يمنع هذا من كراهية معاوية له، ويعتبره من أنشط المؤلِّبين عليه.
وضحك معاوية ضحكةً طويلة في وجه الأسير، وبسيفه استعرض خدّ محمّد يحاول تهديده. ثم خاطبه:
أمَا آنَ لك أنْ ترعوي عن غيك، وتعود إلى رشدك، وتتخلّى عن حب علي؟ فإنّي اكره أنْ أقتلك لقربي منك.
وأشاح محمد بوجهه عنه، وفضّل أنْ يقابله بالاحتقار والسكوت على الإجابة.
وعجز معاوية عن استمالة محمد. فأمر بسَجْنه. وأوصى السجّان أنْ يكون سِجْنه عسيراً.
الصفحة 182
وأُودِع سجناً لا يعرف الليل فيه من النهار، قد جلّلَتْ الرطوبة أطرافه، وطال به السجن، كما طال عليه العذاب.
ووصل خبر مقتل علي إلى معاوية، وهو في رهج الفرحة، تذكّر محمدَ بن أبي حذيفة، وهذا وقت الشماتة، فأمر بأنْ يُأْتَى به من السجن إلى مجلسه، وقد تجمّع حوله كل نهّاز نميم.
ودخل محمد إلى المجلس، وهو يتكئ على بعض الحراس إذ لا يكاد يُبصر النور، فقد أثّر فيه السجن، وأطبق أنيابه عليه، بالإضافة إلى طول شعره، ورداءة ثيابه.
وعندما عرف محمد إنّه في مجلس معاوية أفلتَ يديه من حُرّاسه، وزحف بقيوده إلى كرسي الطاغية. فجفل معاوية من هذه المفاجأة، ولو لا شيء من حياءٍ مَنَعَهُ من ذلك، لقفز من عرشه.
وزاغت عيون الملتفّين حول معاوية، وصرخ المتملِّقون: امسكوا الرجل. وامنعوه من التقدم، حِيْلُوا بينه وبين معاوية.
ووقف محمد على مقربة منه، وهو يطيل النظر إليه، يحاول أنْ يقشع عن عينيه ظلمة السجن، ونفرتْ ضحكةٌ ساخرة من هذا المُكَبّل بالحديد.
وجمع معاوية أطرافه، ودحرج من فمه الكلمات:
يا محمد: ارفق بحالك وبأهلك، أَلَمْ يَأْنِ لك أنْ تتبصّر.
وتترك موالاتك لعلي، فقد قُتل واسترحنا منه؟ وحاول معاوية أنْ يسترسل في حديثه، إلاّ أنّ بعض أصحابه لكزه بإبهامه، وغمز له بعينه.
الصفحة 183
وفهم معاوية مراده فمسك عن الكلام، وأرخى له عينين ساهمتين.
والتفت محمد إلى معاوية، وقد بدتْ على سِحْنته موجةٌ من السخط: إنّك لتعلم إنيّ أَمَسّ القوم بك رَحِمَاً، وأعرفهم بك.
ـ أجل. أجل. ثم ماذا.
ـ إنّك تطالب بدم عثمان. فو الذي لا آله غيره ما أعلم أحداً شُرك في دم عثمان، وألّبَ الناسَ عليه غيرك؛ لمّا استعملك على الشام، فسأله المهاجرون والأنصار أنْ يعزلك، فأبى، ففعلوا به ما بلغك، وأنت تطلب منّي أنْ أتبرأ من علي، لأنّ عليّاً ـ كما تدّعي ـ ساعد في قتل عثمان، فلماذا لا أتبرأ مِمّن كان السبب في ذلك وهو أنت (اللّهم اشهد بأنّي بريء من معاوية، وإنّي لأشهد أنّك منذ عرفتك في الجاهلية، والإسلام على حدٍّ سواء).
وقاطعه معاوية ضاحكاً، وهو يرمقه بنظرات حادّة، تكاد تكون شُعلة من لَهَبٍ.
ـ يا محمد، لي إليك حاجة، فهل لك أنْ تُجيب؟
ـ إذا كان فيها ما يرضي الله، ورسوله.
ـ إنّك رحمي، وأعز الناس لي، وقد رأيتَ من الظلم أنْ أُعذّبك إلى هذا الحد، ورغبتَ أنْ أُسدي لك خدمة تُنسيك ما لاقيته منّا. اخْتَر أيَّ ولايةٍ تشاء نولِّيك عليها، ولك في كل عام ألف ألف دينار ذهبٍ وما تحتاج، دون قيدٍ وشرط.
وصاح محمد، وهو يقطع عليه حديثه: كفى كفى يا معاوية لا أبيع ديني بدنياي، أبْعد الله عنّي ولايتك، وأغناني عن
الصفحة 184
مالك، وعوّضني عن جاهِك، بما أحب وأصبو إليه.
