الروض النضير في معنى حديث الغدير

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الروض النضير في معنى حديث الغدير

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 361

عثمان من الخلافة، قالوا له: إما أن تخلع نفسك أو نقتلك، فاختار القتل على خلع نفسه، وقال: لا أخلع قميصا ألبسنيه الله، فيدل ذلك على أن خلع الإنسان لنفسه من الخلافة عند عثمان أعظم من إظهار كلمة الكفر، وقد علم عثمان وأهل العلم والتواريخ إنما ألبسه إياه عبد الرحمان بن عوف. ثم قد رووا بلا خلاف بينهم: أن أبا بكر قام على المنبر، وقال: أقيلوني فلست بخيركم، وفعل ذلك من غير إكراه أحد له على الخلع، ولا خوف من القتل. وهذا يدل على تخطئة عثمان أو أبي بكر، وأن أبا بكر قد وقع منه أعظم من الكفر باستقالته من الخلافة على مذهب عثمان، أو يكون عثمان قد ألقى بنفسه إلى الهلاك الذي تضمن القرآن النهي عنه، فقال: *(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)*(1). وعثمان لو كان إماما لزم كون كثير من كبار الصحابة: كأبي ذر وعمار وابن مسعود من أهل النار لعدم اعترافهم بإمامته، بل رفض جل المسلمين بيعته، وصاروا سببا لقتله: كطلحة والزبير وعامة أهل المدينة ومصر... مع أن الالتزام بدخول هؤلاء الأبرار في النار، وموتهم على الجاهلية - بسبب عدم معرفتهم إمام زمانهم - باطل يقينا ولا يلتزم به مسلم. والعجب من مخالفي الشيعة: أنهم يستدلون على حقية خلافة المشايخ بسكوت علي عليه السلام الدال على رضاه، ولا يستدلون بسكوته عن قتل عثمان على رضاه، وقد كان قاتله بيده أخص خواصه وحوارييه محمد بن أبي بكر.

(هامش)

(1) سورة البقرة: 195. (*)

ص 362

وقد رد علي عليه السلام قطائع عثمان إلى بيت مال المسلمين، ونزع من أصحابها تملكها، فقال عليه السلام: ألا إن كل قطعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود إلى بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق . فكفى أمية ذلة أننا لم نسمع لهم صوتا يوم الدار . بلى، لما عزل رئيسهم معاوية عن الولاية تألبوا واستبسلوا وطلبوا بدم شهيدهم عثمان!! لا لبسالة فيهم، بل لما علموا من تورع علي عليه السلام!! ولو كان الخليفة بعد عثمان غير علي عليه السلام، أو أن عليا لم يتعرض لإمارتهم ولا يخشونه أن يتعرض لهم، لسكتوا أخيرا عن دم عثمان كما سكتوا أولا!! إذن، فالطلب بدم عثمان معناه الطلب بكرسي الإمارة فقط. وإلا فأين أصواتهم المطالبة بالدم المهدور حين كان عثمان محاصرا ويستغيث؟!! فوجه الأمويون وحزبهم التهمة في قتل عثمان والتحريض عليه إلى كل من لم يكن أموي الرأي والنسب. أما أهداف هذه التهم فكثيرة جدا: 1 - في مقدمتها التوصل إلى كرسي الخلافة والإمرة باسم عثمان، وبحجة المطالبة بدمه الذي سفكوه هم أنفسهم بخذلانه!! 2 - شق عصا الأمة وإحداث البلبلة!!

ص 363

3 - تأليف حزب عسكري مسلح لنيل الخلافة باسم الشهيد عثمان، وعلى أنقاض وفاته!! بدليل أن بعض المحرضين على قتله رفعوا شعار المطالبة بدمه وثأره!! وبهذا ينكشف سر المطالبين بدم عثمان، فحقيقة أمرهم هي: حب الرياسة والسيطرة، أما عثمان ودمه فأمر في الحقيقة ليس بذي بال عند أولئك بقدر ما تصبوا إليه نفوسهم من الرياسة والإمرة وشق العصا وإضعاف الإسلام والمسلمين انتصارا لدمائهم المهدورة يوم بدر وغيره، وهم على كل حال - حسب تفكيرهم - رابحون!! سواء أن حصلوا الإمرة أم شقوا العصا!! لكن كلمتي الأخيرة في هذا المقام تنحصر في خطاب من يدعي الإسلام، ويصر على مدح الأمويين وحزبهم!! فأقول: حاسب نفسك قبل يوم الحساب، يوم يقول الكافر والمنافق: *(يا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا)*(1).

 51 - عدي بن حاتم الطائي: ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن أبي خزم - واسمه: هزومه - بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طئ بن أدد بن مالك بن زيد بن كهلان الطائي. أبوه حاتم هو الجواد المشهود الذي يضرب بجوده المثل، وأدرك عدي الإسلام، فأسلم سنة تسع، وقيل: سنة عشر، ولإسلامه خبر ذكره ابن هشام في سيرته . وروى ابن عبد ربه في العقد الفريد : قال: وفد عدي بن حاتم على

(هامش)

(1) سورة الفرقان: 28. (*)

ص 364

النبي صلى الله عليه وآله، فألقى له وسادة وجلس هو على الأرض، قال عدي: فما رمت حتى هداني الله للإسلام، وسرني ما رأيت من كرم رسول الله صلى الله عليه وآله في بنت حاتم التي أسرتها خيل النبي صلى الله عليه وآله اسمها سفانة وبها كان يكنى أبوها حاتم. وروي: أنه لما أتي بها النبي صلى الله عليه وآله، قالت له: يا محمد، هلك الوالد، وغاب الرافد، فإن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، فإن أبي سيد قومه، كان يفك العاني، ويحمي الدفار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يطلب إليه طالب حاجة قط إلا قضاها، أنا ابنة حاتم طي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق . وروي: أن عديا قدم على عمر بن الخطاب وكان رأى منه جفاء، فقال: أما تعرفني؟ قال: بلى، أعرفك قد أسلمت إذ كفروا، وعرفت إذ نكروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا. وكان عدي يشابه أباه في الكرم، حتى أنه كان يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهن جارات، وفيه يقول الشاعر: بأبه اقتدى عدي في الكرم * ومن يشابه أبه فما ظلم قال الفضل بن شاذان: كان عدي من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام.

ص 365

قال بعض المؤرخين: شهد عدي مع أمير المؤمنين علي عليه السلام الجمل وصفين، وفقئت عينه في يوم الجمل وقتل ابنه طريف وبقي بلا عقب. ولعدي في صفين مقامات مشهورة: روى نصر بن مزاحم، قال: جاء عدي بن حاتم في يوم من أيام صفين يلتمس عليا عليه السلام ما يطأ إلا على إنسان ميت أو قدم أو ساعد، فوجده تحت رايات بكر بن وائل، فقال: يا أمير المؤمنين عليه السلام، ألا تقوم حتى نموت؟ فقال علي عليه السلام: ادن مني فدنا منه حتى وضع أذنه في فيه، فقال: ويحك، إن عامة من معي يعصيني، وأن معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه ، فقال عدي بن حاتم: أقول لما رأيت المعمعه * واجتمع الجندان وسط البلقعه هذا علي والهدى حقا معه * يا رب، فاحفظه ولا تضيعه فإنه يخشاك رب فادفعه * ومن أراد غيه فضعضعه وروى نصر أيضا، قال: انتدب لعلي عليه السلام همام بن قبيصة وكان من أشتم الناس لعلي عليه السلام، وكان معه لواء هوازن فقصد لمذحج، وهو يقول: قد علم الخرد كالتمثال * إني إذا دعيت للنزال أقدم إقدام الهزبر العالي * أهل العراق إنكم من بالي كل تلادي وطريف مالي * حتى أنال فيكم المعالي أو أطعم الموت وتلكم حالي * في نصر عثمان ولا أبالي

