الروض النضير في معنى حديث الغدير

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الروض النضير في معنى حديث الغدير

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 161

التأكيد، ما كان في بعثه وعزله، وأما لفظ ألست فهي للتقرير والايجاب، منه: ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح وفي الغدير نصب موسى يوشع، وعيسى شمعون، وسليمان آصف، فأمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وآله أن ينصب فيه عليا، وهذا يسقط كل ما يهولون به من أنه أراد غير معنى الإمامة. وبالجملة لو أمكن إنكار هذا الحديث، لم يعلم صحة أي حديث، وقد روي أن يوم الغدير شهد فيه لعلي عليه السلام ستون ألفا، وقيل: ستة وثمانون ألفا من الأمصار والقبائل المتفرقات، وإذا بلغ الخبر دون هذا انتظم في سلك المتواترات، فالمرتاب فيه ممن طبع على فؤاده، جزاء لانحرافه عن الحق وعناده. وقد ذكر الرازي والقزويني والنيشابوري والطبرسي والطوسي وأبو نعيم أنه لما شاع ذلك في البلاد، أتى الحارث إلى النبي صلى الله عليه وآله وقال: يا رسول الله، هذا شيء منك أم من الله؟ فقال صلى الله عليه وآله: إنه من أمر الله تعالى فولى يريد راحلته، فقال حينئذ: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا

(هامش)

= والمحب الطبري في ذخائر العقبى من عدة طرق. وقد تعرض لهذه الحادثة ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب : 1 / 391 - 393 في فصل الاستنابة والولاية - آخر الجزء الأول وذكر الكثير من المصادر التي ذكرتها وقال: بإجماع المفسرين ونقلة الأخبار، وذكر الطبري والبلاذري والترمذي والواقدي والشعبي والسدي والثعلبي والواحدي والقرطبي والقشيري والسمعاني وأحمد بن حنبل وابن بطة ومحمد بن إسحاق وأبو يعلى الموصلي والأعمش بإسنادهم إلى عدة من الصحابة. (*)

ص 162

بعذاب أليم، فرماه الله تعالى بحجر على هامته فخرج من دبره فقتله، فأنزل الله تعالى حينئذ: *(سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع)*(1). قال الجوزي لأبي هارون الخارجي: أمروا الناس بخمسة فعملوا بأربع: الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، وتركوا الخامسة وهي الولاية لعلي. قال الخارجي: وإنها لمفترضة؟ قال نعم. قال الخارجي: فقد كفر الناس إذا. قال: فما ذنبي أنا؟

(هامش)

(1) سورة المعارج: 2. (*)

ص 163

 
 
الفصل الخامس
رواة حديث الغدير من الصحابة

 

ص 165

يتجاوز عدد رواة حديث الغدير المائة وعشرين ألفا... وذلك طبيعي جدا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن المسلمين قد التزموا بقول النبي صلى الله عليه وآله: ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، ثم إن هذه الوقعة كانت أهم حوادث سفر الحج في تلك السنة... ومن الطبيعي جدا أن يكثر نقلها والتحدث بها... ولأهميتها الخاصة كانت تثار بين الحين والآخر... أي أنها لم تكن كسائر الحوادث العادية يدور حولها الكلام لمدة ثم يطويها النسيان... ذات يوم وبعد مرور خمس وعشرين سنة على هذه الحادثة العظيمة - أي في الوقت الذي كان قد توفي فيه كثير من الصحابة ولم يبق منهم إلا قلة - طلب علي عليه السلام في مسجد الكوفة ممن سمع حديث الغدير من النبي صلى الله عليه وآله أن يذكره... فنهض من بين الجالسين ثلاثون نفرا ونقلوا الحديث (1). وقبل هلاك معاوية بسنتين أي سنة (58 هـ) أو (59 هـ) جمع الإمام الحسين عليه السلام في منى بني هاشم والأنصار وسائر الحجاج، وقال في جملة ما قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله نصبه - أي عليا عليه السلام - يوم غدير خم، فنادى له بالولاية، وقال: ليبلغ الشاهد

(هامش)

(1) مسند أحمد بن حنبل: 4 / 370. (*)

ص 166

الغائب ؟ قالوا: اللهم نعم (1). وقد أورد علماء أهل السنة في كتبهم أسماء مائة وعشرة من الصحابة سمعوا حديث الغدير ونقلوه... بالإضافة إلى أن عدة من العلماء المعروفين من السنة أيضا - ألفوا كتبا خاصة بهذا الحديث الشريف (2).

 وفيما يلي أسماء من روى حديث الغدير.

1 - أبو برزة الأسلمي: نضلة بن عبيد بن الحارث، صحابي مشهور بكنيته، واختلف في اسمه، فقيل: نضلة بن عبيد الله بن الحارث، وقيل: عبد الله بن نضلة، وقيل: سلمة بن عبيد، والصحيح الأول. أسلم أبو برزة قبل الفتح، وشهد الفتح، وغزى سبع غزوات، ثم نزل البصرة وغزى خراسان ومات بها سنة (65 هـ) على الصحيح، وكان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وأصفيائه، وهو القائل في أمير المؤمنين عليه السلام: كفى بعلي قائدا لذوي النهى * وحرزا من المكروه والحدثان نروح إليه إن ألمت ملمة * علينا ونرضى قوله ببيان يبين إخفاء النفوس التي لها * من الهلك والوسواس هاجستان أخرج الحديث عنه بطريقه ابن عقدة في حديث الولاية .

(هامش)

(1) الغدير: 1 / 198 - 199. (2) البداية والنهاية: 5 / 208. (*)

ص 167

2 - أبو بكر بن أبي قحافة: ذكر المؤرخون وأصحاب السير من غير الشيعة أن اسمه عبد الله بن عثمان أبي قحافة بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، وقيل: كان اسمه عبد رب الكعبة فسماه النبي صلى الله عليه وآله عبد الله، وأمه سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب، ومات بالمدينة وله ثلاث وستون سنة، وقيل: خمس وستون، ومولده بمكة بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهر، ومدة خلافته سنتان وأربعة أشهر. وكان في الإسلام خياطا، وفي الجاهلية معلم الصبيان، وكان أبوه سئ الحال ضعيفا، وكان كسبه أكثر عمره من صيد القماري والدباسي، ولما عمي وعجز ابنه عن القيام به التجأ إلى عبد الله بن جدعان من رؤساء مكة فنصبه ينادي على مائدته. وفي الصواعق المحرقة : أن أبا قحافة لما سمع بولاية ابنه، قال: هل رضي بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: اللهم لا واضع لما رفعت، ولا رافع لما وضعت (1). أرسل خالد بن الوليد إلى بني حنيفة فقتل وسبي ونهب، ونكح امرأة رئيسهم مالك من ليلته بغير عدة حتى أنكر عمر قتالهم، وحبس ما قسم لهم من مالهم، فلما صار الأمر له رده عليهم، ورد ما وجد عند غيره منهم، فالخطأ لأحدهما لازم بالعقل الجازم، واحتج لقتالهم بمنع زكاتهم، مع أنهم لم يستحلوا منعا حتى يلزم ارتدادهم وإنما قالوا: حضرنا النص من النبي صلى الله عليه وآله

(هامش)

(1) الصواعق المحرقة: 7، شرح نهج البلاغة: 1 / 52. (*)

ص 168

بغدير خم على علي عليه السلام ولا نؤدي صدقاتنا إلى دعي، وهب أن الرجال منعوا الصدقات فما ذنب النساء المسلمات حتى يبعن ويوطأن؟ ومنعه فاطمة عليها السلام قريتين من قرى خيبر نحلهما رسول الله صلى الله عليه وآله لها وقد ادعتها مع عصمتها في آية التطهير، وروي: أنها كانت في يدها فأخرج عمالها منها. وروى مسلم في صحيحه : أنه لما بعثت فاطمة تطلب إرثها وحقها في فدك وفي خمس خيبر لم يعطها شيئا، وأقسم أن لا يغير شيئا من صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد غير ذلك وحنث في يمينه. وقد ذكر الطبري في تاريخه ، والبلاذري في أنساب الأشراف ، والسمعاني في الفضائل (1) وأبو عبيدة في قوله على المنبر حين بويع: أقيلوني لست بخيركم وعلي فيكم ، وهذا يدل على أنه ليس خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلا فمن يقيله مع إنفاذ كتبه بذلك إلى الآفاق والولاة، حتى روي أن أباه نقض عليه ما أملاه، وكان الواجب أن يكتب من خليفة عمر لأنه أول من بايعه وتولاه، وفي قوله: لست بخيركم، تكذيب لما رووه من قول النبي صلى الله عليه وآله: ما طلعت الشمس وما غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر ، فكان يحسن منه تكذيب النبي صلى الله عليه وآله.