والتفت إليه أحد جلاوزته: يا محمّد إنّ معاوية بذل لك الذي لا تستحقّه، ولو بذل نصف ما بذله لك لأطعتُه، ولم أعصِ له أمراً.
فأجابه محمد: اخسأ، يا رجل فالنفوس لا تُباع ولا تُشرى، إنّ طاعة الله خيرٌ لي من طاعة إنسان.
وخابتْ ظنون معاوية، وقد انهارتْ أعصابه أمام صلابة هذا الرجل الذي بين يديه، وكأنّه لا يخشى سطوتَه، ولا يهاب قوّته. وألقى نظرةً على الجالسين فرآهم قد ذُهِلُوا بجرأة ابن أبي حذيفة وشجاعته الفائقة. وصراحته التامّة.
والتفت إلى أصحابه المتملّقين، وهو يحرق الأرم من الغيظ، والحنق قلّص وجهَه، والعَرَق يتصبّب من جوانبه، وعيناه قد غامتا في كهوفهما.
فصاح به أحدُهم ما بالك يا أبا يزيد؟
إنّ هذا الذي واقف بين يديك أثارني. إنّ وجوده أصبح خطراً علينا، أمَا ترى العيون تكاد تلتهمه احتراماً وإكباراً ليعود لسجنه، ولعل الليل ينهي أمره فتستريح منه.
وتوجّه إلى محمد قائلاً: إنيّ يا محمد أراك على ضلالك بعد، فَعُد إلى سجنك والموت ينتظرك.
يا حرّاس اذهبوا به إلى أفظع سجنٍ عندنا، ولا تدعوه يستريح.
وضحك محمد وازداد ضحكاً، وهو يرى معاوية في ثورة
الصفحة 185
عارمة، وقبل أنْ يودّعه التفت إليه، وقال: يا معاوية: إنّ الله لك بالمرصاد، وإنّ حسابك لعسير بين يديه، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون.
خذوه يا حرّاس، وأريحوني منه.
ويلقي ابن أبي حذيفة نظرته الأخيرة على هذه الجموع المُحْشَدَة في مجلس معاوية، فيها الكثير من الشفقة على هذه النفوس المشدودة إلى معاوية، برباط الذهب والمال والجاه والسلطان.
ويسحب الجلاوزة أسير سيّدهم، ويودّعه الجالسون بإعجاب وإكبار.
ولم يمر زمان حتّى يُعلن السجّانون في مجلس معاوية بأنّ محمد بن أبي حذيفة مات في سجنه، وتطلّ على الجالسين سحابةُ حزنٍ وكآبة، ويتساءل المتسائلون، هل مات محمد حَتْفَ أنْفِه، أم هناك سبب لم يذكره معاوية، ولم يشأ أنْ يذكره. وهذا ما كَتَمَهُ التأريخ؟؟.
ويبقى ابن أبي حذيفة خالداً، رغم اندثار الأمويين؛ لأنّه على الحق، وجاهد ضدّ الباطل، وأرخَصَ حياته في سبيل عقيدته. وهكذا جزاء المخلصين..
الصفحة 186
مصادر الكتاب
1 ـ رجال الشيخ الطوسي
2 ـ تاريخ الطبري، لابن جرير
3 ـ طبقات الكبرى، لابن سعد
4 ـ مروج الذهب، للمسعودي
5 ـ السيرة النبوية، لابن هشام
6 ـ حلية الأولياء، لأبي نعيم
7 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد
8 ـ الإصابة، لابن حجر
9 ـ الاستيعاب، لابن عبد البر
10 ـ أسد الغابة، لابن الأثير الجزري
11 ـ صفين، لنصر بن مزاحم
12 ـ الجامع الكبير للسيوطي
13 ـ المستدرك، للحاكم النيسابوري
14 ـ كنز العمال، للمتقي الهندي
15 ـ الغدير، للشيخ الأميني
الصفحة 188
16 ـ أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين
17 ـ تهذيب التهذيب، لابن حجر
18 ـ لسان الميزان، لابن حجر
19 ـ تاريخ الإسلام، للذهبي
20 ـ رجال الشيخ عبد الله المامقاني
21 ـ تأريخ ابن عساكر
22 ـ التذكرة، لابن الجوزي
23 ـ تاريخ الخلفاء، للسيوطي
24 ـ الصواعق المحرقة، لابن حجر
25 ـ تاريخ ابن كثير
26 ـ بحار الأنوار، للمجلسي
27 ـ الإرشاد، للشيخ المفيد
28 ـ تاريخ اليعقوبي
29 ـ إيمان أبي طالب، لفخار بن معد، تحقيق محمد بحر العلوم
30 ـ ضحايا العقيدة، محمد بحر العلوم
31 ـ مواقف حاسمة، محمد بحر العلوم
32 ـ الولاة والقضاة، للكندي