في وجوب وجود الإمام المعصوم

وهو أصل: إعلم أيها الأخ الصادق، والحميم الموافق، أن العصر لم يزل مفتقر إلى وجود إمام معصوم يشرّع الأحكام، ويأمر بالحلال، وينهى عن الحرام، ويدل على اللَّه، ويعرّف باللَّه، ولا يصح هذا المقام، بل لا يصح هذا المرام إلّا للنبي الأمي، ولذريته عليهم السلام، ولاشك في عصمتهم، ولا ريب في طهارتهم؛ لقول اللَّه تعالى: 'إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت'
___________________________________
سورة الأحزاب: 33.
الآية.

ومن شرطهم العدل، والإنصاف، وإلى غير ذلك من الأوصاف، لقوله تعالى: 'لا ينال عهدي الظالمين'.
___________________________________
سورة البقرة: 124.

فدل على أن غير المعصوم ظالم لنفسه ولغيره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: 'المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل'.
___________________________________
مسند أحمد: 303 / 2، سنن أبي داود: 442 / 2 ح 4833، سنن الترمذي: 17 / 4 ح 2484، المستدرك: 171 / 4.

وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام:

ولا تصحب أخا الجهل++

وإياك وإياه

فكم من جاهل أردى++

حليماً حين واخاه

يقاس المرء بالمرء++

إذا ما هو ماشاه

وللشي ء على الشي ء++

مقاييس وأشباه
___________________________________
دستور معالم الحكم لابن سلامة: 200، تاريخ دمشق: 526 / 42، البداية والنهاية: 12 / 8، كنز العمال: 179 / 9 ح 25592.

وكان الإمام علي الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: 'من كنت مولاه فعلي مولاه'.
___________________________________
سبق تخريجه.
وقوله: 'أنت مني بمنزلة هارون من موسى'
___________________________________
سبق تخريجه.
الحديث.

وهذان الحديثان مجمع على صحتهما. وكان يدعى علي عليه السلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بأمير المؤمنين، وكان يقيم الحدود بين يديه، ولما تعيّن بعد النبي صلى الله عليه وسلم للإمامة تعيّن بعده الحسن والحسين بنص منه.

وقول من النبي صلى الله عليه وسلم: 'الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا أنطقا أو صمتا وأبوهما خير منهما' إلى غير ذلك من الأحاديث.

وعلى هذا الاعتقاد إلى أن يرث اللَّه العباد. والإمامة أما أن تكون نصاً، أو صفة، أو اختباراً، والمجموع حاصل مقرّب، مكرر، مؤكد، فلا نعيده. وأن الأئمة المعروفين إثنا عشر بإجماع أهل الإسماع، ووافقهم المخالفون في ذلك.

فروى البخاري، ومسلم في صحيحيهما، والسجستاني في السنن، والخطيب في التاريخ، وابن بطة في الإبانة، وأبو يعلى في المسند، مرفوعاً إلى جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: 'لا يزال الإسلام عزيزاً إلى إثنا عشر خليفة، كلهم من قريش'.
___________________________________
صحيح البخاري: 127 / 8، صحيح مسلم: 3 / 6، سنن أبي داود: 309 / 2 ح 4280، تاريخ بغداد: 124 / 2و 354 / 14، مسند أبي يعلى: 457 / 13 ح 7464.

وفي رواية: 'عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل'
___________________________________
مسند أبي يعلى: 444 / 8 ح 5031 و 222 / 9 ح 5322، مسند أحمد: 398 / 1 و 406، المعجم الكبير: 158 / 10 ح 10310، مجمع الزوائد: 190 / 5.

وليس لنا في الدهور من ادعى هذا الفضل المذكور المشهور، ومن ذهب إلى غير هذا الاعتقاد فليس من العباد 'ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة'.
___________________________________
سورة الأنفال: 42.
وإذا ثبت هذا فنقول:

فرع: واعلم أن من سنة اللَّه تعالى بعثه الأنبياء، فلما انقضت مدتهم تعين لنا اتباع عترتهم، والأولياء على مراتبهم يلتحقون بالأنبياء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: 'علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل'.
___________________________________
تاريخ ابن خلدون: 325 / 1، المحصول للرازي: 72 / 5، فيض القدير: 21 / 1، سبل الهدى والرشاد: 337 / 10.