(هامش)

(1) ورواه في الصواعق المحرقة: 30، ولفظه: أقيلوني أقيلوني لست بخيركم، وفي الإمامة والسياسة: 1 / 22: لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي. (*)

ص 169

3 - أبو جحيفة السوائي: واسمه وهب بن عبد الله من بني سواءة بن عامر بن صعصعة، توفي بالكوفة في ولاية بشر بن مروان سنة (74 هـ)، وقيل: تأخر إلى ما بعد الثمانين (1). 4 - أبو الحمراء مولى وخادم النبي صلى الله عليه وآله: اسمه هلال بن الحارث، وقيل: ابن ظفر، وأصله فارسي، وعده بعضهم في الأحرار من خدامه. قال أبو عمرو بن عبد البر في الاستيعاب : حديثه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه كان يمر ببيت فاطمة وعلي عليهما السلام، فيقول: السلام عليكم أهل البيت *(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)*(2). وأخرج ابن بابويه في أماليه بإسناده عن أبي الجارود، عن زياد بن المنذر، عن القاسم بن الوليد، عن شيخ من ثمالة، قال: دخلت على امرأة من تميم عجوز كبيرة وهي تحدث الناس، فقلت لها: يرحمك الله، حدثيني في بعض فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، فقالت: أحدثك فهذا شيخ كما ترى بين يدي نائم، فقلت لها: ومن هذا؟ قالت: أبو الحمراء - خادم رسول الله صلى الله عليه وآله - فجلست إليه فلما سمع حسي استوى جالسا، فقال: مه، فقلت: رحمك الله، حدثني بما سمعت ورأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله يصنعه بعلي عليه

(هامش)

(1) تاريخ آل محمد: 67. (2) سورة الأحزاب: 33. (*)

ص 170

السلام فإن الله يسألك عنه، فقال: على الخبير وقعت، أما ما رأيت النبي صلى الله عليه وآله يصنعه بعلي عليه السلام فإنه قال لي ذات يوم: يا أبا الحمراء، انطلق فادع لي مائة من العرب، وخمسين رجلا من العجم، وثلاثين رجلا من القبط، وعشرين رجلا من الحبشة، فأتيت بهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله فصف العرب، ثم صف العجم خلف العرب، وصف القبط خلف العجم، وصف الحبشة خلف القبط، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ومجد الله بتمجيد لم يسمع الخلائق بمثله، ثم قال: يا معشر العرب والعجم والقبط والحبشة، أقررتم بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله ؟ فقالوا: نعم، فقال صلى الله عليه وآله: اللهم اشهد حتى قالها ثلاثا، فقال في الثالثة: أقررتم بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وولي أمرهم من بعدي ؟ فقالوا: اللهم نعم، فقال صلى الله عليه وآله: اللهم اشهد حتى قالها ثلاثا، ثم قال صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام يا أبا الحسن، انطلق فأتني بصحيفة ودواة، فانطلق عليه السلام وأتاه بصحيفة ودواة فدفعها إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، وقال: اكتب، فقال: وما أكتب؟ قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم - هذا ما أقرت به العرب والعجم والقبط والحبشة، أقروا بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وولي أمرهم من بعدي، ثم ختم صلى الله عليه وآله الصحيفة ودفعها إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فما رأيتها إلى الساعة. فقلت: رحمك الله، زدني، قال: نعم، خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله يوم عرفة وهو آخذ بيد علي عليه السلام فقال: يا معشر الخلائق، إن الله عز وجل باهى بكم في هذا اليوم ليغفر لكم عامة، ثم التفت إلى علي، فقال له: وغفر

ص 171

الله لك يا علي خاصة، ثم قال: يا علي، ادن مني، فدنا منه، فقال صلى الله عليه وآله: إن السعيد حق السعيد من أحبك وأطاعك، وأن الشقي كل الشقي من عاداك ونصب لك وأبغضك، يا علي، كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك، يا علي، من حاربك فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب الله، يا علي، من أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، وأتعس الله جده، وأدخله نار جهنم. قال غير واحد من أصحاب السير: إن أبا الحمراء نزل بحمص وتوفي بها رحمه الله. 5 - أبو ذر الغفاري: هو نموذج للإنسان المسلم والعربي الذي تربى في الصحراء، فترى باطنه من خلال ظاهره ويفصح لك عن قلبه من خلال لسانه. أبو ذر ظل حتى آخر لحظة من عمره كما هو في أول إسلامه، يوم نظر إليه النبي صلى الله عليه وآله فقال: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء رجلا أصدق لهجة من أبي ذر (1). وكان أبو ذر يأتي إلى المدينة من الشام فيجاوز قبر الرسول صلى الله عليه وآله أيام مكوثه في المدينة، وفي إحدى المرات اكتشف أمرا هاما لم يخطر على باله، فقد أعطى عثمان لمروان بن الحكم مالا كثيرا، وأعطى الحارث بن الحكم ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم، فتأثر أبو ذر

(هامش)

(1) تفسير القمي: 1 / 52، علل الشرائع: 176 - 177 ح 1، معاني الأخبار: 178 - 179 ح 1، غيبة النعماني: 82 ح 11، الاختصاص: 13، رجال الكشي: 24 ح 84، أمالي الطوسي: 1 / 52، وج 2 / 321، روضة الواعظين: 283 - 284. (*)

ص 172

فوقف بوجه مروان يقرأ عليه الآية: *(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)*(1)، فشكاه مروان من هذا التصرف، فأرسل الخليفة إليه مولى له ينهاه، فقال أبو ذر رضي الله عنه: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله؟ وكانت هذه بداية معارضته لسياسة عثمان في العطاء حيث كان يعطي البعض ويقطع عن البعض الآخر، والذين يأخذون منه كانوا يتقاصون في العطاء، فأراد عثمان أن يتخلص منه فأرسله إلى الشام. وفي الشام لم يهدأ أبو ذر لحظة واحدة فقد وجد معاوية يسرف في أموال المسلمين في بناء القصور، ويتصرف في بيت المال وكأنه من ماله الخاص، فتلعلع صوت أبي ذر في وجه معاوية كأنه السيف البتار، فخاف معاوية على نفسه وعلى أهل الشام فأرسله إلى المدينة، وفي المدينة أخذ يواصل رسالته في مقاومة الإستئثار والإسراف في مال المسلمين. وكان رضي الله عنه يقول: بشر الأغنياء بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فاجتمع حوله كل مؤمن وكل فقير، وأصبح يشكل خطرا يهدد السلطة. وروي: أن أبا ذر دخل على عثمان وكان عليلا متوكئا على عصاه وبين يدي عثمان مائة ألف درهم قد حملت إليه من بعض النواحي وأصحابه حوله ينظرون إليه ويطمعون أن يقسمها فيهم، فقال أبو ذر لعثمان: ما هذا المال؟ فقال عثمان: مائة ألف درهم حملت إلي من بعض النواحي أريد أن أضم إليها مثلها ثم أرى فيها رأيي؟ فقال أبو ذر رضي الله عنه لعثمان: يا عثمان، أيما أكثر مائة ألف