ص 366

فقال عدي بن حاتم لصاحب الراية: ادن مني؟ فأخذه وحمله، وهو يقول: يا صاحب الصوت الرفيع العالي * إن كنت تبغي في الوغى نزالي فادن فإني كاشف عن حالي * تفدي عليا مهجتي ومالي وأسرتي تتبعها عيالي فضربه وسلبه لواءه، فقال ابن حطان وهو شامت به: أهمام لا تذكر مدى الدهر فارسا * وعفى على ما جئته بالأباهم سما لك يوما في العجاجة فارس * شديد القصير ذو شجا وغمائم فوليته لما سمعت نداءه * تقول له: خذ يا عدي بن حاتم فأصبحت مسلوب اللواء مذبذبا * وأعظم بهذا منك شتمة شاتم وروى الشريف المرتضى رحمه الله في كتاب الغرر والدرر : أن عديا دخل على معاوية، فقال له: ما فعل الطرفان - يعني طريفا وطرافا - وطرفه بنيه، قال: قتلوا مع علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: ما أنصفك ابن أبي طالب قدم بنيك وأخر بنيه؟ فقال عدي: بل ما أنصفته أنا إن قتل وبقيت بعده. وقال له معاوية يوما: ما أبقى لك الدهر من حب علي؟ فقال: إن حبه ليتجدد في القلب، وأن ذكره يتردد في اللسان. مات عدي رحمه الله سنة (68 هـ) وهو ابن مائة وعشرين سنة، وذلك زمن

ص 367

المختار. شهد لعلي عليه السلام بحديث الغدير يوم مناشدته بالرحبة (1).

 52 - الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام:

 أبو الحسن، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، نزل الكوفة في الرحبة التي يقال لها رحبة علي في أخصاص كانت فيها، ولم ينزل القصر الذي كانت تنزله الولاة قبله، ولد بمكة في بيت الله الحرام يوم الجمعة 13 رجب سنة 30 من عام الفيل، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه، وتزوج فاطمة سلام الله عليها بالمدينة في العام الثاني من الهجرة، تولى الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان سنة خمس وثلاثين أو ست وثلاثين. واستشهد قبل الفجر ليلة الجمعة (21) من شهر رمضان سنة (40 هـ) وهو ابن ثلاث وستين سنة، ضربه اللعين ابن ملجم بسيف مسموم في مسجد الكوفة، سحر ليلة التاسع عشر منه، ودفن قبل طلوع الفجر بناحية الغريين والثوية موضع بظهر الكوفة وراء النهر إلى النجف. ولم يخلف علي عليه السلام شيئا يورث عنه، روى الحافظ ابن عبد البر في الإستيعاب في ترجمة علي عليه السلام أنه ثبت عن الحسن بن علي عليه السلام من وجوه أنه قال: لم يترك أبي إلا ثمانمائة درهم فضلت من عطائه كان

(هامش)

(1) تاريخ آل محمد: 67، وسيلة المآل في مناقب الآل، ينابيع المودة: 38، عن جواهر العقدين ، وأخرجه ابن عقدة في حديث الولاية ، من طريق محمد بن كثير، عن فطر، وابن الجارود، عن أبي الطفيل. (*)

ص 368

يعدها لخادم يشتريها لأهله . وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : أنه لما قبض علي عليه السلام أتى محمد ابنه أخويه حسنا وحسينا فقال لهما: ميراثي من أبي؟ فقالا له: قد علمت أن أباك لم يترك صفراء ولا بيضاء ، فقال: قد علمت ذلك، وليس ميراث المال أطلب إنما ميراث العلم. إن عليا عليه السلام استخرج عيونا بكد يده بالمدينة وينبع وسويعة، وأحيا بها مواتا كثيرا، ثم أخرجها عن ملكه وتصدق بها على المسلمين ولم يمت وشيء منها في ملكه، ولم يورث علي عليه السلام بنيه قليلا من المال ولا كثيرا، إلا عبيده وإماءه وسبعمائة درهم من عطائه تركها ليشتري بها خادما لأهله، قيمتها ثمانية وعشرون دينارا. 53 - عمار بن ياسر: من عنس من اليمن، أبو اليقظان، من أوائل من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وحتى قبل الخليفة عثمان بن عفان، وكان الرسول صلى الله عليه وآله ينظر إليه نظرة تقدير وإعجاب لإيمانه وإخلاصه وصدقه وشجاعته، فقد قال فيه الكثير، وكذلك كان جميع الصحابة، كانوا يتعاملون مع عمار بنفس اللغة التي تعامل بها النبي صلى الله عليه وآله. كان لعمار رضي الله عنه دورا مؤثرا في معركة اليمامة أيام الخليفة أبي بكر، واستعمله الخليفة عمر واليا له على الكوفة، أما الخليفة عثمان بن عفان فقد كان له رأي آخر في عمار معاكس لكل ما تلقاه عمار رضي الله عنه من احترام

ص 369

وتقدير من الرسول الله صلى الله عليه وآله والصحابة، وتعود العلاقة المتواترة بين عمار وعثمان إلى مواقف سابقة قبل خلافته. ذكر المؤرخون: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام وعمار رضي الله عنه يعملون مسجدا، فمر عثمان في بزة له يخطر، فأخذ عمار ينشد: لا يستوي من يعمر المساجدا * يظل فيها راكعا وساجدا ومن تراه عائدا معاندا * عن الغبار لا يزال حائدا (1) فغضب عثمان وأبقى في نفسه ذلك، وكان عمار رضي الله عنه قد سمع ما قال أبو سفيان لبني أمية (2)، فسارع وعلى عجل ودخل المسجد وأفشى ذلك السر، ولام المسلمين على اختيارهم وانصرافهم عن علي بن أبي طالب عليه السلام هذه نقطة ثانية، ونقطة ثالثة زادت في الهوة بين عمار والخليفة وهي موقف عمار رضي الله عنه إلى جانب ابن مسعود وصلى على جنازته بعد موته بخلاف المعهود إذ أن الخليفة يصلي على جنائز الأصحاب عند موتهم، ومرة رابعة انهارت فيها العلاقة بين الطرفين في هذه القضية التي ذكرها المؤرخون كالتالي: روي أن المقداد وعمار وطلحة والزبير وعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله اجتمعوا وهم خمسون رجلا من المهاجرين والأنصار، فكتبوا كتابا عددوا أحداث عثمان وما نقموا عليه وخوفوه به وأعلموه أنهم

(هامش)

(1) طبقات الشيعة: 259. (2) مروج الذهب للمسعودي: 352. (*)

ص 370

مواثبوه إن لم يقلع، وقالوا لعمار: أوصل هذا الكتاب لعثمان، فلما قرأ عثمان الكتاب طرحه، ثم قال: أعلي تقدم من بينهم؟ فقال: لأني أنصحهم لك، قال: كذبت يا بن سمية، فقال عمار: أنا ابن ياسر، فأمر عثمان غلمانه فمدوا بيديه ورجليه حتى أغمي عليه وكان ضعيفا كبيرا. 4وقام إليه عثمان بنفسه ووطأ بطنه ومذاكيره برجليه وهي في الخفين حتى أصابه الفتق فأغمي عليه أربع صلوات فقضاها بعد الإفاقة، ثم إنه ألزم بيته إلى أن كان ما كان من قتل عثمان (1). وقيل: اخرج محمولا حتى أتي به منزل أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله، ويقال: إن أم سلمة أو عائشة أخرجت شيئا من شعر النبي صلى الله عليه وآله وثوبه ونعله وقالت: هذا شعر أو ثوب أو نعل رسول الله صلى الله عليه وآله لم يبل وأنتم تعطلون سنته، وضج الناس وخرج عثمان عن طوره حتى لا يدري ما يقول (2). قتل بصفين سنة (37 هـ) ودفن هناك وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، شهد مع علي عليه السلام مشاهده، وقد شهد بدرا.