فإذا كان ذلك كذلك فالأرجح والأولى ما ذكر الشي ء، وخصص وعيّن. ومما يؤكد قوله صلى الله عليه وسلم عن القدّوس السلام: 'لولا مشايخ ركّع، وصبيان رضّع، وبهائم رتّع، لصبّ عليهم العذاب صباً'.
___________________________________
سنن البيهقي: 345 / 3، مسند أبي يعلى: 287 / 11 ح 6402، المعجم الأوسط: 1347، تاريخ بغداد: 62 / 6.

ولاشك أن هؤلاء المشايخ لا يرون التقدم شرعاً، وعقلاً، وأدباً، على عترة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: 'الأئمة من قريش'.
___________________________________
مسند أبي داود الطيالسي: 125، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 517 / ح 119، تاريخ دمشق: 11 / 61، الجامع الصغير: 480 / 1 ح 3108.

وقال في حديث آخر: 'قدموهم ولاتقدموهم'.
___________________________________
مسند الإمام الشافعي: 278، السنة لابن أبي عاصم: 623 / ح 1521 - 1519، تاريخ بغداد: 59 / 2، تاريخ دمشق: 279 / 42 و 327 / 51، وفي المصادر: 'قدموا قريشاً ولا تقدموها'.
إلى غير ذلك، وقال اللَّه تعالى: 'يوم ندعوا كل أناس بإمامهم'.
___________________________________
سورة الإسراء: 71.

وهذا دليل على وجود من يصلح الوجود باقامته فيهم، ويلم شعثهم بنظره إليهم، ويستجاب دعاءه لهم وعليهم، فاتباعه واجب، نظر الناظر في محبته صائب. وحيث ما كنت من بلاد فلى إلي وجهك التفات. واختلف العلماء في تقديم المفضول على الفاضل، وترجيحه على من هو دونه: فذهب أبو حنيفة إلى أن التقديم جائز، ولا فضيلة في العلم إذا تساويا في التقى؛ لأنه الأصل، واحتج بقوله تعالى: 'إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم'
___________________________________
سورة الحجرات: 13.
ولم يقل أعلمكم، ولا يلزم الإمام أن يكون عالماً، لأن العلماء تحت حكمه وولايته.

وقال الشافعي، ومالك، وأحمد: إذا تساويا في التقى فالإمامة في العالم، واحتجوا بحجج منها: قوله صلى الله عليه وسلم: 'يأم القوم أقرأهم لكتاب اللَّه تعالى، فإن كانت قراءتهم سواء فأفقههم، فإن استووا فأسنّهم، فإن استووا فأشرفهم، فإن استووا فأقدمهم هجرة'.

فإذا أثبت هذا، فلن يبق إلّا الإجماع، والإجماع يتسلسل فلا نطيل ذكره.

أصل آخر: اعلم أن من أسماء اللَّه تعالى: الظاهر والباطن، وأجرى لأسمائه صفات تظهر في مخلوقاته لقوله تعالى: 'كنت كنزاً لا أُعرف، فأحببت أن أُعرف، فخلقت خلقاً كي يعرفوني'.
___________________________________
تاريخ ابن خلدون: 471 / 1، كشف الخفاء: 132 / 2 ح 2016.

وهذا من الظهور، والسر فيه أنه سبحانه أجرى عادته، وأظهر حجته ببعثه الأنبياء، وأعقبهم بعترتهم الأصفياء، ولهذا قال اللَّه تعالى: 'ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا'
___________________________________
سورة الزمر: 71.
الآية.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: 'معاشر المسلمين - مراراً عدة - ألا |هل| بلغت'.