(هامش)

(1) سورة التوبة: 34. (*)

ص 173

درهم أم أربعة دنانير؟ فقال: بل مائة ألف درهم، فقال: أما تذكر إني أنا وأنت دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وآله عشاء فرأيناه كئيبا حزينا فسلمنا عليه فلم يرد علينا السلام، فلما أصبحنا أتيناه فرأيناه ضاحكا مستبشرا، فقلنا له: بآبائنا وأمهاتنا نفديك، دخلنا عليك البارحة فرأيناك كئيبا حزينا، وعدنا إليك اليوم فرأيناك ضاحكا مستبشرا، فقال صلى الله عليه وآله: نعم، كان بقي عندي من فئ المسلمين أربعة دنانير لم أكن قسمتها، وخفت أن يدركني الموت، وهي عندي وقد قسمتها اليوم فاسترحت. فنظر عثمان إلى كعب الأحبار، فقال: يا أبا بحر، ما تقول في رجل أدى زكاة ماله المفروضة؟ هل يجب عليه فيما بعد ذلك الشيء؟ فقال: لا، لو اتخذ لبنة من ذهب، ولبنة من فضة ما وجب عليه شيء؟ فرفع أبو ذر رضي الله عنه عصاه فضرب بها رأس كعب، ثم قال له: يا بن اليهودية الكافرة، ما أنت والنظر في أحكام المسلمين؟! قول الله أصدق من قولك حيث قال: *(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله)* فقال عثمان: يا أبا ذر، إنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، ولولا صحبتك للرسول صلى الله عليه وآله لقتلتك؟! فقال: يا عثمان، أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: لا يفتنونك ولا يقتلونك (1)، وأما عقلي: فقد بقي منه ما أحفظ حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله فيك وفي قومك، فقال: وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: سمعته صلى الله عليه وآله يقول: إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين رجلا صيروا مال الله دولا، وكتاب الله

(هامش)

(1) طبقات الشيعة: 246 - 248. (*)

ص 174

دخلا، وعباده خولا، والفاسقين حزبا، والصالحين حربا (1)، فقال عثمان: يا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، هل سمع أحد منكم هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقالوا: لا، فقال عثمان: ادعوا عليا عليه السلام، فجاء أمير المؤمنين عليه السلام، فقال عثمان: يا أبا الحسن، انظر ما يقول هذا الشيخ الكذاب؟!. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تقل كذاب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله: صدق أبو ذر، فقد سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله، فبكى أبو ذر رضي الله عنه عند ذلك، فقال عثمان: يا أبا ذر، أسألك بحق رسول الله صلى الله عليه وآله إلا ما أخبرتني عن شيء أسألك عنه، فقال أبو ذر رضي الله عنه: والله، لو لم تسألني بحق رسول الله صلى الله عليه وآله لأخبرتك، فقال: أي البلاد أحب إليك أن تكون فيها؟ فقال: مكة حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وآله أعبد الله حتى يأتيني الموت، فقال: لا، ولا كرامة لك، فقال: المدينة، فقال: لا، ولا كرامة لك، قال: فسكت أبو ذر، فقال عثمان: أي البلاد أبغض إليك تكون فيها، فقال: الربذة التي كنت فيها على غير دين الإسلام، فقال عثمان: سر إليها، فقال أبو ذر رضي الله عنه: صدق الله ورسوله صلى الله عليه وآله حيث قال: يبعث أبو ذر أمة وحده .

 6 - أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله: اسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: ثابت، وقيل: هرمز، وقيل: سنان، وقيل:

(هامش)

(1) انظر الأحاديث الغيبية: 1 / 328 ح 196. (*)

ص 175

يسار، وقيل: قرمان، وقيل: عبد الرحمان، وقيل: يزيد، وقيل: بندويه، وقيل: القبطي، وقيل: العجمي. كان للعباس بن عبد المطلب فوهبه للنبي صلى الله عليه وآله، فلما بشر النبي صلى الله عليه وآله بإسلام العباس أعتقه، وكان على فعله، وزوجه سلمى فولدت له عبيد الله كاتب أمير المؤمنين عليه السلام في خلافته كلها. أسلم أبو رافع قديما بمكة، وهاجر إلى المدينة، وشهد مع النبي صلى الله عليه وآله مشاهده، ولزم أمير المؤمنين عليه السلام من بعده، وكان من خيار الشيعة، شهد معه حروبه، وكان صاحب بيت ماله بالكوفة، وابناه عبيد الله وعلي كاتبا أمير المؤمنين عليه السلام. أخرج النجاشي (1) بإسناده، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن أبي رافع:... أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيدي، فقال: يا أبا رافع، كيف أنت وقوم يقاتلون عليا عليه السلام وهو على الحق، وهم على الباطل؟ يكون حقا في الله حق جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم فبقلبه، وليس وراء ذلك شيء، فقلت: ادع لي إن أدركتهم أن يعينني الله ويقويني على قتالهم، فقال صلى الله عليه وآله: اللهم، إن أدركهم فقوه، وأعنه، ثم خرج إلى الناس، فقال: يا أيها الناس، من أراد أن ينظر إلى أميني على نفسي وأهلي فهذا أبو رافع أميني على نفسي. قال عون بن عبيد الله بن أبي رافع: فلما بويع علي عليه السلام وخالفه معاوية بالشام، وسار طلحة والزبير إلى البصرة، قال أبو رافع: هذا قول رسول

(هامش)

(1) رجال النجاشي: 5. وانظر: الأحاديث الغيبية: 1 / 70 ح 34 ففيه مصادر كثيرة لهذا الحديث. (*)

ص 176

الله صلى الله عليه وآله: سيقاتل عليا قوم يكون حقا في الله جهادهم، فباع أرضه بخيبر وداره ثم خرج مع علي عليه السلام وهو شيخ كبير له خمس وثمانون سنة. وقال: الحمد لله لقد أصبحت لا أحد بمنزلتي، لقد بايعت البيعتين: بيعة العقبة وبيعة الرضوان ، وصليت القبلتين، وهاجرت الهجر الثلاث، قلت: وما الهجر الثلاث؟ قال: هاجرت مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة، وهاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة، وهذه الهجرة مع علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الكوفة، فلم يزل مع علي عليه السلام حتى استشهد عليه السلام، فرجع أبو رافع إلى المدينة مع الحسن عليه السلام ولا دار له بها ولا أرض، فقسم الحسن دار علي نصفين، وأعطاه سنخ أرض أقطعه إياها، فباعها عبيد الله بن أبي رافع من معاوية بمائة ألف وسبعين ألفا. قال أكثر أصحاب السير من العامة: توفي أبو رافع بعد قتل عثمان في أوائل خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، وما ذكرناه عن النجاشي صريح في أنه عاش إلى أن استشهد أمير المؤمنين عليه السلام والله أعلم. روى حديثه ابن عقدة في حديث الولاية ، وأبو بكر الجعابي في نخب المناقب ، وعده الخوارزمي في مقتل الحسين عليه السلام ممن روى حديث الغدير من الصحابة.