 54 - عمر بن أبي سلمة (3): ابن عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن

(هامش)

(1) طبقات الشيعة: 263. (2) إسلاميات (عثمان) لطه حسين: 785. (3) ذكر الشيخ في رجاله والعلامة الحلي في الخلاصة : بدل عمر محمدا، فقالا: محمد بن أبي سلمة، وما ذكرناه هو الصحيح. (*)

ص 371

يقظة، يكنى أبا حفص، أمه أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وآله، وهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله، مات صلى الله عليه وآله وهو ابن تسع سنين، وحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وآله الحديث، وروى عنه سعيد بن المسيب وغيره. وشهد هو وأخوه سلمة مع علي عليه السلام حروبه، وروي أن أمهما أتت بهما إليه عليه السلام، فقالت: عليك بهما صدقة فلو يصلح لي الخروج لخرجت معك. وروى هشام بن محمد الكلبي في كتاب الجمل : أن أم سلمة رضي الله عنها كتبت إلى علي عليه السلام من مكة: أما بعد، فإن طلحة والزبير وأشياعهم أشياع الضلالة يريدون أن يخرجوا بعائشة، ويذكرون أن عثمان قتل مظلوما، وأنهم يطلبون بدمه، والله كافيكهم بحوله وقوته، ولولا ما نهانا الله عنه من الخروج، وأمرنا به من لزوم البيوت لم أدع الخروج إليك والنصرة لك، ولكني باعثة نحوك ابني عدل نفسي عمر بن أبي سلمة فاستوص به يا أمير المؤمنين خيرا. قال: فلما قدم عمر على أمير المؤمنين عليه السلام أكرمه، ولم يزل مقيما حتى شهد مشاهده كلها ووجهه علي أميرا إلى البحرين، وقال لابن عم له: بلغني أن عمر يقول الشعر فابعث إلي من شعره فبعث إليه بأبيات له أولها: جزاك أمير المؤمنين قرابة * رفعت بها ذكري جزاء موقرا

ص 372

ولم يزل عمر المذكور عاملا لأمير المؤمنين عليه السلام على البحرين حتى عزله واستعمل النعمان بن عجلان الرزقي على البحرين مكانه، ولما أراد عزله، كتب إليه علي عليه السلام: أما بعد، فإني وليت النعمان بن عجلان الرزقي على البحرين، ونزعت يدك بلا ذم لك ولا تثريب عليك، فقد أحسنت الولاية، وأديت الأمانة، فأقبل غير ظنين ولا ملوم، ولا متهم ولا مأثوم، فقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشام، وأحببت أن تشهد معي، فإنك ممن استظهر به على جهاد العدو، وإقامة عمود الدين إن شاء الله تعالى . وذكر هذا الكتاب السيد الرضي رحمه الله في نهج البلاغة . قال ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب : توفي عمر بن أبي سلمة بالمدينة في خلافة عبد الملك سنة (83 هـ). وقال صاحب منهج المقال : قتل مع أمير المؤمنين عليه السلام بصفين وهو غلط، وما ذكره ابن عبد البر هو الصحيح، والله أعلم. أخرج حديث الغدير عنه الحافظ ابن عقدة بإسناده.

 55 - عمر بن الخطاب:

 ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم (1).

(هامش)

(1) الإستيعاب: 2 / 458. (*)

ص 373

ويورد الكلبي - وهو من رجال أهل السنة - في كتاب المثالب ، قال: كانت صهاك أمة حبشية لهاشم بن عبد مناف، فوقع عليها نفيل بن هاشم، ثم وقع عليها عبد العزى بن رياح فجاءت بنفيل جد عمر بن الخطاب (1). وقد قالوا: أنه نجب فردوا على نبيهم صلى الله عليه وآله: أن ولد الزنا لا ينجب. وذكر الحنبلي في نهاية الطلب : أن عمر بن الخطاب كان قبل الإسلام نخاس الحمير. وقال صاحب العقد الفريد : قالت له امرأة من قريش: يا عمير، فوقف لها، فقالت: كنا نعرفك عمير، ثم صرت عمر، ثم صرت أمير المؤمنين، فاتق الله وانظر في أمورك وأمور الناس، فإنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت (2). وفي إحياء الغزالي ، قال: إن عمر سأل حذيفة هل هو من المنافقين أم لا؟ (3) ولولا أنه علم من نفسه صفات تناسب صفات المنافقين، لم يشك فيها، وتقدم على فضيحتها. ويقول الكاتب المصري المعاصر عباس محمود العقاد في عمر بن الخطاب: كان في الجاهلية... كما قال: صاحب خمر يشربها ويحبها، وهي موبقة لا تؤمن حتى الأقوياء إذا أدمنوها (4).

(هامش)

(1) شرح النهج: 3 / 24. (2) الإصابة: 4 / 290. (3) إحياء علوم الدين: ج 1 الفصل الرابع. (4) عبقرية عمر: 10 و14. (*)

ص 374

أنزل الله سبحانه وتعالى في الخمر ثلاث آيات: 1 - قوله تعالى: *(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس)*(1)، فشربها الخليفة عمر، ودخل في الصلاة فهجر. 2 فنزل قوله تعالى: *(يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)*(2)، حتى شربها الفاروق، فأخذ بلحي بعير، وشج به رأس عبد الرحمان بن عوف، ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر، إذ يقول: وكائن بالقليب قليب بدر * من الفتيان والعرب الكرام أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا * وكيف حياة أصداء وهام؟ أيعجز أن يرد الموت عني * وينشرني إذا بليت عظامي؟ ألا من مبلغ الرحمن عني * بأني تارك شهر الصيام؟ فقل لله: يمنعني شرابي * وقل لله: يمنعني طعامي فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، فخرج مغضبا يجر رداءه، فرفع شيئا كان في يده فضربه به، فقال: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله تعالى: *(إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون)*(3)، فقال عمر: انتهينا

(هامش)

(1) سورة البقرة: 219. (2) سورة النساء: 43. (3) سورة المائدة: 91. (*)

ص 375

انتهينا (1). وقد روى عنه جماعة: تعلموا أنسابكم تصلوا به أرحامكم، ولا يسألني أحد ما وراء الخطاب، وصحح أبو يحيى الجرجاني المحدث: أن الصهاكي كان أبوه شاكرا (2). وفي البخاري و الإحياء : أسند أحمد بن موسى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله: من أبي؟ قال: حذافة ، فسأله آخر: من أبي؟ قال: سالم ، فبرك عمر على ركبتيه، وقال بعد كلام: لا تبد علينا سوءتنا، واعف عنا (3). قال شاعر: إذا نسبت عديا في بني مضر * فقدم الدال قبل العين في النسب وقدم السوء والفحشاء في رجل * وغد زنيم عتل خائن نصب طلق النبي صلى الله عليه وآله ابنته حفصة في حديث أنس، وخيرة الزجاج، فسأله عمر من طلاقها، فقال صلى الله عليه وآله: انطلق عني أما والله إن قلبك لوعر، وإن لسانك لقذر، وإن دينك لعور، ثم إنك لأضل مضل ذكر، وإنك من قوم غدر، أما والله لولا ما أمرني الله من تألف عباده، لأبدين للناس أمركم، أعزب عني: فوالله ما يؤمن أحدكم حتى يكون النبي أحب إليه من أبيه وأمه، وولده وماله .

(هامش)

(1) كتاب المستطرف في كل فن مستظرف: ج 2 الباب (74). (2) يعني أنه كان أجيرا يخدم، وشاكر بفتح الكاف معرب چاكر بالفارسية. (3) رواه أبو يعلى الموصلي في المسند ، عن أنس. (*)

ص 376

فقال عمر: والله أنت أحب إلي من نفسي، فأنزل: *(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)*(1). وفي حديث الحسين بن علوان، والديلمي، عن الصادق عليه السلام، في قوله تعالى: *(وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا)*(2) هي حفصة، قال الصادق عليه السلام: كفرت في قولها: من أنبأك هذا؟ .. وقال الله فيها وفي أختها عائشة: *(إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)*(3)، أي زاغت والزيغ الكفر. وفي رواية أنه أعلم حفصة أن أباها وأبا بكر يليان الأمر، فأفشت إلى عائشة، فأفشت إلى أبيها، فأفشا إلى صاحبه، فاجتمعا على أن يستعجلا ذلك يسقينه سما، فلما أخبره الله بفعلهما هم بقتلهما، فحلفا له: أنهما لم يفعلا، فنزل: *(يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم)*(4). قال الناشي: إذ أسر النبي فيه حديثا * عند بعض الأزواج ممن تليه نبأتها به وأظهره الله * عليه فجاء من قيل فيه سئل المصطفى فعرف بعضا * بعض ابطان بعضه يستحيه وغدا يعتب اللتين بفضل * أبدأتا سره إلى حاسديه

(هامش)

(1) سورة يوسف: 106. (2) سورة التحريم: 2. (3) سورة التحريم: 4. (4) سورة التحريم: 7. (*)

ص 377

فأتى الوحي إن تتوبا إلى الله * فقد صاغ قلب من يتقيه أو تحبا تظاهرا فهو مولاه * وجبريل ناصر في ذويه ثم خير الورى أخوه علي * صالح المؤمنين من ناصريه وفي خرائج الراوندي : سأل الثمالي زين العابدين عليه السلام، عن الأول والثاني، فقال: عليهما لعائن الله كلها، كانا والله كافرين مشركين بالله العظيم . قلت: ويعضد ذلك مناداتهما بالويل والثبور، عند احتضارهما لما رأيا من سوء عاقبتهما، ويعضده أيضا ما أسنده علي بن مظاهر الواسطي إلى الإمام العسكري عليه السلام أنه جعل موت عمر يوم عيد، وأنشد الكميت الشاعر بحضرة الإمام الباقر عليه السلام: إن المصرين عل ذنبيهما * والمخفيا الفتنة في قلبيهما والخالعا العقدة من عنقيهما * والحاملا الوزر على ظهريهما كالجبت والطاغوت في مثليهما * فلعنة الله على روحيهما فضحك الباقر عليه السلام. فلينظر عقلاء الأنام، هل يقدم من هذه أحواله على بني هاشم الكرام، ذوي الأحلام في الجاهلية والإسلام، ولا غرو من ولد الزنا، وخبيث الأصل أن يجترئ على الإسلام، فقد روي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: *(لا

ص 378

يستوي الخبيث والطيب)*(1)*(الخبيثات للخبيثين)*(2) نزلتا فيه. وقد عرف أهل الأنساب: أن أباه الخطاب، وجده نفيل، وأمه حنتمة، وجدته صهاك، وليس في قريش أوضع منها ولا تيم مع ضعتها. ففي الجاهلية ليس له ذكر معلوم في عيرها ولا في نفيرها، وما لفق له باعة الأخبار من المكارم، فبعضها يهدم بعضا. أما في الإسلام فكفى توهينا له أنهم أجمعوا على سبق أخته إلى الدخول في الدين - وهي امرأة - وتأخره عنها وهو رجل عبقري محنك كما يزعمون!! وأما في ساحة الجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يذكر له موقف - وإن كان صغيرا - وقفه في وجه المشركين: يوم بدر، يوم أحد، يوم حنين، يوم الأحزاب، يوم خيبر، يوم مؤتة، يوم تبوك، حروب بني المصطلق، وبني النضير، وغيرها من الحروب في عهد النبي صلى الله عليه وآله. وكذلك تضحياته قبل الهجرة فكانت صفرا، أكان يذب عن الرسول صلى الله عليه وآله؟ أكان يدافع عن الدعوة؟ أكان معه في شعب أبي طالب عليه السلام ؟! أكان من المهاجرين إلى الحبشة؟! أم ماذا؟! أكان ذا جانب مهيب عند المشركين؟! كلا.. كلا!! فلو كان في إسلامه، وإسلام سابقه - أبي بكر - عزة للإسلام والمسلمين فعلام الهجرة النبوية إذن؟! وعلام إخراج الرسول صلى الله عليه وآله أكثرية من أسلموا إلى الحبشة بإمرة ابن عمه - جعفر بن أبي طالب عليه السلام - مهاجر

(هامش)

(1) سورة المائدة: 100. (2) سورة النور: 26. (*)

ص 379

الهجرتين. فلا يمكن عد إسلام العمرين نصرا للإسلام إذن!! إذ لم نر آثار - هذا النصر المزعوم - حتى فيما لفقوا لهما من التضحيات!! لكننا نعلم من إجماع الأمة أن الهجرة المحمدية حدثت بعد موت أبي طالب رضي الله عنه المانع الحقيقي لقريش من قتل الرسول صلى الله عليه وآله وإسكات الدعوة المحمدية. أما إسلام فلان وفلان إن صح فلا يعدو إسلام بلال وعمار وغيرهما من المستضعفين. فما الذي كسبه الإسلام والمسلمون من إسلام عمر وصاحبه!! وتعالى معي إلى علم عمر العام، فيشك في معرفة عمر بالقراءة والكتابة، فلو كان عارفا بهما لكان من كتاب الوحي، أو كتاب الرسائل النبوية، ولم نسمع بمثل هذه المكرمة!! (1). فقد سمعنا مثلا: أن أبا بكر نسابة (2)، ولقد سمعنا أن عمر يجهل ما تحسنه الصبيان في زمانه، والفتيان، فالشعر العربي (3) ديوان العرب به حفظت أخبارهم ورويت آثارهم منذ أبعد العصور، ولم يبق عربي في عصره يجهل فهم معاني الشعر لأنه بلغتهم، وقد روت لنا كتب الأدب حديث الزبرقان والحطيئة ، وهو حديث طويل وخلاصته: إن الزبرقان شكا الحطيئة إلى عمر أيام خلافته حيث

(هامش)

(1) ما ذكره الثعالبي في لطائف المعارف غير ثابت. (2) الفاخر: للمفضل بن سلمة، طبع / الحلبي - مصر (1380 هـ)، ص 236. (3) انظر كتاب مختارات ابن حمزة : ط / العامرة بشارع المغربلين (1306 هـ) ص 116. (*)

ص 380

هجاه بقوله في قصيدة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها * وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فرفع عمر الحطيئة إليه، واستنشده القصيدة. فقال عمر لحسان: أتراه هجاه؟! فقال حسان: نعم، وسلح عليه - أي تغوط - فحبسه عمر. وأمثال هذه القصص كثير جدا، فتش كتب الأدب وغيرها تجد أمثالها، قد يقال: إنه حكم حسانا لتتم الحجة على الحطيئة فيستحق العقوبة!! نقول: إذا أقر المرء بذنبه فلا حاجة إلى بينة أو تحكيم. والقصيدة شتمها المر لا يخفى على بليد، فكيف يخفى على عبقري؟! أما علمه الخاص... أعني الفقه والتفسير فقد أقر على نفسه عدة مرات أن يده صفر منها. قال أبو الفتح المطرزي الحنفي الخوارزمي، قال عمر: لولا علي لهلك عمر (1)، ورواه كثير وكثير غيره أيضا. وشاع عند رواتهم، قول عمر: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وشاع عندهم أيضا عنه: حتى المخدرات أفقه منك يا عمر (2)!! وكثير من أمثال هذه الاعترافات التي يعترف بها الرجل بقصور باعه في

(هامش)

(1) في ذيل كتابه المغرب : 310، ط / الدكن. (2) سنحصي أقواله في مثل ذلك ومصادرها في تحقيقنا لكتاب عجائب أحكام أمير المؤمنين علي عليه السلام برواية محمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم القمي. (*)

ص 381

مجال علوم الدين. إلا أن مؤلهي (عمر) لا يريدون أن يعترفوا بصحة تلك الاعترافات العمرية الدالة على جهله، ورموها بضعف السند تارة، وبأنها للمجاملة - أي لتعظيم قدر علي عليه السلام - فقط تارة، وغير ذلك من اللف والمراوغة!! لكن تخبط عمر في الفتاوى والأحكام التي خرج فيها عن صريح القرآن، والمشهور من سنة الرسول صلى الله عليه وآله، وسيرة سابقه أبي بكر، ومما عرضه لنقد كبار البدريين، فذلك ما ينفي كل اعتذار عنه، فمن تلك التخليطات في الفتاوى والأحام جحده فريضة الخمس . وقد عد بعض أهل العلم مبتدعات عمر في الشريعة الإسلامية (360) بدعة لا أساس لها في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وآله، بل النصان القرآني والنبوي صريحان في نفي تلك البدع. ولو قرأ المنصف كتب الفقه لعلماء المذهب الحنفي والمذهب المالكي والمذهب الشافعي والمذهب الحنبلي وما تفرع أخيرا عنها من فروع لرأى الاختلاف الجلي في العبادات والمعاملات!! وكل يعزز رأيه المخالف لنظيره بقول عمر مثلا. فلو لم يكن عمر يخبط خبط عشواء في الفتاوى، وأن له في المسألة الواحدة عدة آراء، لما نقل عنه كل من المتخالفين ما يبرر به قوله، وإلا لكانوا كاذبين عليه. ولا يمكن أن يجمعوا على الكذب على سيدهم إذن، فالخبط منه مباشرة!!

ص 382

ومن أكبر أسباب الضلالة فتوحات عمر التي خدع بها المغفلون، وتاه في واديها المستضعفون، أفترون أن الفتح جهاد ديني أم نخوة جاهلية؟ فإن كانت الثانية فلا شكر على محرم ولا فضل في ردة بعد الهداية، وإن كانت الأولى فللجهاد أحكام قرآنية ونبوية، فهل كان عمر عارفا وسائرا وفق منهاجهما؟ تتبعوا أحكام عمر في تعيين أمراء الجيش، فانظروا المحاباة في اختيارهم حتى لو أدى إلى سفك (2 / 3) من جيش المسلمين بسبب عدم كفاءة القائد، أو عدم تقواه!! ولكم في خالد بن الوليد مثلا يصدق عليه الوصفان. وليس التهور والتسرع في الشر دليل على الكفاءة، أما التقوى فالرجل عار عنها، فليس له في بدر وحنين واحد والأحزاب ذكر معلوم! فدقق النظر في سيرته المذكورة بأقلام محبيه. ثم انظر إلى أوامر عمر فيمن ينتصر عليهم أو يجلب إليه سباياهم، فهل تتفق مع سيرة الرسول صلى الله عليه وآله، وسيرة أبي بكر؟! وانظر إلى تقسيمه المغانم، فهل سار في ذلك على نهج الله ورسوله صلى الله عليه وآله أو نهج أبي بكر المرضي عندهم؟! وأخيرا.. لا تعرف.

 56 - عمرو بن العاص: ابن وائل القرشي السهمي، يكنى أبا عبد الله، وأمه النابغة بنت حرملة سبية من بني جلان، أسلم سنة ثمان قبل الفتح بستة أشهر، وكان من الدهاة، وهو الذي

ص 383

افتتح مصر في زمن عمر بن الخطاب وصار واليا عليها، ولذلك باع دينه بولاية مصر لمعاوية. قال عمرو بن العاص لمعاوية: والله، يا معاوية ما أنت وعلي حملي بعير، ليس لك هجرته ولا سابقته ولا صحبته ولا جهاده ولا فقهه ولا علمه، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه؟ قال: حكمك، فقال: مصر طعمة، فقبل معاوية ذلك بعد مباحثة طويلة. قال الجاحظ: كانت مصر في نفس عمرو بن العاص، وقد عرف من أموالها وسعة الدنيا، لا يستعظم أن يجعلها ثمنا من دينه، وأخبار عمرو بن العاص كثيرة، لما برز إليه علي عليه السلام وتيقن أنه مقتول بسيفه، كشف عورته وأظهر استه، أعرض عنه أمير المؤمنين عليه السلام ونجا عمرو من الهلاك.

 57 - عمرو بن الحمق الخزاعي: - بفتح الحاء المهملة وكسر الميم وبعدها قاف -، ابن كاهل، ويقال: الكاهن - بالنون - ابن حبيب الخزاعي. صحابي جليل القدر من خواص أمير المؤمنين عليه السلام، شهد معه مشاهده كلها، وكان ممن خرج على عثمان. قال الفضل بن شاذان: إنه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام. وعن ميمون بن مهران: أن عمرو بن الحمق سقى رسول الله صلى الله عليه وآله لبنا، فقال صلى الله عليه وآله: اللهم متعه بشبابه ، فمرت عليه ثمانون سنة

ص 384

لم ير شعرة بيضاء. وروى نصر بن مزاحم: أن عمرو بن الحمق، قال لأمير المؤمنين علي عليه السلام في يوم من أيام صفين : والله، يا أمير المؤمنين، إني ما أحببتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك، ولا إرادة مال تؤتينيه، ولا التماس سلطان ترفع ذكري به، ولكن أحببتك بخصال خمس: إنك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، ووصيه، وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله صلى الله عليه وآله، وأسبق الناس إلى الإسلام، وأعظم المهاجرين سهما في الجهاد. فلو إني كلفت نقل الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي، حتى يأتي على يومي في أمر أقوى به وليك، وأهين به عدوك ما رأيت إني قد أديت فيه كل الذي يحق علي من حقك. فقال علي عليه السلام: اللهم نور قلبه بالتقى، وأهده إلى صراطك المستقيم، ليت إن في جندي مائة مثلك . فقال حجر: إذا والله - يا أمير المؤمنين - صح جندك وقل فيهم من يغشك. وروى الكشي بإسناده عن علي بن أسباط بن سالم، قال: قال أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين حواري علي بن أبي طالب عليه السلام وصي محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وآله الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان، والمقداد، وأبو ذر رضي الله عنهم. ثم ينادي مناد: أين حواري علي بن أبي طالب عليه السلام وصي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله؟ فيقوم عمرو بن الحمق، ومحمد بن أبي بكر،

ص 385

وميثم بن يحيى التمار - مولى بني أسد - وأويس القرني، إلى آخر الحديث . قال أبو عمرو بن عبد البر في كتاب الإستيعاب : أسلم عمرو بن الحمق بعد الحديبية، وصحب رسول الله صلى الله عليه وآله مدة، وكان يحفظ الأحاديث، وسكن الشام، ثم نزل الكوفة واتخذها وطنا. وهو أحد الأربعة الذين اقتحموا على عثمان بن عفان الدار، وكان من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام، وشهد معه جميع حروبه من الجمل، وصفين، والنهروان. ولما توفي علي عليه السلام قام مع حجر بن عدي في منع بني أمية من سب علي عليه السلام. ولما أمر زياد بالقبض على حجر، هرب عمرو إلى الموصل واختفى في غار فلدغته حية به فمات. ولما وصل إليه الجماعة الذين بعث بهم زياد لعنه الله وجدوه ميتا في الغار فقطعوا رأسه وذهبوا به إلى زياد فبعث به إلى معاوية، وهو أول رأس حمل من بلد إلى بلد. قال نصر: وقال عمرو بن الحمق بصفين : تقول عرسي لما أن رأت أرقي: * ماذا يهجيك من أصحاب صفينا؟ ألست في عصبة يهدي الإله بهم * أهل الكتاب ولا بغيا يريدونا؟ فقلت: إني على ما كان من سدد * أخشى عواقب أمر سوف يأتينا إزالة القوم في أمر يراد بهم * فأفنى حياءا وكفي ما تقولينا

ص 386

وروى محمد بن علي الصواف، عن الحسين بن سفيان، عن أبيه، عن شمير بن سدير الأزدي، قال: قال علي عليه السلام لعمرو بن الحمق الخزاعي: أين نزلت يا عمرو؟ قال: في قومي، قال: لا تنزلن فيهم ، قال: أفأنزل في كنانة جيراننا؟ قال: لا ، قال: أفأنزل في ثقيف، قال: فما تصنع بالمعرة والمحرة؟ ، قال: وما هما، قال: عنقان من نار يخرجان من ظهر الكوفة يأتي أحدهما على تميم وبكر بن وائل فقل من يصيب منهم، إنما تدخل الدار فتحرق البيت والبيتين . قال: فأين أنزل؟ قال: أنزل في بني عمرو بن عامر من الأزد . قال: فقال قوم حضروا هذا الكلام: ما نرى إلا كاهنا يتحدث بحديث الكهنة. فقال: يا عمرو، وإنك لمقتول بعدي، وأن رأسك لمنقول، وهو أول رأس ينقل في الإسلام، والويل لقاتلك، أما إنك لا تنزل لقوم إلا أسلموك برمتك إلا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الأزد، فإنهم لن يسلموك ولن يخذلوك . قال: فوالله، ما مضت الأيام، حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في أحياء العرب خائفا مذعورا حتى نزل في قومه من بني خزاعة، فأسلموه فقتل وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام، وهو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد (1). وروى الكشي، عن الحسن بن محبوب، عن أبي القاسم وهو معاوية بن

(هامش)

(1) رجال الكشي: 46 - 46 ح 96، إرشاد القلوب: 280 - 282، إثبات الهداة: 2 / 486 ح 308، البحار: 44 / 130 ح 20. (*)

ص 387

عمار رحمه الله رفعه، قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله سرية، فقال لهم: إنكم تصلون ساعة كذا من الليل فخذوا ذات اليسار، فإنكم تمرون برجل في شأنه فتسترشدونه فيأبى أن يرشدكم حتى تصيبوا من طعامه، فيذبح لكم كبشا فيطعمكم ثم يقوم فيرشدكم، فاقرؤه مني السلام، واعلموه إني قد ظهرت بالمدينة . فمضوا فضلوا الطريق، فقال قائل منهم: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله: تياسروا ؟ ففعلوا فمروا بالرجل الذي قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: فقال لهم الرجل - وهو عمرو بن الحمق رضي الله عنه - أظهر النبي صلى الله عليه وآله بالمدينة؟ فقالوا: نعم. فلحق به ولبث ما شاء الله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ارجع إلى الموضع الذي منه هاجرت، فإذا تولى أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة فأته . فانصرف الرجل حتى إذا تولى أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أتاه، وأقام معه بالكوفة. ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام قال له: ألك دار؟ ، قال: نعم، قال: بعها واجعلها في الأزد، فإني غدا لو غبت لطلبت فمنعك الأزد حتى تخرج من الكوفة متوجها إلى جسر الموصل، فتمر برجل مقعد فتقعد عنده، ثم تستسقيه فيسقيك، ويسألك عن شأنك، فأخبره وادعه إلى الإسلام، وامسح بيدك على وركيه، فإن الله يمسح ما به، وينهض قائما فيتبعك، وتمر برجل أعمى على ظهر الطريق فتستسقيه فيسقيك، ويسألك عن شأنك، فأخبره وادعه إلى الإسلام، فإنه

ص 388

يسلم، وامسح بيدك على عينيه، فإن الله تعالى يعيده بصيرا فيتبعك. وهما يواريان بدنك في التراب، ثم تتبعك الخيل فإذا صرت قريبا من الحصن في موضع كذا وكذا رهقتك الخيل فأنزل عن فرسك ومر إلى الغار فإنه يشترك في دمك فسقة من الجن والإنس . ففعل ما قال أمير المؤمنين عليه السلام. قال: فلما انتهى إلى الحصن قال للرجلين: اصعدوا فانظروا هل تريان شيئا؟ قالا: نرى خيلا مقبلة. فنزل عن فرسه ودخل الغار وغار فرسه، فلما دخلوا الغار ضربه أسود سالخ فيه، وجاءت الخيل فلما رأوا فرسه غائرا، قالوا: هذا فرسه، وهو قريب. فطلبه الرجال فأصابوه في الغار، فكلما ضربوا أيديهم إلى شيء من جسمه تبعهم اللحم، فأخذوا رأسه، فأتوا به، فنصبه على رمح، وهو أول رأس نصب في الإسلام. ومن جملة كتاب الإمام الحسين بن علي عليه السلام إلى معاوية: .. وأيم الله، إني لخائف الله في ترك ذلك، وما أظن الله راضيا بترك ذلك، ولا عاذرا بدون الاعذار فيه إليك وفي أولئك القاسطين الملحدين حزب الظلمة وأولياء الشياطين، القاتلي حجرا أخا كندة، والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة، ولا تأخذهم بحديث كان بينك وبينهم، ولا باحنة تجدها في نفسك. أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله العبد

ص 389

الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفر لونه بعد ما آمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس جبل ثم قتلته جرأة على ربك واستخفافا بذلك العهد... الخ ؟ وكان قتل عمرو بن الحمق رحمه الله بالموصل سنة (51 هـ) وهي السنة التي قتل فيها حجر بن عدي رحمه الله. وكان معاوية قد فعل فيها الأفاعيل من قتل الشيعة وإخافتهم وتغريبهم وتعذيبهم. وقال بعضهم: إن القاتل لعمرو بن الحمق هو عبد الرحمان بن عثمان الثقفي وهو ابن عبد الرحمان بن أم الحكم، وقيل: عبد الرحمان بن أم الحكم هو القاتل له، قتله سنة (50 هـ) بأمر معاوية، والله أعلم. روى عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه حديث الغدير، رواه عنه ابن عقدة، وعده الخوارزمي في مقتله من رواة حديث الغدير من الصحابة.

 58 - فاطمة الزهراء عليها السلام:

 هي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية. أمها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشية الأسدية. وكانت خديجة عليها السلام امرأة غنية، وفيرة المال والثراء، سيدة جليلة القدر، عظيمة الشأن في مكة، وكان أهل مكة يسمونها: الطاهرة .

ص 390

وهي أول من آمن برسالته صلى الله عليه وآله، وصدق دعوته، وبذلت مالها وثروتها الطائلة في سبيل الله تعالى، ومن أجل نشر الدعوة الإسلامية، فتحملت مع رسول الله صلى الله عليه وآله عذاب قريش بما يستحق من التكريم، وبلغ من عظيم مكانتها في نفسه الطاهرة أن هذا الوفاء لم يفارق رسول الله صلى الله عليه وآله حتى بعد موتها، ولم تستطع أي من زوجاته أن تحتل مكانتها في نفسه. فقد روي عنه صلى الله عليه وآله أنه كان إذا ذبح الشاة، يقول: أرسلوا إلى أصدقاء خديجة ، فتسأله عائشة في ذلك، فيقول صلى الله عليه وآله: إني لأحب حبيبها . ويروى أن امرأة جاءته صلى الله عليه وآله وهو في حجرة عائشة، فاستقبلها واحتفى بها، وأسرع في قضاء حاجتها، فتعجبت عائشة من ذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: إنها كانت تأتينا في حياة خديجة . وحين شعرت عائشة بالغيرة تملأ قلبها من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله لخديجة، قالت له: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيرا منها. فآلم النبي صلى الله عليه وآله هذا القول، ورد عليها قائلا: ما أبدلني الله خيرا منها، كانت أم العيال، وربة البيت، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقت منها الولد وحرمت من غيرها (1). فهي المرأة التي حباها رب العالمين، وبشرها بالخلد والنعيم. 

(هامش)

(1) إسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور الأبصار للشبلنجي: 96. (*)

ص 391

فقد روي أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه أدام، أو طعام، أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب (من ذهب) لا صخب فيه ولا نصب (1). ولذا قال فيها رسول الله صلى الله عليه وآله: أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون (2). هذه هي خديجة عليها السلام أم فاطمة عليها السلام، وذاك أبوها محمد رسول الله صلى الله عليه وآله. ففي ظلال أبيها، وبين أحضان أمها الطاهرة ولدت فاطمة الزهراء عليها السلام في مكة المكرمة في يوم الجمعة في العشرين من شهر جمادى الآخرة. لقد اختلف المؤرخون في سنة ميلاد فاطمة عليها السلام، فقال بعضهم: أنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين، وقال بعض آخر: أنها ولدت بعد البعثة بخمس سنين، وروى بعضهم: أنها ولدت بعد البعثة بسنة أو سنتين، والأرجح أنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين، لأن عمر خديجة عليها السلام يكون مع هذا التاريخ خمسين سنة وهو أعلى سنة للولادة. وكانت تكنى: أم الحسن، وأم محمد، وتلقب: سيدة النساء، والزهراء، والمباركة، والطاهرة، والزاكية، والراضية، والمرضية، والمحدثة، والبتول، ومعنى

(هامش)

(1) صحيح البخاري: 5 / 48. (2) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 42 - ط 1967 م. (*)

ص 392

البتول المنقطعة من الدنيا إلى الله تعالى. قال في القاموس : البتول، فاطمة بنت سيد المرسلين صلى الله عليه وآله ورضي الله عنها، لانقطاعها عن نساء زمانها، ونساء الأمة فضلا، ودينا، وحسبا (1). قال أبو صالح المؤذن في الأربعين : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله: ما البتول؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: لم تر حمرة قط ولم تحض، فإن الحيض مكروه على بنات الأنبياء . وقال صلى الله عليه وآله لعائشة: يا حميراء، إن فاطمة ليست كنساء الآدميين لا تعتل كما يعتلن . وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: حرم الله النساء على علي عليه السلام ما دامت فاطمة حية لأنها طاهرة لا تحيض . وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين : سميت مريم بتولا، وسميت فاطمة بتولا، لأنها بتلت عن النظير (2). ولم يكن أحد يماثل رسول الله صلى الله عليه وآله في صفته وشمائله كفاطمة عليها السلام فهذه عائشة تحدثنا عن ذلك الشبه، فتقول: ما رأيت أحدا أشبه سمتا، ودلا وهديا برسول الله صلى الله عليه وآله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله (3).

(هامش)

(1) القاموس المحيط: 3 / 332. (2) ابن شهرآشوب: 3 / 330. (3) صحيح الترمذي: 2 / 319. (*)

ص 393

وروت عائشة أيضا: ما رأيت أحدا أشبه كلاما وحديثا من فاطمة برسول الله صلى الله عليه وآله (1). وها هي قريش تفرض المقاطعة والحصار على رسول الله صلى الله عليه وآله وأعمامه بني هاشم، وأصحابه من الدعاة وطلائع الجهاد، فيدخل رسول الله صلى الله عليه وآله شعب أبي طالب، وتدخل معه زوجته المجاهدة (خديجة)، وتدخل معهم فاطمة عليها السلام. وتحاصرهم قريش ثلاث سنين، في هذا الشعب، وعاشت الزهراء عليها السلام، وذاقت في طفولتها مرارة الجهاد. وتمر سنين الحصار صعبة ثقيلة، ويخرج رسول الله صلى الله عليه وآله ومن معه من الحصار والمقاطعة وقد كتب الله تعالى لهم النصر والغلبة، وتخرج خديجة عليها السلام، وقد قرب أجلها وشاء الله تعالى أن يختارها لجواره، فتتوفى في ذلك العام، الذي خرج فيه المسلمون من الحصار، وكان العام العاشر من البعثة. وتوفي في العام ذاته أبو طالب رضي الله عنه عم الرسول صلى الله عليه وآله وحامي الدعوة الإسلامية، وناصر الإسلام، ولقد شعر رسول الله صلى الله عليه وآله بالحزن والأسى، فسمي ذلك العام ب‍ عام الحزن . وليس رسول الله صلى الله عليه وآله وحده هو الذي رزئ في ذلك العام، بل وفاطمة عليها السلام الصبية الصغيرة التي لم تشبع من حنان الأمومة، وعطف الوالدة بعد، فقد شاطرته هذه المأساة، ورزئت هي الأخرى، فشملتها المحنة في

(هامش)

(1) مستدرك الصحيحين: 3 / 154. (*)

ص 394

ذلك العام الحزين. لقد أحب رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة عليها السلام وأحبته، وحنا عليها، وحنت عليه، فلم يكن أحد أحب إلى قلبه ولا إنسان أقرب إلى نفسه من فاطمة عليها السلام، فكان يؤكد كلما وجد ذلك ضروريا هذه العلاقة بفاطمة عليها السلام، ويوضح مقامها ومكانتها في أمته، وهو يمهد لأمر عظيم، وقدر خطير، يرتبط بفاطمة عليها السلام، وبالذرية الطاهرة التي أعقبتها فاطمة عليها السلام، وبالأمة الإسلامية كلها. كان يؤكد ذلك ليعرف المسلمون مقام فاطمة عليها السلام، ومكانة الأئمة من ذريتها عليهم السلام، ليعطوا فاطمة حقها، ويحفظوا لها مكانتها، ويرعوا الذرية الطاهرة حق رعايتها. فها هو رسول الله صلى الله عليه وآله يعرف فاطمة عليها السلام، ويؤكد للمسلمين: فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني ، إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها . ويسأل الإمام علي عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله، فيقول: يا رسول الله، أي أهلك أحب إليك؟ قال: فاطمة بنت محمد . إن قولة الرسول صلى الله عليه وآله هذه ليست عاطفية بقدر ما هي توجيه للأمة نحو هذه المرأة الأسوة القدوة. وتكبر فاطمة وتشب، ويشب معها حب أبيها لها، ويزداد حنانه عليها، فيسميها أم أبيها . وشاء الله سبحانه أن تشهد فاطمة عليها السلام فترة صراع الدعوة في

ص 395

مكة، وتشهد محنة أبيها صلى الله عليه وآله، فتر ى الأذى والاضطهاد يقع عليه، وتشهد جو مكة المعادي لبيت النبوة، وتشاهد أباها والصفوة المؤمنة من دعاة الإسلام، والسابقين بالإيمان، يخوضون ملحمة البطولة والجهاد، فيؤثر هذا الجو الجهادي في نفسها، ويساهم في تكوين شخصيتها، وإعدادها لحياة التحمل والمعاناة. لقد عاشت فاطمة عليها السلام كل ذلك وهي بعد لما تزل صبية صغيرة وعاشت المحنة الأشد مع أبيها، بعد فقد أمها. فقد بلغ الأمر بأحد سفهاء قريش، أن يغترف غرفة من تراب الأرض ويقذفها بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله، وعلى رأسه، فيتحمل صلى الله عليه وآله هذا الأذى، ويعود إلى بيته صابرا محتسبا وقد لطخ التراب وجهه ورأسه!! يعود إلى بيته وتنظر فاطمة عليها السلام إليه صلى الله عليه وآله فترى ما لحق به من أذى قريش وتماديها في الصلف والغرور، فيحز الألم في نفسها، ويعظم عليها تجرؤ السفهاء والمغرورين من طغاة الجاهلية ومتكبريها على رسول الله صلى الله عليه وآله. ثم تقوم لأبيها، وتنفض التراب عن رأسه ووجهه، وتأتي بالماء وتغسل وجهه الكريم، ولم يمر هذا المشهد المؤلم دون أن يؤثر في نفسها، فيستبد بها الحزن والألم على القائد رسول الله أبيها صلى الله عليه وآله، فتبكي وتتألم لجرأة هؤلاء الجاهلين الطغاة على رجل يريد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم سبيل الهدى والرشاد. ويؤثر موقف فاطمة عليها السلام في نفس أبيها، ويشعر بحرارة الألم تمس قلبها، فيحاول صلى الله عليه وآله أن يخفف عنها، ويحثها على التجلد

ص 396

والتحمل، فيمد يديه الكريمتين، ويضعهما على رأسها، فيمسه برقة وحنان، وهو يقول لها: لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك، وناصره على أعداء دينه ورسالته (1). وشاء الله تعالى غير ذلك، فأمره صلى الله عليه وآله بالهجرة والانتقال من أرض مكة إلى يثرب، فهاجر صلى الله عليه وآله كما هاجر إبراهيم وموسى عليهما السلام من قبل، خرج صلى الله عليه وآله من مكة مستخفيا بظلام الليل، تاركا وطنه وأحباءه وأهله، وفيهم فاطمة عليها السلام ابنته الحبيبة، وابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام، عونه وسنده، وسيفه الضارب المقدام، وفدائيه الشجاع، لقد ترك عليا عليه السلام نائما في فراشه، وأوصاه أن يرد الأمانات التي كانت عنده صلى الله عليه وآله إلى أهلها، ثم أمره أن يلتحق به، أن يهاجر إلى يثرب، ويصطحب معه أهل بيته، وينفذ علي عليه السلام الوصية، ويشتري الركائب لحمل النسوة، ويجمع أهله وعياله، ويلتئم شمل الركب الهاشمي المهاجر بقيادة علي بن أبي طالب عليه السلام، فيضم الفواطم: فاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وآله، وفاطمة بنت أسد بن هاشم عليها السلام - أم الإمام علي عليه السلام - ومربية رسول الله صلى الله عليه وآله، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وفاطمة بنت حمزة، والتحق بهم أيمن، وأبو واقد الليثي. ويمضي الركب عبر صحراء الجزيرة يغذ السير، ويصحر في وضح النهار، بتحد واستهانة بكبرياء قريش وغرورها، فإنه يستظل بسيف علي بن أبي طالب عليه السلام قاهر الجاهلية، ومحطم أصنامها وصلفها، خرج علي عليه السلام بالركب، لا كما خرج غيره من المهاجرين المستضعفين تحت جنح الظلام، أو

(هامش)

(1) هاشم معروف الحسني: سيرة المصطفى: 205 ط 1. (*)

ص 397

في غفلة من رقابة قريش، إنه خرج متحديا لقريش، مستهينا بخيلائها وعنتها، إنه يريد أن يضرب معنوياتها وكبرياءها بعزته الجهادية الفذة. لذا فقد قررت قريش إرسال ثمانية من فرسانها لقتل علي عليه السلام، والتعرض لركب النبوة المهاجر، فيدركون عليا عليه السلام والركب قرب - ضجنان - ويأمر علي عليه السلام الرجلين الذين كانا معه أن يبتعدا بالإبل ويعقلاها، ثم تقدم هو إلى النسوة فأنزلهن، ويستقبل العصابة بسيفه، فيواجهونه بالكلمات الجارحة: أظننت - يا غدار - أنك ناج بالنسوة، ارجع، لا أبا لك؟ فقال علي عليه السلام: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغما، ودنوا من المطايا ليثوروها، فحال علي عليه السلام بينهم وبينها، فأهوى له جناح - مملوك لحرب بن أمية - فراغ عن ضربته، وضرب جناحا على عاتقه فقده نصفين، حتى دخل السيف إلى كتف فرسه، وشد على أصحابه، وهو على قدميه شدة ضيغم وهو يقول: خلوا سبيل الجاهد المجاهد * آليت لا أعبد غير الواحد فتفرق القوم عنه، وقالوا: أحبس نفسك عنا يا ابن أبي طالب، فقال لهم: إني منطلق إلى أخي وابن عمي رسول الله صلى الله عليه وآله، فمن سره أفري لحمه، وأريق دمه فليدن مني (1). وهكذا فرت فرسان قريش، ولحقت بها أول هزيمة عسكرية يشتبك فيها مسلم مع قريش، فهي أول معركة تتخذ طابع المواجهة القتالية المسلحة بين المؤمنين والمشركين.

(هامش)

(1) سيرة المصطفى: 259 ط 1. (*)

ص 398

ثم التفت علي عليه السلام المنتصر إلى صاحبيه أيمن وأبي واقد، وقال لهما: أطلقا مطاياكم ، ثم واصل السير، حتى وصل ضجنان فنزل بها، ثم أقام يومه وليلته، فلحقت به أم أيمن، ونفر من المستضعفين، وراح ركب علي وفاطمة عليهما السلام الظافر يستحث الخطى، وشوقه إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وآله أكثر سرعة وعجالة. فرسول الله صلى الله عليه وآله قد وصل يثرب وحل بقبا، فأقام فيها ينظر وصول علي وفاطمة عليهما السلام، ومن صاحب الركب النبوي المهاجر، أقام - بقبا - وكان يقول لأبي بكر الذي طلب منه الدخول إلى المدينة: ما أنا بداخلها، حتى يقدم ابن عمي وابنتي (1). لقد عظم هذا الموقف في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله كما كان عظيما عند الله سبحانه، ونزول القرآن فيه وصفا وتعظيما: *(فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيآتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن المآب)*(2). وتحل فاطمة عليها السلام بدار هجرتها، وتنضم إلى بيت أبيها المتواضع في أرض الإسلام الجديدة، فتنعم بعنايته وحبه هناك. تقول عائشة: وكانت إذا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وآله إذا دخل عليها

(هامش)

(1) المصدر السابق: 258. (2) سورة آل عمران: 195، وراجع الكامل في التاريخ: 2 / 206. (*)

ص 399

قامت من مجلسها، فقبلته وأجلسته في مجلسها (1). وبعد أن قرت عين رسول الله صلى الله عليه وآله، وزوج الله فاطمة عليا عليه السلام... أراد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يعلن لمجتمع المسلمين، ولصحابته المحيطين به هذا النبأ، فيضيف مكرمة جديدة إلى سجل علي عليه السلام وفضيلة أخرى إلى فضائل فاطمة... فأمر أنس بن مالك أن يجمع فئة من الصحابة ليعلن عليهم نبأ تزويج فاطمة بعلي عليه السلام (2). وهذا الموقف النبوي المرتبط بالمشيئة والوحي، والأمر الإلهي، يلفت أنظارنا، ويستوقف خطانا، ويلقي سؤالا هاما وخطيرا علينا، وهو: لماذا لم يرخص لفاطمة عليها السلام بتزويج نفسها..؟ ولم لم يرخص لرسول الله صلى الله عليه وآله، وهو أبوها ونبيها صلى الله عليه وآله بتزويجها، والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم - إلا بعد أن نزل القضاء بذلك. ولماذا خص زواج فاطمة عليها السلام بهذه الميزة..؟ فلا بد وأن يكون هناك سر وحكمة إلهية، ترتبط بهذا الزواج. إن هذا السر والاعداد لم يكن غامضا، وهذه العناية لم تكن مجرد علاقة رحم وقرابة، فالأمر ذو علاقة بحياة هذه الأمة، والعلاقة ترتبط بامتداد فرع النبوة والإمامة، فشاء الله أن يزوج خيرة نساء هذه الأمة - بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله بخيرة رجالها. فعلي عليه السلام هو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله فيه لفاطمة

(هامش)

(1) ذخائر العقبى: 40 (2) ذخائر العقبى: 30 - 31. (*)

ص 400

عليها السلام: إني سألت ربي أن يزوجك خير خلقه . وقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي (1). وفاطمة عليها السلام هي التي قال لها صلى الله عليه وآله: أما ترضى أن تكوني سيدة نساء المؤمنين وبذا كانا أحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وآله وأقربهما إلى نفسه. سئلت عائشة: أي الناس أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قالت: فاطمة عليها السلام، قيل: من الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمت صواما قواما . وينعقد الزواج، ويبنى بيت أهل بيت النبوة، ويرعاه رسول الله صلى الله عليه وآله، ويعرف به، ويؤكد أن عليا وفاطمة عليهما السلام وذريتهما هم أهل بيته، ومن علي وفاطمة عليهما السلام ذريته وأبناؤه وعصبته. روى ابن عباس قال: كنت أنا والعباس جالسين عند رسول الله صلى الله عليه وآله إذ دخل علي بن أبي طالب عليه السلام فسلم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله السلام، وقام إليه وعانقه وقبله بين عينيه وأجلسه عن يمينه، فقال العباس: يا رسول الله صلى الله عليه وآله، أتحب هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عم، والله، لله أشد حبا له مني، إن الله جعل ذرية كل نبي في صلبه، وجعل ذريتي في صلب هذا (2). وهكذا شاء الله أن تمتد ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله عن طريق

(هامش)

(1) ذخائر العقبى: 63. (2) نفس المصدر: 62، أخرجه الترمذي. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الروض النضير في معنى حديث الغدير

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب