مغفرة و رحمة

يا حسرات الهالكين إذا عاينوا أهل السلامة، ويا زفرات النادمين يوم الطامة، ألا راحم نفسه، ألا ذاكر رمسه، وقد دهم الموت، وتحقق الفوت، وكشفت سرائره، وسرط مرائره، فالأجساد بالية، والرمم متلاشية، ولا يرى لهم من باقية.

العجب كل العجب لمن عمره يخرب وهو بأنواع الملعوبات يلعب، فلا الموعظة تنفع ولا الحوادث تردع ولا داع يسمع، وقد صفق في الديار، وطوى الآثار،

فالصحائف مسودة، والأبصار غير مرتدة، فعلام الغرر والسفر قد حضر، والدنيا من وثق بها خذلته، ومن اعتصم بها أسلمته، ومن طلبها فاتته، ومن تجنبها أتته. أعاذنا اللَّه وإياكم من الخسران، وظفرنا بالأمن والإيمان، وألحقنا بمن أخلص للَّه أيمانه فأعطاه أمانه، وذلل للحق قلبه ولسانه، وكفى جوارحه عصيانه وأعانه، وصح بيوم المعاد اتيانه، ورجح فيه ميزانه، وعمّر قلوبنا بذكر مردّنا إليه، ووفقنا وإياكم للعمل بما يزلف لديه، وحجبنا بحجاب العصمة، وعصمنا من بوائق كل نقمة، وأسبل علينا ستور الرأفة والرحمة، وأتحفنا بتحف مزيدة، وديّننا بتوحيده، وجعلنا ممن استمع الوعظ فوعاه، وقام بحقوق ربه فيما استرعاه، وتغمدنا برحمته يوم القيامة، وجمعنا مع أوليائه في دار المقامة، وأستغفر اللَّه العظيم، وأسأل العفو من الكريم.

وكان تأليف هذا الكتاب وتحريره بالرباط الكبير الشريف المعروف بالأضلاطية تغمدها اللَّه برحمته ورضوانه، وأسكنها بحبوحة جنانه، بغربي بغداد المحروسة، في عاشر ذي الحجة اغتناماً للأجر في العشر، لأنها الأيام المعلومات المختصات للذنوب، وفيها تحنّ الأرواح كحنين الطير إلى أوكارها، ويفدون على اللَّه تعالى من فجاج الأرض وأقطارها، يعجون بالتلبية لبيك اللهم لبيك ها نحن عبيدك الوافدون عليك، فمهد لهم الضيافة، وتحسن على مخلفيهم الخلافة، وتجود عليهم برحمته، وتمنّ على فقرائهم بمغفرته.

من لي برؤية ما قد كنت ألفه++

وبالزمان الذي ولّى فلم يعد

لا فارق الحزن قلبي بعد بُعدهم++

حتى يفرق بين الروح والجسد

واشوقاه إلى تلك الأماكن++

واأسفاه على تيك المواطن

منازل كنت أهواها وألفها++

أيام كنت على الأيام منصورا

فتقدير ختامه كرمي جمرة العقبة، وتقرير نظامه كعيد أهل مزدلفة، وكان الغرض من هذا التبرك بالحجيج والدعاء والضجيج لتعود ثمرة هذا الكتاب على السلطان أبي الفضائل الملك الرحيم بدر الدنيا والدين ركن الإسلام والمسلمين بلّغه اللَّه غاية سؤله ونهاية مأموله وحرس معاليه وحشره مع مواليه وأبّد دولته وأباد حسدته. والتزمت الاختصار وسألت الغفّار ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. وقد أذنت في إصلاح ما يجب منه مما ينافي الصواب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: 'ما رفع قلم من كتاب'. لأن الجامع مريب والناظر فيه أريب، والمتتبع للعثار عندي كريم، وفوق كل ذي علم عليم.

فإن تجد عيباً فسد الخللا++

فجلّ من ما فيه عيب وعلا
___________________________________
الشاهد للحريري، أنظر: المستفاد من ذيل تاريخ بغداد لابن الدمياطي: 24 / 2، البداية والنهاية:

214 / 14.

وهذا آخر الكتاب واللَّه أعلم بالصواب، كتبه أفقر العبيد إلى اللَّه تعالى ورحمته ورضوانه، عثمان بن محمد البدليسي حامداً للَّه تعالى على نعمه، ومصلياً على خير خلقه محمد وآله وعترته الطيبين الطاهرين ومسلماً، في العشر الأول من ذي الحجة من سنة ست وستون وستمائة فارقين المحروسة.
___________________________________
ميا فارقين: أشهر مدينة بديار بكر، "ميا" تعني بنت أي أول من بناها بنت، و"فارفين" الخلاف بالفارسية ويقال لها بارجين. أنظر: معجم البلدان: 236 - 235 / 5.