 7 - أبو عمرة الأنصاري: اختلف في اسمه، فقيل: رشيد، وقيل: أسامة، وقيل: عمرو بن محصن،

ص 177

وقيل: تغلبة بن عمرو بن محصن، وقيل: اسمه عامر بن مالك بن النجاري. قال ابن عبد البر في الإستيعاب : وهو الصواب. قلت: والصواب عندي: أنه عمرو بن محصن، لما أشير في مرثية النجاشي له. وهو صحابي ذكره بعضهم في - البدريين - يروي عنه ابنه عبد الرحمان بن أبي عمر. روى الكشي بإسناده عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ارتد الناس إلا ثلاثة: أبو ذر، والمقداد، وسلمان، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فأين أبو ساسان وأبو عمرة الأنصاري ؟ وكان أبو عمرة من أصفياء أمير المؤمنين عليه السلام شهد معه الجمل و صفين واستشهد بها. روى ابن مزاحم، بإسناده عن سليمان الحضرمي، قال: لما خرج علي عليه السلام من المدينة خرج معه أبو عمرة بن عمرو بن محصن، قال: فشهدنا مع علي عليه السلام الجمل ثم انصرفنا إلى الكوفة، ثم سرنا إلى أهل الشام حتى إذا كان بيننا وبين صفين ليلة دخلني الشك، فقلت: والله، ما أدري على م أقاتل؟ وما أدري ما أنا فيه؟ قال: واشتكى رجل منا بطنه من حوت أكله، فظن أصحابه أنه طعين، فقالوا: من يتخلف على هذا الرجل؟ فقلت: أنا أتخلف عليه، والله ما أقول ذلك إلا مما دخلني من الشك فأصبح الرجل ليس به بأس، وأصبحت قد ذهب عني ما كنت أجد، ونفذت بصيرتي حتى إذا أدركنا أصحابنا ومضينا مع علي عليه

ص 178

السلام وإذا أهل الشام قد سبقونا إلى الماء. فلما أردناه منعونا فصلتناهم بالسيف فخلونا وإياه. وأرسل أبو عمرة إلى أصحابه: قد والله، حزناه فهم يقاتلونا وهم في أيدينا ونحن دونه إليهم، كما كان في أيديهم قبل أن نقاتلهم. فأرسل معاوية إلى أصحابه: لا تقاتلوهم وخلوا بينهم وبينه فيشربوا. فقلنا لهم: وقد عرضنا عليكم أول مرة فأبيتم حتى أعطانا الله وأنتم غير محمودين. قال: فانصرفوا عنا وانصرفنا عنهم ولقد رويت روايانا ورواياهم بعد، وخيلنا وخيلهم ترد ذلك الماء جميعا حتى ارتووا وارتوينا جميعا. وروى أيضا: أن أمير المؤمنين عليه السلام بعث أبا عمرة في رجال من أصحابه إلى معاوية يدعونه إلى الله تعالى، وإلى الطاعة والجماعة، فلما دخلوا عليه تكلم أبو عمرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة وإنك راجع إلى الآخرة، وأن الله تعالى جازيك بعملك، ومحاسبك بما قدمت يداك، وإني أنشدك بالله أن تفرق جماعة هذه الأمة وإن تسفك دماءها بينها. فقطع معاوية الكلام، فقال: هلا أوصيت صاحبك؟ قال: قلت: سبحان الله! إن صاحبي ليس مثلك، إن صاحبي أحق البرية بهذا الأمر في الفضل والدين، والسابقة في الإسلام، والقرابة من الرسول صلى الله عليه وآله. قال: فتقول ماذا؟

ص 179

قال: أدعوك إلى تقوى ربك، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه أسلم لك في دينك، وخير لك في عاقبة أمرك. قال: وأبطل دم عثمان، لا والرحمان، لا أفعل ذلك أبدا. قال: وكان ابن محصن من أعلام أصحاب علي عليه السلام قتل في المعركة بصفين وجزع علي عليه السلام لقتله. فقال النجاشي يرثيه: لنعم فتى الحيين عمرو بن محصن * إذا صارخ الحي المصبح ثوبا إذ الخيل جالت بينها قصد القنا * يثرن عجاجا ساطعا متنصبا لقد فجع الأنصار طرا بسيد * أخي ثقة في الصالحات مجربا فيا رب خير قد أقدت وجفنة * ملأت وقرن قد تركت مسلبا ويا رب خصم قد رددت بغيظه * فآب ذليلا بعد أن كان مغضبا وراية مجد قد حملت وغزوة * شهدت إذ النكس الجبان تهيبا هويطا على جل العشيرة ماجدا * وما كنت في الأنصار نكسا مؤنبا طويل عماد المجد رحبا فناؤه * خصيبا إذا ما رائد الحي أجدبا عظيم رماد النار لم تك فاحشا * ولا فشلا يوم النزال مغلبا وكنت ربيعا ينفع الناس سيبه * وسيفا جرازا باتر الحد مقضبا فمن يك مسرورا بقتل ابن محصن * فعاش شقيا ثم مات معذبا

ص 180

وغودر منكبا لفيه ووجهه * يعالج رمحا ذا سنان وتغلبا فإن تقتلوا الحر الكريم ابن محصن * فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا وإن تقتلوا ابني بديل وهاشما * فنحن تركنا منكم القرن أعضبا ونحن تركنا حميرا في صفوفكم * لدى الحرب صرعى كالنخيل مشذبا وأفلتنا تحت الأسنة مرشد * وكان قديما في الغرار مدربا ونحن تركنا عند مختلف القنا * أخاكم عبيد الله لحما ملحبا بصفين لما أرفض عنه رجالكم * ووجه ابن عتاب تركنا ملغبا وطلحة من بعد الزبير ولم ندع * لضبة في الهيجا عريفا منكبا ونحن أحطنا بالبعير وأهله * ونحن سقيناكم سماما مقشبا روى ابن الأثير حديث المناشدة وشهادته لعلي عليه السلام في الكوفة، عن الحافظ ابن عقدة، عن محمد بن إسماعيل بن إسحاق الراشدي، حدثنا محمد بن خلف النميري، حدثنا علي بن الحسن العبدي، عن الأصبغ بن نباتة قال: نشد علي الناس في الرحبة: من سمع النبي صلى الله عليه وآله يوم غدير خم ما قال إلا قام؟ ولا يقوم إلا من سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول. فقام بضعة عشر رجلا، فيهم: أبو أيوب الأنصاري، وأبو عمرة بن عمرو بن محصن، وأبو زينب ابن عوف الأنصاري، وسهل بن حنيف، وخزيمة بن ثابت، وعبد الله بن ثابت الأنصاري، وحبشي بن جنادة الصلولي، وعبيد بن عازب الأنصاري، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وثابت بن وديعة الأنصاري، وأبو فضالة الأنصاري، وعبد الرحمان بن عبد رب الأنصاري، فقالوا: نشهد أنا

ص 181

سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ألا من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وأعن من أعانه (1).

 8 - أبو ليلى الأنصاري: اختلف في اسمه، فقيل: بلال، وقيل: بليل - بالتصغير -، وقيل: داود، وقيل: يسار - بالمثناة من تحت والسين والراء المهملتين -، وقيل: أوس بن داود بن بلال بن أحيحة (2) بن الجلاح. أحد الصحابة المشهورين، شهد أحدا وما بعدها. قال البرقي: كان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام من الأصفياء. وقال ابن خلكان: شهد وقعة الجمل ، وكانت راية علي عليه السلام معه. وقال الذهبي: قتل بصفين له دار بالكوفة، روى عنه ابنه عبد الرحمان. روى الخوارزمي بالإسناد، عن ثوير بن أبي فاختة، عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، عن ولده قال: قال أبي: دفع النبي صلى الله عليه وآله الراية يوم خيبر إلى علي بن أبي طالب ففتح الله على يده، وأوقفه يوم غدير خم فأعلم الناس أنه ولي كل مؤمن ومؤمنة (3).