ومن الأمر الباطن: إخفاء السر المكنون مما وعد به الصادق رسول اللَّه من إمارات القيامة، وعلامات الساعة، مما يجب الإيمان به، والقطع لوجوبه، ولقوله تعالى: 'الذين يؤمنون بالغيب'
___________________________________
سورة البقرة: 3.
الآية.

ومن ذلك ظهور عيسى عليه السلام، وخروج الإمام المهدي عليه السلام، إلى غير ذلك مما وعدنا به في التنزيل والحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: 'أوحى اللَّه تعالى إلي أن أقوم بفضلك يا علي' ثم بكى واشتد بكاؤه وقال: 'أخبرني جبرئيل الروح الأمين عن رب العالمين أنك تُظلم وتقاتل وتمنع حقك ويقتلون |ولدك|، وأخبرني أن ذلك الظلم يزول إذا قام قائمهم، وعلت كلمتهم، واجتمعت الأمة على محبتهم، وكان الشاني ء لهم قليلاً، والكاره ذليلاً، فعند ذلك يظهر القائم فيهم من اسمه كأسمي، وهو من ولد ابنتي |فاطمة| يظهر به اللَّه تعالى الحق، ويخمد الباطل بسيفه، ويتبعهم الناس راغب وخائف، اللهم إنهم أهلي فاكلأهم وارعاهم، وكن لهم، وانصرهم، واخلفني فيهم، إنك على كل شي ء قدير'.
___________________________________
مناقب الخوارزمي: 62 / ح 31، فرائد السمطين: 34 / 1، ينابيع المودة: 46 / 1 ح 4، وما بين المعقوفتين أثبتناه من المصادر.

وقال عليه السلام: 'إني لا أحلّ لأحد أن يتكنى بكنيتي، ولا يسمى باسمي إلّا مولود لعلي من غير ابنتي فاطمة، فقد نحلته اسمي وكنيتي'.
___________________________________
الطبقات الكبرى: 92 / 5، تاريخ دمشق: 330 / 54، سير أعلام النبلاء: 115 / 4، كنز العمال: 129 / 12 ح 34329.

صلى على عليه وعلى آله ما لاح نجم وأفل وقام حق وبطل. وقد عرفونا مرة بعد مرة وعلم بيان المرء عند المجرب.

في ولاية أميرالمؤمنين علي

قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: 'لأعرفنكم ترجعون بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض - الحديث، ثم التفت وقال: - أو علي ثلاثاً' فنزل قوله تعالى: 'فإما نذهبنّ بك فإنّا منهم منتقمون'.
___________________________________
سورة الزخرف: 41.

أي: بعلي عليه السلام، أجمع المفسرون على ذلك.
___________________________________
شواهد التنزيل: 529 / 1 ح 563 و 216 / 2 ح 851، مناقب ابن المغازلي: 275 / ح 321 و 321 / ح 366، الدر المنثور: 18 / 6، فردوس الأخبار: 154 / 3، ينابيع المودة: 293 / 1 ح 1 عن أبي نعيم الأصفهاني في ما نزل من القرآن في علي.

وقد أوجب النبي لعلي ما أوجب لنفسه من الاتباع والمحبة، فمن أنكر هذا فليس بمسلم؛ والدليل على ذلك: استعمال اللغة العربية التي نطق بها الكتاب العزيز فقال تعالى: 'إنما وليكم اللَّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون'.
___________________________________
سورة المائدة: 55.

وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه خرج إلى المسجد ليلاً، فاستقبل سائلاً فقال له: 'من تركت في المسجد؟'.

فقال: رجل تصدق علي بخاتمه وهو راكع.

فدخل المسجد، فرأى علياً فكبّر، وقرأ: 'إنما وليكم اللَّه' الآية، والذي تقدما.
___________________________________
شواهد التنزيل: 209 / 1 ح 234 - 216، تفسير البغوي: 47 / 2 ح 47، تفسير ابن كثير: 74 / 2،

الدر المنثور: 293 / 2، تاريخ دمشق: 357 / 42، البداية والنهاية: 395 / 7.

وفي هذا الحديث روايات عدة والصواب منها هذه الزبدة، ولحسان بن ثابت:

أوفى الصلاة مع الزكاة فقامها++

واللَّه يرحم عبده الصبارا

من ذا بخاتمه تصدق راكعاً++

وأسره في نفسه إسرارا

من كان بات على فراش محمد++

ومحمد أسرى يأم الغارا

من كان جبرئيل يقوم يمينه فيها++

وميكال يقوم يسارا

من كان في القرآن سمي مؤمناً++

في تسع آيات نزلت كبارا
___________________________________
شواهد التنزيل: 237 / 1 ح 238، روح الجنان: 249 / 4، مناقب الخوارزمي: 281 / ح 275، معارج الوصول: 35.

ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم: 'أيما امرأة نكحت بغير أذن وليها فنكاحها باطل'
___________________________________
مسند أحمد: 66 / 6، سنن أبي داود: 463 / 1 ح 2083، سنن الترمذي: 281 / 2 ح 1108، المستدرك: 168 / 2.
يريد بذلك من هو الأدنى، فليس له مع وجود الأعلى ولاية، وهذا مطرد في سائر الأحكام، ولا ينعكس إلّا المعكوس من الأنام، وقال اللَّه سبحانه وتعالى: 'فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب'
___________________________________
سورة مريم: 6 - 5.
الآية.

فتقديره أن الولد أولى بحيازة الميراث من بني عمه، ويقال للعصبة: أولياء الدم؛ لاستحقاقهم المطالبة بالدم أو العفو. ويقال للمترشح للولاية: ولي العهد، فإذا تولى قيل له: أمير المؤمنين.

وللَّه در القائل:

نعم ولي الأمر بعد وليه++

ومنتجع التقوى ونعم المؤدب
___________________________________
الشاهد للكميت، أنظر: الهاشميات: 40.

والولي، والأولى، والأحق، والمولى، بمعنى واحد، وقد جعل اللَّه تعالى علياً بعد رسوله من غير شك وريب ولا خلاف في الثناء عليه، والإيماء بالدعاء المجاب إليه، فمن أنكر ذلك جحد وكفر، وعلى اللَّه تعالى ورسوله تكبر وتجبر، والإشارة كافية شافية للمسلم.

ولربما يخزن اللبيب لسانه++

حذر الكلام وأنه لمفوه
___________________________________
البيت لأبي مالك، أنظر: الورع لابن أبي الدنيا: 79 / ح 106، الصمت لابن أبي الدنيا: 222.

وليس فيما ذكر ونذكره تأويل، وكفى اللَّه التحريف والتبديل 'تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم'
___________________________________
سورة البقرة: 134.
فيجب على العاقل التصديق، ويتيقن أن هذا هو الحق الحقيق، ولا يتردد ويتعسف كبني إسرائيل وغيرهم لما أمروا بذبح البقرة، وتقلد من لا يقدر على استنباط الأحكام وشبهة الحلال من الحرام، فإنّ من شأن كشف هذه المطالب أن يكون للطالب سر صلاحية الطلب، وتلك الصلاحية منها ما يكون مكتسباً ومنا ما لا يكون، وكلاهما يؤيد ما قلت، ولكل شي ء ظاهر وباطن فلا يدل الظاهر على عدم الباطن، ولكل منزلة تعلم ببديهة العقل، فكيف وقد ساعد النقل، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: 'كنت نبياً وآدم بين الماء والطين'.
___________________________________
تحفة الأحوذي: 56 / 10، فيض القدير: 69 / 5، كشف الخفاء: 129 / 2، ينابيع المودة: 46 / 1 ح 5.

فكونه عليه السلام لم يظهر في زمن نوح وإبراهيم وغيرهم لا يدل على عدم نبوته في نفس الأمر، ثم لما ظهر وكفر به من كفر لا يدل على أنه ليس بنبي.

إلى اللَّه أشكوا أن في الصدر حاجة++

تمر بها الأيام وهي كما هيا