(هامش)

(1) أسد الغابة: 3 / 307، و5 / 205، ورواه ابن عقدة في حديث الولاية . (2) أحيحة - بضم الهمزة وفتح الحاء المهملة وسكون المثناة من تحت وفتح الحاء الثانية وبعدها هاء -، والجلاح - بضم الجيم وبعد اللام ألف وحاء - والله أعلم. (3) مناقب الخوارزمي: 35، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 114، جواهر العقدين للسمهودي، وروى عنه حديث الغدير ابن عقدة بإسناده في حديث الولاية . (*)

ص 182

9 - أبو هريرة الدوسي: أبو هريرة الدوسي اليماني، اختلف في اسمه، فقد قيل: إنه عبد الرحمان، وقيل: عامر، وقيل غير ذلك، كان من أصحاب الصفة يتصدق عليه المسلمون، وقد صحب النبي صلى الله عليه وآله ثلاث سنين، وقيل: أربع. ووضع على لسانه أحاديث كثيرة مما لم يروها غيره، وما أن رأى الناس كثرة حديثه حتى ضجوا منه، واتهموه بالوضع، ويدلك على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه (1): عن أبي هريرة أنه قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو: *(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى - إلى قوله - الرحيم)*(2). إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وأن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم وأن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وآله بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون. كان أبو هريرة لا يعرف الكتابة كما يحدثنا نفسه بذلك، قال: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمر فإنه يكتب ولا أكتب (3). ولا شك أن جهله بالكتابة لمما يقوي شبهة الناس من كثرة وضعه لأنه

(هامش)

(1) ج 1 / 22. (2) سورة البقرة: 159 - 160. (3) صحيح البخاري: 1 / 20، أقول: يحتمل أن يراد من قوله: فإنه يكتب ولا أكتب - أي كان يدون الحديث ولا أدونه -، ولكن الذي يبعد ذلك عدم التدوين عندهم في صدر الإسلام كما عرفت. (*)

ص 183

سوف يكون معرضا للنسيان، وقد كان لا محالة يحس بذلك فيضيق صدره، لذلك تراه يسعى وراء رفع هذه الشبهة بمختلف التعبير، فتارة يقول: شغل أصحابه الصفق بالأسواق والعمل بأموالهم كما عرفت، وتارة يقول: قلت للنبي صلى الله عليه وآله: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثا كثيرا أنساه، قال صلى الله عليه وآله: أبسط رداءك فبسطته، قال: فغرف بيده، ثم قال: ضمه فضممته فما نسيت شيئا بعده (1). وإنك ترى أن هذا الحديث أدل دليل على كذبه إذ أن الحفظ ليس بمرأى ليضمه رسول الله صلى الله عليه وآله في رداء أبي هريرة، ثم يأمره بضمه، وإنما هو وجود معنوي يحس به الإنسان كما يحس بسائر الأشياء الوجودية التي لا تدرك بالبصر - كالإرادة والكراهة والجوع والعطش - وغير ذلك. ولو أن أبا هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد دعا له بالحفظ لأمكن تصديقه لأن ذلك غير خارج عما يتصوره العقل، بل يكون حال هذه الدعوة حال غيرها من الدعوات التي كان يدعى بها لأصحابه من الشفاء، والتأييد، وتثبيت اللسان وغير ذلك مما هو مستفيض عنه صلى الله عليه وآله، وأن الأحاديث الدالة على كذبه كثيرة وكثيرة جدا، فإنك بينما تراه يقول: كنت ألزم النبي صلى الله عليه وآله بشبع بطني حين لا آكل الخمير، ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة وألصق بطني بالحصباء (2)، إذ تراه يحدث فيقول: أبق غلام لي في الطريق، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وآله فبايعته فبينما أنا عنده إذ طلع الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وآله: هذا غلامك ، فقلت: هو

(هامش)

(1) صحيح البخاري: 1 / 22. (2) صحيح البخاري: 3 / 185. (*)

ص 184

لوجه الله وأعتقته (1). وهذا الحديث برهان ساطع على كذبه، إذ أنه كان فقيرا يلصق بطنه بالحصباء، فمن أين له العبد المملوك؟؟ وفي الحق أن أبا هريرة كان كثير الوضع، ولكنه لسوء حظه لم يكن ليحسن الوضع، فكان يحدث كما عرفت بكل ما يختلج في ذاكرته، ولو أوتي أبو هريرة حسن تنظيم الأحاديث وتزويرها كما أوتي من الاقتدار على الاختلاق لضل به خلق كثير، ولكن شاء أبو هريرة شيئا، وشاء الله شيئا آخر. شاء أبو هريرة أن يضع السم بالدسم وأن يدس في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله ما يصيب بذلك غرضه، وشاء الله أن يطلع الناس على سريرته، ويعرفهم كذبه، وقد قيل لابن عمر كما في صحيح مسلم (2): إن أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من اتبع جنازة فله قيراط من الأجر ، قال ابن عمر: أكثر علينا أبو هريرة. ومما يدلنا دلالة واضحة على كثرة وضعه أن أمير المؤمنين عليه السلام وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه وآله وممن ربي في حجره وهو الملازم له داخلا وخارجا، ومع ذلك لم يرو عنه ما روي عن أبي هريرة الذي كان لا يجتمع بخدمته إلا كما كان يجتمع بخدمته سائر المسلمين، وقد تنبه لهذا سراج الدين البلقيني - وهو من علمائهم الأعاظم - فأبطل كل ما تفرد به أبو هريرة. وأكاذيب أبي هريرة وخرافاته يضيق عنها هذا الفصل، وأحسب فيما سقناه للمطالع الكريم كفاية.

(هامش)

(1) صحيح البخاري: 3 / 51. (2 ) صحيح مسلم: 1 / 394. (*)

ص 185

راجع: سير أعلام النبلاء: 2 / 578 - 632، والبداية والنهاية: 8 / 103 - 115، والإصابة: 12 / 63، وتهذيب التهذيب: 12 / 262، وشرح النهج: 1 / 360، والكامل للمبرد: 2 / 124 - ط / البابي (مصر - 1956 م). وغيرها من المصادر، وكلها تنادي بكذب أبي هريرة وتدليسه وعدم أخذ الرواية عنه.

 10 - أبو الهيثم مالك بن التيهان: بفتح التاء المثناة من فوق وبعدها ياء مكسورة مشددة مثناة من تحت ثم هاء وبعد الألف نون ابن أبي عبيد بن عمر عبد الأعلم بن عامر البلوي (1) ثم الأنصاري حليف بني عبد الأشهل. وقالت طائفة من أهل العلم: إنه من الأنصار من أنفسهم من الأوس هو مشهور بكنيته. كان أحد النقباء ليلة العقبة شهد بيعة العقبة الأولى و الثانية ، وكان أحد التسعة الذين لقوا قبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله بالعقبة، وهو أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة العقبة فيما يزعم بنو عبد الأشهل، وأما بنو النجار فيزعمون: إن أول من بايع ليلة العقبة أسعد بن زرارة، وزعم بنو سلمة: إنه كعب بن مالك، وزعم غيرهم: إن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وآله البراء، والله أعلم.

(هامش)

(1) بفتح الباء الموحدة وبفتح اللام وفي آخرها الواو نسبة إلى بلى بفتح الباء الموحدة وكسر اللام وتشديد الياء على فعيل وهو بلى بن عمر بن الحاف بن قضاعة وهو أبو حي من اليمن وهو قضاعة بن مالك بن حميراء بن سبأ، والله أعلم. (*)

ص 186

وشهد أبو الهيثم رضي الله عنه بدرا و أحدا والمشاهد كلها. قال الفضل بن شاذان: إن أبا الهيثم من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وأنكر تقدم أبي بكر عليه. وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قام ذلك اليوم، فقال: أنا أشهد على نبينا صلى الله عليه وآله أنه أقام عليا - يعني في يوم غدير خم - فقال الأنصار: ما أقامه للخلافة، وقال بعضهم: ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول الله مولاه، فسألوه عن ذلك، فقال: قولوا لهم: علي ولي المؤمنين بعدي، وأفصح الناس لأمتي وقد شهدت بما حضرني، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، إن يوم الفصل كان ميقاتا. وشهد أبو الهيثم مع أمير المؤمنين عليه السلام وقعة الجمل و صفين ، فمن شعره يوم الجمل: قل للزبير، وقل لطلحة: إننا * نحن الذين شعارنا الأنصار نحن الذين رأت قريش فعلنا * يوم القليب أولئك الكفار كنا شعار نبينا ودثاره * تفديه منا الروح والأبصار إن الوصي إمامنا وولينا * برح الخفاء وباحث الأسرار وروى نصر بن مزاحم في كتاب صفين ، قال: أقبل أبو الهيثم بن التيهان، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله بدريا تقيا عفيفا يسوي صفوف أهل العراق، ويقول: يا معشر أهل العراق، إنه ليس بينكم وبين الفتح في العاجل، والجنة في الآجل إلا ساعة من النهار، فأرسوا أقدامكم، وسووا

ص 187

صفوفكم، وأعيروا ربكم جماجمكم، واستعينوا بالله إلهكم، وجاهدوا عدو الله وعدوكم، واقتلوهم قتلهم الله وأبادهم، واصبروا فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. قتل أبو الهيثم رضي الله عنه مع علي بن أبي طالب عليه السلام بصفين سنة (37 هـ). قاله أبو نعيم، وصالح بن الوجيه، ورواه ابن عبد البر في الإستيعاب ، وهؤلاء شيوخ المحدثين. وممن قال بشهوده صفين نصر بن مزاحم في كتاب صفين وهو من الأصول القديمة المعتمدة، ويشهد بذلك ما رواه أهل الأخبار من خطبة أمير المؤمنين عليه السلام بعد وقعة صفين، وقوله فيها: ما ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص، ويشربون الرنق، قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم، وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم، أين إخواني الذين ركبوا الطريق، ومضوا على الحق؟ أين عمار بن ياسر وابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، وأبرد برؤوسهم إلى الفجار . ثم ضرب بيده إلى لحيته فأطال البكاء ثم قال: أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة، وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوه، ووثقوا بالقائد فاتبعوه . وهذه الخطبة مذكورة في نهج البلاغة أخذنا غرضنا منها.

 11 - أبو أيوب الأنصاري: أبو أيوب خالد بن كليب بن ثعلبة بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن

ص 188

النجار وهو تيم ثعلبة بن عمرو بن الخزرج الأنصاري من بني النجار. كان من كبار الصحابة شهد العقبة و بدرا وسائر المشاهد، وكان سيدا معظما من سادات الأنصار، وهو صاحب منزل رسول الله صلى الله عليه وآله نزل عنده لما خرج من بني عمرو بن عوف حين قدم المدينة مهاجرا من مكة فلم يزل عنده حتى بنى مسجده ومساكنه ثم انتقل إليها. وكان أبو أيوب رضي الله عنه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وأنكر على أبي بكر تقدمه على علي عليه السلام. وروي عن الصادق عليه السلام: أنه قام في ذلك اليوم، فقال: اتقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيكم وأوردوا إليهم حقهم الذي جعله الله لهم، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبينا صلى الله عليه وآله، ومجلس بعد مجلس، يقول: أهل بيتي أئمتكم بعدي، ويومئ إلى علي عليه السلام، ويقول: هذا أمير البررة، وقاتل الكفرة، مخذول من خذله، منصور من نصره، فتوبوا إلى الله من ظلمكم إن الله تواب رحيم، ولا تتولوا عنه مدبرين، ولا تتولوا عنه معرضين . قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب : إن أبا أيوب شهد مع علي عليه السلام مشاهده كلها. وروي عن الكلبي، وابن إسحاق قالا: شهد معه يوم الجمل و صفين ، وكان على مقدمته يوم النهروان . وروى إبراهيم بن ديزيل في كتاب صفين ، عن رباح بن الحرث النخعي، قال كنت في الرحبة مع أمير المؤمنين عليه السلام إذ أقبل ركب

ص 189

يسيرون حتى أناخوا بالرحبة ثم أقبلوا يمشون حتى أتوا عليا عليه السلام، فقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! قال: من القوم؟ قالوا: مواليك يا أمير المؤمنين، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، ويقول: من أين وأنتم قوم عرب؟ قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يوم غدير خم وهو آخذ بعضدك، يقول: أيها الناس، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟، قلنا: بلى، يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله: إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وعلي مولى من كنت مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فقال عليه السلام: أنتم تقولون ذلك؟ قالوا: نعم، قال عليه السلام: وتشهدون عليه؟ قالوا: نعم، قال عليه السلام: صدقتم. فانطلق القوم وتبعتهم، فقلت لرجل منهم: من أنتم يا عبد الله؟ قال: نحن رهط من الأنصار، وهذا أبو أيوب - صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله - فأخذت بيده فسلمت عليه وصافحته. وروى الخطيب في تاريخه : أن علقمة والأسود أتيا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين ، فقالا له: يا أبا أيوب، إن الله أكرمك بنزول محمد صلى الله عليه وآله وبمجئ ناقته تفضلا من الله تعالى، وإكراما لك حتى أناخت ببابك دون الناس جميعا، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب أهل لا إله إلا الله، فقال: يا هذا، إن الرائد لا يكذب أهله إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرنا بقتال ثلاثة مع علي عليه السلام بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، فأما الناكثون فقد قاتلناهم وهم أهل الجمل - طلحة والزبير - وأما القاسطون فهذا منصرفنا عنهم - يعني معاوية وعمرو بن العاص - وأما المارقون فهم أهل الطرفاوات، وأهل السعيفات وأهل النخيلات وأهل النهروان، والله ما أدري أين هم؟ ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله تعالى، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله

ص 190

عليه وآله يقول لعمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية وأنت إذ ذاك على الحق، والحق معك، يا عمار، إن رأيت عليا سلك واديا، وسلك الناس كلهم واديا فاسلك مع علي، فإنه لن يرديك في ردى، ولن يخرجك من هدى، يا عمار، من تقلد سيفا أعان به عليا قلده الله يوم القيامة وشاحين من در، ومن تقلد سيفا أعان به عدو علي قلده الله وشاحين من النار، قلنا: يا هذا، حسبك رحمك الله. (1) توفي أبو أيوب رضي الله عنه في الصائفة - وهي غزوة الروم، ودفن عند سور القسطنطينية وبني عليه قبة يسرج فيها. واختلف المؤرخون في السنة التي كانت بها هذه الغزاة، ومات فيها أبو أيوب، فقال المسعودي في مروج الذهب : كانت سنة (45 هـ)، وقال غيره: كانت سنة (50 هـ)، وقيل: (51 هـ)، وقيل: (52 هـ) والله أعلم.

 12 - أبي بن كعب: قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي، يكنى أبا المنذر و أبا الطفيل و أبا يعقوب من فضلاء الصحابة، شهد العقبة مع التسعين، وكان يكتب الوحي، آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وشهد بدرا و العقبة الثانية ، وبايع لرسول الله صلى الله عليه وآله، وكان يسمى سيد القراء . ذكر ابن شهرآشوب في المناقب : أن النبي صلى الله عليه وآله قال له: إن

(هامش)

(1) انظر: الأحاديث الغيبية: 1 / 218 - 235 رقم 132 - 138 ففيه إخبار النبي صلى الله عليه وآله لعمار بمقتله وكيفية ذلك. (*)

ص 191

الله أمرني أن أقرأ عليك، فقال: يا رسول الله، بأبي وأمي أنت وقد ذكرت هناك، قال صلى الله عليه وآله: نعم، باسمك ونسبك، فأرعد أبي، فالتزمه رسول الله صلى الله عليه وآله حتى سكن، وقال: قل: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون. وروى البخاري و مسلم و الترمذي ، عن أنس بن مالك، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله لأبي: إن الله أمرني أن أقرأ عليك *(لم يكن الذين كفروا)*(1)، قال: وسماني، قال: نعم فبكى. وروى الشيخ الجليل محمد بن يعقوب الكليني قدس الله روحه في الكافي ، عن الصادق عليه السلام أنه قال: أما نحن فنقرأ على قراءة أبي. وكان أبي رضي الله عنه من الاثني عشر نفر الذين أنكروا على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا أبا بكر، لا تجحد حقا جعله الله لغيرك، ولا تكن أول من عصى رسول الله صلى الله عليه وآله في وصيه وصفيه، وصد عن أمره، أردد الحق إلى أهله تسلم، ولا تتماد في غيك فتندم، وبادر الانابة يخف وزرك، ولا تخصص هذا الأمر الذي لم يجعله الله لك نفسك فتلقى وبال عملك، فعن قليل تفارق ما أنت فيه، وتصير إلى ربك بما جنيت، وما ربك بظلام للعبيد. وروي عن أبي بن كعب، أنه قال: مررت عشية يوم السقيفة بحلقة الأنصار، فسألوني: من أين مجيئك؟ قلت: من عند أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، قالوا: كيف تركتهم؟ وما حالهم؟ قلت: وكيف تكون حال قوم كان بيتهم إلى اليوم موطئ جبرئيل، ومنزل رسول رب العالمين، وقد زال اليوم

(هامش)

(1) سورة البينة: 1. (*)

ص 192

ذلك، وذهب حكمهم عنهم، ثم بكى أبي وبكى الحاضرون. وأخرج النسائي، عن قيس بن عبادة، قال: بينا أنا في المسجد في الصف المقدم، فجذبني رجل جذبة، فنحاني، وقام مقامي، فوالله، ما عقلت صلاتي، فلما انصرف إذا هو أبي بن كعب، فقال: يا فتى، لا يسوؤك الله إن هذا عهد من النبي صلى الله عليه وآله إلينا أن نليه، ثم استقبل القبلة، فقال: هلك أهل العقد ورب الكعبة، ثم قال: والله، ما آسي عليهم، ولكن آسي على من أضلوا، فقلت: يا أبا يعقوب: من تعني بأهل العقد؟ قال: الأمراء. قال ابن حجر في التقريب : اختلف في سنة موته اختلافا كثيرا، قيل: سنة (19 هـ)، وقيل: سنة (32 هـ)، وقيل غير ذلك. قال بعض المؤرخين: الأصح أنه مات في زمن عمر، فقال عمر: اليوم مات سيد المسلمين، والله أعلم. روى عنه الحديث أبو بكر الجعابي في نخب المناقب بإسناده.

 13 - أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي: ابن شراحبيل بن عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي. كان أبوه زيد، يقال له: حب رسول الله صلى الله عليه وآله، ويكنى - أبا أسامة - وأمه سعدى بنت تغلبة بن عبد عمرو. وكان في ابتداء حاله مع أمه، وقد خرجت به تزور قومها فأغارت خيل لبني القين في الجاهلية، فمروا على أبيات - بني معن - فاحتملوه وهو يومئذ غلام فوافوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام بن خويلد

ص 193

لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم، فلما تزوجها النبي وهبته له فأعتقه، وكان أبوه جزع عليه جزعا شديدا وبكى عليه حين فقده، فقال: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل * أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل فوالله ما أدري وإني لسائل * أغالك بعدي أم غالك الجبل؟ فحج ناس من كعب، فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه، فقال لهم: أبلغوا عني قومي: ألكني إلى قومي وإن كنت نائيا * بأني قطين البيت عند المشاعر فكفوا عن الوجه الذي قد شجاكم * ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر فإني بحمد الله في خير أسرة * كرام معد كابرا عن كابر فانطلقوا وأعلموا أباه، ووصفوا له مكانه وعند من هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحبيل بفدائه، فقدما مكة فسألا عن النبي صلى الله عليه وآله، فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه. فقالا: يا بن هاشم، يا بن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني وتطعمون الأسير، وقد جئنا في ابن لنا عندك، فامنن علينا وأحسن في فدائه، فإنا سنرفع لك الفداء. قال صلى الله عليه وآله: من هو؟ قالا: زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فهنا غير ذلك، قالا: ما هو؟ قال صلى الله عليه وآله: أدعوه فخيروه فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء، وإن اختارني، فوالله ما أنا بالذي

ص 194

أختار على من اختارني أحدا، قالا: زدتنا على النصف وأحسنت. فدعاه صلى الله عليه وآله، فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي. قال صلى الله عليه وآله: فأنا من قد علمت وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما. فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني بمكان العم والأب. فقالا: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك. قال: نعم، إني قد رأيت من هذا الرجل ما أنا بالذي أختار عليه أحدا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك أخرجه إلى الحجر، فقال: يا من حضر، اشهدوا أن زيدا ابني أرثه ويرثني. فلما رأى أبوه وعمه ذلك طابت أنفسهما فانصرفا، فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام فزوجه النبي صلى الله عليه وآله زينب بنت جحش، فلما طلقها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله، فتكلم المنافقون في ذلك، فقالوا: تزوج امرأة ابنه، فنزل: *(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم)*(1) الآية، وقال تعالى: *(ادعوهم لآبائهم)*(2)، فدعي يومئذ زيد بن حارثة. وكان بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين زيد عشر سنين، ورسول الله صلى الله عليه وآله أكبر منه.

(هامش)

(1) سورة الأحزاب: 40. (2) سورة الأحزاب: 5. (*)

ص 195

قال ابن إسحاق: أول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب عليه السلام زيد بن حارثة. قال أهل السير: شهد زيد بدرا و أحدا و الخندق و الحديبية و خيبر ، وخرج أميرا في سبع سرايا، ولم يسم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في القرآن باسمه غيره. وقتل زيد في غزوة مؤتة في جمادى الأولى، سنة ثمان من الهجرة، وهو ابن خمس وخمسين سنة. وأما أسامة بن زيد فيكنى - أبا محمد -، ويقال: - أبا زيد - كان يقال له: حب رسول الله صلى الله عليه وآله وابن حبه. روي أنه صلى الله عليه وآله قال: أسامة أحب الناس إلي . ومر به صلى الله عليه وآله بين الصبيان في قفوله من بدر، فنزل إليه وقبله واحتمله، ثم قال: مرحبا بحبي وابن حبي . وكان عمره يوم مات رسول الله صلى الله عليه وآله عشرين سنة، وقيل: ثماني عشرة، وقيل: تسع عشرة سنة. وروى الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج : مرفوعا عن الإمام الباقر عليه السلام: أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: اكتب إلى أسامة يقدم عليك فإن في قدومه قطع الشنعة عنا، فكتب إليه أبو بكر: من أبي بكر - خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله - إلى أسامة بن زيد، أما بعد: إذا أتاك كتابي فأقبل إلي أنت ومن معك، فإن المسلمين قد اجتمعوا علي، وولوني أمرهم، فلا تخالفن فتعصي، ويأتيك ما تكره والسلام.

ص 196

قال: فكتب إليه أسامة جواب كتابه: من أسامة بن زيد - عامل رسول الله صلى الله عليه وآله على غزوة الشام - أما بعد: فقد أتاني لك كتاب ينقض أوله آخره، ذكرت في أوله: إنك خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله، وذكرت في آخره: إن المسلمين اجتمعوا عليك فولوك أمرهم ورضوا بك. واعلم أني ومن معي من جماعة المسلمين والمهاجرين، فوالله، ما رضينا بك، ولا وليناك أمرنا، وانظر إن تدفع الحق إلى أهله، وتخليهم وإياه، فإنهم أحق به منك. فقد علمت من قول رسول الله صلى الله عليه وآله في علي - يوم الغدير - فما طال فينسى، انظر لمركزك، ولا تخالف فتعصي الله ورسوله، وتعصي من استخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله عليك وعلى صاحبك، ولم يعزلني حين قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنك وصاحبك رجعتما وعصيتما، فأقمتما في المدينة بغير إذني. قال: فهم أبو بكر أن يخلعها من عنقه. قال: فقال له عمر: لا تفعل؟ قميص قمصك الله لا تخلعه فتندم، ولكن ألح على أسامة بالكتب، ومر فلانا وفلانا يكتبوا إلى أسامة أن لا يفرق جماعة المسلمين، وأن يدخل معهم فيما صنعوا. قال: فكتب إليه أبو بكر وكتب إليه أناس من المنافقين: أن ارض بما اجتمعنا عليه، وإياك أن تشمل المسلمين فتنة من قبلك، فإنهم حديثو عهد بالكفر. فلما وردت الكتب على أسامة انصرف بمن معه حتى دخل المدينة، فلما اجتمع الناس على أبي بكر انطلق إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: ما

ص 197

هذا؟ قال علي عليه السلام: هذا ما ترى، قال له أسامة: فهل بايعته؟ فقال: نعم، فقال له أسامة: طائعا، قال عليه السلام: لا بل مكرها. قال: فدخل أسامة على أبي بكر، وقال: السلام عليك يا خليفة المسلمين؟ قال: فرد عليه السلام، وقال: وعليك السلام أيها الأمير؟ أقول: الذي يرويه أصحابنا: أن أسامة بن زيد لم يرجع إلى المدينة إلا بعد أن تغلب أبو بكر على الخلافة، وكتب إليه في الرجوع. قال صاحب الصفوة : وسكن أسامة وادي القرى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ثم نزل المدينة. ولم يشاهد أسامة شيئا من مشاهد أمير المؤمنين عليه السلام واعتذر عن ذلك باليمين التي كانت عليه إنه لا يقتل رجل يقول: لا إله إلا الله. وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله بعث سرية فيها أسامة فقتل رجلا يقال له: مرداس بن نهيك - من بني مرة بن عوف - وكان من أهل فدك ، وكان مسلما لم يسلم من قومه غيره، فسمعوا بسرية رسول الله صلى الله عليه وآله تريدهم وكان على السرية رجل يقال له: غالب بن فضالة الليثي فهربوا، وأقام الرجل لأنه كان مسلما، فلما رأى الخيل خاف أن يكون من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، وصعد هو إلى الجبل، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون، فلما سمع التكبير عرف أنهم المسلمون فكبر ونزل، وهو يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، السلام عليكم. فتغشاه أسامة بن زيد فقتله، واستاق غنمه، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى

ص 198

الله عليه وآله فأخبروه، فوجد رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك وجدا شديدا، وقد كان سبقهم قبل ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: قتلتموه إرادة ما معه ، ثم قرأ صلى الله عليه وآله: *(يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا)*(1) الآية. فقال أسامة: يا رسول الله، استغفر لي، فقال صلى الله عليه وآله: كيف بلا إله إلا الله، فقالها رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث مرات. قال أسامة: فما زال رسول الله صلى الله عليه وآله يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله استغفر لي بعد ثلاث مرات، وقال صلى الله عليه وآله: أعتق رقبة، ثم حلف أسامة أن لا يقتل بعد ذلك رجلا يقول: لا إله إلا الله. وروى ابن إسحاق: أن أسامة، قال: أدركت هذا الرجل أنا ورجل من الأنصار، فلما شهرنا عليه السلاح، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله أخبرناه خبره. فقال صلى الله عليه وآله: يا أسامة، من لك بلا إله إلا الله، قال: فقلت: يا رسول الله، إنما قالها تعوذا من القتل. قال صلى الله عليه وآله: فمن لك بها يا أسامة؟

(هامش)

(1) سورة النساء: 94. (*)

ص 199

قال: فوالذي بعثه بالحق نبيا، ما زال يرددها علي حتى لوددت أن ما مضى من إسلامي لم يكن، وإني كنت أسلمت يومئذ، وإني لم أقتله. قال: فقلت: أنظرني يا رسول الله، إني أعاهد الله أن لا أقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله أبدا. قال صلى الله عليه وآله: تقول بعدي يا أسامة! قال: قلت: بعدك. وروى الكشي: بإسناده عن عبد الرحمان بن الحجاج، عن أبي عبد الله عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال: كتب علي عليه السلام إلى والي المدينة: لا تعطين سعدا، ولا ابن عمر من الفئ شيئا، فأما أسامة بن زيد فإني قد عذرته في اليمين التي كانت عليه. وقال الزمخشري في ربيع الأبرار : إن أسامة بن زيد بعث إلى علي عليه السلام أن أبعث إلي بعطائي، فوالله، إنك لتعلم أنك لو كنت في فم أسد لدخلت معك. فكتب إليه عليه السلام: إن هذا المال لمن جاهد عليه، ولكن لي مالا بالمدينة فأصب منه ما شئت. وروي أن عمر فرض لأسامة أكثر مما فرض لابنه عبد الله، فقال له: أتفضل علي أسامة وهو مولى؟ فقال: كان أبوه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من أبيك، وكان هو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله منك. وحكى المسعودي في مروج الذهب : قال: تنازع أسامة بن زيد وعمر

ص 200

بن عثمان إلى معاوية في أرض. فقام مروان بن الحكم فجلس إلى جانب عمرو، وقام الحسن بن علي عليه السلام فجلس إلى جانب أسامة. وقام سعيد بن العاص فجلس إلى جانب مروان، فقام الحسين بن علي عليه السلام فجلس إلى جانب أخيه الحسن عليه السلام. وقام عبد الله بن عامر فجلس إلى جانب سعيد بن العاص، فقام عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فجلس إلى جانب الحسين عليه السلام. فقام عبد الرحمان بن الحكم فجلس إلى جانب عبد الله بن عامر، فقام عبد الله بن العباس فجلس إلى جانب عبد الله بن جعفر. فلما رأى ذلك معاوية، قال: لا تعجلوا أنا كنت شاهدا إذ أقطعها رسول الله صلى الله عليه وآله لأسامة. فقام الهاشميون فخرجوا، وأقبل الأمويون. فقيل: ألا أصلحت بينهما، فقال: دعوني، فوالله ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين إلا لبس على عقلي. وعن عمرو بن دينار، قال: دخل الحسين بن علي عليه السلام على أسامة بن زيد وهو مريض وهو يقول: واغماه، فقال له الحسين عليه السلام: وما غمك يا أخي؟ قال: ديني، وهو ستون ألف درهم، فقال الحسين عليه السلام: هو علي، قال: إني أخشى أن أموت، فقال الحسين عليه السلام: لن تموت حتى أقضيها عنك. قال: فقضاها قبل موته.

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الروض النضير في معنى حديث الغدير

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب